مـن أجل تنظيم غير فـاسد للمـدن

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عباس محمد حسن
مشاركات: 521
اشترك في: الاثنين أكتوبر 09, 2006 12:39 am
اتصال:

مـن أجل تنظيم غير فـاسد للمـدن

مشاركة بواسطة عباس محمد حسن »

بسم الله الرحمن الرحيم
مـن أجل تنظيم غير فـاسد للمـدن
دكتور عباس محمد حسن – الخرطوم بحري
يشير الباحثون في مجال تخطيط المدن أو استراتيجية العمران الي تعدد النظريات الحديثة التي حاولت تفسير كيفية نشأة المدن، ومن ثم المعايير التي تميز المدينة عن غيرها من مراكز الاستيطان الاخري ولكن علي الرغم من ان الحضارة المدنية ذات صفات ومعايير تنطبق علي معظم المعايير التي اشارت اليها تلك النظريات الا انها لا تنطبق بالضرورة علي كل ما ورد فيها ، كما لا يوجد معيار واحد أو مجموعة معايير ثابتة في كل حضارة مدنية ، وواضح أن ظاهرة المدينة نشأت بطرائق مختلفة في أماكن متعددة من العالم.
أن وسائل التنقل الجديدة التي غزت المدن مضافة إلي مظاهر التقدم و التوسع الأخرى والتصنيع والهجرة الريفية وغير ذلك أدت إلى توسع عظيم في المبادلات بين الناس مما كان لابد أن ينجم عنه نمو ضخم للمدن التي أخذ عدد سكانها يتزايد شيئاً فشيئاً زاد من سرعته تقدم الخدمات والصحة والتعليم وغيرها في المدن والحضر وتدهورها في البوادي والقرى ومع ازدياد المبادلات وتطوير الوسائل الفردية للتنقل تفاقمت مشكلة المرور وإذدادت صعوبة وكان لابد من تنظيم منهج للطرق يسمح بتنقل الأفراد والبضائع في أقل وقت وبأقل التكاليف, ومع ازدياد أعداد السيارات التي تدخل المدن وتملأ الشوارع ازداد تلوث الهواء والضوضاء والحوادث واستنفذت الشوارع طاقاتها الاستيعابية التي صممت لها وتسبب ذلك في البطء الشديد في حركة المرور والاختناقات وتم اتخاذ الإجراءات في بعض العواصم الكبرى مثل توسيع الشوارع إلا أن ذلك لم يحقق حلول شافية إذ سرعان ما استنفذت هي الأخرى طاقاتها لذا توصل المختصون (للاستزادة انظر د.حماد و د.سامح ود.عبد الستار) إلى أن ما يجب عمله لا يقتصر على تصحيح الصفات الرئيسية للطرق والشوارع ولكن يجب تخطيط المدن بنظام صارم مع إعادة ترتيب الأحياء القديمة وحصر مختلف أوجه النشاط المسؤول عن انسداد شرايين المرور أو الطرق الرئيسية لأن مشكلة المواصلات هذه ترجع – إلى حد كبير خاصة في ساعات القمة أو ساعات الذروة إلى التنقلات غير المثمرة التي يقوم بها كثير من سكان المدن بين أماكن العمل و أماكن الإقامة بسبب التنظيم الفاسد للمدن – ومدينة الخرطوم الكبرى (الخرطوم – بحري – أمدرمان ) مثال على ذلك.
صحيح أنه لابد من الإشادة بالمجهودات الكبيرة التي تبذلها الجهات المسئولة بولاية الخرطوم في فتح طرق جديدة وتوسيع وتأهيل الطرق القائمة في العاصمة القومية وأطرافها إذ أن ذلك سيساعد كثيراً في تسهيل حركة المرور في الطرق الرئيسية على الأطراف ولكن لابد من وجوب إصلاحات جذرية لكي نتجنب اضطراب حركة المرور ووقوعها في فوضي كاملة نلخصها في التالي :-
1- تنظيم حركة المرور تنظيماً جيداً ودقيقا ً بحيث يؤدي ذلك إلى تجنب خسائر كثيرة تنتج من الاستهلاك المبكر للسيارات التي تضطر إلى السير في الشوارع دون حاجة (بسبب تعقد حركة المرور الحالية) كما تنتج عن زيادة السرعة أو الفرملة فجأة ولأمكن تجنب الإسراف في الوقود وتجنب خسائر الحوادث التي ترجع إلى إرهاق أعصاب السائقين .
2- عدم إجراء محاولات لتوسيع الشوارع لمرور السيارات على حساب المشاة إذ يقتطع جزء من الرصيف ثم يتضح لاحقاً أن الشارع الذي تم توسيعه لا يكفي لضغط السيارات فيقترح جعل الشارع للمرور في اتجاه واحد ووقوف السيارات على جانب واحد فقط تم تنتقل السيارات للوقوف على جانبين بل على الرصيف نفسه فينزل المشاة إلى نهر الشارع .
3- لابد من حل جذري لمشكلة شبكات الطرق فقد ظهرت مشكلة عدم التوافق بين السرعات الطبيعية (أي سرعة الإنسان الراجل واالحيوان) وبين السرعات الميكانيكية للسيارات الخاصة وسيارات النقل العام مما أوجب وضع مثياق (أثينا) وبه عدداً معيناً من المبادئ أن اختلاط هذه السرعات هو مصدر لألف أزمة فالراجل يسير في غير أمان بينما نجد أن السيارة الميكانيكية التي تضطر إلى استعمال الفرملة باستمرار قد شلت حركتها وهو ما لا يمنعها من أن تكون أداة تهدد بخطر الموت الدائم بين الناس في شوارعنا المزدحمة .
4- هناك ناحتين مهمتين لابد من تميزهما وهما أولا ً إعطاء كل طرق المرور اتجاهاً محدداً يكون لاستقبال المشاة أو الحافلات أو سيارات الأوزان الثقيلة أو سيارات المرور العادية وثانياً إعطاء هذه الطرق (حسب الدور الذي تخصص له) – الأبعاد والصفات الخاصة مثل طبيعة رصف أرضية الشارع وعرض الطريق ومكان التقاطعات والالتقاءات الخ .....
5- خلاصة ذلك هي أنه لابد من إيجاد تفرقة بين الطرق المتعددة ، سواء من ناحية شكلها أو استخداماتها على أن يكون ذلك على أساس تحليل محدد لاحتياجات المجتمع .
6- فإذا أردنا أن نفرق بين الطرق حسب استخداماتها فلا بد أن نميز أولاً بين حركة المرور داخل المدينة وحركة المرور خارجها ، فالأولي تلبي احتياجات المبادلات والمواصلات بين مختلف الأحياء والثانية تقيم الاتصالات بين المدن المتجاورة .
7- الاحتياجات الداخلية للمدن يمكن أن تطلب هي نفسها تنظيماً معيناً للطرق حيث يجب أن يخدم بعضها الاتصالات بين الأحياء والأخرى تكون في الخدمة المحلية لمختلف القطاعات مثل المشاة وراكبي الدراجات والسيارات بينما أن حركة المرور خارج المدينة لا تضع قط اعتباراً للمشاة ومن هنا نفسر سرعتها. فالخدمات المحلية أبطأ لأنها مقيدة بالمشاة والسيارات حيث تسود السيارات الخفيفة والدراجات العادية والدراجات البخارية والعربات الصغيرة وحركة المرور بين الأحياء وهي مفتوحة لكل الاستخدامات.
8- وفي وسط المدنية يحدث تداخل بين كل المواصلات بعضها في بعض وهنا يجب فصل طرق المشاة عن طرق سير السيارات.
9- هكذا يمكن إقامة شبكة أولي تتضمن المرور الترانزيت ومرور الدخول والخروج من المدنية وتعطي الأولوية للسيارات التي تسير فيها بسرعة كبيرة (انظر تخطيط المدن الأنساني). وتخصص الشبكة الثانية لحركة المرور الثقيل وتعزل عن الأحياء السكنية وتخدم القطاعات الصناعية والتجارية وتخصص الشبكة الثالثة لداخل المدينة لتربط بين مختلف أحياء الأعمال والإسكان . وكذلك يمكن إقامة شبكة إضافية تكونها طرق الخدمة المحلية وبعض طرق الرحلات ومن الطبيعي أنه يجب أن تكون هنالك نقط التقاء لتسهيل الانتقال من فئة إلى أخري .
10- أما إذ ا أردنا التفرقة على أساس شكل الطريق فسنجد أن هذه الطرق ليس لها نفس التخطيط ولا نفس الغرض أو التبليط أو التغطية وذلك لأن وزن السيارة وحجمها وشكلها عوامل تؤثر على عرض الطريق وعلى أسلوب تغطيته وهكذا نجد بأن سيارات النقل تتطلب أرضاً ذات مقاومة قوية وطريقاً واسعاً يسمح لها أن تتفادى وأن تتلاقي وهي تسير بسرعة معقولة – كما أن السرعة الكبيرة تتطلب خطوطاً مستقيمة مع وجود أقل ما يمكن من خطوط العبور وأن تكون الطرق ذات اتجاة واحد فقط (وأن كان متعدد الحارات) ، كما تكون واسعة جداً لامكان حدوث التفاديات دون خطر. وفي الطريق الذي يزدحم دائماً بالسيارات والمشاة يجب أن يكون هنالك قواعد تطبق على الشخص الذي يعبر الطريق وعلى تنظيم تقاطعات الطريق مع غيره من الطرق – وهذا النظام سيحدد ويقلل سرعة السيارات وخاصة بواسطة تضيق الشوارع وإيجاد تقاطعات الشوارع مع بعضها البعض كما أن المسافة التي يجب قطعها تؤثر على المميزات الرئيسية للشوارع وأن أهمية أي طريق من ناحية المرور تتوقف نسبياً على طول هذا الطريق .
11- يجب أن تكون الطرق المخصصة للمواصلات الخارجية بعيدة عن المساكن وواسعة ومريحة وأن تكون مستقيمة أو ذات منحنيات واضحة جداً و إلا تزيد السرعة بها عن 60- 70 كم / الساعة عند اقترابها من أحياء المدينة .
12- تتكون مفترقات الطرق من التقاء طريقين أو أكثر وكل تقاطع في الطريق يولد (نقط ضعف) فهي تحمل خطر التصادم وتعمل على إبطاء حركة المرور وكلما قل عددها كلما حصلنا على سير مستمر وبسرعة مناسبة لحركة المرور ويجب وضع الإشارات التي تحكم تهدئة سرعة السيارة التي تسير في الطريق الثانوي ووضع بعض الإجراءات الخاصة التي تؤثر نفسياً على السائقين كمد فرعين ثانويين من نقطة الالتقاء أو وضع بعض العقبات التي تشاهد من بعيد .
13- توسيع الطريق بزيادة عرض المنحني في خط السير حتى تدخل السيارات إلى الطريق المتقاطع بسلاسة و بسلامة و بدلاً من الزاوية الحادة التي تصبغ أو تميز شوارعنا .
14- ضرورة اللجوء إلى إشارات المرور الاتوماتيكية عند التقاطعات مع توسيع الطرق (وسط الطريق) عند مدخل التقاطع مع الإشارة إلى أن الحل الخاص بعمل مستويات بالممرات المتقاطعة هو الحل الوحيد الذي لا يؤدي إلى نقص كمية تصريف الطريق (إذا كانت الإمكانيات المادية تسمح بذلك) حيث لا تعطي طريقة المرور المتقاطع سوي أقل من 40% من التقاطعات ذات المستويات المختلفة في حالة تغيير الإتجاة كل 30 ثانية وبنسبة 65% إذا كان التغيير لا يحدث إلا كل دقيقتين .
15- يجب إلغاء جميع التقاطعات في الشوارع الجانبية التي على شكل زائد (+) أو أكس والاستعاضة عنها بتقاطعات على شكل تي T .أو استخدام اشارات المرور ليس للاتجاهين فقط بل لكل الاتجاهات بما فيها الانحرافات الجانبية يمينا ام يسارا. كما يجب تحديد أماكن قليلة للدوران U-TURN والغاء جميع الفتحات الاخري والتي تشكل مصادر خطيرة للحوادث وتسهم في تاخير تدفق الحركة .
16- السيارات التي تسير لمدة ساعتين في اليوم تحتاج إلى 22 ساعة في اليوم في الانتظار (في كراج أو مكان انتظار) وأن مشكلة الانتظار ليس مجرد إيجاد مساحة لمكان الانتظار الذي يتفق مع أبعاد السيارة وهي حـوالـي 2 × 6 متر لسيارات الركوب العادية كما يجب إيجاد أماكن خاصة لاستقبال السيارات التي ستقف للانتظار المؤقت كالتاكسي وبالقرب من المباني التي تستقبل الكثير من الزوار وهذا يتطلب توسيع الشارع أو تنظيم مساحة أو جراج لذلك وعند عدم وجود أماكن للانتظار على مستوي سطح الأرض علينا أن نستخدم باطن الأرض بالأماكن العامة غير المشيدة والميادين وغيرها ، كما يمكن إغراء عدد كبير من الناس بإنشاء مكان للانتظار كجراج داخل ممتلكاتهم علماً بأنه يلزم للسيارة العادية من 25 إلى 30 متراً مربعاً .
17- يمكن اقتطاع جزء من الرصيف بعرض 2 متر إذا أريد ترتيب السيارات طولياً في وضع شريطي أو يقتطع 4 متر إذا كان ترتيب السيارات في وضع مائل كما يجب رسم مكان كل سيارة بخطوط واضحة على الأرض حتى لا يتخطاه السائق كما يجب تحديد مسالك المشاة عند عبور الشارع للوقاية من الأخطار .
18- يجب أن تكون هنالك خطوط ومسارات محددة للنقل العام كما يجب تحديد نقط الوقوف والنهاية لأنه يجب تجنب وقوف المركبات العامة بحيث تعطل حركة مرور السيارات الأخرى كذلك يجب إلا يفسد صعودها وهبوطها جزءاً من الشارع وعند المحطات العادية يجب عمل اتساع إضافي وفي نهايات الخطوط يجب اتخاذ كل الإجراءات لفصل مكان العمل أو ركوب السيارة بعيداً عن طريق مرور السيارات، و بالنسبة لنهاية الخط يحتاج لوجود محطات تشبه محطات السكة حديد لها مكاتب وشبابيك صغيرة ومكاتب استعلامات ومقاصف أو كافيتريات الخ .
19- أهمية خدمات النقل العام أنه يمكن للبص الواحد الذي يحمل حوالي 60 مسافراً فأنه يستخدم 3× 12 متر بينما نجد أن نفس العدد أي 60 مسافراً يمكن أن يستعملوا حوالي 36 سيارة خاصة في المتوسط وتشغل 480 متر من الطريق على ثلاثة صفوف وهذا الأثر يزداد لأن مركبة النقل العام التي تقوم بالذهاب و الإياب بين نهايتي الخط لا تقف من الناحية العملية بينما نجد أن 36 سيارة تحتاج للانتظار والوقوف على مساحة 648 متر مربع .(انظر د. حماد) .
ختاماً أرجو أن أشير إلى ضرورة نقل جميع أنواع الأنشطة الهامشية التي تتخذ من ظلال المباني والفرندات مكاناً لمزاولة نشاطاتها وسط المدنية إلى أماكن طرفية مناسبة كما يجب تحديد الأنشطة والفعاليات التي يمكن مزاولتها في وسط المدينة على ضوء الهدف الحقيقي الموضوع لها في إطار التصور العام لخدمة المدينة سواء كانت الخرطوم أم بحري أم أمدرمان وبذلك يتم تسهيل حركة المرور وتحسين وإعادة تأهيل أو تخطيط المدنية والحد من التنقلات غير المثمرة للمواطنين ولسياراتهم وتقليل خسائرهم المادية والمحافظة على سلامتهم وسلامة المشاة .
لقد بدأ الإنسان التفكير في إنشاء المدن الكبيرة الكاملة بعد أن تعلم كيف يعيش في جماعات تتعاون على تنظيم حياتها طبقاً لأغراضها المختلفة من دفاعية وسياسية وتجارية وعلمية و دينية وصناعية الخ بحيث توفر المدينة البيئة الصالحة لحياة الإنسان من جميع الوجوه وهذا العمل بطبيعة الحال يحتاج في عصرنا الحالي إلى دراسة طبيعة المدينة وبيئتها وربط ذلك بتجارب الإنسانية على مر العصور والبيانات الإحصائية الدقيقة التي يمكن الاعتماد عليها والتي يجب أن تكون خالية من التدليس والتخمينات العفوية حتى يمكن الاعتماد عليها لتحديد الإطار العام للتخطيط السليم .
كما أن إعادة تخطيط أو تنسيق المدينة يصطدم بكثير من قيود حفظ وحماية الأملاك وتوفير الخدمات والتسويق وغيرها حتى أن إعادة التخطيط اعتبرت من أعمال الترميم وليس بالعمل الخلاق (انظر كلانس شتاين) .
كما أن محاولة إعادة تخطيط المدينة دون دراسة جادة ومعرفة للغرض الرئيسي في تكوين المدينة ومعرفة هويتها أنما يؤدي إلى علاج الشكل وإهمال أسباب المشكلات ومصادرها الرئيسية وبذلك يفقد الغرض النهائي المقصود وهو خلق بيئة طبيعية أفضل للعيش والحياة تتسم بسهولة الحركة السريعة التي هي من لوازم حياتنا الحديثة وتناسق المباني وعلاقتها بالساحات الخضراء والحدائق العامة وكفاية المرافق المختلفة وتكاملها وترابطها. لقد تغيرت الحياة وتغير أسلوبها فيجب علينا أن نظر إلى احتياجات المدينة الجديدة التي تختلف اختلافاً بيناً عن مدينة الأمس .
وفي هذا المجال يمكن الاستفادة من المبادئ الأساسية والأساليب والنماذج والدراسات التي وضعها كبار المهندسين قديماً وحديثاً ولكن لابد من معرفة أنه لا يمكن أن ننقل التخطيط أو نماذج ثابتة نطبقها دائماً وفي جميع الأحوال أو أن نحاول خلط محاسن التخطيط في البلاد المختلفة لكي تنتج التصميم الذي يمكن استخدامة بكل بلد دون تميز لوضعها وحاجاتها. أن المدينة هي مرآة الحضارة وتخطيطها يعكس كيان الشعب الذي يعيش فيها وسياسية الاجتماعية وتقدمه العلمي وفلسفته الحياتية المنعكسة على تخطيط المباني وكما ذكر دكتور سيد كريم أن العمارة وتخطيط المدن متخلفان عن العصر الذي نعيش فيه وأنه من الواجب على مهندس التخطيط أن يتحرر من قيود الماضي والنظريات البالية التي لا مكان لها في التطور العلمي الذي يخطط أسرار حضارة اليوم والانتقال من تخطيط المدن ذي البعدين أو الثلاثة أبعاد إلى التخطيط الحديث حيث تخطو المدينة إلى سبعة أبعاد وضحتها نظريات العلوم الحديثة وهي الطول والعرض والإرتفاع والبعد والحركة والصوت والضوء ( كل ما ورد بعاليه ملخص لدراسات مطولة يمكن الرجوع اليها في كتابات دكتور محمد حماد وسيد كريم وبدري وسامح وبيردوم وفوجل وتشايلد وينق وجيبسون وآدمز الخ ...).
لقد برزت الشوارع والطرق في المدن كمحور رئيسي في التخطيط منذ فجر التاريخ ونما وتطور تخطيط المدن بنمو الحضارات وارتقائها وعكس تخطيط شوارع المدن المستوي الحضاري الذي ساد مراحل التاريخ الانساني المتعاقبة وتنوعت تخطيطات المدن بتنوع واختلاف المظاهر الحضارية من عصر الي آخر وأصبح تخطيط شبكات الطرق في المدينة من بين الاسس التي تصنف عليها نوعيات تخطيطات المدن قديمها و حديثها وشوارع وطرق المدينة تمثل أهم جوانب تخطيطها الذي يعني تنسيق النظام المادي الطبيعي للمدينة والذي تمثله كتلتها المبنية وارتباطها بتجمعها الحضري ومرافقها وخدماتها في انسجام وتوافق مع الحاجات الاجتماعية والاقتصادية لسكانها.
ولقد لعبت سلطات المدينة وخاصة المحتسب و الشرطة منذ قديم الزمان في مدننا الاسلامية دورا بارزا في نظام ونظافة وامان المدن فقد ذكر الشيزري وابن الرامي والسخاوي وابن اياس والمقريزي ان المحتسب كان يمنع كل ما يؤذي الناس ويراقب نظافة الطرق ويمنع طرح الكناسة علي جوانبها وتبديد قشور البطيخ أو رش الماء بحيث يخشي الزلق والسقوط وكذلك عمل علي عدم ترك مياه الامطار والأوحال في الطريق من غير كسح ومنع تسريب مياه الغسيل الوسخة الي الشارع من ثقوب تحت عتبات أبوابها ومنعا لاعاقة الطرقات منع المحتسب القصابين من الذبح في الطرقات ومنع كذلك أهل اللهو او أهل الكدية او القراء الذين يقرأون في الطرقات مما يحقق الهدف من عدم اذدحام المارة . واعتني المسؤلون بتجميل مدنهم فأمروا بكنس الشوارع والطرقات ورشها بالماء واعتبرت لذلك وظيفة الكناسين في "تصنيف الصنائع" في المدينة لأنها تساعد علي نظافتها وكان تنظيف الشوارع مستمرا يوميا فكانت بغداد مثلا تكنس رحابها في كل يوم ويقوم بكنسها الفراشون ويحمل التراب الي خارج المدينة ، وامتد العمل الي اصلاح الطرق واعادة تمهيدها كلما احتاجت الي ذلك ومن أوضح الأمثلة علي ذلك ما قام به الأمير يشبك والي القاهرة من اصلاح الطرقات وتوسعتها وهدم الكثير مما أحدث أو كان قديما . فكانت الطرقات قد توعرت بكثرة الهدم وارتدامها بالاتربة أو نحوها ، أو بغي بعض ارباب الاماكن بحيث تصير الاماكن بعضها منخفضا وبعضها مرتفعا ، وتضرر المارة بهذا وعطب كثير من الناس والبهائم ، وربما يصرف علي الغائب ثم يرجع عليه كالديون الازمة الي ان اصلحت عامة الشوارع والطرقات ووسعت .
ومن مظاهر اهتمامهم بالمحافظة علي جمال الشوارع ما اخذ من اجراءات لمطاردة الشحاذين والمعدمين الذين استغلوا الطرقات للاعلان عن عوزهم بصورة سيئة ومن مثل هذه الاجراءات ما فعله السلطان بيبرس عندما اصدر امرا سنة 664 هجرية /1266 م بجمع اصحاب العاهات من الشوارع فجمعوا بخان السبيل ظاهر باب الفتوح ونقلوا الي الفيوم وافردت لهم بلدة تغل عليهم ( وهو حل واقعي جدير بالدراسة) !!! وتشير الروايات التاريخية الي ان مقاييس الشوارع العامة في بعض مدننا العربية والاسلامية القديمة قد وصل الي مابين 80 ذراعا و200 ذراعا (أي مابين 40 الي 100 متر) وهي تضاهي أعرض الشوارع في العواصم العالمية حتي يومنا هذا !! كما ادخلوا في اطار المنفعة والجمال اضاءة شوارع المدينة وتبليطها " فعمت الاضاءة شوارع الفسطاط والقاهرة " وأمر الحاكم بأمر الله سنة 1000 م أن توقد القناديل في سائر البلد علي جميع الحوانيت وأبواب الدور والمحال والسكك فنفذت أوامره وتباري السكان في الأضاءة وبينما كان المرء في قرطبة يسير عشرة كيلومترات علي ضوء المصابيح لم يوجد في شوارع لندن بعد ذلك التاريخ بسبعمائة عام ولا مصباح واحد !! وفي بعض المدن التي تسقط عليها الامطار الغزيرة رصفت الشوارع لتجنب الوحل كما اشتملت شوارعها كذلك علي مجاري لتصريف مياه الامطار !! فهل نطمح الي من يعيد تخطيط عاصمتنا مراعيا وضع أنسب الخدمات في أنسب المواقع وأنسب المباني لأنسب الأغراض وموفرا لمساحات مكشوفة كافية للترفيه والرياضة وتخصيص مساحات كافية للحدائق والمنتزهات وتحقيق التناسق والكفاية لوسائل النقل المختلفة وباختصار استخدام الذكاء والفكر لاعادة تخطيط عاصمتنا مستفيدين من دراسة تراث مخططي الماضي عبر القرون ومستهدفين توفير البيئة الصالحة للحياة الانسانية لطبيعة وتطور مجتمعنا نحو الحياة العصرية الحديثة !! وهل نطمح لتقليد ما فعله وابتكره أجدادنا قبل عشرة قرون ولكن باسلوب عصري مرن يعتمد علي الدراسات العلمية والحقائق المجردة ونعمل علي اصلاح ما افسده الدهر حتي لا تفسد مدننا فسادا يستحيل علينا اصلاحه !! وما أشبه الليلة بالبارحة !! (انظر المقريزي وابن الرامي والشيزي وغيرهم في المدينة الاسلامية د.محمد عبد الستار) .
دكتور عباس محمد حسن – الخرطوم بحري
أضف رد جديد