حنين

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عدنان زاهر
مشاركات: 287
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:52 pm

حنين

مشاركة بواسطة عدنان زاهر »

حنين

عدنان زاهر

ناولتني مظروفاُ وردياً وبلهجة تمددت وانداحت فيها لغة الأرض الجديدة طلبت مني أن أفضه. اٍنتابني خوف لا أدري له سبباً. بحذر فضضت الغلاف. وجدت بطاقة أنيقة على شكل قلب كتب عليها وبلغة أكثر تماسكا (حبي الكثيروقبلاتي لماما و لك يا دادي!)

عندما رفعت بصري نحوها كانت "لودي" لا زالت ترمقني بتلك النظرة المتساءلة والملحاحة التي ظلت تحملها منذ رحلت عنا. انهارت فجأة وبلا مقدمات كل حصون الدفاع والقلاع المشيدة. كان الوقت عيد الحب.

أدركت أن علي أن أرد على تلك الأسئلة المتراصة بعناد في نظرتها الحزينة. تلاشت قدرة (التخارج) والمناورة التي مارستهما لعامين. نظراتها تسأل بعفوية أي النساء أنت؟! قررت الاٍجابة (بلا لف ودوران). قررت أن أحدثها عنك. هل كان القرار صائباً؟ والوقت مناسباً؟! لا أدري!

لعلها المفاجأة والحنين المكتوم والرغبة الدفينة لمشاركة الآخرين - حتى .. لودي ذات الخمس أعوام - تعرجات الحياة. أعلم تمام العلم أنك لا تحبين أن يتناول أحد بالحديث أشياءك المتفردة ، وأعلم أيضا أنك سوف (تتضايرين) تواضعاً وحساسية. تلك عادة جبلنا عليها نحن معظم السودانين ، كثيرا أتساءل هل ذلك نوع من اٍنكار الذات أو تصوف منبث في خلايانا منذ نشأتنا الأولى؟!

عانيت كثيرا في الأرض الجديدة من ذلك الفهم ، فهنا يتحدثون كثيرا عن أنفسهم - بالحق والباطل - لم أتعود على ذلك حتى الآن ولا أظن أني سوف أفعل مستقبلا. وفق فهمي أن ذلك اختلاف في القيم!!

(كان الوقت عيداً . حفيت أقدامنا حتى استطعنا أن نوفر لكم ملابس جديدة ليست كالآخرين فقد كانت تعشق الملابس البهية. أتذكر تبقى فقط من النقود ما يكفي لثوب واحد. طلبت منها أن تستبدل ثوبها القديم بواحد آخر ، في الصباح أحضرت لي جلباباً جديداً وقالت أن النقود كانت تكفي لاٍثنين . عندما خرجنا لزيارة جدتك للتهنئة بالعيد كانت ترتدي نفس الثوب القديم المطرز بشقاوة الحياة. كنت أود أن أسألها لما فعلت ذلك وكنت دوماً أؤجل السؤال!)

ابتسمت لودي ابتسامة محايدة لا أدري هل كانت تشجيعاً لمواصلة الحديث أم مواساة. رغم ذلك كانت دافعاً للاٍقدام و طرق المجهول.

(السوق كان ناشفاً ذلك العام . تجولت في جهات العاصمة الأربع باحثا عن رزق ، وفي نهاية اليوم أتيت المنزل ثقيل الخطى وكيساً خاوياً في يدي. قالت برقة وهي تصب لي كوباً بارداً من الماء ، ليست هذه نهاية الدنيا. بتنا تلك الليلة " القوا" ).

لم تقاطعني لودي ولم تسألني حتى سؤالاً واحداً ولكن هزت رأسها تعجباً وهي تعدل من جلستها في مقعدها الصغير. الحقيقة أقول، تنازعتني مشاعر متضاربة وفكرت كثيراً هل أواصل الحديث أم أكتفي بما ذكرت! منذ خرجت دون عودة ظللت أبحث عن مستمع جيد أتعرى أمامه دون حرج . وجدت ضالتي فيها. قررت أن أواصل التعري أمامها بلا حدود ، بالمناسبة ... في هذه الأرض التعري حقا كباقي الحقوق!!

(كان المطر يسقط بكثافة ونحن نركض مسرعين في الميدان الصغير نحو المنزل الذي قمنا باٍستئجاره قبل أيام من زواجنا. قلت لها أريد أن أرقص تحت المطر كما كنا نفعل في الطفولة. أجابت لم لا! ورقصنا بجنون حتى توقف المطر. نظرنا حولنا كانت أبواب منازل ذلك الحي مشرعة وساكنيها ينظرون اٍلينا في اندهاش . صباح اليوم التالي كنا نذوب خجلاً ونحن نسرع الخطى للحاق بالمواصلات للعمل.)

اكتشفت فجأة أنني كنت أروي كل تلك القصص وأمارس كل أنواع "الهترشة" وأنا أقف في منتصف غرفة الجلوس. هل كنت أخاطب حشداً ماثلاً امامي أم كنت أخاطب لودي الجالسة بلهفة تنتظر أن أواصل الحكي. ترددت قليلا، ماذا لو اكتشفني البعض في هذا الموقف!! تلفت حولي باحثاً وعندما لم أجد آخر يستمع جلست بهدوء على المقعد الوثير بجانبها. أنت تعلمين جيداً أنني من وقت لآخر أمارس الجنون دون قصد فهل ما كنت أفعله ذلك اليوم نوعاً من أنواع الجنون؟!! أعترف أنني بعد غيابك ارتكب بعض "الشطحات" ولكني في العموم أحاول أن أكون متوازناً. ألا توافقيني حتى الجنون أحيانا يحتاج اٍلى حالم آخر معك! وذلك ما أفتقده الآن. لودي في اٍصرار تريدني أن أواصل . حاولت التعلل بميعاد نومها لأجعلها تذهب كاتماً رغبة متنامية في التحدث ، وعندما رفضت لم ألح عليها كثيرا وواصلت.

(كان القطار يخرج أنفاساً عالية وهو يقطع صحراء العتمور متجاوزا "نمرة" لواحدة أخرى أكثر بعداً في طريقه لميناء حلفا. قالت لي وهي تنظر من النافذة نحو الأفق البعيد الملتحم برمال الصحراء المتموجة، ذلك الأفق المترامي يذكرني بالحياة والعدم ، لا بدايات منطقية ولا نهايات مقبولة .... بل عبثية في معظم الأحوال! هل تكون رحلتنا شبيهة بذلك الأفق؟! هنالك نبرة لم أعتادها في حديثها. أجبتها بشكل تقليدي مبسطاً للأشياء رغم عدم اقتناعي بما أقول أن حرارة الطقس ورتابة وطول الطريق يبعثان الكآبة. عندما غفوت لساعات صحوت وقلبي مثقلا.)

كانت لودي قد نامت في مقعدها الصغير. هل تصدقين أحسست بقدر من الراحة بعد ذلك الحديث المتخم ، أؤمن جازماً أنها لم تفهم شيئا مما تفوهت به فهي قد نسيت تماما اللغة التي نتواصل بها اٍلا من كلمات شاردة. تعلمين أنني لم أتمم حديثي بعد ، وكما لن أجد أحد أخاطبه في مقبل الأيام فهل أواصل الحكي مع باقي البنات؟!

فبراير 2005
أضف رد جديد