جيوبوليتيك الجسد العربسلامي في السودان

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

رقص المغلوب

مشاركة بواسطة حسن موسى »


جيوبوليتيك الجسد 16

رقص المغلوب

في مطلع القرن العشرين، كانت كلمات الأغاني الشعبية التي تصاحب طقوس العرس تعبر غالبا عن الانسجام الرمزي و المادي للعروس مع إتفاقات المجتمع الريفي التقليدي. و رغم قوة النبرة الحسية و الايروسية في هذا الأدب إلا أن مجمل الكلام ظل بمنأى عن مزالق الفحش و أنواع الإبتذال السوقي.فالمنطق الوصفي يرد الصورة الجمالية إلى أصل قريب في البيئة الطبيعية و في التراث التقليدي للأدب الريفي.فعيون الحبيبة و جيدها على مرجع الغزال و حاجبها هلال و سنها فضّة أو " برّاق يشيل و يسوي بق" و نهدها رمّانة إلخ .و كان لا بد لهذه المواصفات أن تتبدّل مع تبدّل الشروط التي يحيا ضمنها المحبون، فبعد استقرار الحواضر السودانية الكبيرة على " عثمنة " القيم الثقافية لأهل الحواضر بفضل الصفوة الحضرية المرتبطة بسلطات الاستعمار التركي المصري و القريبة من أسلوب الحياة في مصر العثمانية، و هي القيم الثقافية التي عارضتها آيديولوجيا التقشف المهدوية الاسبارطية على زعم أنها حزمة من البدع و الضلالات المقذعة،(إياكم و كتابة التـُرُكْ)، تم إنمساخ سريع و عنيف لمراجع سلوك مجتمعات الحواضر بغاية الإنسجام مع النماذج الأوروبية الفيكتورية التي طرحتها سلطات الإستعمار البريطاني من خلال مؤسسات الإدارة و التعليم الحديث.و هذا المبحث، مبحث طرائق التحول في المراجع الثقافية و التبدل في رأس المال الرمزي لأهل الحواضر السودانية في القرن التاسع عشر،باب مهم لا بد لبحّاث التاريخ الثقافي في السودان من أن يتأنّوا عنده ببصيرة ناقدة وأن يفتحوا مصاريعه العديدة النفسية و الجمالية و السياسية فينجلي جزء كبير من تداخل الجسد الخاص الشخصي مع الجسد العام الجمعي في المشهد السوداني للتاريخ.
لقد ثبّت الإستعمار التركي المصري في السودان(1822 ـ 1885 معاني التراتب بين الجنسين على مراجع مؤسسة "الحريم" العثماني و ما يترتب عليها من مفاهيم موروثة من المخيلة المملوكية الألفليلوية،التي تعتبر المرأة" فتنة" أو" شيطان" يستوجب الحذر ،و لا يركن إليها إلا و هي رهينة محابسها و قيودها المعنوية و المادية.وهي مفاهيم عزّزها التقليد الفقهي للعصر الوسيط ،من خلال مؤسسة الحجاب، تحت تأثير الخوف من المرأة أكثر من الخوف عليها الذي ميز التقليد الفقهي لصدر الإسلام. و للباحثة المغربية فاطمة المرنيسي صفحات شيقات في دلالة الخوف من المرأة لدى المسلمين( الغزالي)، ولدى غير المسلمين (فرويد)، في كتابها" الجنس كهندسة إجتماعية، بين النص و الواقع، ترجمة فاطمة زريول ، دار الفنك 1987). و التقليد الفقهي المستريب بالمرأة لا يطيقها إلا في موقف الأنثى الكيّادة القاعدة في حرز سيدها كبعض متاعه و كنزه المكنون، مما يستدعي ضبطها و حجبها حتى لا يظفر بها نظر الذكور المتربصين عند أول سانحة.
و على أرضية القهر المؤسسي الذي كابدته نساء الحواضر العربسلامية من خلال مفاهيم الحريم و الحجاب و العورة ..تم استنبات نماذج جديدة للوعي بالجسد لدى السودانيين على يد سلطات الادارة الاستعمارية البريطانية(1898 ـ 1956 )، و ذلك من خلال مؤسسات الدولة الحديثة كالإدارة و التعليم الحديث بشقيه المدني و العسكري و القضاء و الرياضة و أساليب الطعام و السكن و اللباس و الفن إلخ .و هي مؤسسات حداثية مسنودة بدولة أجنبية قاهرة استقرت في البلاد بعد عنف كبير معنوي و مادي طال كل من فكر في مقاومة الاستعمار.هذا العنف الذي صاحب استقرار الدولة الحديثة ضمن بنى المجتمع في السودان ، إنما كان ـ و ما زال ـ يستهدف تبديل الجسد التقليدي بجسد حديث قابل للإندماج في " صورة الجسد " التي تنسجم و مصالح التنمية الإستعمارية.و هي صورة للجسد تستلهم معاني صورة الجسد في منطق المجتمع الرأسمالي، جسد ماكينة أو إمتداد للماكينة ، غايته و مصيره الإنتاج و الاستهلاك لصالح رأس المال.
و ضمن الفوضى الرمزية التي ترتبت على خلخلة ثوابت صورة الجسد في خاطر الثقافة التقليدية عرف أهل الحواضر السودانية صورا جديدة للجسد الجميل مما روّج له المغنون الشعبيون كمثل عيون الحبيبة التي صارت " متل الفناجيل" و جيدها الذي صار " قزازة عصير " و نهودها التي انمسخت قنابل و مسدسات و مدافع إلخ.و التحوّل في مراجع الجمال الأنثوي لم يقتصر على تطبيق الأوصاف الحديثة على النماذج الجسدية التقليدية( و اسقاط الأخيلة التقليدية على أدوات و موضوعات المجتمع الحديث) فحسب، بل تعدّاها لتحوّل نوعي على صعيد النموذج الجسدي نفسه، فكبار شعراء الحواضر ، فيما بين العشرينات و الأربعينات من القرن العشرين، مثل خليل فرح و التيجاني يوسف بشير و سيد عبد العزيز و غيرهم ، عبّروا في أكثر من موقف عن إنخراطهم العفوي و الحاسم في النموذج الجمالي الأنثوي المستعار من الثقافة الأوروبية.و هو نموذج متوسطي ـ و قيل هوليودي ـ نشرته الأدبيات المترجمة و الصحف و السينما و التلفزة و مستنسخات إناث الـ" بين آب"
Pin up
و جسّدته على المشهد المحلي فتيات الجالية المتوسطية في الخرطوم من إغريق و طلاينة و أرمن إلخ.و " زهرة روما " التي يحيّي جمالها الشاعر الوطني خليل أفندي فرح، هذا الرجل الباكي " المغروم "، في "جناين الشاطي و بين قصور الروم" ، ما هي إلاّ كريمة أحد تجار الخرطوم الطلاينة ( أنظر " ديوان خليل فرح " ، تحقيق علي المك،1977 ، دار جامعة الخرطوم للنشر، ص 196) و مثيلاتها كثيرات ممن عقدت محبتهن أفئدة أكثر من شاعر من شعراء الشعب ، حتى أن التيجاني يوسف بشير ـ في واحدة من الروايات ـ يتمادى في الوله لحد التعبير عن الرغبة في التنصّر من أجل عيون الحلوة النصرانية التي أسره غرامها.أما عن شقراء أبو آمنة حامد التي " سال من شعرها الذهب فتدلى و ما انسكب" فحدّث و لا حرج .
و هكذا فالتفتّت اللاحق بالمراجع الجمالية التقليدية مع الاستنبات العشوائي للمراجع الجمالية الجديدة يساهمان في خلق حالة من البلبلة الجمالية و بعض من عكر الرؤية أزاء المواصفات التي يفترض أن تعبّر عن نموذج جمالي أنثوي يؤثـّث الأرض المتحركة بين فوضى التقليد و فوضى الحداثة. و هي حالة لا يمكن وصفها بأن الحضريات اللواتي يعشنها يسيطرن فيها على معطيات تعريف نموذجهن لجمال الأنثى. بل هن ، في الغالب ، في وضعية الانتظار بالنسبة لما قد تجود به وسائط الاعلام من مراجع و نماذج يتم تخليقها في كيانات ثقافية أجنبية ـ أوروبية بالأحرى ـ و ذلك أفضل تجسيد لواقع الإلحاق الثقافي الذي ينطرح في مشهد العلاقات بين الفرقاء الإجتماعيين كطرف من فعل الإلحاق الإقتصادي و السياسي.و وضعية الإلحاق ، بما تنطوي عليه من إختلال في ميزان الشراكة الندّية و آفاق التبادل العادل بين الفرقاء ، فهي تفترض طرف غالب ملحق(بكسر الحاء) و طرف مغلوب ملحق ( بفتحها).و وضعية الضعيف المغلوب على أمره إنما تمثل المصير القاسي الذي كتب على السودانيين ـ و على غيرهم من المستبعدين ـ مكابدته في حركتهم و سكونهم. ومن واقع بؤسهم الجمالي و النفسي الراهن ينحدر القوم نحو وهدة الإحباط الحضاري و هم يشهدون الهوة تتسع بين سمو عقيدتهم الجمالية الموروثة من الأسلاف و إنحطاط جماليات نظامهم الرمزي الراهن المفخخ بقيم السوق الرأسمالي الذي يبدو كما " شَمْلة ِكنيزة" التي قيل عنها بأنها" ثُلاثية و قدّها رُباعي"، و الحمد لله على كل شيئ.
و في نظري الضعيف فإن شرط الإحباط الجمالي الراهن مسئول ، لحد كبير، من وقوع مشهد رقصة العروس المتأخر في شرك مثلّث حديث ـ و قيل حداثوي ـ أضلاعه الرفث المشهدي والرفض الديني و الغوغائية الوطنية. وفي مشهد الرفث المشهدي الرخيص ـ و أنا أضمر أن هناك نوع من الرفث المشهدي الممنهج ذي القيمة الآيديولوجية، و سأعود لهذا لاحقا ـ يذهب الغلابة العاطلون من كل متاع فكري نقدي يمكنهم من تحمّل تبعات المواجهة الحضارية غير العادلة مع الحمولة الآيديولوجية المودعة في طيّات النسخة الأوروبية النصرانية لثقافة السوق.و في موقف العصاب البيوريتاني المسلّح بالفقه الإسلامي، و غير الإسلامي، يقف قطاع العقائديين المتشنجين، بشقيهم الديني و العلماني، الذين يرون في مشهد العروس التقليدية منكر الجاهليات القديمة و الحديثة.و في مقام الفولكلور السودانوي يعكف الغوغائيون على الإحتفاء الكرنفالي الجائر بكل الأشكال الطقوسية الفارغة من كل مضمون إجتماعي بإسم آيديولوجية التمازج الوطني السودانوي.و بين هؤلاء و أولئك تمتد أرض عامرة بجيوب من الأمور المشتبهات يسكنها الحيارى و المستفيدون الذين يقطفون من كل بستان زهرة، حسب التساهيل ، حتى تحين ساعة الفرج و ... هيهات .
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

جيوبوليتيك الجسد 17

رقص الهجنة


إن فعل الإنفتاح و الإنكشاف الذي يميّز المنطق الكوريغرافي لرقصة الرقبة يبدو على قرابة رمزية ـ و قيل تاريخية ـ مع فعل مشابه يسم الحركة النهائية لرقصة الـ " نيرتون" لدى بعض نوبة جنوب شرق الجبال. و الـ " نيرتون" رقصة فحواها عرض الفتاة لمفاتنها الدفينة بغاية غواية خطيبها ـ و غالبا زوجها المرتقب ـ بين شباب العشيرة، و ذلك بُعيد طقس الصراع الذي يكون شباب العشائر قد عرضوا من خلاله قوتهم و شجاعتهم .و حسب وصف " إليان و بيير دوبوا" في كتابهما " السودان : بلاد النوبة "، " ترقص الفتاة عارية إلا من حزام رقيق من الخرز و الودع حول خاصرتها ، و جلدها مغطّى بخليط من ألوان التراب الجيري و الدهن و بيدها سوط من الجلد، و أحيانا مجرد فرع أو مطرق رقيق. و حلبة الرقص التي تتوسطها فرقة الطبالين تنقسم لجزءين، جزء فيه مجموعة الفتيات يرقصن و يضربن الأرض بأقدامهن و يهززن من أردافهن على إيقاع الطبول و هن يتقدمن نحو الجزء الذي ينتظر فيه شبان العشيرة: الـ " كُدوندُر"، و كل شاب متبرج في كامل زينته و هو جالس على مقعد صغير " بنبر "، مطِرق صامت كأنه لا يبال بمشهد الحركة و الهيجان وسط جماعة الفتيات الزاحفة نحوهم على إيقاع الطبول. و حين تدرك الفتاة الشاب الذي وقع عليه إختيارها، ينقطع الإيقاع في لحظة ، هي ذروة التوتـّر الكوريغرافي. و بحركة سريعة ترفع الفتاة الراقصة ساقها اليمنى و تحطها فوق الكتف اليسرى للشاب الجالس الذي اختارته، و هي في هذا الوضع تظل تتقافز على رجلها الأخرى قفزتين أو ثلاث قفزات سريعة ، قبل أن تتوقف و ساقها على كتف خطيبها و فرجها مبذول على أقرب ما يكون من وجهه.تثبت الفتاة على هذه الهيئة لثوان بينما يبقى الخطيب المختار مطرقا لا يحرّك ساكنا و كأن الأمر لا يعنيه.بعدها يستأنف الطبالون لعبهم و تنسحب الفتاة من منطقة الشبان لحلقة الرقص و تواصل رقصها. ثم ينسحب الشبان من موضعهم و يغادرون الحلبة و يحل محلهم شبان جدد ينتظرون دورهم في لعبة الإختيار" .(ص 114)،
Eliane et Pierre Dubois, Soudan, pays de Nouba, Editions Vilo, Lausanne, 1980
ترى هل تكفي غاية الإنكشاف في ذروة رقصة الـ " نيرتون " النوباوية لإرجاع رقصة الرقبة لأصل أفريقي؟مندري..لكن تحت شروط الإفتراض السودانوي " الإجباري" للثنائية الثقافية السودانية، التي تختزل تنوّع الثقافة السودانية الكبير الى مزيج مبسّط " فيفتي فيفتي" عربي/زنجي، فإن إغراء إرجاع رقصة الرقبة لأصل أفريقي لا يقاوم. ذلك لأن تأصيل ممارسة السودانيين العربسلاميين الثقافية في التربة الأفريقية يسوّغ لسدنة المشروع السودانوي دعم وَهـَم التكافوء العادل في الواقع الراهن للتداخل السياسي بين عرب السودان و زنجه.و هو وَهَم يسوّغ عايه العربسلاميون نسختهم للهوية السودانوية، ناهيك عن المنافع الجانبية الأخرى التي تمكن السودانويين من الوقوف موقف الوسيط/ الحَكـَم بين عرب أفريقيا و زنجها.بيد أن تحفـّظي على مزالق المشروع السودانوي لا ينبغي له بحال أن يجعلني أهمل إحتمال الأصل النوباوي لرقصة الرقبة، و ذلك أمر سينبري له، في وقته ، باحثون أوسع حيلة و أنجع وسيلة مما في حوزتي الآن.و كل فولة و لها كيّال.
و من جهة أخرى فرقصة الرقبة يمكن أن تجد لنفسها أصلا عربيا بدويا من خلال القيمة الرمزية للأنثى المطيّة الخاضعة المطيعة.و هي قيمة ذات حظوة عالية ضمن ثقافة الجماعة العربسلامية في السودان. فالراقصة إنما تتخذ هيئة الفرس أو الناقة المطيعة. و حركات الرأس و العنق و تقويس الظهر و تطويح الذراعين الخ ، تستدعي كلها صورة الدابة " المؤدبة " كما يعبّر أهل البوادي.و هي دابة تتبع إشارة سيدها الماسك بزمامها بيد بينما يده الأخرى تحمل سوطا أو سيفا.ترى هل هي مجرد مصادفة كون الحلية التي تثقب منخر العروس تسمّى بـ " الزمام "؟و هل هي مصادفة بريئة كون زينة العريس التقليدية تفترض أن للعريس سوط أو/و سيف ، و أنه " يهز " بسوطه أو بسيفه فوق رأس عروسه الراقصة كما يهش الراعي على بهائمه؟و هل لحركة " الشبّال" التي تختم الخط الحركي للرقصة بخفض العروس لرأسها أمام العريس دلالة أخرى بخلاف التأكيد على معنى قبول الخضوع و الإمتثال كلما رفع الرجل سلاحه فوق رأس أنثاه؟( إنتو قايلين السلطة دي ـ سلطة المجتمع الذكوري ـ الرجال أخدوها من النسوان بأخوي و أخوك ؟).
و فيما وراء المعاني الرمزية المستبطنة في الحركة الكوريغرافية للراقصة و تلك المودعة في طبيعة إكسسواراتها كالزمام و الحجل الثقيل الذي يقيد من حركتها كما عقال البعير، فإن علاقة السيد "الذكر" المهيمن بالدابة " الأنثى" الخاضعة تعبّر عن نفسها من خلال الحركة الكوريغرافية للرجل الذي " يعرض " أمام عروسه و أمام جمع النساء و الرجال الآخرين و سلاحه فوق رأس أنثاه.فماذا يعرض الرجل حين يِؤدّي حركة " العرضة "و لمن يعرضه؟الرجل لا يعرض شيئا بخلاف إمتيازه كذكر مهيمن و غالب و قادر على حماية عرضه و ماله من تغوّل لذكور الآخرين .و هو يعرض هذا الإمتياز لنفسه أولا، حتى يقتنع به هو نفسه ،قبل أن يعرضه لبقية أفراد العشيرة ليقنعهم بقيمته كذكر ضالع في صيانة قيم الجماعة التي ينتمي إليها، ذلك أن إمتياز الرجل كصاحب عرض و مال لا يستقيم إلا كطرف من رأس المال الرمزي الذي يتقاسمه مع جملة ذكور و إناث القبيلة.

حرب الجنسين
إن السيف ، كرمز سُلطة، يحتل موقعا مركزيا في الكثير من تنويعات رقصة الرقبة. و من خلال الرقصة البجاوية التي تعرف بـ " رقصة السيف " ـ حسب إجتهاد ناس" فرقة الفنون الشعبية" في السبعينات ـ يطرح تقليد الرقص البجاوي إحتمالا يستحق التأنّي في صلة رقصة الرقبة بمعاني السلطة ـ و قيل بمعاني النزاع على السلطة ـ ضمن العلاقة الجارية بين الرجال و النساء في السودان .و " رقصة السيف" ( حتى إشعار آخر من أخونا بابكر كنديو) التي أعنيها هي الرقصة التي نشرتها فرقة الفنون الشعبية من خلال عروضها الراقصة التي استمتع بها جمهور الحواضر في السبعينات.و هي رقصة نساء منطقها الكوريغرافي يعتمد ـ تقنيا و رمزيا ـ على محور السيف في أيدي الراقصات ، بينما يظل حضور الرجال في خلفية الحدث المشهدي بسيوفهم أمرا لا يستغنى عنه.لماذا ؟ مندري..فالراقصة تبتدر الرقصة و سيفها بيمينها و قوامها يتموج في حركة، صاعدة نازلة، على منطق الإنفتاح الرأسي.فتقوّس من ظهرها ثم تبرز صدرها و ترمي برأسها للوراء في حركة مركبة تتمايل بقامتها مرة لليمين و مرة لليسار. و من حركة الرأس تنتظم عودها حركة متموجة نازلة (و صاعدة ) نحو الصدر و عبر فقرات الظهر يتواصل التموّج الرأسي لمنطقة الحوض، ثم الساقين، ثم الركبتين، لغاية القدمين الذين يترجمان التموّج النازل في شكل خطوات قصيرة تتيح للراقصة أن تتحرك متقدمة أو متأخرة في مشية أدخل في الإختيال بل هي أقرب لـ " العرضة " التي يحتكرها الرجال كخطاب كوريغرافي ذكوري.
و في عرضتها يتحرك السيف المسلول في يمناها على محور أفقي بحيث يعود النصل نحو الصدر بين نهديها قبل أن يتباعد مع إنفتاح ذراعها على إيقاع الرقصة الذي يضبطه جوق المغنيات و المغنين في عمق الحلبة.و في نفس الوقت تواصل الراقصة في منطق الإنفتاح الأفقي بفرد ذراعها الأيسر كما الفارس الذي يختال قبل النزال.
و إذا كان السيف ، على المستوى البصري،ينطرح كخط رأسي من المعدن الصقيل المستقيم ، بما يؤكّد ، بالتعارض ، قيمة الحركة المتموّجة لأقواس الجسد و تكاويره الأساسية،( الراس و الصدر و العجيزة )، فعلى الصعيد الرمزي الإيروسي، تنطرح حركة السيف، في تعبير الراقصة التي تواصل تموّجاتها، و نظرها معلّق على النصل المستقيم يتباعد و يتقارب من صدرها،تنطرح كتعبير عن معاني الإحتفال بالقيمة الرمزية الإيرية المسقطة على السيف كرمز " فاليك "
Phalic
و بلا شك فهذه النظرة تملك أن تختزل رقصة السيف إلى نوع من طقس إحتفالي إيري " فاليك"، تؤديه النساء من باب العرفان لعلامة الذكورة الأولى ضمن مجتمع رعوي يحتكر ذكوره حق تعريف الأصول و الفروع التي تتخلّق عليها حركة الناس و سكونهم. لكن رقصة السيف ، فيما لو تأنـّينا عند مشهد السيف في يد النساء ، تبدو أغمس من مجرد طقس عرفان لعلامة الذكورة. ذلك أن في حمل النساء لسيوفهن ، و هن يختلن داخل نفس الحلبة التي يعرض فيها الرجال ،بسيوفهم و بتروسهم، ما يبذر بذور الشك في طبيعة المعنى الرمزي المستبطن في حركتهن.ذلك أنه إذا كانت الراقصات يحتفين بالسيف كرمز إيري، فلا شيئ يحفـّز الذكور الموجودين داخل الحلبة في مواجهة الراقصات على إشهار سيوفهم.اللهم إلاّ إن كانوا على ريبة من طبيعة نوايا الإناث المسلحات.و هي ريبة مشروعة سيّما و ذاكرة التاريخ و العادات ما زالت تحفظ بعض آثار من سلطان النساء الذي عرفته المجتمعات الأموية " المترياركية "، في بلاد البجا و في بلاد النوبا المروية على عهد الكنداكات اللاتي توارثن السلطان لقرون، لغاية القرن الرابع بعد ميلاد المسيح.
هذا المنظور يفتح الباب لقراءة مغايرة لرقصة السيف.فهي قد تكون علامة باقية من علامات ثقافة بادت كانت النساء فيها " يعرضن "قوتهن و فروسيتهن، كما " الأمازون " المحاربات ،أمام رهط الرجال الذين يكتفون بدور" الكورس" في عمق المشهد.( و حضور السلاح بيد النساء الراقصات، بشكل رمزي عند راقصات الـ " نيرتون " النوباويات، أو بشكل مادي عند البجاويات، ينطوي على أكثر من دلالة، على صعيد المعنى المضمر لسلاح النساء). و ثمة إحتمال آخر فحواه أن الرقصة ما هي إلا" تمثيل" درامي مشهدي للحظة الحرب التي كان على جنس الرجال خوضها ـ بحد السيف ـ لإخضاع النساء و إستعادة الإير/السيف السليب، رمز السلطة و إمتيازها و أداتها لتأسيس المجتمع الأبوي " البطرياركي". و ذلك مشهد حربي يكون " الروراي " فيه مع الزغاريد بمثابة صيحات حرب تميز كل فريق من الجنسين المتحاربين .و هي حرب إنقضت اليوم و لم يبق منها إلا صدى إصطدام النصال و تعارض الصياح و الصراخ( الروراي و الزغاريد ) في تلافيف ذاكرة شعبية مخاتلة .





صورة

صورة

[img]https://www.sudan-forall.org/files/Kandaka[1].JPG[/img]

الصور:
1ـ رقصة النيرتون ، تصوير دوبوا .
2ـ رقصة النيرتون، تصوير ريفينشتهال
3ـ الكنداكة أمانيتار تنكّل بأسراها، النقعة .تصوير الثقافة و الأعلام.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الشبّال، البطان : بين الحياة و الموت.

مشاركة بواسطة حسن موسى »

جيوبوليتيك الجسد 18
........................

مسرح التأهيل

الشبّال و البطان.. بين الحياة و الموت

حين تصول راقصة الرقبة و تجول عارضة مفاتنها داخل حلقة الرقص، فهي تعرف أن خط مدارها الكوريغرافي يتضمّن بعض الوقفات من وقت لآخر.و ذلك حين ينبري لها أحد الشبان و يقترب و يضرب رجله على الأرض قبل أن يهزّ فوق رأسها عصاه أو سوطه أو سيفه أو حتى يده العارية ثم ينحني في إنتظار" الشبّال".هذا الشاب هو طالب " الشبّال". و حسب العرف الجاري فالشبّال يُطلب و للراقصة حق العطاء أو الرفض.ذلك أن الشبّال وجه من وجوه التعبير عن الإعجاب، يبذله الشاب للشابة التي راقت له.و حين تعطي الراقصة الشبّال فهي تخفض رأسها على جانب بما يمكنها ، بحركة سريعة ،من أن ترمي يخصلات شهرها المضمّخة بالطيب على وجه الشاب المحظوظ.و قد جاء في " قاموس اللهجة العامية في السودان"( عون الشريف1985) أن" الشبّال
أيضا عبارة عن ودع و بعض الخرز ينظم في خيط و يعلّق في الشعر ليعين على تلعيب الشعر عند الرقص " .." و الشبّال في غرب السودان هو الذي يربط الأشياء مع بعضها". و أستنتج من وصف الشبّال كحركة و كإكسسوار أصالة الشبّال ضمن البنية الطقوسية و الكوريغرافية للرقصة.فالفتاة تباشر الرقصة منذ البداية و في خاطرها إضمار بملاقاة طالب الشبّال، بل أن بذل الشبّال لطالبه يبدو ضمن التواليف الحركية الكوريغرافية كلحظة ذروة تنتهي عندها الرقصة بإنسحاب الشاب المحظوظ و بإستئناف الراقصة لرقصها في إنتظار طالب شبّال جديد.
و للشبّال ، كقطعة إكسسوار من الخرز و الودع تعدّها الراقصة ضمن ضفائرها بشكل مسبّق، أكثر من دور. ففضلا عن تأكيد نبرة الشكل البصري لحركة الرأس و الشعر المعلّم بالحلي ، يبقى للشبّال دور مزدوج كونه، من جهة ،يمكن من تحقيق التماس بين جسد الشابة الراقصة و جسد
الشاب طالب الشبّال، ذلك أن الراقصة تلمس الشاب بشعرها المضفور المعطّر على وجهه جهارا و وسط الرضاء و البهجة الجمعية لأهل المحفل.و هذه الملامسة أمر متعذّّر، بل و ممنوع،خارج حيّز المشهد الطقوسي للرقصة.و من الجهة الأخرى فالشبّال يحفظ للرجل مكانه ضمن رقصة تخلّقت كشأن نساء.و تأسيس دور الرجل في الرقصة ضمن طقس الشبّال، يسهم في حفظ التوازن الرمزي للرقصة كتمثيل إبتدائي و كتمثّل إستباقي لفعل الزواج.
و الشبّال في أعراس الحضريين و في محافلهم الراقصة، يبدو اليوم كحركة غريبة فقدت علاقتها بمحتواها الرمزي التقليدي. بل أن الشبّال ينمسخ ، في بعض المحافل الحضرية ، إلى نوع من حركة تهريجية غايتها الفكاهة، بالذات حين تنبري فتاة من بين الحضور لـ " تهز " و تطلب الشبّال من فتاة ترقص ، وسط الزغاريد و التهليل و الضحك.و ذلك حال من الصعب تصوّره قبل نصف قرن من الزمان.ذلك عهد آخر ، كان طلب الشبّال فيه يعود على صاحبه بتبعات " البـُطان" التي لا يقوى عليها إلا أهل العزم .ذلك أن " البُطان" مقام جَلَد، و لو شئت قلت: " جَلْد" عديل.فالبُطان أو المُباطَنة ، على حد تعبير " قاموس اللهجة العامية ":" نوع خاص من الجلْد يقوم به الشبّان في حلقة العرس ، خاصة في" السيرة"، لكي يبرزوا شجاعتهم أمام الفتيات.و الجلد يكون فوق الكتف و على الظهر بعد إزالة الملابس...". و معنى الخصوصية في طقس المباطنة هو أن الجلد يتم غالبا بشكل متبادل بين الشابين المتباطنين، و ذلك على معاني التحدّي و المنافسة الرياضية أمام جمهور الحاضرين، و بالذات جمهور الحاضرات.و صفة " الرياضية " التي ألصقتها بطبيعة الطقس، إنما تتأتّى من التشابه بين القيمة الطقسية للبطان و المواجهة الرياضية الكلاسيكية.و ذلك من حيث مراعاة شروط الكفاءة بين الخصوم و ضرورة التحكيم و سعي المتباطنين لنيل إعجاب الجمهور بكسب النقاط ضد الخصم و بعرض الخصائص و الصفات الإيجابية المتوقّعة من الرجل في المجتمع التقليدي.كقوة تحمل الألم و الصبر على المشاق و إحترام الخصم و العدل في الخصومة، كون المتباطنين شركاء في ممارسة طقسية فريدة غير متاحة لكل من هبّ و دبّ.و في هذا المقام يصبح الشبّال " رباطا" يربط أفراد طائفة الخصوم الذكور المتحالفين على عهد الإيلام الـ " سادومازوشي" الغميس الذي يميزهم عن جنس النساء مثلما يميزهم عن غيرهم من الذكور الآخرين الأصغر سنا أو الأكبر سنا منهم.
وهكذا ينطرح الشبّال في خبرة الذكور المتباطنين كمدخل فريد لطقس التأهيل الرجولي المتحقق ضمن البنية المشهدية لمحفل العرس، و يفترض مساهمة الراقصات مثلما يفترض حضور الشهود من الجنسين.و حين يعبر الشاب بلاء البطان، من خلال عرض قدرته على تحمّل الألم و إيقاع الإيلام بالأنداد الآخرين ،فنيل الشبال يصبح نوعا من حق تشريفي يستحقه البطل الجديد.و هكذا ، فبين الشبّال و البطان ، يقوم الشبان و الشابات بإنجاز طقس تأهيل الشاب المباطن و تمكينه من إستكمال المستلزمات الرمزية و النفسية لصفة الرجولة و الفتوّة أو" الرّجالة " في التعبير الشعبي التقليدي.
ومبدأ تأهيل الصغار و مساعدتهم للعبور لمركز المسئولية ضرورة لا يستغني عنها أي مجتمع.و بشكل عام يحافظ برنامج طقس التأهيل على ملامح عامة لا تتغيّر على إختلاف الثقافات.فهو في الغالب بقوم على الزج بالشخص اليافع ضمن دائرة من الصعوبات المادية و النفسية المعرّفة مسبّقا:( الوجود داخل حلقة الرقص العامرة بنساء أجنبيات مقاربتهن تستوجب التبعات).و إذا نجح الشاب في إجتياز إختبار الصعوبات:( الإنتصار على الألم) فهو ينال إعتراف الجماعة بوضعيته الجديدة كـ " راجل"، بل ـ كما عبّر حمد ود حليمة في" بندر شاه" ـ :" كأني جبّار شمهورش إذا كان سقف السما وقع أسنده بيدي ".أو " كأني سر عسكر الترك" ، أو " كأنني سيد الكون ، مالك الليل و النهار ". و هي كلها أوصاف تدل على خروج المتباطن من دائرة اليافعين و إنتماءه إلى عالم الذكور الأقوياء، حتى و إن كان في ضعف حمد ود حليمة" القليل التعبان الكحيان".
بيد أن التصدّي لإمتحان البطان لا يكون بغير تحضير نفسي و عملي يطول أو يقصر من فرد لآخر.و مثلما تمضي الفتاة جزءا طويلا من وقتها في التمرين و التعليم العفوي الذي يحضّرهل للحظة الرقصة النهائية ، الرقصة التي تمكنها من العبور من حال الفتاة اليافعة لحال المرأة ، فإن الصبيان في وسطهم يجدون أكثر من ذريعة لإرتجال موقف البطان كنوع من التمرين الذي يعدّهم للحظة العبور من حال الصبي اليافع لحال الرجل.و ذلك حين يخطو الواحد منهم لأول مرة داخل حلبة الرقص طالبا للشبّال و هو عارف بعواقب الطلب الفادح.و جزء كبير من ألعاب الصبية التقليدية في السودان ينطوي على فعل الإيلام الجسدي من ضرب و جذب و شد و دفع متبادل ضمن مبدأ الـعدالة في اللعب أو مايسميه الاوروبيون بالـ " فير بلاي". و العدالة في اللعب تعصم الرياضة الخشنة من الوقوع في منزلق الشجار أو العنف الفالت من التقنين.و البطان في مشهد الصبية ما هو سوى لعبة أخرى بين الألعاب التي يؤدّونها ضمن علاقة اللعب العادل.و قد رسم الطيب صالح ، في " بندر شاه"،على لسان حمد ود حليمة ، صورة بطان الأطفال في المجتمع التقليدي ببلاغة أدبية و بدقّة سوسيولوجية نادرة .بل أن النص الممتد في وصف تحوّلات الجسد بين الوجع و الخدر و النشوة، و قل: بين الموت و الحياة ، يبدو بحق ضربا من الكتابة الأدبية الجديدة الغريبة على عادات الأدب الروائي المتوارثة من تقليد النهضة العربية.فهي" كتابة جسدية " لو جازت عبارتي ( و هيهات )، و ذلك في معنى كتابة أدخل في التجربة الحسية المعاشة أكثر منها إجترارا لتجارب أدبية مقروءة أو مترجمة.و أنا أعني نوع معالجات أحوال الجسد التي أورثنا إياها كتاب عصر النهضة حين يتجاسرون ـ أو حين يتورّطون ـ في الحديث عن أحوال الجسد الحي الحيوان.ذلك الجسد الذي يتنفس و يأكل و يشرب و يشبع و يعرق و يتجشّأ و يهضم و يتغوّط و يتبوّل ويزرط و ينعظ وينكح و يقذف و يرتعش ويبرد و يسخن و ينهك و ينعس و ينام و ..و.. و بكلمة: يحيا و ...يموت ، ثم يتعفـّن و يتحلل و يعود إلى التراب. هذا الجسد الحيوان لا مكان له من الإعراب في عادات الكتابة العربية المفخخة بالتحشّم الأخلاقي المنافق لأبناء الطبقة الوسطى العربسلامية الذين يكتبون آدابهم في لغة علماء الأزهر الشريف و يعيشون أقدارهم في لغة العامة.و ربما كان فضل كتابة الطيب صالح و كفاءتها البادية في مقاربة أحوال الجسد يتفسّر في إختياره لوسيلة العامية التي تتميز على الفصحى بكونها ، في خاطر الناس، أكثر قربا من واقع الجسد و أحواله البيولوجية و النفسية.و ذلك سواء على صعيد المفردات اللغوية أو على صعيد التراكيب البلاغية.و أظن أن أفضل معالجات الطيب صالح الأدبية لأحوال الجسد هي تلك التي يتصدّى فيها للحديث عن واقع الجسد بوسيلة العامية :
" شطة حمرا، نار الله الموقدة ،أكلتها كلها و قلعت عريان و مسحت بيها جسمي كله، العياذ بالله من النار الولّعت في بدني، نار الجحيم انطلقت و أنا أصيح بطول حسّي: واي واي ، الدنيا خلا و لا حد سامع، و أبرطع و أتمرمغ في التراب. و العرق نازل شل شل. يا زول ألم ، أجلّ الله السامعين ، شي يمخول العقل. بعد دام [ مافي ؟] ألم يهمّني أبدا، أدخل النار ما أحس بأي [شيئ؟] شي.جريت وقميص [ قميصي؟] في إيدي و عيوني شرار و الرواس [الراس؟ أم الرويس؟] ورمان قدر الزير.." تبّت يدا ناشر" دار العودة" الجهول و تب، ففي هذا المقطع وحده من الطبعة الأولى (1971)، سبعة غلطات مطبعية على الأقل .. و ما خفي أزرط.
" مسك السوط و حناه بي إيديه الإتنين و فرقعه في الهوا وج وج".." و لولح السوط و نزّله. وحياتك نزل علي بردا و سلاما بعد نار الشطّة.جلدي خدران كأنه ميت،إذا جرحته بالسكين ما يحس.هبدني بالسوط التاني و التالت و أنا راكز زي الحيطة.إذا كان الباب دا يحس أنا أحس. وقت [وكت؟] وصل السوط السابع وقف.زحّ لي ورا و عاين لي باستغراب.حدرته بنظرة زي سم الله الهاري.".."..[صرخت؟] صرخة فيه يا زول بي صوت ما أعرف جاني من وين، قلت له يا وليد ميمونة، أحقّره باسم أمّه، أبقى راجل و أضرب بالسوط. قسما النهار ده ، يا إنت يا أنا يشيلوه من هنا للجبانة.
الناس ساكتة صن، ضربني التامن و التاسع و العاشر".."لما وصل تلاتين ،جدك و بندر شاه ، الله يمسيهم بالخير،وقفو[وقّفوه أم وقفوا؟]. مسكوا االسوط من إيده، قالوا له خلاص إنت أخذت [ أخدت ؟] حقك. الضرب لي حمد، أنا أخو البنات.يا زول حسيت زي كأني سر عسكر الترك، بقيت أنفخ و أقدل . قلت لهم خلوه يضرب.قسما بسورة كاف لام ميم، شوف عندك جنس قسم. ود ميمونة الليلة لازم يشيلوه جنازة.جدك و بندر شاه قالوا أبدا. تلاتين سوط كفاية.".."
رفعت السوط فوق و نزّلته شَرْ،عليك أمان الله كأنك شرطت لك قماش.مختار ما اتزعزع لكين عينه رمشت. نزّلت السوط التاني سمعته قَنَتْ. أنا أخوك يالسمحة.أديته التالت راح زحّ ورا شوية، السوط الرابع إتّرتعْ، السوط الخامس وقع بَبْ غمران.الناس ساكتة ولا حس.مبهورين . أنا التعبان الكحيان ، حمد ود حليمة، أهزم مختار ود حسب الرسول، الفارس المغوار و البطل الهدّار.
أقول لك شعرت كأنني سيد الكون، مالك الليل و النهار. و الحكاية كلنا أطفال ، أكبرنا عمره ما يحصل تمانية سنين. بقيت أضرب من طرف ، أغير يمين و أغير شمال.أجوط بي جاي و بي جاي".." يا زول ركبني جن، وقفت وسط الحلقة و ختيت رجلي فوق مختار، و هو راقد جثة هامدة،زي كأنني أسد واقف فوق الفريسة. بقيت أتكلم كلام خارم بارم ذكرني بيه جدك و بندرشاه. بعدين قالوا خلاص كفاية. جدك قال لي خلاص عرفنا إنك راجل." (ص 38ـ39).
لا أدري كم مرة أعاد الطيب صالح كتابة هذا المقطع، و أنا أستبعد أن يكون قد كتبه هكذا بضربة واحدة، كون الطريقة التي ركّب الكاتب بها نصّه تنبيء عن دراية كبيرة بفن التوازن القلق بين هاوية الفصحى و هاوية العامية.فالسرد منظّم عل خط بسيط من طقطق للسلام عليكم.لكن بساطة الخط السردي تنفع القارئ غير المعتاد على عامية منطقة الشايقية التي تنتظم نسيج النص، في استنتاج ما انبهم من تفاصيل السرد بالذات في المواضع التي يستخدم الكاتب فيها عبارات التصاويت اللغوية لعربية الشايقية، التي تحاكي معنى الحركة"أونوماتوبيا"، كما العرق النازل " شل شل"و السوط الذي يفرقع في الهوا " وج وج" و " الناس ساكتة صن" و السوط الذي ينزل " شر"و الخصم الذي يقع " ببْ" إلخ.
و هذا الإقتطاف الطويل نسبيا لا يعني أن نص البطان هو أكثر نصوص الطيب صالح كفاءة في مقاربة أحوال الجسد، فلا بد أن للطيب صالح نصوص أخرى شيقة تتضامن لإضاءة ما عتم من أمر الجسد الأدبي مثلما تتضامن لإضاءة ما عتم من أمر الأدب الجسدي.و تلك فولة أخرى تنتظر كيّاليها. لكن رواية حمد ود حليمة هي من النصوص النادرة التي تصف طقس البطان من الداخل، بضمير المتكلّم ( ضمير المتألّم؟)، و من الخارج بضمير الباحث الانثروبولوجي.و هذا بعض من فضل الأديب العارف بالأنثروبولوجيا على الأنثروبولوجي المتكلّم في الأدب.و رب أدب " جسدي " يكون خارج النص.
و قد استوقفتني رواية حمد ود حليمة أكثر من مرة بطرفها المغموس في اشتباهات الجنسية السادومازوشية.ذلك أن تنظيم مشهد البطان في رواية حمد ود حليمة إنما يفي بمقتضيات التدبير الجنسي السادومازوشي في صورته الكلاسيكية. و هذا باب للريح غلبني سدّه، ولا مناص من أن " نوسّع قدّه"، على أمل أن يعود علينا التوسيع بتفاكير جديدة في خصوصيات و في عموميات السلوك الجمالي للسودانيين المعنيين بالشبال و البطان.
و الجنسية السادومازوشية مفهوم في علم التحليل النفسي يدل على نمط سلوك جنسي مرضي.و مفهوم السادومازوشية ، كما يستشف من المصطلح،مركّب من طرفين متناقضين: السادية و المازوشية.و إن أوجزنا فطرف " السادية " يدل على الإنحراف الجنسي الذي يجعل صاحبه يجد لذة جنسية في تعذيب الآخرين و إيقاع الإيلام الجسدي و النفسي بهم.بينما يدل طرف " المازوشية " على الإنحراف الجنسي المرضي الذي يجعل صاحبه يجد لذة جنسية في تلقي التعذيب و الإيلام الجسدي و النفسي.و السادو مازوشية ، في تعبير أهل التحليل النفسي،تجسد تعايش نمطي السلوك المتناقضين لدى نفس الشخص.

و إختيار الطيب صالح لممثلي طقس البطان من الأطفال،" و الحكاية كلنا أطفال أكبرنا عمره ما يحصل تمانية سنين"، رغم أن البطان كطقس تأهيل يخص الشباب الأكبر سنا ممن أدركوا عمر الإستعداد للزواج، أمر يستحق التأنـّي، لما ينطوي عليه من شبهة الفرويدية الأدبية.فالشخصية الجنسية للأطفال الذكور إنما تتكوّن بشكل حاسم في ذلك العمر ، بين السادسة و الثامنة .و هو عمر تتضافر فيه جملة من الشروط لتمكن الغريزة الجنسية للطفل من أن تتجاوز تعبيراتها البدائية الداخلية الفمّية و الشرجية لكي تتحقق بشكل طبيعي.و الشكل الـ " طبيعي " في مشهد مولانا سيجموند فرويد ،" يتمثل في إتحاد الأعضاء الجنسية من خلال فعل الجماع بما يصرف التوتّر الجنسي عند بلوغ حالة الإكتفاء الغريزي الجنسي التي تشابه حالة إدراك الشبع بعد الجوع".و عند فرويد فإن ميول الهيمنة و العدوانية موجودة أصلا في الحياة الإجتماعية الطبيعية المتصلة ضمن نسيج الإغراء و القسر في آن.لكن" السادية" حالة مرضية تعبر عن الإفراط في المسلك العدواني للغريزة الجنسية بما يمسخ السلوك الجنسي من مقام الحياة لمقام الموت.( س. فرويد" ثلاث مقالات في النظرية الجنسية ، ص 34ـ 43)
S.Freued, Trois essais sur la sexualité,Gallimard, 1962,
و إختيار المشهد الطفولي للبطان ، كبطان مقطوع من البنية المشهدية للزواج التقليدي الذي تشهده نساء حقيقيات، إنما يمكّن الكاتب من وضع نبرة التأكيد على العلاقة السادومازوشية. و ذلك بتأسيس الأدوار، أدوار الأنثى و الذكر، ضمن علاقة تبادلية لفعل الهيمنة/الخضوع الذي يتقاسمه كل من الجالد و المجلود ضمن شهود ذكور، يملك أي منهم حق المشاركة في الطقس العجيب الذي يسوّغ لهم أن يلعبوا على الحبلين: حبل المرأة و حبل الرجل.فالمجلود يلعب دور المرأة و هو يأمل في إستعادة دور الرجل في النهاية، إذا تسنـّى له إجتياز إختبار الألم بنجاح.و لعل " سر " إنتصار حمد ود حليمة على مختار ود حسب الرسول يتلخّص في كون ود حليمة بذل نفسه في موقف الأنثى أولا، الأمر الذي سوّغ له الإستحواذ على موقف الرجل بجدارة بعد نجاحه في إجتياز إختبار الألم.و حمد و د حليمة ، على الصعيد الرمزي ، لم يجد صعوبة في إتخاذ موقف الأنثى، و ذلك بحكم وضعيته كمستضعف بين الأقوياء، و ضعفه يموضعه في موقف المرأة المستضعفة:" .. كان مختار كلما يلقاني يهزأ بي، يناديني بإسم أمي من شدة الإستحقار، يقول لي : يا ود حليمة متين تبقى راجل تدخل الحلقة مع الرجال؟". و حين يصير ود حليمة " راجل"، بعد تبدّل الأدوار، فهو ينادي مختار ود حسب الرسول بإسم أمه كـ " ود ميمونة " تحقيرا له.
و مسلك المتباطنين ينسجم تماما مع المسلك الطقوسي لعلاقة السادومازوشية، كون المسلك السادومازوشي إنما يقوم على تطقيس متعمّد، الطرف الخاضع فيه يلعب دور الضحية و مستودع المعاناة و الإيلام بمستوياته المادية و الروحية. و كل طرف من طرفي العلاقة لا يرى صورة الآخر الاّ كمسند مادي يمكنه من تجسيد هواجسه و رغباته الملتوية الدفينة في الحياة و في الموت.فحمد ود حليمة، في موقف المازوشي، لا يبالي بما قد يصيبه من أذى، فكأنه قد مات من اللحظة التي قرر فيها أن يبذل نفسه في دور المازوشي قبل أن يدخل ملكوت الالم." جلدي خدران كأنه ميّت ، إذا جرحته بالسكين ما يحس". مثلما هو ، في موقف السادي ، لا يبالي إن كان غريمه قد مات أم أغمي عليه. و لعله يرغب ، في مكان خفي من لاوعيه،في رؤية غريمه ميتا" ود ميمونة الليلة لازم يشيلوه جنازة" .." و ختيت رجلي فوق مختار و هو راقد جثة هامدة".
و الموت الذي يؤطّر طقس البطان من بدايته لمنتهاه هو موت مركّب ، يختلط فيه معنى الغاية بمعنى الوسيلة على صورة الموت الذي يتلبّس الفعل السادومازوشي كسعي نحو الموت المترمّز في رعشة المنتهى، رعشة القذف التي تحرر المنتعظ من قيد الشهوة مثلما تحرره من قيد اللذة فيسقط " جثة هامدة"( و قيل " قفص من اللحم القديد" على حد عبارة ن. قباني ، الناطق الرسمي باسم الإيرية العربسلامية الحديثة). و هو موت يستيقظ منه الميت كمن يخرج من غيبوبة، موت على هيئة جسر أو معبر ضروري من حال إلى حال بين لا نهايتي الأنوثة و الذكورة.
و تحقيق الرغبات السادية أو المازوشية ينطرح أيضا كممارسة مشهدية لا تستغني عن جمهور الشهود، كون الشهود هم الذين يحملون لكل طرف
" المرآة/الذاكرة" التي تؤكـّد على أن ما حدث قد حدث بالفعل.و من هنا أهمية حضور ود مفتاح الخزنة و ود رحمة الله و الجد و بندر شاه. فهم الذين سيروون الواقعة ويوثقونها للبلد كلها ، مثلما سيروونها لبطلها نفسه بعد أن يستيقظ و يسترد عقله." بقيت أتكلم كلام خارم بارم ذكرني بيه جدك و بندرشاه بعدين".
و في المساحة الممتدة بين الشبال و البطان تنطرح رقصة الرقبة كمقام تبادل رمزي بين الإناث و الذكور المجتمعين بذريعة العرس.فالإناث الراقصات يتكشّفن و يبذلن لحمهن للنظر الذكوري المحرّم، و بالمقابل يكشف الذكور المتباطنون عن لحمهم لجمهور الإناث، لأن المتباطن ينزع عنه قميصه و يتعرّى ـ و قد ينزع السوط عنه جلده في بعض الحالات ـ و المتباطن يرقص أيضا أمام جمهور الإناث حين يهز و يعرض و يقدل ، بل هو في رواية حمد ود حليمة يطلق الزغاريد كما النساء. و البطان في هذا المنظور ينطرح بمثابة الطرف المذكّر الذي يكمّل رقصة الرقبة كطقس عبور مزدوج ( ذكوري و أنثوي) ضمن ثقافة المجتمع التقليدي.
ايمان شقاق
مشاركات: 1027
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 8:09 pm

مشاركة بواسطة ايمان شقاق »

العزيز حسن
سلامات
اود ان اضيف جزء لرسم (وهو لنفس المشهد الذي يظهر في الصورة التي ارفقتها) من مجموعة كبيرة من الرسومات التي قمت بنقلها في 1995 من كتاب عن معبد النقعة بمكتبة مصلحة الآثار، به رسومات للكنداكة اماني توري.



صورة
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

العندو ضهر ما بنضرب على بطنه

مشاركة بواسطة حسن موسى »

[size=24]شكرا يا إيمان على إيراد الرسم الذي يبين عن هيئة الهيمنة في صورة الكنداكة الفتـّاكة.و أظننا بحاجة لوقفة متأنية عند صورة المرأة في ذلك العهد البائد.

جيوبوليتيك الجسد
19
...............
للأعزاء المتابعين لهذا الخيط ألف معذرة على الإنقطاعة الطويلة لكن ملابسات جيوبوليتيك الكتابة الأسافيرية سلطت علينا نفرا من هواة البطان الأسافيري الذين شغلونا عن شاغل جيوبوليتيك الجسد و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، و من يدري؟ فربما كانت هناك عبرة سياسية مخفية في جسد المداخلات الممتدة بذريعة" بوست عثمان حامد الأخير" و عسى أن تكرهوا شيئا... و قد نجد بصارة ندمج بها ملاحظاتنا على هذا الأمر ضمن مشروع لجيوبوليتيك الجسد الرمزي" للبرونيتاريا" السودانية الأسافيرية.


العندو ضهر ما بنضرب على بطنُه

كثيرا ما استوقفتني صورة البطن في معنى عبارة "المباطنة"، و ذلك لأن المتباطنون يتبادلون الضربات على ظهورهم. و كنت أصرفها ناحية المجاز الأدبي على زعم أن قيمة الفتوّة في طقس البطان إنما تنبني على صورة الوحش الكبير القادر على إبتلاع الخصوم في بطنه.و قد يعبر الأهالي الغبش في وصفهم للشخص العميق المركّب بقولة " فلان بطنه غريقة" إلخ.و عند أهلنا من فلاتة ال" بول"(أمبررو)، مجالدة طقسية موسمية شبيهة بالبطان تعرف بالـ " سورو"، تمارسها بعض عشائر الفلاتة الرعاة من الـ "بول"، و يتم فيها الضرب على البطن و الصدر.و الـ " سورو" طقس عبور، (سبر)، يمكن الصبيان بعد الثانية عشر من العبور من مرحلة الطفولة لمرحلة الرجولة( " سوكا آبي") التي تمتد لعشرة سنوات. خلال هذه الفترة يساهم الشاب اليافع مرتين في العام في طقس الـ " سورو" الذي يجتمع عليه شمل عشائر عديدة من فلاتة الـ "بول"، بعضهم يقطع مئات الكيلومترات للوصول لمركز المحفل المهم.و غاية طقس الـ " سورو"، إعلاء قيم الشجاعة و الصبر على المشاق و المواجهة العنيفة بسبيل حماية شرف العشيرة و عزّها، فضلا عن صيانة الروابط الإجتماعية بين بطون و عشائر هؤلاء الرعاة الرّحّل المشتتين في وهاد السهل السوداني.و هم يلتقون في مثل هذه المناسبات لوصل الأرحام و يستفيدون منها في عقد الزيجات و دعم الأحلاف المادية و المعنوية .
و الصبي الذي يباشر طقس بطان الـ " سورو" ينجز كل الخطوات تحت رعاية صديق راشد أكبر سنا يسمونه الـ " ليقـّال".و هو ممن تعدّوا مرحلة الـ " سوكا آبي". و هو نوع من " ملاك حارس" و خبير و " سبّاري"( في مصطلح صراع البقارة)، يأخذ بيده و يعلّمه أسرار الـ " سورو"، مثل تحضير الحجبات و الطلاسم التي تعينه على تحمّل الضغط النفسي الكبير و المركبات العشبية التي تفعل مفعول البنج(" جاقامي") فتخدّر جسمه حتى ليكاد لا يحس بألم الضرب.و حين يصل صبيان العشيرة لموضع المحفل فهم يقيمون فيه لمدة أسبوعين، و تصحبهم في الرحلة مجموعة من صبايا العشيرة لتشجيعهم و دعمهم بالرقص و الغناء و مدح خصالهم و تبخيس خصومهم. و غني عن الذكر أن " السورو " بالنسبة لهن هو مناسبة لمقابلة الزوج المرتقب من خارج العشيرة.
و حين تحين لحظة البطان يتحلق الجمع حول المتباطنين و كل صبي متبرج في كامل زينته كما العروس.بل أن زينة الصبيان تفوق بمراحل زينة الصبايا المتحلـّقات حول المتباطنين، و وسط الهلـّولة و الغناء و الصيحات القتالية يكشف أحد المتباطنين عن صدره و يفرد ذراعيه و ينتظر خصمه الذي يلتقط عصاه من الأرض و يضربه ضربتين قبل أن يضع العصا ليلتقطها ضارب آخر يضرب ضربتين و يعطي العصا لغيره. و يتعاقب الضاربون على نفس الصبي وسط حلقة يخيّم عليها الصمت بعد الهرج. و يتراوح العدد الكلي للضربات التي يتلقّاها الصبي بين العشرة و الثلاثين. و قد يمسك المضروب بمرآة السورو "داروقال" يرفعها أمام وجهه و يحدّق فيها أثناء وقوع الضربات على صدره، ليتأكد من صموده و رباطة جأشه و تمالكه لأعصابه فلا يرف له رمش أو تتقلّص له عضلة.و المرآة" داروقال" في بطان الفلاتة إكسسوار مهم ، كونها تمكن الصبي المضروب من تأسيس مسافة رمزية من جسده الواقعي و تتيح له مغادرة الجسد و النظر إليه من خارجه، بل و تشييئه كموضوع خاضع للتدبير الطقوسي. و هكذا ينمسخ الجسد المضروب جسدا آخرا يسكن المرآة بما يجعل من مشهد المرآة خشبة مسرح عامر بالشخوص و الأحداث التي تمكن الصبي من مشاهدة عملية العبور التي يموت فيها الطفل ـ بعد شرب" السم" الرمزي المصنوع من مزيج المركبات العشبية المخدّرة ـ ليولد فيها الرجل.و مع كل ضربة عصا تزغرد الفتيات و ينثرن قطع النقود أو العطور أو الحلوى على فتاهن الصامد، بينما تعلو تعليقات الجمهور من أنصار كل خصم. و بعد إنتهاء الضرب يعرض المضروب صدره و عليه آثار العصا بفخر لجمهور الحاضرين. و بعدها بيومين أو ثلاثة يتهيأ الصبي المضروب للقيام بدور الضارب على خصومه. و هكذا يستمر المحفل حتى النهاية فينفض الجمع و تغادر كل عشيرة لمضاربها.(أنظر فريديريك باري ، جيو ، يناير 1990.
Frédéric Paris in GEO magazine, N° 131 , Janvier, 1990
و غني عن القول أن المقارنة بين بطان سودانيي وادي النيل الاوسط و بطان فلاتة الـ "بول" تفرض نفسها في أكثر من وجه من وجوه بنية طقس العبور: كما في التهيئة النفسية و المادية للمتباطنين ، محورية إجتياز إمتحان الألم السادومازوشي، حضور الشهود و الخبير أو " السباري"،حيازة إعجاب الإناث و إعتراف القبيلة بقيمة العبور.
لكن في أغلب بطان السودانيين يحافظ البطان على معنى الهوية الفردية ، حيث أن المتباطن يبذل جسده كفرد يمثل نفسه في مواجهة فرد آخر يتبادل معه الضرب تضامنا على إجتياز الامتحان.في حين أن بطان البول الذي يبذل الصبي فيه جسده لجماعة متضامنة من الخصوم الذين يجمعهم إنتماءهم لعشيرة مغايرة، يضفي على المواجهة بين الضاربين و المضروب معنى المواجهة الجماعية بين عشيرتين. فجسد الصبي المضروب يترمّز كجسد للعشيرة كلها، الأمر الذي يكسب الطقس ـ في نظر الضارب و المضروب ـ قيمة المسئولية الجسيمة التي ينتظر من الصبي اليافع الإضطلاع بها. و بالمقابل فالصبي الضارب، حين تحين ساعة الثأر يصبح هو ذراع عشيرته و يضرب خصومه باسم عشيرته كلها.
و مقارنة بطان مجموعة العربسلاميين من أهل وادي النيل الاوسط ببطان فلاتة البول تسترعي التأمل من حيث أوجه التشابه التاريخي بين المكونات المادية و الروحية لكل مجتمع. فالفلاتة البول مثلهم مثل العربسلاميين السودانيين يردون أصلهم إلى منبع عرقي عربي رعوي في شبه جزيرة العرب.( قبيلة حمير القحطانية)، و هي نظرية يدعمها الدكتور محمد أحمد بدين في بحثه الشيق عن " الفلاتة الفـُلانيون في السودان" ( نشر : مركز الدراسات السودانية ـ بلا تاريخ ـ ص 27).و قد يغريني هذا الإستنتاج بأن البطان ـ كطقس عبور ذكوري ـ إنما هو أصلا ممارسة ثقافية رعوية " تطورت " أو " إنمسخت " عند السودانيين ، من شكل المواجهة الجماعية لشكل المواجهة الفردية ، من خلال إستقرار الرعاة الرحّل، ضمن نمط الحياة الحضري المستحدث في وادي النيل الأوسط.و ذلك على زعم لي ـ هش لكنه مشروع ـ فحواه أن الحياة الجمعية ضمن شروط المجتمع الزراعي المستقر تفسح للأفراد هامش تعبير وجودي فردي يمكنهم من رؤية ذواتهم على مسافة من جسم الكيان العشائري الذي ينتمون إليه. بينما يبقى هامش التعبير الوجودي الفردي من الأمور التي لا تطيقها حياة الجماعة ضمن شروط مجتمع رعوي تكون أولويات العشيرة فيه قبل أولويات أي من أفرادها.و على كل حال فهذه" فولة" تفيض عن مكيال هذا البحث حاليا ، و الله أعلم. بيد أن " التحوير" ـ و لو شئت قل " الإنمساخ" ـ الذي أدرك بطان العربسلاميين من سكان حواضر وادي النيل الأوسط ، لم يقتصر على تأكيد النبرة الفردية في بنية الطقس، بل تعدّاه إلى إبتذال التركيب الرمزي و المشهدي الذي ينتظم بنية الطقس، إلى نوع من تبسيط بدائي ينحط بالمواجهة " الرياضية " بين الذكور (في حضرة الإناث) إلى بربرية الشجار الفالت من الضوابط و الأعراف المتوارثة عبر الأجيال.

سأعود لمواصلة الحديث في طبيعة" الإنمساخ" الذي أدرك طقس البطان.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

فن غض الفنظر عن النظر

مشاركة بواسطة حسن موسى »

جيوبوليتيك الجسد 20

فن غض النظر عن النظر

في شرط المجتمع الحضري العربسلامي الذي تتعدد فيه وسائل حجب الإناث عن الذكور و تتصلّد في شكل عصاب حضاري لا ينج منه أحد، بما في ذلك إناث المجتمع العربسلامي أنفسهن،تنطرح حلقة الرقص ، في محافل الأعراس،كمناسبة ذات حظوة رمزية عالية ،كونها تتيح للذكور إدراك الإناث الممنوعات بأكثر من حيلة.فمحل الرقص ،" بيت اللعبة "، هو الحيز الوحيد تقريبا ، الذي يمكن للشبان و الشابات فيه تبادل غوايات النفس و الجسد ضمن نوع فريد من التواطوء العام. و فرادة التواطوء الجمعي على غض النظر عن التجاوزات السلوكية بالنسبة لـ " حدود الشرع" تقوم على جملة من الأعراف المضمرة بين أفراد العشيرة، بما يضمن للشباب فرص تطوير العلاقة التي تبدأ بالنظرة المختلسة إختلاسا ، إلى كلام جوارح الجسد الناطق عن هواه في حلقة الرقص ، حتى منتهاها في إرتباط الطرفين برباط الزواج.و في هذا الأفق يبدو تواطوء الجماعة على غض النظر عن " النظر الثاني" الزاني ، و عن ما يشابهه من زنى الجوارح الأخرى،كما لو كان مشروطا بضرورة الوفاء بإلتزامات عقد الخطوبة المضمر بين الشبان و الشابات الضالعين و الضالعات في مسار الغواية وصولا للغاية الشرعية للعلاقة. و في هذا المشهد فإن الخطوبة الحقيقية، أو فترة التعارف و الإستشعار بين الفتى و الفتاة إنما تتخلّق ضمن سياق الأعراس الذي يسوّغ اللقاء العاطفي و يضمن له فرص تفتحه على لائحة مضمرة من الإتفاقات الثابتة في خاطر الجماعة التقليدية.
و في المجتمع التقليدي الزراعي أو الرعوي، ينتفع الشبان و الشابات ، في حضن العشيرة المنسجمة ،المنطوية على أعضاءها المعرفين ضمن مواصفات ثقافة فالتة من التحديث، ينتفعون بهامش أوسع من السماحة المادية،على صعيد المكان الريفي نفسه، ومن السماحة السلوكية على صعيد لائحة الضبط الأخلاقي، دون أن تعني السماحة أن الريفيون أكثر تساهلا من الحضريين في أمور تنظيم العلاقة بين الذكور و الإناث.و سماحة أهل الأرياف تجاه العلاقة بين الفتى و الفتاة إنما تتفسّر بكون علاقة الخطوبة و الإستشعار الإبتدائي بين الفتى و الفتاة إنما يتم تعريفها و تثبيتها ، من وقت مبكر ، ضمن إقتصاد للزواج دوراته و طرائقه تتم على إيقاع مخالف لما تعارف عليه الحضريون. و ربما كان لإفراط الحضريين العربسلاميين من سكان وادي النيل الأوسط، ربما كان لإفراطهم في تعزيز الأحجبة على إناثهم علاقة بوضعيتهم التاريخية و الجغرافية التي جعلتهم عرضة لكل غريب غاز قادم من شمال الوادي.ذلك أن الحجاب وجه من وجوه الحماية.و في الحواضر الحديثة التي لا يختار الناس فيها جيرانهم و لا يعرفونهمن لا يكتفي سكان الحواضر بحجب إناثهم (عرضهم و مالهم)، بل يحتجبون هم أنفسهم وراء الحجب المادية و الرمزية المستحدثة كحجب الملبس و المعمار و اللغة و أساليب الحياة و غير ذلك من حجب المجتمع التناحري المنقسم على ذاته.و قد وصف حسن نجيلة في " ملامح من المجتمع السوداني"(صص 5 و 9) صورة حفل العرس في حواضر عشرينات القرن العشرين، وصفا وثائقيا يتميز فيه المحفل، الذي يؤمّه الرجال و النساء معا، بكون النساء الحاضرات يجلسن و وجوههن نحو الحائط و ليس نحو حلبة الرقص، رغم أنهن ينهضن من وقت لآخر و يرقصن أمام الرجال الذين يبذلون أجسادهم لبطان الجالد فيه هو العريس وحده.و بعد الجلد يتوجه المجلود نحو الفتاة الراقصة ليأخذ منها الشبال.يذكر حسن نجيلة أن النساء الجالسات و وجوههن نحو الحائط، يسترقن النظر ، من وقت لآخر، نحو الرجال الذين ينظرون للراقصات أو لمشهد البطان.
و لعل ما يميز صورة عرس نجيله هو ذلك الإنحراف المركب في مسار النظر المتبادل بين الذكور و الإناث ضمن عمارة المشهد الحضري.فالرجال و النساء يتبادلون النظرات إختلاسا من خلال " كوّة " مؤقتة" هي ذلك الحدث المشهدي المركزي الذي يتحقق في نفس الحلبة ، تارة في شكل رقص النساء و طورا في شكل بطان الرجال.و يمكن القول بأن عرس نجيلة إنما يمثـُل كنوع من قنطرة مهتزة بين مقتضيات التدبير التقليدي لعلاقات الجسد ومقتضيات إقتصاد الجسد الحضري المستحدث الذي كتب على سكان المدينة الوليدة إختراعه تحت شروط ضيق المجال المادي و تشتـّت الحال الرمزي.
و يمكن القول بأن حفلات الأعراس الحضرية ، منذ نهاية الأربعينات،قد بدأت تستغني عن بعض أوجه التطقيس التقليدي كالبطان ، بوصفه ممارسة بربرية لا تليق بمقام أهل الحواضر المتعلمين الذين طالتهم تأثيرات الثقافة الحضرية الحديثة.و لا شك أن إضمحلال البطان قد أثر بطريقة أو بأخرى على قيمة الشبال و معناه في خاطر الشبان و الشابات المتحركين على مشهد المحفل.و حتى طقس " قطع الرحط " نفسه تعرّض لبعض التحوير في بنيته و في تفاصيله بين أهل الحواضر الحديثة .فـ "قطع الرحط" كان في السياق التقليدي يمثل لحظة محورية في مسار التأسيس الرمزي للعلاقة بين العروس و العريس.فالعريس يباشر قطع حزام الرحط الذي يمثل نوعا من حجاب حاجز بين الرجل و الأنثى، حجاب غايته حماية فرج الأنثى من أن يطاله نظر الذكر أو يده.و قطع هذا الحزام أمام جمهور الشهود ينطرح كإشهار لمشروعية العلاقة الجديدة و على قبول الجميع لثبوت الزواج على رؤوس الأشهاد.لكل هذا كان" قطع الرحط" في خاطر الجماعة التقليدية يمثل الطرف العام المبذول للعيان من مسار التدبير الطقوسي لحفل العرس.
أما االيوم، فالكثير من أسر الحواضر صارت تنظم طقس" قطع الرحط " باعتباره يمثل الطرف " الخاص "من مشهد العرس.حيث صارت العروس ترقص أمام جمهور محدود من الأقارب و الجيران المقربين مقابل الطرف " العام " الذي يتم عادة في حوش مفتوح أو في " صيوان " منصوب في الطريق العام،أو حتى في ناد عام ثقافي أو مهني إلخ.و في الطرف " العام " الذي تكون الدعوة فيه " عامة "، يصبح محفل العرس مناسبة لعرض الأسرة و العشيرة ، من حيث جاهها و حسبها و نسبها إلخ.و أظن أن إستخدام مكبرات الصوت في حفلات أعراس الحواضر إنما هو بعض من ستراتيجية الإعلان عن الجاه ،حيث تفرض العشائر المتحالفة على عقد قران ممثليها بهجتها على المدينة بأسرها. و إذا كان إستخدام مكبرات الصوت في حفلات أعراس الحواضر يعوض القوم ، قريبي العهد بالبداوة ، عن تقليد " دق النحاس"، فإن غياب البطان عن أعراس الحضريين يبقى بلا تعويض ، الأمر الذي يشيع الإضطراب في مجمل البنية المشهدية لحفل العرس.
و لعل أكثر تعبيرات هذا الإضطراب شعبية كان يتمثل في المشاجرات الشعائرية ( و العشائرية) التي كانت تختتم حفلات الأعراس الحضرية بين الخمسينات و الستينات.و هي مشاجرات كان سببها المشترك الأعظم هو صيانة " الشرف الرفيع من الأذى " و تأمين " الدم " على جوانبه.فالشباب من رواد حفلات الأعراس كانوا غالبا ما يرتادون الحفلات في غير حيّهم ( و الدعوة عامة على كل حال)، في شكل جماعي أدخل في شكل العصابة المبيّتة النوايا منه في شكل المتفرجين البريئين.و وضعية العصابة تكسبهم صفة الغزاة المعتدين في نظر أندادهم من أهل الحي أو من أهل العرس.الذين قد يحتملونهم طالما هم إلتزموا بـ "حدود الأدب".و هي حدود تقريبية و متحركة يتم تعريفها وفق تأويل هؤلاء و أولئك لطرائق النظر و أساليب الحركة و السكون و علاقات القوى ضمن مشهد العلاقة المتوترة بين الذكور و الإناث المتحلقين بذريعة العرس.و هي حدود يستحيل إلتزامها بين قوم وفدوا لمشهد العرس كما يصعد الممثلون على خشبة المسرح، و نواياهم مبيّتة على هاجس الغواية الذي لا ينفع معه دواء.ذلك أن ساحة العرس، كـ "مسرح"، لم تفقد بعد وظيفتها التقليدية كحيز عبور من مرحلة لمرحلة، و كمجال تعارف و إستشعار بين الإناث و الذكور في ميعة صباهم.لكن ساحة العرس فقدت مضمونها الطقوسي التقليدي الذي كان يمكّن الذكور من مقاربة الإناث داخل إطار من الضمانات الرمزية و الأخلاقية والنفسية التي تحفظ لكل فرد حقوقه و تعرّف له واجباته.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

بيان " بيان" في رقص عرائس السودان

مشاركة بواسطة حسن موسى »

جيوبوليتيك الجسد 21
بيان " بيان" في رقص عرائس السودان.
آخر المشاجرات الشعائرية حول الشرف السوداني الرفيع ـ و أستخدم عبارة " الشعائرية " في مدلولها المشهدي الدرامي، كون أطراف النزاع يبذلون ذواتهم كما الشخوص المسرحية على خشبة مسرح ال"إنترنيت"، و الكل يلعب الدور الذي اختاره، سواء بأسمه الحقيقي أو من وراء قناع الإسم الحركي(و بعضهم يلعب أكثر من دور مقنـّعا بأكثر من إسم حركي في وقت واحد).أما الجمهور، جمهور الـ "برو/نيت/اريا " السودانية الذي عرف كيف يلم شمل جغرافيا الدياسبورا الحنيفة،(و الماعارف يقول عدس)،فهو قابع في صالة إسفيرية "إنترآكتيف" سعتها الدنيا بحالها،يتابع، دون أن تفوته واردة أو شاردة،مهرجان الكلام الأسافيري بانتباه عصابي، فيصفق و يصفّر و يدحض و يؤيّد و يستهجن أو يدين بنقرة" ماوس"، و هو آمن تماما وراء متراس إلكتروني ناطق بالعربية و بغيرها ، و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه..
أقول : آخر المشاجرات الشعائرية حول رقص الإناث العربسلاميات كانت تلك المشاجرة الملحمية، " أونلاين"، مما جادت به صفحات " المنبر الحر " في سودانيزأونلاين" في شهر يونيو 2004 . و هي المشاجرة التي مازالت تداعياتها تتجلى من وقت لآخر بين بعض أعضاء موقع " سودانيز أونلاين" كلما عنّ لإسلامجية الأسافير مناكفة الفنانة المشهدية تماضر جبريل حين لا تعجبهم مواقفها السياسية الناقدة لسياسات نظام الإنقاذ.و أصل الحكاية في رقصة العروس التي قدمتها فرقة " عرائس النيل" على مسرح " مركز كينيدي" بالولايات المتحدة
أنظر الرابط
https://www.kennedy-center.org/programs/ ... RIDESNILE#
.فقد قدمت فرقة الراقصات الهاويات، و جلهن من بنات الجالية السودانية، تحت إشراف تماضر جبريل، قدمت عرضا راقصا يمثل رقصة العروس للجمهور الأمريكي. و قد أثار هذا العرض حفائظ بعض السودانيين من العربسلاميين المحافظين الذين رأوا فيه عملا فاضحا يجعل بنات السودان " يتكشـّفن"، باسم الفن و الثقافة السودانية، و هن في لباس " غير ساتر " يكشف عن أفخاذهن للجمهور.فكتب شخص، يسمي نفسه" أساسي"، يستنفر همم السودانيين المشاركين في المنبر الحر بموقع "سودانيز أون لاين" و يحثهم على إستنكار و إستهجان عرض فرقة " عرائس النيل" باعتباره ممارسة مشينة لا تليق بالسودانيين، و تبرّأ هذا الـ "أساسي" ،كـ " سوداني" من هذا العرض المقدم باسم السودانيين.و عارضه آخرون ، باسم الدفاع عن حرية التعبير و باسم التعدد الثقافي السوداني مع إشارات واضحة للواقع السياسي الراهن في سودان نظام جبهة الإنقاذ الإسلامي و سياساته التي لا تقيم وزنا لواقع التعدد الثقافي في السودان. و في هذا المشهد أصبح موضوع الرقص ذريعة لمواصلة المنازعة السياسية الجارية بين أنصار نظام الجبهةالإسلامية و معارضيهم .
(أنظر الرابط:
https://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/s ... 079&page=0

https://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/s ... 079&page=1

https://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/s ... 1134475071

و لا جناح، فالنقاش السياسي بطبعه نقاش متحرّك لا يعرف التخصص ، حيث أن موضوع السياسة هو الحياة الإجتماعية في تعدد و تداخل و تعارض مصالح الناس الذين يتقاسمون مصيرا تاريخيا بعينه على تباين المشارب المادية و الرمزية.و كالعادة لم ينج هذا النقاش المتذرّع بالكوريغرافيا من فولكلور الخطاب الذكوري العربسلامي ـ و إن ضلعت فيه بعض الإناث العربسلاميات ـ ذلك أن القوم، على إختلاف
مواقفهم السياسية من نظام الجبهة، تواطؤوا على إسقاط صورة الوطن ـ في إحتماله العربسلامي ـ على صورة الصبايا الراقصات على خشبة مسرح كينيدي.فانمسخ الوطن جسدا ( و لا عجب فالتجسّد بعض من ميراثنا النوبي المسيحي ..و الله أعلم ). أقول تجسّد الوطن في خاطر المحافظين لحما أنثويا مكشوفا، عرضا و " قَـدَحا" بلا غطاء، و لو شئت قل: "عورة" مبذولة للنظر الأجنبي،الذي هو نظر غير مسلم، بل و " إمبريالي " كمان.
أما في خاطر الحداثيين من أولاد و بنات المسلمين، فقد صار الوطن المسقط على الجسد الراقص أيقونة لجسد الحداثة السودانية الجريحة المطاردة المنفية. و جرح الحداثة السودانية جميل و نبيل يسوى عناء العرض و يسوى مشقّة النظر لأنه جرح مزدوج ،أولا من حيث كونه واقع على جسد المرأة السودانية كمكان للقهر التاريخي الذي كابده و يكابده جنس النساء ضمن المجتمع العربي الإسلامي المعاصر. و ثانيا لأنه جرح مقدس كما جراح المسيح المصلوب و " ستيغماتا"
Stigmata
يتضامن عليه نظر جالية المنفيين البواسل و نظر جمهور الشهود الأجانب من نصارى أمريكا و ضميرها المعذب. جرح صليب غنمناه ،رغم أنفنا، في حرب الحداثة التي كتبت علينا كما كتبت على أسلافنا بذرائع المشروع الرأسمالي الإستعماري.جرح هو ثمن فادح و برهان دامغ على إنتماءنا لجسد الحداثة الكونية، جرح هو عربون حلفنا المفترض مع الدوائر المستنيرة " التقدمية" في مؤسسات السلطة الرمزية التي يعتمد عليها ، و يعتد بها، هذا المجتمع الرأسمالي النصراني المعاصر، مجتمع الوفرة المذنبة الذي أجارنا من عسف السلطات الوطنيات المتعاقبات على قهر المواطنين في بلادنا.و قد وضعت عبارة " التقدمية " ـ في وصف الدوائر المستنيرة ـ بين المزدوجات عامدا ، حتى إشعار آخر.كون التجربة علّمتنا أن هؤلاء الحلفاء المزعومين لا يثقون بنا و لا يعترفون غالبا بأهليتنا على تدبير شئون السلطة و الثروة في بلادنا.و قد لا يتورّعون ، بذريعة البيزينيس عن تناسي مبادئ المساواة و الديموقراطية و حقوق الإنسان، ليباركوا و يدعموا طغاتنا من الصيارفة المتأسلمين و عسكريينا المتشيخين باسم هذا الدين الجديد، دين العولمة النيوليبرالية التي لا تعرف" قشـّة مُرّة "حين يتعلق الأمر بالكسب المادي.و على كل حال فهُم ، أعني هؤلاء "الحلفاء" الذين يتواطؤون مع طغاة بلادنا، هم على يقين من أننا لا و لن نعترف ، لا بالديون التي يقيدوننا بها جيلا بعد جيل و لا بشروط التبادل الإقتصادي المجحفة التي يفرضونها على مجتمعاتنا من موقع القوة ولا حتى بعواطف البر النصراني التي تكرّس الأستبعاد الإجتماعي تحت غشاء الإحسان الثقافي الذي يتفضلون به علينا في شكل فتات فكري مرذول متسمي بـالفنأفريقانية و بالإستشراقانية و حوار الأديان و الهويولوجيا إلخ. و من ثم لا يبقى أمامهم، إن أرادوا تأمين إمتيازاتهم الإقتصادية المذنبة، لا يبقى أمام أولاد الغلفا (تاني)، لا يبقى أمامهم إلا أن يواصلوا اللعب على الحبلين في آن.يعني يدّوا الدلوكة الهاجّة عصا و يدّوا الحلة المحترقة روراية.
و كل هذا يوسّع من جرحنا إلى ما وراء إقليم الرقص.
و ما أدراك ما الرقص؟لو عدنا للرقص ، لرقصة العروس بالتحديد، في هذه المناقشة المطروحة على صفحات" المنبر الحر" ، فمن اليسير التجاوز عن الثرثرات و أنواع الشتائم التي جادت بها قرائح المتداخلين في موضوع " عرائس النيل " مما تتفاوت قيمته الفكرية و الأدبية.و أتوقف هنا عند مداخلات قليلة أثارت إهتمامي في مطلعها مداخلة الدكتورة" بيان".ذلك أن الموقف الذي عبرت عنه الدكتورة" بيان " في صدد رقصة العروس يملك أن يلخـّص بعفوية كبيرة وجهة نظر السواد الأعظم من مثقفي الطبقة الوسطى العربسلامية في السودان.
تقول الدكتورة بيان في المنبر الحر، سودانيزأونلاين (3 /7/2004):
"..إعتراضي الأساسي هو على عرض رقصة العروس التي أرى فيها حط للمرأة و تحويلها إلى جسد لا غير"
"و إعتراضي أيضا على إستخدام أغاني البنات الهابطة."
" و ذلك العرض لو قدم فيه رقص شعبي ، مثلما قالت روضا،رقصات حصاد من الرقصات التي تقدم جماعيا لما اعترضنا، و لكن أن يقدم طقس نسوي على الملأ بكامل ملابسه غير الساترة و أغنياته الهابطة فهذا ظلم للسودان و ظلم للفتيات اللاتي قدمن هذا العرض، عندما خرج المشهد من سياقه الإجتماعي إعترضنا عليه.."
" ..فتحت عيني على حقيقة رقصة العروس.. و رفضتها و أرفضها و أرى أنها مُحـِطّة للمرأة مثلها مثل الخفاض..هذه المعرفة جعلتني أيضا لا أستمع إلى أغاني البنات ، التي ، على صدقها ، إلا أنها تكرس لدونية المرأة و تحويلها إلى سلعة و تطرح أنثى خائفة مرعوبة و مادية.."
" و من ثم فإن رقص العروس يجب محاربته مثلما العادات الضارة .."
" و بعرضه في مركز كينيدي كتبت له حياة جديدة عالمية بعد أن كاد يندثر.."
" أنا كخريجة للمعهد العالي للموسيقى و المسرح، شعبة النقد، ..إعترضت على رقصة العروس للأسباب التي أوضحتها..و أنا كـ بيان المرأة السودانية ، اعترضت على الفساتين القصيرة.."
".. عندما تقدم فقرة فنية تتحول المرأة فيها إلى جسد، و عندما تكرس لدونية المرأة و يكون الهدف هو الإمتاع فقط، يفقد الفن بالنسبة لي رسالته و يتحول إلى مسرح تجاري يصنع الضحك الأهبل.."
" ..هكذا فن يسقط تماما و يحيد عن فلسفة و رسالة الفنان ..فكانت رقصة العروس تلك..ما هي الرسالة التي قدمتها إلى ذلك الجمع..هل أريناهم كيف ترقص العروسة لتظهر مفاتنها حتى يعرف العريس و أهله و النظارة ماذا وجد مقابل ما دفعه؟
ما هي الرسالة الأخلاقية التي قدمتها تلك الفقرة التي قالت عنها أختنا تماضر في تقديمها أنها تعد عند البعض عرض رخيص؟".

ماذا نفعل بمثل هذه الإعتراضات؟
هل نشيح بوجهنا عنها بدعوى مفارقتها للإجماع الدارج، وسط طائفة التقدميين، بضرورة و بمشروعية صيانة كافة أوجه التعبير الفني لشعوب السودان، أم نتجاهلها بحجة أنها تلتقي مع أعداء الرقص في أكثر من موضع، و بالتالي فهي تدعم موقف أعداء التقدم و أعداء المرأة من الأصوليين المتسيسين الناشطين في نظام الجبهة الإسلامية بالسودان؟
بلا شك فإن تجاهل إعتراضات الدكتورة بيان لأي سبب من الأسباب سيعد خطيئة لا تغتفر في حق المناقشة الكبيرة الجارية وسط السودانيين في صدد إشكالية الهوية الثقافية في السودان.و هي مناقشة ـ رغم العوارض السياسية الخرقاء التي تعترضها من وقت لآخر ـ قدرها أن تحمل للعالم مساهمة أهل السودان لأسئلة " الهويولوجيا" في مشهد العولمة.و هو مشهد نحن ضالعون فيه رضينا أم أبينا، غير أن ضلوعنا حتى الآن في المشهد الثقافي للعولمة لا يعدو ضلوع الفئة التي يجرفها التيار دون أن تتحكم في توجيه دفّة مسارها بحرية وفق خيار مصالحها التاريخية.و في هذا الأفق تصبح غاية هذه المناقشة هي المساهمة في تخليق منهج جمالي حداثي قمين بعقلنة تحولات التعبير الجسدي الجمالي الذي يثابر السودانيون على إختراعه كل يوم و هم بين أحوال حركتهم و أحوال سكونهم. و التأسيس المنهجي لمقاربة الجسد، كمسند لتخليق نسخة السودانيين في جمالية الحداثة، إنما ينفع أولا في لفت النظر لحقيقة أن هذا السعي الجمالي الجمعي حاصل و لكن بشكل عفوي غير منظّم،ثم هو ينفع ثانيا في لفت النظر لضرورة بناء الأدوات الفكرية و المادية القادرة على تمكيننا من مباشرة التدبير الجمالي بشكل مؤسسي على إضمار أن التربية الجمالية دعامة أساسية من دعامات تماسك المجتمع و تنميته.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الفن الرسالي و الرسالة الفنية

مشاركة بواسطة حسن موسى »

جيوبوليتيك الجسد 22
ــــــــــ

بيان " بيان" على رقص أهل السودان.(2)

الفن الرسالي و الرسالة الفنية
أعتراضات الدكتورة " بيان" على رقص فتيات عرائس النيل مركّبة ، من حيث كونها ـ من جهة أولى ـ صادرة عن إمرأة تعرّف نفسها كمثقفة سودانية ضالعة بكليتها في إشكالية الوجود المؤنّث ضمن التحولات التي يكابدها المجتمع العربسلامي المعاصر.بل هي ـ في نظري (الضعيف؟) مثقفة تقدمية منخرطة بشكل حاسم في خطاب جمالية التقدم المبذول في المشهد الثقافي للطبقة الوسطى السودانية .و هو خطاب تخلّق عفويا ـ على مرجعية الفكر الماركسي كمان ـ بفضل جهود أجيال المثقفين اليساريين الذين راكموا التجارب و المفاهيم التقدمية في مجالات الفنون و الآداب بشكل عفوي و صمموا الخطاب الجمالي التقدمي كأحد آلات حرب السياسة على قوى المحافظة الظلامية.
و يبدو تأثير الخطاب التقدمي واضحا في حجّة بيان المركزية بأن للفن " رسالة.." "إجتماعية " و" أخلاقية" غايتها " التغيير إلى الأحسن".و هو إن تخلى عن رسالته السامية يسقط في" التجارة" و "الضحك الأهبل" و" الإمتاع فقط". تقول :
" الفن بالنسبة لي له رسالة إجتماعية و إنسانية و به قدرة على التغيير عالية.. التغيير إلى أحسن."
و رغم إنتفاعها "السياسي" بالخطاب الجمالي اليساري،فإن الدكتورة بيان،التي بنت لنفسها سمعة صلدة كداعية إسلامية بين الأسافير، لا تفوت أي مناسبة لنفي شبهة إنتماءها لقبيلةاليسار السوداني ،( و أرشيف موقع سودانيزأونلاين يحفظ لها بعض الدرر الطريفة في هذا الخصوص).و لعل تفسير الأمر يكمن في أن الدكتورة بيان ، خريجة معهد الموسيقى و المسرح ـ إنما تمثل كنموذج طيب لعدد كبير من أولاد و بنات الطبقة الوسطى العربسلامية الذين تربوا في حوش الأزمة الإسلامية المسماة بـ " الصحوة الإسلامية" ـ كونها تقيم على قياس أقرن" تراجيكوميدي"، طرفه الأول حار و طرفه الثاني لا يُنكوى به:
فمن جهة متاعها الفكري و السياسي، فهي قد ترعرعت في كنف آيديولوجيا عربسلامية متجافية عن الممارسة الفنية لدرجة التوجّس ، بل و الإدانةعلى رؤوس الأشهاد.( راجع السجال العنيف الذي دار على صفحات جريدة "الأيام" عام1981 ، و هي فترة صعود نجم التيار الأصولي بمباركة نظام النميري، و قد انفجر الجدال حول موضوع المنع الديني للتصوير بين شخصيتين من أعلام المشهد الثقافي آنذاك هما الاسلامي الأصولي التيجاني سعيد و الاستاذ الجامعي د. سيد أحمد نقد الله.و هو سجال بدأ بتساؤل من د. نقد الله حول مصداقية الحديث المشهور الذي يقول :" لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة". أنظر جريدة الايام ،23 ـ1 ـ 1981 . لنصوص أحاديث الرسول التي تعالج المنع الاسلامي للتصوير أنظر " صحيح البخاري" الجزء السابع، الصفحات 214 و217 ، كتاب الشعب، دار احياء التراث العربي، القاهرة ، بلا تاريخ.)
و من جهة متاعها الجمالي، كمسرحية، فهي تخرجت على يد نفر من الأساتذة الأجلاء (" الملاعين" ) الذين تربوا ـ سواء بشكل نظامي أو بشكل عفوي ـ في مدرسة الجمالية الماركسية التي يسهر على حراستها حزب الشيوعيين السودانيين جيلا بعد جيل. و هكذا كتب عليها ـ كما كتب على غيرها من أولاد و بنات المسلمين الذين قادتهم الظروف لمعهد الموسيقى و المسرح ـ أن تفاوض و تضاير عواقب متناقضات الوجود بين نيران التربية الإسلامية المحافظة و شواظ لهب الفن العلماني ـ و أحيانا المضاد للدين صراحة ـ حتى تتخارج من هذا الجحيم الكبير الذي يدوم أربعة سنوات بحالها."أربعة سنين حب و أعياد" كما يقول المغني، لا بد أن تترك ندوبا لا تنمحي في خاطر الفتاة المسلمة البريئة التي كتب عليها أن تتقاسم مقاعد الدرس مع أفراد لهم مشارب( و مآكل) جحيمية ما أنزل الله بها من سلطان. و أظن ـ غير آثم ـ أننا سنستفيد فائدة عظيمة لو عن للدكتورة بيان أن تتحفنا يوما ما بصفحات من حصاد تجربتها الوجودية بين أهل المسرح السوداني.
و بين نار التربية الإسلامية المجافية للفنون و نار التعليم الفني المجافي للإسلام تبذل لنا الدكتورة بيان تناقضاتها الوجودية كنموذج مصغّر لحركة فئة أولاد و بنات المسلمين المحتارين بين فوضى الحداثات الضاربة أطنابها بين ظهرانينا كما بين ظهرانين غيرنا و الحمد لله على كل شيئ.
لقد عبر الدكتور حسن الترابي في كتابه: " الحركة الإسلامية في السودان"( دار القارئ العربي ،القاهرة ، 1991،)، عن غربة الحركة الإسلامية الأصولية عن ضروب فنون أهل السودان سواء منها التقليدية أو الحديثة في قوله : "نشأت الحركة متجافية عن كل تلك الضروب من الفن، لأنها بعيدة من المجتمع التقليدي و عن فنونه العرقية ، بل الدينية من مدائح و أناشيد و زخارف موالد و حوليات و مراسم ذكر، و لأنها بالفكر الذي كان سائدا في شأن الفن عامة ما كانت لتغشى الفن الحديث المتجرد عن نيات الدين و آدابه ، المتلبّس بالغزو الثقافي الغربي. ثم إن الأولوية في عهدها الأول إنما كانت لمجاهدات توطيد الدعوة و التربية بين طائفة الإستجابة المحدودة التي كانت غنية بروحياتها المباشرة عن الفن و أشغل بمجاهداتها عن جمالياته و أصرح في مجادلاتها عن أشكاله، فما كان للفن من مكان في الحركة، و ما كان من صاحب فن لا يكاد يدخل الجماعة حتى يهجر فنه و ينشغل بسائر هموم الحركة."( ص 164).
هذه الصورة " الجمالية " التي يرسمها الدكتور حسن الترابي لواقع الحركة في عهد نشأتها إنما تعبر عن حالة معروفة في الوجود الجمالي للأقليات ، و هي حالة جمالية الوجود الجمعي المنغلق على ذاته و المنكفئ على إتفاقات أطرافه المؤلفة قلوبهم ، و هو وجود يلحمه الرضاء الصافي بلا شوائب و بغير تناقضات.ذلك أن جمالية الإنكفاء على الذات تصرف كل التناقضات لخارج جسم الأنفس المتصافية على الرضاء التام المتبادل بين أعضاء الحركة.المشكلة هي أن كل حركة تنشد التطور و الإتساع تضطر للإنفتاح على مخاطر تناقضات و شوائب " الخارج"، سواء تلك التي يفرزها الوسط الإجتماعي الذي يحيا ضمنه جسم الحركة، سواء تلك التي يجلبها معهم الوافدون الجدد لجسم الحركة الإبتدائي.
و في هذا يواصلل الدكتور حسن الترابي تحليله السابق :
"ثم خلف عهد تكاثرت فيه ظواهر الفنون الحديثة في المجتمع بما لا يمكن تجاهله، و تطورت للحركة نماذج حياة شعبية و إجتماعية لا تستغني عن صور فنية، و بدت مغاز يسارية و لبرالية في بعض الأعمال الفنية مما شكل تحديا مباشرا للدعوة. فاضطرت الحركة أن تستجيب بمبادرات فنية تحمل رسالة إسلامية مُـتـَّقية أشكال الفن الذي ينشد الجمال وحده غير مبال بالقيم الأخلاقية.."
و واضح من تحليل د. حسن الترابي أن الحركة الإسلامية إنتبهت للثقل السياسي للفن في وقت متأخر فأسرعت تجري وراءه بالأدوات و الوسائل المتاحة في الساحة.و لو شئت قل: بالأدوات و الوسائل التي بذلتها حركة اليسار السوداني في فضاء العمل السياسي :
ـ لا للفن من أجل الفن ( " الفن الذي ينشد الجمال وحده").
ـ لا للفن من أجل التجارة الفن من أجل النهوض بالمجتمع (" الفن رسالة إجتماعية")
ـ لا للفن المبتذل الهابط (" الفن غير المبال بالقيم الأخلاقية")

و قد سعت الحركة الإسلامية السودانية إلى استيعاب الدروس التي بذلتها حركة الشيوعيين السودانيين في خصوص علاقة المؤسسة الحزبية بالفنون و أهلها.و ذلك من خلال صيانة مسافة مريحة تضمن لأهل الممارسة الفنية مستوى من إستقلالية الحركة الجمالية فلا تلبّكها الإلتزامات السياسية الحزبية مثلما تضمن لأهل المؤسسة الحزبية الحفاظ على" شعرة معاوية" التي تمكن قوميسيرات الحزب من مراقبة التطورات في فضاء التعبير الفني و محاولة توجيه أو ترشيد المضمون الإبداعي لحركة الفنانين وجهة المصلحة السياسية.و في هذا الموضع ( اللينيني) تتقاطع و تتضامن تقنيا، نظرات سياسيين كبار كعبد الخالق محجوب و حسن الترابي في أدب إصلاح العمل التنظيمي بين الجماهير. و الدكتور الترابي يبدو من أكثر السياسيين السودانيين إنتباها لأدب الشيوعيين السودانيين في قضايا العمل بين الجماهير و بالذات لمرامي وثيقة عبد الخالق محجوب المشهودة " إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير" التي نشرت للمرة الأولى عام 1963.(دار عزة 2001 ، الطبعة الثالثة) ، و ذلك حين يعالج قضية أدوات العمل السياسي من خلال المنظمات الشعبية المستقلة تنظيميا عن جسم المؤسسة الحزبية.و قد كتب حسن الترابي في " الحركة الإسلامية في السودان":
" ولكن الحركة ـ حين استوت فيها نظرية التنظيمات المستقلة ـ رأت أن تجعل للفنون و الآداب منظمات قائمة بذاتها تعبئ الطاقات المتخصصة و تعنى بتطوير هذا المنشط الإسلامي فقها و أداء و تتولاه بمعزل عن متن الجماعة إتقاء الحرج على أهل الفن و أهل الثقافة التقليدية "( ص 165).
الكلام على تجليات الإنتفاع بـ" اللينينية" بين الشيوعيين و الاسلاميين في مشهد السياسة السودانية ذو شجون ، لكني لم أنس إعتراضات الدكتورة بيان على رقص عرائس السودان.
سأعود .
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

عرى الجسد و عرى الخاطر

مشاركة بواسطة حسن موسى »

جيوبوليتيك الجسد 23

عرى الجسد و عرى الخاطر

أقول :إن إعتراضات بيان مركبة ـ من جهة أولى ـ من حيث كونها تصدر عن " مرأة سودانية" مسلمة تنتفع بالنسخة الجمالية من الخطاب السياسي اليساري.
و من الجهة الثانية فإن صفة " المرأة السودانية " تصبح عند الدكتورة بيان حجة تنبني عليها جملة من الخيارات الجمالية .ذلك أنها تستند على صفة " المرأة السودانية" لتسوّغ من إعتراضها على " الفساتين القصيرة " غير اللائقة التي ظهرت بها راقصات فرقة " عرائس النيل ".و بهذا الموقف تكشف الدكتورة ـ بطريقة غير مباشرة ـ عن مواصفات الزي اللائق الذي تحبّذه هي لـ "المرأة السودانية ".و ذلك على أسلوب :كل ما يعجبك و ألبس ما يعجب هذه " المرأة السودانية" المسماة بيان. بيد أن الدكتورة الفصيحة غفلت عن واقع أهل السودان الذين يأكلون الكفاف و يلبسون لباس التعدد الثقافي ، تسترهم عفة الخاطر الثقافي الفالت من آيديولوجيا الخطيئة، و إن تعرّوا، في بعض النواحي، من أي محيط أو مخيط .أي و الله، غفلت الدكتورة المسلمة عن فهم التركيب الرمزي لمفهوم العرى و اللباس، و في كتاب المسلمين أكثر من إشارة تحيل مفاهيم العرى و اللباس إلى مقام التدبير الرمزي الذي يحصل في خاطر الإنسان قبل أن يدرك جسده.فقد خلق الله آدم و حواء عراة بيد أن عرى ما قبل الخطيئة هو ـ كما عرى الطفل الرضيع ـ عرى سابق للوعي الإجتماعي، عرى سابق للدين. عرى تجاوزه وتقنينه ضروريان لتأسيس القانون الإجتماعي على الأرض المسكونة بالعداوات الإجتماعية و بأنواع الوساوس و الغوايات"قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين"( الأعراف 24).
و خلاص هذا التحليل هو أن مفهوم العرى/اللباس ماهو إلا أحد تعبيرات الوعي الإصطلاحي ـ حتى لا أقول "الوعي الزائف" ـ الذي يتخلّق على أساس من الوهم المشهدي الذي يتواطأ عليه الناظر و المنظور إليه ضمن هذه العلاقة الإستثنائية: علاقة اللحظة المسرحية.
و لحظة الوعي بالعرى ـ لحظة العار بعد الخطيئة الأولى ـ في مشهد آدم و حواء إنما تمثل ذروة الحدث الدرامي الديني " كلايماكس"
Climax
و هي لحظة تم التحضير لها بإحكام في النص، نص اللوح المحفوظ المكتوب منذ البداية( البداية؟ يا لها من عبارة..)
"فدلاّهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و ناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة و أقل لكما أن الشيطان لكما عدو مبين"( الأعراف 22)
"يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم و ريشا و لباس التقوىذلك خير ذلك من آيات الله لعلّهم يذّكرون (26) يا بني آدم لا يفتننـّكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (27) " ( الأعراف).

حديث اللباس في أفق الجيوبوليتيك السوداني طويل ، و أنا أعرف أن هناك عدد كبير من السودانيين ممن يعتقدون في مقولة " الزي القومي السوداني " و لا يراودهم الشك في إعتبار الجلابية و التوب عنوانا على الإنتماء للبلد " الحبّوب" إلخ.و هما في الحقيقة من رموز بعض أهل وادي النيل الأوسط.و فوق ذلك فالجلابية و التوب في منظور التاريخ تبقى رموزا متنازع عليها بحكم تاريخها القصير المطبوع بالإضطراب.فلو رجعنا لنهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لوجدنا أهل وسط السودان يلبسون لباسا مفارقا لما هم عليه اليوم.و لا أطيل فالحديث في تاريخ اللباس عند شعوب السودان فولة تحتاج لكيّال أقل عجلة مني. و تعريجتي عليه هنا أملاها توجّسي من مشاريع " الزي السوداني " " اللائق" التي تعوّدت سلطات الأنظمة الإستبدادية أن تنتهك بها حرمات الأجساد الثقافية الناشزة على صورة النظام القومي الفرد الجامع المانع.و في هذا المشهد فقد لا يكون مشروع الدكتورة بيان هو تسويغ " الزي الإسلامي " الذي يحاول فرضه على السودانيات رهط الأصوليين في نظام الجبهة الإسلامية في السودان و في خارجه.أقول قولي هذا مراهنا ـ من باب حسن الظن العريض ـ على حسن كيد هذه الجندرية المتسربلة بالسرابيل الشرعية، و التي لا بد أن تجربة سنوات في رفقة أهل الفنون المشهدية قد حصنتها من الإنسياق الأعمى وراء ميل الذكور البدائيين لمصادرة أجساد النساء بذريعة الدين.( و هيهات؟)..لكني أرتاب في أسباب غفلتها عن تعدد لباس السودانيات الواقع من جرّاء تعدد إنتماءاتهن الثقافية، مثلما أرتاب في أسباب غفلتها ـ و هي خريجة قسم النقد في المعهد العالي للموسيقى و المسرح ـ عن دور اللباس في التدليل النوعي على عناصر الخطاب المشهدي.و مشهد العرس حدث مسرحي سواء أن تم عند الأهالي في بيت العرس التقليدي أو تم على خشبة مسرح مركز كينيدي. وأهل الفنون المشهدية يعرفون جيدا أن الملابس ضمن الأثر المشهدي لا تكشف أو تحجب من أجساد الممثلين إلا بحكم دورها ضمن سياق المكيدة المشهدية التي تعرّف حدود و غايات الوهم المسرحي ضمن الإتفاق الضمني بين أهل الخشبة و أهل الصالة ، و هو إتفاق يتواطأ فيه الطرفان على خلق و صيانة حيّز وعي مشترك خارج ضرورات الزمان و المكان الواقعيين، وعي مفارق للوعي الواقعي ، يتأسس عن قصد واع و بشكل إستثنائي و مؤقـّت ،و ينتهي بإنقضاء العرض المسرحي. .و في هذا المنظور فإن الملابس ، مثلها مثل غيرها من الإكسسوارات و المؤثرات تبقى رهينة السياق المشهدي الذي تتخلّق ضمنه طريقة المشاهدة.و في هذا يمكن القول أن المكائد المشهدية تملك أن تعرّي شخصا في كامل ملابسه مثلما تملك أن تحجب عرى الشخص العاري فعلا على الخشبة.و تراث المسلمين عامر بحالات متنوعة في أدب المشاهدة جلها يقوم على فرضية كون المشاهدة إنما تكون في القلب قبل أن تكون بجارحة البصر " فإنها لا تعمي الأبصار و لكن تعمي القلوب التي في الصدور"(الحج 46). " و لهم أعين لا يبصرون بها" ( الأعراف 179).و لأستاذنا محمود محمد طه تفاكير شيقة في المشاهدة التي تكون بالفكر، و البصر عنده هو الفكر في شرح " ما زاغ البصر و ماطغى"(الإسلام و الفنون،1974 ص 20 ).
كل هذا يردنا إلى أن ما يكشف و يحجب هو منهج المشاهدة الحاصلة ضمن الإتفاق المشهدي بين الممثل و المشاهد و ليس كم الإكسسوارات التي قد يراكمها المخرج على جسد الشخصية المسرحية.و في الأسطورة الشهيرة التي يفضح فيها طفل صغير بريئ عرى الملك الذي فرض على رعيته الخائفة ثوبا لا يراه إلا العقلاء، بعبارته : " أنظروا مليكنا العريان" يتخذ الطفل البريء وضعية المشاهد المشاتر الغريب على الإتفاق المسرحي المصطلح عليه بين الملك و جمهور الرعية الخائفة.فلو لم يتطفّل هذا الطفل على شروط العرض الملكي لجاز الوهم المشهدي و لقبلت الرعية بمبدأ أن ثوب الملك الفريد لا يراه سوى العقلاء.و الأطفال ببراءتهم المشاترة يفسدون على الكبار متعة الوهم المسرحي، و لهذا يتشدد كثير من أهل المسرح في التمسك بمنع دخول الأطفال للعروض المصممة للكبار.
و على تباين طرائق المشاهدة أسس أهلنا الغبش أصنافا في أدب المشاهدة مما لا طاقة لي على تفصيله هنا.
و خلاصة الأمر هو أن ملابس العروس الراقصة إنما قصد من وراءها أن تتضامن مع جملة الإكسسوارات المادية و المعنوية على توجيه فعل المشاهدة لخدمة غاية الرقصة و هي ببساطة عرض مفاتن العروس الماثلة في مركز المشهد. بل أن كل تقليد تربية العروس و " تعليمها" إنما يستهدف زيادة كفاءة فعل العرض، عرض المفاتن على الملأ حتى يكون الجميع على بيـّنة من قيمة المبادلة الحاصلة بين طرفي عقد النكاح.و " حتى يعرف العريس و أهله و النظارة ماذا وجد مقابل ما دفعه" كما جرت عبارة الدكتورة المستنكرة لتدابير الزواج الموروثة من المجتمع قبل الرأسمالي. و في إقتصاد الزواج، كما خبره أهلنا المسلمون،ضمن المجتمع التقليدي قبل الرأسمالي الذي أورثنا رقصة العروس يتم تعريف الزواج كـ " عقد"ينظم علاقة التبادل بين طرفين على شروط كفاءة ،مادية و رمزية، تمكن كل طرف من الوفاء بالتزامات إتفاق يتجاوز الشخصين المتقارنين ليشمل مصالح العشيرتين أو القبيلتين بأجمعهما.فالتعاقد هو بين الأسرة و الأسرة الأخرى و بين العشيرة و العشيرة الأخرى قبل أن يكون بين العريس و عروسه.و في هذا المشهد التقليدي فالعروس سلعة و العريس أيضا.و الأدب الشعبي السوداني عامر بالمأثورات التي تفصل في طرائق تسليع النساء و الرجال ضمن إقتصاد النكاح و ذلك بصرف النظر عن مشاريعهم العاطفية الفردية.و في هذا السياق فإن مفاتن العروس الراقصة تبذل على الملأ كبعض من " حسب " قبيلتها مثلما تبذل فحولة العريس و شجاعته و نجاحه المادي كبعض من " حسب " قبيلته. و العقد الجاري بين العشائر المتصاهرة إنما ينعقد تضامنا على تغطية عروض إناثها المبذولة على مجاز الأقداح المكشوفة. و كل عشيرة تغطي أقداح العشيرة الأخرى المقابلة لها و " الحساب ولد" كما تعبر بلاغة الغبش.و إذا كان أجدادنا و حبوباتنا قد قبلوا بلا اعتراض فكرة" إكتشاف" الطرف الآخر، شريك الحياة المقبلة،في لحظة الزفاف، فذلك لأن وعيهم بفعل الزواج إنما تخلّق ضمن سياق تقليدي كإرتباط بين القبائل و العشائر و الأسر، قبل أن يكون إرتباطا بين شخصين.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

إنها لفلفلة محترمة وشيقة لللامفكر فيه من أمورنا الإيروسية المدسوسة، يا موسى!!

فسر وعين الله ترعاك

وأرجو أن أجد فسحة من الوقت لزيارة الخيط لاحقا.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
تماضر شيخ الدين
مشاركات: 356
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 9:14 pm
مكان: US

مشاركة بواسطة تماضر شيخ الدين »

محفل النساء أو نساء المحفل:

لحكمة يعلمها الله، اننى قد انحدرت من أربعة قبائل سودانية مختلفة، اتنين من جهة الأم واتنين من جهة الأب.

تقابلها أربعة مدن أو مناطق

فوالد أبى هو من قبيلة الدناقلة ..دنقلا العجوز
وأمه من قبيلة الجعليين الدامر "يعرفون بالشنادقة نسبة لجدهم شندقاوى"

ويقطنون فى ودنوباوى أم درمان

والد أمى من قبيلة الكمالاب كسلا
وأمها بت العركيين "شكرية وحاجة تانية ما عارفاها شنو"

ويقطنون فى القضارف

ولحكمة أخرى يعلمها الله ايضا، كان أبى ناظر مدرسة ، متنقلا بين بلاد السودان شمالا وشرقا وغربا وجنوبا، ولم نستقر فى العاصمة وننتمى لأهلنا الا بعد أن احيل أبى للمعاش واشتغل بالمشاهرة فى سنين عمره الأخيرة الى أن توفاه الله رحمه الله (فى مدارس الثورة وناصر العليا ومعهد اللغة العربية للناطقين بغيرها وكمصحح لجريدة الصحافة ...)

أعتقد أن هذا "اللا أنتماء" او "الانتماء المتعدد" وديمقراطية والدى تجاه الغير قد أثرت جميعا فى ذائقتى الحالية التى تصنف بأنها "فنية "..لأ أدرى ولكن أعرف انها قد أثرت فعلا على مقدرتى فى مشاهدة الآخر الذى فى مجمله "سودانى" عن قرب مرات بالحياد الموضوعى ومرات أخرى بالانغماس الذاتى والنشوة الروحية.

فأهل أمى "لامها" متصوفة ودراويش زاهدين فى الحياة وفى ملذاتها، وأهل أبى لأبيه بسطاء وطيبين ودمعتهم قريبة ، وأهل ابى لأمه "امدرمانيين" بكل مافى أم درمان من تقاليد وأعراف وحقيبة فن ودوبيت وشعر ومحفل. وأهل أمى لأبيها ختميين وكسلاويين لهم طريقتهم الخاصة فى النظر الى الدنيا بعيون سيدى ..وغرب السودان منطقة المسيرية حافلة بالصراعات القبلية ولا تتوقف فيها النقارة الا فى مواسم القحط، وأهل الشرق غارقون فى الحلم وجمال التاكا واغانى االعشق ..وأهل بربر ساخرون معروفون بالأدب والكرم ولا تخلو حكاويهم من فلسفة عميقة ودراية بالكون والانسان، و مع صغر سنى فى مرحلة بربر، الا انى كما جميع اخوتى وأخونى نعرفهم فردا فردا، من حكاوى والدينا المتكررة فى كل جلسة عصر وشاى مغرب هم وكل القبائل والمناطق التى عاشروها وتعرفوا عليها. ففى بيتنا محفل، مثلما لكل هؤلاء الكيانات محافلهم، الا أن محفلنا يجىء بكل محافلهم الى أسرتنا. فوالدتى ووالدى وزوجة ابى "امى فاطنة" لهم موهبة فى ترديد الكلام والغناء والمواقف التى عبروا بها فى ترحالهم.

كان يجب أن أمر على كل هذه المحاور، مع طولها لكى أخبرك عن عرايس النيل يا حسن موسى من طق طق حتى مسرح الملانيوم بمركز كنيدى.

أقول هذا ولا تغيب على عادتى السيئة التى أقوم بها دون قصد شرير منى، الا وهى عادة التحديق فى الآخرين، تحديق مستمر يتبعه اصغاء لا مثيل له، والتقاط لشفرات الاشخاص والمحافل، لا أعرف من اين جاءت الى "منظومة" عقلى، مما يجعلنى أخجل احيانا وأغض بصرى عندما "افك شفرة" أحد الناس أمام ناظريه ويلحظنى.

رأيت فيما يرى المنكوب بآفة التحديق، أن لا امرأة تعرف قدر نفسها وتجبر الآخرين على احترامها، لا امرأة empowered، كامرأة لها محفل.

وهذا كان حال "امرأة الشنادقة" ...

فى الأعراس والمآتم وما بينهما، يتحرك الشنادقة حركة منتظمة كنظام الكوكب. الأدوار مقسمة بينهم بدقة. كل شخص يجب أن يأخذ دوره فى النسق. البنت يجب أن تجيد العزف على الايقاع، وتجيد الانسجام فى الغناء مع المجموعة، وتجيد الاهتمام بليونة جسدها للرقص. الامهات والجدات والبنات وبنات البنات، يقدمن عرضا موحدا، منسجما فى كل محفل، تنقل فيه كبيرات السن معارفهن "الجسدية الاستعراضية" لصغيرات السن. ليس فى الرقص فقط، بين فى فن الحكى، تصور أن كل الاجيال تجلس مرارا وتكرارا وتحكى حكايات سمعتها وأنا صغيرة تعود لقرن مضى، وما زالت تحكى، وقد تراكمت وصارت لا تحصى، حديثا، وما زالت تحكى، وفى كل مرة تحكى، يموت الناس بالضحك، حتى تسيل دوموعهم، وبعدها يستعفرون الله ويترحمون على الموتى وينطلقون.

ولم أرى فى حلى وترحالى من هن هن أقوى وأكثر تماسكا من نساء المحفل، ولم ارى فى حلى وترحالى ماهو أبدع من محفل للنساء.

نواصل
صورة العضو الرمزية
تماضر شيخ الدين
مشاركات: 356
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 9:14 pm
مكان: US

مشاركة بواسطة تماضر شيخ الدين »

طرقاء وشتراء وتعاليم فنية أخرى فى محفل النساء:

محفل النساء يبدأ عادة بأغانى الحقيبة. كانت هنالك ثنائيات وثلاثيات ومجموعات من أكثر من ثلاثة تجيد وتحفظ أغانى الحقيبة ومعظمهن من الأمهات، ابناءهن وبناتهن فى سن الزواج، يغنين بأصوات جميلة وصداحة أغانى مثل: أقيس محاسنك بمن، موقورة النفل، انا انت والنيل والقمر، أذكرى أيام صفانا..وأمثالها، فيبشر الولد وترقص الفناة ويهز الأب، وتزغرد الأم وتصفق الأخت ..وكل الحضور يصفق و"يشيل"، بالتزام فنى واضح، وكثيرا ما تسكت الأغنية لأن هنالك تعليق يسمع بوضوح ويعاد الكوبليه
"طرقاء" ..
"ما تجريها"
"الجرة فى آخرتا"
زهرة صوتا رقيق بالحيل.

ثم يجىء "الطوف التانى" ليغنين أغانى من (دور) أغانى اب داؤود (طولت ما رديت) وأبراهيم عوض (أنا عمرى ما حبيت) وعثمان حسين وأحمد المصطفى.. وكل ما تيسر.

يدلفن بعدها نحو أغانى (السباتة) بداية من اللول العروس بت السرور، مرورا بياعينيا يا عينيا، والهجروك عليا، عبورا بسوحى بالجنبة موحى وأقاشى بالمكوة حيث يعم المرح وتنطلق الأجساد تجرب هذا وذاك وتجىء أم من بعيد لتعدل وقفة بت أختا، أو تقوم "جدعة يد بت أخوها" وتسمع تعاليم مثل: ما تتعصبى اطلقى جسمك، رقبتك "سوقيها" مع باقى جسمك، عينك دى مالك غازاها فى السما كدى، قرقرقر...ترجف كلها، هى شترتها، خلي خطوتك منظمة ما تجرى، خليك جسمك خفيف من فوق لكن ما تجرى.

كنت أسمع التعاليم هذه ولم أشك فى أنها تنتمى الى ما كان "ناصر الشيخ" أستاذ الرقص والحركة التعبيرية يحاول أن يقول من خلال كلمات مثل "ايقاع" "هارمونى" "حركة خفيفة" "خطوة طويلة" "انسجام داخلى" ..وكل التعابير الذى يستعملها معلم الرقص المحترف لطلابه.

الا أن فى حالة هذا المحفل، فانها "موافقة" ضمنية على الروح الفنانة فى داخل البنت، وقدرتها على أطلاق ملكات أخرى، مثل أدارة المنزل و"الجيهة" التى يعنى بها الاهتمام بالمظهر، والأهم من كل ذلك، المقدرة على أطلاق الطاقات الابداعية من خلال الرقص التعبيرى بدون شعور بالذنب أو "الفضيحة" .."فالوليان" كلهم موجودين فى المنزل وموافقون على المبدأ، وبدون الشعور بأنه بعد من الله أو العبادة، لأن المصلايات "تقع قرش ونص" بعدها والناس يمارسون عباداتهم بدون شعور بالتقصير.

نواصل..
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

الاخ حسن موسي = صاحب البوست = و الاخ النور = ، و طبعا تماضر البديعة ، وايمان الرائعة ، احمد المرضي ، وليد ، و الفاضل الهاشمي ، عثمان حامد ،عائشة المبارك ، والبقية ، طبعا قراْت ( نواة ) او = اصل = هذا الموضوع الفريد في جهنم الحمراء قبل سنوات ، ولكني الان احتاج الي ( شراء ) بعض الحبر ، لطباعتة ، و قراءته ، وانا مستلقيا ، حيث لايمكنني الجلوس ومطالعته كاملا علي ( الكمبيوتر ) ...شكرا لكم علي هذا الطرح الجميل ، و ربما اعود ...
صورة العضو الرمزية
تماضر شيخ الدين
مشاركات: 356
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 9:14 pm
مكان: US

مشاركة بواسطة تماضر شيخ الدين »

أها .. فى المحفل الفن من أجل من ومن أجل ماذا؟:

محفل النساء الذى وصفت بعضه عاليه لم يكن حصرا على نساء الشنادقة، بل هو نموذج كميونى متكرر فى معظم كميونات أم درمان

والبلاد المجاورة، كنت أجرى حافية عندما أسمع صوت النقارة فى رجل الفولة، نقارة البقارة ولا نقارة الدينكا، ويعنى ذلك أن "اللعب"

قد بدأ. رجال أقوياء يحملون العصى فى منتصف دائرة عظيمة يتقاطر اليها الناس وفقا "لسخونتها" وتصبح مكتظة بهم بعد لحظات، وتتراص المغنيات اللاتى هم مجمل نساء القبيلة فى اعمار الامومة وما دونها. وتشارك الاكبر سنا بالتوجيه والتصفيق وتتصاعد أصواتهن بالغناء المنتظم الصادح أيضا،
وفقا "للمزاج" والعرف تبدأ الاجساد فى الاهتزاز، اهتزاز قوى وموقع والأرجل تضرب على الأرض و"فى الرقاب" ، هيى هذا الرقص
حر ومباشر، له علاقة بما يفعله الايقاع فى الجسد، وليس له بعد آخر غير "البعد الابداعى" ..لو بتعرف ترقص أرقص. لم أرى أن رجلا أخرج سيفه لأن ابنته رقصت ولم أر أماما قد حكم بالرجم على راقصة لانها "بدعت" فى تلك الليلة. فى المحفل النساء "تتجلى" تجلى
الراقص الذى يريد أن يبرز مهاراته الفنية ، "وتتحرفن" ..فتنال احترام الآخرين ورضاهم، والشترا تقعد ورا. :lol:
انها حالة أن يكون الانسان مبدعا.
وبين النساء هى أيضا توطيد لأواصر "الانوثة" وتبادل خفى للتعاضد فى مواجهة التعايش مع "الآخر" الرجل دراءا لخطورة الاستفراد
دونما استعداء. فالمرأة يكرمها أنها جميلة، ويزيدها أكراما أنها تستخدم جمالها استخداما منسجما مع العطاء الجماعى الابداعى "الغناء والايقاع" فتزيد حرارته جمالا، وتزيد صنعته بهاءا.


كنت دائما وأبدا _ وكعادتى _ فى فك الشفرات، أجد فن النساء ورقصهن هو تجاوز للواقع والعادى، وخروج عن الأطر الواقعية،
أطر "سواة الملاح وغسيل العدة" ووانفلات ماهر وحريف من قبل المواطن رقم 2 هذا الذى يدعى امرأة سودانية عن الدور الذى
تراءى للغير انه خلق له.

فمن أجل من يكون رقص النساء فى المحفل؟ من أجل ماذا؟ حسب تقييم الترابى؟
صورة العضو الرمزية
تماضر شيخ الدين
مشاركات: 356
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 9:14 pm
مكان: US

مشاركة بواسطة تماضر شيخ الدين »

رقص على المسرح:

عندما أخرجت نص حفلة على الخازوق فى عام التخرج وبعدها على خشبة المسرح القومى، اخترت أن تقوم الجوارى بتقديم رقصة
لان الدور المكتوب لم يكن يقول عن موقفهن من هذا البيع والشراء كثيرا. وكنت قد أردت أن أوضح أن "ترقص المرأة مع النساء الاخريات فيفهم موقفها الاخلاقى من الاضطهاد"

فى أوبريت واحلالى الذى قدمته للتلفزيون: صممت رقصة لأربعة بنات صغيرات.
وقى مسرحية "homeless" التى قدمتها على مسرح ديوك الينجتون فى واشنطن دى سى: قدمت أربعة بنات أمريكيات فى رقصات
من جهات السودان الأربعة ورقصة العروس، لأعرفهن على السودان، كان الشخصية الاساسية تقف على شارع مجهول من شوارع أمريكا، كنت وقتها قد انتقلت الى امريكا حديثا وأكثر ما كان يحزننى ككاتبة للنص وممثلة فيه، أن الانسان الامريكى العادى لا يعرف أى شىء عن السودان، فيسألنى المارة وانا ذاهبة الى العمل أو الى دار الحضانة : where are u from? فأرد بالطبع: من السودان. فلا يفهم السائل الاجابة لأنه عادة لم يسمع عن السودان، ففكرت فى أقامة ذلك العرض، وقد حملته كل همى الذى مررت به، من تجارب جديدة ومحزنه لفقد الكيان، كيان الاسرة وكيان أهل المسرح وكيان الوطن وأخيرا الانتهاء الى مكان حتى لم يسمع بها. انتقدت وأثنيت على كل الاشياء التى "تعتمل" فى داخلى، وقبل أن تستفحل الأحزان، اخبر البنات عن السودان بتعريفهم بأهم ظواهر الوطن فى نظرى طبعا -الا وهى (محفل النساء)، وأعلمهم الرقص ويقدمون عرضا للفنون الشعبية السودانية وهن "خواجيات" فى أمان الله. بكى الحاضرون من السودانيين عندما شاهدوا هذا المشهد واهتزوا وكتبوا عن العرض وذاع صيته وجاءتنى الأخبار من السودان أن الخبر قد تداولته الاوساط وأن تماضر شيخ الدين رقصت "الخواجيات" رقص سودانى.

كتبت بعدها عن رقصة العروس فى مجلة رؤى 2000
لان رقصة العروس قد كانت أكثر الرقصات اثارة للنقاش مع الخواجيات هاتين ولمست أننى متسامحة مع رقصة العروس على غير
الرأى السائد بأنها "سوق نخاسة" آخر تباع فيها المرأة، فالرقص دائما يكون آخر المراسم ولا تتبعه مناقضات أو مفاوضات فى "البيعة" ...وهذا هو المقال:

رقصة العروس.. رفاهية العرض... ومنبر التحول

بقلم تماضر شيخ الدين... نشر فى مجلة رؤى.. العدد الاول ... السنة الاولى يوليو 2000




قاب قوس:

تكرم العروس فى السودان الشمالى ضيوفها..فى ليلة فرحها بما هو اكثر من مظهرها المجلو..زينتها وحليها،كباقى عروسات الدنيا_تكرمهم بفنها ومهارتها فى الرقص والاداء الاستعراضى..موهبتها المكتسبة فى الاداء الفردى... وهذا كرم لو تعلمون عظيم.


قاب قوسين:

بيد ان كرم الفنان فى امتاع جمهوره..ليس هو الدافع الوحيد الذى يدفع بهذه الانثى الوحيدة الى خشبة البرش الملون الناعم، لارتكاب هذه الغامرة المخيفة. ان المحفل ينطوى على معنى اكثر واقعية ... لاتخلو من تجارية بينة...المعاينة... امسك لى واقطع ليك. فالعريس هو الماخد..وكثيرا ما يقدم له العرض الاول... او العرض الخاص... حتى وان قطع فيه الرحط.. او قص الشريط التقليدى. الواقع ان لكل ابن انثى طريقته فى البيع والشراء والحل والربط..قد يشغلنى ويهمنى بعض انواع البضائع وترويجها.. ولكنى لااريد ان اشغل به احدا فى هذه السطور. ماهممت بشغل الاخرين به..ماهو ادنى فى مسافة الرؤيا



ادنى:


يتصاعد صدى الدلوكة فى عصارى الاحياء النائية وتتسارع اقدام الفتيات الصغيرات وفى قلوبهن غبطة لاحيلة لهن فى مقاومتها. تقودهن الدهشة المرتقبة الى حيث اجتهدت فتيات اخريات جهدا خارقا للاحاطة بسر رقصة العروس يوم الدخلة... وامتلاك اوراقها والتكتم على تركيبتها الكيميائية... التى ينطوى عليها سر العرض المرتقب.. لكن ليس مع الدلوكة اسرار... الدلوكة تذيع سر العرض وتفشى سر المكان والزمان وتفتتضح مع ضرباتها اللغزية وخلجاتها المندسة المتعمدة كل معلومانت السكون والركود والوقار والسكينة... تنكركتك...تنكركتك.. تنكركتك.. بداتها احداهن فتاة حالمة تنقرش الدلوكة... سكبت شيئا من روحها.. تميل براسها جانبا..على كتفها.. وقد دست تحت جناحها استدارتها الكاملة.. عصرت منها الانين عصراً .. كانها تريد استخلاص لغة حضارة منسية. امعان فى البداوة.. الآلة بدائية .. الفخار مازالت تنبعث منه رائحة الطين المحروق.. وسطحها المشدود يتنفس عفونة الجلد المسلوخ.. والحنةالمرسومة على سطحها حديثا معلنة بداية الفرح ززمازالت حمراء توسم رسما بدائيا يحتضن حلما ممتد... كبحر بلا شطآن.. حمراء كاشمس المغيب.. لم تصبر واضعتها على انتظارها لتسود... الكيمياء الناتجة عن كل هذه الروائح هى الفصل الاول من العرس. ليس الولوج الى ذلك المكان الساحر بالامر السهل.. فالباب المتاكى تقف خلفه حارسة متشددة.. تمنع كل الاشخاص فى الحى من عبوره.. وينتهى الجميع باختلاس لحظة مرح ..بتدبير ما. تجلب الفتيات اليافعات تجاربهن ومهاراتهن فى الرقص ـ ذلك اليوم ـ وحرصن على نقلها باخلاص للعروس المطروحة.. تبدا التدريبات بتليين ظهر الفتاة اذا لم تكن من مرتادات بيوت التعليمة من قبل.. يقمن بامساكها عصا بيديها الاثنين لتتمكن من لىّ ذراعيها للخلف وفى كل مرة تقصر مسافة العصا بين يديها، احيانا تضع احداهن ركبتها فى منتصف السلسلة الفقرية للعروس.. مع ارجاع الكتفين الى الخلف... للفنسة. تليها تمارين ليونة الرقبة.. وعضلات الصدر المنطقة المحيطة بالقفص الصدرى الوسط ثم خفة القدمين الرسغ الذراعين... وفى التدريبات المتقدمة تجمع بين كل هذه والايقاع.. ثم متابعة كلمات الاغنية والمعانى التى تندس فيها... وفى النهاية القيام بكل هذا الاداء مع اغماض العينين. تمضى الايام سريعا وفى كل يوم تملّك العروس مهارة جديدة باشراف عفوى يحضر فيه من يحضر ويغيب من من يغيب... الا ان هناك عقلا مدبرا وراء كل هذه العفوية.. هى مخرجة العرض ... العلاّمة.. وهو لفظ غير مطابق للقب رجال الدين المعروف. يمر جسد العروس بتجربة مهيبة... فهى تعبر الممر التاريخى بين صباها وعالم النساء الحقيقى.. المحتوم.. كان قبلا عالما خفياً ساحرا وسريا هى الآن تعيشه بكل حواسها.. فالروائح التى تحيط به غريبة..دخان..دلكة..حنة..بخور ... وعطور. تعمل نسوة مسنات على تأسيس عالمها الجديد بحنكة ودراية عريقة. لايملك سمعها من التقاط بعض مصطلحاته المتخصصة..قرنفل..محلب ..جلاد..صندل..صندليه..سرتية..محلبية..مجموع ..شاف طلح..خمرة زيت..ريحة ناشفة.. ريحة لينة... مسك ...حق..مبخر...نطع..شملة.. والقائمة تطول... تتعرف على جسدها فى ظل المصطلحات الجديدة..فاقدامها تفرك البرش وجلدها يباشر الدخان.. وشعرها يبيت على الكركار... غذاؤها مدروس بعنايةووجهها يستقبل الوصفات.. كركم كاسترد..حلبة... وقلبها ينبض بالحلم. الاصوات التى تحيط به غريبة.. زغاريد..ادعية...سلام ...نصائح..وصفات.. مجاملات. فى فترة التعليمة تتقاطع مناسبات جانبية اخرى... دق الريحة..فتح الخشم..سد المال... وتتكدس الاشياء... صفائح كراتين شنط... تتصاعد منها ابخرة الجديد القسطير اكياس النايلون القماش وصناديق القطيفة... تتدخل نساء غريبات عن الحى او الاسرة للاعداد الخياطة الحنانة الطباخة... ومن قبل كانت المشاطة. الاشياء التى تحيط بالعرض..السيف الفوطة لرقصة كسلا الطبق لحاجة سوى الماندلى..حلاوة ...تمر مخدة للظار توب.. التفاصيل..ذهبها..جدلتها.. الغويشات.. الختم.. الحجول .. البلوم... الرشم... الزمام.. الفضة .... اللولى... تغرق العروس فى بحر التفاصيل.. تتعايش مع شخصيتها الجديدة... ستبهر الآخرين... ستفاجئهم برقصتها المدهشة. ويجىء اليوم الكبير.. يتدافع الحضور الى التحلق حول البرش... الذى جاء يعبر الاكتاف والرؤوس..كشهيد ، فى مشقة تعمق كينونته من مجرد كونه بسطة مستطيلةضفرتها نساء حاذقات وتفنن فى تلوينها وسكبن ما تيسر من ابداع فى تصنيعها ت بل وتتنبا بصيرورتهاذ يتحول حتما الى منبر جمال اجتماعى يمتد بين الماضى والحاضر والمستقبل... بهلامية لاتخلو من ابهام وايهام... كل ذلك يحدث عندما تتناول اليدى البرش المطوى... وتنزلقبه الى حيث ارادت احدى القليلات اللتى يردن شيئا.. وتتحول ارادتهن الى اوامر الف من ينفذها.. يصبح جليا ان هذه البقعة المستطيلة الملونة... هى المحط. يجىء موكب الصوت اولاً... زغاريد متصلة متواصلة... كلما اتت الواحدة الى محتوم تلاشيها... نفخت فيها الثانية الروح... ومع كل زغرودة تبحث العيون العيون عن نقطة الجذوة وينبوع السحر.. يجىء موكب الاثير... سحب صغيرة تتصاعد من المبخر البهرج... تسبق الرؤيا وتعد الاحاسيس.. تتراءى ,دهمة’ العروس المغطاة بفركة القرمصيص.. الوانها الاصفر الاحمر الاخضر والحرير فيها يتلون بالوان اخرى غير مطروقة.. الموكب بطىء... ترتفع مع مقدمه كل عناصر الترقب... الانفس تحتبس.. العيون لا تريد ان تفقد موضوعا بصريا واحدا دون ان تسجله.. ومن بعيد جات تمشى المها.. لحظة تم تدوينها فى نص العروس..كما تم تدوين كل السجلات الاخرى... شوفو العروس وقفت حلاتا .. حلوة ف توبك وتملى العين... املصى التوب... القودة اعدليها والرقبة دليها... بداية برقصة الرقبة..تعوم كالوزينة..كما طلب منها ان تعوم... قدمها حمامة لونا منقة متلجة ، يتداخل القديم مع الجديد ، المحلى مع الاجنبى..اثيوبيا والصومال... التويستى يلا يا شبان.. الله لى كوريا من شباب العليا.. فى ليبيا عندو اقامة.. لايهم اى زمان كان ذلك واى ملينيام ترقص فيه هذه العروس.. فهى الموزة حلاتا والمهيرة عقد الجلاد والبابور جاز وهى دور بيه.. قلبيه قلبيه... اقلى البن حتى الشرى... وهى عُرضة لتوجيهات دقيقة... فهى تنزل بيه طوالى او تطلع بيه فى العالى... تميل يمين او تميل شمال... وفى كل تهدف الكلمات الى ماوراء التعليمات البسيطة المباشرة والرتجلة احيانا، البليغة احيانا اخرى، تهدف الى دفع العروس الى الاداء الحركى المتنوع.. ما يمكن لمشاهتها وهى تمتلك المرونة البدنية التى تمكنها من اداء كل المهام الاستعراضية الموكولة اليها... لماذا؟ قد يدلف بنا الخوض فى لماذا الى ساحة عجفاء ... نحن الان نرقب المشرق العلولو زربو... الموية فى الكباية... وشتل الاناناسة محبة باخلاسا والعاشقة تشوف خلاسا... بلحوا جلدها بالدخان... عصفروه حتى صارت تشبه الصيدة الفى الخلا.. من جراء التدريبات... وتشبه المهرة معبدة ولونها منقة ... والعريس نفسو لونه قمرة... لها حرية فتح عيونها لحظة واحدة لكى تراه.. والعريس جاب ويستاهل ما يستلم الآن. فالنص ..يوجه ويعلم.. ويخبر عن الحادثة .. بتفصيل مريع... يكاد النص المسموع يكون كاملاً اذ يحتوى بدفترية فائقة على شكل العروس واعضاء جسمها اثناء الرقص... كل لحظة وكل ايماءة مدونة . النص يصف الدارة والحلقة وصديقات العروس المقربات خلقهن ادب العروس نشاتها.. النص يورد حال العريس اهله كرمه وكرم اهل العروس. النص يصف العرض، بايته منتصفهونهايته. النص يحتمل التعديل ... اضافة الاسماء المستوى التعليمى وكل معلومات البطاقة الشخصية.. النص يحمل دعوات القبيلة للزوجين بالميمنه التبات والنبات، يدعو بالعاقبة الجميلة والبخت للشباب العازب.. نص العروس..منذ وصولها الى وسط الساحة والناس كتيرة وعند النقرة الرسمية الاولى للدلوكة.... وحتى مغادرتها لمكان العرض ـ محفوظ ومتداول تقوم مخرجة العرض بانتقاء الاجزاء الى تناسبها فالخدار خدارى ياناس او ممشت سودانير او ساكن الجزيرةنصوص عند اللزوم. تجى رقصة العروس منسجمة مع الارتجاء والتوقع.. رقاصة والله عينى باردة..لااله الا الله .. وحدوه.. فل هو الله احد... يتعاون الجمع على طرد قوى الشر والشيطان والعين الحارة يستعينوا عليه بالتكبير والتوحيد وبخ اللبن والحريرة والريال والسرتى والفرج الله وبخور التيمان.. يصبون الزيت فى الراس والمحلب بعد التمنيات الصادقة، تتناثر الدموع وسط الشلوخ وفى الاجفان المكتحلة وتتغير المشاعر التى هتفت وزغردت ودافعت عن جمال العروس وخفة حركتها وغفلة العريس وعدم احتوائه للقون .. تتغير لاى دموع وخلجات حزن دفينة ... احتضان من شقيقة قليلاً ما عرفت العروس انها كانت تحبها ، او عبرة دموع من خال تعود ,رصعها ’ فى الماضى او امرها بغسل عمته وجلابيته وكيها. التحول الدرامى مفاجىء لايحتمله الحجاب الحاجز، ينقسم الضيوف بين التمنيات الطيبه وبين التعازى الخفيفه ولسان حالهم يقول: اليس هذا ما تمنيتم لها منذ ان نطعتوها؟ تتاهب العروس لمغادرة الدار ومن ثم لاحتمالات المراة الكاملة... ولكل ما كام يبدو مستحيلا من قبل. بعد عام ... تبهت الالوان.. تتداعى الاشواق... ويكون من مهام هذه المراة المسهمة فى اعداد عروس الحى فى الموسم المقبل.


يتصاعد صدى الدلوكة.... فى عصارى الاحياء النائية... و......

(انتهى)

فى ذلك الوقت كنت قد انتقلت الى ولاية ماستشوستس التى أقيم بها حاليا

وكانت "عرائس النيل"


نواصل....
صورة العضو الرمزية
الوليد يوسف
مشاركات: 1854
اشترك في: الأربعاء مايو 11, 2005 12:25 am
مكان: برلين المانيا

مشاركة بواسطة الوليد يوسف »

[marq=left]ده كلام كبار خالص لا تملك أمامه سوي أن تهتف[/marq]


وليد يوسف
السايقه واصله
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »


الأحباء هُنا
قرأت ما تيسر لي ولزماني . تذكرت ما كتب الشاعر بازرعه :

كُل طائر مُرتَحل عبر البَحَر قاصد الأهل حمَّلتُه أشواقي الدفيقه
ليك يا حبيب للوطن لى ترابهُ لشطآنُه للدار الوريقه

قلت في نفسي أن أُكسر طُغيان منضدة التشريح للثقافات ،
وأنظُر الوجه الحُلو من تُراثنا حين يشرب من كأس الأسى ويطرب .
كتبت قصاً من الواقع منذ زمان . قلت في نفسي أن أُورده هُنا كمداخلة تُثري
إليكم النص :

( الخرَز ) نغمٌ يطرب الذاكرة

من يتقن العزف على أوتار الحبال الصوتية غير الموهوب المبدع ؟ .
أغمض عينيك و تخيّل أنك تجلس في مقعد . والمقعد في قاعة هيئت نفسها بالتقنيات الصوتية على أحدث الطرز . أمامك في الواجهة يجلس على البيانو الكلاسيكي موسيقي محترف ، جاء ليعرف من أين تبدأ الحكاية و أين تنتهي . ( الخرَز ) تقف قُبالته و تبدأ الصولفيج الغنائي . الصوت الملائكي ينسكب على أذنيك . تلُفك سجادة الصفاء وأنت ترقب تأرجح التكوين الصوتي البديع يبتعد برفق عن ( السوبرانو ) الحاد ، و يقترب من ( الألطو ) النسائي الغليظ . امرأة في العشرينات ، قدِمت من أواسط الستينات لتقف أمام القرن الجديد الذي نحن في سنواته البواكر . حينها يتخفف جسدك الكثيف ، ويصبح روحاً هائمة . كأنك تستريح في جنة من الجنان الموعودة .

سمعت صوتها منذ الستينات . الزمان يموج عندنا بريح الديمقراطية على الطِراز السوداني . ترهل و دعة و بساطة مسرفة . قشرة الاختلاف لا تقتلعك من جذور دفئ العلاقات الاجتماعية . أنت تختلف مع الجميع ، و تشترك معهم أفراحهم و أتراحهم . النفوس تغطس في حليب صافٍ ، نشربه في موسم ( الدعاش ) الرطب . الجدال بُهار الأسمار في المساء . تختلف الانتماءات ، لكن الود بين الجميع . كانت الخصومة محببة قبل أن يرتدي المكر السياسي عندنا رداء الإستئصال , و قبل المنعطفات التي جدت من بعد حين لعبت الريح بالموج ، وتأرجحت القوارب و أنشغل الجميع بأنفسهم الى أن أشرق عليهم الفجر الكذوب .

إن ريش المدنية في ذلك الزمان غطاء هش ، ينتزعه (النسام العليل ) ، ويعود به إلي رحاب البداوة من جديد . ما تسمى بالمدينة اصطلاحاً ، هي القرية جسداً و روحاً .
لن أنسى إيقاع السَيرة المميّز . ( الدلّوكة ) بيدَّي ( الخرَز ) ، و الأصوات النسائية المصاحبة وسط الزغاريد . طرقات العصي تعلو غُبار معارك الطرب الجسور مع أغنيات الحماسة في ذلك الزمان : ـ

وينو ...وينو سمير قلبك يا هلال

******
يا رجال أمرقوا برة
و نادوا لي أخوي عبد الله
وينو ... وينو سمير قلبك يا هلال

******
يا رُجال شوفوا السوسة
و نادوا لي أخويا موسى
وينو ... وينو سمير قلبك يا هلال

******

قيل أن الأغنية من تأليف ( بنات الفتيح ) تمجيداً لابن العشيرة ( موسى المبارك ) . ابن ( الفتيحاب ) و ممثل الدائرة الانتخابية للحزب الوطني الإتحادي في الستينات ، أيام الديمقراطية الثانية في السودان .

للارتجال طرائقه في صناعة الأغنية . كانت الساحة تمتلك الموهبة والزاد والثراء الفني . المجتمع بألوانه المتعددة و منعطفاته الحادة يفرش أرضاً خصبة للأغاني . الذاكرة وحدها لا تكفي لحفظ ذلك الكم الهائل من التراث المبعثر . عند الأفراح يتخفف المجتمع من بعض الغلو و التزمّت . وجدت طريقي لمجلس ( الخرَز ) صدفة ، تجلس بجوارها طفلة في السادسة . سألتها عن الأغنية التي غنتها البارحة . عندها نهضت شخصيتها الآسرة بجاذبيتها ، فبدأ صوتها الخفيض يتموج بالغناء ، وسبحت أنا في عالم يتلألأ: ـ

ـ حقوا لي قُولي ولداً غير عُمر أنا ما بِهز فوقي .
نَسيبة البِجري .
يا أخوان البنات الجري دة ما حقي .

حقي المشنقة و المدفع أب ثكلي .....

اكتملت الأغنية ، و أفقت من غيبوبة سحرها وهي تقول : ـ

ـ يا ( عبدالله ) ، ( عُمر ) دة كان فارس من ( قوز الخرطوم ) ، ليهو حكاية طويلة و غريبة . ولمن سلّم نَفسو و سجنوهو قامت أختو قطعت ليهو القصيدة دي .

ـ للغنية شاعرة حقيقية ؟

ـ لو سمعتها تغنيها حتجِن ! .

قاطعتنا زائرة قبل اكتمال الحكاية ، ثم ضجّ المكان بالحضور ، و أصبحنا وسط الجمهرة . فقدنا الإحساس بالخصوصية ، فالمكان لن يسع الجميع . توقف السرد ولم تكتمل الحكاية .
تمتلك ( الخرَز ) صوتاً عميقاً و قوياً . تستمتع بالتطريب الشجي وأنت تبعد أكثر من مائتي متر . الصوت و قد مرنته الفطرة و التجريب ، كانت لها ملكة فنية رائعة . الصوت بلا وسائط يشق عنان السماء ، يزينها بألوانه المتعددة . ناعماً يلمس طرقات القلب ، أو صاخباً بالإيقاع يهزك وأنت تستمتع حتى يمتلئ صدرك ببُخار كثيف يتصاعد يطلب الانطلاق ، و ينتهي بك الأمر الى الساحة الراقصة لاعباً ضمن النسيج المتحرك طرباً في أغنية الحماسة .
الأفراح و أهازيجها :

( المداعي ) ...(سدّ المال والشيلة )... ( دق الريحة ) ...(التعليمة )... ( القيدومة )...( العزومة ) ...( الدُخلة ) ...( الصُبحية ) ... ( الجرتق ) ... ( قطع الرحط ) ...( السبوع ) ... ( حق البنات )...، سلسلة من الحكايات و القصص و الأسمار ( الأمدرمانية ) . لا نهاية للطقوس المتلاحقة بزخارفها المتنوعة التي تميّز ( أمدرمان ) عن غيرها من أشباه المدن . الزمن يمتد و يترهل ليتقبل كل تلك التفاصيل الفلكلورية الموروثة منذ القدم . كانت ( الخَرز ) هي الرباط الخفي الذي يخلق من لفائف تلك الطقوس روحاًً و أفراحاً حقيقية تلمس الوجدان . أغنياتها تُزهر الدواخل ، و تحيل التراتيل الرتيبة إلي تسلية تشدك و ترفيه يُمتعك . ترغِّب النفوس و تحبب لها الزخرف و النقش ، و تنفخ فيها نسمة الحياة و طيبها الفوّاح .

إن رغبت أن تعرف كيف تولد الأغنية أو كيف تُصنع خميرتها . فانك تتبع نهج القُداسة : ( في البدء كانت الكلمة ) . ثم تجذب اليها كلمة أخرى . تنبت في دواخلها حروف المّد التى تمنح الموسيقى الداخلية للنص مساحة لتتكون . أصابع ( الخرَز ) تهمس بإيقاع ناعم على صفحة ( الدلّوكة ) الموشاة بالحناء . إيقاع ( التُّم تُّم ) و إيقاع ( السَيرة ) لهما السيادة على غيرهما في ذلك الزمان . القدرة المبدعة عند تخيّر الكلمات مع التجريب . التعبير يستهوي ( الخَرز ) . تبني عليه مطلعاً ، ثم تغزله بخيوطها الدقيقة و تفاضِل بين الألفاظ . تشور صويحباتها حتى يكتمل الإرتجال . اللحن يطغى على لغة الشعر ، فهو السيّد هنا ، الجميع طوع إمرته .

الغزَّل العفيف ، يطفح ببراءته ينسج أعشاشه من خيوط الأغاني و مغازلها المترفة . إن زمن الستينات لم يكن بائساً أبدا ، رغم السياج الاجتماعي الحصين . فورق المخطوط القديم بلونه المصفّر ، تتكسر أوراقه من القِدم ، إلا أنه أثمن من كتاب العصر .

أحبت ( الخرَز ) الشاب ( أحمد ) ، مثل كل العاشقين في صفحة ذلك الزمان المتغيرة . تكتب تاريخها على الرمل و تستمتع بالوشوشة ودفئ الحكاوي حتى أضحى الكون من حولها ، رغم بساطة تكوينه جميلاً ومشرقاً . الإبتسام و النظرات هي لغة العاشقين ، و لها أبجديتها و مفرداتها الخاصة : ـ
{ الجاذبية الإنسانية ، ثم يبدأ التعارف . وهج النظرة الأولى و الرسائل المُبهمة و المتبادلة بالعيون . تلك من ميراث الإنسانية منذ الآف السنين . بالتدريب و الإنتباه من الطرفين تنمو تلك الموهبة . السياج وقد نهض والتفريق بين ( البيضة و الحجر ) هي اللغة آنذاك . يتلاشى الضجيج من حولك فأنت أسير القيود التي تشدك الى الآخر وأنت عنه بعيد . تغيب الصور و الأصوات من حولك شيئاً فشيئا . يبعد عنك المحبوب بقدر ما تفسح ساحة الرقص . لا يبقى أمامك الاّ أنت و قرص القمر المنير متوهجاً ، إنه وجه من تُحب . إن سحر العيون ، و قوة تعبيرها أبلغ من كل حديث . غيبوبة ممتعة تذهب بك بعيداً الى العوالم الحالمة . تأتيك الإجابة الشافية عند كل سؤال وهو في طي الخاطر . أنت على البُعد تختبر المشاعر و صدقها أو زيفها . الحذر من الوقوع في شراك من يبحث عن رفيق عمرٍ تتصيده الصدفة . أنت تمتحن مشاعرك و مشاعر من تهوى في لُجة المنافسة بين الأقران . فرياح العشق تعصف بالجميع من حولك . مَن يختار ؟ و أين ترسو مراكب المستقبل ؟ }

جاء ( أحمد ) يخطبها ، و كان سؤال والدها التقليدي له في ذلك الزمان :ـ

ـ كيف عرفت اسمها ، من دون أخواتها ؟.

تردد أحمد و أرتبك . و كان الرد في ذلك الزمان قاسٍ و هين : ـ

ـ البِت لي أولاد عمها ، و ما بندي الغريب .

الضرب المبرّح هو العقاب للتي اعترفت لوالدها بأن الغريب قد ( جاء من خشم الباب ، فلِم ترفضونه ؟ ) . انكسر الصوت الشجي ، وأُفرغت الحفلات الصغيرة في الحي عندنا من روح الفرح . أيام من بعد ، ثم تزوجت من أحد أقربائها من( الفتيح ) ، و غادرت الحي إلى غير رجعة . فقدت الزيجات اللاحقة رنين صوتها الملائكي وهو يصدح بأغنيات العهد الصقيل . بدأ ( أحمد) يبحث عن محبوبته في أزاهير ( الحقيبة) ، بعد أن فقدها رفيقة لعمره . تتبع أثارها في روائع فن الغناء عله يلثم روائحها العطرة . وجد في المطرب الفنان ( أبيض ) من بعد خير رفيق . يتتبعه عند كل منعطف ، وفي ليالي الأنس ينهل من تطريبه الشجي و هو يتغنى بدرر أغنيات العهد القديم : ـ
{أسمعني واشجيني من ذكرة الأحباب ...بالله ناجيني ... } .

تلك هي أبلغ رسالة تذّكره بليلاه ، صار هائماً يفتتنه الغناء أينما وجد . أحب الشعر الغنائي وألحان الثلاثينات و الأربعينات ، و نهل من رومانسيتها كثيراً ، و من أوصافها الحسية أيضاً حين يرتفع عنده مؤشر الحرمان . تجرع من كأس( الحقيبة ) كل عذابات العشق ودمه المهدر .

الغناء عنده متنفساً لنهر المحبة الجارف ، إذ يلوِّن دواخله بعطر الحياة الدافق . وهو عاطفة إنسانية تبحث عن الإتحاد مع الآخر البعيد باحساس متوهج ، لكن (درب العِشق ساهل و درب الوصال صعبان ) . لقد عرفنا من التاريخ القديم حكايات من وقعوا صرعى العشق و هاموا في البوادي لا يلوون على شيء . اختلطت عقولهم ولم يصدر عنهم من قول أو فعل إلا ما أتصل بعواطفهم الجارفة . إنه العشق الذي ينتهي بهلاك أصحابه إن بلغ المدى . انها الثمار التي لا بد من قطفها ، تتأرجح بين عرف قبلي سابق و نظام اجتماعي لاحق .

تتبع ( أحمد ) كل حكاوي ( المحبين اليتامى ) . فدخل محراب الهوى العُذري ، تعطر برياحينه و نهل من أسقامه كما تروي القصص القديمة : ( نُحول الجسم و اصفرار اللون و قلة النوم و خشوع النظر و إدمان الفكر وكثرة الأنين و انسكاب العبرات و تتابع الزفرات . و لن يخفى الحب و إن تستر . و لا ينكتم الهوى و إن تصبر . هذا هو الطريق الى صناعة الأعشاش في أغصان الأحلام و ركوب السفائن المُهلكة . )

قال لي ( أحمد ) ذات مساء : ـ

{ لقد كُتب علينا الشقاء . يبدو أن أهلنا لا يعرفون المحبة الإنسانية . حجبت أعينهم غشاوة سميكة . أصبح العشق عندهم كالداء ، يستقصدونه بالبتر . لا يقبله مجتمعنا إلا من خلال أطر و قوالب صارمة . تتحول العلاقة بين الرجل و المرأة عندهم الى تعوّد و عُشرة ، و لا تبدأ الا بعد الزواج الذي يتم وفق رغبات الأهل . هؤلاء يبدلون ناموس الحياة و الفطرة ، يجففون نبع الإنسانية من وهجه و بريقه . إنني أحسب أن معظم أهلنا لم يتعرفوا على العشق و لم يتذوقوا حلاوته طوال حيواتهم ، و تلك فاجعة أكبر من فاجعتي . لقد أحببت و هزمتني التقاليد ، لكنني لمست حلاوة الحُب العُذري و نهلت من نبعه . تفتحت روحي ، رغم الهزيمة القاسية . لم يراودني العبث بالقيّم أو الإلتفاف عليها. ربما استسلمت ( الخرَز ) و انشغلت بالأسرة من البنين و البنات ، و انطفأ وهج المحبة في قلبها ولفّتها علائق المجتمع المتشابكة . ربما جرت عليها سُنن العُشرة ، و تحولت الى دُمية اجتماعية تركض في طريق ممتد لا نهاية له ، و لن تجد في الختام الا المُتعه الآسنة . لقد قتلوها شرّ قِتلة . أهالوا عليها التراب وهي تنظرني بعين دامعة . لن يندمل جرحي يا ( عبد الله ) طيلة عُمري .}

عبد الله الشقليني
03/05/2004
كتبت القصة من قبل في سودانايل وسودانيات و سودانيزأونلاين :

https://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/s ... 54464&rn=1




حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

جيوبوليتيك الجسد 24

مشاركة بواسطة حسن موسى »

جيوبوليتيك الجسد 24

و من الحب ما قتل


النور
سلام جاك
غيبتك طالت و أنا أنتظر مرورك فتنير علينا ما خفي في عتمات جسد عيال المسلمين..
تماضر
شكرا على هذا الفيض و أتشوّق لقراءة ملاحظاتك عن " التعليمة " تعليمة بنات الخواجات مقارنة بتعليمة بنات السودان.فالرقص إنما يحدّث عن نفسه في منطقة التعليم/ة.
عادل بدوي السنوسي
لعلك لاحظت أن هذا النص هو إعادة كتابة لنص "جهنم".و قد اضطررت لإعادة الكتابة لتراكم الإستدراكات و الإستطرادات الكثرة .
أنتظر ملاحظاتك.
الوليد
شكرا على المتابعة
الشقليني
حديث الخرز لحظة مفتاحية من لحظات تحول الوجدان الشعبي في السودان
هلا نفحتنا بمزيد من التفاصيل في ما كان من أمر الخرز ينوبك ثواب أجر عظيم.

مودتي لكم جميعا..
جيوبوليتيك الجسد 24


و من الحب ما قتل

كتب عبدالله الشقليني في حكاية قصة حُب " الخرز" المغنية:

"جاء (أحمد) يخطبها و كان سؤال والدها التقليدي له في ذلك الزمان
:ـ كيف عرفت اسمها ، من دون أخواتها؟
تردد أحمد و ارتبك. و كان الرد في ذلك الزمان قاس و هين:
ـ البت لي أولاد عمها ، و ما بندي الغريب".
و حكاية الخرز نموذج طيب لقصص الحب المأساوية التي كابدها جيل مفترق دروب الحداثات بين حداثة الآباء الملتاعين من قيم العالم الجديد الغريب و حداثة الأبناء و البنات الذين فتحوا البصائر على جرثومة هذه العاطفة الجديدة الفتاكة الوافدة مع الرأسمالية النصرانية من الشمال: عاطفة الحب الذي يجسّر المسافة الجديدة بين الذكور و الإناث الذين تمخضت عنهم ثقافة المدينة الوليدة.هذا الحب الخارج من تقليد الأدب الأوروبي الرومانطيقي هو مؤسسة ثقافية و رمزية جديدة لا علاقة لها بتقليد الحب الذكوري الذي عرفته ثقافة المجتمع العربسلامي قبل الرأسمالي.إنه حب يكرس حضور الشخصية الفردية كذات أنانية مريدة وفاعلة و واعية بسيادتها العاطفية، ذات قمينة بالإختيار الحر، إختيار شريك الحياة و إختيار مشروع الحياة.هذا الحب، الذي يقال انه "أقوى من الماديات"، هو في الحقيقة بعض تنزّل النسخة الرومانطيقية من الآيديولوجيا النصرانية( " الله محبة") على واقع مجتمع رأسمالي تناحري متقنـّّع بقناع الحب لأنه لا يطيق رؤية وجهه المادي القاسي التقاطيع. .
حين كان أجدادنا و جداتنا يقبلون فكرة إكتشاف الزوج أو الزوجة لحظة الزفاف فقبولهم إنما كان يتم ضمن إطار مرجعي قبل رأسمالي تتعرف علاقة الزواج ضمنه كعقد بين الأسر و العشائر" و البت لأولاد عمها".و المشكلة هي أن هذا الواقع العشائري المتماسك الذي صاغ وعي أجدادنا و حبوباتنا قد تبدّل بفعل الزلزلة الإستعمارية التي انتزعتنا من أمن الوعي التقليدي و زجّت بنا في خضم واقع جديد و خلّقت في أفئدتنا وعيا جديدا مرجعيته الرمزية و النفسية و الفلسفية خارجة من صميم قيم المجتمع الرأسمالي الحديث.و الزمن القياسي الذي حصل فيه التغيير يطبعه بدرجة عالية من العنف المادي و الرمزي بما يجعلنا نعيش قدر الحداثة كبلاء وقع علينا من حيث لا ندري، أو كغضب إلهي أو عقاب أدركنا لأننا عتونا عن أمر ربنا و لم نلزم جانب العقيدة، و ذاكرتنا الدينية عامرة بأنواع العبر و الدروس التي لحقت بقرى سادت و بادت: "و كأيـّن من قرية عتتْ عن أمر ربها و رسله فحاسبناها حسابا شديدا و عذبناها عذابا نُكرا(8)
فذاقت وبال أمرها و كان عاقبة أمرها خـُسرا(9)" ( الطلاق).
و كون وعينا الحداثي تخلّق تحت شروط الهيمنة الإستعمارية و النيوإستعمارية، فإن ذلك الواقع يكسبه خصوصية تميزه عن وعي الأوروبيين الإستعماريين بالحداثة.و أقول " وعي الأوروبيين الإستعماريين" لأن بين الأوروبيين غير الإستعماريين يتصل وعي أصيل بالحداثةفي دلالتها الإنسانية الخلاقة.فالحداثة الأولى التي إنطلقت في أوروبا، إنفلقت و إنقسمت لقسمين من اللحظة التي انحرف الحداثيون الأوروبيون الإستعماريون فيها بوسائلها و بغاياتها لإخضاع الشعوب و نهب ثرواتها.حداثة للمستعمرين ( بكسر الميم) و حداثة للمستعمرين( بفتحها).حداثة للسادة و حداثة للمسودين. بل أن فعل الإستعمار يموضع الشعوب المستعمرة المقهورة في خانة اصحاب المصلحة الحقيقية في حداثة قوامها العدل و الحرية و الوفرة." وهكذا يا سادتي" ، صرنا نحن الحفاة العراة رعاة الشاء إلخ ، صرنا ورثة الحداثة الشرعيين،و صار مشروعنا الأساسي هو إصلاح الحداثة و إعادة تأهيلها فتثمر و تنفع الجميع بدون فرز.و أظن أن مجمل حركتنا و سكوننا ـ و الحديث بلسان ضمير جماعة المستبعدين(بفتح العين ) في العالم أجمعه ، بما فيه من مستبعدين أوروبيين ـ إنما تتوجه وجهة صيانة الحداثة، و لا خيار لنا ولا مناص.و إذا كنا ـ تحت شروط العولمة برذائلها و بمنافعها ـ نفاوض مشروع إصلاح الحداثة دون أن نتناسى ما في ذاكرتنا الجمعية من " كسور و بواقي " من ثقافة المجتمع العربسلامي قبل الرأسمالي ، فغيرنا في آسيا يباشر إصلاح الحداثة على أطلال التقاليد الشرقية، مثلما يسعى بعض الأوروبيين ( من حلفاءنا الإستراتيجيين ) في مساعي إصلاح الحداثة و في خواطرهم أمشاج من حفريات التقليد الرمزي اليهودي النصراني.هذا السعي المحموم المتعدد المصادر نحو يوتوبيا الحداثة، و الذي يتخلـّق كل يوم تحت أشكال حرة متفرقة ـ وقيل متناقضة ـ في أماكن متنوعة،و بدون أي رابط تنظيمي مركزي ، لا بد أن يؤتي أكله بشكل أو بآخر.لصالح حداثة أخرى جديدة تصحح إنحرافات السوق المتعولم و تقعّد لقيّات التقدم الإنساني في آفاق الحرية و العدل و الرفاه.

حداثة الكسور و البواقي
للوهلة الأولى تبدو تعريجتي على موضوع " إصلاح الحداثة " كما لو كانت خارجة على موضوع الجسد العربسلامي ضمن مشهد رقصة العروس في السودان. و ذلك على زعم أن رقصة العروس في السودان إنما هي وجه من وجوه التعبير الثقافي للمجتمع السوداني قبل الرأسمالي،"مثلها مثل الخفاض"، كما جرت عبارة الدكتورة الفصيحة.و الأمر عندي خلاف ذلك.كوني أعتبر أن رقصة العروس اليوم، تنطرح كوجه أصيل من وجوه التعبير الثقافي الحداثي في السودان.و ذلك لسبب بسيط، فالإناث الراقصات هن إناث حديثات مثلما أن وعيهن بذواتهن و بالعالم هو في مجمله وعي حداثي يحافظ على مسافة آمنة من تعبيرات الثقافة التقليدية، بحيث يوصّفها بصفة " العادات". و هي مسافة " إثنولوجية" تمكنه من أن " يطورها " أو أن "يحاربها" حسب المنفعة الطبقية التي تتبدى فيها ضمن ملابسات الحياة الحديثة.و في الحالة المحددة لراقصات "عرائس النيل" في واشنطون، فالمنفعة التي تبرر رقصة العروس ، في طرفها" الشخصاني" تبدو منفعة نفسية يستفيد منها أبناء و بنات جالية الدياسبوريين على مغالبة أحابيل الغربة ومقاومة النفي العرقي و الثقافي ـ العفوي منه و المدبّر عن سبق القصد ـ مما تجود به بيئة المنافي .و قد ذكرت تماضر في حديثها أن بعض السودانيين بكوا و هم يشهدون عرض محفل العرس السوداني الذي نظمته على خشبة المسرح لجمهور مختلط من الأمريكيين و السودانيين:
".. على مسرح ديوك إلينجتون ، في واشنطن دي سي، قدمْت أربعة بنات أمريكيات في رقصات من جهات السودان الأربعة ، و رقصة العروس".." بكى الحاضرون من السودانيين عندما شاهدوا هذا المشهد و اهتزوا .." وتلك بلا شك لحظة تراجيدية جليلة، فدموع هذا النفر " الحنيـّن" هي دموع مشروعة تماما كونها تعبر عن جسامة الإنكسار التاريخي الذي فتـّت الأعراق و سحق الثقافات و مثـّل بالأديان و الآيديولوجيات كلها باسم حداثة العولمة اللبرالية التي تبذل نفسها كوحدانية بديلة ترث العقلانيات المثالية و المادية القديمة، وحدانية جديدة غايتها عقلنة الوجود على صورة أولويات السوق.و إن كان المنفيون السودانيون قد انتظروا حتى تنفيهم الأقدار في بلاد السجم و الرماد لكي يذرفوا الدمع على ضياع دفء الفردوس الوطني المسمى بـ "البلد الحبوب"، فإن غيرهم من شعوب الدنيا ـ بما فيهم الأوروبيون و الأمريكان ذرفوا الدموع و بكوا و ما زالوا يبكون بكاءا مرا ، لا على ماض مجيد إنقضى و زال، فحسب ، و إنما على حاضر غير مأمون و على مستقبل مخيف و مجهول بالكلية. و جل فنونهم و آدابهم ما هي إلا تعبير عن هذا القلق و لفوعات الضياع البديع الذي يعصف بكل شيئ.
و في الطرف الآيديولوجي فهناك منفعة سياسية بيّنة تمكن رهط السودانويين التقدميين المنفيين، من دمغ إسلاميي نظام الإنقاذ ـ و عن حق ـ بسبّة محاربة التعدد الثقافي في السودان.و محاربة التعدد الثقافي سبّة عالية الكفاءة في المشهد الجيوبوليتيكي العالمي العامر بأيقونات القمع الثقافي " و التطهير العرقي " و مصادرة الهويات المخالفة و " حروب الإبادة " لغاية " حرب الحضارات "، مثلما هي عالية الكفاءة في المشهد الجيوبوليتيكي السوداني المجدول من تناقضات السياسة و العرق و العقيدة.
و من هنا فنحن نجانب الدقة لو استنتجنا من ملابسات النقاش الدائر في المنابر الإسفيرية أن " تماضر جبريل"، أو غيرها ممن ينظمون العروض الراقصة داخل و خارج السودان ، إنما يستخدمون الرقص و الراقصات لـتأجيج النزاع السياسي بين السودانيين، مثلما نجانب الدقة لو تصورنا براءة خواطر أهل الرقص من شبهة الضلوع في النزاع السياسي بذريعة الرقص.و إذا كانت الزلابيا السياسية صارت حقا مشاعا في متناول الجميع فمن باب أولى أن نعرف وجهة النظر السياسية لأهل الفن ، و حكمتهم ليست أسوأ ـ إن لم تكن أرشد لنا ـ من حكمة السياسيين المحترفين.
و لو نظرنا في حالة المنازعة الأسافيرية التي استعرت بين معسكر الأصوليين السودانيين ومعسكر تماضر جبريل و مناصريها، حول عرض " عرائس النيل"، فالحق يقال أن تماضر ليست بحاجة إلى تجشـّم مشقـّات تنظيم عرض راقص حتى تتوصل لإثارة " الفتنة "( يا لها من عبارة جهنمية) بين أولاد و بنات المسلمين.فمجرد الوجود المؤنّث لأي سودانيةعلى مشهد عام، يختزلها في خاطر الذكور الاصوليين إلى صورة الفتنة الماشية على قدمين.فهي " حُرمة ".و " الحرمة "( جمع "حُرَم")، هي ما لا يحل إنتهاكه لا باليد و لا بالسان و لا بالعين و لا حتى بالقلب. و حُرمة الرجل حَرَمَه و أهله، و الحُرُمْ هن النساء لرجل واحد.و الحريم ما حُرّم فلم يُمس. و هو موضع متسع حول قصر الملك تلزم حمايته. و حريم الرجل ما يدافع عنه و يحميه. و يقال " الحريمة" في معنى ما فات من كل مطموح فيه.و المَحْرَم ، جمع محارم هي المخاوف، و محارم الليل هي مخاوفه التي تحرّم على الجبان أن يسلكها. و يَحرِم الرجل في القمار حين يخسر. و الحُرْمة ، جمع حُرم، هي النصيب " ( المنجد في اللغة). كل هذه المعاني تتضافر لتموضع صورة الأنثى الحرمة في قلب منطق التنظيم الإجتماعي بما يجعل منها حجر الزاوية الذي يتأسس عليه قانون التبادل المادي و الرمزي ضمن بنية الجماعة العربسلامية.و الحرمات في موروثنا الثقافي العربسلامي باب يجيب الريح و هو مسدود..
فما العمل (يا ...دكتورة)؟
...
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

الخرز من غيم الذاكرة


من أراد دخول عالمها الساحر ، يحتاج جُرعة من الخيال وألا يتعجل . سنعطي جُرعة ونترك لفطنة القارئ مساحة كي ينمو النص إلفة بيننا .

هي في الوصف العامي ( خَدرَا ) . على جانب من الجمال يبدو لغير المُتأمِل عادي في مفاهيم شباب زمانها . غير عادي عندما تتأمل العينان المُتسعتان وتُحدَّق : بحر من العسل عميق الغور . الوجه بيضي الشكل . القامة لا قصيرة هي ولا فارعة الطول . الشعر إلى الكتِف . ( مسيرتان ) على الجبين وذاك من سُلطان التَجَمُل في الستينات من القرن الذي رحل .
ندخُل في المعاشر والألفة :
صديقة هي للجميع ، تلفكَ بالطرفة حين تلقاك ، فينشرِح صدرك . لن تعرف سر تعلُق صُويحباتها إن لمْ تُجالسها . روح من الهزر الذي لا يُخدش وفق قيم زمانها التي تتجول بين العُرف الجمعي .
الغناء في زمانها ( عَمل خير ) لمناسبات الأفراح . بين فواصل غناء ( الفكي ) أو( عبد الكريم أبيض ) الذي يوصف بالغناء الشعبي ، يستنجد الجميع بها . كان إيقاع ( التُم تُم ) بين يديها يُذيب الأرواح ويكنُس الصدأ .
صوتها لسيدة الغناء السوداني ( عائشة الفلاتية ) أقرب . قوته ورقته وضخامته ( بلُغة الديسيبِل ) . يملأ صوتها المكان بلا وسائط إسماع . لا بحَّة ولا قصر نفس ، بل فوران نهر مُتدفق كالأزرق عند هبوطه من أرض الحبشة .
تتنازعها مناسبات الأفراح كما يسمونها . الحفل في ذاك الزمان ضفتان للنساء ضفة وللشباب الذكور ضفة أخرى ، وبينها المُغني ثم السجادة أو ( السباتة ) في وسط الحفل. المكان باحة فسيحة . مكان يتسع لكل شيء ، على أطرافه الغرف مُشتتة بلا ضابط . إن كنتَ طفل في السادسة وتجولت ، لن تعرف كيف تعود أدراجك .
تجد ( الخرز ) تهمُس لتختار الأغنية التي تُناسب ، فتتقافز الأصوات من الضفاف كلها تطلب أغنية بعينها . فترفع هي صوتها بمداعبة لطيفة تُشجي .... فهي تعرف خيوط التماس العاطفي وأسرار ( الخلايق العاشقة ) تتجمع عندها .

... نسكُت عن الكلام المُباح كي لا ينهض من ذاكرتي (أحمدٌ ) آخر يتلبس جسدي وروحي ، وذاك مسلك في دُنيا النفس البشرية ليس ببعيد .....

بيكاسو
عبد الله الشقليني
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

ورب "عادات ضارة "نافعة

مشاركة بواسطة حسن موسى »

جيوبوليتيك الجسد
25

و رب "عادات ضارة" نافعة


قلت أن رقصة العروس تنطرح كوجه أصيل من وجوه التعبير الجمالي الحديث في المجتمع السوداني.و قولي أبنيه على زعم مبدئي فحواه أن الراقصات السودانيات هن بنات عصرهن، و أنهن إنما يصدرن بالضرورة عن وعي حداثي بالعالم يستبطن أنواع حركتهن مثلما يستبطن أنواع سكونهن ، و أنهن في رقصهن إنما يعبرن عن قيم رمزية بعيدة كل البعد عن تلك القيم التقليدية التي يعبر عنها رقص العروس في أداء جداتهن اللواتي نشأن في المجتمع قبل الرأسمالي.و على زعمي المبدأي أضيف زعما تقـنيا فحواه أن الشكل الكوريغرافي لرقصة العروس قد لحق به قدر كبير من التغيير و التحوير من محمولات الكوريغرافيا المعاصرة بحيث أن الحاصل الجمالي لشكل الرقصة ، من ناحية حركة الأعضاء و تدبير علاقة الجسد مع المكان و الزمان المشهديين بما يحتوياه من شهود و ديكور و مؤثرات بصرية و سمعية إلخ، يطرح قيما تشكيلية مشهدية بعيدة كل البعد عن القيم التشكيلية التي كانت الجدات يبذلنها عند أداءهن لنفس الرقصة.بل أن التحولات المتسارعة التي يتعرض لها طقس رقصة العروس ضمن المجتمع الحضري، صارت تطرح تباينا واضحا على صعيد الحاصل الجمالي للرقصة بالنسبة لراقصات متفاوتات الأعمار ينتمين لنفس الجيل.

و لو عدنا ، من الجهة الثالثة، لإعتراضات الدكتورة بيان، فهي مركبة من حيث كونها تعلن الحرب على رقصة العروس باعتبارها" من العادات الضارة"، " مثلها مثل الخفاض " حسب عبارة الدكتورة.
و ما أدراك ما الخفاض؟
هذه العادة الضارة التي لم يمنعنا ضررها، الثابت علميا و علمانيا ،من الإنتفاع بها في سب أعداءنا بذريعة أنهم غفلوا عن العناية بغلفات أمهاتهم.
و ما أدرانا اليوم بأمر الخفاض؟
هذه العادة البربرية التي نتبرأ منها جميعا حين نوصّفها نحن ، في السودان ، بـ "الفرعونية " و يوصّفها أهلنا المصريون بـ " السودانية"، بينما هي تتجاوز حدود وادي النيل إلى بلاد طيرها عجمي بين أقوام آسيا و أفريقيا، فكأنها العنقاء التي تهلك في النار، نار القرارات الفوقية لعلمانية الدولة الإستعمارية و النيو إستعمارية، قبل أن تنبعث من رمادها فتنقضّ علينا و تفسد علينا مزاعم تحديث ديننا الحنيف و تطوير عاداتنا السمحة.جاء في " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي حديث منسوب للرسول بإسناد " ضعيف"( عن أحمد و البيهقي من رواية أبي المليح عن أبيه) أن الرسول قال :" الختان سنة للرجال و مكرمة للنساء"، كما جاء فيه أن الرسول قال لأم عطية الخاتنة، على سند " ضعيف" آخر( الحاكم و البيهقي من حديث الضحاك بن قيس و لأبي داؤود):" يا أم عطية أشمـّي و لا تنهكي فإنه أسرى للوجه و أحظى عند الزوج.."(إحياء علوم الدين ، الجزء الأول ص 127 ،مكتبة الدروبي ، دمشق ، بلا تاريخ). و بصرف النظر عن قوة أو ضعف الإسناد في الأحاديث أعلاه،فالرواج الواسع الذي تحظى به هذه الأحاديث " الضعيفة" يكسبها قوّة معنوية تـُشرعِنها شرْعنة شبه نهائية في مشهد الخاطر الشعبي. و إذا كان الحديث المنسوب إلى الرسول في تقنية الخفاض يدل على إستقرار المناقشة الفقهية في موضوع الخفاض بين المسلمين منذ وقت مبكر ،فالثابت تاريخيا أن الخفاض قديم أقدم من الإسلام، و قد مارسته مجموعات ثقافية متنوعة بعيدة عن الثقافة الإسلامية .و يفهم بعض الباحثين خفاض البنات و ختان الأولاد كتصعيد مبكّر لفكرة القربان البشري ضمن منظور تطور طقوس تقديم القرابين في الحضارات القديمة.فكأنما القوم يقدمون هذا الطرف الثمين من جسد الأنثىـ أو من جسد الذكر ـ قربانا على مذبح الطهر الرمزي.( وللباحث محمد مفلح البكر مقالة شيقة بعنوان : " الختان ، دراسة في الطهر، مجلة المأثورات الشعبية، عدد 29، السنة الثامنة ، يناير 1993،الأمارات العربية).و قدم الممارسة الطقوسية في الوجدان الشعبي يكسبها حظوة نفسية تسهل قبولها و إتصالها من جيل لجيل، على تباين التبريرات التي يمكن أن يبذلها المستفيدين منها في هذا المجتمع أو ذاك.و قد بلغ الضغط الشعبي المؤيد لخفاض الفتيات ، في مصر ،في منتصف تسعينات القرن العشرين أن " محكمة القاهرة الإدارية ، في قرارها الصادر يوم 25 يونيو 1997، سمحت مجددا بممارسة خفاض الفتيات في المستشفيات المصرية. و قد صدر هذا القرار على أثر المطالبة التي تقدم بها نفر من الدعاة الإسلاميين و بعض الأطباء. و بهذا تكون المحكمة قد أبطلت المنع الرسمي للخفاض الذي صدر قبل عام من تاريخه عن السيد إسمعيل سلام، وزير الصحة المصري".."و عند صدور الحكم صرّح الناشط الأصولي يوسف بدري:" لقد كسبنا الدعوة بحمد الله و سنطبق الإسلام".
و يعتبر هذا الحكم بمثابة صدى رسمي على قرار أصدره مجلس الدولة المصري، قبل الحكم بأيام قليلة، ورد فيه، بناءا على بعض الأحاديث، جواز ممارسة الخفاض، كما أكد في نفس الوقت أن الإسلام لا يعتبرها ممارسة إجبارية، و قد أمّن الشيخ طنطاوي ، شيخ الأزهر ، على موقف الدولة المصرية قائلا بأن الدين الإسلامي لا يفرض خفاض النساء، و أحال الأمر إلى الأطباء ليقرروا ضرورة الخفاض من عدمها، على أساس وجهة نظر الطب.".." و من جهة أخرى ذكر المجلس القومي المصري للسكان، في دراسة نشرت في فبراير 1997، أن ثمانية نساء من كل عشر مصريات يؤيدن مواصلة ممارسة الخفاض كعادة حميدة "(" لوموند" 26 يونيو 1997).و واضح من العرض أعلاه حالة الحرج التي تلف الدولة المصرية " العلمانية" التي تنتظر من شيخ الأزهر، خادمها المطيع، أن يخارجها من هذه الورطة التي جرها إليها مداهنة القوى السياسية الأصولية في مصر.لكن شيخ الأزهر حين يحيل المسألة برمتها الى تحكيم الطب فهو يعرف أن وراء لافتة الطب التي تتدعي حيدة العلم و موضوعيته يقيم الأطباء المصريون المحافظون، المتحالفون مع الأصوليين المصريين، الذين إتخذوا من موضوع الخفاض ذريعة للجهاد ذودا لشيطان الرغبة عن فروج النساء.و قد جاء في دراسة أجراها" مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان" تحت عنوان " موقف الأطباء من ختان الإناث"، آمال عبد الهادي و سهام عبد السلام، 1998 ،: أن نسبة 49 في المئة فقط من الأطباء ترفض رفضا تاما ختان الإناث. أما الباقين الذين يؤيدون الختان بدرجات متفاوتة فهم يتوزعون بين :
ـ المؤيدون لإجراء الختان لنسبة ضئيلة من النساء بنسبة 31،7 في المئة.
ـ المؤيدون لإجراء الختان لنسبة كبيرة من النساء بنسبة 18 في المئة.
و مع هذه الـ " أغلبية الميكانيكية " يمكن لشيخ الأزهر و الدولة المصرية التي تدفع له راتبه أن يطمئنا على سلامة الدين في مصر المحروسة بعلم دكاترتها المسلمين الساهرين على فروج النساء من أن تطالها طوائل الثقافة العلمانية الكافرة.أما في السودان ،فذكور الدولة الأصولية يستغنون بعلم علماء الدين عن علم الأطباء المسلمين في السودان.ففي الوثيقة الإدارية رقم : 159 2006 ـ04 ـ16 ، المعنونة " فتوى حول ختان الإناث( رقم 10/د/2/26 هـ " و التي أصدرها" الشيخ /أ.د. أحمد خالد بابكر" الأمين العام لدائرة الإفتاء التابعة لرئاسة الجمهورية، يكتب الشيخ المفتي في خمسة نقاط نوجز منها:
"أولا أن أهل العلم مجمعون على مشروعية ختان الأنثى"
" ثانيا: أنه قد تتابعت فتاوى علماء الإسلام المعاصرين في القول بمشروعية ختان الإناث و من هؤلاء صاحب الفضيلة الأستاذ العلامة الشيخ / حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقا في كتابه( فتاوى شرعية) 1/ 126ـ127 تحت عنوان " خفض البنات مشروع". و منهم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، في كتابه( فتاوى معاصرة) 443
،و منهم العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، المفتي العام في السعودية سابقا، و ذلك في " فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء"(5/119 ـ 021 ـ 121 ، و العلامة الشيخ محمد مختار الشنقيطي في كتابه " أحكام الجراحة الطبية"(16)، و أنظر كذلك" الموسوعة الفقهية"، (19/127).
ثالثا:بهذا يعلم أنه لم يقل أحد من أهل العلم المعتبرين في القديم و لا الحديث بالتحريم قط، بل الإتفاق قائم على المشروعية، و الفقول بالمنع قول محدث يروج له من يريدون التلبيس و التدليس على الناس، لتحقيق مآرب خفية الله أعلم بها.
رابعا : إذا تبين لك ذلك، أعلم أن فعله خير من تركه، و أنك ـ أيها السائل ـ لو فعلته فقد أتيت بأمر واجب أو مستحب".."و الواجب عليك التحري عن الطبيبة الموثوقة الحاذقة التي تجري عملية الختان وفق الأصول الطبية و الضوابط العلمية التي تتم بها المصلحة و تنفي المفسدة.
خامسها: أن الختان المسمى بالفرعوني ـ و الذي تم في إيذاء الأنثى بقطع أعضاءها أو جزء منها ـ لا يجوز إجراء جراحته، و لا تسليم الأنثى لمن يفعل بها ذلك، لأنه شر كبير و ضرره متفق عليه" و حسبك من فساده إسمه، قال تعالى: " و ما أمر فرعون برشيد"(سورة هود .79). و الله أعلم."
و قد جاءت فتوى الأمين العام لدائرة الإفتاء برئاسة الجمهورية إستجابة لطلب " الأخت الكريمة" ، كما جرت عبارته، التي سألته عن " الحكم الشرعي في ختان الإناث". و لا أدري ما إذا كانت " الأخت الكريمة " قد قبلت العمل بفتوى هذا الشيخ المرتزق من مظاءرة السلطان المستبد الجاهل،أم أنها ذهبت تطلب فتاوى أخريات لدى علماء لا يكسبون عيشهم من أجهزة بروباغاندا الدولة المتأسلمة.لكن تساؤلها في حد ذاته أمر يستحق التأني، كون حديث الخفاض ظل لعهد طويل مما لا يجوز الجهر به .و قد انتفعت دوائر السلطة الذكورية بهذا" الستر و الكتمان" المتواطأ عليه بين الجميع لعهود طويلة إتصل فيها قهر الإناث ـ كـ " شأن أسري محض " بذرائع الدين الحنيف.ويحتج المفتي أحمد خالد بابكر على الجهر بالحديث عن الختان " بمثل هذا السفور و الإكثار من ذلك، مع إستعمال الصور التي تكبر العورة المغلظة للمرأة، و تقديم ذلك في محاضرات و ندوات يحضرها الرجال و النساء إنما هو لأمر يراد منه إشاعة الحديث عن العورات، و أن يكون ذلك شيئا مألوفا عند الناس، ذكرهم و أنثاهم، مما يسقط المروءة و يذهب الحياء، عياذا بالله تعالى.".
و عوذلة أمين دائرة الإفتاء و إعتراضه على ذكر العورات، يتأسسان على زعم مخاتل فحواه أن " إشاعة الحديث عن العورات" أمر وخيم العواقب" يسقط المروءة و يذهب الحياء"،و عليه يلزم حث المسلمين على إلتزام الصمت عن حديث العورات.طبعا مفتي رئاسة الجمهورية لا يجهل ـ ,إن كان يتجاهل ـ أن تراثنا الديني عامر بأدب واسع متنوع و شيق في أحوال عورات الجسد و غوراته التي كانت تستقطب تحريات المسلمين الأوائل ، و هم يطرحون الأسئلة بـغير أي حياء زائف( " لا حياء في الدين")، ومقصدهم تقعيد الجسد الخارج من ثقافة البداوة الجاهلية على مقعد الدين الجديد.و كان المسلمون رجالا و نساءا يتوجهون بأسئلتهم للرسول مثلما كانوا يتوجهون بها للسيدة عائشة(" خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء") و ذلك بدون أي حرج أو لجاج و قد صان أئمة المسلمين و علماءهم تقليد الخوض في حديث العورات بغاية المنفعة التعليمية لقرون طويلة قبل أن يصل صنف االـ " معيز" بين" رجال الشرع" ليحظروا على المسلمين الحديث في أحوال الجسد.قال الإمام الحافظ" إبن قتيبة الدينوري" في مقدمة " عيون الأخبار":" و إذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنـّك الخشوع أو التخاشع على أن تصعّر خدّك و تعرض بوجهك،فإن أسماء الأعضاء لا تـُؤثم، و إنما المأثم في شتم الأعراض و قول الزور و الكذب و أكل لحوم الناس بالغيب"(أنظر إبراهيم محمود ، الجنس في القرآن ، نشر رياض الريس 1994). ومن يتأنى عند إحتجاج المفتي أحمد خالد بابكر على حديث العورات يلاحظ بيسر أن هذا الإحتجاج ينطوي على برنامج كامل للتراجع غير المنظم عن الإستحكامات المنيعة التي كانت تحتلها العقلية الذكورية المتشنجة باسم الدين :
فأولا :هذا الرجل يقبل الكلام في " شأن أسري محض، مبناه على الستر و الكتمان" مع أنثى كان بوسعه ردعها على مجرد تطاولها بفتح الموضوع،أو حتى تجاهلها،( رغم أنه في النقطة الرابعة من حديثه ينسى أنها أنثى و يخاطبها بصيغة المذكّر:" و أنك ـ أيها السائل ـ إلخ")
.و ثانيا: يشي حديث الرجل الناطق باسم أعلى سلطة دينية بإحتمال قبوله المبدأي للمناقشة في موضوع الختان لو لم يحصل" الإكثار "في" الحديث عنه بمثل هذا السفور"،" مع إستعمال الصور التي تكبر العورة المغلظة للمرأة"، و من يدري ؟فربما قبل الرجل بحديث مقل و بصور أكثر إحتشاما للعورة المختونة.
وثالثا: إن إعتراض الرجل على " محاضرات و ندوات يحضرها الرجال و النساء" معا يفتح الباب لتراجع آخر في حالة تنظيم محاضرات ضد الختان لكل جنس على حدة. و "كل شي في الحيا جايز" كما قال المغني.فقد مر على هؤلاء القوم زمان كانوا يقتلون فيه شباب الوطن "من أجل حفنة دولارات" باسم إقتصاد "المشروع الحضاري" الأصولي ، ثم جاء عهد أشعلوا في البلاد حرائق الحرب الأهلية ليرسلوا شهداء الشبيبة المـد مّمة إلى الجنان المسكونة ببنات الحور فتأمّل..
نعم ،" كل شي في الحيا جايز"، و في العقود القليلة القادمة حين تستقر قوانين منظمة التجارة العالمية في سوداننا الحبيب، تحت حماية السلطان الجاهل، فستحتاج الدولة السودانية المتأسلمة إلى إجراء الإصلاح الضروري في نسختها الراهنة من الإسلام، نحو إسلام " سوفت" ييسّر الأرزاق . و في ذلك الحين لن تتردد الدولة في إستخراج الفتاوى اللازمة التي تبيح للصيارفة المتأسلمين أن يبيعوا و يشتروا في أعراض بنات و أولاد المسلمين على عينك يا تاجر.و من يعترض ستستخرج له فتاوى التكفير و الردّة و قد " لا يدفن في مقابر المسلمين" كما تقول العبارة الطريفة ، ( ياخ مقابر المسلمين المرمّدة المكتـّحة دي ،المشتهي يندفن فيها يطير).
يقول الأمين العام لدائرة الإفتاء برئاسة الجمهورية أن إتفاق " أهل العلم" في شأن الخفاض " قائم على المشروعية، و القول بالمنع قول محدث"و أن "أهل العلم مجمعون على مشروعية ختان الأنثى، لكنهم مختلفون في درجة المشروعية بين قائل بالوجوب و هم الشافعية , و قائل بالسنية و هم الحنفية و المالكية، و قائل بالمكرمة و هم الحنابلة، رحمة الله على الجميع، و المدار في ذلك على قوله تعالى:" ثم أوحينا إليك أن اتـبع ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين"(123سورة النحل).".
طبعا الأمين العام لا يتساءل كيف أن جل الشافعية و الحنفية و المالكية و الحنابلة المعاصرين تركوا ختان الإناث مثلما هم تركوا إسترقاق الناس رغم أن تعليم شعائر الممارسة الدينية عندهم ما زال يحتوي على كفـّارات من شاكلة "...إطعام ستين مسكينا أو.... عتق رقبة ". و من يدري؟ فقد تعود قوانين منظمة التجارة العالمية على المسلمين بشروط علاقات عمل جديدة يتاح لهم ضمنها التكفير عن ذنوبهم الصغيرة بعتق رقبة مؤمنة.و كل شي في الحيا...
و إذا كان مفتي رئاسة الجمهورية السودانية يستغني عن رأي الأطباء في مبدأية مشروعية أو لا مشروعية الخفاض ، فهو ـ كأي مسلم حديث ـ لا يستغنى عن خدمات الطبيب و حذقه الحرفي في إحسان الخفاض. و يا حبذا "الطبيبة الموثوقة الحاذقة التي تجري عملية الختان وفق الأصول الطبية و الضوابط العلمية". نفس " الأصول الطبية والضوابط العلمية " التي خبرها أهل السودان في عمليات قطع أطراف الغلابة المتهمين بالسرقة، و التي وجد لها الإسلاميون في السودان من بين الأطباء نفرا من الموثوقين الحاذقين الذين يراعونها كما ينبغي ، و" المعايش جبارة" كما يعبر الأهالي.
أضف رد جديد