تحجيب اللوحة في المتحف القومي

Forum Démocratique
- Democratic Forum
مأمون التلب
مشاركات: 866
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:48 pm
مكان: السودان/ الخرطوم

مشاركة بواسطة مأمون التلب »


إغلاق اللوحة
إغلاق اللوحة
أثار حدث تغطية لوحة من اللوحات المُتبرَّع بها لصالح دارفور، في افتتاح فعاليات نداء الفنون من أجل دارفور، حفيظة العديد من التشكيليين الحاضرين للمعرض، واللوحة تعرض مشهد رجل نائم وامرأة تجلس بجانبه وهما عاريان. ولقي الحدث انتقادات واسعة، نشارك ببعضٍ منها القراء، وقد تحصلنا عليها من بعض الحاضرين في ذلك اليوم، منهم صاحب مبادرة المشروع الفنان التشكيلي محمد حمزة، ورئيس اللجنة التنفيذية بالاتحاد العام للتشكيليين السودانيين، والمصور الفوتوغرافي محمد حنفي إضافةً لافادة الأستاذة هند شوقي، ابنة الفنان التشكيلي والمصور المعروف شوقي أبو عكر، والتي طالبت بتغطية اللوحة وهددت بسحب أعمال أبيها المعروضة بجانب اللوحات من المعرض، أعماله التي تمثل صوراً ملتقطةً في دارفور قبل اندلاع الأزمة والحرب. ويبدو أن التغطية أتت لتجنب هذا التهديد، حيث قام التشكيلي البريطاني ديفيد نايت، صاحب اللوحة، والذي كان في زيارةٍ للبلاد في خلال الأسبوع الماضي ليشهد انطلاقة الحملة، قام بتغطية اللوحة بنفسه، قائلاً أن التغطية يمكن اعتبارها المساهمة الثانية له في هذه الحملة بجانب لوحاته. الصور تعرض جانباً من تغطية اللوحة، يظهر ديفيد نايت والفنان محمد حمزة.
التقينا بالأستاذة هند أبوعكر، قالت أن (هذه اللوحة بعيدة تماماً عن عاداتنا وتقاليدنا وديننا، وهي إذ تعرض هنا في المتحف القومي، فإنني أعتبر هذا التصرف عدم احترامٍ لما تربينا عليه من أخلاقٍ قويمة ودين. فحرية التعبير مكفولة للجميع، ولكنها محدَّدة أيضاً بثقافة المكان ومفاهيمه، ومن ناحيتي، فإنني أرى أن تعليق صور ولوحات والدي بجانب تلك اللوحة أمراً مسيئاً لها ولأحفاده الذين يحضرون في هذا المعرض. كما أنني كنت متألمة جداً من الرسومات المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، ووجدت أن هذه الفرصة مناسبة للردّ عليها، وأعتقد أن الله قد سخَّر لي هذا الموقف لأستطيع أن أرد للمسلمين والشعب السوداني كرامته من ما لحقه من أذى ورسومات مسيئة لنبيه الكريم. كما أنهم هم الذين جاءوا إلينا، ولم نذهب نحن إليهم، فعليهم أن يلتزموا بتقاليدنا وأفكارنا).
بينما جاءت ردود الحضور من الفنانيين مهاجمةً لرأيها، إذ قال لنا المصور الفوتوغرافي محمد خنفي: (على أحدهم أن يقوم بالاعتذار عن تاريخ الإزدراء والسخرية الذي نتعرض له، ليس لأن الأمر شخصي، بل لأن الإعتذار خطوة نحو السلوك المتمدن الذي نحتاجه فعلاً إذا كنا نريد التظاهر لوقت أطول بأننا شعب محب للسلام. شعرت بالاساءة الشخصية عند تغطية اللوحة، وشعرت فعلاً بأسف بالغ وأنا أرى هؤلاء الأشخاص المحترمين يقومون بهذا الفعل الغريب، تذكرت عددا من الأحداث المخجلة التي حدثت في هذا البلد، والتي تستوجب اعتذاراً حتى لايرانا الآخر مجموعةَ دمى بلا آذان، وتملك ألسنة فقط تردد بها ما يملى عليها.
رأيت لعبة الراقصة (ballerina) في مجمع (عفراء) بالخرطوم، وقد قاموا بتغطية رأسها لتبدو الدمية الهائلة محتشمة وهي ترقص!!، رأيت وأنا أسير في شوارع الخرطوم العديد من المظاهرات القروسطية لأناس غاضبين يحملون الهراوات ويصرخون لأن أحدا ما، زجَّ بهم في الباصات وأخبرهم أن أحداً ما يختلفُ معهم في الرأي، وعليهم أن لا يحتملوا ذلك. لم يتعرض أحد المهووسين الذين حطموا المنحوتات والتماثيل في تلك الحادثة الشهيرة للمساءلة للتجرؤ على ملكية آخر، بل حظوا بالإعجاب لأنهم حطموا (الأصنام) مخافة أن نقوم نحن بعبادتها!!.
أي احترام نناله ونحن نبدو كأمة غاضبة ومفزوعة تخشى أن تتأثر بالآخر، وترى أن الشيطان يكمن لها في كل مكان؟، كيف ينظر إلينا الآخر ونحن نهرع لتغطية لوحة! لأن شخصاً قد يثيره العري؟ المرسوم؟؟.
بعد أن يقوم أحدهم بالاعتذار لنا، وأقترح السيد وزير الثقافة، أرى أن يقوم سيادته بوضع مسألة تقييم الأعمال الفنية وقابليتها للعرض بأيدي الفنانين، وإذا غضب آخرون من الفنانين عليه أن يعتذر لهم أيضا، فعلى الوطن أن يحتمل كل ابنائه).
أما محمد حمزة، فقد بدا غاضباً جداً لما يتعرض له الزوَّار المتبرعين بأعمالهم، وقال: الفن قائم على حرية الرأي وحرية التعبير، ونحن نريد أن نعرف رأي الناس والإعلام في هذا الحدث، هل لحرية الرأي والتعبير حدود؟ وهل هنالك شكل محدد لها، أم هي مشابه لما يوجد في كل العالم؟: أن للإنسان الحق أن يعبّر وفق رأيه وثقافته؟ لا أرى أنهم يستحقون مثل هذا الفعل، هؤلاء الفنانيين لم يخطئوا في حقنا، بل كانت مبادرتهم هم للمساهمة في حل أزمتنا في البلاد، إضافةً إلى أن ديفيد، صاحب اللوحة، هو أول من ساهم في هذا المعرض، وتبرع بلوحاته بحماس. أريد أن أعرف رأي الفنانيين في أمرٍ خطيرٍ كهذا).
أما إسماعيل عبد الحفيظ، رئيس اللجنة التنفيذية بالاتحاد العام للتشكيليين السودانيين، فيقول: (هذه ثقافة فنان مثلنا، وأرى أن الفنان عندما، يهم بالتعبير عن انفعال أو فكرة، فإنه يعبر عنها من خللال بيئته وثقافته، فإن كان الفنان السوداني يريد أن يعبر عن فرح أو حزن، فإنه سيعبر بالوجه السوداني الحزين أو بالطريقة السودانية للتعبير عن الحزن مثلاً، هذه اللوحة تمثل رؤية فنان بريطاني، وهو أول من انفعل بالقضية). ويضيف: (أريد أن أطرح بعض التساؤلات: هل ينظر الناس لهذه اللوحة باعتبار أنها عورة؟ أم، كما ذكرت الأخت، أنها مسيئة للرسول؟) ويستطرد مستنكراً: (قالت أن هذه اللوحات مسئية للرسول، وهي مرتبطة بالرسومات التي هاجمته، لا أستطيع أن أجد العلاقة. هل هذه متاجرة بقضية؟).
وفي جهةٍ أخرى، كتب التشكيلي حسن موسى تعليقاً على الحدث بمنبر الحوار الديموقراطي بموقع سودان للجميع: (هذه حكاية مضحكة و محزنة في آن. الحكاية مضحكة بالذات في الصور التي تعرض تغطية اللوحة المدانة بالورق. عشان (ابنة الفنان "التشكيلي، ( أستاذنا) شوقي ابوعكر) ( الزولة دي علاقتها شنو بالتشكيل وبتنظيم المعارض؟) عارفة إنو اللوحة العارية ما زالت على عريها الفاضح تحت حجاب الورقة البيضاء مثلماكل نساء ورجال السودان على عريهم تحت حجب ملابسهم البيضاء. والحكاية محزنة لأن الفنان القدير المتمكن من أدواته "دافيد نايت" تعرض "للسنسرة" الجائرة لأنه خاطر وساهم بفنه لصالح قضية تهمنا كلنا.
هذا والله من نوع المواضع التي تصلح فيها عبارة السودانيين الشهيرة: (أحرجتونا مع الأجانب).
يا خي كان أولى بإبنة الفنان شوقي أبوعكر تاخد (صور أبوها) و تمشي تعرضها في حتة تانية بعيد من محل الحرج بدل البهدلة. و أعتقد أن أستاذنا شوقي أبوعكر، لو كان حاضراً في هذا المقام، لكان جنبنا إهانة الفن. سيما وقد شهدنا في كلية الفنون في مطلع السبعينات، بعض الأعمال الفتوغرافية لأستاذنا شوقي أبوعكر تمثل فيها بعض فتيات الأنقسنا كاشفات الصدور أمام عدسته. لا أدري مصير هذه الأعمال اليوم ولا أعرف إن كانت (أبنة الفنان) (يا لها من صفة) ما زالت تحفظ كل الآثار الفتوغرافية التي أنجزها شوقي أبوعكر في أنحاء السودان القصية (على عريها) أم أنها تصرفت فيها وفق قانون الحياء العام (و الله يكضب الشينة) الذي يستلهم أسلوب المطوّعين.
كل هذا الواقع يردنا لسؤال "الملكية الأخلاقية" للأثر الإبداعي. وهو سؤال ينهض في مقام آخر بعد الوفاء بمقتضيات الملكية المادية لحقوق المبدعين و ورثتهم. فهل يحق لأهل المبدع التصرف في الأثر الإبداعي الذي خلفه بذريعة شريعة التركات؟ أم ان هناك حدود اخلاقية يتوجب عليهم احترامها من واقع أن أثر المبدع (رأسمال رمزي) يتجاوز ورثته باعتباره وجهاً من وجوه العمل العام، وأثر يصنف بين تصانيف الصالح العام؟).
أما تعليق الشاعرة إيمان أحمد، فقد جاء مختصراً، وعلى النحو التالي: (كلما أقرأ مثل هذه الدراما.. أقول: المرآة اختراعٌ لم يستفد منه الإنسان جيداً).

نشر بالملف الثقافي لصحيفة الأحداث، تخوم، الثلاثاء، 6 مايو
عندما صرخت
لم أشأ أن أزعج الموتى
ولكن السياج عليَّ ضاق
ولم أجد أحداً يسميني سياجا
مأمون التلب
مشاركات: 866
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:48 pm
مكان: السودان/ الخرطوم

مشاركة بواسطة مأمون التلب »


في زيارة التشكيليين البريطانيين لنيالا
فشل ورشة القصة والتشكيل، ونجاح الغناء في دعم التعدّد


تم التخطيط لهذه الزيارة منذ نوفمبر من العام الماضي 2007م، باتفاق بين التشكيلي محمد حمزة ومجموعة من الفنانيين التشكيليين البريطانيين، وصل عددهم إلى 41 فناناً الآن، بغرض الوقوف على واقع الحال في دارفور، وعكس صورةٍ عينيَّةٍ حيَّة لما يحدث هناك، بغرض استقطاب الدعم واستنفار التشكيليين في جميع أنحاء المعمورة للتبرّع لضحايا الصراع والحرب في دارفور، ودعم التعليم والصحة من خلال العائد المادي للأعمال. الزيارة التي كان من المقرر أن تتم في مارس الماضي، نجحت في بعض أهدافها وأخفقت في أجزاءٍ أخرى، وذلك حسب إفادات الوفد الزائر، وحسب فشل بعض الفعاليات المحورية من النهوض والتأثير على أرض الواقع. أهمها ورشة التشكيل والقصة القصيرة، والتي تعتبر المرآة المعبِّرة والتي تستهدف الشريحة الأكثر صدقاً، والخالية من الأجندة والمصلحة: الأطفال.
نيالا: مأمون التِّلب

أن تتحوَّل المساهمة الإنسانية، وتنقلب، من الدعم العسكري والوعود الدولية والمانحين، إلى لوحات، سيكون هذا التحول داعياً للنظر والنقاش. ليس تحولاً على مستوى الفعل والوجوه العاملة فقط، بل على مستوى اللغة المتداولة، والتي تخالف، إلى حدٍّ كبير، تلك المتداولة بين سطور الصحف والمقالات السياسية والأخبار، لغة تجمَّدت وتصلبت وأصبحت معرَّفةً بالألف واللام دون إضافة تعريفات إضافية كـ(القوات الأممية) و(المانحين)، وغيرها من القاموس السوداني الدارفوريّ الذي تخلَّق مع القضية ذات الصيت الأوسع انتشاراً في أرجاء العالم، والأقوى لفتاً للأنظار. وكما ذكرنا في ملحقنا الماضي، الثلاثاء، وعبر الحوار الذي نُشر مع التشكيلي محمد حمزة صاحب مبادرة مشروع (نداء الفنون من أجل دارفور) ومع وزير الثقافة والإعلام بولاية جنوب دارفور محمد خير حسن؛ فقد لفتت قضية دارفور أصدقاء من قبيلة التشكيليين البريطانيين لمحمد حمزة، والذي حفَّزهم بصورٍ ومشاهدٍ التقطعها بعدسته في نوفمبر من العام الماضي، وعرضت فيما بعد مصاحبةً للمعرض الذي حمل اسم المنظمة حديثة التكوين، والتي تديرها الشاعرة والتشكيلية شان حمزة.
وزيارة شان شخصياً للسودان ليست الأولى، كما أن زيارتها للروح السودانية من خلال الفن والمهاجرين السودانيين ليست الأولى أيضاً، فبامكانك أن تشاهد اسمها مكتوباً في اللوحة الحروفية المشتركة بينها وبين التشكيلي السوداني المعروف عثمان وقيع الله، وهي معروضة في معرض متحف السودان القومي، والذي افتتحه وزير الدولة بوزارة الثقافة والشباب والرياضة، د. أمين حسن عمر، والذي استمر لمدة يومين حتى سافرت المجموعة صوب نيالا، جنوب دارفور، تحت ضيافة حكومة جنوب دارفور ووزير الثقافة والإعلام الاستاذ محمد خير حسن.

اليوم الأول:
استقبل وفد رفيع من حكومة ولاية جنوب دافور المجموعة الهابطة من الطائرة بحفاوة كبيرة في مطار مدينة نيالا، حفاوة صاحبتها مجموعات نساء ورجال ورقص وإيقاعات محلية تمثّل وجوه مختلفة لثقافة دارفور وأغنياتها الساحرة بتداخل أصوات المغنيات، الكبيرات في السن، على شكل هارموني متطوّر جداً، بجانب آلات شعبية تتداخل بنعومةٍ وصخب مع الأصوات.
بعد هذا الاحتفال الكبير، كان من الممكن أن تلاحظ من خلال تعليقات المجموعة البريطانية التي خرجت من أفواههم فور وصولنا للفندق، أنهم لم يكونوا سعيدين تماماً باستقبالٍ كبيرٍ كهذا، وفندقٍ مكيَّف!، ليس تقليلاً من حفاوة المستقبلين ولا تحمسهم لمشاركة، وإنما لطبيعة المهمة التي جاءوا من أجلها، والتي كانت في تصوراتهم ذات مشقَّة وعنت، فقد كانوا يتصورون أنهم سيقيمون في الخيام والمعسكرات، ولم تكن المدينة على بالهم. تلك المدينة التي يمكنك ببساطة أن تدعوها مدينة (المدرعات وجوَّالات الرمال الحَامِيَة) من شدَّة الرائحة الأمنية المشدَّدة المحيطة بالهواء والنَّفس، فبإمكانك أن تشاهد عربة صغيرة من عربات الأمم المتحدة محاطة بمدرعتين حربيَّتين مخيفتين كسلاحف عملاقة، وهي في طريقها للحصول على الماء في مكانٍ قريبٍ وفي وضح النهار!. عدم الرضاء الذي تبدَّى في تعليق أحدهم على الوليمة العظيمة التي دعاهم إليها الوزير في مطعمٍ مصريٍّ باهظ، والمشحونة بأصناف اللحوم والوجبات غربية الطابع والاسم: (ألا تحبون طعامكم الوطنيّ؟). بالتأكيد كان الطعام الوطنيّ عرضةً للتصوير بالكاميرات في اليوم التالي بالصورة الفنية التي قُدِّم بها على الأواني الخشبيَّة المنحوتة والمزينة والمغطَّاة بالسَّعف.

اليوم الثاني:
صباحاً، بمتحف دارفور القومي، مرَّت المجموعة على العديد من الآثار التاريخية القديمة للمنطقة، منذ عصور الممالك الدارفورية وحتى ملامح الثورة المهدية والمصوَّرة والمرسومة والبارزة على سطوح الأسلحة القديمة والخوذات والدروع الملابس الحديديَّة للمحاربين، والتي أثارت فضولهم جداً لدقتها وجمالها، ربما كان الجمال هو الجَّاذب الأول، فقد علَّق التشكيلي ديفيد نايت من خلال حوارٍ معنا ننشره في مكانٍ آخر من هذا الملف بقوله: (رغماً عن أن آلات الحرب وملابسها تهدف في نهاية الأمر إلى (القتل)، إلا أنها كانت تنعكس في عيني جميلةً مجرَّدةً من هذا الهدف) قلت له، ألا ترى الجمال قاتلاً، قال (طبعاً، خصوصاً إن كان على هيئةِ امرأةٍ جميلة!).
إبراهيم محمد، فنان فطريّ، من الممكن أن نطلق عليه هذا الاسم، خصوصاً وأن عمله الذي شارك به في معرض نداء الفنون بمتحف دارفور القومي كان العمل الفني الأول، كما أن مشاركته كانت بالصدفة كما أخبرنا، فقد طُلب منه أن يشكِّل تماثيلاً من الجلد والشَّعر والأقمشة للأطفال، فقام برصد أهم القصص التراثية والتاريخية التي تعبِّر عن العهود الدارفورية القديمة وسيرتها التاريخية، كانت اختياراته موفَّقة، على حدّ تعبير محمد حمزة، وتعبير عيون الحضور والأطفال. القصة التي فتنت الحضور كانت تلك المشكَّلة على هيئةِ سلطانٍ يمتطي حيوان (التيتل) بملامح صارمة وواثقة، تلك الملامح التي تلاشت تماماً عندما اكتشف الورطة (القاتلة)، والكمين الأنثويّ الذي نُصب له على ظهر ذلك الحيوان بالذات؛ التيتل النَّزق، صاحب المزاج المنتفض الثائر، والذي كان بمثابة ثورة شعبية محصورة على ظهرِ ذلك الحيوان، الذي كان شرارتها وحريقها وختامها. تلك الحكاية التي قصَّها لنا الأستاذ محمد صالح علي ياسين، المشرف على المتحف.

كَسَفروق
السلطان يدعى (كَسَفَرُوقْ)، من قبائل التاجو، كان، كعادة أغلب أهل السلطة، جبَّاراً وقاهراً، ولا يستطيع ذهن أيٍّ من سكان السلطنة أن يتحمَّل خياله مخاطباً ذلك الوجه الشرس، وتلك الشخصية المخيفة، ولم يكن أحد يتجرَّأ على عصيانه، أو، بالطبع، ترتيب عصيان عام أو ثورة. وكما نسمع من مقولات حول تحريك النساء لتاريخ العالم من مخادعهن وحجبهنّ، فقد تآمرت إحدى وصيفات السلطان مع البقية على الخدعة التي كانت ذكية بحيث استهدفت (الفخر والغرور والعَظَمة) في نفس السلطن. قالت له: (سيدي، لقد شهدناك تمتطي ظهر كل الحيوانات، ولكنك، حتَّى اللحظة، لم تجرّب أن تركب على ظهر التيتل)، بالتأكيد لم يرفض السلطان هذا السبق المَلَكي، والذي أودى بحياته. رُبِطَ على ظهر التيتل، وكان الربط _للمفارقة_ بهدف التثبيت والغاء احتمال السقوط، لقد رُبِطَ، بإحكامٍ، إلى حتفه.
انطلق الحيوان (الثَّائر)، عبر الوديان والصحارى والغابات دون حركةٍ من أهل السلطنة، عبر بقوةٍ وانتفاضاتٍ مُمَزِّقة، مزَّقت جسد السلطان، بعد موته، إلى أشلاءٍ كانت الأساس للعديد من القرى والمدن الدارفورية، حيث تم تشييد مُدُن وقُرى في كلّ موضعٍ سَقَطَ عليه شلواً من جسده الجبَّار.
كان عمل إبراهيم محمَّد، والذي مثَّل قصة دارفور محنَّطةً على شكل تماثيل، محفوظةً بجمال، لفتةً قويَّةً من أهل نيالا.

معسكرات اللاجئين: أطفال الـ(OK)
تنفَّست مجموعة التشكيليين الصعداء عندما جاء دور زيارة المعسكرات، يبدو أنهم كانون في انتظار هذه اللحظة منذ وطأت أقدامهم سلُّم الطائرة المتجهة إلى الخرطوم. معسكر السليت ممتدٌّ لمساحة واسعة تصل لمساحة حيٍّ خرطوميٍّ كامل، أو أكثر، يشبه قرية ورقيَّة، كرتونية، (جوَّاليَّة)، البيوت متلاصقة من البعيد، والأجساد الصغيرة تتراكض باتّجاه السيارات المندفعة خلف بعضها البعض، ومنذ ظهور الوجوه البريطانية من نوافذ السيَّارات، حتَّى انطلقت الكلمة الواحدة الإنجليزية، السهلة، التي يعرفها هؤلاء الصغار: OK، ربما ظنوها جملة الترحيب المختصرة، لكنها كانت كافيَّة.
سكان المعسكر كانوا، ببساطة، أشبه بموديلات التصوير المحترفة، لقد كانوا مستعدين للتصوير في أي وقتٍ تظهر فيه الكاميرا، فمنذ اللحظة الأولى التي فتحت فيها نافذة السيارة المظلَّلة، رفع الطفل، بسرعة البرق، يده بصورةٍ استعراضيَّةٍ تشي بمعرفته التامة بأوضاع التصوير المُحبَّبة. وفي إفاداتٍ تحصلت عليها من مصادر مقيمة في نيالا، أن هذا المعسكر، تحديداً، هو معسكر الزوار الأجانب، استعراضي، فهو أخف المعسكرات ضرراً، وأغلب تكوينه لم يكن ناتجاً عن حربٍ عنيفة. المدارس النظيفة المدعومة من المنظمات، العيادة الصحية، وبقية المرافق وشبكات المياه.
رغم التحمس الذي بدا على المجموعة البريطانية، إلا أن الأمر ساء عندما فشل المشروع الأساسي الذي جاء من أجله البريطانيون، والذي جعل من مرافقة وفد الاتحاد العام للتشكيليين السودانيين، والقاص أحمد أبو حازم من نادي القصة السوداني بلا فائدة، تقريباً. والورشة الأساسية كانت عبارة عن لقاء بين المجموعة الزائرة ونادي القصة والاتحاد العام للتشكيليين السودانيين بعدد من الأطفال المقيمين في المعسكرات، والذين شاهدوا الحرب وتضرروا من عواقبها، إذ يحكي الأطفال قصصهم مع هذه التجربة، وهم، كشهود صادقين تماماً، يرسمون أيضاً هذه القصص بمساعدة التشكيليين، ومن ثم تُعاد صياغة هذه القصص المسجَّلة بصورة أدبية لتنشر اللوحات والقصص في كتابٍ يوزَّع داخل السودان وخارجه تعزيزاً لحملة (نداء الفنون من أجل دارفور)، والذي يجب عليه أن يُقنع فناني العالم بالتبرع بأعمالهم لصالح ضحايا الحرب؛ النازحين واللاجئين. ذات التجربة التي قامت بها قبل سنوات إحدى الباحثات في تشاد بمعسكرات اللاجئين مع مجموعة من الأطفال بين 7-14 سنة، واستطاعت أن تتحصل على لوحات معبِّرة جداً، وذات وعيٍ عالٍ جداً، ننشرها هنا مع هذه المادة للاطلاع.
الذي حدث، أن زوَّار المعسكر لم يتمكنوا من إخراج الأطفال معهم لحضور الورشة المزمع قيامها في المتحف القومي، السبب الأول أن زمن الزيارة كان ضيِّقاً جداً، لم يتجاوز الساعة والنصف أو الساعتين. السبب الثاني هو إخبارهم بأن إحضار الأطفال مرتب، وأنهم سيجدونهم في الوقت المحدد. ولكن..
فوجأت المجموعة بأن الأطفال المجهَّزين لأجل الورشة كانوا من أطفال مدينة نيالا، يدرسون في المدارس الحكومية، وكانت معهم أستاذة الرسم المتخصصة!. الأمر الذي جعلهم يعرضون عن فكرة تسجيل القصص لأنها ستكون بلافائدة، فاكتفوا بأن أعطوهم أدوات الرسم، وأخذوها معهم لتكون رسوماتهم مكلمةً للمعرض المتجول.
ساهم في هذه اللحظة الموسيقار المعروف د. الفاتح حسين بمجموعة من المقطوعات التي كانت قريبةً جداً من قلوب الأطفال والعابرين في الشارع، إذ كانت الورشة في غابة مهوقني عملاقة، الأشجار تنتصب قريبةً من بعضها كسهامٍ في جرابٍ موجَّهٍ للسماء. هذه الفعالية التي جمعت الأطفال من قبائل متعددة، إضافةً للأطفال العابرين والمشاهدين، في قالبٍ موسيقيٍّ راقصٍ هي ثمرة الزيارة، كما ذكرت شان مساء ذات اليوم، عقب حضورها من الحفل الساهر الذي أحياه الفنان عبد الرحمن عبد الله، والذي غاب عن مدينته، نيالا، لأكثر من عشرين عاماً متتالية، مسرح نيالا الذي عشق أغنياته ونصَّبه نجماً نياليَّاً أصيلاً.
شارك في هذه الرحلة من الاتحاد العام للتشكيليين السودانيين، كل من عوض صديق، ولقمان عبد الله ورئيس اللجنة التنفيذية إسماعيل عبد الحفيظ. ومن نادي القصة شارك القاص أحمد أبو حازم، الموسيقار الفاتح حسين إضافةً البريطانيين الأربعة البروفيسور غليم مورغن وديفيد نايت وشان حمزة ومحمد حمزة والمصور الفوتوغرافي جون ماكينار والذي كان مريضاً طوال الرحلة ولكنه استعاد صحَّته في نهاياتها، ولم يفوّت، بالطبع، زيارة المعسكرات، أو كما قال محمد حمزة: (إن كان على "نقَّالة" فإنه سيذهب).
عندما صرخت
لم أشأ أن أزعج الموتى
ولكن السياج عليَّ ضاق
ولم أجد أحداً يسميني سياجا
مازن مصطفى
مشاركات: 1045
اشترك في: الأربعاء أغسطس 31, 2005 6:17 pm
مكان: القاهرة
اتصال:

مشاركة بواسطة مازن مصطفى »

..
iam only responsible for what i say, not for what you understood.
أضف رد جديد