تداعيات
------------------
يحيي فضل الله
ــــــــــــــ
مصـل ضد الحياة
ــــــــــــــــ
كما لو ان كل شئ قد تلاشي ، بهذا الشعور خرج ميرغني من المستشفي ، تتشبث انامله بكف ابنته لبني ، تلك التي لم تتجاوز السابعة، من اين يبدأ البحث ؟ ، يتشبث اكثر بتلك الكف الصغيرة حين يرن في دواخله ذلك الصوت اللامبالي
ـ ,, للاسف يا استاذ ما عندنا مصل ,,
ـ ,, وبعدين ؟ ، اتصرف كيف ؟ ,,
ـ ,, فتشوا ,,
ـ ,, افتش وين ؟ ,,
ـ ,, في الاجزخانات ، شوف علاقاتك ،الامدادات ، المهم انك تفتش ,,
خرج ميرغني مواجها بكل حيرة تلك الاسئلة الكبري ، يخاف علي لبني ، لا يتصور ابدا ان يحدث لها ما حدث ، نظر اليها ، شروخ عميقة ومتزايدة في نسيج عواطفه التي تحاول الهروب ، هروب نحو كل شئ يلوح بأمل و لو قليل
ـ ,, فتشوا ,,
ميرغني " تصرخ دواخله ، تتعب روحه التي شفت إزاء امتصاصها لواقع ما حدث لـ "لبني"، ينتقل بين الاحتمالات ، يرتجف بدنه حين يذهب الاحتمال نحو
اللاجدوي ، هكذا ، كان لابد من البحث ، لا يملك الا البحث ، ليس هناك خيار أخر ، من أين يبدا ؟ تتقاذفه الأسئلة و تعربد به الاحتمالات ، يتشبث بانامل "لبني" ، يلوذ بكفها الصغير ، يبحث في عينيها عن اجابة ، تصرخ دواخله رافضة لذلك الشعور المميت و الخفي ، شعور بالأبوة مكثف يحاول أن يتصدي للامر .
" فتشو "
" افتشو وين ؟ "
-" في الأجزخانات ، شوف العلاقات ، الإمدادات ، المهم انك تفتش"
تعذبه لا مبالاة ذلك الصوت الذي أحال الأمر كله إلى حالة من البحث
، يرد علي ذلك الصوت بهذيان داخلي عميق : " افتش ، اعمل شنو ؟ ، بس افتش كيف ؟، ابدأ من وين، من وين ؟ المودر فتش خشم البقرة ، لكن ، وين البقرة ووين خشما ؟ "
ضغط " ميرغني " علي كف " لبني " بحميمية تحاول أن تنفي كل ماهو مأساوي
، اجتاحته رغبة في البكاء ، حرض ذهنه تجاه مهمة البحث ؛ البحث خارج كل
المستشفيات التي دخلها وخرج منها دون جدوي
" بابا اشتري لي لبانه "
احتضنها بعنف ، خلخل بأصابعه علي شعرها ، تحسس رغبتها في الحياة ،
نظر في عينيها ، اغرورقت عيناه بالدموع ، من بين دموعه شع في عينيه بريق من أمل و إصرار ، إصرار علي البحث .
كعادتها خرجت " لبني " من البيت كما كل صباح ، نظرت إلى هناك ، إلى الشارع فرحت حين رأت صديقتها "ريم " تقف في انتظارها الصباحي لعربة
المدرسة ، ركضت نحوها ، قبل أن تصل إليها ، خرج من أحد الأزقة كلب مهتاج يطارده رجل و بعض الصبية ، التقي الكلب ب "لبني " في طريقه ، عضها في ساقها الأيمن وكأنه اخذ منها قطعة لحم وجري ، صرخت " لبني " و انتابتها ارتعاشات من جراء الصدمة و الخوف ، التف حولها الناس ، رفعها الرجل من علي الأرض ، تبرع أحد الأطفال بالمعلومات : -
" يا هو داك بيتم ، أبوها أسمو مرغني وامها اسمها هدى "
رجعت "لبنى " إلى البيت وكان أن فقد الصف الأول في مدرسة البندر
الابتدائية في ذلك الصباح صوتها وحيويتها العالية .
تحري "ميرغني" عن ذلك الكلب ، بدأ يبحث عنه ، ذهب إلى أصحابه -
أصحاب الكلب - ، تبودلت كلمات الأسف و الاعتذار ، ضاع الكلب حتى من أصحابه ، سأل في الشوارع التي مر الكلب بها ، في الأحياء القربية و البعيدة ، خرج "ميرغني" وراء ذلك الكلب منذ الصباح يسال ويبحث مؤملا أن يكون الكلب معافي من السعر ، يتمني أن يكون الكلب قد فعل ب"لبني" ما فعل وهو مستثار فقط ، قبل غروب الشمس دله أحد الناس علي كلب ميت في إحدى الكوش ، نظر إلى الكلب بغباء من لا يستطيع أن يحدد ما إذا كان الكلب هو نفس الكلب الذي نهش ساق "لبني"، رجع إلى "الكوشة" ومعه شاب مهمته أن يتعرف علي الكلب ، حين وصلا إلى " الكوشة" كانت الرؤية قد تعذرت مما جعل "ميرغني" يطرق أبواب المنازل القريبة للحصول علي بطارية أو لمبة بعد أن فشل في التعرف علي الكلب بواسطة أعواد الكبريت وإشعال الورق ، أخيرا عثر "ميرغني" علي "بطارية"، أخذ الشاب يتفحص جثة الكلب، استقرت البقعة الضوئية علي عنق الكلب ، أطفا الشاب البطارية قائلاً : - " يا هو ركس ذاتو، للآسف لازم بعد ده البت تأخذ الحقن"
ولم يجد "ميرغني " البقرة حتي يفتش خشمها " ، المستشفيات عجزت عن توفير المصل ، دار "ميرغني " حول الأجزخانات مخازن الأدوية ، الإمدادات الطبية ، المستشفيات الخاصة ، أطباء وممرضين ، وظف كل علاقاته دون جدوي ، و الأيام تمر وبمرورها يلهث "ميرغني" في بحث محموم و أزلي ، يخرج فجراً ليعود ليلاً ، حمل مذكرات إلى بعض المختصين ، أحدهم قرأ مذكرة من صديق له يوصي بالعناية بالموضوع ، طبق المذكرة بين أصابعه ونظر إلى "ميرغني" بشهوة مطلقة في عينيه وقال :" المصل ده الحصول عليه صعب ، لكن نحاول ، بس نحتاج لمبلغ بسيط .
"ما في مشكلة زي كم كده ؟ "
"و الله يعني زي 120 ألف جنيه"
دارت الغرفة ب "ميرغني" ،دارت كل الدنيا أمام عينيه ، كاد ان يسقط من علي الكرسي لولا ان امسك بيديه علي تربيزة المكتب التي امامه.
وسط صويحباتها تجلس " لبنى "، تقاوم ذلك الصداع وتلك الحمى الخفيفة
مشاركة بضحكتها المميزة وسط ضحكاتهن ، تحس بألم حاد في ساقها خاصة في
موضع الجرح ، وحين خرجت صديقاتها لم تنس " لبنى " أن تسألهن قائلة :
" العندها علبة ألوان تديني ليها " .
حاول " ميرغني " الحصول على ذلك المبلغ الذي يبدو مستحيلا
بالذات لموظف ، علاقاته عجزت تماماً عن توفير لك المبلغ ، بحث في كل مكان ، حاول كل المحاولات التي يمكن بها أن يحصل على مصل دون دفع ذلك المبلغ ، يلهث ، تركض دواخله دون جدوى .
" هدى " والدة " لبنى " تضع على جبهة صغيرتها " كمادات "
باستمرار رغبة منها في التخفيف عنها تلك الحمى التي أخذت في الازدياد ، تصرخ " لبنى " من الألم ، صداع يفقدها شهية أن تأكل . فتور متزايد ، تحاول " لبنى " أن تقاومه فتشخبط على كراستها باللون البنفسجي خطوطاً متعرجة ومرتجفة ، تغير البنفسجي بالأخضر دون أن تتخلى خطوطها عن التعرج والارتجاف .
دخل " ميرغني السوق الشعبي ، اتجه نحو إحدى الدكاكين التي
تبيع البهارات ، سأل صاحب الدكان بلهفة .
" ما بلقى عندك المصل بتاع السعر "
" نعم ؟ "
" عايز مصل ، مصل السعر "
" يا راجل أنت ما نصيح ولا شنو ؟ كيف يعني ؟ روح يا راجل بلاش كلام فارغ " .
نظر " ميرغني " إلى صاحب الدكان بكل ذلك العمق الشفيف ، واتجه
نحو زنك اللحم .
" هدى " تحاول أن تسقي " لبنى " الماء ، " لبنى " تصرخ وتقذف
بإناء الماء بعيداً ، غثيان ، تتقيأ " لبنى " كل شئ ، " هدى " لم تتحمل ذلك ، بكت بعنف وضربت رأسها على الحائط .
" ميرغني " يسأل عن مصل السعر في إحدى طلمبات البنزين .
" لبنى " ترتعد عند رؤية الماء ، تتشنج ، تطالب والدتها بقفل باب الغرفة ،والنوافذ ، رعب حقيقي يرتسم في وجه " لبنى " الطفولي حين تهب أي نسمة هواء ولو خفيفة ، بدافع غريزي حملت " هدى " ابنتها وركضت نحو أقرب مستشفى .
وصل ميرغي بنك السودان اقترب من إحدى الصرافات وسأل ذلك السؤال الذي عجز عن إجابته ، أشار الموظف إلي أحد العاملين الذي أبعد " ميرغنى " عن المكان .
" لبنى " تصدر أصواتاً فقدت معنى الحروف ، تتشنج وينتابها ذلك الهيجان
المدمر و" هدى " تصرخ .
" ميرغني " يبحث عن المصل في كل مكان .
تنتاب " لبنى " فترة هدوء غريب ، عيناها تنظر هناك إلي حيث لا أمل
ويعاودها الهيجان والتشنج ، بين هذا وذلك انسحبت " لبنى " من الحياة ولم تقو حتى على الهيجان والتشنج .
بينما كان " ميرغني " يركض دون توقف في الشوارع والأسواق مستعيرا من الكلاب نباحها كانت الريح تحمل ورقة عليها خطوط بنفسجية و خضراء متعرجة و مرتجفة .
مصل ضد الحياة
- يحيى فضل الله
- مشاركات: 183
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:22 pm
- عالية عوض الكريم
- مشاركات: 358
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 5:50 pm
-
- مشاركات: 935
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:26 pm
- مكان: هاملتون-كندا
- يحيى فضل الله
- مشاركات: 183
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:22 pm
- يحيى فضل الله
- مشاركات: 183
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:22 pm
- يحيى فضل الله
- مشاركات: 183
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:22 pm
الاخ الصديق ايمن حسين
نعم / والله زمان يا ايمن
وهذه فرصة طيبة كي اعلن هنا ، ان ايمن حسين هو الذي حرضني علي كتابة التداعيات حين كان يشرف علي الملف الثقافي بجريدة السودان الحديث في بداية التسعينات و كان ذلك الزمن اعتم اضلم ولكنا جرحنا تلك العتمة و تلك الظلمة علي طريقة - تش عين الضلام بالضوء - كما يغني مصطفي سيد احمد مستندا علي حكم حميد الشعرية و من ثم تنامت التداعيات و تنامت صداقتي لايمن حسين وانتجت العديد من المشاريع منها و اهمها ان ايمن حسين اليوم مصمم فني للكتب و المجلات
هل اشكرك يا ايمن علي كل هذا الجمال ؟
احلم ان تكتب عن هذه الفترة فانت شاهد عصر مهم جدا و لاشنو يا باشا ؟
نعم / والله زمان يا ايمن
وهذه فرصة طيبة كي اعلن هنا ، ان ايمن حسين هو الذي حرضني علي كتابة التداعيات حين كان يشرف علي الملف الثقافي بجريدة السودان الحديث في بداية التسعينات و كان ذلك الزمن اعتم اضلم ولكنا جرحنا تلك العتمة و تلك الظلمة علي طريقة - تش عين الضلام بالضوء - كما يغني مصطفي سيد احمد مستندا علي حكم حميد الشعرية و من ثم تنامت التداعيات و تنامت صداقتي لايمن حسين وانتجت العديد من المشاريع منها و اهمها ان ايمن حسين اليوم مصمم فني للكتب و المجلات
هل اشكرك يا ايمن علي كل هذا الجمال ؟
احلم ان تكتب عن هذه الفترة فانت شاهد عصر مهم جدا و لاشنو يا باشا ؟
-
- مشاركات: 935
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:26 pm
- مكان: هاملتون-كندا
- طلال عفيفي
- مشاركات: 124
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:19 pm
- هادية بدر الدين
- مشاركات: 36
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:19 pm
طلال عفيفي كتب:
خالي يا يحيى ..
أنا مشتاق ليك ..
ومشتاق لصوتك القوي يطوف في المجال ..
هل في الشمال البعيد قعدات و ونسات ؟
يوحشني لقاك يا صديق الناس ..
عايز أستلف منك كم كتاب .. وأسمع قصيده , واتونس .
عايز كمان أديك كتابه كتبها عشان تقول لي رأيك فيها ..
و أناولك كاس .
...
طلال
اسمع يا طلال اهداء مخصوص
http://www.sudanese.net/index.php?act=Attach&type=post&id=5340
- هادية بدر الدين
- مشاركات: 36
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:19 pm
العزيز طلال اسفة على الخطا فى الوصلة بس الجابرى برضو بستحق السمع
ودة صوت يحيى
http://www.sudanese.net/index.php?act=Attach&type=post&id=5340
ودة صوت يحيى
http://www.sudanese.net/index.php?act=Attach&type=post&id=5340
- طلال عفيفي
- مشاركات: 124
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:19 pm