هـجوم وحـشى على معرض التشكيلى محمد حمزة ..

Forum Démocratique
- Democratic Forum
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

صراع الحداثات

مشاركة بواسطة حسن موسى »

صراع الحداثات




الأعزاء
شكرا لكم كونكم قعدّتم هذه المناقشة في مقعدها المناسب( الطبيعي؟) من حيث هي مناقشة في مسألة صراع الحداثات ( الطبقيات) في السودان اكثر منها مناقشة في حالة حادثة اعتداء فردي على حق فنان في التعبير.و رغم ان حادثة الإعتداء " الوحشي" على معرض التشكيلي محمد حمزة قد حصلت في دار حزب الأمة إلا ان هذا النوع من الأحداث قابل للتكرار في دور العديد من مؤسساتنا السياسية الأخرى التي ما تزال ـ لأسباب متنوعة ـ تعافر و تفاوض بسبيل تعريف موقف واضح من قضايا الحريات الأساسية . وحين اقول " مؤسساتنا السياسية" فأنا لا استثني المؤسسات التقدمية الفاعلة في ساحة السياسة السودانية وفي طليعتها حزب الشيوعيين السودانيين الذي لن ينسى بسهولة ندوب جرح سياسي قديم اسمه " حادثة طالب معهد المعلمين"،و رغم ان الرأي العام قد توصّل لتصنيف " حادثة طالب معهد المعلمين" في باب تراث الإفك السياسي الأسلاموي، إلا أن التحسّب المفرط من مخاطر استفزاز ذاكرة التقليد العربسلامي في السودان قد بلغ بدوره مبلغ الاستفزاز في حق حركة الإستنارة العلمانية. فالمتابع لأدبيات حزب الشيوعيين السودانيين يملك ان يتحسس بسهولة حرص بعض قادة الرأي الشيوعيين على التمسّح بمسوح التقليد الديني ضمن مسلك أيديولوجي( براغماتي) يداهن العواطف الدينية لطائفة من ابناء و بنات الطبقة الوسطى العربسلامية على زعم سياسوى فحواه ان" التطبيق الخلاق للماركسية" يدمج الدين الإسلامي بين آليات التغيير الثوري و الله أعلم.و لست هنا بصدد فتح هذا الباب العويص: باب " الأسلام و الماركسية في السودان "فالريح تأتي منه و هو مسدود على كل حال، و لكني بصدد المساهمة في تقعيد مناقشتنا ضمن مشهد جيوبوليتيك الثقافة الحديثة في السودان.

و قد فرحت بتطور مسار المناقشة نحو" نسخة حزب الأمة" من نزاع الحداثات في السودان، كون هذا الحال يتيح وضع النقاط على حروف إلتواءات الحداثة السودانية التي تبذل نفسها في صيغة متعددة الوجوه. و أول النقاط هي ان أهل السودان على اختلاف اعراقهم و ثقافاتهم ضالعون بالقوة ـ قوة التناقض بين العمل و رأس المال ـ في منطق حداثة رأس المال و إن غاب هذا الواقع عن خواطر البعض. يعني بالعربي كلنا حديثون و لو شئت قل: نحن حداثة الحداثة الماوراها حداثة. كوننا نقيم من حداثة السوق في ذلك الموضع الحرج الذي تنكر فيه نفسها و تتنكّر في ثياب التقليد الفلكلوري المصنوع اعتباطا . يقول السيد عبد الرحمن المهدي في مذكراته التي تمثل سجلا قيما لتاريخ صراع الطبقات في السودان:" ان علاقة الدائرة مع عمالها دائما تقوم على أسس أبوية محضة، حيث ألتزم أنا بسد حاجات العمال بغض النظر عن انتاجهم، فتعطي الدائرة للعامل المشتغل و العاجز ما يكفيهما من غذاء و كساء و ضروريات أخرى. و رأيت أن أغيّر هذا النظام في السنوات الاخيرة و أن أعطي العامل المشتغل في الحواشة 40 في المئة على أساس مشروع الجزيرة، و هذا النظام الجديد يكلف الدائرة أقل من النظام السابق حسب دفاتر الحسابات.." ( ص 58). أنظر " محاولات سودانية في تملّك الحداثة السير عبد الرحمن .. " في
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... a0522a5658


. و ثاني النقاط هي ان الفرز الإجتماعي بين الفرقاء السودانيين إنما يحصل في مقام نزاع الحداثات بين حداثة رأس المال و نقيضها التقدمي الإنساني .و قيل رد فعلها. و لا يضير حركة الحداثة التقدمية كونها تأسست على مبدأ رد الفعل المعارض لفاعلية حداثة رأي المال. فإنسانيتها إنبنت و تطورت على مبدأ المعارضة ،معارضة شرع الغاب و نقده و تحجيمه و تحييده و إلغائه و تجاوزه و هيهات.. إلى آخر كلامات الشعراء.


أقول : إن التعارض القائم بين استجابة القياديين في حزب الأمة و أستجاية القاعديين لحادثة الإعتداء على معرض محمد حمزة هو في الحقيقة تعارض بين موقفين حداثيين من سؤال التعبير الفني. فالقياديون ادانوا الإعتداء على المعروضات و اعتذروا للفنان و للجمهور و وعدوا بمحاسبة ، بل و بمعاقبة ، المسؤولين عن ال" الجريمة". و في موقفهم حصافة سياسية و بعد نظر حداثي محمود كونهم وعوا قيمة الثقل النوعي لحركة الفن التشكيلي الحديث في مشهد العمل العام في السودان. و هي حركة متأصلة في الفضاء الثقافي و امتداداته السياسية بفضل مؤسسات قديمة و حديثة نشطة و بفضل تقليد طويل في العمل العام مسنود بأدب و فصاحة و وعي سياسي نقـّاد. و"القاعديون" في حزب الأمة عملوا بمبدأ من رأي منكم منكرا فليغيره بيده و فعلوا، لكنهم حرصوا على احتواء فعلهم المادي في حدود المناسب و المعقول. و حدود " المناسب و المعقول" هي حدود متحركة وفق مواصفات المسلك ال" بوليتيكلي كورريكت" الذي يرضاه" الذوق العام" أو " الحس السليم" او " الأخلاق السودانية". و" الذوق العام السليم السوداني" آلية سلوكية متغيرة باستمرار لكنها تملك في بعض المواقف ان تتكشف عن سلطة حقيقية أقوى من سلطة التقاليد و حتى أقوي من سلطة الدين نفسه.ذلك ان الدين، في الفهم الشائع وسط اغلب الإسلاميين ، يحرّم التصاوير و يجعل من المصورين " اشد الناس عذابا يوم القيامة". فمن صادروا حق محمد حمزة في التعبير اعترضوا على الأعمال الفنية التي تمثل صور الإناث العاريات فقط و لم يعترضوا على مبدأ تمثيل " كل ماله ظل" حسب المفهوم الشائع للمنع الديني للتصاوير.

و من جهة أخرى فلو فحصنا حادثة الإعتداء على معرض محمد حمزة على ضوء استجابة طرفي النزاع ، داخل هذه المؤسسة السياسية الحديثة المسماة " حزب الأمة القومي"، فمن الضروري التذكير بأن الأطراف المتعارضة داخل حزب الأمة إنما اختلفت على مستوى وجهات النظر حول مضمون المعرض و ليس في مبدأية المعرض نفسه كوسيط اتصال جماهيري حديث و كأسلوب مستجد في العمل بين ناشطي حزب الأمة.ذلك ان المعرض كوسيط إتصال جماهيري إنما انطرح في تاريخ السودان كشكل ثقافي حديث استنبتته دولة الإستعمار كونه يتميز بقدرته على ان ينطرح، في نفس الوقت ،كغاية جمالية ثقافية جذابة و كوسيلة سياسية عالية الكفاءة.فأول المعارض التي عرفها السودانيون كانت هي معارض المدارس الأولية ايام الإستعمار،و التي كانت تنظم في مناسبة " يوم الآباء" غالبا بغرض عرض المدرسة الحديثة للأهالي و تشجيعهم على تسجيل ابنائهم في المدارس.في ذاك الوقت كان المعرض المدرسي وسيلة بروباغاندا غايتها دعم المدرسة الحديثة و من وراء المدرسة مجمل نظام الإلتواءات الأيديولوجيى الذي اورثتنا إياه الحداثة الإستعمارية.و حديث المعرض طويل يستحق مساحة مستقلة فصبرا.

الصديق الفنان عبدالله الشقليني، في مداخلته يمنبر " سودان للجميع" ( 14 سبتمبر 08) أقر لحزب الأمة بإنخراط في الحداثة بما يعرف عن" رؤاه الإسلامية الديموقراطية" و " التجديد الإسلامي الذي يبشر به". لكن الشقليني يطمح لأن يحسم الحزب ما اسماه بـ " قضية الفنون" في أدبياته و يطالب بـ " لائحة تفصيلية توضح بالتفصيل أي درجات التعرّي يمكن للحزب بيمينه و يساره ان يتفق عليه حتى يتسنى لفنان تشكيلي ان يقيم معرضا يناسب تطور الحزب و قدرات طائفة الأنصار .."
و فيما وراء المطالبة التعجيزية الظاهرة يكشف كلام الشقليني عن نظرة في سوسيولوجيا السياسة تعارض بين " تطور الحزب" و " قدرات طائفة الأنصار" فكأن ممثلي الحداثة الحضرية في الجهاز السياسي في حال مواجهة " حضارية" ضد ممثلي التقليد البدوي قبل الرأسمالي في الطائفة ، و في هذا جور مستتر على أهل الطائفة كون الشقليني يعرف ان " هؤلاء الناس" الذين اعتدوا على معروضات محمد حمزة لم يتصرفوا باسم طائفة الأنصار و إنما باسم " الحس الأخلاقي " لطائفة محافظة من أبناء الطبقة الوسطى الحضرية ممن اعتبروا ذواتهم مرجعا يحتذي في مشهد السلوك الحضري القويم."هؤلاء الناس" لو خرجوا من العاصمة( المثلثة؟) و توغلوا بين أنصار البوادي في غرب البلاد لهالهم ان قطاعا كبيرا من جماهير الأنصار الأقحاح لا يستفزهّ كثيرا واقع الأنصاريات الأميات اللواتي يمشين في البوادي و في أسواق الحواضر و هن كاشفات الوجوه و النحور و الصدور.و ذلك ببساطة لأن هؤلاء الأنصار الأماجد لا يصدرون ـ في نظرتهم لجسد الأنثى ـ عن نفس المرجعية النفسية و الإيروسية الآثمة التي تكبّل نظر ذكور الحواضر لجنس النساء على الإطلاق. و البحث في عواقب النظر الآثم لذكور الحواضرـ و إن لم ينتموا لطائفة الأنصار ـ فولة أخرى تنتظر كيّالها في غير هذا المقام.( أو قل ـ كان الله رفع القلم ـ في مقام "جيوبوليتيك الجسد"، في خصوص" النظرة الثانية في كشف الحال و كيد الرجال").

المهم يا زول
يهمني هنا التأمل في مشروعية هذا المفهوم السوسو/سياسي الذي يعارض " الحداثيين" في جسم الحزب بالـ " تقليديين" في جسم الطائفةو ما يترتب عليه من استنتاجات سياسية و فكرية أقلها الزعم بان الطائفة تحيا في صفاء عزلة التقليد المجيدة التي تحميها من الانمساخات الثقافية لحداثة رأس المال.و أي مراقب للحياة السياسية السودانية يعرف ان طائفة الأنصار التي انخرطت في الصراع السياسي بأشكاله منذ فجر الإستقلال قد تعلمت ـ بسبيل البقاء ـ ان تتصرف في المسرح السياسي السوداني كجماعة حديثة.و كوادرها التي صقلتها التجارب لا تجهل واقع الانخراط النهائي للطائفة في منطق الحداثة و عواقب هذا الواقع على مجمل الخيارات التي يتخذها الأفراد المنتمين لها( كالمطالبة بمزيد من الديموقراطية داخل المؤسسة السياسية من طرف انصار كـ" بكري عديل" و آخرين).


و قد لاحظت ميلا متفائلا مشتركا في كلام الأخ عبد الماجد و الأخ عاصم الصويم لإعتبار ان القيادة الحزبية في حزب الأمة ـ من خلال إختبار معرض محمد حمزة على الأقل ـ تجهد من أجل بزوغ شمس الديموقراطية في الحزب. فقد كتب الأخ عبد الماجد:
"و تستمر هذه العملية لتكتمل ثقافة الديموقراطية المنشودة ..".."و لا بد من أن اروقة حزب الأمة ستناقش هذا الحدث و ما استتبعه على كافة المستويات و هو عين ما سيؤدي لشيوع الديموقراطية."
و يرى الأخ عاصم الصويم إن قيام " القطاع الثقافي لحزب الأمة " بـ " ردم الهوة ما بين قمة الهرم و أسفله" يمكن ان يساعد على تجاوز " الإزدواجية و التعارض ما بين نمطين للتفكير داخل حزب الأمة"و يستنتج عاصم الصويم أن التناقض بين :" عقلية تنحى نحو الحداثة و التجديد و أخرى جامدة و ساكنة تتمسك بقيم طرحت قبل أكثر من مائة عام." " يعد معوقا أساسيا لشيوع الديموقراطية داحل هيكل الحزب ..". و الصويم ،لا يقل تفاؤلا عن عبد الماجد حين يتصور ان " شيوع الديموقراطية " أولوية قصوي ضمن المشروع الإصلاحي المتخلّق حاليا داخل حزب الأمة. ذلك لأن إنخراط الحداثيين المسيطرين على المؤسسة السياسية في واقع الحداثة لا يعني بالضرورة انهم سيقودون "حزب الأمة القومي" المحدّث نحو الديموقراطية. و ذلك لسبب بسيط يتلخص في كون الممارسة الديموقراطية قد تؤدي بهم لفقدان الحظوة الرمزية و المادية و السياسية التي بنوها عبر العقود بذريعة امتيازهم الإلهي "الطبيعي" كأشخاص من سلالة الأب المؤسس. و أغلب الظن ـ ظنـّي الآثم المشروع ـ ان المشروع الإصلاحي المطروح داخل المؤسسة الحزبية لا يرمي لأكثر من ترميم الواجهة الحزبية ببعض المحسنات الديموقراطية التي تفرضها" السماحة السودانية " و الحس السليم العام" وغيرذلك من أدب" أبناء الدفعة " المصطلح عليه في اوساط الطبقة الوسطى الحضرية.

بيد ان تقرير الأخ عاصم الصويم الذي يصف بنية المؤسسة السياسية لطائفة الأنصار كنوع من كيان ازدواجي قوامه ، من جهة حزب حديث " لديه آيديولوجيا تعبر عن طبقة يدافع عنها و تنتمي إلى برنامجه" إنما ينفتح على تساؤل آخر مهم في طبيعة الموقف الطبقي و المصلحة الطبقية لقاعدة " المهمشين" الذين " يحكمهم الولاء للطائفة و القبيلة و الجهوية" " فمن أجل ماذا يناضل الأتباع و الطائفة؟هل لأجل تحقيق مصالحهم الذاتية أم لأجل مصالحهم و مصالح السادة معا؟"و في تساؤل الصويم إضمار بتعارض اصيل بين مصالح " السادة " و مصالح " الأتباع". و هو إضمار يجد سنده في واقع سياسي مستجد يسميه الصويم بـ " ظاهرة تأسيس الحركات الجهوية ". و أكاد اقرأ بقية تساؤل الصويم في ماهية الأسس الطبقية للحركات الجهوية؟ من يوجهها و لمصلحة من؟ و هذا باب للريح يتستحق أن نتصدى له بأدوات النظر النقاد حتى يتسنى لنا فرز تشابك المصالح و المطالح في صراع السادة و الأتباع الذي دخل علينا من باب صالة عرض تشكيلي في دار حزب الأمة فتأمّل..


أقول: هذا المفهوم الذي يعارض الحزبيين بالطائفيين في أدبيات السياسة السودانية ربما نفع اليوم كوسيلة تحليل في تعريف حدود طبقية تفرز بين الطبقات الشعبية في الأرياف و البوادي و اهل الطبقة الوسطى الحضرية القابضين على مقاليد السلطة و الثروة في المراكز الحضرية.. و الفرز الطبقي يفرض نفسه اليوم ضمن ملابسات القطيعة الإجتماعية الكبيرة المتنامية بين مجتمع المهمشين في البوادي و مجتمع أهل الحظوة الإقتصادية و السياسية في مدن يسيطر عليها تحالف الرأسمالية الطفيلية و المتعسكرين ألمستفيدين من امتيازات الدولة و الزعماء الدينيين.. .ترى هل يفي هذا التحليل المستعجل بالتركيب السوسيو/سياسي الكبيرالماثل في الإنمساخ الفكري و البنيوي لحزب الأمة و لغيرة من الأحزاب التي بنت بأسها السياسي على قاعدة الولاء الطائفي؟ مندري؟ لكن فهم الإنمساخات الفكرية و السياسية الحاصلة في المؤسسات السياسية السودانية يحتاج منا لتحليل أكثر عمقا لواقع التحولات الطبقية في المجتمع السوداني. و هذه فولة تحتاج لفريق بحاله من الكيالين البواسل و الله ما شق حنكا ضيّعه..
سأعود
....
....
عبد الماجد محمد عبد الماجد
مشاركات: 1655
اشترك في: الجمعة يونيو 10, 2005 7:28 am
مكان: LONDON
اتصال:

مشاركة بواسطة عبد الماجد محمد عبد الماجد »


الأخ حسن موسى

دي ما قادر أصبر عليها كلو كلو:


حيث ألتزم أنا بسد حاجات العمال بغض النظر عن انتاجهم، فتعطي الدائرة للعامل المشتغل و العاجز ما يكفيهما من غذاء و كساء و ضروريات أخرى. الإمام عبدالرحمن


هاي ولّد المهدي دا كان شيوعي مسلم وقبّلّ خلّاها ولا شنو. دي زاتها كانت حداثة إلا ماني عارف وِصِل ليها كيف؟!!
و رأيت أن أغيّر هذا النظام في السنوات الاخيرة و أن أعطي العامل المشتغل في الحواشة 40 في المئة على أساس مشروع الجزيرة،


يعني خلاس الإنجليز بقّوه تاجر؟ ودي حداثة تانية خلع فيها توب شيوعية المساواة بين العامل العامل والعاجز؟

حداثة حجبت حداثة.

وهكذا لا مفر من التغير الإيجابي ولو كان ركوبه اضطراريا بسبب سطوة الرأسمال الموجه سياسيا. ولمّا عريبي ود حلتنا كان ببهتف: " خليك مع الزمن" ما كانت مجرد نصيحة من شاء عمل بها ومن شاء رفضها: لعله كان يقول "الزمن غلاب = الحتمية ... ولا حَسَنْتَكْ وغصباً عنّك [size=24]
".
المطرودة ملحوقة والصابرات روابح لو كان يجن قُمّاح
والبصيرةْ قُبِّال اليصر توَدِّيك للصاح
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

حداثة حجبت حداثة؟

مشاركة بواسطة حسن موسى »

عبد الماجد
سلام جاك ..
الحداثة الأولانية بتاعة " ولد المهدي" كـ " شيوعي مسلم" أدخل في باب " الشيوعية البدائية". و مفهوم الشيوعية البدائية في منظور المجتمع الإنساني قديم طالما استدعى فكرة اليوتوبيا الأولى،أو" الفردوس المفقود". حيث كانت الثروة المادية حق مشاع بين الجميع و حيث لم تكن الملكية الفردية لوسائل الإنتاج قد انمسخت بعد حقا طبيعيا (إقرأ : حقا إلهيا) للملاك و الملوك. و يقول المؤرخون أن الشيوعية البدائية التي لا تعرف الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج كانت سائدة كنمط تنظيم إجتماعي بين " ما قبل التاريخ" حتى العصر النيوليتيكي و هي فترة تعادل حوالي 90 في المئة من عمرالإنسانية.لكن أهل الإنثروبولوجيا يرفضون فرضية المشاعية المطلقة على زعم أن أي مجتمع يحتاج لحد أدنى من بنية سلطة و تقسيم للعمل و بالتالي يعض التفاوت في الحقوق و الواجبات.
في منظور المجتمع المهدوي المجاهد الذي يحلم انصاره بالموت استشهادا في سبيل الله كانت الملكية الخاصة لمتاع الدنيا الزائل أمرا محتقرا.و كانت القاعدة هي المشاركة و التكافل الشامل لأفراد المجتمع المتضامن الماثل على صورة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى.ضمن هذا المشهد كان على الراعي ان يتكفل بسد حاجات افراد الرعية " بغض النظر عن انتاجهم " كما جرت عبارة السيد عبد الرحمن المهدي.طبعا المشكلة هي ان هذا النوع من التدابير " ما بخارج" في حساب السوق.سوق رأس المال الحديث الذي استقر فيه الراعي كرجل اعمال وسط دائرة من العمال الزراعيين الذين بايعوه على ما هو أشد وطأة من مجرد عقد العمل المتعارف عليه في قانون العمل الحديث.و لهذا أعاد الراعي كتابة عقد البيعة ( بيعة قص الرقبة) " على اساس مشروع الجزيرة" وفق النظام الجديد او كما قال
الفاضل الهاشمي
مشاركات: 2281
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:14 pm

مشاركة بواسطة الفاضل الهاشمي »


موضوعة الحداثة والشيوعيين والدين:

سلام لجميع المشاركين هنا والمشاركات والقارئين والقارئات.
يقول حسن موسى فى باب تراث إفك الإسلام السياسى السودانى ومشهد " حادثة طالب معهد المعلمين" ان الشيوعيين السودانيين أفرطوا فى التحسّب من مخاطر استفزاز ذاكرة التقليد العربسلامى فى السودان. ودا بدخل فى باب رؤية الماضى بعين ناقدة مبدعة. لكن أود أن اسوق النقاش فى هذه الأطروحة الغميسة خطوة صغيرة الى الأمام. أعتقد أن جذور ذلك التحسّب نجدها فى معالجة قادة الشيوعيين (والتقدميين عموماً ؟) لمسألة الدين عموماً والإسلام السياسى خصيصاً (بل وكل الموروثات السلفية سواء كانت دينية أوثقافية أوعرقية أوقبلية). كان يشوب تلك المعالجة عدم الوضوح والتعامل مع موضوع جذرى بهذا القدر من الأهمية ببراغماتية وتكتيك "الحيلة الذهنية" Mental trick(استلف هذه العبارة من نقاش تلفونى مع الصديق عبدالله بولا حول موضوع مشابه)وهى حيلة لا تخلو من إستهبال فكرى.
أصاب حسن موسى حين قال:
فالمتابع لأدبيات حزب الشيوعيين السودانيين يملك ان يتحسس بسهولة حرص بعض قادة الرأي الشيوعيين على التمسّح بمسوح التقليد الديني ضمن مسلك أيديولوجي( براغماتي) يداهن العواطف الدينية لطائفة من ابناء و بنات الطبقة الوسطى العربسلامية على زعم سياسوى فحواه ان" التطبيق الخلاق للماركسية" يدمج الدين الإسلامي بين آليات التغيير الثوري و الله أعلم.


وصحة هذا الزعم يثبتها مقتطفان أحدهما للزميل محمد ابراهيم نقد:

الاسلام هو طريقنا حتى لتطوير المادية الجدلية.


ورد فى مجلة النهج عدد 1986؟)وآخر للامين العام للحزب الشيوعى التونسى فى منتصف الثمانينات بنفس المعنى مما يعنى أن مباصرة المسألة الدينية بالحيل تتجاوز "حادثة طالب معهد المعلمين" وهى أكثر ثباتا وتواتراً وحضوراً فى الفكرالتقدمى السياسى.
اذا اتفقنا مع سمير أمين فى كون الحداثة (كقطيعة تاريخية مع أفكار مافوق الطبيعة والتى عرفتها أوروبا فى عصور النهضة والتنوير) تقوم على مبدا أن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، وعلى أساس هذا المبدأ تشكلت الديموقراطية بمفهومها العالمى عبر قرنين من الزمان من خلال الصراع الطبقى القادر على أن يطوّر وعياً مستقلاً عن الثقافة المحلية ، وقدرة على الإبداع بعيداً عن التقيد بالموروثات السلفية والهويات الأخرى من دين أو ثقافة أو عرق أو قبيلة(الأهالى عدد 1359). اذا سلمنا بهذا الفهم للحداثة فان المنطق السليم للشيوعيين هو الإهتمام ب"الصراع الطبقى القادر على أن يطوّر وعياً مستقلاً" عن الدين وتوسيع مواعين هذا الصراع الطبقى ومواصلة الإبداع بعيداً عن الدين. (ويدخل فى ذلك الباب عدم محاورته عبر الآيات والحديث والسنة بل بالرجوع لمواقف التاريخية المحدّدة) . أعتقد انه اذا اهتم الشيوعيون بهذا المنطق سنتجنّب الخدعة البيّنة فى تصريح نقد ونقفل الطريق امام خطاب الأصوليين الإسلاميين ووهم امكانية التحديث من خلال العودة للأصول. والله أعلم.

الفاضل الهاشمى
The struggle over geography is complex and interesting because it is not only about soldiers and cannons but also about ideas, about forms, about images and imaginings
ادوارد سعيد "الثقافة والامبريالية 2004"
عبد الماجد محمد عبد الماجد
مشاركات: 1655
اشترك في: الجمعة يونيو 10, 2005 7:28 am
مكان: LONDON
اتصال:

مشاركة بواسطة عبد الماجد محمد عبد الماجد »

الأعزاء

اليست هذه الأديان مكونا مؤثرا في مسيرة الإنسان سواء كانت متنزلة أو مخترعة. وإذا كانت الإجابة بـ "نعم" فهل يصح تجاوزها وهل يمكن - عمليا - أن يتجاوزها الناس بلا مباصرة.
إن السياسة وإن ضاق ماعونها عما يفيض من العقل االنظري تعد أكفأ آليات التغيير وهي لا تستمد هذه الكفاءة إلا من قدرتها على المباصرة. ومن لا يباصر لا يمكن أن يكون سياسيا ناجحا (قادرا على إحداث تغييرات نسبية تكون الأساس لتغييرات مستقبلية تقترب من الهدف).
إن التجاذب بين الساسة والمفكرين (البحت) شيئ حتمي وطبيعي ولكنه يحتاج لمعادلة دقيقة تيسر لكل منهما أن لا يضيق ذرعا بأخيه. السياسي الماهر إذا ضاقت به الدنيا بسبب كشف الحال سينتهي - في نظري - إمّأ إلي معتزل وإما إلى طاغية.
المطرودة ملحوقة والصابرات روابح لو كان يجن قُمّاح
والبصيرةْ قُبِّال اليصر توَدِّيك للصاح
ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã
مشاركات: 46
اشترك في: الثلاثاء أغسطس 05, 2008 12:59 am

مشاركة بواسطة ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã »

سلام للجميع ..

هل المشكلة فى الدين نفسه أم فى إستغلال الدين و توظيفه لخدمة مصالح طبقية و إجتماعية معينة ؟ ضرورة التفريق هنا واجبة فى نظرى، إذ أنه لا يمكن تجاوز و إلغاء موروث إجتماعى إكتسب مشروعية تاريخية و شكّل سنداً روحياً و وجدانياً لدى الكثيرين من اللذين يعتنقونه، و بالتالى صار حقاً فى ممارسة حريتهم الشخصية و معادلاً لتوازنهم و إنسجامهم مع حياتهم ... إن منطق حداثة رأس المال فى تحويله لقوة العمل كسلعة فى السوق و إستغلالها لا يختلف عن منطق اللذين يخوّلون لأنفسهم إستغلال الدين كورقة لتحقيق مآربهم و مطامعهم، و هذا يصب فى سياسة حرية السوق بمعناها الحالى (العولمة) التى عرّفها صادق جلال العظم بأنها تسليع كل ما يمكن تسليعه ..

و أخيراً ألا يمكن التعايش بين الحداثة و الإيمان ؟

و تحية ..
الفاضل الهاشمي
مشاركات: 2281
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:14 pm

مشاركة بواسطة الفاضل الهاشمي »

الأعزاء عبدالماجد وعاصم
مودة ورحمة
لأأرى اختلافاً كبيراً بين ماذهبت اليه وماذهبتا اليه فى التحليل النهائى.

لا أشك اطلاقاً فى أن الإسلام والشعوب الأسلامية لها تاريخها،مثل بقية الشعوب، والذى يمتلئ بالتفسيرات المختلفة للعلاقات بين العقل والإيمان، وبالتحولات والتغييرات المتبادلة للمجتمع وديانته تماما كسمير أمين. الزاوية التى أنطلق منها هى زاوية الأولويات وموضع الدين من المسائل الإجتماعية واهتمامى بمسألة الوعى الطبقى.
أكرر لبقية القراء لست فى محل نكران للإيمان فى قلوب أصحابه محفّزا للإبداع ومنطلقاً للإخلاق بل لست منحازاً ضد عرق عربى أو اللإسلام كدين ولذا لزم التنويه للآخرين حتى لا افهم خطأ ضمن خطاب حقوق الإنسان الذى التزم به كاملاً غير متناقض.

مودة أخرى
الفاضل الهاشمى
The struggle over geography is complex and interesting because it is not only about soldiers and cannons but also about ideas, about forms, about images and imaginings
ادوارد سعيد "الثقافة والامبريالية 2004"
ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã
مشاركات: 46
اشترك في: الثلاثاء أغسطس 05, 2008 12:59 am

مشاركة بواسطة ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã »

الأساتذة و القراء و كل المتابعين ..

تحية و ود ..

أعود هنا لمواصلة ما أقترحه الأستاذ عبد الله الشقلينى فى مداخلته حول توسيع الحوار و معرفة حدود الخطاب الظاهر الذى يجدد رؤى الحزب (الأمة) و سأورد مقتطفات من دراسة قدمتها الاستاذة رباح الصادق بعنوان (نساء أمدرمان أثناء فترة المهدية)* ذلك أن مقدمة الورقة تعتبر واحدة من قياديى الحزب الذين يمثلون حداثيى حزب الأمة.
تقول فى مقدمة الورقة : (ظلت مشاركة النساء فى الحياة العامة و تفاصيل حياتهن مغمورة ، وبالرغم من مساهمتهن فى شتى المجالات على طول وجودهن بالقطر السودانى لكن المؤرخين ورواة التراجم المحليين بل المجتمع السودانى كله ظل يغمط المرأة حقها ويقول الأستاذ الطيب محمد الطيب لا إزدراء لها و لا تبخيساً لقدرها بل حرصاً عليها وصوناً لذاتها . وقد تختلف الآراء حول الأسباب المذكورة فذلك الصون الذى ربما فسرناه بالنظر إليها كعورة يجب سترها يضعها فى مراتب النقص و فقدان الأهلية أن يعلو صوتها و يشيع ذكرها . و مهما يكن من أمر ذلك الغمط و أسبابه أهى لدونيتها أم لخصوصيتها و حساسية الدور الذى تلعبه فى المجتمع ، فإن فى مجتمعنا و نظرته تجاه المرأة إشراقة بالنسبة لمثيلاته من البلدان العربية و الإسلامية فقد كانت المرأة تتمتع بمركز ممتاز عند القبائل التى أخذت بنظام الأمومة أو الخؤولة مثل قبائل البجة و العبابدة و البشاريين و النوبة و بعض قبائل كردفان و دارفور ، وقد هيأ رسوخ هذا النظام مكانة عالية للمرأة و مهد لها أن تلعب أدواراً متباينة فى الحياة السياسية بصفة خاصة ، ويرجع البعض ذلك إلى التأثير الإفريقى فمنذ المملكة المروية (750 ق.م _350 م ) عرفوا بإحترام النساء و قيل أنهم ربما
إنحدروا من قوم كانوا يعظمون النساء و يولوهن تنظيم الوراثة بينهم مثلما عرف عند الشعوب الإفريقية التى ظلت ترعى مثل هذا التقليد حتى وقت قريب .. ولعل فى موروثات المجتمع السودانى الحديث صدى لتلك التقاليد المروية ، فى السلطنة الزرقاء – مثلاً – وجدت نساء اثرن على المجتمع و كانت البنت فى مملكة سنار تأخذ نصيبها من العلم و المعرفة حتى نبغ بين النساء عدد غير قليل وكانت المرأة تشتغل بالتصوف حتى أن الفقيه أبو دليق خلّف إبنته عائشة مع أن له ولد غيرها ، أما فى مملكة الفور فقد كانت المرأة تشارك فى جميع الأمور المهمة ما عدا الحروب العظيمة حتى قيل و لولاهن ما إستقام لأهل دارفور شئ .. إن البحث فى تاريح المرأة السودانية ومحاولة نفض غبار التعتيم و الإسقاط مهم فى إطار تنمية الدراسات السودانية لتفهم الماضى والحاضر و التخطيط للمستقبل النسائى الأفضل فى السودان.

نعالج فى هذا المقال وضع نساء أمدرمان أثناء فترة المهدية و هذا الموضوع مهم من ناحيتين : فالمهدية تمثل حلقة مهمة فى تاريخ السودان ، ولكن دور و وضع القطاع النسوى فى تلك الحلقة ظل غامضاً. إن تبيان أحوال النساء فى أمدرمان المهدية يلقى ضوءاً على ذلك الدور هذا من ناحية ، ومن الناحية الأخرى فإن أحكام المهدية تجاه النساء وموقف المهدى الشخصى منهن ظلا خطان يصعب على مفكر القرن العشرين الربط بينهما ، إن فى إيضاح الظروف التى تم فيها إصدار تلك الأحكام و النظر إلى تفسير المهدى نفسه لهى إنصاف لتلك العقلية الفذة.

إن أمدرمان صنيعة مهدوية ليس فى ذلك شك ، وقد سبق تكوين أمدرمان فترتى الدعوة والتعبئة ثم الثورة . وللحديث عن نساء أمدرمان فى فترة المهدية يجب إبراز دور المرأة – إن وجد – فى الدعوة و الثورة ، كما يجب إلقاء الضوء على الموقف الأيديولوجى للمنظر الأول للمهدية – الإمام المهدى – تجاه المرأة .. ذلك الموقف الذى لا يمكن تفهمه إلا إذا وضع فى الإطار الآنى لسودان القرن التاسع عشر وذلك بمعرفة وضع النساء والمجتمع فى تلك الفترة
).

لأهمية المقدمة أوردتها كما هى.

وفى فقرة المعالم الفكرية للمهدى تجاه المرأة تقول الأستاذة رباح الصادق:

( إبان القرن التاسع عشر كانت آراء الفقهاء قد تجمدت فى المذاهب التى قفل باب الإجتهاد فيها منذ القرن الرابع الهجرى ، وتحجرت ولم تعد تستجيب للواقع بشئ ، وكان التصوف قد إنجرف عن كونه رحلة فى سبيل الكشف الغيبى والتنور بالنور الإلهى إلى كونه هروب عن واقع مظلم وغرق فى الخرافة والدجل.

لقد قاد الإمام المهدى حركة صحوة تمثلت فيها حركات الإصلاح فى عصره قدمت أساساً للتصدى الفكرى والنضالى للتحدى الحضارى لأمتنا بجناحيه : التخلف العثمانى و الإستعمار الغربى ، فقد كانت حركة تجديدية سلفية دعا إمامها إلى إسقاط ترهات " فايت الزمان " وإلى إتباع كلام الله فى القرآن.

يقول عبد الودود شلبى عن المهدى : كان أشبه بالرادار الذى يرصد كل ما يحوم حوله فى الأفق ولم يكن يفرق فى رصده ، أقول كان راداراً شدىد الحساسية والتمييز ويظهر تميزه من خلال معالجته لقضية المرأة . وقد عاش الرادار فى هذا الجو فإلتقط .. وإن كانت دعوته سلفية ونشأته صوفية وبيئته سودانية فقد خلط كل تلك الروافد ليخرج برؤية إصلاحية معينة ولن نحتاج هنا أن نؤكد أن الأفكار التى طرحها المهدى ليست أفكاراً مطلقة صالحة للأداء وقادرة على العطاء فى كل زمان ومكان ، ولكنها أفكار مرتبطة بواقع تاريخى معين وإن رؤيتها خارج إطار ذلك الواقع قد يلقى عليها غموضاً كثيفاً أو يجنح بنا إلى رفضها رفضاً مطلقاً ذلك أن المهدى نفسه كان على وعى بفلسفة الحركة فى الإجتهاد تبعاً للزمن و قد قاد ثورة عنيفة ضد التحجر فى لحظة زمنية سابقة و أعرض عن المتجمدين المتعبدين بالنصوص قائلاً : "ولا تعرضوا لى بنصوصكم عن الأقدمين ، إنما لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال".
ولذلك فأنه لايجوز لأنصار المهدية أن يفترضوا قفل الإجتهاد بنهاية القرن التاسع عشر مع ما أمروا به من إنفلات عن الجمود ، ولايجوز لخصومها أن يفهموا تلك التعاليم مجردة من ظروفها و خلفياتها .. كأن الماضى يمكن أن يقاس بمقاييس الحاضر
) .

و فى ملمح صورة المرأة عند المهدى تتطرق الأستاذة رباح الصادق إلى الصورة المشرقة للنساء فى عقلية المهدى و الحميمية التى يكاتب بها بعضهن و تورد أن أول خطاب وجهه فى الفترة الإصلاحية التى سبقت إعلانه المهدية بشأن الهجرة إليه كان إلى إمرأة و مع أن الخطاب مرسل لها و إلى آخرين ذكور لكن إسمها يرد فى مقدمتهم: (إلى حبيبتنا فى الله الحاجة آمنة ... إلخ)، ثم خطابه إلى أحبابه الصادقين خصوصا الحاجة زينة بنت الشيخ صالح و آخرين و الذى فيه الكثير من الحميمية و المواساة و التقدير يضعنا أمام علاقة فيها ما فيها من الرأفة و اللطف ... كما أنه هزم فكرة (دفن البنات من المكرمات) فى الرواية التى تقول بأن كان مسرعاً لسماعه أن إحدى زوجاته فى حالة مخاض حتى عثرت قدمه فرأته إمرأة و أخبرته أنه لا داعى للعجلة فالمولود كان أنثى فرد عليها قائلاً: (و البت ما لها، بتلدى الفارس من بطنها و بتجيبه من بطن قبيلته، إن شاء الله يدينى ميّة بت أفدى بيهم القبايل).

(و فى وجه الفقه الذى يعتبر المرأة كائناً منحطاً نجساً بسبب الحيض، قرر أنها كائن مؤمن لا يصيبه الإنحطاط لآى طارىء و يروى أنه طلب من إحدى نسائه مناولته مصحفاً فإعتذرت بأنها نجسة فقال لها ناولينى المصحف المؤمن لا ينجس).

أما فى ملمح الحجاب تذكر الأستاذة رباح: (لقد كانت مخاطبته الأولى شبه خالية من مفهوم الحجاب و إستمر ذلك حتى عام 1884مـ إذ أصدر فى 16 مارس من تلك السنة منشور الحجاب التام و منع المشى فى الطرقات مع الرجال و قال و مادام أن طلب الله هذا معلوم، و أن أكثر ناس هذا الزمن لا يقفون إلا بالحجر و الحجاب وجب علينا أن نحجر جميع النساء بالخروج و المشى بطرقات الرجال الذين لا عصمة لهم و لهن إلا بهذا الحجر ... صحيح أن المهدى إستشهد ببعض الأحاديث لمنع الإختلاط وفرض الحجاب، و لكن ذلك لم يكن أصلاً شرعياً فى رؤياه فتفسيره المباشر للحجاب مربوط بوضع آنى، كما أنه وضع قاعد للحركة فى فقه الأحكام بقوله: لكل و قتٍ و مقام حال و لكل لزمان و أوانً رجال هذه المقولة تبنى على تفسيره لفرض الحجاب لتدعنا نرى المصلحة الماثلة فى فرض الحجاب فى ذلك الوقت.)

و فى ملمح الزواج: "الجيزة نسوانية" .. "إتفاق روحى"

(... و تأكيداً على أن الزواج يكون برضى الزوجة، و أن الإجبار مبطل للعقد فقد غير المهدى صيغة الزواج التى كانت سائدة من مجبرتى إلى موكلتى فصار نص العقد الذى يلتزم به الأنصار دون سواهم "نصرة للسنة النبوية القائلة بأن الزواج يكون بالرضى لا الإجبار، و نصرة للمرأة ككائن له حقه فى تقرير المصير!": زوجت موكلتى "فلانة" من فلان، أو من موكل فلان فلان "الأولى للموكل و الثانية للزوج").

و فى حرب العادات: (... حارب عادات المأتم بأنه أمر أن تترك النياحة على الأموات و أن يترك الفراش على الميت و الإجتماع عليه و منع متابعة النساء للجنائز و قد شدد على ترك الحداد و أنه لا يجوز لأى حال أن تحد المرأة على أى شخص أكثر من ثلاثة أيام إلا زوجها فتحد عليه مدة العدة فقط، كما منع التبرك بزيارة قبور الأولياء و منع كتابة الحجب و التمائم و إعتبر فيها شركاً، و بالطبع فقد منع الزار حتى أن نشاطه توقف تماماً أثناء فترة المهدية و لم يعاود نشاطه إلا بدخول كتشنر كما حارب المهدى العادات التى كانت تؤدى إلى الظلم كعادة مال الخلع فرفع بذلك الغبن عن النساء).

و تضيف رباح الصادق: (... يجب الإعتراف بأن تنظيرات الإمام المهدى الخاصة بكمال إنسانية المرأة و إيمانيتها، و الخاصة بحقها فى إجازة الزواج و رفضه و ما إليها من بقع مشرقة متناقضة مع الواقع السودانى الذى يكاد يجمع على إضطهاد المرأة حين التحدث بلسان الدين و العادات العربية و متناغمة مع ذلك الواقع الذى يعمل على إحترامها حين التعبير عن تقليد إجتماعى متأثر بتيارات محلية قديمة هذه التنظيرات ظل تأثيرها محدداً لأن التناقض "أغنى بلسان و أصلى بلسان" ظل موجوداً و كان المنتظر أن تختلف لغة الدين العربى العامى "و هو الدين كما رآه جمهور الفقهاء المنطلقين من عقلية عربية جاهليتها تئد البنات" و تطابق مع الدين كما رآه المهدى "و هو ينطلق من عقلية السودانى الذى جاهليته كانت تسوّد البنات كما ذكرنا فحتى العرب الذين أتو السودان غالباً ما تأثروا بلون بشرة أهله فى جلدتهم و بلون ثقافتهم فى عاداتهم" و يطابق القراءة الصحيحة للدين كما نزل على سيدنا محمد "ص"، و يطابق ضميرنا السودانى الأصيل، إن هذه التنظيرات ظلت حبيسة قراطيسها، فقد ظلت ممارسات إعطاء المرأة أدواراً حساسة متناقضة مع عقلية كان فاس ما بتقطع رأس ! .. شىء واحد بقى حياً فى أعراف الأحوال الشخصية وسط الأنصار و هو الإعتراف بأن الجيزة نسوانية، فقد ظلت عقود الأنصار للزواج حتى اليوم تتم بصيغة زوجت موكلتى).

و كما ترى يا أستاذ الشقلينى و تأكيداً لما ذهبت إليه فى مداخلتك حول الإستناد على غليظ التراث، ها هى حفيدة المهدى تكشف عن الجانب المستنير فى خطاب المهدية و تُعيد قراءته من منظور حداثى تجديدى و نامل أن يتطابق هذا الخطاب مع ممارسة الحزب لآن التعارض لا زال قائماً ما بين "مطوّرى" رؤى حزب الأمة و قاعدة الحزب، فالإشكال ليس فى وجود "تراث غليظ" و تراث مستنير و "مطوّرين" يعيدون قراءة هذا الخطاب حداثياً و إنما التعارض القائم بين هؤلاء و قواعد حزبهم هو عين الإشكال، و هذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن ما مدى أصالة حداثة خطاب "مطوّرى" رؤى حزب الأمة ؟!

و سأعود لمناقشة ما أقترحه د. حسن موسى حول الحركات الجهوية.

و تحية ..
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هامـش:

* ورقة قدمت إلى ندوة نساء أمدرمان، مركز محمد عمر بشير، جامعة أمدرمان الأهلية، من 28-30 يناير 1995. نشرت بمجلة كتابات سودانية العدد السادس سبتمبر 1995.
آخر تعديل بواسطة ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã في السبت أكتوبر 18, 2008 12:41 pm، تم التعديل مرة واحدة.
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

الدكتور إدريس البنا والمعرض وتجربة الفنان التشكيلي محمد حمزة

( نعتذر للأحباء القراء بتقديم المقال أعلاه مُعدلاً وقد حاولت التعديل أكثر من 20 مرة وفشلت )
ونرجو تفضل الإدارة بسحب المقال السابق )

نبدأ بشكر كل الأفاضل الذين أثروا هذا الملف ، فلم يزل ينتظر الدراسة .
ونواصل :

الدكتور إدريس البنا طويل القامة بادي البشائر . هو من ورثة أهل فن الشعر الغنائي و وثيق الصلة بما اصطُلِح عليها بحقيبة الفن التي ابتدعها الإعلامي الباهر : الشاعر الغنائي ابن الشاعر أحمد محمد صالح .

عندما تجلس قرب ( إدريس البنا )وهو يقرأ ترجمته الإنجليزية لأحدى قصائد أغنية من أغنيات الحقيبة ، ويتغنى من بعد قراءته كورال جامعة الأحفاد ومغني على موسيقى ناعمة متداخلة التراكيب ، تُدرك أنك في صحبة منْ لا يشبه أبناء جيله ،تتعرف أنت على مصباح من المصابيح التي ترى فن الغناء بلون وطعم آخرين ، وإن كان تاريخ غنائنا حافلاً بدروب شائكة ،غريبة الأطوار و لم يستطع الكثيرون استجلاء تاريخ إنسان تلك الأيام ، فمن بين ثنايا تاريخ الغناء نافذة يستطيع الباحث الغوص في تاريخ المجتمع غير المُدون ، وملاحقة الروايات الشفهية لتكون الصورة أكثر دقة حول كيف كان المجتمع آنذاك : ثقافته وتعليمه وعاداته ونشاطه الاقتصادي و دور الأجناس التي تقطن السودان وأثرها على شعر وغناء ( الحقيبة ) ، وتنافر أو انصهار أو تداخل صراع خفي بين كل ذلك والمستعمر ودوره في الأغنية سلباً وإيجاباً ، وهو تاريخ لم يكتمل جمعه وغير مُحقق . أما المخفي منه في الكهوف المظلمة فهو غني بالتناقض والغموض والثراء والإبداع ، وعنف المجتمع ، وذلك استطراد منا ويحتاج لملف كامل وقد أفدنا كثيراً من ملف الدكتور حسن موسي حول الجسد في الفكر المستعرب والمتأسلم ( الطبعة السودانية المتنوعة ) .

على ضفاف كل تراث أبناء البنا: الشعراء الغنائيين منهم ، وشعراء العربية منهم ،فللدكتور ( إدريس البنا تاريخ ) أجداد وأعمام وآباء وأشقاء وأبناء لهم سيرتهم مع فن الغناء الفصيح والعامي ونسيج لغة البطانة وأشعار أهلها ومساديرهم ولغة أم درمان آنذاك وفي الحاضر أيضاً. ولا أعتقد أن الصدفة قد تخيرت الدكتور إدريس البنا لافتتاح معرض الفنان التشكيلي ( محمد حمزة ) وأعماله موضوع الإعسار الذي ألمَّ بالشق اليمين من جسد حزب الأمة ،بل هو عضو مجلس رأس الدولة أيام ما اُصطُلح عليها بالديمقراطية الثالثة وهو ذو باع في السياسة ، قل فيها الكيل أو زاد ، و له باع في الإبداع و تذوق الشعر الغنائي ، ومن حق حزب الأمة أن يفخر بتقدم أمثاله لافتتاح المحافل و دور العروض الفنية عامة ، وخاصة التي تَعِبتْ كثيراً حتى تم لها الإفلات من ( الصورة والكلب) الذين تُنفر منهما الملائكة ولا تدخل البيوت .

البنا من أكثر القادة السياسيين في حزب الأمة تفهماً لقيم الفن فهو شريك يعُب من خمر الإبداع ، لذا من حقنا أن نعرف من الذين حضروا الافتتاح وصف كيف مرَّ ( سيدنا الدكتور ) على اللوحات مثار الجدل ، أهو مُرور الكرام على عجل ، أم توقف يُعلق ؟ . أ ظهر التاريخ الثري الذي تحدثنا عنه أم تَخفى ذلك التاريخ في جُلباب ( سيدنا ) .
ونذكر هنا الاقتطاف الآتي :

{السيد إدريس البنّا يواصل إستعراضه لبقية لوحات المعرض بينما تبدو اللوحة مثار الإشكال فى الخلفية و هى باقية فى مكانها.}
لأهل الفن التشكيلي حديث مهم :

عندما استباح الفنان التشكيلي ( محمد حمزة ) نخلات الجسد الآدمي ، يُمسك السعف بملمس خياله الوثاب وأصابعه الرشيقة ، وتندلق المشاعر والعواطف وخيل الخلق ترقص في ذهنه وهي تتعدى الحواجز ، أ يحق لنا أن نتفحص هذا المعروض ونقيمه ؟

نعلم أن رسم الجسد الآدمي قديم ، ودراسة التشريح للكائنات الحية قديمة أيضاً : العظام والعضلات والحركة : جلوساً أو وقوفاً أو ركضاً أوحين يدخل مُعاركه جميعاً.تلك قطعت مرحلة كُبرى منذ عصر النهضة كدراسة تشريح معمقة ، وسبقها تاريخ أكثر قدماً منذ الإنسان الأول ، ومن يتفرس في آثار الحضارات مثل أثينا وبيزنطة يعرف الكثير .
وفي الدراسة التقليدية في كلية الفنون على عهد الرعيل الأول حسب علمنا ، كانت مؤسسة ( المعرفة بالنقل ) هي المدرسة الأولى بالانتباه ومنها يبدأ ( الإستِل لايف ) و ( الأوبجِكت ) و ( الفِقَر ) و ( اللاندسكيب ) لتنمية مهارات النقل والنظر العميق والمعرفة المُتأملة وفق قواعد رسم المنظور . ثم الدخول بعمق في تاريخ الفن وإعادة النظر في الكائنات وفق أسس بصرية جديدة و التي هي قص مُضيَّع كما يقول الروائيون .

نعود مرة أخرى :
لم اعتقدنا جازمين أن معضلة الملف :
( عري يُعرض في دارٍ فكر أهلها " الإسلام وتجديده في الفكر وفي الثقافة وفي السياسة " وتوقفنا هنا ولم ندلف لِمَ تخير الفنان التشكيلي هذا البناء الفني القديم بالذات؟)
أهي لإعادة تجديده برؤية أخرى أم يرى أنه لم يستنفد أغراضه بعد ؟
أهي إعادة بوصلة لغشاوة الأعيُن التي أظلمت في ظل غول المنع والبتر ومؤسساته ، بعد استراحة من بعد " نيفاشا " وارتخاء قبضة الغول المُحكمة وأغلاله تكبل مؤسسات الثقافة والفن ؟
أهو رسم جسد وفق نظم جديدة ؟
لِمَ اختار الفنان التشكيلي يا تُرى الوجه المُدبر ولم يختار المُقبل إلا بعد أن تجنب الكساء في مواضع " العورة بلغة الدين السائد عندنا " ؟
أكان في قاع الذاكرة مكان للاستراحة على التراث ، حيث يسترخي الفنان التشكيلي للخضوع دون تفكُر و السير في عادات مجتمع تصوره و تسربت بعض رؤاه ولمست بنان الفنان الخلاق ، وأمسك هو بلجام الحُرية العُظمى يمنعها الانطلاق ؟
أهي مرحلة من مراحل الرسم انتهت بقدوم تكنولوجيا نقل التصوير منذ أكثر من قرن ودورها في نقل الواقع بدون جهد ؟

نذكر نحن منذ أكثر من قرن كيف انفتح المبدعون للرسم في الهواء الطلق ، يجربون اللون في ضوء الشمس ، و كيف تم تفتيت المادة المرئية وإعادة تشكيلها من جديد ، وثارت المدارس الفنية على هياكل النقل و دور عبادته ومتاحفه ونبتت انطباعية وتجريداً وتكعيبية وسريالية ...الخ من المدارس .

ففي أثينا القديمة أجساد منحوتة منذ تمددت حضارتها أيام (الإسكندر ذو القرنين)، فيها من تقنيات المعرفة بالأجساد الكثير ،فماذا تبقى لنا من مؤسسة النقل ، حتى تنهض رسوم فناننا المُبدع تعيد الماضي منهاجاً ولو برؤى جديدة تحتاج التوضيح ؟

نعرف مشاعر إخطبوط الخلق ، ونعرف أن الإبداع تهديم مُنظم للقديم ، بل ربما تهديم خلاق حقيقي ، وليس كما يدعي مَاكِري السياسة اللعينة في الطرف الآخر من بحر الظلمات .

للفنان التشكيلي الفخم أسئلة تنتظر وتجربة ثرية تستحق الإشادة بأصابعه المُتدربة وهي ترسم رسماً مباشراً ، فلمسات بنانه باهرة من واقع الصور الضوئية التي شاهدناها هنا في مدونة ( سودان فور أول ) ، فما بالنا لو شاهدناها حقيقة ؟

إن الملف ثري بإبداعات الأحباء هنا جميعاً ، ويحق للمرء أن يشيد بالدفق الثري للمادة المطروحة هنا من السادة الأفاضل ومشاركة الجميع ، ونأمل ليس في تناول أمر هجوم الجناح المُتزمت من حزب الأمة وربما أيضاً في أنفس بعض من أحزاب أخرى والتي لم تزل حية تعمل ، بل تساؤلنا في التقائها قولاً وعملاً مع الجهل النشط المؤسسي الذي يتحرك بقرون استشعار أمنية تُلاحق إضاءة الإبداع بمنهجية : ( سد الذرائع ) ! ، ولذلك الجهل النشط خميرته يدسّها في بطون الأحزاب لتفعل فعلها في الوقت المناسب !!

وإلى عودة ، مع المحبة لشركاء القلم والواقفين على همّ المنتدى ألف تحية وألف سلام .
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

شكر وتقدير لإدارة سودان فور أول

كتبت هنا موضوعاً ، ولم أتمكن من تعديله ، وقد كتبت في المقال ( المُعدل ) أنني لم أستطع التعديل ، ورجوت من الإدارة سحب الملف ، وذلك تذكيراً للقارئ ، حيث كنتُ أنوي الكتابة عن طريق الماسنجر أو البريد الالكتروني بطلب السحب ، ولكني أحسست بأن الإدارة عينها أبصر مما تصورت ، وهذه شهادة أن الإدارة تقرأ كل ما يُكتب وفي زمن قياسي ، وتنظره بعين فاحصة ، وتلك ميِّزة ، ولكننا نعلم أن العالم أكثر ضيقاً ، والوقت صار من الذهب اللامع إن لم يكن من الدُر .
فكيف تسنى الوقت للإدارة اللحاق بكل صغيرة وكبيرة ؟
إن لذلك أثر على الوقت الممنوح من الطبيعة للذين يحملون الهم الثقافي ونشر وعي الجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية ، فصار وقت متابعة أمر المنتدى إدارياً وفنياً دون شك عبئاً فوق الاحتمال ، مع ما نعرف من أن اليوم المعروف بساعاته لا يتسع بقدر ما نُحب إلا في حالة تجني أمرٌ على أمر ، أو زمان العمل العام في المنتدى من قبل الإدارة على الوقت الخاص ، وأعتقد أنه دون شك تضرر ...
رفقاً بالحياة الخاصة ، نرجو أن يكون الوقت المُخصص للإدارة بالقدر الذي لا يؤثر سلباً على الحياة الخاصة للقائمين والقائمات بأمر الإدارة ، وهو تثمين لأيلولة عمل المنتدى كعمل طوعي مُقدم على غيره ، فتستحق الإدارة تكريماً خاصاً ، وشكر جزيل وكثير العرفان لهذا الانتباه ، وما تولون لما نُقدم هنا كثير اهتمام .


.
ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã
مشاركات: 46
اشترك في: الثلاثاء أغسطس 05, 2008 12:59 am

مشاركة بواسطة ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã »

الأستاذ .. الشقلينى

تحية و ود و إحترام

أولاً أشكرك على الإسهام القيّم فى الملف، .. و بالنسبة لسؤالك عن: { .. لذا من حقنا أن نعرف من الذين حضروا الافتتاح وصف كيف مرَّ (سيدنا الدكتور) على اللوحات مثار الجدل، أهو مُرور الكرام على عجل، أم توقف يُعلق؟. أظهر التاريخ الثري الذي تحدثنا عنه أم تَخفى ذلك التاريخ في جُلباب ( سيدنا)}، أقول لك بما أننى شهدت الإفتتاح فإن السيد إدريس البنّا و بمعيّته د. عمر أحمد عمر قد تجوّلا على لوحات المعرض بشكلٍ متأنى و تأمل عميق و أشبعا الفنان بالإطراء و الثناء. أما بالنسبة لبقية الإستفسارات فإنه من الأفضل أن يرد عليها التشكيلى محمد حمزة بنفسه لأنها موجّهة إليه شخصياً.

و شكراً مرّة أخرى ..
ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã
مشاركات: 46
اشترك في: الثلاثاء أغسطس 05, 2008 12:59 am

مشاركة بواسطة ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã »

حركات المقموعين و المهمّشين:

أولاً يستحسن أن نصطلح عليها بحركات المقموعين و المهمّشين بدلاً عن مصطلح الحركات الجهوية لأن ذلك يختزلها فى إقليمية محدودة تتنافى مع الشعارات الوطنية التى ترفعها هذه الحركات، و قد يرجع تداول مصطلح "الجهوية" إلى الكتابات القليلة التى كتبت عنها بالإنجليزية بُعيد الإستقلال و التى أنتجت الترجمة الحرفية لمصطلح (Regionalism)، كما أن المصطلح ذاته يروّجه بعض السياسيين الذين يرمون إلى الإستخفاف و التقليل من هذه الحركات.

الحديث عن نشوء هذه الحركات و ماهية الأسس الطبقية لهذه الحركات و من يوجهها و لمصلحة من وكذا فرز تشابك المصالح والمطالح فى صراع السادة و الأتباع، الحديث عن ذلك يقودنا إلى تناول الظاهرة بشقيها السياسى و الإجتماعى و موضعتها فى إطارها التاريخى، وهذا يقودنا بدوره إلى العودة لما قبل تأسيس هذه الحركات التى أصبحت تطفو على مشهدنا السياسى العام فى الآ ونة الأخيرة و الحالية، و المشهد السياسى المعنى لا يمكن فصله عن تاريخ السودان الحديث بمفهومه السياسى و التاريخى، و حينما نتحدث عن السودان فإننا نتحدث عن دولة بكل مواصفاتها العلمية .

وعلقت فى ذهنى عبارة كان قد قالها بشكل عابر أستاذ الإقتصاد السياسى ( د. حمدى الصباخى ) فى ندوة نظمها إتحاد الطلاب السودانيين بجامعة فاس المغربية و هى: (أن مفاتيح السودان إمتلكها شخص واحد هو محمد أحمد المهدى) كان قد قال ذلك فى جملة سريعة و كأنها حقيقة موقنة و لكنها فى ذات الوقت تستبطن أو تحمل إيحاءات محبطة من خلال التعبير الذى كان يحاول أن يوصله إلى مستمعيه. والحقيقة التى كان يستند عليها د. حمدى الصباخى فى أواسط الثمانينيات هى أن المهدى أسس لدولة سودانية ذات سيادة و هذا ما لم يتحقق منذ إنهيار المهدية و إلى الآن ..

المهم فى الموضوع ومع إعجابى وإحترامى لأستاذى د. الصباخى هو كيف إلتقط هذا المصرى بعينيه هذه الملاحظة الدقيقة بغض النظر عن تطابقها مع الحقيقة أو مخالفتها لذلك ؟ ما مدى مصدا قية وحقيقة قراءة الآخر لنا ؟ ألا يدفعنا ذلك إلى قراءة تاريخنا بأعيننا للتعرف أكثر على ذواتنا (ذاتنا) ؟ . لهذا فإن التعرف على تاريخنا السياسى الحديث و إستعراض تفاصيله من خلال الذين شهدوا وصاغوا تلك التفاصيل يكون أفضل خاصة إذا كان هؤلاء متمكنون من قراءة التاريخ وكتابته و ينتمون لنفس المناطق التى نشأت بها هذه الحركات لاحقاً.

عن شرق السودان كُتب كتاب عنوانه (كفاح البجه) فى فترة الإستعمار 1 يناير 1953 كتبه (محمد دين أحمد إسماعيل البجاوى) و هو من طلائع المعلمين الذين ساهموا فى نشر عملية التعليم إبان فترة الحكم الثنائى و يُشار إليه كأحد مؤسسى (مؤتمر البجه) تلك الحركة التى تطورت لاحقاً و أصبحت شريكاً فى السلطة الآن بحكم الإتفاقيات و ما تبلور عنها من قوانين أفرزت ما نحن نراه الآن.

و كاتب الكتاب كان قد إستقرأ واقع منطقته و ربطه بالواقع السياسى العام فى تلك الأيام مما دفعه لإستنكار ذلك الواقع المرير و التحريض و الدعوة لإقامة كيان يدافع عن أبناء و قوميات البجة، و قد ركّز فى هذا الكتاب على إستعراض سياسة الحكم الثنائى على منطقة شرق السودان، و كذلك مواقف و سياسات القادة السياسيين و الزعماء تجاه نفس المنطقة، و أشار بشكل خاص إلى تدنى خدمات التعليم و غياب المشاريع التنموية و الإصلاحية و إهمال المكوّن الثقافى لقوميات البجة، و قام بإجراء مقارنة ما بين الواقع فى شرق السودان و جنوبه، و قام كذلك بإستعراض الأسباب التى أدّت إلى إحباط ثورة 1924 .

كتب (محمد دين أحمد إسماعيل البجاوى) فى مُفتتح كتابه: (فى شرق السودان قبائل لا تقل بداوةً عن الجنوب و لكنها لم تُطالب و لن تنادى بالإنفصال و لا يُستبعد أن تُطالب بأشياء تُشابه الإنفصال فواجب الساسة و القادة و الزعماء أن يتداركوا الموقف قبل أن يستفحل الأمر، و قبل أن يبلغ السيل الذبى. )

كما كتب فى الإهداء: (إلى الرجل البجاوى الذى لا يزال يعيش على فطرته و الذى لا يزال يجد لذّة و متعة فى تسلق الجبال، و عبور الوديان و قطع المسافات الشاسعة مشياً على الأقدام، و الذى لا يزال يعيش كما كان يعيش الإنسان الأول، و حرم من التمتع بما قدمته المدنية و الحضارة فى القرن العشرين كما حرم إبليس من الجنة حرماناً باتاً قاطعاً. و أخيراً إلى البائس الشقى بحكم يومياته القاسية المتواصلة أهدى هذا المجهود المتواضع المحدود فى قيمته كغيره من المجهودات الضئيلة المتنوعة. )

و فى إنتقاده لسياسة الإستعمار الإنجليزى المصرى كتب الكاتب: (... و مع كل هذا وضع الإستعمار الإنجليزى المصرى يده على السودان و نشر نظمه و حكامه فى البلاد. و خلق بجانب هؤلاء الحكام سواء أن كانوا مصريين أو إنجليز أناساً من الأهالى الموالين و المخلصين له فى مناصب تشابه مناصب الحكام و أطلقوا عليهم أسماء كثيرة فمنهم النظار و العمد و المشايخ بمختلف درجاتهم و تقرّبهم من إله الإستعمار، و عملاق الإستعباد و عدو الأحرار، عمل كل هذا و أكثر من هذا – فإستعان بكبار الموظفين الذين كانوا يؤمنون أن الحكومة فى ذلك الحين تعطى و تمنع و تُعز و تُذل و إذا لزم الأمر تُحيى و تُميت و لم يكتفِ الإستعمار بذلك بل بسط يده كل البسط و إستعمل كل طرق الإغراء و اللطف و الإكرام و الحلم و الفقه النفسى لكسب الأهالى، و لحفظ الأمن فى ربوع البلاد و لإنهاء العداوة بينه و بين الذين كانت نفوسهم محتفظة بثورتها حتى ماتوا متمسكين بعقائدهم و مبادئهم و وفائهم لبلادهم. و لكن النظام الجديد حاربهم قبل أن يموتوا و حارب غيرهم و إستمر فى حربه و عزله لكل من كان له نفوذٍ ما و حطم طبقة الأحرار، و خلق طبقة جديدة تدين له بالولاء و بأشياء أخرى تشابه الولاء و لم يقفوا عند حدهم بل تفانوا فى ذلك و كدّوا و إجتهدوا و أنهكوا أنفسهم قليلاً أو كثيراً ترضية و تفانياً فى خدمة إلهَهُم الجديد الذى كان ينزل لهم المَن و السلوى كما كانوا يعتقدون و يصدقون. و لم ينته الإستعمار بذلك بل و فتح المدارس لإخراج الموظفين أى أنصاف المتعلمين ليستعين بهم فى أداء مهنة التدريس و القيام بأعمال المكاتب كما سلك هذا النهج فى جميع أنحاء السودان و جاهد فى ذلك و جاهد معه أبناؤه البررة و فلذات أكباده من أبناء البلاد لا ليخونوه بل ليأدوا واجبهم نحوه بكل أمانة و إخلاص .. )

أما فى حديثه عن قادة البلاد و البجه: (... و من الأشياء التى لا ترضاها صحائف التاريخ و لا سير الأحرار، و دعاة السلام، هذا النوع العجيب من السياسيين و الزعماء الذين يعيشون كالملائكة و الذين يريدون أن تكون لهم أجسام نورانية، و لو أنهم لا يمانعون ليأكلوا و يشربوا و يتنفسوا كبقية البشر و لكنهم لا يحبذون هذه المحاولات المتعددة و المناقشات العنيفة، و الأسئلة الكثيرة التى تكلفهم كثيراً و تضعهم فى مستوى بشرى إعتيادى، و تنزلهم إلى مجالس الشعب و مشاكله، فهم لا يتمنون أن يروا هذه الكتل البشرية البائسة التى تعيش فى الأقاليم إلا عند الإحتياج، و عندما يأتى وقت الإنتخابات ليغيروا أماكنهم فى الصفوف و درجاتهم فى الكراسى ... إلخ ... و من الأشياء المُخجلة التى لا زلنا نعرفها و لا نجهلها أن الإستعمار قد مد يد المساعدة لنشر التعليم بين قبائل البجه فى أوائل أيام الفتح الأخير حتى قريباً، و لكن قد عدّل عن هذا الرأى فى السنوات الأخيرة لحاجة فى نفسه. أما زعماء السودان لم ينهكوا أنفسهم لوضع الخطط المناسبة الصالحة لتقوية هذا المجتمع البجاوى ليقوّى نفسه و ليحارب و يجاهد مع المحاربين و المجاهدين بطريقته الخاصة كما تعود .. و لا يخفى عليك أيها القارىء أن الزعماء و القادة قد قصروا فى واجبهم نحو البجه لدرجة بعيدة فهم لا يكلفون أنفسهم ليغيروا من الأوضاع السيئة بالبلاد حتى فى موسم الإنتخابات، و لكنهم يكتفون بالتأييد الذى يجدونه عن طريق الجهل و الإعتقادات البالية و التفكير المعوج، لا عن سبيل الفهم الصحيح و الإدراك المفيد فى مثل هذه المواقف التى ينتخب فيها الشعب زعماؤه من الصالحين سواء أن كانوا دعاة ثورة دامية فى ظلام الليل الدامس أو مظاهرة سلمية عند الأصيل .. و هم فى ذلك لا يختلفون كثيراً فى شعورهم و إخلاصهم و نواياهم عن الإستعمار الأجنبى. )

و يذهب الكاتب إلى تقديم مقترحات و حلول للزعماء كى تكون لهم نظرة جدية لقضايا البلاد إذ يقول: (و على الزعماء إذا أرادوا أن يأدوا أمانتهم و واجبهم لبلادهم و أن ينصفهم التاريخ و يحفظ لهم حقوقهم فى الحياة و الممات، عليهم أن يجاهدوا بإخلاص تام و أن يواجهوا الإستعمار فى كل مواقفه و يكافحوا بالأقاليم حيث مجال الكفاح، و يستغنون عن قاهرة المعز و عن مقرن النيلين إلا إذا دعت الضرورة، و لا يقفوا عند هذا الحد بل يكونوا على إتصال دائم بالأقاليم لمعرفة الحقيقة و لمواجهة المشاكل التى تظهر و تنجلى بحكم وجود االحكم الثنائى فى البلاد قبل أن يستفحل أمرها و يبلغ السيل الذبى. )

و فى إستعراضه لثورة 24 و ما أعقبها من آثار يضيف الكاتب: (و عندما ثار الثوار من أبناء البلاد فى سنة 1924 و معهم الوطنيون الأحرار، و الطبقة الأولى من رجال المدرسة الحربية، و عدد غير قليل من الطلبة كما هو معروف بأنهم العنصر النارى فى البلاد، و عدد لا يستهان به من كل الطبقات فى مختلف الأقاليم نتيجة للظلم المنتشر فى ذلك الحين و للوعى السياسى و إستعداداً لثورة دامية، فهؤلاء و غيرهم حاربوا الإستعمار و اعلنوا عليه حرباً شعواء لا بداية و لا نهاية لها، و قد تحالف معهم الجانب المصرى معتمداً على سياسة العواطف و المحبة و المجاملة كما هو معروف فى عرف السياسة المصرية نحو السودان، و تصديقاً لهذا المنطق ما بين غمضة عين و إنتباهتها قد عدّل المصريون بل تنكروا عن هذه المحالفة تنكراً كلياً و كأنها شيئاً لم يكن مذكوراً، و تركوا السودانيين فى طغيانهم يعمهون و لكن بسالة الجندى السودانى لم تتردد لتنفيذ عهدها و الوفاء بوعدها ما دامت مؤمنة بحقها فى الحياة. إنتهت الثورة بإنهزام الجنود السودانيين و معهم الطبقات الشعبية فى الأقاليم التى كانت تعطف على موقفهم و تؤيدهم بكل قواها المعنوية ... عندئذٍ إنهار الوعى السياسى، و إختفى القادة و الزعماء و المتزعمون و ضحك و إبتسم الإنتهازيون و أبناء الإستعمار البررة نتيجة لهذه المعركة التى إنتهت بإنهزام السودانيين مبدئياً. ) (1) .

و لم يكتفِ الكاتب بإستعراض الأوضاع التاريخية فى تلك الفترة بل قام بتوجيه نداء لشباب البجه نورد منه ما يلى: (... و فى مثل هذه الظروف إننا نرجو من شباب البجه عامة أن يُمعن النظر و يُكثر التدبير و التفكير و يتروى فيهما، ثم يتبصّر فى حياة هذا المجتمع البجاوى ليكّون فكرة عملية صادقة صحيحة و معتمداً فى ذلك على ذاكرته الخاصة و تجاربه العامة ... فالشباب البجاوى خاصة و السودانى عامة يجب أن يثور ثورة عامة شاملة لهذه الأوضاع السيئة و التى لا تخدم البلاد فى قليل أو كثير، و أن ينزعوا عن أنفسهم ثوب القبلية و الطائفية، و أن يتنكروا لهذا النظام القائم تحت رعاية الكبار الذين يتمسكون و يتقيدون بأشياء جامدة بالية لا تتطور أو تتقدم مع الزمن و يجب أن يقلل من التردد و الإرتباك فى حياته الخاصة و العامة، و يُكثر من الإقدام و من الكر و الفر إذا دعت الضرورة ... و أن لا يتأخر من قافلة المكافحين و المجاهدين، و أن ينظم الصفوف و يكوّن الجمعيات و الهيئات لمحاربة الجهل و للقضاء لسياسة الفوضى و الإرتجال التى لا زالت منتشرة فى أواسط المجتمع البجاوى و لمساعدة المجموعات العمالية التى تسيطر عليها أيادى الملاك لتنظيم صفوفهم و تتكتّل فى وحدة نقابية لتباشر واجباتها و حقوقها الشرعية بناء على سلطات مكتب العمل .... كما و أننا نذكر الشباب خاصة أن واجبهم الوطنى يفرض عليهم الإتحاد و التكتل فى هيئات وطنية إجتماعية صالحة لتحارب هذه الفوضى الإجتماعية و السياسية الإرتجالية، و القادة و الساسة الإنتهازيين و سماسرة السياسة السودانية، و ليضيقوا الخناق على هذه المبادىء الهدامة التى تشل من حركة البلاد عامة، و لا سيما نريد منه أن يشعل النار الموقدة فى هيكل هذه العنصريات البغيضة، و القبليات الضارة و الطوائف المتعددة و يسير على هدى سياسة عصرية تمكن البلاد من التقدم و التطور بجانب العالم الحر ... )

و بعد عمل مقارنة بين الأوضاع فى جنوب السودان و شرقه يوجه الكاتب نداء آخر إلى جماهير قبائل البجة: (... و اليوم قد آن الأوان لقبائل البجة عامة أن تتحد إتحاداً عاماً جامعاً شاملاً، و أن تنظم صفوفها تنظيماً جميلاً رائعاً قوياً و لتجاهد جهاداً فعالاً حساساً لتستفيد منه هذه الجماهير البدائية و البائسة و الشقية التى لا زالت تتسلق الجبال و تقضى حياتها فى الكفاح الفطرى الذى لا يهدف إلا لأشياء محدودة معينة فى قيمتها، و لو أن العقل البشرى قد إرتقى و خاصة فى القرن العشرين و أصبح يطالب و ينادى بأشياء أنبل و أرقى من الغذاء و الكساء و الماء و المسكن .... فجماهير قبائل البجه عامة تطالب من ضمن الأشياء التى تطالبها بأن المعاهد و المدارس التى تفتح أبوابها لسكان العاصمة لكان من الأفضل ان تحارب الجهل بين تلال البحر الأحمر و وديانه، و أن التعليم المصرى الذى رفع رايته لنشر الثقافة فى أواسط السودان و جنوبه قد أصبح شيئاً محرما على شرق السودان، و أن المشاريع و الإصلاحات مهما كان نوعها فقد جرت العادة أن لا تتمتع بها قبائل البجه بأى طريقة من الطرق القانونية، و أن جماهير القبائل البجاوية لا زالت تتشوق إلى معاملة ظاهرة واضحة لتحسين مستواها العام فى كل مرافق الحياة .. )

و فى ختام كتاب (كفاح البجة) الجزء الأول يعود الكاتب (محمد دين أحمد إسماعيل البجاوى) إلى تأكيد ما ذهب إليه فى مفتتح كتابه هذا إذ يورد فى فقرة ما يشابه الإنفصال ما يلى: (إن قبائل البجه عامة لا تدعوا إلى التفرقة، و لا تنادى بالإنفصال أو ما يشابه الإنفصال إلا إذا أُضطرّت لذلك إضطراراً، و آمنت بذلك إيماناً، و إطمأنت إليه إطمئناناً عاماً، و إستسلمت لهذا النهج من التفكير سواء أن كان مستقيماً أو معوجاً، لأن ظروف الحياة عندما تتحكم فى حياة الأمم و المجموعات و الأفراد تجعلها تسير كما تشاء لا بناء رغبات و مطالب الأمم و المجموعات و الأفراد التى تجاهد و تكافح لصالحها و مستقبل بلادها فى آن واحد. ) . إنتهى .

قصدى من إيرادى لمقتطفات من هذا الكتاب الذى يعتبر وثيقة نادرة - لمزيد من المعلومات راجع الرابط "وثائق مهملة" على العنوان التالى- :

https://www.sudan-forall.org/forum/viewt ... adab795479

هو فهم الدوافع التاريخية التى أدت إلى نشوء هذه الحركات بإعتبار أن مؤتمر البجا يمثل نموذجاً لهذه الحركات من ناحية و بإعتبار أن الكثير من الحقائق والإشكالات الجوهرية التى أشار إليها الكاتب لا زالت ماثلة فى واقعنا السياسى رغم تعاقب الأنظمة و الحكومات بمختلف أنواعها من ناحية أخرى، وإذا كان هذا الإشكال قد طرح فى بداية الخمسينيات (وفق ما وثق له الكاتب) هل يعنى إستمراره أنه سياسة متعمدة ومقصودة خطط لها الإستعمار ليقوم بتنفيذها وكلاؤه من بعده أم أن الأمر يشير إلى أزمة حقيقية ومستفحلة داخل مؤسساتنا السياسية التى إتسم عملها بالجمود وعجزها التام عن تقديم حلول عملية لقضايا ملحة لجماهيرها مثل التنمية والتعليم وغير ذلك من المطالب الإجتماعية والإقتصادية و السياسية، إن العمل على إعادة إنتاج ذات السياسات والإبقاء على الفوارق وبشكل متنامى خاصة بين المركز و أطرافه ساهم فى تراكم و تصاعد الإغتياظ والسخط و التذمر فى نفوس ساكنة الطرف الهامشى مما دفع طليعتها إلى تنظيم الصفوف و تكوين كيانات ترفع شعارات ضمن ما تطالب به القسمة العادلة للسلطة و الثروة و التنمية المتوازنة و غير ذلك من المطالب، لكن ما يميز هذه الحركات حديثة التكوين هو إختيارها جميعاً للعمل المسلح لإسماع صوتها وتحقيق مقاصدها .

كما أن الإستناد إلى هذه الوثيقة ينفى الزعم الذى تبناه ولفترة طويلة بعض الباحثين والمؤرخين الذين يرجعون أصل مؤتمر البجة إلى الرواية التى تتحدث عن إختيار أهل الشرق لمصطلح (مؤتمر) إلى أنهم عملوا بنصيحة المهاتما غاندى حينما حطت سفينته بشرق السودان فى 1947 ولما راى البؤس فى ملامح سكان الشرق ظنهم للوهلة الاولى قبائل هندية فقيرة ضلت طريقها إلى هنا و لمّا علم بحقيقتهم نصحهم بتأسيس مؤتمر على شاكلة حزب المؤتمر الهندى فإلتقط مثقفو الشرق العبارة و أسسوا لاحقاً مؤتمر البجة فى 1958.

و واضح من كتابات (محمد دين) أن الرجل كان يدعو و يخطط لتأسيس و إقامة إتحاد لقبائل البجه فى شرق السودان و إذا كان كتابه قد صدر فى يناير 1953 فمعنى ذلك أن مخطوطة الكتاب كانت قبل هذا التاريخ ربما بسنوات مما يُشير ذلك إلى أن الوعى بقضايا المهمشين و المقموعين خاصة فى شرق السودان كان حاضراً لدى الطلائع المثقفة منذ فترة مبكرة دون أن تكون لزيارة المهاتما غاندى لشرق السودان تأثير على الوعى السياسى لمثقفى الشرق.

و نواصل ..
ــــــــــــــــ

هامــش:

(1) يلاحظ أن الكاتب لم يشر إلى القيادات التى والت الإستعمار فى ذلك الحين بإسمها و ذلك بخلاف (أحمد خير المحامى) فى كتابه (كفاح جيل)، حيث ذكر فى الهامش: (يلاحظ أن قيادة حزب الأمة تضم أكثر الرجال الذين حاربوا حركة 1924، و حاولوا أن يمثلوا دور المعتدلين أو الإنتهازيين فى تلك الفترة. ص 101)
آخر تعديل بواسطة ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã في الجمعة أكتوبر 17, 2008 7:38 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã
مشاركات: 46
اشترك في: الثلاثاء أغسطس 05, 2008 12:59 am

مشاركة بواسطة ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã »

حُذف للتعديل ..
ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã
مشاركات: 46
اشترك في: الثلاثاء أغسطس 05, 2008 12:59 am

مشاركة بواسطة ÚÇÕã ÅÏÑíÓ ÇáÕæíã »

حول الفنان التشكيلى (محمد حمزة) و مدرسته كتبت الأستاذة / أميرة عبد القادر السقّا:


صورةصورة

السيد إدريس البنّا يتوسط كل من الفنان التشكيلى محمد حمزة و الأستاذة أميرة عبد القادر السقّا.(لتكبير الصورة إضغط عليها).

محمد حمزة (1...)

بين الواقعية و التجريد


فى مجالات المعرفة الإنسانية ليس هنالك أكثر من الفن إحتفاءاً "بالسلب"، فخلافاً للعلم يستأنس الفن بفكرة الإنبعاث من العدم و الإنطلاق من اللا شىء، لذلك إرتبط "السلب" بالفن التشكيلى فى علاقة حميمة بحكم كونه أكثر تمرداً و إنطلاقاً. كان هدف الفن التشكيلى هو تصوير الواقع المجسّم "ثلاثى الأبعاد و نقله إلى سطح اللوحة ثنائية الأبعاد أى إلغاء البعد الثالث و الإستعاضة عنه بالمتطوّر" فتجلى السلب فى قمته بإنتقال الفن إلى مرحلة التجريد، حيث إتجهت التجريدية التحليلية فى البداية إلى تحطيم الأشكال، و إعادة ترتيب حطامها، حتى إنتهت بها سلباً إلى اللاّموضوعية فإنفصلت علاقة العمل الفنى عن الواقع المباشر، و علاقة السلب مرتبطة بموضوع الفن التشكيلى و أسلوبه،فبعد أن ظل فى عصر النهضة مقصوراً على رسم ما أتفق علي أنه جميل و مُتسق و سامٍ متبختراً ما بين القصور و الكنائس، نخلص من تلك النظرة التقليدية لمفهوم الجمال و وظيفة الفن المثالى بالتالى، و هكذا أصبح للقبح، أو ما يعتقد بأنه قبيح، نصيبه من جدران المتاحف و المعارض و أصبح الفنان رائد حركة التغيير فى المجتمع، مرتبكاً فاقداً لحس الجمال داخله و غير مستعد لخوض حرب ضد القبح، حتى غدا القبح فى حد ذاته غاية تُبتغى و ليس وسيلة للتعبير أو شكل إحتجاجى على وضعٍ ما أو إعتراف من الفنان بعدم إمكانيته أو قصورها، و أصبحت جماليات ما بعد الحداثة لا تقوم على أساس ما هو "جميل" بل على أساس ما هو "جليل"، المروّع و الصادم و المستفز، و كل ما يجعل المتلقى يعيد النظر فى الواقع من حوله.

تجربة "محمد حمزة" إرتبطت منذ البداية بالواقعية المباشرة و ما تراه العين بشكل مباشر – كتلة، ضوء، ظل – ثلاثة مفردات وضحت ملامحها منذ الإختيار الباكر لسنوات الرحيل عن السودان، فعكف عليها تجويداً للأداء و أعطى لها الزمن الجميل، و الطويل من عمره، فباحت له بسرها، و ذاب هياماً فيها، فأصبح "محمد حمزة" فنان من العصر الحديث كأنه خرج لتوه من عصر النهضة، و أصبحت ترى أعماله حيّة نابضة، و شخوصه تدعوك للجلوس معها لتشاركها شغف اللحظة، و متعة الحوار معها.

كان السودان محطة لم تغادره ولم تنزوِ فى ركن قصى من ذاكرة منسية و رغم سنوات الغياب الثمانى عشر إلاّ أنه كان يتحرّق شوقاً لعودة إيجابية، فكان "نداء الفنون من اجل دارفور – Arts Call for Darfur "، صرخة فى عالم الصمت قُصد بها أن تعيد للأذهان أهمية أن يكون للفن أثر إيجابى فى الشأن الإنسانى يحرك به عصب السكون، للوضع الحرج فى بقعة من وطنه الأم ما بارحت خياله و عرف فى قرارة نفسه أنه آن الأوان للفن أن يتخذ شكلاً جديداً، فلم تعد وظيفته ملء الفراغ بالوهم المصنوع بالأكاذيب المريحة، و إنما خلق فرصة للحياة، ضرورة أن يقود الفنان المسيرة و يكون مشعل الضوء فى طريق معتم، تلتها صرخات متتالية يفصل بينها زمن من الترقب و الإنتظار، معرض ثنائى، ثم معرض منفرداً ملأ الدنيا و شغل الناس زمناً ثم ... ها هو محمد بين الميم و الدال يتمدد ليطلق آخر الصرخات "برزخ" بين الواقعية و التجريد، هدفها تعليمى معرفى تجعل من الفنون محور للتنمية و لخدمة البشر، و ليس الأبقاء على ما هو قائم، بل تنمية النزعة للتغيير و مداومة نقد الواقع، من أجل تصويبه و إغنائه، من أجل أن يسترد الإنسان إنسانيته و المجتمع عقلانيته و الفنان إتساقه و توازنه. فهل من منتبه ؟ هل من متيقظ ؟

اللهم هل بلّغت ؟ اللهم فأشهد.

أميرة عبد القادر السقّا.
2008
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

هل من منتبه؟

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام يا أستاذة أميرة..
شكرا على فتح موضوع محمد حمزة من زاوية الرسم و أنحنا متنبهين و متابعين.
و يا عاصم شوف ر. خ . عشان أنا مغروض في أصل الصور المصاحبة.
سلام و مودة
حسن
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

المعرض و المغرض

مشاركة بواسطة حسن موسى »


المعرض و المغرض


حفزتني المناقشة التي انفتحت بمناسبة الإعتداء " الوحشي" الأخير الذي تعرضت له تصاوير الفنان التشكيلي محمد حمزة في دار حزب الأمة بأم درمان، حفزتني على العودة لتفاكير قديمة في خصوص إشكالية معرض التشكيل ضمن المشهد الثقافي/ السياسي في السودان. في هذا الأفق احاول معالجة وسيلة المعرض فيما وراء الإستخدام النفعي البسيط للفنان الذي يسعى لبذل ثمرة جهده الإبداعي للناس من حوله.
ذلك ان تاريخ التشكيل الحديث في السودان يدين بالكثير لمؤسسة المعرض. و حين اقول " مؤسسة المعرض" فأنا اعني المعرض في بعده الأداتي كوسيلة إتصال جماهيري ( ماس ميديا) و كماعون أيديولوجي يكيف الممارسة الإبداعية في حدود الغايات و الضرورات المفهومية للطبقة التي تستخدمه. هذا الفهم للمعرض كـ " مغرض" يفتح الباب للتأمل في المعاني الجمالية للنشاط المعرضي و تداخلها مع معانيه السياسية على مسرح الصراع الإجتماعي في السودان.
في هذا الأفق يلزمنا تأمل نقدي في ما يمكن ان نطلق عليه" أدب المعرض" في السودان.و هو أدب غني بالتفاكير المثيرة المستجدة اللصيقة بواقع الحركة الثقافية الحديثة في السودان.و لدراسة تاريخ أدب المعرض، في معنى جملة الناتج النصوصي و الشفاهي الذي يعالج موضوعات و طرائق العرض، و في معنى جملة المواقف و المعالجات العملية التي ساهمت في إكساب تقليد المعرض في السودان ملامحه الراهنة، يلزمنا جهد توثيقي واسع يبذل " أدب المعرض" ( إقرأ: ثقافة المعرض) و يحلل معانيه المتداخلة لجمهور الباحثين و المهتمين في السودان و في غير السودان. ذلك ان هذا الأدب المعارضي السوداني يملك ، في مشهد الأدب المقارن ،ان يكشف عن ثقل نوعي نافع في رفع كفاءة هذه الوسيلة الجمالية الفريدة المقيمة في قلب الغاية الإبداعية للفنان التشكيلي.


هذا النص هو جزء من سلسلة مقالات نشر بعضها في مجلة " آفاق جديدة" التي كانت تصدر في لندن في مطلع التسعينات. وسأحاول إثبات النصوص التي نشرت (و التي لم تنشر) على التوالي ضمن هذا الخيط و اتوقع من المتابعين إثراء مبحث المعرض بتفاكيرهم و معلوماتهم و وثائقهم حتى نتمكن جميعا من الوقوف على بينة من أمر هذه الظاهرة الثقافية الحديثة التي استقرت بشكل نهائي بين ادوات العمل العام بحيث لم يعد قادة الرأي السياسي يتجاسرون على تجاهل مردودها السياسي.و إذا كان حرص بعض الرموز السياسية من وزن ياسر عرمان و محمد إبراهيم نقد و وزير ثقافة النظام ( أمين عمر) على حضور إفتتاح معرض" الملتقى "الأخير (يونيو 08) الذي نظمه ( بالعون الذاتي تقريبا) شباب التشكيليين المغتربين و المقيمين في الخرطوم، إذا كان حضور الأعلام السياسيين يدعم فكرة المعرض كوسيلة سياسية جديدة و فريدة ،فإن معرض الفنان محمد حمزة و عواقب حادثة الإعتداء على أعماله و ما كان من الموقف الذي وقفته قيادة حزب الأمة لصالح حرية التعبير إلخ.. كل ذلك يعتبر علامة فارقة في تاريخ مؤسسة المعرض الفني في السودان.فمن أي سياق ثقافي جاء المعرض؟

..........................

المَعْرَض و"المَغْـرَض"
[size=12](ملاحظات في فن المدينة السودانية)

الحلقة (1)
..............................................

المعرض : وسيلة تداول أم نوع فني مستقل ؟

العلاقة الحميمة بين فعل (الخلق) وفعل (العرض) تكاد تجعل من الثاني نتيجة منطقية للأول حتى ليصعب على الناس تصور فعل خلق مستقل عن فعل العرض ، بل وفي بعض الحالات تنطمس الحدود بين الخلق والعرض لصالح فعل العرض الذي يتحول من مجرد وسيلة توصيل لنتيجة الخلق إلى نوع فني قائم بذاته.
هذا التشابك بين أمر الخلق وأمر العرض يسوّغ التساؤل حول غائية العرض بالنسبة للخلق، بالذات في مجالات الخلق التشكيلي المعاصر ، حيث يبدو العرض فعلاً انتدائياً غرضه توصيل صدد الخلق التشكيلي لجمهور "الشهود"، واستقبال ردود أفعالهم وربما التداول معهم في مادة "شكل" ومادة "نظر" ورغم أن أمر الخلق يبدو على غاية من التركيب ـ وقيل: الاشتباه. بما يمتنع على التبرير المباشر بأسباب العرض وعواقبه، إلا أن أمر العرض ينطرح شرطاً ضرورياً لتحقق المشروع الخلاق بكامل طاقته ضمن سياق التواصل والتداول الاجتماعي . ومن نافلة القول أن الفحص المتأني لدور"الجمهور/الشهود" في حيز العرض سيتيح لنا تفهماً أعمق لمسلك المشكِـّل/العارض في مقام الخلق.
ترمي هذه الدراسة إذن إلى تفحص العلاقة بين أمر الخلق وأمر العرض وما بينهما من اشتباهات على ضوء نصف قرن من تجربة المعرض التشكيلي في السودان. وعلى الرغم من انزراعه المتأخر زمانياً (منتصف الثلاثينيات). وعلى الرغم من محدودية فاعليته مكانياً (الخرطوم وبعض الحواضر) فإن المعرض ينطرح اليوم كمؤسسة ثقافية متميزة ذات استقرار وذات جذور ضمن حركة الفن المعاصر في السودان. وهو لا ينفك يطوّر من وسائله ويخلّق من غاياته وفق قوانينه الخاصة بما يجعله يتجاوز مجرد غرض التداول الإعلامي إلى نوع قائم بذاته موضوعه فعل الاتصال نفسه.
إن المعرض – على إطلاق موضوعاته وتوجهاته ونوعياته ـ يتلخص، قبل وبعد كل شيء ، كحدث اجتماعي وكموضوع للتداول وكحيز للتبادل الفكري بين العارض والجمهور وهو تبادل يستهدف – فيما وراء المادة المعروضة – سواء كانت لوحة أو منحوتة ، اتخاذ موقف من مجموعة الملابسات الاجتماعية التاريخية التي تلف حدث العرض. (المكان والزمان والمراجع الاجتماعية ، السياسية ، الاقتصادية ..الخ).
ومن تفحصنا لظاهرة المعرض لدى التشكيليين المعاصرين في السودان لاحظنا تجاور تيارين متميزين في العرض. فتارة تبدو مادة العرض (كاللوحة أو المنحوتة) محرد ذريعة لإقامة "شعائر" العرض الاصطلاحية (وفق المرجع الأوروبي) وطوراً يتحول المعرض نفسه ذاتاً وموضوعاً لفعل الخلق التشكيلي المعاصر.
وإذا كانت مؤسسة "المعرض" متأخرة في التقليد التشكيلي في السودان فإن فكرة العرض والسلوك "المعرضي"– لو جاز لي التخريج – قديمان قدم التقليد التشكيلي نفسه. وذلك على بداهة كون الأثر الفني إنما هو تجربة مبذولة لعناية الجماعة ، تبلغها بوسيلة العرض التي تنتجها ظروف الواقع الثقافي ، وإمكاناته المادية.
وفي التقليد المحلي للتشكيليين الأسلاف يتجسد فعل العرض من خلال أكثر من شكل. ويحضرنا مثال "الشرافة" التي ينجزها "فنانها" و"يتشرف" بعرضها للجمهور كـ"تشريف" للكلام المقدس. فتلاميذ الخلوة عند إنجازهم جزءاً من القرآن ينسخون منه على لوحهم ويزينونه بـ "الشرافة" ثم يحملون اللوح ويطوّفون به السوق والدور يعرضونه لـ "الجمهور" الذي ينفحهم الهدايا والعطيّات تشجيعا و مباركة. و ذلك المسلك المعرضي أصيل ومبرّر في تجربة الخلق، وهو يجد تعبيره في أكثر من شكل لدى الفنانين الأسلاف الذين لم يعرفوا شكل المعرض الحديث.
وهكذا قد يجوز القول بأن الفرق بين الفنان "التقليدي" والفنان "الحديث" هو أن الأول لا يحفل كثيرا بشعائرية المعرض بينما الأخير لا يستطيع ، عملياً ، أن يعرض أثره بدون طقس "الافتتاح" المتعارف عليه ، ممّا يثبـّت المعرض في التقليد التشكيلي الحديث كمؤسسة لا غنى عنها للأثر التشكيلي ، مؤسسة فنية وإعلامية واقتصادية و ـ بالضرورة ـ سياسية.
وحتى عندما يتيسر توصيل الأثر التشكيلي بغير وسيلة المعرض (عبر تقنيات الطباعة والاستنساخ على الورق والقماش أو الفيلم أو الفيديو ..الخ) ، فإن المعرض ينفرض بماله من حظوة ، لدى أنصار فكرة (العمل الأصلي «اوريجنال Original”) فيما يعبر الفرنسيون أو (الشيء الحقيقي The real thing فيما يعبر الأمريكيون) ، وهي فكرة تجاوزها الزمن بفضل كفاءة تقنيات الاستنساخ المعاصرة ، وبفضل سعة أفق جمهور التشكيل المعاصر. وهو جمهور واسع متنوع ومستنير، رصيده من الثقافة التشكيلية تكوّن على الاستبصار في مستنسخات آثار تاريخ الفن المشتتة في متاحف العالم المتباعدة . جمهور يعرف أن الإحاطة بأعمال فنان مثل "بيكاسو" مثلاً، تقتضي سفراً طويلاً من باريس لبرشلونة لكوبنهاجن لنيويورك للندن لفرانكفورت لليابان لموسكو .. الخ! وذلك سفر طويل مستحيل ، استحالته تسوَّغ إعادة تأهيل "المُسْتَنسَخَة" الفنية وتزيد من تهميش موضوعة "الأثر الأصلي" كلما أحرزت تقنيات الاستنساخ خطوة اقتراباً من "الأصل".
بلا شك فإن هواة الأثر"الأصلي"، ليسوا كلهم في براءة "الفيتيشيين" (Fetkhistes) من عبدة التمائم البدائيين ، إذ أن موضوعة الأثر الفني "الأصلي" الوحيد و" المتفرّد"، بما تطرحه من قيمة الندرة السلعية ، ليست بعيدة كل البعد من منطق العرض والطلب الذي يحكم سوق الفن المعاصر ويوثـّن الأثر الفني موضوع التسويق مثلما يوثـّن السلع على إطلاقها. وهكذا تُستخدم موضوعة "العمل الأصلي" في تبرير حظوة المعرض مثلما يستخدم المعرض لتدعيم خرافة "العمل الأصلي".
أكثر من نصف قرن انقضى على افتتاح أول المعارض التشكيلية في أولى مدارس السودان الإنجليزي المصري التي كانوا ينفون إليها المغضوب عليهم من مثقفي وشعراء وأدباء وزارة التربية والتعليم المصرية.و ثمة ثلـّة من أدباء و شعراء النهضة في مصر، ممن خبروا العمل في التدريس بمدارس السودان ،منذ عشرينات القرن العشرين،في الغالب، ضمن إجراء إداري تأديبي فحواه الإبعاد جنوبا في المتفى السوداني.و لعل رفاعة رافع الطهطاوي هو في طليعة المنفيين إداريا للسودان في " مدرسة الخرطوم" الأولى التي تولى إدارتها و التي أغلقت عام 1854 ، بعد أربعة أعوام من إفتتاحها.و الطهطاوي يحدث عن تجربته في حنق واضح على شرطه الوظيفي ضمن ملابسات تغير السلطة في مصر، بذهاب " عباس باشا" و تولي الحاكم الجديد " سعيد باشا" الذي أغلق مدرسة الخرطوم، حسب عبارة الطهطاوي" لعدم ظهور أدنى ثمرة فيها".." و لأن معظم تلاميذها قد هربوا بمعرفة أهاليهم بالجبال المستبعدة".."و فضلا عن ذلك أنهم ناس غلايظ العقول".
(أنظر :احمد عزت عبد الكريم – تاريخ التعليم في مصر، دار المعارف ، القاهرة ، بلا تاريخ – ص 118.)

واليوم يبدو المعرض كوسيلة التداول الأكثر حظوة ضمن مشهد الحركة التشكيلية الحديثة في السودان إذ يطفح ويخرج من العاصمة ليسري في عواصم الأقاليم ، بل وفي بعض قراها ، وذلك يحدث غالبا إما بمبادرات رسمية ترعاها الدولة كما في حالة " معارض الثورة" أيام الحكم العسكري الأول (1958 - 1964)، والتي نظمت المعارض الدعائية في معظم مدن الأقاليم لعرض عمل مؤسسسات دولة "الثورة البيضاء" .أو بمبادرات حرة متحمسة من طلبة المدارس الثانوية في أعيادها السنوية ،وطلبة كلية الفنون لدى عودتهم في العطلات بالإضافة لظاهرة القوافل الثقافية للطلاب الديموقراطيين التي عرفها سودان الستينيات والسبعينيات كـ "طلائع أبادماك" بالخرطوم و"طلائع الهدهد" بحنتوب و"طلائع القندول" بالقضارف و"طلائع النخيل بمروي" وأنشطة "اتحاد الشباب السوداني" .
كل هذا ساعد في توسيع دائرة فعل وسيلة المعرض في حواضر الأقاليم وقراها من خلال الجهود المتنوعة المصادر. و في هذا المنظور تطور المعرض مدعوماً بجملة من الاتفاقات الإيجابية المضمرة تجاه وسائل الثقافة الحديثة ومتحققاً كـ "بدعة" حضرية بريئة وكحدث (هابننغ Happening) مطبوع ـ في الوقت نفسه !ـ ببحث حماسي عن الحرية ! حرية الاختيار وحرية الخلق ، وبشكل يضعضع الحدود الاصطلاحية بين الوسيلة والغاية ، بين التقليد الوافد والتقليد المحلي ، بين الاتباع والابتداع ضمن حركة الثقافة المدينية في السودان.

المدرسة أو تعليمية السلطة
منذ بداياته الأولى ارتهن معرض التشكيل في السودان بظاهرة الثقافة (الحديثة) في مرجعها الأوروبي افتتحت والمعارض الأولى التي ارتادها سودانيون في أولى مدارس الحكم الثنائي الإنجليزي المصري. و مدارس الدولة النظامية لم تبدأ مع العهد الثنائي وإنما مع الحكم التركي المصري. فقد أنشئت أول مدرسة تركية بالخرطوم (مدرسة الخرطوم) في مايو 1850 (طبق الأصول الجارية في المدارس المصرية آنذاك) – فيما أورد احمد عزت عبد الكريم (تاريخ التعليم في مصر) .
وقد تبعت مدرسة الخرطوم مدارس مشابهة في المدن الكبرى (بربر ودنقلا والأبيض وكسلا) في عام 1863 وذلك ضمن سياسة التوسع في التعليم التي استهدفت تكوين نواة من عمال مهرة وموظفين سودانيين أقل تكلفة من رصفائهم المصريين والشوام والأوروبيين (أنظر محمد عمر بشير “تطور التعليم في السودان ) . ولنفس الدوافع شجع الأتراك الإرساليات المسيحية على فتح المدارس ونشر التعليم في البلاد وقد أنشئت أول مدرسة تبشيرية في الخرطوم على يد بعثة كاثوليكية يسوعية عام 1846 .
وقد كانت مدرسة الخرطوم تتبع النموذج المصري بحيث أنها اشتهرت بالمهندسخانة ، كناية عن مدرسة مصرية مشهورة بهذا الاسم في القاهرة ويورد أ. ع. عبد الكريم بين المواد التي كانت تدرس في مدرسة الخرطوم أنواع الفنون الزخرفية والحرفية كما كن يدرس بها الخط العربي بأساليبه ،و كانت بها حصص للرسم أيضاً.
وفي هذا الأفق يمكن الحديث عن “معرض/المدرسة” فيما قبل مدارس العهد الثنائي. إلا أن واقع المدرسة كمؤسسة ثقافية ضمن العهد التركي لا يسوغ هذا الاحتمال فقد كانت السياسة التعليمية التركية في السودان متعثرة مما يستشف من تتابع التجارب الفاشلة لزرع المدرسة النظامية في الواقع السوداني.
وهو تعثر واحدة من علاماته أن الدولة التركية تكاد تعهد بإنشاء المؤسسات التعليمية إلى البعثات التبشيرية المسيحية العاملة في السودان ولا تواصل جهد دعم المدارس التي أنشئتها فيما تطرح تجربة أول مدرسة (مدرسة الخرطوم) التي أغلقت بعد أربعة أعوام من افتتاحها.
وربما كانت الدولة التركية ترى المدرسة عبئاً مالياً وإدارياً أكثر منها وسيلة هيمنة سياسية ، وهو موقف يبدو أكثر انسجاماً مع طبيعة الإدارة التركية في السودان التي كانت إدارة جباة ضرائب أكثر منها إدارة هيمنة ثقافية واجتماعية.
ترى هل هذا هو السبب الذي مكن الدولة المهدية من تصفية كافة المؤسسات الثقافية للعهد التركي في زمان قياسي نسبياً ؟! وعلى كل حال ،إن كانت مدارس خرطوم العهد التركي قد عرفت تدريس الفنون بأنواعها لتلاميذها فإن الوثائق التاريخية النادرة لم تذكر حضوراً فنياً لتلك المدارس ، وعليه فمن الصعب الحديث عن وسيلة المعرض كوسيط تداول ثقافي يعني الجمهور السوداني في ذلك العهد
..
في المعارض المدرسية لمدارس عهد الحكم الثنائي كانت موضوعات المعرض عبارة عن الأعمال التي أنجزها التلاميذ والمعلمون خلال العام الدراسي ، ومناسبات العرض كانت تتحدد وفق تقويم الاحتفالية الرسمية مثل عيد ميلاد ملكة بريطانيا العظمى وعيد تتويج الملك ويوم الآباء .. الخ. وكانت صالات العرض هي نفس صالات الدرس ، وكانت الأعمال التشكيلية تعرض ضمن مجموعة الأعمال المدرسية الأخرى ، كخرط الجغرافيا والتاريخ ورسومات العلوم الطبيعية ..الخ . وفي حقيقة الأمر كانت غاية هذه المعارض هي عرض المدرسة نفسها كمؤسسة ثقافية رسمية حديث مرتهنة بالدولة الحديثة في سودان مطلع القرن. سودان إعادة "الفتح" ! في هذا السودان الذي لم ينسى بعد تجربة العنف الاستعماري الثنائي كان على سلطة الحكم الثنائي "إقناع" السودانيين بتبني مؤسساتها الثقافية الجديدة وذلك بإرسال أبنائهم لمدرسة الحكومة.
وفي هذا السياق انطرح شكل "المعرض المدرسي" ضمن جهود ( بروباغاندا) المؤسسة التعليمية لإقناع السودانيين بجدواها. و قد كانت المدارس الحديثة ، رأس الرمح في توغل مؤسسة الثقافة الحديثة، ثقافة رأس المال الكولونيالي ، لقد لقيت في البداية مقاومة كبيرة نوعاً من قبل السودانيين . فقد "كان النوع الجديد للمدرسة أمراً أجنبياً مفروضاً على المواطنين بواسطة حاكم أجنبي ، ومن ثم نظر إليه بعين الريبة والحذر ، فقد خشى المواطنون أن تحل المدرسة محل الخلوة وهي رمز التعليم الديني وخشى الفقهاء (الفكيان) والأسر الدينية من أن تؤثر على مركزهم الاجتماعي بل وعلى مصادر دخلهم، وخشى الآباء من أن يترتب على إلحاق الأبناء بالمدارس حرمانهم من مساعدتهم في أعمال الزراعة والتجارة وأبعاد الإشراف على سلوكهم وتصرفاتهم (في المدينة) وكأنت المدينة ترتبط في أذهان سكان القرى بالفساد . وخشى الآباء أيضاً من أن يكون التعليم سبباً في تقييد أولادهم بكشوفات الجيش أو قوات البوليس ".." أو أن يكون الغرض من المدارس نشر التعليم المسيحي ".." وقد ظلت هذه المخاوف كامنة في صدور أبناء الريف ردحاً طويلاً من الزمن. ففي سة 1918 اعترض أبناء أحد البيوت الدينية الكبرى ، كما اعترض “فكي” الخلوة على إنشاء مدرسة أولية بـ "مقرات" بالقرب من "أبي حمد" وأطلق أهالي "مقرات" على المدرسة الجديدة التي شيدت بالقرب منها في سنقراب "كنيسة سنقراب" انظر محمد عمر بشير (تطور التعليم في السودان) .. . ومن حينها تخلـّقت القرابة التاريخية بين الدولة والمدرسة من جهة والمعرض من جهة أخرى. وهو تخلق ما يزال يقي بظلاله على واقع المعرض ضمن المشهد الثقافي المعاصر في السودان. إذ ثمة وزن رسمي لـ "السلطة التعليمية" – ولو شئت قلت : "تعليمية السلطة" ــ يثقل على وسيلة المعرض أياً كان توجهه.
وبطبيعته فالمعرض يبدو رهيناً بالحيز المغلق لا على صعيد الزمان والمكان فحسب وإنما على صعيد المجال الاجتماعي، و يتضافر المعمار المادي للمكان مع معماره الثقافي على تأكيد طبيعة الحيز المغلق على صفوة من رواده. و هي صفوة تصون للمعرض أدبه و شفرته الطبقية و مراميه السياسية . فما كل من هب ودب يتلقى بطاقة الدعوة لحفل الافتتاح وإن أكرموك بإرسال بطاقة دعوة للافتتاح فعجّل لئلا يفوتك الافتتاح أو تصل بعد ساعة الدوام ! ولو دخلت فهي ليست (وكالة من غير بواب) وليس لك أن تسرح في الصالحة كما يحلو لك ، فثمة صراط غير مستقيم مرسوم مٌرَمَّز ومٌسَهّم مسبقاً حسب المعنى الذي تخيله العارض لموضوعات العرض.
وهكذا ما أن تطأ قدمك حلبة العرض ، فكأنك على بساط آلي يطوف بك أنحاء المكان تقفو التسهيم المضمر أو يتعقبك الترجمان العارض. برطانة متثاقفة ولو خالفته – وإياك أن تفعل ! – فهو يحيلك حيث "الأرأيتيين" الذين لا طائل من مجادلتهم ! ثم لا تحملق في المعروضات كأنك تشمّها ! فما هكذا تورد الإبل وحاذر أن تلمس ، وركز الخاطر ولا تشتت الفكر في الثرثرة مع الصحاب والمعارف ، وإن جاهدوك على أن تدلي بما ليس لك فيه ناقة فلا تطعهم وصاحبهم في الدنيا معروف (ومنتهي)! وأمعن النظر في النص المصاحب الذي غالباً ما يكون العارض قد أودعه خلاصة تفسيراته في صدر المعروضات وذيّله بأسعارها ! [وهو الشيء الجوهري !] ، فإن لم تكن بك حاجة لشراء بعض المعروض فأحشم أن تستنكر غلاءه فذلك مما "لا يقدر بثمن" .
وأخيراً – وليس آخراً – حين تكون قد أتيت على المعروض كله ، فلا تغادر هكذا (بصّمة خشمك) وكُحْ ! فذلك أضعف الإيمان ، أكتب شيئاً على دفتر المجاملات النقدية المقعي عند المخرج فقد وضعوه على الطاولة (الوحيدة غالباً) بطريقة يتعذر معها تجاهله. اكتب – يرحمك الله – و ابذل أدبا يقرّظ المعروضات وحدث عن صدرك المثلج أو عن انذهالك وربما عن سٌكِرك خلال اللحظات الخارجة على الزمان التي أتاحها لك العارض المبدع بمشاهدة آثارها المبدعة. وفي هذا المقام فهناك جملة من العبارات النافعة التي لا تقدم أو تؤخر من نوع "موسيقية التكوين" و"شاعرية اللون" أو "شفافية التأثير" و"مذاق المساحة" الخ . وإن أعجزك التعبير فأكتب : "أعجزني التعبير !". وإن لم يفتح عليك الله حتى بعجز التعبير فدونك قائمة بتلك الكلمات السحرية المفعول والتي تخارجك (بجرة قلم) من "رائع !" أو "عظيم !" "بديع !" أو "الله الله !"( مشفوعة بعلامة التعجب الأزلية) . ولا تنس أن تمهر القطعة بتوقيعك الكريم وأكتب عنوانك بطريقة مقروءة ، اللهم إلا إذا كانت قطعتك الأدبية من نوع "النقد الهدام" "الحاقد" ! ففي هذه الحالة يمكن أن تخربش اسمك بطريقة يستحيل معها فك خطه ، ولو نسيته صراحة فذلك أحقن للدماء !
أستاذنا الجليل ، محمد المهدي المجذوب ، الذي كان أكثر الشعراء انتباهاً للتشكيل، طالما أعلن حسرته كونه لم يصبح تشكيلياًَ [ترى ما منعه من تعاطي التشكيل مع الشعر في آن ؟!] ، حكى المجذوب للشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى ، ذات مرة ، بعض ذكريات هاو التشكيل اليافع الذي كأنه في خرطوم الثلاثينيات وهي شهادة قيمة عن بدايات تقليد التشكيل المعاصر في السودان.
".. وانتقلت إلى الخرطوم صغيراً .. وكانت الخرطوم شيئاً جديداً جذاباً شديد القسوة ".." ولقد شهدت في كلية غردون التذكارية لوحات فنية على جدران الفصول وأذكر جيداً لوحة “الموناليزا” ، وأنشأ “المستر لين” أول جميعة للفنون اشترك فيها “مبارك زروق” ".." وكان يرسم وجوهاً حساناً بالقلم الرصاص".
والخير هاشم ".." كان يرسم بالأقلام الملونة والألوان المائية ، وكنت مثلهم ، لكنهم كانوا يميلون إلى رسم الزرع وكنت أميل إلى رسم المباني ، كالكنيسة الرومانية الكاثوليكية على شاطئ النيل ومآذن مسجد الخديوي عباس (مسجد الخرطوم الكبير الآن) وارسم الوجوه .. ".." واقام “المستر لين” معرضاً لأعمال جمعيته في الكلية ".." أحسب أن هذا كان في 1936 أو بعدها بعام. ".." أما الذي أذكره حقاً فهو أهمية عمل الرجل. ولعل معرضه كان أول معرض أقيم في السودان. وقد استمر الأخوان احمد علي حمد وعبد الرازق في الرسم حتى بلغوا فيه الغاية .. وازدهر الرسم التشكيلي بعد ذلك .."(حوار مع المجذوب أجراه عبد الرحيم أبوذكرى، مجلة الثقافة السودانية، رقم 1، الخرطوم 1976).
.....
الصورة المرفقة
1. معرض نحت ، أعمال احمد طه الباشا وصديق شميلة بقصر الشباب/الخرطوم 1978 [الصورة : احمد طه الباشا] .

2 ـ معرض الخزاف نصيف اسحق في المركز الثقافي الأمريكي، الخرطوم 1960. (الصورة من إرشيف وزارة الثقافة و الإعلام).

حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

.

صورة

.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

.

صورة

.
مازن مصطفى
مشاركات: 1045
اشترك في: الأربعاء أغسطس 31, 2005 6:17 pm
مكان: القاهرة
اتصال:

مشاركة بواسطة مازن مصطفى »

..
آخر تعديل بواسطة مازن مصطفى في الأحد يناير 06, 2013 1:52 pm، تم التعديل مرة واحدة.
iam only responsible for what i say, not for what you understood.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

المعرض و المغرض2

مشاركة بواسطة حسن موسى »

المعرض و المغرض 2
.....

سلام يا مازن و شكرا على " التعبير".

..........

" العليعثمانية"
مساهمة رائدة في أنسنة المدينة
..................


هكذا كان الناس:

ضمن انتباهه المثابر لتحقق أشكال الظاهرة التشكيلية الحديثة في المدينة، فإن شاهدنا الشاعر محمد المهدي المجذوب يدخل على ظاهرة المعرض من أوسع مداخلها، من مبدأ جامع مانع فحواه أن: كل مبذول للنظر معرض.و تجربته مع الفنان الرائد علي عثمان تنطوي على اكثر من دلالة، سواء على صعيد مفهوم المعرض من حيث هو، كوسيلة لتعليم البصر و البصيرة،و إن لم تلتزم بالشكل الشعائري الإصطلاحي للمعرض، أو من حيث مفهوم الأثر التشكيلي نفسه ككائن متحوّل وافد من رحم الغيب ليتخذ من أداة المعرض ذريعة لتجسيد الفكرة الجمالية و بذلها لجمهور المتلقين داخل فضاء المعرض.
يقول المجذوب:
"أذكر معرضا لرسم واحد شهدت صاحبه يبدؤه و يتمّه و أنا واقف وراءه على مسافة لا يشعر معها ان أحدا يراقبه.كان اسمه علي عثمان".." كان مشهورا في ذلك الزمان البعيد. شهدته في الميدان الأخضر أمام الحقانية ، دار القضاء الآن، يلبس جلابية دبلان لها ياقة كجلاليب الختمية و يلبس عمامة مطمئنة لا حذلقة فيها، أميل إلى البدانة ، مجتمع الجسم " .." نصب خشبة مربعة لها قوائم، فرش عليها ورقة بيضاء ثقيلة ثبتها بدبابيس صفر، يرسم بالقلم الرصاص.كان يرسم إمرأة وجهها إليه، كبيرة العيون، مشلّخة،مشاطة جديدة، تتكئ على مخدّة، تلتحف فركة، خصرها نحيل و ردفها ثقيل و مدّت ساقيها الممتلئتين عليّ..
".." و أدهشتني قدرة الرجل في ذلك الزمن البعيد البعيد".." حين سألت عنه قيل أنه يشتغل في السكة الحديد، عليه رحمة الله فقد جوّد عمله و لم ينتظر جزاء. هكذا كان الناس" .." أتذكر أنني بدأت أقلده بحماسة و قد رسمت صورا كثيرة من هذا القبيل، لكنني لم أشلّخ الوجوه الحسان فيما صوّرت.. و خففت من الوزن و لم أوفق في المشاط. و قد اهديت كثيرا من هذه الصور إلى بعض الأصحاب من أولاد البلد فعلقوها في بيوتهم".( حوار مع المجذوب.عبد الرحيم أبوذكرى، في مجلة الثقافة السودانية، رقم 1، 1976).

المقهى أو حاجة " البسط و الزحلقة":
الرسم" على طريقة علي عثمان" لم يكن يقتصر على المجذوب وحده، فثمة جيل بأكمله من " عصاميي" الثلاثينات و الأربعينات ممن خضعوا لتأثير علي عثمان ، فيما شهد التشكيلي " العصامي؟" أحمد سالم، في واحدة من لقاءاتنا معه في داره ببحري( يونيو 1978) ، بأن " علي عثمان هو اللي علمنا كيف نحضـّر اللوحة و الألوان و كيف نرسم و شنو النرسمه". و لا عجب فقد كان هذا الـ "علي عثمان" في طليعة من عُرفوا ، فيما بعد، بـ " رسامي المقاهي"، مثل " العريفي"(الأب) و " عيون كديس" و "جحا" و غيرهم.ثلة من تشكيليي الحواضر العصاميين المتعددي المواهب، بغير تقعـّر نظري، حتى ان نقادهم وصفوهم ، إفتراءا، بـ "البدائية التشكيلية" و هم منها برّاء.و كان جمهور بين جيل تشكيليي " مدرسة التصميم" يصنفهم في خانة " الأسطوات الحرفيين" تعاليا، و في ذلك مجانبة للدقة و جور في حق هؤلاء الرجال الأماجد الذين اخترعوا فن الرسم على مقاس حاجة أهل الحواضر.و هم في نهاية تحليل ما، يقفون، في منظور تاريخ حركة الرسم الحديث في السودان، كرهط من المشتغلين بصناعة الرسام و يختلط فيهم المبدع بالحرفي، بنفس القدر الذي يشتبه به المبدعون بالصنايعية داخل "قبيلة" أهل الإمتياز الطبقي من حملة دبلوم كليات الفنون. بيد ان الفنانين العصاميين ، ضمن تصديهم العفوي للممارسة التشكيلية، لم يكن يهجسهم الفرز النظري بين ما هو أدخل في " الإبداع" و ما هو أدخل في " الحرفوية"، كمثل ذلك الشقاق الذي شغل جيل اولادهم و بناتهم من تشكيليي السبعينات.و في هذا الصدد يمكن مراجعة المناقشة التي دارت في جريدة الأيام و في مجلة الثقافة السودانية( 1976 و 1977) بين عبد الله بولا ( مصرع الإنسان الممتاز) و حسن موسى ( رجل الشارع العادي ليس عاديا) و حامد الباشا و حمد حسين الفكي و إبراهيم العوام ( الفرق بين الفنان التشكيلي و صانع المراكيب) و نائلة الطيب و محمد شداد في الصراع الكريستالي " بين الحرفية و الرؤيا".
لم يكن التشكيليون العصاميون يهتمون بشقاقات تاريخ الفن التي ابتدرت في أوروبا ( مثل شقاق الرسم التمثيلي و غير التمثيلي ( التجريدي)
Figurative & Non Figurative

فقد تصدوا لمشكلات" الحرفية" بـ " رؤيا" مبدعة تنطلق من احتياجات الواقع الثقافي مثلما تصدوا لمشكلات" الرؤيا" الإبداعية بحيلة حرفية قوامها إمكانات الواقع التقني الذي خبروه. و في آثارهم بتجاور الإيضاحي مع التجريدي و يتصالحان و هم يراوحون بين هذا و ذاك في عفوية و براءة يحسدهم عليها جيل أولادهم و أحفادهم ممن أودى بهم شرط الإلحاق الثقافي عند مفترق دروب حركة الخلق المعاصرة.فوقع نفر منهم في عبادة الحرفية بغير " رؤيا" أو ادركهم عصاب " الرؤيا" الجاهلة بالحرفية. و عن ضحايا خرب الإيضاح و التجريد الأوروبية فحدّث و لا حرج.
إن الرواد العصاميين من التشكيليين السودانيين ما زالوا ينتظرون البحّاث من ذوي العزم و الخيال، ممن هم قمينون بإضاءة الدور الجبار الذي لعبه هؤلاء المبدعون في تاريخ الثقافة الحديثة في السودان.
لقد أطلق عليهم بعض دارسيهم إسم " رسامي المقاهي" أو " حركة رسومات المقاهي" بسبب ان المقهى ،كمكان مديني، كان يتمتع عندهم بحظوة محفلية و فائدة معارضية أكيدة المردود.فعلى حيطان المقاهي رسموا أو علّقوا آثارهم في نوع من معرض دائم لرواد مثابرين أين منهم وجهاء صالات المعارض العاصمية المعاصرة ممن تراهم يوم الإفتتاح يعرضون ذواتهم (و لو سخت الخواطر فهم قد يتكرمون بإلقاء نظرة مجاملة مستعجلة على المعروضات) قبل ان ينطلقوا وراء أحداث إجتماعية أخرى أكثر تشويقا.
في ذلك الزمن البعيد ـ على حد عبارة المجذوب ـ كانت العاصمة هي حاضرة ثلاثينات السودان الأولى. و كان مركز الحركة في الحاضرة سوقها، و كان قلب السوق ينبض بالحياة في مقهاه الرئيسي، مساحة محايدة و استراحة و محطة حرة مفتوحة تلتقي فيها ( و تفترق) طرق العاشين و الماشين من أهل البلاد.
ويفسّر المجذوب إنتشار الرسم على اسلوب علي عثمان في ذلك الزمان، حتى ان اللوحات العليعثمانية " ملأت جدران المقاهي" ( مجلة الثقافة 76)، بأن علي عثمان إنما كان يطرح للناس صورة بصرية للأنثى تعادل صورتها الأدبية التي فبركتها الأغنية المدينية ضمن النوع الغنائي الذي عرفه السودانيون بـ " حقيبة الفن": نساء ممنوعات بعيدات المنال و بعض من " حور الجنة داخل الحيشان" إلخ.
" .. كان الناس يقبلون على شعر الحقيبة المحروم العاشق المشتهي المهذب ـ اما ان يروه مرسوما فقد كان هذا ثورة. فأنت تسمع الصفة في فنوغراف القهوة ثم تراها مجسدة في صورة معلقة على الجدران.. هذه كانت ثورة" ( المجذوب. نفسه). ثورة في المقهى، و لو شئت قلت : "ثورة في الثورة "..ذلك ان المقهى نفسه كان ثورة على صعيد أدب المكان السوداني. فأباء رواد مقاهي الثلاثينات ، ممن عاشوا زمان المهدية، كانوا قد استعاضوا عن المقهى بالخلوة أو بالمسجد ، و لم يعرفوا تمضية الوقت في الثرثرة المدينية "الفارغة"، و ما اجتمعوا للعب الورق أو " الضـُمـَنـَة" و ما استهوتهم قعدات شرب الشاي و القهوة في المحافل المكشوفة و ما شنـّفت آذانهم تصاويت تخرج من المذياع و الفنوغراف.و لعلهم كانوا يشيحون بوجوههم بعيدا حين يمرون امام المقهى فلا يقع بصرهم على الفتنة المقيمة فوق الجدران و لا يقعون في محظور" البسط و الزحلقة" حسب تعبير عاصميي مطلع القرن العشرين لتعريف ما صار يعرف لاحقا بـ " الفعاليات الثقافية" ، و لو شئت قل: " الحاجة الثقافية"، ذلك ان النتاج الثقافي الفكري ظل دوما حاجة لا تستغني عنها أي مجموعة.و أبلغ الدلالات في هذا المقام تعبر عنها العريضة المرفوعة للحاكم العام من طرف جمهور من العاصميين الذين ناشدوا عطوفته بدعم بعض أمكنة "البسط" و "الزحلقة" حسب تعبير محرر جريدة " السودان" ( 30 ديسمبر 1912) :
".. يشق علينا أن حضرة الهمام الخواجة كوستي لويزو، قفل المحل البديع الذي أنشأه في هذه العاصمة لتسلية سكانها بمشاهدة التمثيل تارة و الزحلقة أخرى و سماع الألحان الموسيقية، إلى غير ذلك من أسباب البسط و التسلية التي لا يجد سكان هذه المدينة غنى عنها. و قد بلغنا أن السكان شعروا بشدة حاجتهم إلى دوام هذا المحل، فكتبوا عريضة إلى عطوفتلـّو الحاكم العام يرجون فيها من عطوفته أن يوجه عنايته إلى هذا الأمر و يشد أزر حضرة الخواجة لويزو لكي يتمكن من إعادته و لا يقفله تخلصا من نفقته. و قد وقـّع هذه العريضة جمهور كبير منهم، و لا يزال الباقون سائرين في أثرهم. و نحن نضم صوتنا إلى أصواتهم."
بيد ان جدران المقاهي، بوصفها مساحة للعرض، تأسست بصورة عفوية ضمن السياق المديني الوليد، لم تقتصر على صورة الأنثى " الحقيبوية" فحسب، بل شهدت جدران المقاهي ( و غير المقاهي كانت هناك محلات الفعلة و الحلاقين و أهل التجارة الصغيرة) شهدت موضوعات أخرى متنوعة مثل مشاهد الحياة المدينية نفسها و مناظر الريف الأسطوري المقيم في ذاكرة الحضريين كفردوس مفقود، و بورتريهات الشخوص الأيقونية من شاكلة الزعماء الدينيين و السياسيين و نجوم الرياضة و نجوم الغناء المديني الصاعد فضلا عن لوحات الخط العربي التقليدية المطبوعة( المستجلبة من مصر أو تلك المنفذة محليا) بما تحمله من مأثورات دينية و دنيوية إلخ.
و مع الزمن نما عدد تشكيليي الحواضر و تنوعوا و قد ساعدهم الطلب الشعبي المتزايد على تعريف نوع " أيـْقـَنـَة " تشكيلية على صورة الحيز المديني الوليد.
و حين اقول " أيقنة" فأنا أعني ظاهرة التفاعل الجمعي مع التصاوير كنتاج رمزي ذي تأثير إجتماعي، و أخرّج العبارة من أصل إغريقي بيزنطي على مصطلح الأيقونة.
Icône, Icon ( EIKONA)

و هي تدل على جملة التصاوير. و" الأيقونة" في الأصل لوحة ملونة على مسند خشبي تمثل بعض شخوص المسيحية و مشاهدها الرئيسية( كالسيدة العذراء و الطفل و عيسى على الصليب و غير ذلك من سير المسيح و القديسين). و قد اشتهرت بالأيقونات الكنائس الشرقية في منطقة التأثير البيزنطي و الروسي، ثم اكتسبت عبارة " أيقونة" معنى اصطلاحيا يقوم على فكرة الصورة التي تمثـّل و توضـّح على منطق المشابهة مع واقع الأصل و تضاهي مظهرة.و قد وسّع بعض باحثي علم الدلالات( السيمياءلوجيا؟) من مفهوم " الأيقونة" بما يتجاوز منطقة التصوير الإيضاحي و طرحوا موضوعات أيقونية سمعية( موسيقية) أو أدبية ( روائية) و كوريغرافية (راقصة) إلخ.و قد سكّت اللغات اللاتينية مصطلح " الأيقونوغرافيا"
ICONOGRAPHIE

لتوصيف المباحث المختصة بمجمل نتاج التصاوير التي تخص جماعة ما (او شخصية أو فترة تاريخية بعينها).و في تخريجي لعبارة " الأيقنة" التشكيلية أعني مجمل النتاج التشكيلي للحيز الإجتماعي مما تطرحه الجماعة التاريخية ضمن سعيها لتحويل الواقع من خلال حركتها الثقافيةالمادية و الرمزية .
و" الأيقنة" في هذا الأفق تعنى بالنتاج التشكيلي في معناه العريض الذي يتجاوز المفاهيم و التصنيفات المدرسية لأنواع الممارسة التشكيلية. ففيما وراء اشكال اللوحة و المنحوتة يمتد المفهوم ليشمل كل موضوع للبصر بين معطيات الممارسة الإجتماعية.و أعني حصيلة النتاج التشكيلي المرئي الذي يميز المكان و يكسبه خصوصيته الرمزية.و عليه فـ " أيقنة " المكان الإجتماعي يمكن ان تتحقق من مجرد الحضور الجسدي الإنساني بما يترتب عليه من ممارسات جسدية مرئية، لتشمل نتاج الإنسان على كافة المستويات من عمارة و أدوات و أثاث و ترميز بصرى .
و حين أقول ان التشكيليين العصاميين قد أثروا في تعريف أيقنة تشكيلية جديدة فقولي ينبني على افتراض ان المدينة كحيز إجتماعي مستجد و كتركيب من التواليف و التراكمات المعمارية المادية والرمزية كان ( و ما زال) يحتاج لتعريف شفرة ثقافية من طبيعة المكان الجديد، شفرة بصرية تعرف تضاريس المكان الجغرافية و التاريخية و تسمّيها و تيسّر حركة " السكان"( إقرأ " الشعب" و قيل: "المواطنين") و تسهل من مرورهم بين مكونات المكان المديني الجديد المبذول عاصمة لأقوام السودان.
و من خلال نتاجهم العفوي الحر استطاع التشكيليون العصاميون في ثلاثينات و أربعينات القرن العشرين، استطاعوا وسم المكان المديني بمياسم حداثة أيقونية أصيلة سوّغت القطيعة الضرورية مع التقليد الأيقوني لثقافة المجتمع قبل الرأسمالي و مهدت الأرض الأيقونية لجيل جديد من التشكيليين تهجسه اسئلة دور الفن في عملية التغيير الإجتماعي.ذلك ان القطيعة الثقافية التي كابدها الإنسان المديني في السودان كمشروع حداثي، اقتضت منه ان يستنبت بدائله الثقافية الحديثة في عجلة كبيرة ضمن شروط عسر مادي و رمزي غير مسبوق.و في هذا المشهد فقد ساهم الجهد الإيقوني الجليل للتشكيليين العصاميين في تقعيد المسلمين من أهل الحواضر السودانية على مقعد التقليد التشكيلي الحديث و تأهيلهم لقبول حركة الرسم الحديث كشيء طبيعي رغم التوجس الديني من مخاطر التصاوير في الموروث الثقافي للمجتمع العربسلامي في السودان(" لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب او صورة"[صحيح البخاري]).و في هذا المقام فنحن ندين لهم بالعرفان كونهم أنسنوا المدينة.
سأعود
أضف رد جديد