حوار قديم مع المفكر محمد أركون .. أجراه هاشم صالح

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
ياسر الشريف المليح
مشاركات: 1745
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:24 pm
مكان: ألمانيا
اتصال:

حوار قديم مع المفكر محمد أركون .. أجراه هاشم صالح

مشاركة بواسطة ياسر الشريف المليح »

لقد عثرت أثناء تقليبي في القرص الصلب "هارد ديسك" لبعض أجهزتي القديمة على هذا الحوار الجميل للكاتب الصحفي هاشم صالح مع المفكر محمد أركون.. يبدو أن الحوار تم بعد وقت وجيز من أحداث الحادي عشر من سبتمبر الزلزالية.. المقابلة بها بعض الأخطاء الطباعية التي لن تفوت على فطنة القارئ ولم أشأ أن أصححها حفاظا على وثوقية النقل.. لم أعد أذكر بالضبط أين نشرت هذه المقابلة ولكن أرجح أن تكون في صحيفة الشرق الأوسط..

حوار مع المفكر
محمد أركون
أجراه : هاشم صالح (كاتب من سوريا يعيش في فرنسا)

أصبحت الأصولية الشغل الشاغل للعالم العربي طيلة هذه السنوات الأخيرة، كيف شفهم هذه الظاهرة، وكيف تحلل أسبابها؟
محمد أركون :
- لا يمكننا أن نفهم الأصولية داخل الاسلام الا اذا قارناها بالأصوليات داخل الأديان الأخرى. ولا يمكن تحليلها بشكل صحيح الا إذا طبقنا عليها المناهج التاريخية التي طبقت في الغرب على الأصولية المسيحية مثلا. لقد آن الأوان لأن يبدأ الفكر العربي والاسلامي بدراسة ما يحصل خارجه، وبخاصة في مجال الدراسات الحديثة المتركزة على الأديان بشكل عام. أقصد الدراسات المتعلقة بمعنى الظاهرة الدينية والوظائف التي تؤديها في المجتمع. أدعو المسلمين هنا لأن يهتموا أكثر فأكثر بما يعلمنا إياه التاريخ وبما تعلمنا إياه العلوم الاجتماعية عن الظاهرة الدينية، وبالتالي فلكي نفهم الظاهرة الأصولية فإننا مضطرون لأن نمر من خلال العلوم الاجتماعية، أقصد ينبغي أن نطبق العلوم الاجتماعية (أو العلوم الانسانية) على التراث الاسلامي مثلما طبق على التراث المسيحي في أوروبا منذ زمن طويل، بالطبع فإن المسلمين المحافظين والأصوليين يردون علينا قائلين بأن العلوم الاجتماعية (les sciences socîales) لا تنطبق على التراث الاسلامي، وانها نتاج الغرب وبالتالي فلا علاقة للمسلمين بها!.. هذا الموقف السلبي في العلوم الانسانية والاجتماعية ليس فقط حكرا على الأصوليين وانما هو موقف جمهرة المثقفين العرب والمسلمين حتى الآن.
بالطبع هناك استثناءات ولحسن الحظ أن هناك استثناءات. وهكذا يظل المسلمون منغلقين داخل الدائرة التراثية المغلقة على ذاتها. انهم لا يريدون توسيع المناقشة وفتح الأبواب على مصراعيها لكي يهب عليهم هواء جديد.
انهم لا يريدون تطبيق العلوم الاجتماعية على تراثنا من أجل تجديده واعادة تأويل الاسلام بصفته ظاهرة دينية كبرى من جملة ظواهر أخرى انهم لا يفهمون ان منهجية المقارنة مع الآخرين هي مفيدة جدا لفهم الذات. فهناك أديان أخرى في العالم غير الاسلام. هناك المسيحية، واليهودية، والبوذية، والهندوسية الخ... فالإسلام كظاهرة دينية، لا يختلف بشكل مطلق عن بقية الظواهر الأخرى المتعلقة بالأديان التي عددناها. بالطبع فإن الموقف الذي نتخذه هنا هو موقف علمي. وهو يتعارض حرفيا مع الموقف الايماني العقائدي أو العاطفي الموروث أبا عن جد منذ مشات السنين. والمسلم التقليدي، أو الأصولي، لا يختلف موقفه في شيء عن موقف المسيحي التقليدي Ji اليهودي التقليدي. فكل واحد منهم منغلق داخل تراثه ويعتبره وكأنه مطلق ولا يوجد أي شيء آخر غيره، أو قل إن غيره خاطيء وضال. أقصد بالموقف التسليمي العاطفي أولئك الذين يريدون التحدث عن الاسلام فقط من خلال ايمان تقليدي يرفض كل مسار تحليلي، عقلاني علمي، ومادام هذا الرفض سائدا فمن المستحيل أن نتقدم خطوة واحدة الى الامام وبالتالي فإن النقد التاريخي المحرر ينبغي أن يطبق على الأصوليين وغير الأصوليين : أي على الفكر التقليدي بشكل عام.
بعضهم يقول بأن الأصوليين يتبعون تيارا واحدامن تيارات الاسلام ويهملون التيار الآخر العقلاني والانساني: أي تيار المعتزلة والفلاسفة. ما رأيك في هذا الكلام؟
- أركون : بالطبع. ولكن هذا التيار الأصولي (أوالسلفي) ابتدأ يترسخ وينتصر منذ القرن الثالث عشر، وليس من اختراع اليوم. الأصوليون الحاليون لهم جذور في الماضي، بل وفي الماضي البعيد كما ترى. انهم يشتغلون، أو قل يترعرعون، داخل أرضية مؤاتية ومناسبة، أرضية تم التمهيد لها منذ زمن طويل، من هنا سر قوتهم وانتشارهم السريع. فالمدارس الفقهية انتشرت في مختلف البلدان الاسلامية،وكل بلد حبذ أحد المذاهب على ما عداه : ففي تركيا حبذوا المذهب الحنفي وفي السعودية الحنبلي وفي مصر الشافعي وفي المغرب الكبير المالكي، وفي ايران الجعفري الشيعي الخ... وهذا التخصص الضيق يعتبر تراجعا عن التعددية العقائدية والفكرية التي كانت سائدة في العصر الكلاسيكي أو العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الاسلامية. كانت التعددية ممكنة قبل الدخول في عصر التكرار والتقليد والاجترار (أي عصر الانحطاط واقفال باب الاجتهاد). ولذا فلا يكفي القول بأن الأصولية شذوذ عن الاسلام أو لا علاقة لها بالاسلام.. فهذا لا يحل المشكل. المشكل أعمق من ذلك وشمل الأصوليين وغير الاصوليين. والأصوليون أشخاص يعرفون ليس كل نصوص الفكر الاسلامي بالطبع، وانما الاتجاه الذي انتصر عبر التاريخ : أي المذاهب السنية من جهة والمذاهب الشيعية من جهة أخرى. ولكن المذهبين السني والشيعي تعرضا لجمود خطير أو لتقلص فكري خطير بدءا من القرن الثالث عشر. واستمر ذلك حتى القرن العشرين : أي حتى يومنا هذا. وهذا الانغلاق التاريخي لم يدرس حتى الآن بشكل علمي من قبل المسلمين. ولو أنه درس لفهموا أن الوضع الراهن الذي نعاني منه يعود الى تلك القرون المظلمة التي دخلنا فيها ولم نخرج منها حتى الآن. هذا يعني اننا ورثة هذه القرون الخالية من المضمون التعددي أو الغنى الفكري والعقائدي ولسنا ورثة اسلام العصر الكلاسيكي المجيد (الاسلام الكلاسيكي يشمل القرون الهجرية الستة الأولى، أي حتى موت ابن رشد). هذه حقيقة تاريخية لا مجال للشك فيها. وبالتالي فينبغي أن ننظر الى الأمور نظرة تاريخية لكي نفهم لماذا نتخبط فيما نحن متخبطون فيه اليوم. اذا لم نفعل ذلك فاننا لن نفهم لماذا تزدهر الأصولية وتنتشر في كل مكان. هذه أشياء لا يمكن فهمها اذا ما نظرنا الى الأمور ضمن شريحة زمنية قصيرة أي من خلال العشرين سنة الماضية (لنقل منذ اندلاع ثورة الخميني عام 1978). ينبغي أن نموضع الأمور ضمن منظور المدة الطويلة للتاريخ كما يقول المؤرخ الشهير فيرنان بروديل لكي نفهم سر هذه الظاهرة المنتشرة حاليا في شتى انحاء العالم الاسلامي. لكي نفهم جذور الظاهرة الحالية ينبغي أن نعود ثمانية قرون الى الوراء. هكذا تجد أن علم التاريخ يضيء لنا الأمور بشكل لم يسبق له مثيل من قبل اذا ما عرفنا كيف نستخدم منهجيته أو كيف نطبقها على تراثنا الاسلامي العريق وهو يجدد الفكر النقدي داخل الاسلام وهو أحوج ما نكون اليه الآن. وهو بالاضافة الى ذلك يفتح الفكر الاسلامي على منهجيات العلوم الانسانية ومصطلحاتها ومكتسباتها المعرفية التي يستحيل علينا بعد اليوم أن نتجاهلها. هكذا تجد أن تطبيق المناهج الحديثة على دراسة التراث الاسلامي في شيء ليس فقط مستحبا، وانما ملح وعاجل لكي نحرر الفكر الاسلامي من عطالة الزمن ورتابة القرون.
ولكن عندما ابتدأوا يطبقون المنهج التاريخي على المسيحية في القرن التاسع عشر حصل رد فعل هائج وعنيف من قبل الأصوليين المسيحيين. واتهموا المجددين بالتخريب والخروج على الايمان وتدمير التراث،، الخ...
أركون : نعم، نعم. هذا صحيح. ولكن ماذا تريدنا أن نفعل؟ إما أن نتحرك ونحرك الأمور، واما أن نستسلم للمقادير. ينبغي أن نفعل شيئا تجاه الحالة الراهنة. لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي تجاه ما يجري. ان تجربة المسيحية في القرن التاسع عشر مع الحداثة تدلنا على أننا نقف أمام سيكولوجيا دينية مشتركة لدى الأصوليين المسلمين كما لدى الأصوليين المسيحيين. وهذا أكبر دليل على أن نفس المناهج تنطبق على جميع التراثات الدينية. واعتقد أن العلوم الانسانية والاجتماعية سوف تغتني وتنال مصداقية أكبر اذا ما طبقت على التراث الاسلامي. وذلك لأنها حتى الآن لم تطبق الا على التراث المسيحي الأوروبي. وهذا لا يكفي لترسيخ مصداقيتها. ينبغي أن نطبقها على تراث ديني آخر طويل عريض كالتراث الاسلامي لكي نمتحن مدى مصداقيتها ومصداقية مناهجها ومصطلحاتها أكثر فأكثر. في الواقع ان هذا ما كان المستشرقون الكبار قد ابتدأوا يفعلونه منذ القرن التاسع عشر. وقد أثارت أبحاثهم ردود فعل هائجة في أوساط المحافظين الاسلاميين، مثلما أثارت أبحاث زملائهم ردود فعل الأوساط المسيحية المحافظة عندما طبقت ذات المناهج على التراث المسيحي. هكذا تجد أن المقارنة تضيء لنا الأمور حقا، ولا ينبغي أن نظل مسجونين أو منغلقين داخل جدران بيتنا أو تراثنا. وانما ينبغي أن ننفتح على التراثات الأخرى لكي نرى ماذا يحصل فيها. ماذا أقصد بالنفسية الدينية المشتركة لدى المسلمين كما لدى المسيحيين؟ أقصد أنه ما إن تتشكل العقلية الجماعية طيلة عدة قرون من خلال التعليم المدرساني (أوالسكولاستيكي = من سكولا، أي مدرسة باللاتينية)حتى يصبح من الصعب جدا تحرير العقول في هذه العقلية التقليدية المكرورة أبا عن جد. ما إن تنجبل هذه العقلية الجماعية كالا سمنت المسلح من خلال أداء الفرائض والشعائر اليومية والاعياد الدينية حتى يصبح من الصعب جدا تحرير الناس من العقلية الشعائرية. ولكن الفرق بين الجهة المسيحية الأوروبية / والجهة العربية الاسلامية هو أن الجهة الاسلامية لم تتعرض للدراسة العلمية حتى الآن، وكنا نتوقع أن يحصل ذلك بعد نيل الاستقلال. ولكن معظم الأنظمة السياسية راحت تحافظ عل التعليم التقليدي للدين، أي التعليم الضيق والمبتسر. وراحت تفصل بين تعليم الدين من جهة / وبين تدريس العلوم الانسانية والفلسفية من جهة أخرى. بل ونلاحظ أن العلوم الانسانية لم تدخل في برامجنا التعليمية بشكل كاف حتى الآن، هذا اذا ما دخلت. كيف يمكن للأمور أن تتطور أو ان تتزحزح عن مواقعها التقليدية في مثل هذه الظروف؟ ولماذا تستغرب انتصار تيار الاسلام الأصولي الضيق والمتزمت على تيار الاسلام العقلاني والمنفتح والمتسامح؟ لا يحق لنا اطلاقا أن ندهش لما يحصل اليوم. ما يحصل تحت أعيننا اليوم في الجزائر أو مصر أو افغانستان أو باكستان..الخ شيء طبيعي جدا ومفهوم ولا ينبغي أن يثير أي استغراب، يوجد اذن تأخر مريع في التدريس الجامعي العربي _ الاسلامي. وتعكس ذلك مقالات كل الصحف والمجلات والكتب. ويكفي أن نفتحها لكي نتأكد من ذلك. وتعكسه أيضا كل المناقشات التكرارية والاجترارية الجارية في العالم العربي حاليا. انها تكرر نفس الكلام وتقول : لا، لا. لا تخلطوا بين جميع المسلمين وبين الأصوليين. فالأصولية شيء والاسلام شيء آخر. ولكن هذا كلام امتثالي كسول لا يصمد أمام الامتحان. انه غير مقبول اذا ما نظرنا الى الأمور من الناحية التاريخية. وذلك لأنه يوجد في النسخة الأصولية للاسلام شيء من الفكر الاسلامي. وهذا الشيء هو الفكر الأصولي المعتمد على أصول الدين وأصول الفقه. وهذه الأصولية التي تشكل المرجعية الكبرى للمسلمين اليوم لم تتعرض حتى الآن لمراجعة نقدية جادة على ضوء علم التاريخ الحديث، وعلم الالسنيات الحديثة، وعلم الاجتماع وعلم النفس التاريخي وبقية العلوم الانسانية والاجتماعية، لا تزال أصول الفقه وأصول الدين تدرس حتى اليوم في كليات الشريعة والمعاهد التقليدية كما كانت تدرس في القرون الوسطى! فكيف تريد اذن أن ينهض جيل عربي أو اسلامي جديد جيل منفتح ومتحرر من عقلية القرون الغابرة؟ بل ان هذه الأصول كانت تدرس في العصور الوسطى الأولى بشكل أفضل مما هو عليه الحال اليوم. لماذا؟ لأنه كانت تحصل آنذاك مناظرات بين المذهب الشافعي والحنفي والمالكي، بل وحتى بين المذهب السني والمذهب الشيعي. ظلت المناظرات تحصل بشكل سلمي بين الشيعة والسنة حتى القرن العاشر الميلادي، أي اثناء الفترة التعددية المبدعة من عمر الحضارة العربية - الاسلامية. ثم انقطعت بعدئذ وأصبح هذان المذهبان معزولين عن بعضهما البعض، بل ومتخاصمين طيا وكأنه يفصل بينهما سور الصين !.. أصبحا وكأنهما لا ينتميان الى نفس الدين، أو نفس القرآن، أو نفس النبي... لقد اختفى الحوار السني _ الشيعي عمليا من الساحة بعد القرن الحادي عشر الميلادي وانتصار السلجوقيين. السلجوقيون الاتراك هم الذين دشنوا العزلة التاريخية بين المذاهب الاسلامية وهم الذين اقفلوا باب الاجتهاد وقضوا على التعددية العقائدية في أرض الاسلام. ولذلك يؤرخ لعصر الانحطاط ببداية عهدهم.

هنا نصل الى الغزالي الذي كان المنظر الفكري الأكبر للسلجوقيين. ألقى حسن حنفي هنا في باريس محاضرة منذ فترة وقال فيها بما معناه : ان أصل العلة التي نعاني منها اليوم تعود الى عصر الغزالي. فهو الذي قضى على التعددية داخل الفكر الاسلامي منذ ذلك الوقت، وهو الذي حارب الفكر الفلسفي والعقلاني وذلك عندما فرض حديث الفرقة الناجية الذي يقول بأن هناك فرقة اسلامية وحيدة في الجنة وبقية الفرق في النار. وهكذا خلع المشروعية على الاتجاه الواحد والرأي الأوحد منع التعددية منعا باتا. ولا تزال على هذا الوضع حتى اليوم. ما رأيك؟

- أركون : ليس فقط الغزالي. الغزالي عامل من جملة عوامل أخرى. ولا ينبغي أن نفسر ظواهر التاريخ الكبرى عن طريق تأثير الأفراد فقط، وانما عن طريق الحركات الاجتماعية أو البنيات الاجتماعية العميقة. البنية الاجتماعية الضخمة هي التي تحتضن الشخصية الفردية مهما تكن ألمعيتها، وليس العكس. ينبغي الا نسقط في منهجية تاريخ الأفكار التقليدي (أو المثالي) الذي كان سائدا في الجامعة قبل ظهور العلوم الانسانية الحديثة. لماذا أركز في حديثي كثيرا على أهمية العلوم الانسانية أو الاجتماعية؟ لكي أثبت ان المجتمع هو الأول وليس الفرد، حتى لو كان هذا الفرد شخصية عبقرية في حجم الغزالي. هذا لا يعني بالطبع التقليل من أهمية الدور الذي تعلبه الشخصيات الكبرى في التاريخ. فالغزالي ساهم في انتصار الاسلام المدرساني السكولاستيكي المعادي للفلسفة، ولكنه لم يخلق ذلك من العدم. الظاهرة سبقية وكانت موجودة قبله. وهو نظر لها بكل ذكاء هذا كل ما في الأمر. فظاهرة معاداة الاتجاه الفلسفي والعقلاني في الاسلام سابقة على الغزالي. انها تعود الى ابن بطة (انظر عقيدة ابن بطة) والى الاعتقاد القادري الذي قرأه الخليفة على رؤوس الأشهاد والى نصوص أخرى. ومن المعلوم أن الخليفة القادر أعلن حربا شعواء على فكر المعتزلة واستطاع أن يقضي عليه في نهاية المطاف.

انت تضع مشروعك الفكري كله تحت العنوان العريض التالي : نقد العقل الاسلامي. ماذا تقصد بذلك؟

- أر كون : هذا المشروع ولد لأول مرة أثناء اشتغالي على أطروحتي لدكتوراة الدولة عن مسكريه (الانسانية العربية في القرن الرابع الهجري: مسكريه فيلسوفا ومؤرخا). وابن خلدون سيشهد عن طيبة خاطر مسكوية، مما يدل على أهميته. لقد فتح لي هذا المفكر أفاقا واسعة لأني وجدت لديه حرية مدهشة في التفكير قياسا الى دوغمائية العقل الديني السائد. ووجدت أنه يستخدم العقل على طريقة فلاسفة اليونان. لقد هضم فعلا الفكر الاغريقي الذي كانت نصوصه قد ترجمت سابقا الى العربية قبل أن يولد مسكريه ويترعرع في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. وتبنى هذا الفكر المسلم العقل النقدي الفلسفي بكل أبعاده. ثم التقيت بعدئذ بمفكرين آخرين من عصر مسكريه وفي طليعتهم أبو حيان التوحيدي. وهكذا كتبت أطروحة كاملة عن ذلك الجيل الثقافي، جيل مسكريه والتوحيديه. ومن المعلوم انهما ألفا عن طريق المراسلة، أو الأسئلة والأجوبة، كتابا مشتركا هو : كتاب "الهوامل والشوامل ". ولا أجد له مثيلا في اللغات الأخرى. انه أحد كنوز التراث العربي - الاسلامي. نعم لقد حررتني قراءة مسكريه والتوحيدي من العقلية الدوغمائية الضيقة، هذه العقلية التي لا تزال مسيطرة علينا للأسف حتى اليوم.

كيف نسينا كل هذه الكنوز التراثية؟ كيف أهملناها؟

- أركون : ينبغي أن تعلم أن العرب يعانون من قطيعتين معرفيتين لا قطيعة واحدة : الأولى مع تراثهم الكلاسيكي المبدع، تراث المعتزلة والفلاسفة من الفارابي الى ابن سينا الى ابن رشد الى ابن خلدون الخ.. وقطيعة مع الحداثة الأوروبية التي ابتدأت تنهض منذ القرن السادس عشر. هكذا كانت حالتنا أثناء عصور الانحطاط الطويلة : نسينا تراثنا المبدع وانقطعنا عن حركة الحضارة التي كانت صاعدة في أوروبا. فلم نستفد من هذا ولا من تلك ونحن نعاني من الآثار السلبية لهاتين القطيعتين ونحاول أن نستدرك ما فات بصعوبة كبيرة.

ما الفرق بين مشروعك لنقد العقل الاسلامي، ومشروع الجابري لنقد العقل العربي؟

- أركون : أعتقد أن الجابري يساهم في حركة الاستهلاك الايديولوجي للتراث. بمعنى آخر فانه يحاول أن يظهر مزايد الفترة الكلاسيكية (أو العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية - الاسلامية) ويحاول أن يقنع عرب اليوم بأنه كان لهم يوما ما ماض مجيد، وأنهم يستطيعون أن يعتمدوا عليه لكي يواجهوا الحداثة الأوروبية. ولكن المشكلة هي أن الحل لا يكمن في الاستهلاك الايديولوجي للتراث، والافتخار بالآباء والأجداد. وانما يكمن في اعتبار هذا التراث كنقطة انطلاق للحاق بركب الحضارة والعصر. فالتراث العربي _ الاسلامي في العصر الكلاسيكي يبقى سجين المناخ العقلي القروسطي على الرغم من أهميته وعظمته. انه ليس هو الحل وانما الوسيلة التي اذا ما عرفنا كيف نستخدمها ونطورها ونتجاوزها استطعنا أن نصل الى الحل. يضاف الى ذلك أن مفهوم العقل الاسلامي أكثر محسوسية من مفهوم العقل العربي. فالعقل الاسلامي موجود في النصوص والعقول، وبامكاننا أن نقبض عليه بشكل واضح وملموس. ونحن نصطدم به كل يوم وبالتالي فإن دراسته دراسة نقدية تاريخية - لا تجريدية ولا تأملية - أمر ممكن. بل إن نقد العقل الاسلامي بهذا المعنى يشكل الخطوة الأولى التي لابد منها لكي يدخل المسلمون الحداثة، لكي يسيطروا على الحداثة. والواقع أن الجابري تحاشى استخدام مفهوم "نقد العقل الاسلامي"، واستبدل به " نقد العقل العربي" لكي يريح نفسه ويتجنب المشاكل والمسؤوليات. هذه حيلة واضحة لا تخفى على أحد. المشكلة المطروحة علينا اليوم وغدا هي مشكلة نقد العقل الاسلامي لأن العقل العربي نفسه هو عقل ديني، أو قل لم يتجاوز بعد المرحلة الدينية من الوجود. فكيف يمكنك أن تنقد العقل العربي دون أن تنقد العقل الديني؟!… هذا مستحيل. وبالتالي فإن العقل اللاهوتي القروسطي المسيطر علينا منذ مئات السنين يشكل المهمة الكبرى للثقافة العربية بمجملها. وبدون القيام بهذا العمل فلا تحرير ولا خلاص. والدليل على ذلك ما يحصل الآن. هذا لا يعني بالطبع أن الجابري لم يفعل شيئا. فمحاولته مفيدة بدون شك، وهي من أهم المحاولات الموجودة في الساحة العربية. ولكنها لا تكفي ولا تشفي الغليل. ينبغي تجاوزها الى ما هو أعمق منها وأبعد. باختصار ينبغي الدخول في صلب المشاكل الحقيقية وعدم تحاشيها بحجة مراعاة الشعب أو الجماهير أو "العامة ".. الخ. ينبغي أن يصل النقد الى جذور الأشياء لا أن يكتفي بدغدغتها أو ملامستها مسا خفيفا.

لماذا شهد الغرب عصر النهضة أو القطيعة مع العصور الوسطى ولم نشهدها نحن؟

- أركون : نحن شهدنا عب محاولتين للنهضة ولكنهما أجهضتا. الأولى حصلت في العصر الكلاسيكي كما قلنا، والثانية حصلت في القرن التاسع عشر. ولو أتيح للنهضة الأولى بأن تستمر لكنا استلمنا زمام الحركة التاريخية ولكنا صدرنا التنوير الفكري الى أوروبا، أو على الأقل كنا سبقناها الى هذا التنوير. والواقع اننا كنا السابقين في مجال العلوم والآداب والفلسفة طيلة القرنين التاسع والعاشر الميلاديين / أي الثالث والرابع للهجرة. وقد أخذت عنا أوروبا الكثير بدءا من القرن الثاني عشر ولكن هذه النهضة الفكرية الرائعة لم تعش طويلا للأسف. ولم تحظ بدعم طبقة اجتماعية منفتحة كطبقة البورجوازية في أوروبا. ومعلوم انه لولا تشكل هذه الطبقة وانفتاحها على الأفكار الحديثة ودعمها لفلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر لما نجحت أوروبا في صنع الحضارة التي نشهدها أمام أعيننا اليوم. فالطبقة البورجوازية هي التي كسرت الحواجز والحدود الاقطاعية داخل المجتمع، وهي التي أزاحت طبقة النبلاء القديمة عن مواقعها، وهي التي ساهمت في تشكيل الحداثة، ولكن طبقة البورجوازية التجارية التي ازدهرت عندنا أيام المأمون وخلفائه والتي دعمت الفكر التنويري للمعتزلة والفلاسفة سرعان ما ذبلت وماتت بسبب تحول الخطوط التجارية عن العالم العربي _ الاسلامي واما نهضتنا في القرن التاسع عشر والتي استمرت حتى مشارف الخمسينات من هذا القرن فقد اجهضت أيضا لعدة عوامل داخلية وخارجية. ولا نزال ننتظر حصول النهضة من جديد. فحتى لو فشلنا في النهوض الف مرة، ينبغي أن نحاول مرة أخرى، أي المرة الواحدة بعد الألف.. كل ما نفعله الآن هو التمهيد لعصر نهضة عربي واسلامي مقبل. ولكن ذلك لن يتم الا عن طريق فكر جديد.

هل يوجد مثقفون نقديون يطبقون المناهج الحديثة على دراسة التراث الاسلامي؟

أركون : شعوري انه لا يوجد حتى الآن أي مثقف مسلم يتجرأ على الحفر عن جذور المشكل. لا ريب في أن هناك محاولات ولكنها لا تذهب بعيدا. ينبغي أن نعلم أن الفكر العربي _ الاسلامي قد توقف عن العطاء منذ ابن رشد) 1198 م) وابن خلدون (1406م). وبالتالي فقد تراكمت قارة من اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه في الساحة الاسلامية على مدار كل هذه المدة الطويلة. هذا يعني أن هناك فجوة تاريخية ضخمة وينبغي سدها أو ردمها. بالطبع ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار ما حصل في عصر النهضة في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. فالنهضويون من أمثال طه حسين وغيره يعتبرون امتدادا لابن رشد وابن خلدون. ولكن هذا التيار العقلاني _ النقدي لم يستمر في العقود الأخيرة لأسباب عديدة داخلية وخارجية. ويمكن القول بأن الدراسة التاريخية النقدية للتراث الاسلامي كانت تؤجل باستمرار طيلة هذه العقود. وقد تم التأجيل باسم ضرورات النضال ضد الاستعمار. وكان ذلك أمرا مفهوما في وقته ومشروعا. فتحرير الإرادة الوطنية يشكل أولوية الأولويات. والتراث هو الذي يقدم العاصم المنيع للشخصية الجماعية والوطنية وبالتالي فلا يمكن نقده في زحمة الصراع ضد المستعمر أو في حالة وجود خطر خارجي. ولكن الأمور تغيرت الآن. وبعد أن تفرغنا لأنفسنا أصبحت هذه الدراسة النقدية ملحة أكثر فأكثر، وذلك من أجل التحرر من الصيغة الدوغمائية المتحجرة للتراث. فبعد التحرير الخارجي جاء وقت التحرير الداخلي. وما انتشار الحركات الأصولية الحالية بمثل هذه القوة الا أكبر دليل على ضرورة الانخراط في هذه الدراسة النقدية العميقة للتراث.
ياسر الشريف المليح
مشاركات: 1745
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:24 pm
مكان: ألمانيا
اتصال:

مشاركة بواسطة ياسر الشريف المليح »

سأعود للتعليق، وأرجو أن تحرض المقابلة مزيدا من التعليق والنقاش حول مسألة الأصولية السلفية وسيادة الخطاب السلفي في العالم الإسلامي حتى الآن..
ياسر الشريف المليح
مشاركات: 1745
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:24 pm
مكان: ألمانيا
اتصال:

مشاركة بواسطة ياسر الشريف المليح »

وهذه مقالة للكاتب الصحفي هاشم صالح في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 30 مايو 2003 عن مشروع أركون:

محمد أركون ومشروعه

كثيراً ما طرح عليّ هذا السؤال: لماذا كل هذا الإلحاح على اركون؟ ألا تعتقد بأنك تبالغ في أهميته؟، وما هو الشيء الذي قدمه للفكر العربي أو الإسلامي؟.. وأعترف بأن التساؤل كان يحيّرني ويدهشني في كل مرة، فقد كنت اعتقد بأن الترجمات التي قدمتها حتى الآن (حوالي العشرة كتب وآلاف الصفحات..)، كافية للبرهنة على أهمية هذا المشروع وضرورته بالنسبة للعرب والمسلمين ككل. وأنا واثق من أن هذه الأهمية، سوف تتجلى للناس أكثر فأكثر بمرور الأيام، وإلا فإني أكون قد أضعت خمسة وعشرين عاماً من عمري عبثاً!..

عندما ابتدأت بترجمة اركون لم تكن مشكلة الأصولية المتعصبة قد أصبحت الشغل الشاغل للناس، كما هو عليه الحال في هذه الأيام، كانوا يضحكون عليك وأنت ذاهب لحضور دروسه في السوربون عن الفكر الإسلامي، كانوا يقولون لك بأننا تجاوزنا مرحلة الفكر الديني وأصبحنا ماركسيين، تقدميين من آخر طراز!، فما بالك تشغل نفسك بأشياء قديمة عفى عليها الزمن؟.

الشيء الذي كان يثير استغرابي لدى بعض المثقفين العرب «التقدميين»، هو الهشاشة والسطحية، لكيلا أقول المراهقة الفكرية. وكنت أجد عكس ذلك تماماً في الدرس الأسبوعي الشهير لاركون. فالرجل يأخذ التراث الديني على محمل الجد، ويعرف قيمته ووزنه التاريخي، ويعرف أن تجاوزه لا يمكن أن يتم بشكل ناجع، إلا من خلال مقارعته والدخول معه في معركة المصارحة الفكرية المفتوحة على مصراعيها.

لماذا نجح مشروع اركون وفشلت كل مشاريع تجديد التراث أو نقد العقل العربي أو سوى ذلك؟، لسبب بسيط، هو انه يذهب إلى المشاكل الأساسية ولا يتحاشاها. ينبغي القول هنا بأن وجوده في جامعة أجنبية، يؤمّن له حرية في التفكير لا يمكن ان توجد في أي جامعة عربية، خاصة عندما يتعلق الأمر بتحليل الفكر الديني، وبالتالي فهناك بعض الأعذار لأصحاب المشاريع الأخرى الذين لا يتمتعون بهذا الامتياز، ويخافون بالتالي من طرق الموضوعات المحرمة، لكن هذا لا يكفي وحده لتفسير سبب نجاح الرجل في تشخيص المشاكل الأساسية للفكر الإسلامي. هناك أسباب أخرى ليس أقلها السيطرة الكاملة على المصطلح والمنهج، ثم المقدرة على تطبيق العلوم الإنسانية على تراثنا العربي الإسلامي من دون أن يبدو ذلك تعسفياً وكأنه مقحم من الخارج، يضاف إلى ذلك الجرأة الاقتحامية لمفكر شديد المراس.

من يجرؤ على دراسة ظاهرة الوحي من وجهة نظر تاريخية ومقارنة؟، من يعرف كيف يطرحها من خلال ثلاثة تراثات دينية توحيدية وليس تراثاً واحداً ومن دون أن يقطعها بالضرورة عن مفهوم التعالي؟، من يعرف كيف يطبق على النص القرآني ثلاثة منهجيات متتالية: المنهجية الألسنية أو اللغوية الحديثة، فالمنهجية التاريخية والسوسيولوجية، فالمنهجية الفلسفية؟، بعدئذ تشعر وكأن القرآن قد أُضيء لك من كافة جوانبه واتخذ كل معانيه وأبعاده من خلال ربطه بلحظته التاريخية التي ظهر فيها: أي القرن السابع الميلادي، ثم من خلال ربطه بالنصوص الأخرى التي سبقته، وبعدئذ تشعر وكأنك قد تحررت من أثقال الماضي ونفضت عن ذاتك غبار القرون المتطاولة، بعدئذ تشعر وكأنك قد وصلت إلى المنبع الأساسي، إلى أصل الأصول، إلى غاية الغايات.

لذلك قلت أكثر من مرة بأن منهجيته في دراسة التراث تشبه التحليل النفسي بالضبط، فهي تؤدي إلى تحرير الشخصية العربية ـ الإسلامية من الداخل، ودرجة درجة، خطوة خطوة. انها تحرر الإنسان المسلم من كل التصورات الخاطئة او الرؤى الغيبية والأسطورية التي تربّى عليها وتشرّبها بشكل عذب مع حليب الطفولة. لقد تربّى عليها وكأنها حقائق يقينية لا تناقش ولا تمسّ، ثم يجيء اركون لكي يفكّك له كل ذلك حجرة حجرة، وجداراً جداراً، ويقول له كيف حصلت الأمور بالضبط، وعندئذ يفهم عبارة نيتشه المرعبة «آه أيتها الحقيقة، يا أكبر كذبة في التاريخ!»، عندئذ يتمكن من تشكيل صورة تاريخية ناضجة عن تراثه ويحقق مقولة كانط، فيلسوف التنوير الأكبر، ومعلوم أنه كان يعرّف التنوير على أساس انه انتقال البشرية من مرحلة التصور العقلي والتصورات الطفولية الساذجة، إلى مرحلة سن الرشد والبلوغ العقلي.

متى ستنضج البشرية الإسلامية وتستنير فكرياً؟، عندما تقبل بأن تخرج من مرحلة «الطفولة العقلية» وتدرس ماضيها بطريقة علمية، كما فعلت الأمم المتقدمة في أوروبا، هل تعتقدون بأن التراث المسيحي لم يكن عزيزاً على قلوب الأوروبيين الذين جُبلوا به جبلاً طيلة ثمانية عشر قرناً؟، ومع ذلك فقد ابتدأوا منذ القرن الثامن عشر، أي منذ عصر التنوير، بل وحتى قبل ذلك بقليل، بدراسته على ضوء العقل والعلم وحقائق التاريخ. ولم يعودوا يتقبلونه بشكل تسليمي جاهز، كما كانوا يفعلون سابقاً. ولم يمت تراثهم بعد هذه العملية الجراحية الخطيرة، إنما أصبح أكثر تسامحاً وحرية.

على هذا النحو خرجوا شيئاً فشيئاً من الفضاء العقلي للقرون الوسطى ودخلوا في الفضاء العقلي للعصور الحديثة، ومن قال لكم بأننا لن نشهد نفس الظاهرة، بل واننا انخرطنا فيها حالياً؟، من قال بأن التخلص من التأويل القديم ـ إن لم نقل الخرافي ـ للتراث الديني، يعني خيانة الدين أو المساس بثوابت الأمة ومقدساتها؟، لن ينتهي الدين بعد عملية التنوير، إنما سوف يتخذ حلّة جديدة ومفهوماً آخر، بل سوف أقول بأن جوهر الدين لن يظهر، أو لن ينكشف، إلا بعد القيام بهذه العملية التعزيلية الهائلة من النقد التاريخي. أما الآن، فتغطي عليه طبقات من القشور المتراكمة وأكداس الغبار. انظر إلى الكتب الصفراء القديمة، أقول ذلك وأنا اعتذر للمعري:

وقبيح بنا وان قدم العهد

هو ان الآباء والأجداد..

لكن يبقى صحيحاً القول بأن عملية الانتقال من التصور اللاهوتي القمعي للقرون الوسطى إلى التصور العلماني الحر للعصور الحديثة، لن تتم من دون نزيف داخلي حاد واختلاجات هائجة. وهذا ما يحصل الآن بالضبط، فكلما اقتربنا من حقيقتنا المطموسة اكثر زاد النزيف والاختلاج، وهنا يكمن وجه الشبه في عملية التحليل النفسي، مع الفارق هو ان التحليل هنا يشمل مليار شخص، فمن المعروف انه كلما اقتربت من العقدة النفسية الرهيبة التي تشكلت في أعماقك أثناء فترة الطفولة الأولى، زاد هيجانك ورعبك. ومن المعلوم انك ستحاول تأجيل لحظة المواجهة الصاعقة للذات مع ذاتها إلى أقصى حد ممكن وسوف تحاول بألف وسيلة ووسيلة أن تتحاشاها، لكن هذا الاقتراب أو تلك المواجهة تشكل شرطاً لا بد منه لتحريرك. كذلك الأمر فيما يخص التراث الديني وحقائقه الدفينة، فكلما اقتربنا من منطقة الحقائق الكبرى التي تشكلت أثناء العصور الأولى، كلما زادت اختلاجاتنا الهائجة. واللحظة الأصولية التي نعيشها الآن ونكتوي بحرّ نارها، ليست إلا تعبيراً عن هذا الوضع. لذلك قلت اكثر من مرة واقول الآن بأن الظاهرة الأصولية ليست إلا محاولة يائسة ـ آخر محاولة ـ لتأجيل عملية المواجهة التاريخية للذات الإسلامية مع ذاتها. فهناك خوف مرعب من ان تنكشف الحقائق الكبرى للتراث، إذا ما طبقنا عليه المنهج التاريخي. هناك خوف من أن نفقد الكثير من تصوراتنا الراسخة التي عشنا عليها منذ مئات السنين، ولهذا السبب لوحق المفكرون في أوروبا، بل وتعرضوا أحياناً للتصفية الجسدية عندما اقتربوا من منطقة الحقائق الساخنة للتراث المسيحي، لكن الأوروبيين لم يقلعوا حضارياً إلا بعد أن اقتربوا منها وصفّوا حساباتهم مع التركة الثقيلة للماضي. ولهذا السبب يُلاحق المثقفون في العالم العربي والإسلامي اليوم، فهناك يد خفية، جماعية، جبارة، تريد ان تمنعهم من الاقتراب من تلك المنطقة المحرمة، فلنحاول اذن ان نقترب منها بهدوء، وعلى مراحل، كما يفعل اركون، لنحاول ان نراعي الحساسية العامة للشعب، وان نسير به وبأنفسنا شيئاً فشيئاً نحو نور الحقيقة..
ياسر الشريف المليح
مشاركات: 1745
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:24 pm
مكان: ألمانيا
اتصال:

مشاركة بواسطة ياسر الشريف المليح »

وهذه مقالة جديدة نسبيا للكاتب هاشم صالح "هل تغير أركون؟" أيضا في الشرق الأوسط بتاريخ 14 أبريل من هذا العام 2005، أرجو أن تكون إضافة لما سبقها..

هل تغير محمد أركون!

مثلما كانت الامبراطورية العثمانية هي الرجل المريض في القرن التاسع عشر، فإن العالم العربي أصبح هو الرجل المريض بالنسبة للعالم كله بعد (11) سبتمبر. وقد كثرت التشخيصات لهذا المرض العضال. فمن تقرير التنمية الانسانية في العالم العربي والصادر عن الأمم المتحدة أخيرا، الى تحليلات هذا الخبير، وذاك ما عدنا بقادرين على ان نعد المشاريع التي تدرس مشاكلنا وهمومنا. في مثل هذا الجو وصلني بالبريد كتاب محمد اركون الأخير عن «النزعة الانسانية والاسلام.. معارك فكرية ومقترحات من أجل الخروج من الأزمة». وقد انخرطت في قراءته من دون أن أكمله حتى الآن. وكنت تواقاً لمعرفة ما اذا كانت قد طرأت بعد التطورات على مواقفه من هذه المسألة الشائكة: أي مسألة سبب انحطاط المسلمين المزمن والطويل. فإذا بي أجد ضالتي بعد ان كنت خائفاً. كنت أعرف مواقفه السابقة وأشاطره بعضها واختلف معه في بعضها الآخر، والشيء الذي كان يزعجني لديه هو تركيزه على نقد التنوير الأوروبي والعلمانية الفرنسية والحداثة بشكل عام. كان من كثرة تركيزه على ذلك، يكاد ينسى نقد الأصولية المتزمتة والمتحجرة التي تضرب بأطنابها في كل أنحاء العالم العربي والاسلامي.

وأتذكر اني قلت من قبيل انعقاد المؤتمر التدشيني «للمؤسسة العربية للتحديث الفكري» في بيروت، وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي أرجو ألا تكثر من نقد العلمانية هناك، وان تتذكر انك في بيروت، أي في البلد الذي عانى اكثر من غيره من صراع المذاهب والأديان.

ثم أردفت بنوع من الغضب والانفعال (على الهاتف) قائلاً: لقد حصلت عدة حروب أهلية هناك، وسالت الدماء أنهاراً بسبب الأصوليات المتحجرة والضيقة. وبالتالي فمشكلتهم ليست الانحرافات أو التطرفات التي طرأت على العلمانية الفرنسية، وانما العكس تماما.

وبالتالي فحذار من نقد التنوير أو الحداثة بأي شكل. فلكل مقام مقال.. يمكنك ان تفعل ذلك في باريس أو لندن أو برلين، حيث لا يؤدي نقدك الى الاطاحة بالعقلانية، ولكن ليس في بيروت... بعد ان تركني أفرغ شحنة غضبي كلها رد قائلاً: صحيح، صحيح. ولكني عندما أنتقد انحرافات التنوير والحداثة، فإني افكر في مصلحة الشعوب الأوروبية والاسلامية في آن معاً، وان كنت اعترف بأن الحاجيات الفكرية مختلفة هنا أو هناك. ولم يقنعني رده كثيراً..

والآن ماذا حصل؟ هل غير موقفه في كتابه الأخير؟ هل عدل منه؟ يخيل إليَّ أن نعم. صحيح انه كان يقول في السابق بضرورة تطبيق المنهج العلمي أو التاريخي على التراث العربي الاسلامي بكل صرامة ودقة موضوعية.

وصحيح انه كان يمارس هذا التطبيق عملياً من خلال مشروع عمره الطويل العريض: نقد العقل الاسلامي. وصحيح أنه كان يعترف بدور التنوير والطبقة البورجوازية في تغيير أوضاع أوروبا والانتقال بها من المرحلة الاقطاعية الاصولية، المسيحية، الى المرحلة الحديثة والتنويرية: أي مرحلة حقوق الانسان والمواطن، المرحلة الديمقراطية.

ولكنه كان يمر مرور الكرام على ذكر التنوير ويتحاشى التوقف عنده طويلاً. أو قل انه بعد ان يتوقف عنده كان كثيراً ما يحذر من سلبياته من دون ان ينكر ايجابياته بالطبع.

أما الآن، وفي هذا الكتاب، فإنه يعترف صراحة بضرورة ان تمر الشعوب العربية والاسلامية بالمرحلة التنويرية، مثلما حصل للشعوب الاوروبية بدءاً من القرن الثامن عشر. أعترف بأن توصله الى هذه النتيجة بكل وضوح وجلاء أثلج صدري وقلَّص المسافة النفسية والفكرية التي كانت تفصل بينه وبيني. في السابق كنت متفقاً معه على المرحلة التفكيكية من العمل على الأقل: أي تفكيك الانغلاقات التراثية المتحجرة والمتحنطة. وكان بارعاً في ذلك كل البراعة ولا يكاد يضاهى.

كان يمارس عملية النقد ـ ولا يزال ـ بكل تمكن واقتدار. كنت أعرف أني أمشي معه حتى منتصف الطريق. وبعدئذ نفترق لكي أقطع ما تبقى من المسافة لوحدي. وكنت أقول بيني وبين نفسي: هذا يكفيني منه ولا ينبغي أن أكون طماعاً أكثر مما يجب! يكفي ان تجد مفكراً كبيراً يمشي معك في نفس الاتجاه، بل ويشق لك الطريق ويقوم بالعمل الصعب والتعزيل الرهيب، ثم يتركك بعدئذ تكمل المسيرة لوحدك في طريق مفتوحة وممهدة...

ولكن يخيل اليَّ انه بعد ضربة (11) سبتمبر ثم بالاخص بعد ضربة (11) مارس في مدريد راح يغير مواقفه النقدية، أو قل راح يجعلها راديكالية اكثر. لم يعد يراعي التيار التقليدي، ويجامله اكثر مما ينبغي، كما كان يفعل سابقاً. لقد أجبرته هذه التفجيرات التاريخية والمأساوية على استشعار حجم المرض العضال بعد ان استفحل في أحشاء المجتمعات العربية والاسلامية، ووصل الى ذروته القصوى. ولذلك قال في هذا الكتاب الجديد ما يلي: لقد أجبرت المسيحية الأوروبية، ودائماً بعد مقاومات عنيدة وتأخر زمني، على هضم مكتسبات الحداثة العلمية والفلسفية والقبول بها. ولكن ليست هذه هي حالة الاسلام، ولا اليهودية، ولا المسيحية الشرقية الارثوذكسية التي لم تشهد مجتمعاتها نفس الخضة العلمية والفلسفية التي شهدتها مجتمعات أوروبا الغربية بدءاً من القرن السادس عشر.

ولهذا السبب فإن القوة الانغلاقية والدوغمائية للتراث اللاهوتي هي أقوى لدينا بكثير مما هو عليه الحال في المجتمعات الأوروبية المحررة والمتقدمة. وهذا ما يفسر سبب الانتشار الواسع والضخم للحركات الاصولية المضادة للنزعة الانسانية بشكل صارخ. وأكبر دليل على ذلك هو أن أنور الجندي يشن هجوماً صاعقاً على طه حسين زعيم النزعة الانسانية الحديثة في الفكر والآداب العربية من دون ان يحرك أحد ساكناً للدفاع عنه. انظر كتابه: طه حسين في ميزان الاسلام. وكما ان اصحاب التقليد والاجترار قضوا على الفكر الفلسفي العقلاني في الماضي، أي فكر ابن رشد وابن سينا وابن خلدون، فإن التقليديين اليوم يريدون ان يقضوا على الفكر المستنير والمنهج العقلاني في العالم العربي.

وبالتالي فالمعركة قديمة جديدة. والأزمة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ العربي ـ الاسلامي. ومثلما ان ابن قتيبة كان يهاجم «العلوم الدخيلة» في وقته (أي الفلسفة اليونانية)، فإن أصوليي اليوم يهاجمون «الغزو الفكري» للغرب. على هذا المستوى من العمق ينبغي ان تموضع المشكلة لكي نفهمها على حقيقتها. وبالتالي فلا تكفي التحليلات السطحية السريعة لتقرير التنمية الانسانية في العالم العربي بمواجهة الوضع المستفحل خطورة. فالمرض أكثر عمقاً وتجذراً مما يظنون..
ياسر الشريف المليح
مشاركات: 1745
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:24 pm
مكان: ألمانيا
اتصال:

مشاركة بواسطة ياسر الشريف المليح »

الأخ خضر
تحية وشكرا على المرور والتعليق..

نعم، وما يعجبني حقا هو أن المفكر محمد أركون لا يفصل بين المسلم التقليدي في زمننا هذا والمسلم الأصولي المتشدد.. فهو يقول في المقابلة أعلاه :


والمسلم التقليدي، أو الأصولي، لا يختلف موقفه في شيء عن موقف المسيحي التقليدي Ji اليهودي التقليدي. فكل واحد منهم منغلق داخل تراثه ويعتبره وكأنه مطلق ولا يوجد أي شيء آخر غيره، أو قل إن غيره خاطيء وضال. أقصد بالموقف التسليمي العاطفي أولئك الذين يريدون التحدث عن الاسلام فقط من خلال ايمان تقليدي يرفض كل مسار تحليلي، عقلاني علمي، ومادام هذا الرفض سائدا فمن المستحيل أن نتقدم خطوة واحدة الى الامام وبالتالي فإن النقد التاريخي المحرر ينبغي أن يطبق على الأصوليين وغير الأصوليين : أي على الفكر التقليدي بشكل عام.

بل يذهب في فقرة أخرى ليقول:

هذا الموقف السلبي في العلوم الانسانية والاجتماعية ليس فقط حكرا على الأصوليين وانما هو موقف جمهرة المثقفين العرب والمسلمين حتى الآن.
بالطبع هناك استثناءات ولحسن الحظ أن هناك استثناءات. وهكذا يظل المسلمون منغلقين داخل الدائرة التراثية المغلقة على ذاتها. انهم لا يريدون توسيع المناقشة وفتح الأبواب على مصراعيها لكي يهب عليهم هواء جديد.


وفي فقرة ثالثة يقول:

كل ما نفعله الآن هو التمهيد لعصر نهضة عربي واسلامي مقبل. ولكن ذلك لن يتم الا عن طريق فكر جديد.
أضف رد جديد