ولم أكتفي بتتبع لقاءاته وندواته.. ويكفي أصدقائي (إذا أرادوا إرغامي على الذهاب الى مكان دون محبتي له أن يقولوا لي : سيحضر الطيب صالح) عندها أترك مابيدي وأهرع الى محراب الطيب صالح..
كان أول ما قرأته للطيب هي (عرس الزين) وقرأتها حوالي عام 1993م ثم بعد سنة أو أقل قرأت (الموسم)، وقرأت بعدها مجموعته (دومة ود حامد) وحتى تلك اللحظة لم يتح لي أن اقرأ (بندر شاه) بجزئيها (مريود) و (ضو البيت) .. ولكني كنت مأسورا بما قرأت فأعيد قراءته مرارا وتكرارا حتى أنني لم أعرف فكاكا وأردت الفكاك..
بعد أعوام قليلة تيسر لي في القاهرة أن احصل على (أقصوصة: في كون أن الاب ضحية للجد والابن) "أو كما قال" وحقيقة ، وبعد قراءتها مرتين لم أفهم شيئا.. تذكرت عندها مقولة لكاتب (الماني على ما أظن) كان من ضمن المشاركين في كتاب رجاء النقاش (الطيب صالح عبقري الرواية العربية) وقد ساهم بمقالة جيدة أمتعتني أكثر من بقية المقالات ولكنه خلص الى أنه (لم يفهم كثيرا عرس الزين ولا علاقة شيخ الحنين بالاخرين ، وأظنه أردف أيضا بأنه لم يفهم البندر أو هكذا أتذكر الامر).. على العموم وبعد أن طرحت هذا العجز على الاستاذ (يحيى فضل الله بالقاهرة في خواتيم عام 1999م) قال لي مندهشا:
- لماذا؟؟
ولقد إستنكر عجزي ايما إستنكار ، ولقد زاد هذا الاستنكار من دهشتي فكيف لا يرى الاخرون أنها مستعصية؟؟ هذا ما جعلني أقع في تحدي .. وهو الشئ الذي لا أحبه أبدا (أن أقع تحت تحدي ما)
أخذت الكتابين وأخذت أقرأهما ، وأعدت قرأتهما ثم ...
تلك المرحلة قد شهدت تحولا في حياتي الفكرية.. عرفت في خلالها مجموعة طيبة من الاساتذة الاجلاء وتعمقت فيها قرائتي للأدب والنقد وكتب الفلسفة والفكر عموما، وفيها صار لي رأيا منفرد التكوين ومنهجا خاصا (صنعته بفضل الاستاذ صلاح شعيب)..
وكأن القدر قد دبر لقاء منهجي الخاص مع قراءتي للبندر .. فبعد أن فرغت منها للمرة الثالثة تخيلت الطيب صالح ممسكا بخيوط اللعبة (بدلا عن بندر شاه) يحركها كيفما يشاء والفوضى من تحته ومن فوقه ومن وراءه وأمامه.
إن من العسير قراءة قصة من تلك القصص دون قراءة اخواتها ف(موسم الهجرة الى الشمال) هو بداية قصة كبيرة ومتفرعة تدور في مكان واحد وفي أزمنة متقاربة نسبيا تهتم بتفاصيل (ذاتية) كما تهتم بمجاميع متعددة، تغرق في محليتها، ولكنها تندفع نحو العالم (بشبق) وجوع محمومين.
تلك القصة التي بدأها الموسم وقفت لتستريح قليلا في (عرس الزين) ولكنها أخذت تعدو نحو مبتغاها في (بندر شاه).
ولا يمكن الحديث عن قصة ما دون أن ترى مفرداتها تندفع امام عينيك وتتقافز كغزال صغير مرح.. فأنت عندما تذكر الطيب صالح ليس صحيحا كما ذهب الا ستاذ (جورج جحا) الى أنه :
قد يكون صحيحا انه ليس من السهل او المكن احيانا ان نذكر اسم الطيب صالح دون ان يستحضر ذلك الى اذهاننا رائعته موسم الهجرة الى الشمال .
بل الصحيح هو أننا عندما نذكر الطيب صالح نذكر :
دومة ودحامد، البروقراطية وسوء الادارة، إستغلال الدين، إنفصام نفسية المثقف السوداني، السودان وهو يطلب النجاة على لسان الراوي وهو يصيح (النجدة النجدة) ، البيئة المتخلفة التي تقاوم التجديد، والتجديد الذي راح ضحية مجددين جشعين، (الحنين) الذي يكمن في نفس كل سوداني أصيل ، والزين الذي نحاول دوما شج رأسه في بيت العرس..
كل هذا قد يبرز فجأة عندما تذكر الطيب صالح.. ولكن من المحال الا تبرز لك صورة (ضو البيت) وهو يكاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على ضفاف القرية، محال أن لا تنتبه الى (أقصوصة: في كون أن الاب ضحية الجد والابن)، محال أن لا تشعر بالغضب عندما تذكر الطيب صالح .. لأن الحاضر (حاضرنا جميعا) قد ضاع تحت ظلال (الامس)و (سراب) الغد.
إن كانت موسم الهجرة الى الشمال تبرز بصورتها الجمالية أزمة (السودان) فإن (بندر شاه) لهي بحق أفضل رواية عالمية على الاطلاق.. وهنا يتضح أمر جلي جدا ...
إن الاغراق في المحلية يخرج قضايا عالمية .. لأن المحلية تعني البساطة ولأننا كبشر لم نبعد عن بعضنا البعض الا بعد أن عقدنا حياتنا ولففناها بكثير من الصور الزائفة التي يكشف لنا أمثال (الطيب صالح، وماركيز، ونجيب محفوظ، وتشخوف) يكشف لنا أمثالهم زيفها ، ويحطم لنا أطرها الهلامية.
إن بندر شاه أزمة يواجهها الشرقي كما يواجهها الغربي، تظهر في برلين كما تظهر في نيويورك، والقاهرة، والخرطوم.
إن تلك الاقصوصة تطارد الجميع أين ما كانوا ومتى ما كانوا ، فهي بحق (في نظري) من روائع الادب العالمي ... ولكن ...
أعتقد أن الالماني الذي (لم يفهم عرس الزين أو بندر شاه) مثله مثل بقية العرب والعجم يواجهنا بإشكالية (نحن) من يتوجب علينا أن نبرز الاحالات الدلالية داخل النصوص حتى يتسنى لنا فيما بعد أن نترجمها بصورة متسقة مع الفكرة التي تبحثها الرواية أو القصة.. إن اسوأ ما تواجهه كتابات الطيب صالح هو سوء القراءة وسوء النقد وبالتالي سوء الترجمة ولهذا كلما تعقد العمل الادبي كلما ساءت ترجمته لأن أمثال الطيب صالح وإن كتبوا عنا فإنهم في أزمة أن (يوصلوا لنا) وهذه أزمة الكاتب (كما هي أزمة المتلقي) أيضا..
إن الإحتفاء بموسم الهجرة الى الشمال لهو أوضح شئ لعدم نجاح مشروع الطيب صالح (العالمي، والمحلي) لا لأن الرواية ليست جيدة أو لأي سبب من هذا القبيل (حاشا لله) ولكن لأن الموسم لا يعقل فصلها عن العرس والبندر، كما أن البندر لا تأخذ موقعها المناسب داخل حظيرة الادب العالمي .
وهنا يصدق المثل السعودي (إن جن قومك.. عقلك ما بفيدك)..
قد اواصل