وثائـــــــــــــق .. مُهـــــمـَـــــــلة .. !!

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

وثائـــــــــــــق .. مُهـــــمـَـــــــلة .. !!

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »

**********
********

وثائـــــــــ [font=Tahoma]مُهـمَــــلة ــــــــــق .. .. !!


تحت هذا العنوان سنستعرض بعض الأوراق و الصور القديمة التى إن لم نفعل ستظل كما جرت العادة فى السودان وثائق مهملة .. و ذلك عسى أن تدعونا للتأمل فى آلية عمل الذاكرة الجمعية للسودانيين، فكل شىء يبدو أنهم قد تطرّقوا إليه بشكل أو بآخر، إلاّ أنهم لا يثابرون على الأمر حتى يختبرون نهاياته المنطقية، فيبدون كمن يصل إلى فكرةٍ ما ثم لا يلبث أن يقذف بها خلف ظهره .. لينطلقوا إلى الأمام أو الخلف فى سباقٍ نحو .. أين ؟ .. قد يكون إلى الفقدان الكامل للذاكرة .. أو بالأحرى إلى هاوية لا قرار لها ..!!

نبدأ هذه الوثائق بمقال نادر للصحفى الشهير الأستاذ / محجوب محمد صالح، و هو مايزال بعد طالباً بكلية غردون. المقال بعنوان (حق تقرير المصير)، صدر فى (مجلة كلية غردون) العدد الثالث السنة الثالثة من يوم الجمعة 8 أكتوبر سنة 1948، و التى كان يصدرها "إتحاد كلية غردون"، و كان ثمنها 25 مليماً.

صورة

و هذا هو الغلاف الأمامى للمجلة، و قد كتب أسفل "صورة جنى القطن": (يلتقطون الذهب الأبيض لتغتصبه معامل لانكشير). ألم يكن يدرى طلبة "غردون" أن بديل عمل هؤلاء فى إلتقاط "الذهب الأبيض" لمعامل لانكشير كان الوقوع تحت طائلة الإسترقاق، و أن مشروع القطن هذا فى وجهٍ من أوجهه الأساسية لم يكن إلاّ للقضاء على العبودية فى السودان ؟!

(مجلة كلية غردون) مجلة علمية ثقافية إجتماعية. رئيس تحريرها: عبد الوهاب محمد الشيخ. هيئة المحررين: توفيق أحمد سليمان، الطاهر عبد الباسط، محجوب محمد صالح، سر الختم السنوسى.
و هيئة إدارتها: "مدير الإدارة" حسين عثمان ونى، "الإتصال الخارجى" محمد عمر بشير، "الدعاية" يوسف المفتى.

و جاءت مواضيع هذا العدد تحت عنوان "إقرأ فى هذا العدد"، كالآتى:

كلمة المحرر --- رئيس التحرير
الجمعية التشريعية --- عباس على - كلية غردون
الحركة الوطنية --- الطاهر عبد الباسط "" ""
حق تقرير المصير --- محجوب محمد صالح "" ""
كلمة الإتحاد --- "" ""
الفاشية --- محمد عبد الحليم محجوب "" ""
كفاح الشعوب --- ع.م. الشيخ "" ""
السودان و الفن الخالد --- أحمد حسين عبوش "" ""
فلسطين --- هاشم عثمان "" ""
قصيدة – من أعماق السجون – مكافح---
الكفاح المشترك--- "" ""
الشرق فى مفترق الطرق--- عباس عبد المجيد "" ""
مقتطفات من الصور و المجلات---
الحركة العمالية--- محمد عمر بشير "" ""

أهمية مقال الأستاذ/ محجوب محمد صالح تكمن فى رؤيته الواضحة لمطلب إستقلال السودان كحق مكفول لتقرير مصير شعوب السودان، و ذلك بعيداً عن تلك الشعارت العاطفية التبسيطية الثنائية -(الإتحادية الإستقلالية)- التى ما زال السودان يُعانى من تبعات "مكايداتها" السياسية التى أودت به إلى سوء المآل. و لمّا كان المقال يقدم فهماً لحق تقرير المصير كما يفهمه المجتمع الدولى المعاصر، فإن القارىء يفهم منه أن هذا الحق - كما جاء فى المقال و إن لم يكن بصورة مباشرة - كان ينسحب حتى إلى قضية جنوب السودان بل و كل القوميات السودانية. و الملفت فى المقال أن الكاتب يقدم رأياً غاية فى الوجاهة عمّا: إذا كنا و المصريون شعباً واحداً أو أمةً واحدة ؟ و لأن عقل الشباب دائماً ما يحمل أفكاراً و اضحة ثاقبة و نيّرة، و لأن عملية "التشبيب" – أى ضخ الدماء الشابة فى العمل العام – كانت دائماً قضية ملحة لدفع العمل العام إلى الأمام، نقدم فيما يلى دليلاً على ذلك مقال الأستاذ/ محجوب محمد صالح: (حق تقرير المصير) الذى مازالت أفكاره التى تناولها قبل حوالى ستين سنة تطرح نفسها بإلحاح فى عصرنا الحالى، و هذا ما يقدم لنا فرصة للتأمل فى صورة من صور مآلات "الذاكرة الجمعية للسودانيين!".

يتبــــــع

ــــــــــــــ

هامـــــش:

1) بالمناسبة إرشيف تاريخ السودان من (الصور) الموجودة فى مبنى (مصلحة الثقافة) سابقاً بشارع الجامعة، قد يزول فى أى لحظة، هذا إن لم يكن أصلاً قد تلف جزء مقدّر من مخزونه و ذلك للوضع البائس الذى تُحفظ فيه تلك الصور. فقد حاول أحد الصحافيين إجراء تحقيق فى هذا الموضوع، إلاّ أن الموظفين المسؤولين من الأرشيف، و إن كانوا يرغبون صادقين فى أن يثير أحدهم هذه القضية لإنقاذ الإرشيف من التلف، كانوا فى غاية الرعب من أن يؤدى التحقيق إلى فقدان وظائفهم. بينما لم يوافق وكيل الوزارة بإجراء التحقيق، و وجد صاحب التحقيق نفسه يدور فى حلقةٍ مفرغة. و الجدير بالذكر أن مبنى المصلحة تجرى فيه منذ فترة إضافات و إصلاحات و ترميمات و بناء مسجد شوه المبنى تماماً! ما كان أحوج الإرشيف لهذه المنصرفات ليظل حافظاً لذاكرة السودانيين من التلف. و ما حدث لمكتبة "الماحى" فى دار الوثائق ليس ببعيداً عن الأذهان.
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في السبت فبراير 27, 2010 11:21 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »

حــق تـقـريــر المـصــيـر
[align=left] بقلم: محجوب محمد صالح
لقد إرتبط ظهور الأمم فى كل العالم بالعهد الرأسمالى لأنه العهد الذى يستلزم قيام وحدات متفقة فى اللغة و الحياة الإقتصادية فى قطر واحد تسهل للفرد مهمته التجارية و الصناعية و لذا قامت هذه القوميات على أنقاض الأجناس التى كانت سائدة فى العهد الإقطاعى و لكن بعض الدول خاصة فى شرق أوروبا كانت تجمع قوميات كثيرة فكانت النتيجة أن قامت الحركات القومية National Movements تدعو إلى طورين حسب الفترة الإقتصادية التى تمر بها القوميات المغمورة:-

(1) طور تحطيم الإقطاعية و الإرتقاء إلى العهد الرأسمالى و فى هذا الطور تبرز الحركات القومية قائمة على التآزر بين كافة طبقات الشعب لتحطيم القيود التى تكبلها و التهيؤ للقفزة التاريخية إلى نوع من الحياة من جديد – و نحو هذا الطور يسير السودان اليوم.
(2) طور تبرز فيه الأمم على نظام رأسمالى و تظهر فيه الفوارق بين طبقات الشعب فينشأ صراع طبقى عنيف فى الداخل و هو عهد ينبىء بسقوط الرأسمالية و نحو هذا الطريق تسير مصر.

من هذا يتضح لنا جلياً الفرق الإقتصادى بين كل من مصر و السودان و ما يتبعه من فرق فى التكوين النفسانى فى سجل(1) من البلدين و لذا يجب علينا أن نقف قليلاً لنرى إذا كنا و المصريون شعباً واحداً أو أمة واحدة.

أولاً ما هى الأمة؟

"الأمة مجموعة من الناس تسكن قطر واحد إتحدت لغتها و حياتها الإقتصادية و تكوينها النفسانى {Psyclogical Make-up} " فإذا ما إختل شرط من الشروط الأربعة السابقة وحدة القطر وحدة اللغة و وحدة الحياة الإقتصادية و وحدة التكوين النفسانى، لم يعد هنالك وجود للأمة – و قد سبق أن بينت الطورين الإقتصاديين المختلفين لكل من مصر و السودان و ما يتبع ذلك من إختلاف فى التكوين النفسانى و لذا لا يمكننا أن نسير وراء ركب العاطفين نردد الحداء (2) المعهود "نيل واحد شعب واحد"(3) ، لا بل هما شعبان وحّد بينهما إستعمار واحد قوى و إحتكار شنيع و ظلم منتشر فكان لابد من جمع للقوى و توحيد للكفاح حتى يستبعد المستعمر الغاصب.

و لكن هل معنى ذلك إلاّ وحدة سياسية بين مصر و السودان كلا فإن إختلاف القوميتين لا يعنى إنعدام الوحدة السياسية و كل الذى نحن بصدده الآن هو المطالبة بالإحتفاظ بحقنا فى تقرير المصير بعد أن يزيح كفاح الشعبين الموحد المستعمر الغاصب.

فما هو حق تقرير المصير هذا؟

يتبــــــــع

ــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامـــــش:

2) هل هذه مفردة عربية لم تعد تُستخدم الآن، أم المقصود: النداء ؟!

3) إنه حتى على مستوى رمز النيل فى شعار: "نيل واحد شعب واحد"، كرمز لوحدة الشعبين، لا يستقيم معنى الوحدة، ذلك أن السودان هو بلد النيلين ! بل الأكثر من نيلين الذين يرمزون لوحدة شعوبه المتنوعة، و ليس بلد النيل الوحيد الذى يُتخذ زريعة كرمز لوحدة بلدين مختلفين.

4) هنا يبدو أن الكاتب يتخلص من سطوة موضوع الوحدة السياسية بين البلدين و طغيانه فى الساحة السياسية آنذاك، بنوع من الدبلوماسية حين يقول: (... فإن إختلاف القوميتين لا يعنى إنعدام الوحدة السياسية ..)، الأمر الذى يُفهم منه: و لكن تبقى هذه الوحدة مرهونة بتوفر الظروف الموضوعية التى تسمح بهذه الوحدة السياسية بين شعبين ينقصهما تحقق شرطين من شروط وجود الأمة – (الإقتصادى و النفسى) - حسب ما جاء فى المقال.
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في السبت فبراير 27, 2010 11:29 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


نطالب بحق تقرير المصير لأن القومية السودانية آخذة فى الظهور و التبلور فلا يمكننا أن نتناساها بحال من الأحوال و ليس هذا لأن نظرتنا يجب ألاّ تتعدى المحيط الوطنى الضيق – محيط الوطنية السودانية – بل بالعكس فإننا إن نكن نسعى لخلق قوميات أوسع مدى وجب أن نبرز هذه القومية و نعطها حقوقها خشية أن نقع فى حروب قومية فى داخل القوميات الواسعة التى نسعى لخلقها. و صفحات التاريخ ملئة بالتجارب لهذه المشادات القومية: فهاهم التشيك بدأوا أولاً بالإندماج فى النمسا غير مراعين لقوميتهم فإنحل الإندماج إلى إتحاد و الإتحاد إلى إنفصال لماذا؟ لأن مجرد التجاهل لهذه القومية ولّد فى التشيك شعوراً أزيد (1) بها فأصبحوا يخشون ظلم النمسا و يتوقعونه فى كل لحظة و لم يكن من قانون يكفل لهم حقهم فى تقرير مصيرهم فيشعرهم بقوتهم و قدرتهم على تكييف الوضع الذى يريدونه و هكذا ساروا فى حلقة من المشادات الداخلية أدت بهم إلى الإنفصال التام. و لذا كان من أول واجبنا الإحتفاظ للقومية السودانية بحقها فى تقرير نوع الحياة الذى تريد و يبقى الحق فى يدها لتغير به حالتها كلما تغيرت ظروف الحياة أما إذا تجاهلنا أمرها فسيؤول أمرنا إلى ما آل إليه القوميات التى سبقتنا فى التاريخ مثل التشيك.

و ثمة أمر آخر جرّ إليه تجاهلنا للقومية السودانية إذ أننا نادينا بشعارات ليست من صميم الواقع شعارات أخرجت القومية السودانية من الحساب فكانت النتيجة الحتمية أن فقدنا عدداً كثيراً من المواطنين خدعهم الجانب الإنفصالى (2) بشعاره البراق "السودان للسودانيين" لأنهم يشعروا بأنه يقدم شيئاً مما يطلبون: الإحتفاظ بالقومية السودانية. و لأنهم لاحظوا أن فى وادى النيل شعبين و ليس شعب واحد كما كنا ننادى – و نحن لا نلومهم على عملهم هذا لأنه كان نتيجة لشعارتنا المغلوطة و نحن لا نلوم الحركة الوطنية لأنها أخطأت فهى قد كانت فى بداية عهدها قليلة التجارب و لكن أن نشعر بالخطأ فلا نغيره خشية أن نتهم بالذبذبة أو لأسباب أخرى فخيانة للقضية الوطنية – إذ الوطنى الصحيح من يغير سياسته و خططه لتغير الظروف و إتساع التجارب.

و هناك أمر آخر أن عجلة التاريخ تسير بسرعة للأمام و الظروف تتغير تبعاً لذلك فما كان بالأمس مفيداً قد يصبح غداً لا فائدة ترجى منه و لذلك فإننا لا يمكننا أن نرسم لسودان المستقبل حكومته اليوم و نحن نعلم أن حركتنا الوطنية حركة إجتماعية لكافة الطبقات و أنها ستصبح فى المستقبل القريب حركة صراع طبقى إذ لا يمكننا و الحالة هذه أن نقرر "حكومة ديمقراطية فى إتحاد (مع)(3) مصر..إلخ، أو حكومة مستقلة إلخ". من غير أن نحتاط للمستقبل لنترك لهم حرية الإختيار و الإستبدال.
إننا إن فعلنا ذلك لم نترك لهم من طريقة مضمونة سوى الحروب لتقرير مصيرهم ! لماذا لا نكفل لهم هذا الحق منذ الآن و لماذا نتحكم فى مصائرهم ؟(4)

إذن فإن الشعار الذى يناسب ظروفنا الحاضرة الشعار الذى يستمد من خبرتنا و من تجارب الأمم السابقة هو "كفاح مشترك ضد المستعمر الغاصب مع الإحتفاظ بحقنا فى تقرير مصيرنا" و أن نعمل فى إشادة بنائه، و طبيعى أن يعمل الإنسان فى بناء المنزل الذى يسكنه فى المستقبل.

و لئن إشتركت كتلة الطلبة السودانيين مع بناة السودان الجديد فإنها تنزل إلى ميدان العمل مزودة بمختلف الآراء فى العلم و الأدب و القانون فى التاريخ و الإجتماع و السياسة و فى كل مرفق من مرافق العلم تقريباً مما لا يتسنى لكثير من الطبقات. و هى أن تعرضت لدراسة مشكلة من المشاكل الإجتماعية و السياسية فإنها تبحثها على أساس علمى بحت لا تتأثر فيه بمؤثرات المادة أو الإرهاب الذى تبعثه القوانين الحكومية ثم تضع الحل الذى توصلت إليه و تعرضه للناس مهما إختلف عن الرأى السائد مزودة إيّاه بالإدلة القاطعة.

و فى المجلة التى يقدمها إتحاد كلية غردون لهذا العام تناول الكاتبون مختلف المواضيع و المشاكل التى تمس حياتنا الإجتماعية و التى سيكون لها أثر بارز فى مستقبل بلادنا القريب، تناولوها بالبحث و التحليل العلمى الصحيح مستخلصين لها النتائج مما لديهم من أمثالها فى التاريخ و فى واقع الأمم. و هم يقدمونها إلى العامل فى مصنعه، و إلى المزارع فى حقله، و إلى التاجر فى متجره، و إلى السياسى فى مكتبه لتكون له بمثابة الشعلة التى تضىء له الطريق فيهتدى بنورها.

صورة

غلاف المجلة الأخير، و قد كتب تعليق أسفل الصورة: (المنسيون فى السودان الذين تفتك بهم الأمراض و المجاعات دون أن يعلم العالم عنهم شيئاً إنهم فى طريقهم إلى الإنقراض السريع)

إنتـــــهى

ــــــــــــــــــــــ

هوامــــش:

1) جاءت مطبوعة هكذا فى المتن.

2) رغم رفضه لشعار إستقلال السودان بالإتحاد مع مصر، من الواضح أنه هنا كان وحدوياً بما أنه يعتبر أن شعار "السودان للسودانيين" شعار "إنفصالى" !، و لكنه وحدوى من خلال مفهوم آخر، هو: "الإحتفاظ بالقومية السودانية".

3) واضح أن كلمة (مع) سقطت عند طباعة المقال.

4) و كأنه يتحدثُ عن قضية الجنوب هنا !
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في السبت فبراير 27, 2010 11:37 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

الغـُـردونيين و العِرِى

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


كان تعليقنا على ما كُتب أسفل صورة "جنى القطن" على غلاف مجلة كلية غردون الأمامى - (يلتقطون الذهب الأبيض لتغتصبه معامل لانكشير) – هو: ألم يكن يدرى طلبة "غردون" أن بديل عمل هؤلاء فى إلتقاط "الذهب الأبيض" لمعامل لانكشير كان الوقوع تحت طائلة الإسترقاق، و أن مشروع القطن هذا فى وجهٍ من أوجهه الأساسية لم يكن إلاّ للقضاء على العبودية فى السودان ؟!

فإنه داخل العدد، و فى شكل دعاية جانبية بين مواضيع المجلة، وضعت فى صفحتين مختلفتين صورتين لسودانيات من الجنوب، .. و إذا كنا لاحظنا عدم رضا طلبة "غردون" عن: "إغتصاب معامل لانكشير لقطن مشروع الجزيرة"، و دون أن يضعوا فى الإعتبار السياسة التى تقف خلف إنشاء مشروع القطن هذا و لا المبرّرات التى تخوّل لمعامل لانكشير "إغتصابه!"، تجدهم هذه المرّة من خلال هاتين الصورتين مشغولون بـ"عِرِى" السودانيين فى الجنوب، و جعلوا مطلبهم الوطني و الآنى هو الكساء .. دون أن يتحققوا من ما إذا كان مطلب "الكساء!" هذا هو مطلب هؤلاء المواطنين فعلاً أم كان مطلبهم هم: طلبة "غردون"، حيث كُتب أسفل الصورتين:

صورة

يرون الكساء لا التشريع الزائف

صورة

القطن يُجنى و الجنوب بأسره *** عرى فهل جادوا لهم بكساء

و الحال كذلك، فإنه للحصول على إجابة عن ما إذا كان مطلب "الكساء!" هذا هو مطلب هؤلاء المواطنين فعلاً أم كان مطلب طلبة "غردون"، فليس هناك أفضل من سماع رأي أصحاب القضية أنفسهم حين نفّذ الحكم الوطنى – إبّان مايو، و ليس الإستعمار - لطلبة "غردون" رغبتهم فى "كساء!" أولئك السودانيين:
( عندما عرف محدثى ماجئنا من أجله ضحك وضحك إلى أن ترقرق الدمع فى عينيه، ثم قال: جايبين لينا دموريه عشان نلبس !؟ قهقه واردف قائلأ: يا أخى أنا القدامك ده ما شايفنى عريان كيف .. أنا كنت بشتغل عند باباكوستا "مخبز فى شارع الجمهورية" فى الخرطوم وكنت باخد ماهيه خمستاشر جنيه وكان عندى عجله جديده، خليت كل ده عشان عيشتكم ما عجبتنى "ضرب كفاً بكف" .. خلينالكم اللبس هناك جيتم لاحقننا هنا عشان تلبسونا !؟ "أضاف" إنتو ناس البحر ديل لاترتاحو ولاتريحو ! ..)*
ثم : ( إلتفت الشاب إلى من إجتمع حولنا من أهل القرية وخاطبهم باللهجة المحلية، شارحاً الهدف الذى جئنا من أجله. كان الشاب يقاطع من الحاضرين بالضحك والتعليقات. أخيراً وهو يغالب الضحك قال: نزلوا الدمورية .. الليله الحلة كلها تصفى مريسه ! )*

و موضوع "العرى!"، الذى خلق منه طلبة "غردون" قضية وطنية، هو ليس نتاج حاجة لكساء أو مجرّد "سفاهة" و عِناد و "ركوب راس ساكت" و إنما:

( هذا العرى من ورائه فلسفة تقول بأن الخالق الذى منح هذا البدن من جمال فى الصنع لابد أن تكون من وراء ذلك حكمة لايجب إخفاؤها، فهذا الجسم الأبنوسى ماخلق إلا للتباهى به ) .*
و: ( مايلفت النظر حقأ أن جميع ممن همو أقل من الخمسين من العمر لايرتدون أى نوع من الملابس، عراة تمامأ، حتى النساء إلا كبار السن ) .*

و ما تقوله تعابير الوجوه فى الصورتين أعلاه، المُلتقطة تقريباً فى الأربعينات، هو نفس ما قاله الشاب الزعيم للمتبرّعين بالكساء فى السبعينات. و لا يدرى أن من يسوءهم "عرى!" بعض القبائل السودانية، أن طريق "ثقافة الكساء" – الحريصين على الترويج لها - فى المجتمعات "المتمدينة" بعد وصولها لمرحلة الرفاهية و تجاوزها لنسبية الأخلاق، فإن مآلها " ثقافة العرى من أجل العِرِى "، الغير محكوم بأى مفاهيم فلسفية أو نسق ثقافى متكامل.(1)

ـــــــــــــــــــــــــــــ

هوامــــش:

• عن مقال ( إبليس فى حضرة الرئيس )، بقلم: د . أحمد خير. على موقع الجالية السودانية بأمريكا:

https://sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=3131

(1) و ما شواطىء العراة و مهرجانات العراة فى المجتمعات الغربية إلاّ دليل على ذلك.

>>>>>
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في السبت مارس 06, 2010 10:17 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مجلة العامل السودانى

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »

فى هذا العدد من مجلة (العامل السودانى) الصادر فى 16 يونيو1947 ، كُتب تحت عنوان "كلمة العدد" بقلم رئيس تحريرها: فضل بشير، موضوع مُثير و له علاقة مباشرة بما يجرى الآن بصورةٍ مُلفتة و منظّمة فى السودان من إستجلابٍ لعاملة أجنبية من دول مختلفة، بل و منح أراضى زراعية شاسعة مستصلحة و خصبة لرعايا دول بعينها لمُدد تصل إلى 99 سنة !!؟؟ فالنقرأ الموضوع أولاً، لنعلّق عليه لاحقاً:

صورة

كلمـة العـدد
هذه الهجرة المشؤومة

بقلم: فضل بشير

قوبل قرار المجلس الإستشارى الخاص بإستمرار هجرة العمال الوافدين من غرب أفريقيا بكثير من الإمتعاض و كثير من خيبة الأمل، لأن الأسباب التى بنى عليها هؤلاء السادة الأمجاد إستمرار الهجرة لا تعالج بمثل هذه الطريقة و ليس من الحكمة فى شىء أن نعالج داءاً بداء، و قد يكون الداء الأخير أشد فتكاً و أخطر أمراً.

فقلّة الأيدى العاملة منشؤها ضعف الأجور بما لا يتناسب و مستوى المعيشة للعامل الوطنى و ليس منشؤها زهده أو كراهيته فى الأعمال التى تحتاج إلى مجهود كبير. و الذين يرمون العامل الوطنى بالكسل و عدم الرضى بالقيام بأى عمل شاق إنما يرمونه زوراً و بهتاناً ليمهدوا لهؤلاء المهاجرين من (برقو) و (فلاتة) أن ينتشروا فى ربوع البلاد ليقبلوا العمل بأى أجر يعرض لهم مهما قل، إذ أنه ليس لهم فى هذه الحياة مطلب إلاّ لقمة العيش يأكلونها حيثما إتفق و كيفما إتفق، و من وراء كد هؤلاء و جِدّهم تمتلىء الخزائن ذهباً و تتكدّس الأموال و تطيب الحياة لأصحاب الأعمال، فلا مطالب و لا مشاكل، تلك هى نظرة الرأسماليين الجشعين الذين يريدون عمالاً أشبه بالآلات الصماء تعمل بأبسط قدر من التكاليف و تُرمى إذا أصابها البلى أو حل بها العطب.

هذه هى الفكرة التى إستحوذت على عقول الكثيرين فأضحوا ينظرون إلى موضوع الهجرة من هذه الناحية الإقتصادية البحتة.

و نسى هؤلاء أو تناسوا أن الضرر الذى ينجم عن فتح باب الهجرة لا يقف عند مزاحمة العمال الوطنيين و تشريدهم فحسب، بل أنهم (أى المهاجرين) يحملون معهم من الأوبئة و الأمراض الفتّاكة ما يقلق المضاجع. و قد إعترفت السلطات الصحية أن أمراض (الحمى الراجعة) و (التيفود) و ما إليها تسربت إلى السودان مع هؤلاء (النازحين الغازين).

و يقينى أن ما يُصرف من أموال فى مكافحة هذه الأمراض المهاجرة أيضاً يكفى لرفع مرتب العامل الوطنى بما يُرغّب عشرات الألوف من أبناء السودان فى فلاحة أراضيهم و إستثمار مشروعاتهم.

أما ناحية الأمن و خطرهم عليه فسجلات الحكومة تشهد بجرائمهم الشنيعة من سفك دماء و لصوصية و قطع طريق، و هذه الجرائم متأصلة فى نفوسهم يمارسونها كعادة محبوبة و هواية مفضلة لا يعبأون بعقاب و لا يأبهون لجزاء.

و هناك ناحية أخرى أخطر و أهم تلك هى ناحية خطرهم على الجنسية السودانية و القومية السودانية، و هى مشكلة أخرى قائمة بذاتها و أخطر بكثير من هذه المشاكل التى تعتبر ثانوية بالنسبة لها، و يكفى أن نذكر أن عشرات الألوف من هؤلاء المهاجرين الذين أمضوا قرابة ربع قرن إستوطنوا فى خلاله السودان لا يزالون يعيشون معيشتهم الخاصة بتقاليدهم الخاصة و عاداتهم الخاصة التى تختلف إختلافاً بيّناً عن تقاليد و عادات السودانيين.

يتضح من هذا أننا نعانى كثيراً و نخسر كثيراً من وجود هؤلاء القوم بين ظهرانينا و نستطيع أن نستغنى تماماً عما يؤدونه لنا من خدمات بتحسين حال العامل السودانى و رفع مستواه بما يجعله يُقبل إقبالاً كاملاً ليتولى هذه الأعمال و هو عالم أنه سينال من الأجر بنسبة ما ينتج من محصول و ما يدر من ربح.

إنتهـــــــــى المقال.
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الأربعاء مارس 03, 2010 5:47 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

الفلاتة و تهمة أجنبيتهم"

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


رغم أن المقال يتحدّث عن هجرة لعمال وافدين من غرب أفريقيا، بإعتبارها هجرة حديثة فى تلك الفترة، إلاّ أنه يجعل القارىء يعتقد أن معنى حداثة الهجرة هذه تنسحب على وجود قبائل غرب أفريقيا فى السودان بصفة عامة. و المقال بتعميمه هذا – و الذى قد يكون مبعثه دوافع حماية مصالح العمال السودانيين فى سوق العمل من مزاحمة الأيدى العاملة الوافدة - يُسهمُ فى ترويج معلومة مغلوطة زائعة الصيت، و هى حداثة هجرة قبائل غرب أفريقيا إلى السودان. و لكن كتاب د. محمد أحمد بدين: "الفلاتة الفلانيون فى السودان"(1) يساعد كثيراً فى تصحيح هذه المعلومة المغلوطة عن هجرة ما أصطلح السودانيون على تسميته بقبيلة "الفلاتة". حيث يتضّح لنا من الكتاب أن هذا الإسم يجمع تحت عبائته لفيف من القبائل المهاجرة من غرب أفريقيا و ليس قبيلة "الفلاتة" تحديداً. و أن هجرة قبيلة "الفلاتة"، بل قبائل غرب أفريقيا فى عمومها، هى ليست بهذه الحداثة و أنها كانت لها أسباب متعدّدة و لم تكن دوماً بغرض البحث عن عمل.

فإذا أخذنا طريق الحج كأحد أسباب هذه الهجرة، نجد أنهم:

{ .. كانوا عند أول دخولهم السودان يمرون بإقليم دارفور، الذى نجد أن الإسلام قد بدأ ينتشر فى ربوعه منذ القرن السابع الميلادى. و يتفق المؤرخون أن سلاطين الفور كانوا يشجعون العلماء، و يغدقون عليهم العطاء، و يهبونهم الحواكير (إقطاعيات كبيرة من الأراضى) و الرقيق، و لاتجبى منهم الضرائب، و يحثونهم على الإستيطان و الإستقرار. و يؤكد ما ذهبنا إليه الرّحالة (ناختيجال) الذى ذكر قائلاً: " و سعى أحمد بكر إلى جعل مملكته مملكة إسلامية حقيقية، ففكر فى جذب الرجال المتعلمين و الفقهاء إلى بلده، و بنى المدارس و المساجد، و أجبر السكان على إظهار بعض الشرائع الإسلامية ... و لضعف مستوى مواطنيه دعى القبائل الأكثر تقدماً من خارج الحدود للإستقرار فى بلده، و آمنهم على ممتلكاتهم، و رفع عنهم الضرائب. و فى هذه الفترة جاءت هجرة الفلاتة، البلالة، و العرب فى أعداد كبيرة من برنو، باقرمى، و أيضاُ هجرة سكان النيل. و جعلت حكمته و كرمه من دارفور محط الأنظار" ... و يقول الأستاذ محمد سعيد القدال: "و لذلك عندما نتحدث عن تكارير(2) القلابات، فنحن نتحدث عن مجموعة من قبائل غرب أفريقيا إستقرت فى منطقة رأس الفيل (القلابات) فى القرن الثامن عشر الميلادى بعد عودتها من مكة". }

و لكن الحج لم يكن السبب الوحيد للهجرة: { فقد سقطت الممالك الفلانية الإسلامية واحدة تلو الأخرى إما على أيدى الفرنسيين أو الإنجليز. فإستولى الفرنسيون فى عام 1893 على آخر موقع فى دولة أحمد الكبير إبن المجاهد الحاج عمر بن سعيد الفوتى. و فى عام 1903 دخلت جيوش ليوقارد مدينة سكوتو، و فر السلطان الطاهر بدينه شرقاً، و حاصره الإنجليز و قتلوه فى معركة برمى. و عند ذلك "إنكسر المرق و إتشتت الرصاص" و إنفرط العقد، و تفرق الفلاتة – الفلانيون مع غيرهم أيدى سبأ، منهم من هو فار بجلده، و منهم من هاجر بدينه فراراً من قوى الكفر. و بدأت هجرة كبيرة فى عام 1904 بقيادة إبن السلطان الطاهر و حفيد الشيخ عثمان دانفودى "محمد بلو" الذى يعرف بإسم "مى ورنو" و تبعه جماعة من الفلاتة – الفلانيين، لكن أيضاً الآلاف من بقية القبائل الأخرى من الذين كانوا جزءاً من تلك السلطنة المندحرة، من الهوسا، و التكارير، و البرنو، و البرقو، و الكنورى و وصلوا إلى السودان و أنشأوا قرية أصبحت تعرف بإسم "مى ورنو"(3) بالقرب من سنار ... و بما أن المهاجرين كانوا تحت إمرة أمير من الفلاتة – الفلانيين، أصبح من السهل على الناس تسميتهم جميعاً بـ"الفلاتة"، و إختلط الحابل بالنابل، و أصبح التمييز بين الفلاتة – الفلانيين و غيرهم ممن إنتسب إليهم جد عسير ... و إذداد الطين بلِّة، حين جاء دور الفلاتة – الفلانيين ليساهموا فى تعميق نكبتهم و يضيفوا عليها بعداً مأسوياً جديداً. فعندما بدأ كل من هبَّ و دب يدعى أنه "فلاتى"، و أصبحت هجرات القبائل الأخرى المنتسبة إلى الفلاتة – الفلانيين تترى على السودان من غرب أفريقيا، و ربما إلى يومنا هذا – حين توقفت هجرة الفلاتة – الفلانيين منذ أمد طويل – و مع إصرارهم على الإنتساب إلى الفلاتة – الفلانيين إعتقاداً فى مجدهم القديم؛ صعُبَ الأمر على السودانيين فى التفريق بين هؤلاء و هؤلاء.}

و الكتاب إذ يعالج موضوع أصل و تاريخ "الفلاتة - الفلانيين" و هجرتهم مع هجرة قبائل أخرى من غرب أفريقيا إلى السودان، بشكل يسمح للقارىء خلق تصور عام عن الحراك الإجتماعى الذى إنتظم السودان فى تلك الفترة من تاريخه، إلاّ أن الباحث فى غمرة إنشغاله فى دفع الإفتراء عن هوية "الفلاتة – فلانيين" السودانية – (الذين منهم من دخل السودان قبل ما يقرب الألف عام، و أن آخر الهجرات الكبيرة لهم تمت فى عام 1903 ) – جعل من السودان ولايات متّحدة أمريكية أخرى (4) ، حين يقول: (و مادام السّواد الأعظم من السودانيين أحفاد مهاجرين ، و إذا كان بعض الأسلاف هاجر من الشرق و الشمال، فما المانع فى أن ينال نفس الحق من جاء مهاجراً عبر بوابة أخرى هى البوابة الغربية. و أنه لم يكن هناك "حاجب" ينظم عملية الدخول و يقف ليقول: "مكانك قف! قد قفل باب الهجرة!" )!(5)، و هذا أسلوب خطير فى تبرير أحقية إدعاء الهوية السودانية بالنسبة للمهاجرين إلى السودان، و يفتح الباب واسعاً – بالذات و السودان قد أصبح الآن يستقبل هجرات منظّمة جديدة لأجناس مختلفة تماماً شكلاً و ثقافةً عن السودانيين، و هى مرشحة للزيادة مستقبلاً – لِمَنْ هاجر من هؤلاء بالأمس إلى السودان بأن يغرز أُصبعه فى عين السودانى، و يصرخ فى وجههِ: !!" It’s a Free Country "، .. و هو أسلوب يضرب عرض الحائط بعبقرية أنساق ثقافات الأقوام السودانية التى إستوعبت ثقافات الأقوام المهاجرة عبر العصور و أخضعتها لظروف الزمان و المكان السودانيَيْن، و بمجهودات السودانيين فى البحث عن هويّة جامعة لأقوامه على أرضية تاريخية مشتركة تستند إلى حضارة أسلافهم فى وادى النيل القديم كمرجعية جامعة مروراً بمستجدات تاريخهم اللاحقة كإضافات ثانوية لأصل جذورهم العرقية و الثقافية (6) .

فلم يكن الباحث لتبرير أحقيّة الفلاتة – فلانيين لإعتبارهم سودانيين فى حاجة إلى جعل وطنه السودان "وكالة من غير بواب!"، و معظم سكانه عبارة عن وافدين من بوابة الشرق و الشمال،.. فهذا تبرير لا يختلف عن تبرير المصرى العنصرى "يونان لبيب" فى تلميحه لأحقية سيادة مصر على السودان، فى قوله أن السودان: (أرض واسعة لا مالك لها، و لم يبتغ "الباشا" من غزوه غير لملمة أطرافها )!!، .. و هذا الطرح الذى يجعل معظم سكان السودان عبارة عن مهاجرين إلى أرض "بور!"، يلجأ إليه دائماً حرّاس العروبيّة فى السودان لتبرير سودانية عربانه (7) . و د. محمد أحمد بدين فى هذه النقطة لا يختلف عن هؤلاء لا سيّما و أنه يرُدُ أصول الفلاتة فلانيين إلى الأصول العربية بنفس أسلوب حرّاس العروبية فى السودان و كذلك بنفس أسلوب بعض القبائل السودانية التى تتمسّح بالنسب العربى (8) . كما أن إقتباساته الكثيرة من القرآن الكريم تعطيك إنطباعاً بميول عربسلامية فى منهجه البحثى، و لولا هذه الميول – التى حرمته من رؤية أوسع دون الحاجة لنسف الوجود السودانى القديم أرضاً و شعباً - لكان فى إمكانه أن يوطّن هوية الفلاتة – فلانيين (و كل قبائل أفريقيا جنوب الصحراء) كهوية سودانية مية المية دون ما حاجة لجعل وطنه السودان مجرّد "خلا ساكت!" يأتيه من أراد للإستقرار فيه من أى بوابة شاء. فهو من حيث أراد أن يدفع الإفتراء عن سودانية "الفلاتة - فلانيين" ضرب السودان و السودانيين "فى الأنكل!" بجعله وطنهم "سهلة ساكت!" و سكانه معظمهم عبارة عن "وافدين!" !!؟.

و نقول لـ د. محمد أحمد بدين، أنه لئن كان هناك "شعب" قديم قدم ظهور الإنسان على الأرض، فإنه هو ما يسمى بـ"الشعوب" السودانية، و لئن كان هناك شعب يدّعى أنه ظهر منذ بدء الخليقة على وجه الأرض التى يعيش عليها و لم يأتى مهاجراً إليها، فإنه هو أيضاً ما يسمى بـ"الشعوب" السودانية(9) . و كل الأقوام الأخرى التى وفدت إليه عبر العصور بخضوعها لظروف الزمان و المكان السودانيَيْن يستطيعوا أن يدّعوا ما يدّعيهِ السودانيون(10) ، و لكن لا يمكن لهم ليبرّروا إدعائهم بكونهم أصبحوا جزءاً من نسيج الثقافات السودانية و أنهم ليسوا "دخلاء!" عليها، نُكران الوجود القديم للشعوب السودانية برمّته على أرض السودان، فقد عكف لتوضيح أصل الوجود القديم السودانى الذى إستوعب المستجد من الخارج و أخضعه لقوانينه الخاصة بروف: أسامة النور، فيما يعرف بنظرية (11)"الداخل - Internal / و الخارج - External". و فى رأيى أن الأولى بين كل الأقوام المهاجرة إلى السودان فى إدّعاء الهوية السودانية، هم المهاجرون من الأفارقة جنوب الصحراء. و هذا ما كان سيتوصّل إليه د. محمد أحمد بدين و هو يدافع عن سودانية هوية الفلاتة فلانيين فيما لو كانت منطلقاته فى البحث ذات مرجعية أفريقية و ليست عربسلامية.

فهو ليبيّن أصول الفلاتة فلانيين العربية و بسبب مرجعيته العربسلامية إستعان بهذه الخارطة:

صورة

الفلاتة الفلانيون فى السودان الأصل و التاريخ

التى توضّح خط سير هجرة قبيلة "حمير القحطانية" من جنوب الجزيرة العربية و تمازجها مع "البربر" فى غرب أفريقيا ثم تمازجها مع سكان أفريقيا المحليين ممّا نتج عنه قبيلة "الفلاتة – فلانيين"(12) .
بينما فيما لو كانت مرجعيته أفريقية لحسم أمر أصل الفلاتة فلانيين الأفريقي و بالتالى أمر أولويتهم بين كل تلك الأقوام المهاجرة من الشرق و الشمال بإدّعاء الهويّة السودانية، بهذه الخارطة:

صورة

هجرات الشعوب الزنجية الأفريقية إبتداء من أعالى النيل و منطقة البحيرات. (عن كتاب: الأمم الأفريقية و الثقافة، شيخ انتا ديوب)

و هذه الخارطة توضح الأصل الواحد للقبائل الأفريقية التى بعد تكاثرها إنطلقت من أعالى النيل و منطقة البحيرات الكبرى أو منطقة "الصّدع الأفريقى" إلى نواحى أفريقيا، و يقول "أنتا ديوب": { إن الحجج التى تساق للدفاع عن الأطروحة التى تعتبر أن إعمار إفريقيا تم عن طريق المحيط الهندى، إنطلاقاً من أوقيانوسيا، لا تستند على أى أساس. و لم تتوفر لدينا حتى الآن أى وقائع أثرية أو غيرها تسمح لنا بأن نعثر على مهد للزنوج خارج أفريقيا. و قد تم الإعتماد على الأساطير التى جمعت من أفريقيا الغربية و مفادها أن الزنوج قدموا من الشرق من ناحية المياه الكبرى. و إرتأى "ديلافوس"، مقدّماً، أن "المياه الكبرى" التى ورد ذكرها فى الأساطير هى المحيط الهندى، دون أن يكون هناك أى دليل آخر، و ربما إعتبرها فرضية تكون منطلقاً للمزيد من الدراسة، خاصة و أنه كان من المعتقد آنذاك أن مهد الحضارة كان فى آسيا، نتيجة لإكتشاف إنسان جاوه و إنسان بكين و ما جاء فى التوراة بخصوص آدم و حواء.
و قد تبلورت الأفكار حول ذلك، و نسى المتخصصون أن الأمر كان مجرد إفتراض مبدئى، أصبح ينظر إليه على أنه نظرية أقيم عليها البرهان.

و إعتماداً على ما نعرفه حول آثار جنوب أفريقيا حيث يبدو أن البشرية نشأت هناك، و على كل ما نعرفه عن الحضارة النوبية، أُم الحضارة المصرية على الأرجح، و على كل ما نعرفه عن ما قبل التاريخ فى وادى النيل، يكون من المشروع أن نفترض أن "المياه الكبرى" ليست إلاّ مياه النيل.
و أياً كانت الجهة التى نستجمع منها الأساطير التى تقص علينا أصل أى شعب فى أفريقيا، نجد أن الإتجاه المشار إليه يعيدنا إلى وادى النيل بإعتباره نقطة الإنطلاق. و هكذا نجد أن شعوب أفريقيا الغربية التى لا تزال تتذكر حتى الآن أصولها، تقول أنها قدمت من الشرق و أن اسلافها و جدوا أقزاماً فى البلاد(13) . و وفقاً لآساطير الدوجون و اليوروبا، فقد قدموا هم أنفسهم من الشرق، و تقول أساطير الفانج إنهم جاؤوا هم أيضاً من الشمال الشرقى. و حتى القرن الماضى(14) ، لم يكن الفانج قد وصلوا بعد إلى ساحل المحيط الأطلسى، و قدم الباكوبا، حسب ما ورد فى أساطيرهم من الشمال. و عندما يتعلق الأمر بمناطق تقع جنوب وادى النيل فإن أساطيرهم تفيدنا بأنهم جاؤوا من الشمال. و ينطبق ذلك على الباتوتسى فى رواندا أوروندى.
و عندما وصل البحارة الأوائل إلى جنوب أفريقيا و رسوا عند الكاب منذ بضعة قرون، لم يكن الزولو المهاجرون من الشمال نحو الجنوب قد وصلوا بعد إلى الكاب.
و يتفق هذا الإفتراض مع أساطير الزنوج المستقرين فى وادى النيل، إذ لا تشير أساطيرهم إلاّ إلى أصل محلى لهم. و لم يحدث طوال الأزمنة القديمة أن أرجع النوبيون و الأثيوبيون أصولهم إلى جهة أصل غير محلى ، اللهم إلاّ إذا كانت تلك الجهة تقع جنوب موضعهم.
}

و هكذا فيما لو كانت مرجعية د. محمد أحمد بدين أفريقية، لكفى نفسه إضطراره أن يُركِب الفلاتة فلانيين على نفس "سرج أيديولوجية" من يعتبروهم "دخلاء!" على السودان(15) ، و لوجد أصل قبيلة الفلاتة – فلانيين أو "البول" فى وادى النيل القديم و ليس فى جنوب الجزيرة العربية، و أنهم قد هاجروا منه فى زمنٍ موغل فى القدم لسببٍ ما ثم عادوا إليه بأسباب تلك الظروف التى سردها علينا، و لكان كل الموضوع بالنسبة للفلاتة فلانيين فى أمر توطين هويتهم السودانية على غرار: "زيتنا فى بيتنا!" و "و أدونا فُندقكم تدقوا تدونا ندقو نديكم!" و "يادار السودان العزيز بأقوامه القديمة قدم التاريخ ما دخلك شر القبائل المهاجرة إليه التى تتمسّح بمسوح النسب العربسلامى!"، التى لا تزيد تعقيدات هويتها السودانية إلاّ ضُغثاً على إبالة!

و هناك خروج آخر للإنسان أقدم بكثير من هذه الهجرات إلى خارج القارة الأفريقية تشكلت منه بقية أجناس الكرة الأرضية، فيما يُعرف "بنظرية الخروج". و يبدو واضحاً فى الخريطة أعلاه قبيلة "البول" المهاجرة من منطقة البحيرات الكبرى، التى عنها يقول د. محمد أحمد بدين: {الفلاتة – فلانيون يعرفون بأسماء مختلفة فى مناطق متنوعة من أفريقيا. فهم يطلقون على أنفسهم لفظ "فلبى" للجمع و "البلى" للمفرد. و يتبعهم الألمان فى هذا الإستعمال عند الكتابة عنهم أو الإشارة إليهم. و أطلقت عليهم قبائل الولوف فى السنغال لفظ " البول " و تبعهم الفرنسيون فى هذه التسمية. أما لفظ "الفُلاّنى" فقد أطلقه عليهم الهوسا سكان نيجيريا الأصليون و صاروا يعرفون بهذا الإسم فى نيجيريا و غانا}. و يقول عنهم أيضاً بالإستناد إلى بعض المصادر التى تشكك فى الأصل الأفريقى للفلاتة فلانيين: { ثم لنر ماذا تقول المصادر فيما يتعلق بالملامح الشخصية لهؤلاء القوم. تذكر دائرة المعارف الإسلامية قولها عنهم: (هو الجنس الوحيد الأبيض أو الأحمر فى أفريقيا الزنجية). و يقول بارث أن لفظ "بول" الذى أطلقته عليهم قبائل "الولوف" يعنى "بنى فاتح و أيضاً يعنى أحمر". و يقول هيميا لفشن عن قبائلهم الرعوية (إنهم يختلفون جسمانياً عن السودانيين بما فى ذلك التكرور، و يمثلون ملامح غير زنجية) و يضيف روبن هارتن: (الفلانى هى مجموعة تتحدث لغة كنقو أفريقية، لكنهم قوقاسيون فى تكوينهم الجسمانى). و نختتم هذه الأوصاف بما يذكره إستينق (هم صفر البشرة، ذوو شعر سبيبى ناعم، رقاق الأنف و الفم، رشيقو القوام )}، و يقول فى مكان آخر: { .. الفلاتة قد إشتهروا بالجمال حتى تداول مثل عامى فى دارفور يقول: (تُلُس بناتها سمحات و مُلُس ). و تُلًس هذه مدينة سودانية و حاضرة الفلاتة – فلانيين فى دارفور .}

واضح من ما جاء عاليه أن د. محمد أحمد بدين متاثر بشدّة بـ" بنظرية خرافة الزنجى " التى تضع قالب ملامح و لون واحد لما يُسمى بـ"الزنجى"(16) ، و أى إختلافات مع ذاك القالب النموذج يجعل من الشخص أو القبيلة غير "زنجية" !؟(17) . و لعله من المفيد هنا لمعالجة "خرافة الزنجى" هذه، إقتباس بعض ما جاء فى مقدمة كتاب (عظماء السُّود فى العالم – World’s Great Men of Color، للمؤلف ج.أ. روجرز): { يختلف العلماء حول تعريف مَن هو الزنجى كما يختلف علماء اللاهوت حول تعريف مَن هو الله. كما أن علماء الأجناس لا يستطيعون بالتأكيد أن يحسموا هذا الأمر لأن علم الأجناس ببساطة ما هو إلاّ مجموعة من الآراء المتضاربة تستند على آراء الملاحظين اللذين يكونون عُرضة لعدّة مؤثّرات تجعلهم يطلقون أحكاماً تبعاً لما يستلطفون و ما لا يستلطفون عن هؤلاء أو أولئك الناس. إن ما يمكن أن يقوله عالم الأجناس عن الدونيّة المزعومة لشعب معين تذكّر المرء بالمثل "الهاييتى": (عندما يأتى الديك و الصرصور إلى قاعة المحكمة، فليس عليك أن تخمّن مَنْ سينتصر). إن ما يحتاجه علم الأجناس بصورة كبيرة هو الإنعتاق من الرأسمالية المُستَغِلّة – و الطلاق البائن مع أُسطورة سيّد العبيد المُتمثّلة فى قصة "حام".}، فهل يا ترى د. محمد أحمد بدين، و هو يوطّن وجود قبيلة الفلاتة فلانيين ضمن نسيج الثقافات السودانية، على إستعداد لعِتق فهمه لعلم الأجناس من إستغلال الرأسمالية و الطلاق البائن مع أسطورة "حام"، على الرّغم ممّا نعتقده من تمتّعه بميول عربسلامية أعمت بصيرته عن الشوف الواسع لتوطين أصول قبيلة الفلاتة فلانيين ضمن نسيج القبائل الأفريقية و بالتالى السودانية ؟!؟(18)

يتبـــــــع

ــــــــــ

هوامـــــش:

(1)- صادر عن مركز الدراسات السودانية.
(2)- جاء فى نفس المصدر: (.. يذكر د. عمر النقر ما ترجمته: "اللفظ تكارير أو تكارنة لفظ عام فى الشرق الأوسط يطلق على كل مسلمى غرب أفريقيا، و يرجع هذا الإسم إلى مدينة تكرور على حوض السنغال ").
(3)- أو ما تعرف حالياً بـ: "مايرنو".
(4)- بإعتبار أن الولايات المتحدة سكانها عبارة عن مهاجرين من أوروبا و أفريقيا و آسيا و أمريكا الجنوبية، و كذلك بشكل مشابه سكان أستراليا و كندا و نيوزلندة، و بالتالى هى بلدان – بـ"إنقراض" سكانها الأصليين – عبارة عن بلاد مهاجرين، أى "ما عندها سيد!". فهل ياترى يقصد الكاتب بهذا المعنى أننا نستطيع أن نقول أن السودان بـ"إنقراض سكانه الأصليين!"، من جراء الهجرات المكثفة لأكثر من خمسمائة تكوين ثقافى يتحدّث بأكثر من مائة لسان، أصبح مجرّد بلد مهاجرين ؟؟!!
(5)- ص 95 من كتاب الفلاتة فلانيون فى السودان.
(6)- على سبيل المثال طرح د. جون قرنق حول هوية السودانيين التى يمكن الوصول إليها من خلال البحث فى: التنوع الثقافى القديم لأقوامه فى حضارة وادى النيل، و التنوع الثقافى الجديد لأقوامه فى سودان اليوم./ حيث أنه بالنسبة للتنوع الثقافى فى حضارة وادى النيل القديم، نجد أن كلاً من الأقوام السودانية المعروفة بقدمها: مثل السودانيين فى الشمال النيلى و البجة فى الشرق و السودانيين النيليين فى الجنوب و السودانيين فى الأنقسنا و الدارفوريين و قبل كل ذلك النوبة فى جنوب كردفان، كلهم لهم بصمات واضحة فى حضارة وادى النيل القديم السودانية، و التى مازال العمل جارى لفك طلاسمها فى ظروف بناء السدود التى ستقضى على الشواهد الأثرية، ممّا يؤدى لتحقق قاعدة: ( أن لا أحد مالك لهذه الأرض: "السودان") على أرض الواقع، و هى "القاعدة" التى يستخدمها د. محمد أحمد بدين لتبرير سودانية الفلاتة فلانيين، و سيأتى من بعده – أمثال "يونان لبيب" - مَنْ يجعل من هذه "القاعدة" مبرّراً لتبعية السودان برمّته لوطنه الأم !!؟
(7)- سمعت عون الشريف يتحدث فى برنامج تلفزيونى حيث جعل من السودان أرض بور هاجرت إليها القبائل السودانية بما فيها القبائل النيلية فى الجنوب! .. و نفس محتوى رأيه هذا و بصورة مبتذلة يُكرر بإستمرار فى التلفزيون من خلال فيلم يصوّر بعض القبائل السودانية ليؤكد من خلالهم هذه الفكرة، .. و دة كلو عشان ما يُعتبر عربان السودان قبائل دخيلة عليه !!؟
(8)- أسلوب إدعاء بعض المؤرخين أن أصول بعض القبائل السودانية يعود لهجرة قبيلة "جهينة" مثلاً .. إلخ، و هنا الباحث يستند إلى الرأى الذى يرد أصول "الفلاتة" إلى قبيلة "حِمير القحطانية"! - بل يذهب إلى أبعد من ذلك فى تبرير "رطانة!" قبيلة أصلها عربى – كقبيلة "الفلاتة" حسب زعمه - بالقول أن هذا أمر ليس غريباً حيث ينطبق على: (بعض القبائل السودانية ذات الأصول العربية وكمثالين فقط لذلك نذكر "الدناقلة" فى الشمال و "الفور" فى الغرب) !!!؟ - و لجوء بعض القبائل لتأكيد نسبها العربى لنظرية "الغريب" العربى الذى تزوج من بنت سلطان قبيلتهم الأفريقية فتحوّلوا بأجيال نسله إلى قبيلة عربية، مثال أهل "تقلى"، و هنا د. محمد أحمد بدين يستند إلى الرأى الذى يرد أصل قبيلة "الفلاتة" إلى "عُقبة بن نافع"، ثم إتّضح أنه ليس الأخير و إنما قبيلة تحمل هذا الإسم، أو أحدهم يُدعى "عُقبة" و السلام !!، الكتاب ص 28 – 29.
(9)- { ( و كانوا يتفاخرون بأنهم الشعب الذى سبق الشعوب الأخرى فى التواجد على الأرض، و يبدو أن تفوق حضارتهم الحقيقى أو النسبى، بالمقارنة مع أغلب المجتمعات التى كانت فى طور الطفولة، يبرر إدعاءاتهم. و لا توجد على أى حال شهادة تنسب مصدراً آخر لبداية الأسرة الأثيوبية، و على العكس من ذلك، توفرت وقائع هامة للغاية دعت مبكراً إلى إسناد أصل محلى بحت لها ....)، يستند "شيروبينى هنا إلى النص التالى "لديودور الصقلى": ( يقول الأثيوبيون أنهم الأول بين كل البشر و يسوقون لذلك أدلة يعتقدون أنها جلية. و من الأمور المتفق عليها عموماً أنهم نشأوا فى هذا البلد و لم يأتوا أبداً من جهة أخرى، و عليه يجب أن يعتبروا من السكان الأصليين، و يبدو أنهم قد خرجوا من الأرض قبل بقية البشر نظراً لموقعهم المباشر تحت مسار الشمس. فبما أن حرارة الشمس بإنضمامها إلى رطوبة الأرض تمنح الأخيرة نوعاً من الحياة. فإن المواقع الأكثر إقتراباً من خط الإستواء يتعين أن تنتج كائنات حية قبل المواقع الأخرى. و يقول الأثيوبيون أيضاً أنهم أسسوا عبادة الآلهة و الأعياد و الإجتماعات العامة و القرابين، أى بإختصار كل الممارسات التى تُمَجّد بها الألوهية. و لذا فإنهم معتبرون أكثر الناس تديّناً، و يعتقدون أن قرابينهم أحسنها قبولاً لدى الآلهة، و يشهد لهم على ذلك أحد أقدم شعراء الأغريق و أكثرهم تمتعاً بالتقدير، عندما أشار فى الألياذة إلى إنتقال "جوبيتر" و الآلهة الآخرين إلى أثيوبيا لحضور الإحتفالات و القرابين السنوية التى كانت تعد لهم جميعاً عند الأثيوبيين:
"جوبيتر اليوم، و فى رفقته كل الآلهة،
يتقبل القرابين من الأثيوبيين
"
)}. (هوميروس، الألياذة، 1، 422 )، عن (الأمم الأفريقية و الثقافة، شيخ أنتا ديوبو الأثيوبيون هم السودانيون قبل أن يتسربلوا "بقفطان و جبّة العربسلام! " .
(10)- يقول نلسون مانديلا أنهم فى المؤتمر الوطنى الأفريقى يعتبرون أن ثقافة و لغة "البوير" – ذات الأصول الأوروبية - ثقافة و لغة أفريقية تشكل جزءاً من نسيج ثقافة جنوب أفريقيا. و الحقيقة أن "البوير الأفريكان" يعتبرون أنفسهم أفارقة و يرفضون تصنيفهم كأوروبيين مهاجرين، و هذا ينطبق على بقية الأوروبيين المستقرين فى دول أفريقية مثل زيمبابوى، أنغولا، ناميبيا، موزمبيق، كينيا .. إلخ. عن (مشوار الحريّة – Long Walk to Freedom، نلسون مانديلا).
(11)- راجع موقع "أركامانى - Arkamani" على الإنترنت.
(12)- و كأنه بترجيح الرأى القائل بالأصول العربية للفلاتة – فلانيين يقول: أنه ليس فقط السودان بلد معظمه مهاجرين و ليس حكراً لمجموعة معينة، و إنما أن أصل و ثقافة القبائل المهيمنة فى السودان –و هى القبائل التى تدّعى الأصول العربية – ليس حكراًعليهم أيضاً. و بهذا يُركِب د. محمد أحمد بدين قبيلة الفلاتة مع تلك القبائل المهيمنة فى "سرج واحد!"، و يجعل من هجرة قبيلة "الفلاتة فلانيين" إضافة تساند أيدولوجية و ثقافة القبائل المهيمنة فى السودان، التى يقاتل السودانيين للتخلّص من هيمنتها، على حساب حقوق الأقوام السودانية ذات الأصول غير العربسلامية.
(13)- البلاد التى هاجروا إليها فى غرب أفريقيا.
(14)- كتاب شيخ أنتا ديوب (الأمم الأفريقية و الثقافة)، صدر عام 1954.
(15)- كتاب د. محمد أحمد بدين كان عبارة عن مقالات كتبها رداً على إفتراءات بعض الكتاب على قبيلة الفلاتة فى صحيفة الخرطوم.
(16)- و "الزنجى"، كما هو معروف، لم يكن أحد رُكّاب سفينة "نوح"، إذ كان من يحمل لونه و ملامحمه من رّكاب السفينة يدعى "حام"، الذى إعتبره الأنثروبولوجيون على وجه الحصر سلفاً لسكان القرن الأفريقى "الأكثر بياضاُ!" و الأدق ملامحاً ! و نسوا أو تناسوا أن فى باقى أفريقيا من هم "أكثر بياضاً!" و أدق ملامحاً من سكان القرن الأفريقى، فقبائل أفريقيا كلها تتراوح ألوان بشرتها بين تدرجات اللون الأسود ( من فاتح – Light, Fair .. و داكن - Dark) و ملامحها بين "الدقيقة" و "الغليظة" – و يحضرنا هنا حرص مانديلا عند وصف اشخاص من جنوب أفريقيا بقوله: شخص من قبيلة الزولو داكن البشرة / A dark colored Zulu، و شخص فاتح اللون من قبيلة الهوسا / A light colored Xhosa، و هى القبيلة التى ينتمى إليها مانديلا نفسه- و لكنها الخرافة التى بُنِيَت على وَهَم: (كلما توغلت داخل أفريقيا وجدت من هم أكثر سواداً و "أغلظ ملامحاً!"! )، و التى وقع فيها د. محمد أحمد بدين و هو فى سبيل دفع الإفتراء عن سودانية الفلاتة فلانيين.
(17)- و مَنْ إختلق خرافة "الزنجى" هم ما يسمى بعلماء المصريات الأوروبيين، اللذين ساءهم إكتشافهم أن مَنْ إجترح أول حضارة إنسانية فى وادى النيل القديم هم قوم ذووا بشرة "سوداء"، فإختلقوا نموذج "الزنجى" الخرافة هذا، حتى إذا وجدوا إختلافات فى تدرّجات اللون الأسود و ملامح من يحمله، بين "دقيقة - مليحة" و "غليظة – قبيحة" فيما يُكتشف من آثار، كان هذا سبباً كافياً بالنسبة لهم لرد أصول هذه الحضارة إلى جنس آخر هاجر من ما وراء البحار إلى أفريقيا فطلته الشمس بتدرّجات اللون الأسود و تبعاته حسب زُعمِهم !!؟؟ و هذا هو نفس المنطق الذى إستند إليه د. محمد أحمد بدين لتبرير لون "الفلاتة فلانيين" "الفاتح" و ملامحهم "الدقيقة" بإعتبارهم مهاجرين عرب إختلطوا بالبربر ثم بالأفارقة "السُّود"، فجاء نسل بناتهم حيث يقيمون فى "تُلُس"، سمحات و "مُلُس" !؟
(18)- أنا لا أعتبر وجود أى تكوين ثقافى أفريقى جنوب الصحراء فى السودان وجوداً دخيلاً، ذلك أنه لو تخيّلت ثقافات السودان بأزيائها المختلفة و رقصاتها المميزة فى كرنفال كما كرنفال "ريو دى جانيرو" الشهير، و أتيت بأى تكوين ثقافى أفريقى جنوب الصحراء و وضعته ضمن كوكبة هذا الكرنفال، لما أحسست بنشاز و عدم تناسق و إتساق مع المجموع الكرنفالى، بينما ستشعر بذلك مباشرةً و بصورة طاغية إذا وضعت مكانهم "فرقة رضا" أو "موسيقة حسب الله!"، على سبيل المثال ... فلماذا ياترى تبدو الثقافات الأفريقية فى مشهدها الكرنفالى متماهية مع السودانية ؟!
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الاثنين مارس 08, 2010 7:35 pm، تم التعديل 8 مرات في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »

و كأننا قد إبتعدنا عن موضوع كلمة مجلة (العامل السودانى) الصادرة فى 16 يونيو 1947، و لكن قبل أن نعود للتعقيب على هذا الموضوع الهام، هنا إضافة أخرى لا تقل أهمية لها علاقة به، أنقلها إليكم عن المائدة المستديرة غير الدورية لصحيفة (أجراس الحرية)، عدد 30/يونيو/2008، التى إستضافت فيها بروفيسير (ساندرا هيل)(1)، تحت عنوان: (سياسات الذاكرة فى النزاعات السودانية: النوع و الهوية و الوطن)، حيث جاء فى محاضرتها:

مدخل الحقيقى و المتخيّل

{ قد لا يكون هناك أى موضوع ذو علاقة بالصراع الذى سنناقشه و مقارب له من ناحيتى التنظير و التطبيق و من ناحية السياسة و التأثير السياسى مثل (سياسات الذاكرة). و هو المجال الذى يجابه فيه الناس بعضهم بعضاً بـ(الماضى)، يحكون قصصه، و يدحضون و يفندون قصص و حكايات بعضهم البعض.
و فى الصراعات لا يحارب و يقتل البشر بعضهم البعض فحسب و لكنهم يحاولون إغتيال (ذاكرة) بعضهم بعضا أيضاً. مثلاً يحاولون تسفيه أفكار أعدائهم عن (الماضى)، و يحاول البشر أيضاً إستعمار (ماضى) بعضهم البعض أو خلق (ماض زائف) و غير موجود على الإطلاق. إن بعض الحكومات، كحكومتى الولايات المتحدة الأمريكية و السودان، ماهرة جداً فى ذلك، و فى ربط كل هذا بالزمان و المكان.

إن الإستراتيجيات المختلفة لإغتيال الذاكرة و "إستعمارها" تمزق الزمان و المكان و تفجرهما تفجيراً يبيد الثقافة؛ مثلاً تغيير أسماء الأشخاص و الأماكن قسراً .. أو إزالة المعالم التاريخية، أو طمس المدافن، و حجب التعليم، و منع التحدث باللغات و اللهجات المحلية، و فرض التعاليم و التفاسير الدينية، أو فرض عادات مجموعة محدّدة و التى ترفضها مجموعات أخرى مثل عادة ختان الإناث، و إبادة المثقفين، و إعادة توطين الناس بعيداً عن مواطنهم الأصلية، أو إجبارهم على العيش وسط إثنيات مختلفة عنهم.

هذه هى بعض إستراتيجيات العنف و الصراعات التى صممت لفرض النسيان؛ و لكن هيهات!

فالبشر الذين يُراد إخضاعهم لهذه الإستراتيجيات، سيواصلون دائماً سرد حكاية ما جرى. و هذا السرد، بالتحديد، هو الذى سيسترجع، بالقطع، (ذكرى) الأحداث.
يقول سيلموفك (1988): "إن التاريخ الشفهى يتحول أحياناً إلى إثنوغرافيا"! و يمكننا أن نتعامل مع هذه المادة الإثنوغرافية و كأنها حقيقة و ليست متخيلة! لكن هذه السرديات تصير تاريخاً مشكوكاً فيه! فالأنثروبولوجيا هى الوصف المتخيل للناس و تاريخهم و ثقافاتهم و حياتهم، لكن يجب ألاّ ننسى أن من خلق هذا هم الأنثربولوجيون، و أن وصفهم للماضى يصير مطبوعاً و منقوشاً فى ذاكرة الناس قُرّاء هذا المنتج! شعب وادى (لوابوالا)، على سبيل المثال، يصف وضع مجموعتين من الناس تحمل كلتاهما أفكاراً متعارضة عن تاريخ الوادى، و تعيش كل مجموعة و كأن أفكارها هى الحقيقة التى لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها؛ مما سبب سنوات من الصراع بينهما.

لذا، و لكى نحل نزاعاً ما، لا بد، أولاً، أن نكون مدركين لحقيقة أنه قد تكون هناك وجهات نظر و قصص متعارضة عما جرى، و أن نثمّن قصص الصراع أو النزاع المتعارضة هذه، و لا نغمضها حقها، و أن نعطى كل من يحكى قصة الإعتبار الكافى لجهة صحة حكايته و موثوقيتها، و أن نحفظ حق كل من يساند هذه الرواية أو تلك فى أن يفعل ذلك!

إختراع الذاكرة

الناس يتذكرون (أوطانهم) بصور مختلفة. و قد يحاول البعض، فى أوقات النزاعات، تغيير صورة هذه الأوطان فى ذاكرة خصومهم، مثل أن يغيروا الحدود، و أسماء الأماكن، و العلامات الدالة عليها، بل و طمس كل ملامحها. هذه الإستراتيجية تهدف، فى الحقيقة، إلى محو الأوطان فى ذاكرة الآخرين. لكن، حتى لو حاولت تغيير ذاكرة شخص ما، فإن أرضه ستظل هى أرضه، لأن العملية هنا روحية و ثقافية.

و ثمة إستراتيجية أخرى هى أن تزيل اللغة الأصلية لشخص ما لتحل محلها لغة أخرى. أو أن تختلق أساطير عن (الأصل)؛ كغرس فكرة زائفة عمّن إستوطن الأرض أولاً، مثال (الأفريكانس) فى جنوب أفريقيا الذين يزعمون أنهم سكنوا الأرض قبل المتحدثين بلغة (البانتو)، أو الزعم بأن ذلك النهر أو تلك البئر كانت على الدوام هى حدود تلك الأرض، و لعلنا نعلم جميعاً أن المستعمرين كانوا خبراء حاذقين فى رسم الحدود !

و عندما نضع فى إعتبارنا محاولات تزييف الذاكرة أو التاريخ سنتذكر الأعمال النظرية لتيرى لانقر (كتابات فى أفريقيا)، و كذلك أريك هوبسباون. إن الناس هم الذين يخلقون ماضيهم سواء بالحذف أو الإضافة ليعيدوا بناء الذاكرة، و هذه العملية تختلف من شخص إلى آخر، و من مجموعة لأخرى. و قد أوضحت سوزان سلايموفكس (شكل الذاكرة، 1998) كيف أن اليهود الإسرائيليين و العرب الفلسطينيين يتذكرون المكان بصورة مختلفة. و قد ذكر إدوارد سعيد نفس الشىء، فقد قام الإسرائيليون بتغيير تاريخ المكان بطريقة مادية؛ مثلاً قاموا بتشييد مبانيهم فوق أنقاض القرى العربية، و غيروا الأسماء ليزعموا أنهم هم من أمتلك تلك الأرض أولاً!
الإسلاميون فى السودان حاولوا إعادة إختراع نوع من الإسلام لم يكن موجوداً فى السودان، و أطلقوا على ذلك (التقاليد)! و شدّدوا كذلك على شعار (العودة للجذور)، لكن الحقيقة أنهم هم الذين إخترعوا تلك الجذور! إن أولئك الذين يستخدمون عبارة (السودانيين الحقيقيين) إنما يصنعون (زعماً موثوقاً) خُلق و صُمم لأداء غرض معين!

إلى إنتهى الإقتباس من محاضرة (ساندرا هيل).

ــــــــــــــــــــــــ

هامــــش:

(1)- تقول ساندرا هيل المنتمية لليسار الأمريكى الجديد: (لو سُئلت عن نفسى لقلت أننى باحثة فى الأنثروبولوجيا و مُحبّة للسودان و للسودانيين.)
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »

نستطيع أن نتفهّم دواعى تخوّف كلمة مجلة (العامل السودانى)، فى ذلك الوقت و السودان على أعتاب الإستقلال، من هجرة العمال الوافدين من غرب أفريقيا (1) بإعتبارهم يزاحمون العامل السودانى فى سوق العمل، و هى غيرة و مخاوف لها مبرّراتها بالذات حين تكون صادرة من المؤسسة النقابية التى أوكل إليها العمال الوطنيون حماية مصالحهم. و لكن الكلمة تجاوزت هذه المبرّرات المشروعة – التى يدخل فيها ضمن ما يدخل من مبررات حتى التخوف من خطر "الهجرات على الجنسية السودانية و القومية السودانية"، حيث لابد من مراعاة التوازن الديمغرافى عند إعتماد الهجرات إلى الوطن - لتضيف إليها أبعاداً عنصرية لا مبرّر لها، حين تقول:
{ و نسى هؤلاء أو تناسوا أن الضرر الذى ينجم عن فتح باب الهجرة لا يقف عند مزاحمة العمال الوطنيين و تشريدهم فحسب، بل أنهم (أى المهاجرين) يحملون معهم من الأوبئة و الأمراض الفتّاكة ما يقلق المضاجع. و قد إعترفت السلطات الصحية أن أمراض (الحمى الراجعة) و (التيفود) و ما إليها تسربت إلى السودان مع هؤلاء (النازحين الغازين).}

ذلك أن إنتقال الأمراض و إنتشارها ليس مسؤلية أولئك المهاجرين البسطاء، و إنما قصور مؤسسات السودان الصحية فى القيام بمهامها الموكلة إليها، و كذلك قصور قوانين الهجرة السودانية التى يجب أن يكون من شروطها خلو المهاجر من الأمراض المُعدية.

و تبدو الإنحيازات العنصرية لكلمة (العامل السودانى) واضحة للعيان حين تلصق بجنس المهاجرين هؤلاء صفتى الإجرام و اللصوصية كسلوك متأصّل فى نفوسهم و كعادة محبّبة و هواية مفضّلة !!:
{أما ناحية الأمن و خطرهم عليه فسجلات الحكومة تشهد بجرائمهم الشنيعة من سفك دماء و لصوصية و قطع طريق، و هذه الجرائم متأصلة فى نفوسهم يمارسونها كعادة محبوبة و هواية مفضلة لا يعبأون بعقاب و لا يأبهون لجزاء.}

و أن أحمد بشير كاتب الكلمة بإسم العمال السودانيين بقوله هذا أتى شيئاً نُكرا فى حق قبائل أفريقية معروف عنها مسالمتها، و إن كان هناك ما يميزها بين القبائل السودانية فهو تقديسها الشديد للعمل و طاقتها اللامحدودة فى بذل العَرَق فى سبيله(2) . إن أحمد بشير فى غمرة دفاعه عن مصالح العامل السودانى ينسى أنه بقوله ذلك إنما يمس هذا العامل نفسه فى شخصه. إذ مَنْ هو هذا العامل السودانى الذى يدافع عنه أحمد بشير؟ ألا يمكن أن يكون أحد أحفاد هجرات قديمة لقبائل غرب أفريقيا التى خضعت لظروف الزمان و المكان السودانيَيْن و أصبح وقتها يعمل كعامل "دريسة" فى السكة حديد على سبيل المثال؟! و إذا كان ما وصف به أحمد بشير هؤلاء المهاجرين من صفات تُضمر إنحيازاتٍ عنصرية، مشابهة لما تستخدمه أيديولوجيا الهيمنة العربسلامية فى السودان ضد أقوام سودانية بعينها - هم بالأحرى عصب الأيدى العاملة فى سوق العمل السودانى، و العمود الفقرى لقواته النظامية - ألا يجعلنا ذلك نعتقد أن أحمد بشير كان يقصد بكلمته هذه الدفاع عن عنصر معين من العمال السودانيين ؟!

و لكن حتى لو كان أحمد بشير يقصد بكلمته هذه الدفاع عن عنصر معين من العمال السودانيين، فعلى الأقل كان وقتها هذا العامل لديه نقابة مُستقلة تدافع عن حقوقه و مصالحه، فما هو ياترى موقف هذا العامل - و معه العمال السودانيين مِن مَنْ نعتقد أن كلمة أحمد بشير لم تعنيهم تحديداً - فى عصرنا هذا و هو دون نقابة مُستقلة تدافع عن مصالحه، بل نقابته على إستعداد لإخراجه من سوق العمل ببيعه لمن يدفع بأبخس الأثمان ليواجه الفاقة و حياة التشرّد، فى وقتٍ أصبح فيه من المؤكّد أن بلاده تنتظمها عملية تهجير عناصر بعينها وفق خطة مُعدّة و مفصّلة سلفاً على حدود "مثلث حمدى التركية اللاحقة" الوليد الشرعى للحدود الوهمية لسودان "التركية السابقة" (3) ؟!

فماذا يا تُرى يمكن أن يُقال فى هذا الخصوص لحماية مصالح – ليس العامل الذى عناه أحمد بشير فقط – و إنما هو و العمال السودانيين الممثلين لكل أقوامه فى كل مجالات العمل، أمام هذه الهجرة الجديدة المنظّمة و المرعية من جانب دولة هذا العامل السودانى المغبون و المغلوب على أمره ؟!(4)

يتـــــبع

ــــــــــ

هوامـــش:

(1)- يُقال أن تلك الهجرة فى ذاك التاريخ كان قد شجعها حزب الأمة، و قد يكون لتعويض فاقد العمالة فى الأراضى الزراعية للطائفة – التى ملّكتها للطائفة الإدارة الإستعمارية، بعد أن أفهمت عبد الرحمن المهدى، و كان حينها يافعاً، أن الأمر ليس كما كان يعتقد أبيه: "إذا (أنتم) رجال فنحن رجال"، ثم الله أكبر، و حرب على "أبّان عيوناً خُضر"! .. و إنما الأمر مال و سلطة و سياسة! – التى قد تكون حدثت من جراء سياسة تحرير "العبيد" و إنشاء المشاريع الزراعية الكبيرة مثال (مشروع الجزيرة). ثم إستخدم حزب الأمة من بعد هذه الأعداد المهاجرة للفوز فى أول إنتخابات برلمانية، و بعدها أصبحوا ضمن رصيده من أصوات الناخبين فى الإنتخابات اللاحقة!!
(2)- شهدتُ "الهوسا" يعملون على ضفاف النيل الأزرق، و لَكَم جلست الساعات أرقبهم مندهشاً لطاقة العمل الغريبة و الصبر الدؤوب، الذى ينفقونهما فى عمل رتيب مُضنى حد الهلاك، و هم يسحبون بقوةٍ و أناةٍ - لا تتوقفان إلاّ لتناول وجبة سريعة - شباك الصيد الضخمة منذ قبل طلوع الشمس إلى ما قبل مغيبها، و هناك صيد الليل الذى يطلقون عليه "سهرة" - و عبر قراهم التى مرّينا عليها فى الطريق، و قضيت بإحداها يومين، تجدها معمورة أكثر من قرى القبائل السودانية الأخرى، و كلٌ من فيها تجده مشغولاً بعملٍ ما، فعندهم من لا يعمل لا يأكل.
(3)- راجع ما ذكرناه عن المعلومة المغلوطة حول تشكيل "التركية السابقة" لحدود السودان الحالية فى موضوع (حمزة الملك طنبل)، و علاقة ذلك بما يُسمى "بمثلث حمدى!" خلاصة حدود "التركية اللاحقة".
(4)- لاحظ فى كلمة (العامل السودانى) أن التهمة الباطلة و المعاصرة إلى الآن، المقصود منها إخراج العامل السودانى من سوق العمل فى وطنه، و خارج وطنه مثل دول الخليج، و التى تؤكد على كسله و عدم إجادته للعمل، فى قول الكلمة: ( و الذين يرمون العامل الوطنى بالكسل و عدم الرضى بالقيام بأى عمل شاق إنما يرمونه زوراً و بهتاناً ليمهدوا لهؤلاء المهاجرين ..)، كانت تمشى على رجلين إثنين بين السودانيين منذ ذلك العهد – للعلم أن هذه التهمة الباطلة أصبح يوصم بها السودانى فى الخليج من قِبَل كل العربان بشكل مباشر دون الحرص على إبراز دليلهم على ذلك !– و ليس بين يدىّ كتاب "تشرشل" (حرب النهر) حتى أُشير إلى الموضع الذى قال فيه ما معناه: (أن السودانيين كانوا يعزفون عن القيام بالعمل فى إنشاء خطوط السكة حديد، لذلك أُستُجلِبَ عمال هنود و مصريين، و لكن عندما تعلّم العامل السودانى العمل الجديد و أدرك أن هناك مقابل إسمه المال فاقوا العمال الهنود و المصريين بحيث لم يعد الإنجليز فى حاجة إليهم). و بديهى أن من لا يعلم كيفية عمل شىء ما لا يستطيع أن يقوم به، و أيضاً أن الحافز المالى له دور كبير. فما هو مصدر هذه التهمة الباطلة التى أصبح يرددها السودانيين عن أنفسهم كما يرددون بقية التهم الباطلة عنهم، مثال أن كلامهم قبيح لا يصلح أن يصبح سناريو لدراما و أن أشكالهم أقبح بحيث لا يجب أن تبدو للناظرين من خلال شاشات التلفزيون والسينما، و إلى أى شىء تهدف، و إذا صدقناها كما بدأ عدد لا يستهان به من السودانيين بتصديقها، تُرى إلى أىّ حفرةٍ من حُفر الإستلاب و القبول بالدونيّة ستقودنا ؟؟؟!!!
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الاثنين مارس 08, 2010 7:36 pm، تم التعديل مرة واحدة.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

الزراعة فى السودان

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


فإذا كانت هجرة قبائل غرب أفريقيا الأخيرة التى أشارت إليها كلمة مجلة (العامل السودانى) عام 1947، أملتها ضرورة نقص الأيدى العمالة فى مشاريع ملاك الأراضى السودانيين نتيجة لسياسة تحرير العبيد و إنشاء المشاريع الزراعية الكبيرة، فما هى ياترى الضرورة التى تمليها هجرة مزارعين مصريين بأسرهم بعد 61 عاماً من تاريخ صدور كلمة العمال تلك، ليس بغرض العمل فى مشاريع السودانيين لسد نقص فى الأيدى العاملة، و إنما للعمل فى مشاريع جديدة ضخمة خُصّصت لهم تحديداً ؟!(1)

و إذا علمنا أننى و شقيقى المهندس الزراعى لم نستطيع زراعة عشرة فدان فقط تقع فى ضواحى الخرطوم، أو ما يُسمّى سوبا شرق، بجانب "التُرعة" الرئيسية منذ عام 1993(2) ؟! ذلك لأننى و شقيقى منذ ذاك التاريخ و نحن فى إنتظار تدفق الماء فى "الترعة" كما لو كنا فى إنتظار "جودو" (3) !! و لمّا كان معارفى من مُمتهنى حرفة الزراعة المطرية فى جنوب كردفان – (الذين إستصلحوا الأراضى الزراعية هناك منذ عقود بـ"كَبْرْ" آلاف الأفدنة من الغابات(4) ، و كوّنوا منها ثروات عبر أجيال و أجيال) - قد فقدوا ثرواتهم الزراعية هذه بسبب السياسات الزراعية فى عهد "الإنقاذ"، ثم هجروا مهنتهم نهائياً ليستقروا فى أحياء الخرطوم !! و لمّا كانت أساليب الهندسة الزراعية و الرّى الحديث قد تطورت خلال 61 سنة منذ هجرة قبائل غرب أفريقيا عام 1947 بمستوى أصبح فيه فى مقدور عدد يسير من العمال الزراعيين زراعة آلاف الهكتارات(5) ، يصبح السؤال الذى يطرح نفسه بإلحاح: ما هى الضرورة التى تمليها هجرة المصريين هذه إلى السودان فى الوقت الذى دمّرت السياسة الزراعية للسلطات السودانية قطاع الزراعة فى السودان و أقعدته عن القيام بالمهام المنوطة به، و كذلك ما الداعى لهذه الهجرة فى الوقت الذى لم تعد فيه الزراعة فى حاجة إلى أيدى عاملة كبيرة كما كان فى الماضى بسبب تطوّر أساليب الهندسة الزراعية و الرّى الحديث ؟؟!!

فهل بعد كل هذا يكون من المنطق القول – رغم السياسة الزراعية للسلطات السودانية التى تعمل ضد مصالح المزارعين السودانيين، و رغم هذه التطورات العالمية فى أساليب هندسة الزراعة و الرّى - أن ضرورة هجرة العمالة المصرية الزراعية إلى السودان أملتها حاجة السودان إلى الأيدى العاملة ؟! و أملتها كذلك ما يتردد من إشاعاتٍ مُغرضة لا تخلو من إشاراتٍ عنصرية عن كسل الإنسان السودانى و عدم رغبته فى العمل، كما جاء فى (كلمة العامل): (و الذين يرمون العامل الوطنى بالكسل و عدم الرضى بالقيام بأى عمل شاق إنما يرمونه زوراً و بهتاناً ليمهدوا لهؤلاء المهاجرين ..) ؟!

إن الإجابة على هذين السؤالين تكمن فى الأجابة على السؤالين التاليين:

(1) ما الذى يقف حائلاً أمامى و شقيقى و السودانيين من أصحاب المزارع فى ضواحى الخرطوم – التى تقع على بُعد بضعة أمتار بين النيل الأزرق و النيل الأبيض - من زراعة مزارعنا إعتماداً على مياه "ترعة" مشروع الجزيرة، أو من خلال حفر آبار إرتوازية (6) ؟

(2) و ما هى أسباب تدهور القطاع الزراعى فى السودان بصورة عامة التى جعلت المزارعين السودانيين يهجرون مهنتهم فى نواحى السودان و يجلسون تحت ظلال الأشجار فى وسط الخرطوم؟

يتبـــــــــع

ــــــــــ

هوامـــــــش:

(1)- يتحدث أهالى أقصى شمال السودان بأنه ستُمنح أراضى واسعة لا تحتاج لإستصلاح تقع بين حلفا القديمة و "عبرى" – (تقع "عبرى" جنوب حلفا بحوالى 100 ميل تقريباً، و كانت هذه الأراضى بمثابة مجرى النيل فى عهود قديمة حيث يغير النيل مجراه عبر السنين و ذلك بقيام تياره الحفر من إحدى ضفتيه و ردم الضفة الأخرى) - إلى المصريين ! بل يهاتفنا أهالينا من هناك بأن عودوا إلى المنطقة لتسجيل ما تمتلكون من أراضى سكنية و زراعية حيث بدأت طلائع المصريين فى الظهور و إبداء رغبتهم فى الشراء و الإمتلاك !!؟ كما و أنه شبّ حريق غامض قضى على آلاف أشجار النخيل فى جزيرة "صاى"، قيل أن أحد أفراد الجزيرة أشعل ناراً تحت النخيل فخرجت عن السيطرة، و لكن أحد سكان الجزيرة قال لى: أن جزء من النخيل المحترق يقع فى الطرف الآخر من الجزيرة على بُعد عدّة كيلو مترات عن مكان ذاك الشخص الذى اشعل النار تحت النخيل، و تساءل فى إستغراب: كيف يقع الحريق فى نفس الوقت فى هذين الإتجاهين المختلفين و اللذين يبعدان عن بعضهما بعدّة كيلومترات بواسطة ذاك الشخص؟ .. ثم بادلنى نظرات مستريبة و كأن: "الفأر قد لَعِبَ بعبّهِ!" !!
(2)- و فى ظروف إنتظار الماء هذه كانت تأتينا تهديدات من السلطات بإنتزاع المزارع منّا إذا لم نزرع ! ثم تهديد آخر بإنتزاع فدانين من كل عشرة فدان – و لا تسأل لماذا – فستُنتَزع هكذا "حُمرة عين!"!
(3)- "جودو" إسم لمسرحية يدور الحوار فيها على خشبة المسرح بين إثنين فقط ينتظران أحدهم يُدعى "جودو"، و لكنه لا يأتى – كماء تُرعتنا - حتى تنتهى المسرحية. و من الواضح أن الماء لن يأتى فى "الترعة" حتى أغادر و شقيقى مسرحية الحياة السخيفة!
(4)- "الكَبِرْ" هو قطع الأشجار الكبيرة بالفأس ثم الحفر حول جذع الشجرة حتى الجذور و إشعال النار فيها. أعرف أحدهم أفنى أربعة أعوام فى تلك الجهات "يكْبُر" آلاف الأفدنة، و قد أعطته الأرض إنتاجاً وفيراً، و لكنه بسبب سياسة السلطات السودانية الزراعية "الإنقاذية" هجر مشاريعه، و الآن يُقيم بحى أركويت بالخرطوم يمضى نهاره جالساً تحت الشجر!؟ و الأمثلة كثيرة تستعصى على الحصر. / لاحظ المثابرة فى قطع آلاف الأفدنة بالفأس بتلك الطريقة لمدة أربعة سنوات، و قارن مع مقولة كسل السودانيين و عدم رغبتهم فى الأعمال الشاقة.
(5)- بواسطة هندسة الزراعة و الرّى الحديث يستطيع العامل الزراعى "بتكّة زِرْ" تشغيل عدد مهول من رشّاشات المياه الثابتة أو تلك التى تمشى على عجلات فى شكل دائرى أو مستقيم – و قد شاهدت هذه العملية فى مشروع قمح بالإمارات، و قد كان أقل المشاريع من حيث حجم العمالة و أكثرها إنتاجاً – فمع بضعة عمّال رّى هناك بضعة مهندسين زراعين لمراقبة المحصول و إجراء التجارب الزراعية، و بضعة سائقى تراكتورات و حاصدات و بضعة مكانيكيين لمراقبة شبكة الرّى و إصلاح أعطاب المعدّات و مسؤول مستودعات، و على رأس كل ذلك "حتّة" مدير .. ثم "توتة توتة فِرْغَتْ الحدّوتة!" .. هذه هى عمالة مشروع ضخم لإنتاج أهم المحاصيل و أكثرها حوجة للعمل و العناية و هو محصول القمح، .. تقول لىّ عمالة مصرية و بأُسرهم "كمان"، الموضوع كما هو واضح ما محتاج لهذه الزّحمة !؟
(6)- حتى إذا فكر المزارع السودانى لمعالجة شُح المياه بحفر بئر إرتوازية، عليه توفير تكلفة ذلك و هو مبلغ: (خمسة و ثلاثين مليون جنيه سودانى أو بالعملة الحالية 35 ألف جنيه على الأقل)، فمن أين له بهذا المبلغ!؟
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الاثنين مارس 08, 2010 7:38 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

الزراعة فى السودان (2)

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


فإذا علمنا أن ما يقف حائلاً أمامى و شقيقى من زراعة عشرة فدان فقط فى ضواحى الخرطوم هو عدم توفر المياه و إنتظام تدفقها – دعك عن إرتفاع مدخلات الإنتاج - و فى نفس الوقت الإرتفاع المهول فى تكلفة حفر الآبار، فإن هذا ينفى تماماً عنّا كسودانيَيْن يرغبان فى الزراعة تهمة الكسل و الحاجة للأيدى العاملة الأجنبية، و من يريد أن يُثبت أننا كسالى و فى حاجة لأجانب يقومون بالنيابة عنّا بمهمّة الزراعة فليوفر لنا الماء أو ليسهّل علينا عملية حفر الآبار الإرتوازية أولاً، .. ثم بعد ذلك إن وجدنا ما زلنا جالسين تحت ظلال الأشجار لا مشغلة لدينا غير سَفَّ "الساعوط" و البصق ذات اليمين و ذات اليسار(1) ، عندها فقط له الحق كل الحق فى إتّهامنا بتلك التهمة العنصرّية، بل أكثر من ذلك، سنسمح له بأن يكتب على جباهنا و نحن فى جلستنا تلك "مع ترخيمة السّفة!": (هذا هو السودانى "كسلان أفندى!"). و كذلك إذا كان المزارعون السودانيون فى بقاع السودان على وجه العموم، قد هجروا الزراعة بسبب السياسات الزراعية "الإنقاذية"، فهذا ينفى عنهم أيضاً تهمة الكسل و الحوجة للأيدى العاملة الأجنبية(2) .

بالتالى، فإن بقاء مزرعتنا أنا و شقيقى دون زراعة منذ 1993، و هجر المزارعين السودانيين فى بقاع السودان المختلفة للزراعة لا يمكن ردّه للكسل أو الحاجة للأيدى العاملة، و إنّما لأن السلطة الحاكمة للسودان، التى تنتهج – منذ التركية السابقة – سياسة الفقر و الإفقار، ببساطة لا تريدهم أن يزرعوا !!(3)

عليه، فإن هجرة مزارعين مصريين إلى السودان، فى هذه الظروف التى يعانيها المزارعين السودانيين و قطاع الزراعة فى السودان، لن تكون بمثابة حل لمشاكل ضعف الإنتاج الزراعى فى السودان الذى لا يتناسب و حجم إمكانياته الزراعية، بقدر ما هى إضافة لعدد جديد من المزارعين الذين سيعانون من مشاكل الزراعة فى السودان و مفاقمتها، .. و ما أغنانا عن زيادة عدد اللذين يعانون من مشاكل الزراعة فى السودان، و عن جلب مَنْ سيزاحمهم فى أكل عيشهم.

... و طبعاً عقدة الدونية التى تعانيها السلطات السودانية أمام مصر، و خُدّامها المنتشرين فى دولاب الدولة السودانية، ستجعل هذه الهجرة تتم تحت ضمانات معاملة مغايرة لهؤلاء المهاجرين الزراعيين المصريين عن المعاملة السائد تجاه المزارعين السودانيين. أى بإيلائهم الإهتمام اللازم الذى يتطلّبه النشاط الزراعى من سياسات زراعية مُتساهلة و مُشجّعة مثل: (توفير الرّى المنتظم و مدخلات الإنتاج المدعومة و شراء المحاصيل بأسعار مُرضية، و إعفاءات ضريبية مُريحة و تأهيل الحياة المدنية فى المشاريع الزراعية)، .. و أى "لَكْلَكَة!" أو "كانى مانى!" فى هذه الضمانات ستأتى السلطات المصرية لحماية رعاياها بسطوة "أم الدنيا!فتنتهر أولئك الذين بسياساتهم يحاولون تعطيل المشاريع الزراعية المصرية فى السودان!

.. ثم حين تأتى هذه السياسة المغايرة تجاه المزارعين المصريين المهاجرين أُكلها، سيقول ذاك الذى يتّهم السودانيين بالكسل و عدم تحبيذهم للعمل: (بُص شوف إزّاى عمّر المصريون الزراعة فى السودان، .. ألم نقل لكم أن السودانيين كسالى و لا يعملون، و أن ما حباهم به الله من أراضى خصبة "سوداء" ليسوا جديرين بها و لا يستحقونها)(4) !!

فهل بعد ذلك من المنطق أن نقول – رغم السياسة الزراعية للسلطات السودانية التى تعمل ضد مصالح المزارعين السودانيين، و رغم هذه التطورات العالمية فى أساليب هندسة الزراعة و الرّى - أن ضرورة هجرة العمالة المصرية الزراعية إلى السودان أملتها الحاجة لسد العجز الغذائى فى مصر ؟! .. و قبل أن نقول: و لماذا يتحمّل السودان - الذى فيه دُمّر القطاع الزراعي بسبب سياسات الفقر و الإفقار - مسؤولية عجز مصر عن توفير الغذاء لشعبها بمنح أراضيه لرعاياها(5) ؟، .. نقول أنه: لا يليق بدولة تتصرّف فى محيطها و كأنها دولة عظمى، أن تعالج مشاكل عجزها الغذائى بخلق مُستعمرات زراعية يستوطنها رعاياها، فيما يشبه التوسّع الإستيطانى، فى الدول المجاورة لها. كما أنه من الغريب أن دولة "بسمعة مِصر الزراعية!" نجدها تقف عاجزة عن إستصلاح الأراضى الصحراوية، كما فعلت دولة بدوية مجاورة لها معروفٌ عنها أن رصيدها فى النشاط الزراعى "شروى نقير!"(6) ، و كذلك أن تذرّعها بنفاد الشريط الضيّق للأراضى الزراعية على ضفاف النيل بحجّة الإمتداد العمرانى لسكانها(7) ، يسمح لنا بجمع كل تلك الترهات التى تقال عن ريادة مصر الزراعية و جهل السودانى بأساليب الزراعة و كسله و عدم رغبته فى العمل الشاق، فى "صُرّه!" كبيرة و القذف بها فى وسط ميدان رمسيس بالقاهرة منتصف الظهيرة، و معها جملة: "هذه بضاعتكم رُدّت إليكم!".

صورة صورة
صورة

(الناس زرعت الجبال ألا تستطيع أن تذرع الصحراء ؟! هذه هى "الرّيادة التى نفهمها فى مجال الزراعة، أما تلك "الرّيادة" الزراعية التى تتخفّى بذريعة كسل السودانى المغلوب على أمره، و نفاد شريط "القراريط!" الزراعية البائس على ضفاف النيل، فهى ريادة "فهلوة و فكاكة" ليس إلا، و هى تُضمر الأطماع التوسعية "للنخّاس الأكبر" "محمد على باشا" فى السودان).

صورة
الخلاصة، أن السلطات السودانية تستخدم سياسة الفقر و الإفقار المُنتهجة منذ "التركية السابقة" و التى أدت إلى نتيجة عزوف السودانيين عن الزراعة و إلى إلصاق تهمة الكسل بهم، فى تمرير أجندة تهجير عناصر أجنبية إلى السودان. فالواضح أن السياسة المتّبعة الآن فى القطاع الزراعى للسودان – و التى تتم فى غاية السرية و الهدوء، حتى يفيق السودانيون ذات يوم فيجدون أنفسهم و كأنهم يعيشون فى "الزقازيق!" – هو تمليك الأراضى الزراعية الممتازة لمزارعين مصريين بدعاوى الإيجار طويل الأمد – قد يصل إلى 99 عاماً – بأسعار زهيدة (8) ، ليس فقط بغرض سد فجوة غذائية فى بلد المهاجرين المصريين و إنّما كإستثمار زراعى لإستجلاب العملات الصعبة لها، و كذلك للتخلّص من ما أمكن من إكتظاظ الأنفس و تبعات إعاشتهم فى بلدهم ذو الإقتصاد الذى يعيش على الإعانات الأمريكية. إنها سياسة العودة إلى "سودان زريبة محمد على باشا" بأساليب أُخرى، و الذى يعتبره المصريون: (أرض واسعة لا مالك لها، و لم يبتغ "الباشا" من غزوه - لها - غير لملمة أطرافها)!!

يتبـــــع

ــــــــ

هوامـــش:

(1)- حكى لى أحد مواطنى الإمارات يعمل شقيقه فى مشروع زراعى ممنوح للإماراتيين على النيل الأزرق، أُزيلت من أجله العديد من قُرى السودانيين القديمة، أن : (السودانيون كسالى و لا يعملون، إنهم فقط يسفّون – [و سأل فى إستنكار: شو إسمو ؟ "الساعوط"؟!] - و يبصقون)!!
(2)- و ددت لو إلتقطت صورة لذاك التقلاوى قبل طلوع الشمس من على قمة أحد الجبال عام 2000، و هو و زوجته يمسكان بـ"المُحراكة" ينظّفان بها الأرض المزروعة من الحشائش الضّارة فى مساحاتٍ على مدّ البصر حتى يغيبان عن النظر، ثم يظهران مرّة أخرى من على البُعد و هكذا دواليك، بينما طفلهما الصغير أجلساه تحت ظل شجرةٍ بجانب طعامهما. و أخذت أُقارن و أمامى ذاك المشهد ما يقال عن كسل المزارع السودانى و نشاط المزارع المصرى الذى – لمن لا يعلم - يزرع مساحات صغيرة تُسمّى عندهم بـ"القيراط"، و "القيراط" هو أقل بمراحل من ظل الشجرة الصغيرة التى كان يجلس تحتها طفل ذينك المزارعين الزوجين، اللذين من فرط إتساع المساحة التى يعملان عليها كانا يغيبان عن النظر!! فكيف يا ترى، تستقيم معلومة كسل المزارع السودانى من خلال هذا المشهد العجيب؟!
(3)- و إذا علمنا أن إستهلاك ماء النيل للزراعة له ضوابط فى إتفاقية مياه النيل تستدعى موافقة مصر، و أن مصر إستهلكت نصيبها من المياه فى هذه الإتفاقية الذى يفوق الخمسين فى المائة، و أنها إستلفت جزءاً من نصيب السودان من المياه فى هذه الإتفاقية و هو 18% ، أدركنا لماذا لا تريد السلطات السودانية أن يتوسّع السودانيون فى نشاطهم الزراعى، .. و تُرى هل السلطات السودانية هى التى لا تريد حقيقةً أن لا يتوسّع مواطنيها فى الزراعة أم جهات أُخرى !!؟
(4)- سمعت هذه الجملة، التى تفيد بأن السودانيين لا يستحقون و ليسوا جديرين بالأراضى الزراعية الشاسعة و التربة الزراعية "السوداء" الخصبة لأنهم كسالى و لا يحبون العمل، من عدد من العربان فى الخليج بالذات الفلسطينيين و المصريين.
(5)- إذ لماذا لم تتحمّل مصر سد عجز السودان من مادة "الإسمنت" هذا العام، و التى تحتكر هى توريدها إلى السودان، فى وقت هو فى أمسّ الحاجة إليها بعد إتفاقية السلام، حتى إرتفع سعر الطن من 450 إلى 1000 جنيه سودانى ؟ فقد أوقفت مصر توريد "الإسمنت" و إلتفتت إلى الجانب الآخر قائلة للسودان: "دّبر حالك!"، ففى أمر تدبير شؤون الدول و الحرص على الأمن الإقتصادى للخزينة و للرعايا: "مافى علاقات أزلية و طبطبت أخوى و أخوك"، حيث: "مَفيش يَمّة أرحمينى!" !! .. و بعدين: "مُش نسد فجوتنا الغذائية نحنا فى الأول، بعدين نشوف مين محتاج من العالمين!، و البلد ذاتا ما ناقصة عدم إستقرار و صراع إثنى عشان تزيد الطين بلّة بفتح باب هجرة لعناصر مصرية يختلف تكوينها الثقافى و النفسى عن السودانيين".
(6)- ليبيا البدوية إستطاعت أن تفجر نهراً من المياه الجوفية فى الصحراء فأحالت الصحراء إلى حقول خضراء. و لضعف إمكانيات مصر هى ليست مطالبة بتفجير نهر و لكن حفرها لآبار إرتوازية يكفى لقيام مزارع و مشاريع تعتمد على تكنلوجيا الرّى الحديث تستطيع أن تسُّد من خلالها "فجوتها الغذائية!". و إستخدام تقنية الرّى الحديث من خلال الآبار الإرتوازية للزراعة، جرّبتها عدّة دول منها دول الخليج و تنتج السعودية منذ زمن بواسطتها محصول القمح. و بقى أن تستعرض لنا مصر "الرّائدة!" فى مجال الزراعة إمكانياتها فى هذا المجال فى أراضيها الممتدة من النيل حتى البحر الأحمر و منه حتى الحدود الليبية، و هى "بسمعة ريادتها!" الزراعية تلك قمينة بذلك الإستعراض حتى تمنحنا فرصة التعلّم منها من على البعد.
(7)- ممّا يعنى سوء التخطيط و التدبير و قُصر النظر و عدم الإحتياط لتأمين حياة رعايا أكبر دولة أفريقية "من حيث الأنفس!" عند النظام السياسى لمصر "أم الدنيا!" !.
(8)- هناك مشروع فى شمال السودان تقريباً بين الخرطوم و عطبرة، حوالى 95 ألف فدان تم إيجارها للمملكة الأردنية بمبلغ 10 دولار للفدان لزراعة خضروات بغرض التصدير و ذلك منذ منتصف التسعينات تقريباً، و فى الخبر الإعلامى قيل أنه سيتم إستجلاب عمالة مصرية لهذا المشروع الذى يعمل منذ سنوات. و قد أبرم العاهل الأردنى إتفاقية هذا المشروع مع عدد من الإتفاقيات الأخرى فى صالة مطار الخرطوم عند توقفه للحظات و هو قادم من جهةٍ ما. فإذا كان هذا المشروع، (حسب الخبر الصحفى)، قد قام بواسطة قرض أردنى من البنك الإسلامى – و الذى السودان هو عضو فيه – يبلغ 500 ألف دولار أمريكى فقط - فأرض المشروع لا تحتاج لإستصلاح - فما الذى يمنع السودان بحكم عضويته فى هذا البنك و بحكم الجدوى الإقتصادية لهذا لمشروع، و هو فى سبيل أن يُصبح (سلّة غذاء "الوطن العربى")، من أن يتقدم هو بطلب هذا القرض اليسير و إيجار أراضى هذا المشروع لمواطنيه الفقراء المساكين، أم أن هذا "الوطن العربى" لن نهنأ بأن نكون "سلّة غذائه" إلا بإستضافة مشاريعهم الإستثمارية الزراعية، و مزارعيهم "كمان" ! .. بينما نحن جلوس تحت ظلال الأشجار ننظر إليهم فى إستكانة مع "ترخيمة السفّة!" ؟!
و من ضمن أسباب عدم إقدام الأنظمة السودانية الإستفادة من القروض العديدة المبذولة من المؤسسات المالية لإنشاء المشاريع التى ستجعل منه (سلّة غذاء "الوطن العربى"، و قيل العالم!)، هو أن هناك جهات لها حظوة لدى تلك المؤسسات تقوم بتعطيل طلبات القروض السودانية من خلف الكواليس. لقد ذكرت هذه المعلومة فى مكانٍ ما، بل تمّ تحديد الجهة "المفرملة" لتلك الطلبات بالإسم، و لا أستحضر ذلك المرجع فى الوقت الحالى.
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الاثنين مارس 08, 2010 7:39 pm، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

منحة المصريين

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


جاء مانشيت صحيفة الراى العام يوم الثلاثاء الموافق 29/ 7/ 2008 باللّون الأحمر:


مصر تمنح السودانيين حق العمل و تسهيلات التأشيرة

.. مُتفضّلاً بإحاطتنا علماً أن "حق العمل" هذا – الذى جاء بعد "طولِ عَهد" منذ توقيع الإتفاق الغريب المريب المسمى "الحريات الأربع!" – ما هو إلاّ "منحة!" من مصر و ليس إلتزاماً منها تنفيذاً لذاك الإتفاق المُريب. بينما نجد المصريون قد لمسوا منذ الوهلة الأولى لتوقيع الإتفاق سهولة دخولهم إلى السودان بدون تأشيرة، و قد ظهروا بصورة ملفتة فى السودان مباشرة بعد توقيع ذاك الإتفاق الغريب المريب المسمى "الحريات الأربع!". فى الوقت الذى فيه ما زال يشتكى السودانيون لطوب الأرض عن الإزلال و العنت و التلكؤ الذى يكابدونه للحصول على تأشيرة دخول من القنصلية المصرية بالخرطوم(1) .

.. ثم حتى لو إرتضينا بهذه "المنحة!"، ما هى فرص العمل المتاحة للسودانيين فى مصر(2) ؟! و هى التى يُزاحم مهاجروها إلى السودان العمال السودانيين حتى على مستوى مهنة "الطُلبَة" أو عامل اليومية(3) !! .. و التى من فرط تفاقم أزمتها السكانية و ضيق سُبل العيش فيها، أصبحت تبحث عن أراضى زراعية فى السودان لتهجير الفائض من شعبها(4) !!

ــــــــــــــــ

و طالعتنا صحيفة "أجراس الحرية" يوم الخميس الموافق 31/7/2008، بخبر فى الصفحة الأولى:

الحريات الأربعة على رأس الأجندة
بدء إجتماعات الإسكندرية برئاسة طه و النظيف


{ بدأت أمس بمقر مجلس الوزراء المصرى باللإسكندرية إجتماعات الدورة السادسة للجنة العليا السودانية المصرية المشتركة برئاسة نائب الرئيس على عثمان محمد طه و رئيس الوزراء المصرى د. أحمد نظيف و أكد الإجتماع على ضرورة دعم عملية السلام و الإستقرار فى السودان و إسهامات مصر فى مجالات التنمية فى دار فور و الجنوب مع تسريع و تيرة تنفيذ المشروعات المشتركة فى مجالات الأمن الغذائى و أكد طه و نظيف فى كلمتيهما دعمهما القوى للمشروعات الإستراتيجية و ضرورة تسريع العمل فى تنفيذهما.

و قال وزير التعاون الدولى الدكتور التجانى صالح فضيل أن الإجتماع إستعرض المشروعات المشتركة ذات الطابع الإستراتيجى خاصة المتعلقة بالتعاون بين السودان و مصر فى مجالات الزراعة و تجارة اللحوم و موضوعات البنى التحتية.

و أوضح أن موضوع الحريات الأربع وجد حظه من النقاش خاصة محور حركة المواطنين و البضائع بين البلدين و قال أن على الجانب المصرى الإسراع فى بعض جوانب إتفاق الحريات الأربع المتعلقة بالتأشيرة و الإقامة أسوة بما هو الحال بالنسبة للمواطنين المصريين بالسودان و أوضح أن الإجتماعات تناولت موضوعات المبعوثين و معادلة الشهادة، و أضاف (هذه القضايا تتم معالجتها حالياً عبر الوزارات المختصة)

و قال أن قضية الأمن الغذائى تكتسب أهمية قصوى فى ظل الظروف الدولية و إرتفاع أسعار الغذاء و البترول فى العال و ذكر أن الإجتماعات تطرقت لقضية التنمية البشرية فيما يتعلق بجوانب التدريب و رفع القدرات
.}

لاحظ ما جاء فى التقرير الإخبارى: ( ..مع تسريع و تيرة تنفيذ المشروعات المشتركة فى مجالات الأمن الغذائى)، و كذلك: ( .. أكد طه و نظيف فى كلمتيهما دعمهما القوى للمشروعات الإستراتيجية و ضرورة تسريع العمل فى تنفيذهما.)، واضح من تكرار كلمة "تسريع!"، أن مصر و معها "الإنقاذيين!" فى عجلة من أمرهم لتنفيذ بنود تلك الإتفاقية الغريبة المريبة المسماه "الحريات الربع"، ممّا يجعلنا نتساءل: "الناس دى لاحقة شنو!!؟"، فالواضح أن كل الأوضاع فى السودان تُشير إلى عدم مواتاة الظروف لما هما مُنشغلان به. فالسودان يعانى من الحروب و الأزمات و عدم الإستقرار، و رأس دولته مهدّد بالمثول أمام المحكمة الجنائية بتهمة الإبادة الجماعية، و نظامه السياسى فى حالة تغيّر مستمر و لا يبدو أنه سيستقر فى المستقبل المنظور، لذلك يبقى الحديث فى هذه الظروف عن: "تسريع تنفيذ المشاريع الإستراتيجية بين البلدين"! و "تسريع تنفيذ مشاريع مشتركة فى مجالات الأمن الغذائى"، أمر يصعب إستيعابه إلاّ فى إطار سعى مصر لتحقيق مصالحها فى السودان أثناء إنشغال الشعب السودانى بأزماته المهولة التى "كلّبت شعر جلده!"، إذ من الواضح أنه لن يوافق عليها فيما لو عاد له الإستقرار و هدأة نفسه. فالسودانيون فى ظروف بلدهم هذه ليس من أولوياتهم توفير "الأمن الغذائى"، و إنما توفير الأمن على أرواحهم فى المقام الأول فى قلب عاصمتها السياسية، و فى الأطراف و هم يقعون فريسة سائغة للمليشيات و عصابات النهب المسلّح، و فى معسكرات اللاجئين داخل الحدود و فى الدول المجاورة. إن أولويات السودانيين بإختصار تنحصر فى تحقيق السلام بين جماعاته المتحاربة، و تأسيس حكم يقوم على التراضى بين مجموع سكانه، و ليس الإنشغال "بمشاريع إستراتيجية!" مع مصر لم يستشاروا فيها و لا يدركون أهدافها و لا مراميها البعيدة.

إن إرتباط إرتفاع و تيرة نشاط مصر و حماسها فى إبرام الإتفاقيات المسمّاة مُشتركة مع السودان - فى ظل حكوماته الديكتاتورية - و هو فى أحلك الظروف و الأزمات، و تراخيها و فتورها - فى ظل ظروف أنظمته الديمقراطية – أثناء فترات إستقراره، لأمر جدير بالتأمل و البحث.
لاحظ هذه الجملة فى التقرير الإخبارى: (على الجانب المصرى الإسراع فى بعض جوانب إتفاق الحريات الأربع المتعلقة بالتأشيرة و الإقامة أسوة بما هو الحال بالنسبة للمواطنين المصريين بالسودان)، .. ما يعنى أن السودان فى الوقت الذى أوفى فيه بجانب إلتزامه فى هذه الإتفاقية الغريبة و المريبة المسماة "الحريات الأربع!"، ظلّ الجانب المصرى "يتعزّز!" فى الإيفاء بإلتزاماته!! الأمر الذى يؤكد ما سبق ذكره أعلاه عن: (عقدة الدونية التى تعانيها السلطات السودانية أمام مصر)، كما أننا نفهم من ذلك أن "تسريع" تنفيذ المشاريع المصرية فى السودان يقابله "الأسراع" فى تنفيذ الجوانب المتعلّقة بالتأشيرة و الإقامة فى مصر!! إذ ما الذى يجعل السودان ينفذ ما وقّع عليه من إتفاق بمستوى أصبح معلوم للجميع فى السودان أن المصرى لا يحتاج للوصول للسودان سوى جواز سفره و حقيبة "هاندباك"، و لمسنا سهولة قدوم المصريين للسودان و إستفادتهم المادية من الإقامة فيه من تكرار ما نسمعه أثناء إستقلالنا الحافلات، حيث يصيح أحدهم و هو يحدّث آخر عبر "الموبايل": ( .. آآآآ .. بقولك الرّاجل بدفع 50.000 جنيه فى اليوم .. آآآآآ .. خُد جوازك و شنطتك و تعالى على طول ..)!!؟ .. فى الوقت الذى يعانى فيه السودانيون الأمرّين فى الوصول إلى "الشقيقة!" لقضاء عطلة أو "شهر عسل" أو لشراء "شقّة"، بالمستوى الذى دعى الصحافى و السياسى و الوزير الأسبق المعروف محجوب عثمان إلى الشكوى بمرارة فى عموده الثابت فى أشهر صحيفة سودانية عن ما لقيه من عَنَت و تأخير و معاملة سيئة فى مطار القاهرة، .. و إذا كان هذا حال المعاملة التى يلقاها مشاهيرنا السودانيين من حرّاس بوابة مصر "الشقيقة!" - و ذلك بعد إبرام الإتفاقيات التى تؤكد و تؤكد و تؤكد .. بأننا "إخوات بنحِب بَعْضْ و أننا أكتر من حبايب!" - فما هى ياتُرى المعاملة التى يواجهها السودانيون الـ"Ordinary"؟!(5) . و قد سمعنا حكاوى كثيرة عن ما يلقاه العرسان السودانيين فى تلك البوابة و هم يمنّون أنفسهم "بشهر عسل" لا يُنتسى بأرض "الكنانة"!
ــــــــــــــ

و جاء مانشيت صحيفة "الأيام" ليوم السبت الموافق 2/8/2008، باللون الأحمر كالتالى:

إتفاق سودانى مصرى على زراعة (2) مليون فدان بولاية الجزيرة

صورة

و يبدو أن الـ(2) مليون فدان مناسبة تماماً لهجرة 2 مليون مزارع مصرى، حيث يصبح لكل "رأس" فدّان من الأراضى الخصبة "السوداء"! و هى مساحة مهولة بما يفوق خيال المصرى الزراعى.(6)


يتبــــــع

__________________

هوامــــش:

(1)- المنظر المألوف لصفوف السودانيين الطويلة و هم يقفون فى هجير الشمس على الجانب الشرقى من القنصلية المصرية فى شارع الحرية، أصبح مشهداً مرتبطاً بمبنى القنصلية نفسه لا تكتمل ملامحه إلاّ به.
(2)- قاضى سودانى من جنوب السودان بسبب ظروف الحرب وجد نفسه و زوجته و أبناءه فى القاهرة، قال لصديقى الذى إلتقاه فى أستراليا: أنهما بينما كانا فى إنتظار إعادة التوطين لم يجدا عملا يعتاشان منه إلاّ "نظافة المراحيض"، و قد حصلا على هذا العمل بعد وساطات مُضنية
(3)- هذا ما نراه يومياً فى الخرطوم: أى جحافل "الطُلب" و عمال اليومية المصريين و هم يزحفون كل صباح إلى مواقع عملهم ! بينما السودانيين، مِن مَنْ قذفت بهم الحرب إلى الخرطوم، تطاردهم "كشّات" الشرطة و المحليّات
(4)- و قد جاء فى مانشيت صحيفة يومية سودانية قبل بضعة أسابيع فى تصريح لجمال مبارك إبن الرئيس المصرى: "مصر تقرّر الإستثمار الزراعى فى السودان"، لاحظ: مصر "تمنح" السودانيين "حق العمل" فى مصر و ليس "تنفّذ" بنود الإتفاقية "المريبة!"، و مصر "تقرّر" الإستثمار الزراعى فى السودان و ليس السودان "يسمح" لمصر بالإستثمار الزراعى فى أراضيه، .. بينما نحن جلوس على "السُباتة!" يُقعِد بنا قهر النظام الإنقاذى و الخوف من ما ينتظرنا فى مُقبل الأيام.
(5)- المعاملة التى يجدها اللاجئون السودانيون فى مصر طبعاً معروفة للجميع: (1)- عدم منحهم صفة لاجىء فى مصر، الأمر الذى يحرمهم من وضع و إعانة اللاجئين هناك. (2)- و تعطيل حصولهم على فرصة إعادة التوطين فى بلد ثالث. (3)- و أخيراً قتلهم مع نسائهم و أطفالهم بالسلاح النارى و "النبابيد!" على مرئى من قنوات التلفزيون العالمية فى قلب القاهرة، و بعيداً عن هذه القنوات فى صحراء سيناء على الحدود الإسرائيلية.
(6)- لا أدرى غرام المهتمين بأطماع مصر فى السودان مع الرقم (2) مليون. فحوالى مطلع الإستقلال إقترح (محمد نور الدين) – من أبناء حلفا، و كان ينتمى إلى حزب الأشقاء و قد إختلف مع الأزهرى فى موضوع الوحدة مع مصر- إقترح لحل قضية الجنوب تهجير (2) مليون مصرى للإستقرار فيه و التزاوج مع سكان الجنوب، الأمر الذى ينتج عنه – حسب إعتقاده – آدميين على شاكلته، و بالتالى تكون قد حُلّت قضية الجنوب!؟ .. تأمّل هذا الهراء !! .. و عينة المدعو (محمد نور الدين) ليست فريدة فى دولاب الدولة السودانية، فلدينا السفير (محمد عبد الحليم)، الذى عندما أقاله "نميرى" من منصب هام ليعينه فى منصب أقل شأناً، صرّح بأنه لخدمة مصر هو على إستعداد للعمل مجرّد قنصل فى القاهرة!! راجع مرتضى أحمد إبراهيم: "مذكرات وزير متمرّد"، إصدار مركز الدراسات السودانية، و على هذا قِس مدى حجم النفوذ المصرى فى مفاصل الدولة السودانية.
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الاثنين مارس 08, 2010 7:41 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

الجدل الأردنى السخيف

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


و يبدو أن توزيع الأراضى الزراعية السودانية لـ"لأشقاء العربان" قد دخل مرحلة جديدة من الإستغلال السىء و الإستخفاف بالإتفاقيات الرسمية المبرمة بين "أشقاء يكنّون كل الإحترام و الإعزاز و التقدير لبعضهم البعض". فقد جاء فى الصفحة الأخيرة من عدد صحيفة (أجراس الحرية) ليوم الخميس الموافق 7/8/2008، ما أسمته "جدلاً طريفاً":


صورة

جدل أردنى طريف حول الإستثمار الزراعى فى سهل المكابراب

و التعليق على هذا الخبر يأتى لاحقاً.
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في السبت مارس 06, 2010 10:23 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


فى ما يلى الخبر أعلاه ثم التعليق عليه:

رانيا الصرايرة:

{ على ذمة صحيفة (الغد) الأردنية فإن تصريحات وزارة الزراعة الأردنية التى أعلنت فيها، نيتها الإستفادة من حصة الإمارات من الأراضى السودانية، أثارت إستغراب مراقبين و عاملين و مهتمين بالشأن الزراعى، فى حين أن المملكة لم تستثمر أى جزء من الحصة الأردنية فى السودان. و مضى تقرير الصحيفة الذى أعدته رانيا الصرايرة ليقول ما يلى:

رغم مرور أكثر من عشر سنوات على منح السودان 400 ألف دونم من أراضيها للملكة لإستغلالها زراعياً، إلا أنه لم تُستغل تلك الأراضى حتى الآن. و يذكر أن برنامجاً تتبعه السودان، يقضى بإعطاء الدول العربية الراغبة بالإستثمار زراعياً فيها جزءاً من المساحات السودانية الشاسعة، مقابل إحياء تلك الأراضى و تشغيل العمالة السودانية.
و كان أمين عام وزارة الزراعة (راضى الطروانة) قال فى تصريحات صحافية أن الإمارات أبدت إستعدادها لمنح الأردن الأرض المؤجرة لها فى السودان، و التى تبلغ مساحتها 400 ألف دونم.
يشار إلى أن بروتوكولاً للتعاون الزراعى وقعته الأردن مع السودان عام 1998، وافق من خلاله السودان على تخصيص مساحة من أراضيه، بهدف إستثمارها فى المشاريع الزراعية بحسب مدير وحدة شؤون مؤسسات القطاع الخاص فى وزارة الزراعة المهندس عبد الله الشيشانى.
و أضاف الشيشانى فى تصريحات لـ(الغد) أن إتفاقية إستثمار زراعى وقعها الجانبان بعد ذلك، تم بموجبها تحديد أرض سهل المكابراب ضمن ولاية نهر النيل جنوب منطقة الدامر (عاصمة ولاية نهر النيل، تبعد 300 كم شمال الخرطوم).
و بين أن الإتفاقية منحت الأردن العديد من الميزات، كحرية حركة رأس المال و التحويل، و تصدير منتجات المشروع مصنعة أو غير مصنعة أو بيعها محلياً، إضافة إلى حرية إختيار مديرى المشروع و موظفيه و فنييه و عماله من السودانيين أو الأردنيين، و إستيراد المستلزمات من معدات و آلات و مدخلات الإنتاج.
}

لاحظ، إذا كانت المملكة الأردنية التى لم تستطع إستثمار حصة الأراضى الزراعية الممنوحة لها من قبل الحكومة السودانية - و هى الحصة التى منحت لها، كما ذكرنا سابقاً، ضمن عدّة إتفاقيات أبرمت خلال زيارة الملك الأردنى الخاطفة تلك فى صالة مطار الخرطوم تقريباً عام 1998- بعد مرور أكثر من عشر سنوات، نستنتج من ذلك التالى:

1 - أن الحكومة الأردنية و الشعب الأردنى لايعانيان من ضائقة فى محاصيل الحبوب و الأعلاف - و هو التبرير الذى بموجبه حصل الأردن على حصة الأراضى الزراعية السودانية ليسد عجزه فى هذه المجالات – و إلاّ لإهتبلوا هذه الفرصة الذهبية "الميتة!" و بالتالى لأنجزوا المشروع و قطفوا ثماره.

2 - نعلم أن هذا المشروع الزراعى حصلت الأردن بموجبه على قرض من بنك إسلامى أو عربى – أذكر مبلغ 500 ألف دولار و لست متأكداً من صحة هذا الرقم – و لمّا لم ينشأ المشروع بعد مرور عشر سنوات، فأين ذهبت هذه الأموال ؟!

3 - و إذا كانت الأردن التى لم تستطع زراعة المشروع الممنوح لها خلال عشر سنوات، فهل سعيها للحصول على حصة الإمارات فى أرض السودان الزراعية "السائبة!" يعنى حرصها على جمع "حواكير!" الأراضى الزراعية السودانية و إدخارها إلى يومٍ معلوم – يصبح فيه الحصول على الأراضى الزراعية عزيزاً- فتتمكن فيه من إستئجارها أو بيعها لمن يدفع أكثر ؟! و إذا كان مَن يدفع أكثر مِن العربان هم الخليجيون، و ها هم يتخلّصون من بعض الأراضى الزراعية السودانية التى أتخموا بها بمنحها لمن لا يملك تكاليف زراعتها مثل الأردن، فهل يكون هذا الذى يستطيع أن يدفع أكثر لما جمعته الأردن من أراضى سودانية، و يستطيع أن يتحمّل تكاليف زراعتها و يمتلك تقنية و تكنلوجيا الأساليب الزراعية الحديثة، هو (إسرائيل) ؟؟؟!!!

4 - و إذا كانت (الإمارات أبدت إستعدادها لمنح الأردن الأرض المؤجرة لها فى السودان)، فإن المُساءل هنا عن إستخفافه بالإتفاقات الرسمية المبرمة مع حكومة السودان، ليس الأردن بل هو الإمارات التى نصّبت نفسها سمسارا على أراضى السودان الزراعية الممنوحة لها بأبخس الأثمان (1) ، و الأردن مساءل عن عدم إستثماره الأراضى الزراعية الممنوحة له عبر إتفاق خاطف فى صالة مطار الخرطوم قبل عشر سنوات، مما يستدعى إنتزاعها مِن مَنْ لا يستحق هذا "الكرم السودانى" المبذول بآلاف الدونمات من الأراضى الزراعية الخصبة "السوداء!"، و منحها لمَن يستحق من السودانيين اليُتماء الجالسين على مائدة اللؤماء (2) .

5 - و إذا كانت الإتفاقية قد: (منحت الأردن العديد من الميزات، كحرية حركة رأس المال و التحويل، و تصدير منتجات المشروع مصنعة أو غير مصنعة أو بيعها محلياً، إضافة إلى حرية إختيار مديرى المشروع و موظفيه و فنييه و عماله من السودانيين أو الأردنيين، و إستيراد المستلزمات من معدات و آلات و مدخلات الإنتاج.) فهذا يؤكد ما ذهبتُ إليه سابقاً من أن الإتفاقيات الزراعية مع الدول العربية تتم تحت شروط و ضمانات هى غير تلك التى تعامل بها الحكومة السودانية القطاع الزراعى و المزارعين السودانيين اللذين ينتظرون تدفق الماء فى "الترعة" كما ينتظرون "جودو" و قد هجروا مشاريعهم الضخمة فى الأطراف و جاؤوا يجلسون تحت ظلال الأشجار فى الخرطوم، "يسفّون" "الساعوط" و يبصقون !!


* و لكن شاهد عيان قال لى أنه تقريباً فى نفس موقع هذا المشروع الأردنى "البور!"، يوجد سور و بعض الأردنيين و زراعة، و كل ذلك محروس بقوات سودانية !!؟؟

يتبــــع

ــــــــــــــــــ

هوامــش:

(1) - يبدو أن هذا ما سيكون عليه حال الإستثمار فى السودان فى كل المجالات، أعنى أن تحصل أنت على موضوع الإستثمار ثم تتصرّف فيه كيفما شئت سواء بالإيجار أو البيع إلى جهات أخرى، فمثلاً الآن يقوم الصينيون "أو قوم يأجوج و مأجوج!" فى السودان بإستئجار عمارة كاملة من أحد السودانيين بمبلغٍ ما – قل 10 ألف دولار شهرياً- و يقومون ببعض التحسينات مع إضافة مطعم و بار و بعض الـ"Entertainment"، ثم يستأجرونها مرةً أخرى لمنظمات الأمم المتحدة بمبالغ مهولة، .. فتأمّل "شيطنة" ناس "يأجوج و مأجوج!"، و ما يفعله الإماراتيين و الأردنيين فى المجال الزراعى لا يخرج عن أساليب التفكير بهذه الطريقة الملتوية التى تسمح بقذف الفتات للسودانى و إبتلاع القضمة الكبرى من ورائه.
(2) - ألا توجد شروط جزائية فى هذه الإتفاقيات، مثال: فى حالة عدم إستثمار الأرض خلال عامين مثلاً يعتبر الإتفاق لاغياً، كما تفعل الحكومة السودانية معنا نحن السودانيين و هى تهدّدنا بين الفينة و الأخرى بإنتزاع ما إمتلكناه بحرّ مالنا، و ليس عبر الإتفاقيات التى تمنح الأراضى الزراعية "كيرى!" للعربان الأردنيين الكسالى الذين لم يستطيعوا زراعة تلك الأراضى خلال أكثر من عشر سنوات رغم كل تلك التسهيلات و الحوافز و القروض المالية !!
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الأربعاء مارس 03, 2010 9:57 pm، تم التعديل مرة واحدة.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

الجدل الأردنى السخيف!

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »

و سأعفى نفسى من مواصلة التعليق على هذا "الجدل الأردنى السخيف!" فى شأن أراضينا الزراعية "السوداء السائبة!فالواضح أن مثل هذه المشاريع و الإتفاقيات لا تتحقق كما يقرأ و يسمع عنها المواطنون، و إنما تظل معلّقة فى الهواء بينما يتآمر على الإنتفاع بها المسؤلين فى الدولتين - (دول العُربان و السودان) - بما تتيحه لهم من وسائل نهب مُريح تحت غطائها. و إستعداد الإماراتيين لمنح الـ400 ألف دونم للأردنيين يفضح أن الأمر ليس الرغبة فى الإستثمار الزراعى المحقق للأمن الغذائى، و إنما أمر آخر بين المسؤولين العُربان – يسمونهم المستثمرون العرب! – و مسؤولي دولة السودان يسمح لهم بممارسة "بزنيس!" له سطوة و جاه بما تُتيحه لهم الصلاحيات الممنوحة لهذه المشاريع الوهميّة (1) . و إليكم ما تبقى من موضوع الخبر لتفضحوا بأنفسكم من خلال هذا "الجدل الأردنى السخيف!"، ضحك العُربان و المسؤولين السودانيين على ذقون الشعب السودانى بإنشاء مشاريع زراعية عربية وهمية فى السودان، مُمنين إياهم بالأمن الغذائى و الرخاء المادى:

* و زير الزراعة السابق (عاكف الزعبى)، أرجع سبب عدم إستغلال الأراضى حتى الآن لوجود "مشكلة فى الإرادة لدينا" مضيفاً أنه "من الواضح وجود شكوك فى قدرتنا على الإستثمار"، مبيناً أن واجب الإدارة تتبع خطوات المشروع التنفيذية "للتأكد من إمكانية التنفيذ و جدواه الإقتصادية"، لافتاً إلى أن المنظمة العربية أجرت الدراسة اللازمة للمشروع لتثبت جدواه الإقتصادية.

و أوضح أن ما حصل، تأرجح الأمر بين الحكومة و القطاع الخاص الأردنى، شارحاً أن الحكومة كانت غير متيقنة من قدرة القطاع العام على الإستثمار و النجاح فيه، معولة على القطاع الخاص لمباشرة الأمر، و عاد الزعبى ليؤكد على أن الحكومات المتعاقبة لم تتابع بشكل حثيث عملية تنفيذ المشروع مع القطاع الخاص.

و لفت إلى عدم رغبة القطاع الخاص فى الإستثمار فى الزراعة بالسودان، مفضلاً الإستثمار فى القطاعات ذات الربحية الأعلى هناك كالبنوك و التعدين "الذهب" و الخدمات.

و شدد على أن إستغلال الفرص المتاحة للإستثمار الزراعى فى السودان "خيار إستراتيجى للأردن، يسهم بتحقيق الأمن الغذائى الوطنى"، لافتاً إلى محدودية الموارد الزراعية الأردنية، كالتربة و المياه، فضلاً عن تدنى نسبة الإكتفاء الذاتى من محاصيل الحبوب و الأعلاف و اللحوم الحمراء.

* و من الأسباب التى إعتبرها الشيشانى معززة لأهمية إستثمار حصة الأردن من الأراضى السودانية، التراجع المستمر فى مساحة الأراضى الزراعية الناتج عن التوسع فى النشاط العمرانى، و تفتت الملكيات الزراعية "و تحولها إلى وحدات إنتاج صغيرة لا تناسب الزراعة الإقتصادية".

و أكد على أهمية ألا يقتصر الإستثمار الزراعى فى السودان على الجانب الإستثمارى بل يجب التفكير بخلق بؤرة أردنية فى السودان، تمثل نقطة إنطلاق للنشاط التجارى بشكل عام، و تسهم فى معالجة بعض القضايا التى نعانى منها كالبطالة.

و رداً على سبب عدم الإستثمار حتى الآن فى السودان، بين أن ذلك يقع على عاتق القطاع الخاص، لافتاً إلى أن الوزارة إتخذت عدة خطوات لتحفيز المستثمر الأردنى، كتنفيذ دراسة الجدوى الفنية و الإقتصادية و إعداد الشروط المرجعية لها، و توفير التمويل اللازم للدراسة.

و نوّه إلى أن فريقاً من المنظمة العربية للتنمية الزراعية، هو من نفذ الدراسة الإقتصادية بدعم من وزارة الزراعة.
و فى إطار تشجيع المستثمرين و تحفيزهم على الإستثمار فى السودان، بين الشيشانى أن الوزارة نظمت زيارة لهم للسودان للإطلاع على واقع الإستثمار الزراعى فيه.


إلى هنا إنتـــهى خبر "الجدل الأردنى السخيف!".

ــــــــــــ

و نختم هذا الموضوع "اللاّيوق!"، بإقتباس من "مانديلا العنيد!" الذى يرى: أنه ليتسلّح الأفريقى بالبراهين التى تمكنه من دحض إفتراءات الأوروبيين العنصريين التى تدّعى إفتقار الأفارقة "السّود" لتاريخ عريق يمكن مقارنته بتاريخ "البيض"، فى قوله:

[align=left]As student, I had fantasized about visiting Egypt, the cradle of African civilization, the treasure chest of so much beauty in art & design, about seeing the pyramids & the sphinx, & crossing the Nile, the greatest of African rivers ..,.. I spent the whole morning of my first day in Cairo at the museum, looking at art, examining artifacts, making notes, learning about the type of men who found the ancient civilization of the Nile Valley. This was not amateur archaeological interest; it is important for African nationalist to be armed with evidence to refute the fictitious claims of whites that Africans are without a civilized past that compares with that of the west. In a single morning, I discovered that the Egyptians were creating great works of art & architecture when whites were still living in caves.(2)

و إستطراداً نقول: إنه لدحض إفتراءات العُربان و من والاهم من "حاملى الجنسية السودانية!"، التى تدّعى عدم معرفة السودانى بأساليب الزراعة و عدم رغبته فى العمل المضنى و إتهامه بالكسل و حاجته للمال الخليجى و الأيدى العاملة المصرية ... إلخ، علينا بالكتاب المرجع: (السُّودان: حروب الموارد و الهوية) لـ/د. محمد سليمان محمد الذى يوفّر لنا كم هائل من المعلومات العلمية التى بواسطتها يستطيع السودانى دحض تلك الإفتراءات، و فضح اللّعبة المسمّاة: (السودان سلّة غذاء "الوطن العربى"، من خلال مال خليجى و عمالة مصرية و أراضى سودانية!) التى يلعبها المسؤلون العرُبان و رجال الدولة السودانية منذ عقود على الشعب السودانى:

صورة

غلاف كتاب: (السُّودان: حروب الموارد و الهوية)

فى هذا الكتاب يُفاجأ "المزارع السودانى" المتّهم بالكسل بأن بعض المشاريع التى يمتلكها مجرّد أفراد سودانيين تبلغ مساحتها مساحة دول عربية بحالها، بل تحديداً دول أولئك العُربان الذين يتهمون السودانيين بالكسل و أنهم ليسوا أهلاً و لا يستحقون تلك التربة الزراعية الخصبة "السوداء!".

و حتى تُتاح للمهتمين بهذا الموضوع فرصة التأمل فى هذه "الفنتازيا السودانية !؟"، من المفيد ربط هذا الموضوع بالمواضيع التالية:

إضغط هـــنـا

إضغط هـــنـا

إضغط هـــنـا

ـــــــــــــــ

هامـــش:

(2)- و أنا أكتب هذا المقطع زارنى أحد أقربائى – سفير بالمعاش – و بعد أن علم ما أنا مُنشغل به، حكى لى التالى: أنه كان قد خُصّص حوالى 400 ألف فدان على النيل الأبيض إلى المملكة المغربية، و عندما جاء هو إلى وزير الزراعة يسأله عن هذا المشروع ضمن أشياء أخرى تخص المملكة المغربية حسب ما هو مكلّف به، كان رد الوزير حاسماً بأن لا يستفسر عن هذا المشروع فهو "مشروع خاص بجلالة الملك المغربى، و بالتالى هو شأن سيادى!"، و أشار بيده على فمه بأن: "إيّاك أن تفتح هذا الموضوع!". و يتساءل السفير المعاشى بإستغراب: "الجاب السيادة هنا شنو؟!". عليه، فتحت زريعة "أمر سيادى!" و مشروع يخص "الملك المغربى" أو "الأردنى" أو "شيوخ الخليج" يعمل "البزنس!" العربى السودانى غير المشروع بسلاسة و إرتياح بعيداً عن "الهوا!".

(2)- عن كتاب "مشوار الحريّة – Long Walk to Freedom"، "نيلسون مانديلا".
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الاثنين مارس 08, 2010 7:43 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

الأفندية و التنوّع الثقافى

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


يقول د."خالد حسين عثمان الكد" فى دراسته الممتازة (مؤتمر الخريجين و نشأة الأحزاب السياسية)(1) :

و أرجع الأستاذ أحمد خير الفكرة – فكرة مؤتمر الخريجين – إلى خطاب وصله من ود مدنى من حسن أحمد عثمان فى أوائل الثلاثينات و ذكر أنه ناقش الفكرة مع الدكتور عبد الحليم محمد الذى كان يعمل آنذاك بمستشفى ود مدنى ثم أعد محاضرة حول الفكرة قدمها فى جمعية ود مدنى و قد أيد دكتور حليم ما ورد فى حديث أحمد خير و قد أورد حسن أحمد عثمان إشارة حية إلى ذلك:

( لقد جاءت فكرة المؤتمر أساساً من جمعيات القراءة و قد شهدت أوائل الثلاثينات ذروة نشاط الحركة الوطنية الهندية. و قد كانت كتابات نهرو و سيرة حياته تمثل "إنجيلاً" بالنسبة للمثقفين الوطنيين، و قد قام صديقنا أحمد خير، الذى كان بطبعه سباقاً للعمل، بإعلان فكرة المؤتمر)

و يدهشنى جداً أن الباحثين و الدارسين السودانيين لم يستوقفهم "إنبهار" الأفندية بالمؤتمر الهندى و حملهم تعاليمه "إنجيلاً" .. و حسن أحمد عثمان الذى يشير إليه كثيراً من الأبروفيين و أعضاء جمعية ود مدنى بـ(المعلم) و الذى نشأت وفقاً لأحمد خير فكرة المؤتمر منه، لا يعطى سبباً لإنبهارهم بالتجربة الهندية و تبنّى نموذجها. كما أنه لا يعطى سبباً لإتخاذ كتابات نهرو إنجيلاً – فكتابات نهرو و سيرته الذاتية لم تكن سوى جزء يسير من أدبيات المؤتمر الهندى، فلماذا إتخذها الأفندية دون سواها إنجيلاً ؟؟

حاولت أن أجد إجابة عن هذا السؤال فى كتابات الخريجين فى تلك الفترة و لكن لم أجد سوى التعبير عن الإستحسان و الإنبهار بشخصية نهرو أما الذين إستجوبتهم من أعضاء المؤتمر فقد كانت إجاباتهم مبهمة و لا تنطوى على إجابات شافية.

صورة

غلاف النسخة الأصلية من "إنجيل" رواد الحركة الوطنية السودانية - ( يقع فى 558 صفحة من القطع الكبير) – و التى يمكنك أن تجدها على أرفف مكتبة أحد أعضاء تلك الحركة، و إنك من رائحة ورقها المُصفَرْ لتشتم منها عبق التاريخ و لتطوف بذهنك رائحة تلك الأيام.

و لم يكن لدى خيار سوى اللجوء إلى كتابات نهرو و سيرة حياته على وجه الخصوص، و أعتقد أنها قدّمت بعض الإجابات، ففى مقدّمة الفصل الخامس فى سيرة حياته يقول نهرو:
(فى أواخر عام 1912 كانت الهند كئيبة جداً، كان يتلال فى السجن و كان المتطرفون قد أخمدوا و فى حالة ركود دون قيادة مؤثرة) و يواصل قائلاً: (و كان المعتدلون قد جمعوا لمشروع مونتوموزلى للمجالس).

و قد كان الوضع فى السودان فى أعقاب أحداث 1924 مماثلاً لهذا الوضع إلى حد بعيد. فمتطرفى اللواء الأبيض كان قد تم إخمادها و آلو إلى حالة من الركود و فقدان القيادة المؤثرة أو فقدان القيادة على الإطلاق. و قد وجد الأفندية فى أواخر العشرينات و مطلع الثلاثينات أنفسهم فى وضع ينطبق عليه وصف نهرو لنفسه:

(و لذلك فقد شعرت بعدم الرضا فى السنوات الأولى بعد عودتى من بريطانيا. لم تكن مهنتى تشبع حماسى تماماً. و السياسة، التى كانت تعنى بالنسبة لى النشاط الوطنى الذى يتسم بالعنف ضد الحكم الأجنبى، لم تكن تقدم حيزاً لإستيعاب حماستى. فإنضممت للمؤتمر و شاركت فى بعض الإجتماعات الموسمية).

لقد وجد الأفندية، و لا سيما الأبروفيين الذى صار هنالك إتفاق أنهم باعثو فكرة المؤتمر و المروجين لها، وجدوا كثيراً من الأشياء المشتركة بينهم و بين نهرو. فهم بحكم إطلاعهم على مطبوعات "نادى الكتاب اليسارى" و منشورات الجمعية الفابية و الأدب الإنجليزى فى تلك الحقبة، قد إكتسبوا بعض الخصائص و المشاعر التى إكتسبها نهرو خلال إقامته ببريطانيا و التى و صفها قائلاً:

(كانت سنوات بهيجة، عدد كبير من الأصدقاء و بعض العمل و بعض المرح و إنفتاح تدريجى فى الأفق الثقافى. لقد كانت دراستى فى العلوم الطبيعية و الكيمياء و الجيلوجيا و علم النبات و لكن إهتماماتى لم تقتصر على ذلك. و قد كان كثيراً من من قابلتهم بكيمبردج أو لندن أو غيرها من المدن خلال العطلات كانوا يتحدثون حديث العارف عن الكتب و الأدب و التاريخ و السياسة و الإقتصاد. و كنت أحس أنى فى لجة من الضياع لكنى قرأت بعض الكتب و تمكنت، على الأقل، ألا يفتضح جهلى فى هذه المواضيع العامة و لهذا فقد ناقشنا نيتشة و برناردشو و آخر كتب ديكنسون و إعتبرنا أنفسنا فى غاية الرقى و تحدثنا عن الجنس و الأخلاق بصورة متعالية).

و قد كان الأبروفيون، كما أقر حسن أحمد عثمان فى مذكراته، يعتبرون أنفسهم فى غاية الرقى و السمو و قد كانوا يتجنبون الإختلاط بـ"الغوغاء" و قد كانوا، كما ذكر إسماعيل العتبانى، يقرأون برناردشو و يناقشون المُثل العليا و الأخلاق.

صورة

الغلاف الأخير للنسخة الأصلية من "إنجيل" أفندية الحركة الوطنية السودانية.

كان ذلك على المستوى النظرى، أما على المستوى السياسى فقد أمدتهم كتابات نهرو بنموذج للمعارضة "المعتدلة" للحكم الأجنبى، فقد كانت الهند خاضعة للإستعمار البريطانى و كانت للحركات الوطنية و القومية الهندية إرث طويل فى مقاومة الإستعمار البريطانى و مواجهته و قد كان رد فعل المستعمرين البريطانيين عنيفاً لسحق تلك الحركات. و لقد أشار كثير من الأفندية لا سيما الأبروفيين، إلى أوجه الشبه بين الهند و السودان فكلاهما قطران شرقيان تسيطر عليهما قوة إستعمارية غربية. و لاحقاً صار بعضهم يحاول إيجاد تبريرات علمية لإتخاذهم المؤتمر الهندى نموذجاً لمقاومتهم للإستعمار البريطانى. فى ذلك يقول المرحوم محمد إبراهيم النور:

( لقد كان بين السودان و الهند كثير من الأشياء المشتركة، فقد كان كلاهما قطرين شرقيين متخلفين، و كان عدد المتعلمين فيهما قليلاً. و قد كا هؤلاء المتعلمون مسؤولين عن تعليم الغالبية التى كانت جاهلة و كان عليهم قيادة المقاومة ضد الإدارة البريطانية. و كذلك فقد كان التمايز العرقى و الثقافى فى السودان مماثل للتمايز فى الهند و قد نجح المؤتمر الهندى فى حل هذه القضايا و جمع الهنود فى صعيد واحد لذلك فقد أعجبنا بالمؤتمر الهندى و إتخذناه نموذجاً لحركتنا الوطنية).

و رغم ما قد يثيره الحديث عن التمايز العرقى و الثقافى من جدال فإن ملاحظة النور قد تبدو مقنعة لأولئك اللذين يجهلون طبيعة الصراع الأيديولجى و السياسى داخل المؤتمر الهندى ذاته.

(نلاحظ هنا أن إهتمام د. خالد الكِد الذى وجهه للكشف عن أسباب ميول أفندية الحركة الوطنية السودانية فى نشاطهم السياسى إلى نموذج نهرو و ليس نموذج غاندى، جعله يتجاوز موضوع "التمايز العرقى و الثقافى" على أهميته بإعتباره قد يثير جدلاً، دون أن يمنح نفسه فرصة التحقّق من ما إذا كان إدراك الأفندية لموضوع "التمايز العرقى و الثقافى" هذا - أو ما أُصطلح على تسميته فى عصرنا الحالى بـ"التنوع الثقافى" - ، الذى تفضل به المرحوم محمد إبراهيم النور فى تصريحاته اللاحقة و هو يحاول إيجاد تبريرات علمية لإتخاذهم المؤتمر الهندى نموذجاً، كان إدراكاً أصيلاً يستند إلى معرفة نظرية و تصوّر مناسب لوضعه موضع التنفيذ أم كان عبارة عن مجرّد معلومات هلامية و تصوّرات سطحية ؟؟!
و أعتقد أن د. خالد الكِد لو كان أولى هذا الموضوع قليل من الإهتمام لكان فى إمكانه أن يجيب على هذا السؤال. أقول هذا لأنه لدىّ زعمٌ قد يصل حد اليقين بأن إدراك أفندية الحركة الوطنية السودانية لموضوع "التمايز العرقى و الثقافى" لم يكن إدراكاً سطحياً و إنما كان يستند إلى معرفة نظرية و تصوّر مناسب لوضعه موضع التنفيذ، و ذلك حسب الوثيقة المرفقة أدناه و التى فى رأيى تثبت إلى حد كبير زعمى هذا [الوثيقة قديمة و بدون تاريخ]. فإن كان الأمر كذلك، ينشأ سؤال آخر أكثر إلحاحاً: ما الذى جعل أفندية الحركة الوطنية السودانية يديرون ظهورهم لثقاقات الشعوب السودانية و قد كان فى حوزتهم المعرفة النظرية و التصوّر المناسب لإبتداع نظام سياسى يستوعبها و يسمح لها بالنمو و التطوّر ؟!
)

صورة

غلاف مطبوعة "الأقليات" الهندية (20 صفحة من القطع الكبير)، إصدار مكتب الصحافة و النشر السفارة الهندية القاهرة (2)

و فى منتصف هذه المطبوعة نُشرت صور وزراء الحكومة الهندية آنذاك اللذين يمثلون تنوعها العرقى و الثقافى كالتالى حسب تسلسلهم فى المطبوعة:


صورةصورةصورة

صورةصورةصورة

صورةصورة

و ربما أعطت ملاحظته – إذا أخذت بظاهرها – إجابة عن سبب إختيارهم لنموذج المؤتمر الهندى و لكنها لا تقدم إجابة عن لماذا إختاروا نموذج و مفهوم نهرو للمؤتمر و ليس نموذج و مفهوم غاندى علماً بأن فكرة المؤتمر إرتبطت فى ذاكرة العالم بغاندى و ليس بنهرو؟ يجيب ريفيندر كومار:

(نعلم جميعاً أن مقدم غاندى شكل نقطة تحول ثورية فى السياسة فى البلاد. و نعلم كذلك أن هذا التحول إنعكس على القيم التى ألهمت الساحة السياسية و الخلفية الإجتماعية للنساء و الرجال الذين شاركوا فى الإضطرابات السياسية. و قبل ذلك أى قبل مقدم غاندى فقد كانت الأنشطة السياسية "أليفة" و "محترمة" و لم تكن تحتوى على أى تحد للقانون أو أى خرق للشرعية الدستورية كما أنها لم تكن تستوعب أى فئات إجتماعية غير تلك الفئات التى تلقت تعليمها بإنجلترا. و قد تغير كل هذا بشكل درامى بفضل شخصية غاندى المؤثرة و صارت السياسة تحت قيادته مواجهة و صدام مع الراجا البريطانى و تعكس آمال و تطلعات العامة فى الهند. )

و لو كان الأفندية فى السودان يرغبون فى مواجهة مع الإدارة البريطانية لكانوا تبنوا مفهوم غاندى و إتخذوه نموذجاً و لما كانوا تبنوا نموذج نهرو. و لكن الأفندية كانوا ينظرون إلى العامة كغوغاء و ينظرون إلى غاندى و أمثاله بإعتبار أنهم ديماغوغيون. و لذلك فقد إتجهوا إلى نهرو لأنهم وجدوه مثلهم "فى غاية الرقى" و مثقف، و قد قام فى كثير من المناسبات بإنتقاد غاندى و ديماغوغيته. لقد كان نهرو على عكس غاندى يمثل صفوة الطبقة الوسطى التى برزت إلى حيز الوجود فى القرن الثامن عشر و أخذت فى النمو خلال القرنين التاليين نتيجة للنشاط التجارى الأوروبى و قوانين الأرض التى سنتها الإدارة البريطانية و قد كان موظفاً فى الخدمة المدنية و ينتمى إلى أسرة كما وصفها فى سيرة حياته "توفر مناخاً طيباً لنشاطه الثقافى."

صورة

صورة من تلك الفترة التاريخية تمنحنا تصوّر بصرى لمظهر أفندية الحركة الوطنية السودانية آنذاك.

ـــــــــــــ

هوامــش:

(1)- صدرت فى (مجلة كتابات سودانية، العدد الخامس، مركز الدراسات السودانية).

(2)-جاء فى الباب الأول لهذه المطبوعة تحت عنوان: من هم الأقليات ؟
كان فى مقدمة المشاكل التى نجمت عن الحرب العالمية الأولى مشكلة الأقليات، فقد ظهرت إلى عالم الوجود دول جديدة كانت تؤلف من قبل فى بلادها أغلبية ساحقة فأصبحت بين يوم و ليلة أقلية ضئيلة فى الدولة الجديدة كما هو شأن الألمان فى بولندة و النمسويين فى تشيكوسلوفاكيا.
و قد نص فى معاهدات الصلح و ميثاق هيئة الأمم على مبادى خاصة تهدف إلى حل مشكلة الأقليات و حماية مصالحهم.
و قد أشارت هذه المعاهدات إلى الأقليات على أنهم سكان البلد الذين يختلفون عن الأغلبية الساحقة فى العنصر و اللغة و الدين – فيمكننا إذن أن نعتبر هذا تعريفاً مناسباً لما تعنيه كلمة (الأقليات) و قد كان فى الهند قبل التقسيم الأخير مثل هذه الأقليات و مازالت حتى الآن موجودة فى كل من دولتى الهند و الباكستان.
و معظم الأقليات الموجودة فى الهند حالياً أقليات دينية و قليل منها عنصرية أو لغوية فالهندوس و المسلمون فى غرب البنغال مثلاً ينتمون إلى عنصر واحد و يتكلمون لغة واحدة و بالمثل الهندوس و المسلمون الذين يعيشون فى (ولاية الحدود الشمالية الغربية) و فى البنجاب و فى السند فهم ينتمون إلى عنصر واحد و يتحدثون بلغة واحدة.
و الأقليات الموجودة اليوم فى الإتحاد هى المسلمون و السيخ و و المسيحيون و البارسيس و الهنود الذين ينحدرون من أصل بريطانى.
و المجموعات الثلاث الأولى هى أقليات دينية و المجموعة الرابعة عنصرية دينية و الأخيرة فقط و هى الهنود الذين من أصل بريطانى أقلية عنصرية و دينية و لغوية، و الجدول التالى يبين لنا تعداد كل من هذه الأقليات الموجودة فى الإتحاد الهندى بالنسبة إلى تعداد الهندوس فيه و ذلك بحسب إحصاء سنة 1941:

الطائفة تعدادها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسلمون -------------- 42.731.996 ----- نسمة
السيخ ---------------- 4.114.741 ------ نسمة
المسيحيون ------------- 5.592.419 ------ نسمة
هنود من أصل بريطانى ------ 129.007 -------- نسمة
البارسيس -------------- 110.325 -------- نسمة
الهندوس --------------- 239.424.400 ---- نسمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المجموع --------- 292.102.888 ---- نسمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
>>>
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الاثنين مارس 08, 2010 7:45 pm، تم التعديل 7 مرات في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

كـفـاح البِّـجـــه

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



فإذا كانت الوثيقة أعلاه تُعزّز من إعتقادنا بأن أفندية الحركة الوطنية السودانية كانوا مُدركين لموضوع "التمايز العرقى و الثقافى" إدراكاً يستند إلى معرفة نظرية و تصوّر مناسب يسمح لهم بوضع سياسات معقولة لمعالجته، فإن الوثيقة التى سنعرضها أدناه تؤكد أن الحركات الجهوية الوطنية - التى تبدو لأهل السودان المعاصرين كما لم يكن لها وجود من قبل و لم تُخرٍج فى زمانهم هذا أثقالها إلاّ لتزيد محنتهم مع حكامهم تعقيداً – كانت هى أيضاً، و فى أوج عنفوان الحركة الوطنية السودانية حين أصبح حلول الأفندية محل المُستعمر قيد أُنملة، تجأر بالصوت العالى لمراعاة قضاياها و عدم تجاهلها و أستصحاب وجودها فى دولة إستقلال الأفندية. و لا أعنى بذلك الحركة الوطنية فى جنوب السودان التى رفعت السلاح فى سبيل الإنفصال أو تحقيق مطلب الكونفدرالية التى وعدهم بها الأفندية ثم لاذوا منها كما يلوذ الثعلبِ، .. و إنما أعنى هذه الوثيقة الصادرة فى 1 / يناير سنة 1953:

صورة

صورة الغلاف الداخلى لكتاب "كفاح البجة" الجزء الأول، (الغلاف الخارجى تالف).

صورة

صورة المؤلف (محمد دين أحمد إسماعيل البجاوى)، و قد كُتب تحتها: (فى شرق السودان قبائل لا تقل بداوة عن الجنوب و لكنها لم تطالب و لن تنادى بالإنفصال – و لا يُستبعد أن تطالب بأشياء تشابه الإنفصال فواجب الساسة و القادة و الزعماء أن يتداركوا الموقف قبل أن يستفحل الأمر، و قبل أن يبلغ السيل الذبى).

و جاء فى الإهداء تحت هذه الصورة:

صورة

( إلى الرجل البجاوى الذى لا يزال يعيش على فطرته، و الذى لا يزال يجد لذة و متعة فى تسلق الجبال، و عبور الوديان، و قطع المسافات الشاسعة مشياً على الأقدام، و الذى لا يزال يعيش كما يعيش الإنسان الأول – و حرم من التمتع بما قدمته المدنية و الحضارة فى القرن العشرين كما حرم إبليس من الجنة حرماناً باتاً قاطعاً – و أخيراً إلى البائس الشقى بحكم يومياته القاسية المتواصلة أهدى هذا المجهود المتواضع المحدود فى قيمته كغيره من المجهودات الضئيلة المتنوعة.)

و قد إستفتح كتابه بالآية القرآنية: (و قل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون و إنتظروا إنا منتظرون و لله غيب السموات و الأرض و إليه يرجع الأمر كله فأعبده و توكل عليه و ما ربك بغافل عما تعملون).

فهرس الكتاب

• الإهــــداء
• المقدمة
• تأريخ و تاريخ
• الحكم الثنائى و إنهيار البجة
• قادة البلاد و البجة
• البجة فى عالم السياسة
• موارد الكسب بمنطقة البجة
• قبائل البجة فى عالم المجاعة
• الحاج محمد محمد الأمين ترك (زعيم و زعيم)
• نداء لشباب البجه
• بين جنوب السودان و شرق السودان
• نداء لجماهير قبائل البجه بشرق السودان
• ما يشابه الإنفصال


فإن حاولنا أن نجد العذر لـ"أفندية" الحركة الوطنية فى عدم إنتباههم لوثيقة (الأقليات فى الهند)، التى أزعم أنها كانت كافية لتنويرهم بأهمية إعتماد التنوع الثقافى فى سياسة الدولة الوليدة – واضعين فى الإعتبار أنهم كانوا "لمّاحين !" بحيث تمكنوا من إلتقاط نماذج تجارب سياسية من ما وراء المحيطات، فإتخذوا من نموذج (هند نهرو) مثالاً يُحتذى - بإعتبار أنها كانت مطبوعة لا ترقى لمستواهم كخريجين "غُردونيين !"، و أن ما يُرجّح إحتمال إستحالة علمهم كـ"غُردونيين" بوثيقة (الأقليات فى الهند) أنه قد عُثر عليها ضمن محتويات مكتبة قائد عمّالى خريج "مدرسة صناعية" – و أنه من البديهى أن القائد العمالى هو أقرب لهذه المواضيع "الوضيعة !" من الخريج "الغُردونى"، بحكم طبيعة تكوين الطبقة العمالية المتنوّعة الأعراق التى قد تدفعهم للبحث فى و الإهتمام بـ"سفاسف الأمور !" – فأين نجد لهم العذر فى تغافلهم عن كتاب السودانى: (محمد دين أحمد إسماعيل البجاوى) (1)المعنون (كفاح البجة) و الصادر فى أكثر من جزء، بل و عن كتاباته الأخرى التى وصفها فى إهدائه لكتابه هذا: بـ"المجهودات الضئيلة!"، فى قوله: (... أهدى هذا المجهود المتواضع المحدود فى قيمته كغيره من المجهودات الضئيلة المتنوعة) (2) . أكثر من ذلك، إذا إتفقنا مع (محمد دين البجاوى) بأن مجهوداته هذه كانت فعلاً "متواضعة و ضئيلة !" بحيث لم يكن فى مقدورها إسماع صوتها "لمن به صممُ !"، فماذا ياترى كان يستدعيه من مجهود لإسماع أولئك الأفندية "الغردونيين !" ؟؟!! ... نعم، ..الآن .. أنت و أنا و (محمد دين البجاوى) فى تربته الطاهرة و قطاعات عريضة من السودانيين .. ندرك جيداً أن المجهود الذى كان يستدعيه لإسماع "مَنْ به صممُ !" ليس نُصح و إرشاد السياسيين عبر الكتابة و الحوار .. و إنما فوّهة البندقية و وسائل السياسة العنيفة، ... لذلك نلاحظ أن الساسة السودانيين حظوا دوماً بآذان "فيل أفريقى" تجاه كلمات الحركة الوطنية فى جنوب السودان، و أصبحوا منذ العقد الأخير من القرن الماضى كلهم آذان صاغية حين لعلع الرصاص فى جبهة شرق السودان، .. حينها فقط .. خرجت كلمات (محمد دين أحمد إسماعيل البجاوى) - لتخترق آذان مَنْ "به صممُ !" - كالعنقاء من عماء الأبدية ...

و سنأتى على تفاصيل أوفى عن هذا الكتاب لاحقاً ..

ـــــــــــــــــــــ

هوامــش:

(1) و هو رجل تربوى و من أوائل الرجال الذين مارسوا التربية و التعليم فى شرق السودان، و هو أحد مؤسسى (مؤتمر البجه).
(2) جاء فى الصفحة قبل الأخيرة: (كتُب للمؤلف لم تصدر بعد: 1- الجزء الثانى (كفاح البجه) 2- رسالة العضو البرلمانى 3- البجة بين الحياة و الموت 4- الكفاح طريق النجاح 5- الطريق إلى الإستقلال).

ملحوظة: لا توجد إشارة فى الكتاب للجهة الناشرة.
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الأربعاء مارس 03, 2010 6:23 pm، تم التعديل 10 مرات في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »

معذرة للمتابعين .. فقد ظهرت المداخلة أعلاه بخط صغير يصعب قراءته .. إذ أعانى من مشكلة مع برنامج Microsoft Explorer .. و قد يحتاج كل الجهاز إلى إعادة برمجة .. كما تم إجراء بعض التصحيحات فى النص، مثل تاريخ صدور الوثيقة و إضافة بعض الهوامش ..

و نواصل متى ما سمحت الفرصة ..
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »

كتب الأستاذ (محمد دين أحمد إسماعيل البجاوى) فى مُفتتح كتابه صفحة 9، و الذى يتكوّن من 73 صفحة من القطع الصغير، تحت عنوان ( تأريخ و تاريخ ) كاشفاً عن وعىٍ مُبكّر - مازال ولاة السودان يفتقرون إليه إلى اليوم - بأهمية القوميات داخل الدول:

{ لا شك أن لكل دولة و أمة تاريخها – فيما يخص حياتها الخاصة و العامة و الداخلية و الخارجية – كما و أنه لا يخفى علينا أن تاريخ هذه الدول و الأمم يقوم قياماً تاماً و يعتمد إعتماداً كلياً فى ظهوره على تاريخ حياة القوميات المختلفة فى داخل الدول و الأمم التى تتكوّن من هذه القوميات. و ما دام الأمر كذلك ليس عجيباً و لا غريباً أن تعتمد الدول و الأمم فى كثير أو قليل من نجاحها و توفيقها فى سياساتها الداخلية و الخارجية على هذه القوميات. و أن تتعاون معها. و تحسّن مركزها الثقافى و الإقتصادى و السياسى، ما دامت هذه القوميات جزءاً مهماً بل هى التى تكوّن الدولة مهما كان مركز الدولة من القوة و الضعف. }

و لكن ما لفت إنتباهى حقاً، بصورةٍ أراها مؤيدة لما ذكرته فى متن أو هوامش المواضيع التى أكتبها فى هذا المنبر، ما جاء فى قول (محمد دين أحمد إسماعيل البجاوى) عن ثورة 1924:

{ و عندما ثار الثوار من أبناء البلاد فى سنة 1924م و معهم الوطنيون الأحرار، و الطبقة الأولى من رجال المدرسة الحربية، و عدد غير قليل من الطلبة كما هو معروف بأنهم العنصر النارى فى البلاد، و عدد لا يُستهان به من كل الطبقات فى مختلف الأقاليم، نتيجة للظلم المنتشر فى ذلك الحين و للوعى السياسى و إستعداداً لثورة دامية، فهؤلاء و غيرهم حاربوا الإستعمار و أعلنوا عليه حرباً شعواء لا بداية و لا نهاية لها، و قد تحالف معهم الجانب المصرى معتمداً على سياسة العواطف و المحبة و المجاملة كما هو معروف فى عرف السياسة المصرية نحو السودان، و تصديقاً لهذا المنطق و ما بين غمضة عين و إنتباهتها قد عدّل المصريون بل تنكروا عن هذه المحالفة تنكراً كلياً و كأنها شيئاً لم يكن مذكورا، و تركوا السودانيين فى ضغيانهم يعمهون، و لكن بسالة الجندى السودانى لم تتردد لتنفيذ عهدها و الوفاء بوعدها ما دامت مؤمنة بحقها فى الحياة }

واضح أن الدور المصرى المضخّم فى ثورة 24 كان "فرية" كبيرة، و تأكد من هذه المعلومة و ما يليها فى الكتاب، أن كل ما كان يفعله المصريون وقتها هو إستغلال الحركة الوطنية السودانية لإبتزاز الإستعمار الإنجليزى فى مصر، و أن علاقة مصر بالسودان كانت تقوم و مازالت على عنصر العاطفة الجوفاء التى تسمح لمصر إستهبال السودان "بالفهلوة و الفكاكة !" للوصول إلى مآربها الإستغلالية، .. و لم نُجانب الصواب حين إستعنّا بمصدر شفاهى من الذاكرة بأن المصريين المقيمين فى السودان بعد فشل ثورة 24 كانوا لا يستطيعون دخول دور السينما أو التسوّق فى أسواق الخرطوم إلاّ تحت حماية الجيش الإنجليزى .. و أعيُن السودانيون المغدورون ترقبهم و هى تكاد أن تخرج من محاجرهما، .. و هذا المصدر الشفاهى قد يكون ذاك الشيخ من قدامى المحاربين فى (قوة السودان) الذى كان يظهر فى أيامٍ معينة من السنة حين يأتى شاقاً حيّنا و هو فى كامل حلّته العسكرية و نياشينه التى تُغطى كل زيه العسكرى القديم و لكن المُعتنى به جيداً، و الذى كان ذو ملامح "Typical" نوبيّة جبالية، .. و حين كنا نراه من بعيد و نحن ما زلنا بعد مجرّد صبيان، نصطف له فى خطٍ مُستقيم .. و عند مروره أمامنا نصفق و نهلّل له بحماس، .. فكان و هو يمشى مشية عسكرية صارمة و يرسم على وجهه إبتسامة مُجاملة يُلقى علينا تحيّة عسكرية رائعة ننتظرها بشغف حتى موعد ظهوره التالى، .. و أظن أنه هذا هو ذاك المصدر الشفاهى الذى إستقيت منه تلك المعلومة، .. و لا نملك فى هذا المقام إلاّ أن نوجه إليه و إلى أبطال ثورة 1924، (على عبد اللطيف) و (عبد الفضيل ألماظ) و رفاقهم من الثوار الأبرار، .. تحية حبٍ و وفاءٍ و إجلال.

************

و لأنه إتضح لنا أهمية هذا الكتاب النادر - الذى وضح مِن كل مَنْ إستفتيناهم فى أمره من ذوى الإختصاص أنه لا علم لهم به و لا بمؤلفه، و الذى تبّقى لنا موقعين فقط للتأكد من عدم وجوده بهما - رأينا أن عرضه بهذه الصورة لا يليق به، و حزمنا أمرنا على القيام بعمل يتناسب و أهميته، و بالتالى سيكون هذا المُقتبس هنا بالإضافة لما نُشر فى "بوست": (هجوم وحشى على معرض التشكيلى محمد حمزة)
أنظر الرابط:

هجوم وحشى على معرض التشكيلى محمد حمزة

هو كل ما عُرِضََ و سيُعرَض حالياً فى هذا الموقع.

و سنبدأ فيما يلى عرض الوثائق المتعلقة بتأسيس هيئة عمال السكة حديد و هى لم تزل بعد مُجرّد مُسودّات أولية، و سنحاول فيها - رغم صعوبة ذلك - الربط فيما بينها و بين ما ورد فى كتاب القيادى العمّالى(الطيب حسن الطيب – مذكرات عن الحركة العمالية – من الدورة الأولى لهيئة شئون العمال بعطبرة، 1946-1947-1948) و معه كتاب أو إثنين آخرين.

آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الأربعاء مارس 03, 2010 6:26 pm، تم التعديل مرة واحدة.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »

معذرة .. حدث خطأ مطبعى بسقوط "لم" و "لن" فى الجملة المكتوبة أسفل صورة (محمد دين أحمد إسماعيل البجاوى): { .. و لكنها لم تطالب و لن تنادى بالإنفصال ..}
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



لمّا كان (محمد دين أحمد إسماعيل البجاوى) يعتبر فى كتابه هذا أن تاريخ الدول و الأمم هو تاريخ حياة قومياتها، يُفهَم من ذلك أن الكفاح ضد الإستعمار عنده هو كفاح هذه القوميات تحديداً. و لمّا كان (محمد دين) يرى أن من واجب الساسة و القادة و الزعماء أن يتداركوا موقف هذه القوميات البائس قبل أن تطالب بالإنفصال، فهو بذلك له موقف معارض لموقف هؤلاء الساسة و القادة و الزعماء فى تقييمهم لدور و أهمية هذه القوميات فى بناء الدولة. و لمّا كان هناك تيّار هام بين هؤلاء الساسة و القادة و الزعماء يرى أن الكفاح ضد الإستعمار هو (كفاح جيل) خريجى المؤسسات التعليمية الإستعمارية – و هم الخرّجين الذين لم يعبأوا بالتعدد الثقافى فى السودان - و قد نعرف سبب عدم إهتمامهم هذا بالإنتماءات القبلية و إعتبار أنفسهم، كجيل جديد، وجهاً جديداً للوطنية السودانية، إذا قرأنا: (فى هذه الفترة كانت تدور رحى معركة خفية، و لكنها بالغة الحدّة و العنف، بين حكومة السودان من جهة، و بين الجيل الجديد من جهة أخرى. كانت حكومة السودان تعمل على تأريث القبيلة. فخلقت الإدارة الأهلية. و أقامت حدودها على أساس قبلى. و على أساس القبيلة أيضاً صدرت الخرط الحكومية. و صار التعصّب للقبلية، و التمسّك بها، مفتاح النجاح و سلّم الرقى فى الدوائر الحكومية. و على العكس، فإن الحديث عن جنسية سودانية، و إغفال القبلية أو محاربتها، إتجاه معاد و فى القليل متعارض مع سياسة الحكومة، يستوجب اللوم و فى بعض الأحوال و الأمكنة العقوبة و الجزاء.) (1)

لاحظ .. قبل أن يتمسّك الجيل الجديد بإسم (السودان) الذى ألصقه الإستعمار كصفة للمجموعات السودانية غير المنتمية لمجموعات الشرق و الوسط و "الشمال النيلى" – و هذا الوضع كان واضحاً فيما بين قادة ثورة 24، مما أدى لخلافات بينهم (و حادثة "المولد" بين "كشّة" و الزعيم "على عبد اللطيف" نموذج صارخ لهذا الخلاف) و بين هؤلاء الثوار و الإستعمار، و الذين أكّد أكثريتهم على الإنتماء السودانى و لكن ليس بإقصاء الإنتماء القبلى كما يفعل الجيل الجديد، و إنما إعتبره البعض منهم المظلة التى تتّحد تحتها القبائل السودانية (2)– كان السائد بين هذه المجموعات، سواء بفعل الإستعمار التركى و الإنجليزى أو بدونهما، تصنيف أفرادها قبلياً. و عندما إلتفت الجيل الجديد إلى أن مصدر قوة الشعب لتصديه للإستعمار هى فى تصنيف أنفسهم كسودانيين، لم يفهموا ذلك كما ينبغى .. فحوّلوا المطالبة المشروعة بالإعتراف بالتنوع الثقافى و تنميته إلى أهداف إستعمارية و دعوة للشعوبية تستهدف وحدة البلاد و إستقلالها، و إستمسكوا بالإنتماء إلى دولة واحدة من خلال إعتماد صفة "سودانى"، و هكذا يكونوا قد وقعوا فى الشراك التى نصبها لهم الإستعمار و الذى إستهدف تغبيش الإنتماء القومى فى مخيلة السودانيين بسياساته التى كرّست الإنتماء العروبى القَبَلِى عند "الشماليين" و الإنتماء "السودانى" عند غيرهم من القبائل السودانية "غير العربية" فى جنوبه و جنوب شرقه و غربه.

.. تُرى هل كان يعتقد الجيل الجديد أن قبولهم بصفة "سودانى" - التى تكرّست صفةً لتلك القبائل السودانية و أصبحت عند الجيل الجديد لاحقاً إنتماءاً وطنياً مناهضاً للإستعمار - إنتماءاً قومياً "كمستعربين" لدولة السودان، هو بمثابة عربون يفوق طاقتهم فى التنازل و بالتالى يستوجب قبول تلك القبائل لوحدة السودان مقابل تناسيهم لإنتماءاتهم القبلية و دخولهم فى حظيرة قادة البلاد "المستعربين" كعرب "سود" ؟!

.. إن (محمد دين) أراد أن يعلن خلافه مع هؤلاء الساسة و القادة و الزعماء فى العنوان الذى إختاره لكتابه: (كفاح البجة) الصادر فى 1952 فى معارضة على مايبدو لكتاب أحد مؤسسى تيار الإنتماء الوطنى الجديد (أحمد خير المحامى): (كفاح جيل) الصادر فى 1948. مؤكداً من العنوان أن الكفاح ضد الإستعمار هو (كفاح قبائل) و تكوينات ثقافية و ليس (كفاح جيل) خريجى المؤسسات الإستعمارية.


صورة صورة

غلاف كتابى (كفاح جيل) و (كفاح البجة)

ــــــــــــــ
هامــش:

(1) عن كتاب (كفاح جيل - أحمد خير المحامى) صفحة 39.

(2) الإشارة هنا إلى تنظيم "على عبد اللطيف" و زملاؤه من العسكريين: (إتحاد القبائل السودانية). عن كتاب (يوشيكو كوريتا – على عبد اللطيف). مركز الدراسات السودانية.
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الثلاثاء يونيو 23, 2009 7:22 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
أضف رد جديد