الشعب في المعرض
كتبت هذا النص للمساهمة في الملف الخاص عن حركة اليسار السوداني الذي اصدرته مجلة " ساوث آتلانتيك كوارترلي" و قد قام بترجمته للإنجليزية الصديق مصطفى آدم.و أنا أثبته في هذا الخيط كونه يتداخل مع موضوع ندوة الميدان حول " الفن و السياسة في السودان" و أرجو أن يتضامن عليه نظر أهل البصائر النقدية فيقومون من عوجاته التي غابت عن بصيرتي و ينوبالثواب الجميع..
South Atlantic Quarterly(SAQ),Vol.109,No.1,Winter 2010, Duke University Press.
What is left of the Left?The View from Sudan.
الشعب في المعرض
مدرسة اسمها المعرض.
تهدف هذه الكتابة لتقصي الملابسات التاريخية التي تأسست ضمنها موضوعة المعرض، معرض الفنون البصرية الحديثة في السودان، كمجال لتحقق جمالية الحداثة في السودان،و ذلك من خلال تقصي الأبعاد السياسية للأدب المعارضي السوداني. ذلك أن معرض التشكيل بمجانيته وبطابعه الـخاص كحدث مشهدي محفلي ضمن الزمان و المكان الحضريين انطرح في الوسط الثقافي كأحد أميز وسائط الإتصال الجماهيري الحديثة.و خصوصية المعرض كوسيط اتصال تتأتي من الطبيعة المركبة لبنيته التي يمتزج فيها بعد الوسيلة المادية بمعاني الغاية الجمالية . و الطبيعة المميزة لوسيلة المعرض، كحيز لإنتاج خطاب فردي خاص يتوجه لجمهور محفلي عام، تكسب فعل العرض صفة العمل العام. و من حيث هو ، كوجه من وجوه العمل العام، فالمعرض يجر المعنيين به لفضاء الفعل السياسي و يثير اهتمام السلطات الرسمية و الأهلية. و من حيث هو، كفعل سياسي، فالمعرض أداة لا تستغني عن التأطير الأدبي المكتوب و المنطوق الذي يسبق فعل العرض و يلازمه و يعقـّب عليه.و غاية التأطير الأدبي لفعل العرض هي توجيه نظر رواد المعرض و فكرهم وجهة الأولوية السياسية لمن ينتج خطاب التأطير. هذا التأطير الأدبي للمعرض في السودان هو موضوع اهتمامنا من زاوية أن أدب المعرض الذي سنتعرض له هنا ينطرح كطرف في التقليد الأدبي العربي السائد يتأثر بتحولاته الإجتماعية و يؤثر فيها.و حين اقول:" التقليد الأدبي العربي السائد" فأنا أحمّل العبارة ميراث حظوة القول داخل مكونات النسخة الإسلامية من الحضارة اليهودية النصرانية." إنما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون"(1)، في البدء كان الكلمة..و كان الكلمة الله.. و الكلمة صار جسدا" (2).
و الغاية الجمالية للمعرض تتجاوز مهمة توصيل التعبير الجمالي للجمهور لمقام مشهدي يصبح فيه فعل العرض نفسه تعبيرا جماليا أدخل في تصانيف المسرح العفوي الذي يتخلق في المنطقة الممتدة بين شكل الطقوس الإجتماعية البدائية و الـ " حدث" المسرحي الحديث (هابينينغ).
لقد تطور تقليد المعرض التشكيلي في السودان ضمن مشهد العمل العام بطريقة جعلت المعرض يبدو وسيلة سياسية بالغة التركيب نسبة لما تتمتع به من امتدادات طبيعية في فضاءات الفعل الإنساني المتباينة .
و قد اخترت مدخل الأدب المعارضي لمعالجة مفهوم المعرض، كمجال لتحقق جمالية الحداثة في السودان ، لأن أدب المعارض في السودان يمثـُل كوسيلة أتصال و توثيق لتاريخ الثقافة المعارضية ( ديسبلاي كلشر ) مثلما يمثل كحيز مشترك للتبادل الجمالي و السياسي يتقاسمه الفنانون مع غيرهم من السودانيين المهتمين بالمردود الإجتماعي للفنون على تباين دوافعهم.
فمن خلال أدب المعرض الحديث تم تخليق جملة من المفاهيم الثقافية التي تتجسد في شكل عبارات و مصطلحات ذات محمول مزدوج فني و سياسي في آن.و في هذه الأسطر أحاول إضاءة اصول المحمول السياسي للغة المستخدمة في أدب المعارض في السودان على زعم عريض فحواه ان أدب المعارض في السودان يمثل كأحد تجليات الفكر المادي في ساحة الثقافة السودانية المعاصرة .و هو امر للماركسيين السودانيين فيه مساهمة كبرى بفضل أنتباههم المبكر لوسيلة المعرض كشكل مشروع من اشكال العمل العام ذي المردود السياسي المجز.
لو تساءلنا اليوم من اين أتى المعرض التشكيلي؟فسنجد ان تاريخ المعرض كشكل اتصال حديث يرده مباشرة للتدبير السياسي البريطاني في السودان.فالإدارة البريطانية احتاجت لشكل المعرض كوسيلة بروباغاندا سياسية ضمن ملابسات تأسيس الدولة الحديثة في السودان. و لا ابالغ كثيرا إن استنتجت أن المعرض ، كشكل ثقافي للإتصال الجماهيري، ممارسة حديثة ارتبطت بداياتها الأولى بسعي الإدارة الإستعمارية لإستمالة الأهالي نحو مؤسسات الدولة الحديثة و في طليعتها المؤسسة التعليمية الحكومية. ذلك ان استقرار مؤسسات رأس المال الكولونيالي في سودان مطلع القرن العشرين ما كان له ان يتم بوسيلة العنف العسكري وحدها. فدولة الحكم الثنائي كانت مضطرة لإستمالة جزء من السودانيين لإستخدامهم في تشغيل آلة الدولة فكان بناء نظام تعليمي حديث على مستوى القطر من أولويات دولة الحكم الثنائي في السودان.
و قد عبرالشاعر البريطاني الإستعماري " روديارد كيبلينغ" اصدق تعبير عن تلازم العنف المادي و الرمزي في فعل الإستعمار حين قال في قصيدته المشهورة " مدرسة كتشينر":
« They terribly carpet the earth with dead
And before their canon cool
They walked unarmed
By twos and threes
To call the living to school »
في المعارض المدرسية لمدارس عهد الحكم الثنائي كانت موضوعات المعرض عبارة عن الأعمال التي أنجزها التلاميذ و المعلمون خلال العام الدراسي.و مناسبات العرض كانت تتحدد وفق تقويم الإحتفالية الرسمية مثل عيد ميلاد ملكة بريطانيا العظمى و عيد تتويج الملك و يوم الآباء..إلخ.و كانت صالات العرض هي نفس صالات الدرس، تعرض فيها الأعمال التشكيلية ضمن مجموعة الأعمال المدرسية الأخرى، كخرط الجغرافيا و التاريخ و رسومات العلوم الطبيعية ..إلخ.و في حقيقة الأمر كانت غاية هذه المعارض هي عرض المدرسة نفسها كمؤسسة ثقافية رسمية، مرتهنة بالدولة الحديثة في سودان مطلع القرن العشرين.سودان إعادة " الفتح".في هذا السودان، الذي لم ينس بعد تجربة العنف الإستعماري الثنائي،كان على سلطة الحكم الثنائي إقناع السودانيين بتبنـّي مؤسساتها الثقافية الجديدة و ذلك بإرسال أبنائهم لمدرسة الحكومة.
و ذلك حتى يتم تأهيلهم كعاملين في أجهزة دولة رأس المال الإستعماري الجديدة.
و قد لاقت المدارس الحديثة التي كانت تمثل رأس الرمح في توغل ثقافة رأس المال الكولونيالي ، لاقت مقاومة كبيرة من قبل السودانيين . فقد "كان النوع الجديد للمدرسة أمراً أجنبياً مفروضاً على المواطنين بواسطة حاكم أجنبي ، ومن ثم نظر إليه بعين الريبة والحذر ، فقد خشى المواطنون أن تحل المدرسة محل الخلوة وهي رمز التعليم الديني وخشى الفقهاء (الفكيان) والأسر الدينية من أن تؤثر على مركزهم الاجتماعي بل وعلى مصادر دخلهم، وخشى الآباء من أن يترتب على إلحاق الأبناء بالمدارس حرمانهم من مساعدتهم في أعمال الزراعة والتجارة وأبعاد الإشراف على سلوكهم وتصرفاتهم (في المدينة) وكأنت المدينة ترتبط في أذهان سكان القرى بالفساد . وخشى الآباء أيضاً من أن يكون التعليم سبباً في تقييد أولادهم بكشوفات الجيش أو قوات البوليس ".." أو أن يكون الغرض من المدارس نشر التعليم المسيحي ".."(3). ومن حينها تخلـّقت القرابة التاريخية بين الدولة والمدرسة من جهة والمعرض من جهة أخرى بأسلوب يجعل من المعرض، كشأن محفلي ،ادخل في شؤون الدولة الرسمية منه في شؤون الأهالي. وهو تخلق ما يزال يقي بظلال سلبية على واقع المعرض ضمن المشهد الثقافي المعاصر في السودان. ذلك ان الإلتباس القائم بين مفهوم السلطة، التعليمية ،سلطة المربي، في العملية التربوية، ومفهوم التربية كوسيلة قهر ثقافي في يد سلطة الطبقة المهيمنة " ،إنما يقوم كإلتباس فلسفي و سياسي قوامه التناقض بين أولويات التربية وأولويات السلطة ضمن منظور الصراع الإجتماعي . و هذا الواقع يثقل على وسيلة المعرض ،أياً كان توجهه الإجتماعي ، بأثقال المصالح الطبقية المتضاربة و يسلبه براءته و حيدته الظاهرة..
كانت الخرطوم في الثلاثينات عبارة عن قرية كبيرة، و كان أغلب سكانها الوافدون من الأقاليم قد أعادوا إنتاج أقاليمهم بشكل مصغر في أحياء العاصمة.و قد تولت المجموعات الحضرية الوافدة مع الدولة الإستعمارية من مصر و الشام و جنوب أوروبا [ أرمينيا و اليونان و إيطاليا]، تولت إستنبات أسلوب الحياة الحضرية الحديثة على مراجع الثقافة الأوروبية وسط سكان العاصمة. في هذا السياق الإجتماعي المتحول في أكثر من إتجاه خبر أهل الخرطوم
ـ بين الثلاثينات و الخمسينات ـ ظهور نوع شعبي جديد من المعارض بفضل جهود عشرات من الرسامين العصاميين الذين كسبوا عيشهم من تزيين منتديات المدينة ( مثل رسومات علي عثمان في "قهوة الزيبق" في الخرطوم) بتصاوير تحكي مشاهد الحياة اليومية . كانت مجموعة الرسامين العصاميين تبذل لأهل الحواضر غذاءا إيقونيا جديدا موضوعه الحياة الحضرية و تعرض للجمهور صورة إيجابية جميلة هي صورة أهل المجتمع المديني الجديد .
لكن المعرض ـ كشكل إتصال جماهيري و كتعبير جمالي لم يكن قد استقر بعد في الممارسة الثقافية للحضريين رغم أن إتحاد الفنون الجميلة السوداني الذي كان يجمّع خريجي كلية الفنون كان قد بدأ ينظم معارضه السنوية في فندق الـ "غراند هوتيل"( 1956 ) وسط جمهور يقتصر على اعيان النخبة الحضرية و بعض الأجانب
بعد الإستقلال استعادت دولة الديكتاتورية العسكرية الأولى (1958ـ 1964) مفهوم المعرض كوسيلة بروباغاندا سياسية لكسب تأييد قطاعات من مواطني الحواضر لجانب النظام الجديد. و في تلك الفترة عرف اهل الحواضر ظاهرة المعرض السنوي " معرض الثورة" الذي كانت الحكومة تنظمه في المدن المهمة و تعرض فيه منتجات المصالح الحكومية لمدة اسبوعين أو ثلاثة يتم فيها تنظيم الزيارات الجماعية لتلاميذ المدارس و لجماهير المدن.و قد توقفت المعارض السنوية التي تنظمها الدولة بسقوط نظام الديكتاتورية العسكرية في 1964 و عودة الديموقراطية.. و في فترة الديموقراطية الثانية بين 1964 و 1969 اختفت ظاهرة المعارض الرسمية الكبيرة من الحياة العامة مقابل العودة الخجولة لمعارض التشكيل في المراكز الثقافية الأوروبية ( المركز الثقافي الفرنسي و مكتبة المجلس البريطاني و معهد جوته و المكتبة الأمريكية).
" الشعب " في المعرض
في العقود الخمسة التي انقضت بين أول معرض جماعي لإتحاد الفنون الجميلة السوداني عشية الإستقلال(يونيو 1956) و المعرض الجماعي الأخير الذي نظمه" ملتقي التشكيليين السودانيين" بالتضامن مع "الإتحاد العام للتشكيليين السودانيين" (يونيو 2008) طورت حركة التشكيل في السودان ادبا للمعرض قوامه جملة من المفاهيم و المصطلحات التي تكتسب خصوصيتها الدلالية من إرتباطها بواقع العمل العام السياسي في السودان.و سأحاول في الأسطر القادمة تقصي الأصول السياسية لأدب المعرض التشكيلي في السودان.و من بين اهم المفردات التي انصاغت ضمن ادب المعرض التشكيلي نبدأ بفحص مصطلح " الشعب" الذي يتم استخدامه في الأدب المعارضي بشكل يجعل منه مفهوما محوريا يكسب خطاب الممارسة الفنية في السودان ثقله السياسي الراهن.
فماذا تعني عبارة " الشعب" عند الفنانين السودانيين؟.
أتناء تخلق حركة التحرر من الإستعمار شاع استخدام مصطلح " الشعب" في الأدب السياسي السوداني على زعم ان العبارة تشمل جملة اهل البلاد الرازحين تحت نير السيطرة الإستعمارية بدون فرز طبقي.وضمن واقع الصراع الإجتماعي لعشية الإستقلال بدأ المصطلح يتكشّف عن فرز دلالي طبقي لا بمكن تجاهله ،فـ " شعب" المركز لم يكن يحيا كـ " شعب" الهامش ، و" شعب" الأحزاب الطائفية ، الذي تحركه إشارة زعيم الطائفة ، كان يعاني نفس تصانيف الإستبعاد الطبقي التي كانت تثقل على" شعب" الحواضر المتحرر من قيود الطائفية لكن شعب الحواضر كان اكثر وعيا بوضعيته الإجتماعية و بتأثيره السياسي.وضمن جيوبوليتيك الثقافة الحديثة لفترة ما بعد الإستقلال كان مصطلح " الشعب" ينمسخ عند اهل الحواضر لـ " الغلابة" أو" الكادحين" ضمن خطاب سياسي ذي نبرة مطلبية واضحة.ففي المعرض الجماعي الأول الذي أقامه إتحاد الفنون الجميلة السوداني، بعد ستة أشهر من استقلال السودان، و الذي عرضت فيه 63 قطعة فنية لعشرين فنانا سودانيا،تم بيع نسبة عالية من الأعمال الفنية للوزراء و الأعيان و الدبلوماسيين الأجانب ( 4). و قد علّق محرر جريدة" الأيام" في حينها :
" إن الغلابة الزائرين لهذا المعرض قد رحّبوا به جميعا و امتلأت نفوسهم حسرة لأن الأسعار باهظة أقلها خمسة جنيهات، و ستظل جدرانهم عارية معطالا كالشمس [ كذا] لأن جيوبهم خلاء بلقع.. و لعل المعرض الشتوي الذي وعدنا به اتحاد الفنون الجميلة يكون أرخص صورا "( 5 ).
و فقراء المدن ،الذين سمّاهم محرر " الأيام" بـ " الغلابة"، هم في مشهد الواقع الإجتماعي فئة من "قوى العمل الحديث" التي ـ بحكم ارتباطها التاريخي بمؤسسات الحداثة الرأسمالية ـ قطعت شوطا ابعد في مسار القطيعة الثقافية مع التقليد الثقافي قبل الرأسمالي و نالت حظا من التعليم و الوعي السياسي يؤهلها للمطالبة بالتغيير الإجتماعي من خلال اشكال العمل العام الحديثة مثل النقابات المهنية و العمالية و الهيئات الديموقراطية. هؤلاء " الغلابة" يترادف اسمهم في القاموس اليساري الذي سك مفرداته الشيوعيون السودانيون ، مع "الشعب" او " الناس" أو " الجماهير" أو " الأهالي الغبش" أو" الكادحين" أو" الطبقة العاملة" عند مقتضى الحال.و وراء المترادفات تاريخ عمل نضالي تعليمي طويل للشيوعيين السودانيين منذ عهد " الحركة السودانية للتحرر الوطني" (حستو) في الأربعينات، و هي حركة سياسية سرية حديثة تعمل بدون إرتباطات طائفية أو قبلية خرج من صفوفها مؤسسي الحزب الشيوعي..( 6)
في أكتوبر 1964لعب الشيوعيون السودانيون دورا مركزيا في إسقاط النظام العسكري الذي ساد لست سنوات و ذلك من خلال تنظيم الإضراب السياسي العام.و هو حدث يعد مأثرة مهمة في تاريخ العمل العام في السودان.
و رغم ان " الشعب" قد حقق إنتصارا باهرا على نظام الديكتاتورية العسكرية من خلال " ثورة "أكتوبر 1964 إلا ان التجربة كشفت عن حدود الفاعلية السياسية للقدرات التنظيمية وحدها.فالحزب الشيوعي ـ في نهاية التحليل ـ يبقى حزب اقلية قاعدته الشعبية الضيقة تقعد به عن القدرة على ضمان تحقق مشروعه السياسي.،ففي اقل من عام استعادت القوى السياسية التقليدية مواقع حظوتها الأولى على مسرح الصراع الإجتماعي و استبعدت الشعب بل وتمكنت من منع نشاط الحزب الشيوعي بنص القانون و طردت نوابه من البرلمان في 1966.لكن درس " ثورة اكتوبر" 1964 ما زال باقيا في خاطر السودانيين . و ذلك بفضل جهود الشيوعيين في مخاطبة جماهير المدن و رفع همتها السياسية باعتبارها قوى قمينة بالتغيير الإجتماعي، إذا ما توفرت لها الأدوات التنظيمية المناسبة ، و قد رسخ في اذهان أهل الحواضر مفهوم" الشعب" كحقيقة ملموسة و ككيان فاعل قادر على التغيير، بل رسخ في اذهانهم انهم هم انفسهم الشعب السوداني ، مستودع السيادة الوطنية. و من حينها صارت لـ " الشعب" ـ هؤلاء الناس الذين يتحركون في تنظيماتهم النقابية و هيئاتهم الديموقراطية و يؤمّون المنتديات و المواكب السياسية ويجهرون بمطالبهم أمام سلطات سياسية متنازع على شرعيتها ـ صارت لهم حقوق و واجبات يسلم بها الجميع. و لم يعد أحد يشكك في حق الشعب في" الإلتقاء بالتيارات الثقافية الإنسانية أخذا و عطاءأ و التفاعل مع تلك التيارات التقدمية المؤمنة بمستقبل الإنسان و قدراته و كرامته(..) الإنسان السوداني الجديد المتفتح على النهضة الثقافية الديموقراطية تتنامى حاجته للتكامل و الوحدة و تنمية الخيال و التمتع بمباهج الحياة".( 7 ).
هوية لشعب التمازج:
لكن وعي الشعب بكونه شعبا لم يحجب عن الناطقين باسمه ، بين أبناء الطبقة الوسطى الحضرية ، رؤية الصعوبة التي يطرحها واقع التعدد العرقي و الثقافي في بلد الأشتات الذي ينطق في أكثر من مئة لسان.فعلى ضوء الوعي المتنامي بحال التركيب الإجتماعي و الثقافي و الجغرافي للمجتمع السوداني طرح المبدعون التقدميون موضوعة الهجنة كإطار جمالي لتعريف الهوية الثقافية للسودان.و سرعان ما تحول رجاء المبدعين الطوباوي المتفائل إلى برنامج سياسي يتمتع ، بشكل متزايد، بدعم مؤسسات سياسية مهمة.و افضل الأمثلة يبدو في التزامن الذي تم ضمنه تقارب التشكيليين، من فناني " مدرسة الخرطوم "، و الشعراء في مجموعة " مدرسة الغابة و الصحراء"، من موضوعة الهجنة الثقافية في منتصف الستينات. فشعراء" الغابة و الصحراء" (محمد عبد الحي و محمد المكي ابراهيم و النور عثمان ابكر و آخرين) طرحوا هوية التمازج العربي الإفريقي على نموذج " سنار"، عاصمة سلطنة الفونج التي قامت على تحالف البدو و الزنج، وفي مجال التعبير الفني كان الفنانون التشكيلون سبّاقون لبناء عقيدة ـ دوغما ـ جمالية نواتها الشعب. فإبراهيم الصلحي و أبناء جيله من الفنانين العائدين للسودان بعد دراساتهم في أوروبا (أحمد شبرين و كمالا و بعض تلاميذهم) صاروا يتساءلون عن طبيعة الفن الذي يمكن ان يناسب الشعب السوداني فخلصوا إلى ضرورة تأسيس " فن سوداني" على قاعدة " الفن الشعبي".و عند عودته للوطن اقام صلحي معرضه الفردي الأول في قاعة فندق الـ " قراند أوتيل" بالخرطوم (1960), و في حوار مع أولي باير ( 8 ) علق الصلحي على تلك التجربة بقوله:"تلك اللوحات كانت متأثرة بسيزان، ذلك انني حين كنت في مدرسة " سليد" كانوا قد اكتشفوا سيزان لتوّهم"
يقول الصلحي:"..
" حاولت ان استنكه ما يدور في عقول الناس لأنهم إن لم يقبلوا ما جلبناه معنا من أوروبا فلا بد انهم بصدد شيء آخر. شيء آخر كنت واثقا من وجوده في مكان ما عند الناس، شيء له علاقة بالخط العربي و بالوحدات الزخرفية، كنت اريد ان ارى ما يستسيغه الناس كموضوع جمالي"( 9 ).
و في حواره مع محرر مجلة " آفريكان آرت" الأمريكية( 10 ) يلخص الصلحي تجربة العودة لفن الشعب كنوع من إعادة النظر في جملة مسار تعليمه الفني القائم على مناهج التعليم الأوروبية الحديثة :" لقد تركت السودان ثم عدت إليه. ثم فجأة بدأت انظر حولي و بدأت ابحث عن الأشياء، عن الوحدات الزخرفية.لطالما فتنتني الوحدات الزخرفية في المصنوعات اليدوية السودانية المحلية و ما يصنعه المزارعين البسطاء و ما يحفرونه و ما يزخرفونه و ما يلونونه.و فجأة اعتقد ان جمالها وصلني و هزني بقوة شديدة.لقد عشت معها كل حياتي و مع ذلك فانني لم أرها إلا حين سافرت للخارج ثم عدت راجها بنظرة مختلفة للأشياء. حينذاك بدأت انظر ـ مسافرا عبر أنحاء السودان ـ ناظرا إلى كل ما يصنعه الناس، في بيوتهم و أسرتهم و بروش الصلاة و الطريقة التي يضعون بها السروج على ظهور الجمال أو الثيران. لشد ما فتنني كل هذا فبدأت أراقب و أرسم فقط "
وفي نفس الإتجاةـ إتجاة العودة للشعب، كتب أحمد شبرين ان" مدرسة الخرطوم" آلت على نفسها ان تكسب عناصر الخلق التشكيلي المحلي نكهة عالمية (11 ).
و لم يمض وقت طويل حتى تحولت مجموعة لقيات صلحي و شبرين المفهومية و التشكيلية لنوع من علامة مميزة" إمبلم" تنبئ عن استقرار تيار جديد في الساحة الثقافية هو تيار " مدرسة الخرطوم".
و قد لقيت مساهمة " مدرسة الخرطوم" بقيادة الصلحي شعبية كبيرة يمكن تفسيرها، من جهة، بالنجاح العالمي الذي اصابه الصلحي، كفنان إفريقي معاصر ،بفضل صلاته مع شبكة من الأشخاص المؤثرين ،في محافل التشكيل الغربية( الباحث الأفريقاني المعاصرأولي باير، و الباحث دنيس وليامز و مدير متحف الفن الحديث في نيويورك ألفريد بار) ، حتى ان السلطات السياسية جعلت من صورة الصلحي نفسه نوعا من ايقونة قومية للفن السوداني . ورغم أن الجمهور المحلي كان يجهل عمل الصلحي إلا ان وزارة السياحة السودانية وزعت ، في عام 1976 ،ملصقا سياحيا معنونا:" الفن السوداني المعاصر" ، يمثل الصلحي و هو يرسم .كان صلحي ـ الموظف الكبير في وزارة الثقافة ـ في تلك الفترة يتمتع بشعبية واسعة بسبب برنامجه التلفزيوني الناجح " بيت الجاك".و لكن المساندة السياسية و المادية و الرعاية التي احتازت عليها مساهمة الصلحي الجمالية من طرف دولة الطبقة الوسطى العربسلامية ، و التي رفـّعت تيار " مدرسة الخرطوم" لمقام الفن السوداني الرسمي ،يمكن فهمها ، من جهة أولى، بتوافقها مع تيار رد الإعتبار إلى الثقافات الشعبية التي جسدها رواج دراسات الفولكلور في الستينات و اعطتها دفعا قويا مكتشفات سوسيولوجيا الثقافة و تيار نقد الإثنولوجيا في أوروبا على خلفية حركة التحرر من الإستعمار. و من الجهة الثانية يمكن فهم الرواج السوداني لمشروع الصلحي و شركاه بكونه ، من وجهة نظر الواقع السياسي السوداني لفترة ما بعد الإستقلال كان يطرح إجابة سياسية جذابة لسؤال الهوية السودانية . و هو سؤال محوري في بلد قوامه التعدد العرقي و الثقافي. بلد نال استقلاله على خلفية حرب اهلية كان سؤال الهوية الوطنية منها ، وما زال، في موضع القلب. و قد طرح فنانو " مدرسة الخرطوم" تصورهم للهوية الثقافية السودانية كهجين بين العروبة و الإفريقية.بل أن بعض المتحمسين لهوية الهجنة " السودانوية" كانوا يرون فيها مفتاحا من مفاتيح حل مشكلة الهوية على صعيد القارة الإفريقية كلها. ( 12).
" أبادماك " إلة التعدد الثقافي":
الدور الذي لعبه الحزب الشيوعي في اسقاط النظام العسكري في 1964 كسب للشيوعيين قبولا سياسيا واسعا مكنهم من توسيع دائرة عملهم فيما وراء الأشكال التقليدية للعمل العام السياسي. و تحت شروط الحياة الديموقراطية انطلق الحزب الشيوعي ـ في النصف الثاني من الستينات ـ للعمل فيما عرف في ادبيات الحزب بـ " جبهة الإبداع"و تعبيرالـ " جبهة" لتعريف مجال العمل الإبداعي بين الكتاب و الفنانين السودانيين ينطوي على مدلول سياسي يمكن الحزب من تنظيم علاقة مؤسسية مع جمهور الكتاب و الفنانين و الديموقراطيين المستقلين عن جسم الحزب، مثلما ينطوي على مدلول أيديولوجي بجعل من فضاء النشاط الإبداعي ارضا للمواجهة الإجتماعية ضد قوى المحافظة في المجتمع السوداني.في تلك الفترة اطلق الحزب الشيوعي تنظيم" تجمع الكتاب و الفنانين" "آبادماك"( الإله المروي يمثل الأسد ذو الرؤوس الثلاثة كتعبير عن روح التعدد الثقافي و العرقي للمجتمع السوداني).و كانت اهم مآثر تنظيم ابادماك تتمثل في التوجه لـ "الشعب" في الحواضر و الأرياف لإستلهام تراثه الفني في ال" حرب" الآيديولوجية و لتنويره سياسيا ـ بوسيلة الفن ـ فكانت القوافل الثقافية التي تنطلق من العاصمة نحو الأرياف تنظم المعارض و الندوات و العروض المسرحية و الأمسيات الشعرية و في نفس الوقت كانت تحاول تجميع مآثر التراث الشعبي و أعادة توظيفها ضمن منظور حديث. .و على نموذج القوافل الثقافية لتنظيم أبادماك سعى الشيوعيون و الديموقراطيون في حواضر الأقاليم لتنظيم تظاهرات ثقافية تقوم على فكرة القافلة الثقافية التي تتحرك في الأرياف و تنظم المعارض و العروض المسرحية و الليالي الشعرية و الندوات لجمهور القرى النائية.( "طلائع النخيل" في مروي و" طلائع الهدهد" في مدني و" طلائع القندول" في القضارف و هي تجارب كان يؤطرها المعلمون اليساريون المتعاطفون مع الشيوعيين في المدارس الثانوية).لعبت تجربة أبادماك دورا كبيرا في تسويغ فكرة الفن كعنصر مهم في بناء هوية وطنية سودانية قائمة على منطق الوحدة في التعدد و في تقديم مفهوم الثقافة كأحد محفزات التنمية الإجتماعية.و لعل افضل تتويج سياسي لجهود حركة أبادماك يتمثل في إنشاء وزارة للثقافة مع جملة من الأجهزة الثقافية الرسمية( مصلحة الثقافة، مركز دراسة الفولكلور، المجلس الأعلى للآداب و الفنون، مركز ثقافة الطفل/ دار النشر إلخ) التي تعمل وفق خطة ستراتيجية ثقافية قومية رسمية غرضها توثيق و تشجيع تفتح الثقافات السودانية ضمن منطق شعار" الوحدة في التعدد". و هو شعار صاغه مثقفون ماركسيون ضمن زخم الوحدة الوطنية الذي كانت تسنده "إتفاقية أديس أبابا للسلام"(1972) . و هي الإتفاقية التي ابرمها النظام العسكري الجديد، نظام " الضباط الأحرار"، مع حركة" الأنيانيا" و التي أنهت الحرب الأهلية في الجنوب.
و يجدر القول أن تبني نظام "الضباط الأحرار" الجديد ( مايو 69) للإستراتيجية الثقافية للحزب الشيوعي السوداني قد تم بيسر كبير لأن الحزب الشيوعي ـ على خلاف المنظمات السياسية الأخرى ـ كان يتمتع بحظوة سياسية كبيرة لدى نظام" الضباط الأحرار" بالذات في العام الأول من عمر النظام و الذي استخدم الشيوعيون فيه حيويتهم الفكريةو التنظيمية و ثقلهم الرمزي الكبير لتدعيم النظام العسكري الجديد باعتباره " فصيل ثوري" يمنح القوى التقدمية فرصة لدفع عجلة الثورة السودانية،و هو تحليل استند على موقف سابق وارد في وثيقة مهمة من وثائق الحزب الشيوعي، تحليل فحواه أن " حركة النضال من أجل تقوية مواقع البديل المتجمع حول طريق التطور اللارأسمالي و التحرر من الإستعمار الحديث هو القانون الذي يحكم سير الثورة الوطنية الديموقراطية في البلاد" ( 13 .) و هكذا ساغت في المشهد السياسي حقيقة وجود شيوعي على مستوى وزاري ، رغم تحفظ الحزب. فقد كان للحزب وزراءه في الحكومة الجديدة لكنه لم يخترهم، مثلما كان له حضوره المميز داخل " مجلس ثورة " النظام الجديد بحكم اشتراك بعض عضويته في تنظيم " الضباط الأحرار" .و كان من عواقب العلاقة الحميمة بين الشيوعيين و النظام الجديد أن إتحاد طلاب كلية الفنون ،الذي كان يهيمن عليه الشيوعيون، كان اوّل منظمة طلابية عليا تشهر التأييد السياسي لإنقلابيي 25 مايو 1969،فقام الرئيس نميري بزيارة معرض خريجي كلية الفنون لدفعة 69/70 وألقى خطابا ضافيا دافع فيه عن دور الفنون في التنمية و التقدم و وعد بإنشاء كلية للفنون على قطعة الأرض التي منحت ، بعدها بسنوات، لمشروع "مسجد النيلين".لكن العاقبة الأكثر فداحة لقرب الشيوعيين الحميم من نظام" الضباط الأحرار" كانت تتمثل في استبطان الشيوعيين لقناعة كونهم شركاء في السلطة الجديدة.و هي القناعة المسئولة ـ في نظري ـ عن " حركة 19 يوليو التصحيحية" التي قادها عسكريون شيوعيون بغاية " تصحيح" إنحراف النظام الجديد عن الخط الثوري الأول الذي أسّس عليه شرعيته الشعبية بمساعدة الحزب الشيوعي.
و بعد الطلاق الدموي بين النظام العسكري و الشيوعيين عقب فشل " حركة 19 يوليو التصحيحية" صار النظام يلاحق الشيوعيين و كافة الديموقراطيين المتعاطفين معهم و يضيّق عليهم بفضل ترسانة من القوانين البوليسية التي كانت تهدف لإجتثات تأثير الحزب الشيوعي من الحياة العامة.و فعلا اختفي الحزب الشيوعي من مسرح النشاط العام ، بعد إعدام و اعتقال قيادييه و كوادرة و إختفاء ناشطيه، لكنه لم يختف من الحياة السياسية للسودانيين.
وبالرغم من الـ" ردة" اليمينية لنظام " الضباط الأحرار" عن الحلم الطوباوي اليساري بعد 1971 إلا ان النظام الديكتاتوري لم يتخلص بين يوم و ليلة من مؤسسات العمل الثقافي ولا من جملة القناعات السياسية القوية التي حقنها الشيوعيون في جسم الخطاب السياسي للنظام، ذلك ان اسئلة الثقافة و التنمية و الوحدة الوطنية التي طرحها الشيوعيون كانت اسئلة حقيقية لا مناص من مواجهتها داخل اروقة المؤتمرات الرسمية و في تفاصيل الأداء الثقافي اليومي .فبعد عام واحد من أحداث يوليو الدامية انعقد "المؤتمر القومي الأول للثورة الثقافية" في يونيو 1972 .و ناقش المؤتمر اهداف السياسة الثقافية و مضمونها. و أعقب هذا "المؤتمر العام للمثقفين"(سبتمبر /أكتوبر 1972) الذي تتلخص توصياته في تكثيف العمل على بعث التراث الحضاري السوداني و " ضرورة الإعتراف بالتنوع في الثقافة كوسيلة لإثراء الثقافة القومية و حل المشاكل الإقليمية ذات الطابع السياسي الثقافي" ( 14 )، و على ضرورة استنباط نظام من اللامركزية في الإدارة يعمل على التعبير عن حيوية هذا التنوع الثقافي " ( 15 )و يرى د. محمد عبد الحي، الشاعر الكبير و أحد اهم منظري هوية الهجنة الآفروعروبية في السودان، و الذي كان يتولى مسئولية مصلحة الثقافة ان" المؤتمر القومي للتخطيط الثقافي الشامل" الذي عقد في فبراير 1979 كان أهم هذه المؤتمرات " إذ انه عمل على التعبير الواضح المنظم عن التعدد و الوحدة في ثقافة السودان و اللامركزية الضرورية في إدارة العمل الثقافي و مشكلات العلاقة بين التأصيل و التغيير و في علاقة الثقافة بالتنمية الإقتصادية و الإجتماعية و هي الثلاثة عُمُد التي تقوم عليها السياسة الثقافية في السودان" ( عبد الحي، السياسة الثقافية في السودان ص 26).
إن إستمرار النبرة التعددية في الخطاب الثقافي الرسمي ـ رغم النكسة الديموقراطية لنظام النميري الذي شرع ( من خلال " لجنة إعادة النظر في القوانين" لعام 1977 ) في تعديل دستوره العلماني ليتوافق مع أحكام الشريعة ـ أمر قد يبدو غريبا لمن يراقب أحوال جيوتوليتيك الثقافة السودانية من الخارج.فالنظام ـ من خلال تصريحات مثقفيه ظل يتبنى دعاوى ديموقراطية الثقافة كسبيل لثقافة الديموقراطية في السودان.و ربما كان الأمر يجسد صلابة القناعات التعددية للسودانيين في وجه العربدة الدينية لرئيس حائر سلطاته بلا حدود . و قناعات السودانيين بالتعددية الثقافية يمكن فهمها بطبيعة الجهد الكبير الذي بذله الشيوعيون السودانيون في تثبيتها في جملة الوثاثق المهمة للحزب الشيوعي: فقد جاء في وثيقة " حول البرنامج" التي كتبها عبد الخالق قبل اسابيع من حركة 19 يوليو التصحيحية :
" بالنسبة للتجمعات القومية و القبلية الأكثر تخلفا، و فيما يختص بالثورة الثقافية الديموقراطية:
ـ لا بد من التشجيع الفعلي للنمو الحر لثقافات هذه المجموعات.
ـ و لن يكون هناك نمو فعلي في هذه الثقافات إلا إذا بعثت لعات و لهجات هذه المجموعات و عمدت الدولة الوطنية الديموقراطية بجدية إلى تشذيب تلك الأدوات، و التوسل بها في التعليم( وفقا للتجارب التربوية في هذا المضمار) و في النهضة الثقافية الشاملة.
ـ أن تصبح هذه الثقافات جزءا من المكونات العضوية للثقافة السودانية " (17 )
و يجدر القول ان قناعات التعددية الثقافية التي صاغها الشيوعيون ما كان لها ان تصمد في وجه الرجوع السياسي لنظام النميري بدون الثقل السياسي و الرمزي لإتفاقية أديس ابابا التي حققت السلام و أحيت التفاؤل بفرص سودان التنمية و الرفاه الذي كان يحلم بأن يكون" سلة غذاء العالم". في تلك الفترة صارت نظرية استهام التراث الشعبي لكافة شعوب السودان نظرية جمالية رسمية للدولة.
" ستوديو" الفنانين الديموقراطيين:
في سنوات السبعينات التي اشتد فيها التضييق الأمني على نشاط الحزب و منظماته الجماهيرية عاد الشيوعيون لإستخدام حيلة دفاعية قديمة اثبتت نفعها من قبل.هي حيلة " أشكال العمل القانوني" التي توجه كوادر الحزب نحو استغلال هامش الحرية المتاح قانونا تحت ظروف القهر و المنع السياسي الرسمى.و أستغلال " اشكال العمل القانوني كأسلوب في العمل العام تم أول الأمر بعد تجربة حل الحزب الشيوعي(1966) ومنع نشاطة و طرد نوابه من البرلمان على يد تحالف الأحزاب الطائفية و الإسلامية. لكن الفعالية الحقيقية لمفهوم " أشكال العمل القانوني" تجلّت في السبعينات و الثمانينات في أوساط منظمات المجتمع المدني المتعاطفة مع الشيوعيين. و لعل اقرب الأمثلة بالنسبة لي يتجسد في تجربة الـ " ستوديو" التي عشتها مع نفر من الفنانين التشكيليين بين منتصف السبعينات و منتصف الثمانينات. و "الإستوديو" أو " تجمع الفنانين الديموقراطيين" كان منظمة سرية تعمل وسط التشكيليين على صيغة العمل الجبهوي و قد تم تأسيسها في 1975 بمبادرة مشتركة بين بعض التشكيليين الديموقراطيين و الشيوعيين ممن خبروا العمل العام المشترك في " الجبهة الديموقراطية " أيام الدراسة في كلية الفنون.كان الإستوديو توسيعا لتجربة الجبهة الديموقراطية كونه شكل نوعا من حلقة وصل بين الطلاب الديموقراطيين في الكلية و التشكيليين الذين التحقوا بالحياة العملية . كانت نواة التنظيم تتكون من عدد من الأعضاء النشطين لا يتجاوز خمسة عشر شخصا لكن هذا التنظيم المحدود العدد كان يستفيد من شبكة العلاقات السرية الواسعة التي نسجها الشيوعيون لسنين عبر المنظمات النقابية و هيئات العمل العام الديموقراطية. و كان لنشاط مجموعة " الأستوديو" طابع العمل العام السري الذي يتلخص في تنظيم الحركة المعارضة لسياسات النظام على مستوى "إتحاد الفنانين التشكيليين" و جمع التبرعات لصندوق دعم المبدعين المعتقلين و المفصولين و إصدار نشرة مسموعة في شكل أشرطة كاسيت، مثلما كان له طابع العمل العلني المشروع في تنظيم المعارض و الندوات .في منتصف السبعينات كان نظام النميري في حالة عداء شامل مع الحزب الشيوعي لكن اجهزة الثقافة الرسمية بقيت مسكونة بجيوب نشطة من الشيوعيين او الديموقراطيين المتعاطفين مع أطروحات الحزب الشيوعي و الذين كانوا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، يسهمون في نشر وجهة نظر الحزب في شتى القضايا الثقافية. لقد اتاحت لي الظروف ، في النصف الثاني من السبعين( 1975ـ 1978) ان اعمل مشرفا على صفحة أسبوعية إسمها " ألوان الفن و الأدب" في جريدة " الأيام" التابعة للإتحاد الإشتراكي.كانت مهمتي تقتصر على نشر متابعات النشاط الثقافي و الفني و الإشراف على مداخلات القراء حول مواضيع الفن و الأدب. و بالنسبة لي فقد كان عملى في "ألوان الفن و الأدب" يبدو لي كمواصلة لنشاطي النقدي في صحف الحائط في كلية الفنون.و اظنني حاولت ان اجعل من الصفحة الثقافية منبرا للمناقشة التي كانت دائرة بين الفنانين منذ سنوات حول أسئلة الفن و قضايا التنمية و الهوية الثقافية .و بحكم علاقاتي بمجموعة " الأستوديو" و من خلال صلات " الأستوديو" بمسؤولي " جبهة الإبداع" في الحزب الشيوعي تحولت الصفحة لمنبر من منابر العمل العام المعارض الذي يتم داخل هامش الحرية المتاح داخل إجهزة إعلام النظام.كان المسؤولن عن الجريدة يعون البعد السياسي المعارض للطريقة التي كنت اشرف بها على الصفحة الثقافية. لكن الشعبية التي حازت عليها الصفحة بين القراء حفزتهم على غض النظر عن الطابع اليساري الذي يطبع المناقشات الفنية.و اظن ان ضمان استمرار الصفحة كان يتمثل في إلتزامها بنوع من عقد غير مكتوب مع إدارة الجريدة. و هو عقد يتمثل في إقتصار الصفحة على معالجة المادة المصنفة "فنية" و تجنب المواضيع" السياسية" .كانت المادة "الفنية" تتلخص في التقارير عن معارض الرسم و الأعمال المسرحية و الأفلام و عروض الكتب بجانب نشر القصائد و تنظيم المداخلات الفنية للقراء.لكن المناقشة في المواضيع الـ " فنية " كانت في الغالب تجرّ أطرافها نحو الإستطرادات السياسية التي تمسخ المناقشة الفنية ـ غالبا بعفوية وأحيانا بتدبير مسبّق ـ لمناقشة سياسية.و هذا الواقع أكسب المناقشة الـ " فنية" نبرة حرية جذبت للمناقشة العامة قطاعات من القراء لم يكن سؤال الفنون التشكيلية بين اولوياتهم. في تلك الفترة تحولت المناقشة في "أزمة الفن التشكيلي"، موضوعنا المفضل، إلى نوع من مدخل جانبي مشروع للخوض في اسئلة "الأزمة السياسة " بالقفز فوق تفاصيل الواقع السياسي المباشر للنظام.كان الخطاب النقدي مركبا بطريقة كما عرائس الدمى الروسية التي تحتوي كل واحدة منها الأخرى في بطنها. كنا نحيل ازمة الفن التشكيلي في السودان لأزمة البرجوازية الصغيرة و نحيل ازمة البرجوازية الصغيرة لأزمة المجتمع الرأسمالي النيوكولونيالي إلخ.و على هذه الأرضية الفكرية المبسّطة بنينا شبكة من التحالفات السياسية و الجمالية و التنظيمية كسبت لجماعتنا كفاءة مشهودة كحركة معارضة. ففي الأدب النقدي المعارضي الذي تم على صفحات " الأيام" و صفحات الملاحق الموازية (في " الصحافة " و في " الرأي العام" و في " مجلة الثقافة السودانية") تعددت الأصوات المعارضة بين مساهمات فنانين و كتاب ينطقون عن حساسيات سياسية متباينة بجمعها هاجس المعارضة الآيديولوجية( باسم" الشيوعيين" او باسم الديموقراطيين و" الكريستاليين" أو باسم" الجمهوريين") مقابل مساهمات فنانين و كتاب من المدافعين عن قيم المحافظة او حتى المدافعين عن سياسات النظام. في نهاية مارس 1977 اقام عبد الله احمد بشير ،الشهير بـ " بولا"، معرضه الفردي الأول بقاعة مكتبة المجلس البريطاني بأمدرمان. و بولا من الشخصيات المحورية في حركة النقد التشكيلي منذ السبعينات فضلا عن كونه كان من بين الناشطين اليساريين الذين اسسوا حركة القوافل الثقافية في الأقاليم حيث كان يعمل معلما للفنون(" طلائع الهدهد" في حنتوب 1968 و" طلائع القندول" في القضارف 1969)..معظم أعمال بولا المعروضة في مكتبة المجلس البريطاني ( حوالي ثلاثين عملا) كانت منفذة بالأحبار الملونة على الورق.و كتب بولا في نص قصير يؤطر للمعرض ان إهتمامه بـ " خلق أشكال في حالة علاقات تركيبية تهدف إلى التجدد" يعطيه حرية اكبر في معالجة علاقات الأشكال بصرف النظر عن كونها اشكال توضيحية (فيقراتيف) او تجريدية.و يضيف بولا في نفس الوثيقةأن الأعمال التي عرضها تمثل جزءا من مساهمته الشخصية" في عمل جماعي تشرع فيه مجموعة من الشبان السودانيين تتحرك من مفهوم للعمل الخلاق يتجاوز روح التخصص الضيقة الأفق لتغطي كافة نواحي المعرفة اللازمة لعمل خلاق ذي طبيعة كلية(..)ذلك ان النشاط الذي لا يعرف مكانه في البناء المركب للمعرفة الهادفة للتغيير يصبح بلا غاية" (18 ).و كلام بولا في معرضه يمكن ان يقرأ كنوع من بيان سياسي مضغوط لحركة مجموعة "الأستوديو" و جملة المؤسسات السياسية التي تسندها، بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن فيما وراء التصاوير و الأدب النقدي يكتسب معرض بولا اهمية من حيث كونه انطوى على إنتباه الفنانين للشكل الطقوسي لمحفل الإفتتاح.فقد جرت العادة ان معارض السبعينات يتم إفتتاحها بواسطة وزير الثقافة او ممثل له ( وكيل الوزارة او رئيس" المجلس الأعلى للآداب و الفنون" او مدير مصلحة الثقافة)، و ذلك بحكم المساعدة المادية و التقنية و الإعلامية التي تقدمها وزارة الثقافة للفنانين العارضين.لكن بولا تجنب حضور السيد وزير الثقافة باختياره لطفل ذي ثمان سنوات ( محمد الجزولي) لكي يقوم بافتتاح معرضه الذي كانت انتلجنسيا العاصمة كلها تنتظره. و مع إفتتاح الطفل محمد الجزولي لمعرض بولا تم بشكل حاسم تثبيت مفهوم معرض التشكيل كحيز للحركة السياسية التي تتم بالتداخل مع الحركة الجمالية. يقول بولا في إفتتاح معرضه:
" جرى و ساد زمنا طويلا، و بدافع الرغبة في تجميد الفن، القول بأن الفن نشاط كاشف عن اعماق النفس الإنسانية. و هذا القول على مافيه من الصحة، قول مضلل لأنه يتحرك من إعتبار التكوين النفسي للإنسان معطى قبليا. و النتيجة الحتمية لمثل هذا الفهم هي التعامل مع الفن باعتبار انه باعث و منشط للإسقاطات الشخصية الموجودة قبلا. و على هذا المنطق الميتافيزيقي يتأسس النقد السلفي الذي يصرف النظر عن قيم التشكيل الأساسية متوجها إلى البحث عن الموعظة و الإرشاد و البواعث النفسية للفنان المختزلة في تصور ضيق الأفق عن دور الفن الإجتماعي و النفسي.
يتحرك موقفي من موقع مخالف للمنطق السالف، إذ ارى ان المأثرة الحقيقية للعمل الخلاق ـ و منه الفن ـ هي تكوين و تأسيس هذه الأعماق بالأصل. فالتكوين النفسي للإنسان هو نتاج تاريخه الإجتماعي، متاج عمله الخلاق في المقام الأول. ذلك ان هناك ما هو نتاج للإنجازات المدمرة المسؤولة عن كل اشكال التدني النفسي التي لحقت بالإنسان.
صادرة اعمالي ضد مؤسسة القمع الثقافي، ضد تركة النقد الإسقاطي،ضد الغياب المتدثر بالرموز بديلا عن الفعل.."(19 )
و بين نصوص الأدب النقدي للسبعينات تقف سلسلة مقالات عبد الله بولا المعنونة " مصرع الإنسان الممتاز" كعلامة مهمة في مشهد التشكيل السوداني كون صاحبها يتناول بالتحليل و النقد الحركة الفنية السودانية كتعبير أصيل عن تجليات الصراع الطبقي التي تخوّل لفناني الطبقة الوسطى الحضرية ان يتعالوا بإمتيازهم الطبقي ( الدبلوم الأكاديمي) على الفنانين الشعبيين المزعومين مجرد حرفيين و صنايعية .يكتب يولا معرفا الفنان التشكيلي:
" التشكيلي في فهمنا هو كل من يعمل في صياغة أشكال المرئيات إبتداءا من " صانعي المراكيب"، و تتسع الكلمة لتشمل السمكري، مصمم الأزياء النجار، المعماري، المشاطة و الكوافير إلى آخر ما يمكن أن يتسع له خيال القارئ".." و لا أشك في أن النسألة بصورتها هذه تغضب اخواننا التشكيليين الذين يعتمدهم النقد الرسمي و المؤسسات الأكاديمية البورجوازية همدا أو المتبرجزة جهلا.ما العمل؟
ليس عندي ما يخفف وقع الفاجعة ، و أنت يا سيدي التشكيلي المتخرج من كلية الفنون الجميلة ، و ربما الكلية الملكية، و الحائز على شهادة الإمتياز الإجتماعي ، و التي تسمى دبلوما أو خلافه، أيضا لا فرق بينك و بين " الحسين ود مهيوب" صانع العناقريب او " حسن كلاش "السمكري.كلكن تشكيليون و كلكم مسؤول عن تحقيق إضافة خلاقة لموروث البشرية من تاريح صياغة الأشكال المرئية لتستحق لقب " فنان" و لا جدوى من شعاداتك و إن بلغ عددها مائة و نيف.".."و ذلك ان الرسام على سبيل المثال، ليس خلاقا لأنه رسام، كما هو شائع و معتقد،إنما الرسام الفنان هو الرسام الخلاق الذي يضيف لتاريخ الرسم إضافة خلاقة.و الأمر يكون كذلك مع بقية التشكيليين بالمفهوم الأكثر شمولا"( 20 ).
و جدير بالذكر أن بولا و الغالبية العظمي من مجموعة التشكيليين المتحركين داخل الشكل التنظيمي و الفكري للـ "أستوديو" لم يكونوا اعضاء منظمين في الحزب الشيوعي. لكنهم كانوا يشكلون دائرة من الفكر النقدي الصديق اظن ان الشيوعيين السودانيين استفادوا منها كثيرا في تطوير " حساسية" جديدة تجاه الإبداع و المبدعين.( 21).
" عاش الشعب" في المعرض :
و على قاعدة الأدب النقدي لحركة التشكيليين الديموقراطيين الذين نشطوا في السبعينات صارت مقولات تعريف الفنان و دور الفن في التنمية الإجتماعية و أسئلة الهوية وقضايا التعدد الثقافي عناصر مهمة في توجيه الخيارات الجمالية للتشكيليين الأصغر سنا. و افضل مثال على هذا التحول هو المعرض الضخم الذي نظمه نفر من التشكيليين الشباب ،أغلبهم من مواليد السبعينات ،و هو" معرض الملتقى 2008 " الذي نظمته مجموعة من التشكيليين المغتربين في بلدان الشرق الأوسط و في أوروبا و أمريكا و استراليا، ممن تحلقوا حول الموقع الأسافيري المسمى " ملتقى التشكيليين السودانيين" بالتضامن مع" الإتحاد العام للتشكيليين السودانيين". هذا المعرض الضخم الذي استمر لخمسة ايام في الخرطوم ( يونيو 2008) كان حدثا ثقافيا استثنائيا في العاصمة حيث اتاح لعشرات الآلاف من " شعب" العاصمة ان يؤمّوا هذه التظاهرة الثقافية الفريدة لمشاهدة اكبر مجموعة من المعروضات التشكيلية في مكان واحد( 1150 عملا لـ 270 فنانا )بجانب أن التظاهرة الكبيرة لم تقتصر على الأعمال التشكيلية بل تجاوز برنامجها حدود منطقة التشكيل ليشمل تقديم أعمال فنية متنوعة بين الرقص الشعبي و المسرح و عروض الأفلام القصيرة و الغناء فضلا عن ورش الرسم و المسرح التي أشرف عليها فنانون للأطفال و للكبار داخل المعرض. و المعرض يعتبر تظاهرةاستثنائية بما انطوى عليه تنظيمه من بعد سياسي واضح.ذلك ان المعرض تم بمبادرة أهلية و بالعون الذاتي تقريبا من طرف مجموعة الفنانين الذين تمكنوا من الحصول على بعض الدعم من الشركات التجارية الخاصة. و كان واضحا ان السلطات الحكومية بوزارة الثقافة قد اضطرت لتقديم بعض العون التقني ( أرض المعارض الدولية)" مقابل" افتتاح وزير الثقافة للمعرض.وقد تأكدت النبرة السياسية للتظاهرة الفنية بحضور بعض الشخصيات السياسية المعارضة لنظام عمر البشير لحفل الإفتتاح، كممثل "الحركة الشعبية" ياسر عرمان و محمد ابراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي .أما من جهة التشكيليين فقد كان المعرض بالنسبة لهم مناسبة للم شمل " قبيلة " الفنانين التشكيليين المشتتين بين الوطن و المنافي ولتثبيت قناعة جماعية قديمة بكون الفنانين يمثلون في المشهد الوطني كما الأسمنت الذي يربط مكونات الشعوب السودانية. و في هذا المشهد كان من الطبيعي ان يستعير محرر التقرير الصحفي للمعرض في المنتدى الأسافيري لـ " ملتقى التشكيليين السودانيين" صورة " عرس التشكيل السوداني" كأفضل تعبير عن هذا الحدث الفني ذي الأبعاد الرمزية المتعددة .(22)
يمكن القول بأن الأدب المعارضي في السودان قد ساهم بشكل مؤثر في تسييس الممارسة التشكيلية كظاهرة ذات ثقل سياسي و إن وفدت من خارج فضاء السياسة.
خلال عام 2008 نقلت وسائل الأنباء حادثتين موضوعهما مصادرة حق الفنانين التشككيليين في السودان في عرض اعمالهم بحرية على الجمهور السوداني.و في الحادثتين ورد اسم الفنان التشكيلي محمد حمزة كشخصية محورية:
الحادثة الأولي تتلخص في تنظيم محمد حمزة لمعرض يحتوي على اعمال فنية لمجموعة من الفنانين البريطانيين (20فنانا) و السودانيين.أقيم المعرض المعنون " نداء الفنون من أجل دارفور" في مدينة ويلز البريطانية اولا قبل ان يصل الخرطوم في شهرأبريل الماضي، و ذلك بالتعاون بين وزارة الثقافة و الإعلام المركزية و وزارة الإعلام و الثقافة الإقليمية بجنوب دارفور و جامعة قلامورقن.و قد اعترضت سيدة سودانية، تعرّف نفسها كـ " ابنة الفنان الفتوغرافي شوقي ابوعكر"، اعترضت على حضور لوحة لفنان بريطاني(ديفيد نايت) تمثل مشهدا لفتاة اوروبية عارية جالسة على فراش و خلفها يتمدد رجل عار. و هددت بسحب أعمال والدها من المعرض ما لم يقم المنظمون بسحب لوحة العارية او تغطيتها. و في البداية رفض محمد حمزة قوميسير المعرض كما رفض اسمعيل عبد الحفيظ رئيس اللجنة التنفيذية لإتحاد التشكيليين السودانيين ، رفضا الإستجابة لمطالب" بنت الفنان" ،و ـ تحت ضغوط من سلطات وزارة الثقافة ـ انتهت الحادثة بموافقة المنظمين على تغطية اللوحة موضوع الخلاف.و قد أثارت هذه الحادثة ردود افعال غاضبة من طرف نفر من المهتمين بالتشكيل.( 23 )
لكن فيما وراء غضب المعارضين الذي اتحذ طابعا سياسيا في مطالبة المحتجين للدولة بأن ترعى حق حرية التعبير كحق دستوري حسب دستور 2005 ، كشفت الحادثة عن كون منطقة الفن التشكيلي ما زالت تطرح نفسها كبؤرة معارضة و تمرد عفوي ضد تغول السلطات على حرية التعبير. و ذهب معظم المحتجين على سنسرة التعبير الفني إلى مطالبة الدولة بإحترام الدستور و احترام نصوص إتفاقية نيفاشا التي تضمن حرية التعبير كحق أساسي لكل السودانيين .
أما الحادثة الثانية فقد كان مسرحها " دار الأمة" بأمدرمان، و هي الدار التابعة لحزب الأمة القومي الذي يعتبر من أهم القوى السياسية السودانية.
و الحادثة تتلخص في قيام الفنان محمد حمزة بنتظيم معرض لأعماله في دار حزب الأمة القومي بأمدرمان بالتعاون مع " المنبر الحر للثقافة و الفنون" التابع لحزب الأمة و " جماعة القصر".افتتح المعرض، مساء الثلاثاء 26/8/2008 ، الأستاذ إدريس البنـّا، أحد قادة حزب الأمة و عضو مجلس رأس الدولة السابق الذي يحظى باحترام الأجيال من التشكيليين السودانيين كونه أيضا من أوائل خريجي "مدرسة التصميم" الأحياء.
كتب الأستاذ عاصم ادريس الصويم في موقع سودان للجميع.أورغ:
" مر يوم الإفتتاح لشكل طبيعي(..)و فوجئنا صباح اليوم التالي بتحطّم ستة لوحات(..)و قال محمد حمزة ان احد اعضاء المكتب السياسي قد قام يإلقاء إحدى لوحاته خارج قاعة العرض ساحبا إياها و هو يتلفـّظ بإساءات بالغة.." و ذلك لأن العضو المذكور لم يحتمل رؤية لوحات تمثل نساء عاريات بين المعروضات.
و تحت ضغط سلسلة الإحتجاجات التي حملتها الصحف( "الوطن" و" الأيام") ازاء المسؤولين عن حزب الأمة كونهم لم يبادروا بالإعتذار للفنان و لم يدينوا مسلك المسؤولين السياسيين المتورطين في الإعتداء على أعماله ، اضطرت قيادة حزب الأمة لتقديم توضيح و اعتذار في رسالة موجهة من الدكتور عمر محمد عمر، مدير" دار الأمة" بأمدرمان، لرئيس تحرير جريدة " الوطن"( 5 سبتمبر 2008). المهم في هذه الرسالة ـ بجانب الإعتذار للفنان و لكل من تأذى من سلوك المعتدين على المعروضات ـ هو نفي الحزب لأي صفة قيادية للأشخاص الذين اعتدوا على أعمال محمد حمزة و التأكيد على ان حزب الأمة سيشكل لهم" مجلس محاسبة" و معاقبتهم على هذا العمل " المشين".و أهم من ذلك التأكيد على موقف الحزب الإيجابي الداعم للإبداع و المبدعين تحت رعاية الإمام الصادق المهدي و اشرافه الشخصي.و اشارة مدير الدار للرعاية و الإشراف الشخصي الذي تحظى به الفنون من طرف السيد الصادق المهدي بصفاته كـ " إمام" طائفة الأنصار و المنظر الأيديولوجي للحزب و الزعيم السياسي، إنما تستند على مساهمة فكرية للصادق المهدي معروفة ، منذ سنوات، و منشورة تحت عنوان " المشروع القومي للفن التشكيلي". و هي مساهمة تندرج ضمن مسعى الصادق المهدي لبناء الجسور بين المؤسسة السياسية المحافظة و حركة المثقفين السودانيين المتبلورة حول مجالات الآداب و الفنون. (24)
و هكذا تشهد ساحة السياسة السودانية دخول زعامة سياسية تقليدية كبيرة في الحرب الآيديولوجية الدائرة في "جبهة الإبداع" من بوابة المعرض. هذه الأهمية التي يوليها إمام طائفة تقليدية و زعيم سياسي محافظ من وزن الصادق المهدى لعواقب ما يدور في فضاء المعرض تكشف عن استقرار معرض التشكيل كوسيلة مهمة من وسائل العمل العام ضمن المشهد السياسي السوداني. فزعيم حزب الأمة بات يعرف المردود السياسي المجرّب للإحتفاء بالفن و بالفنانين بحسبانهم قوة إجتماعية ذات ثقل سياسي لا يمكن تجاهله لكن إهتمامه برعاية الفنون للحد الذي يفتح فيه ابواب دار الأمة لفنان من نوع محمد حمزة ـ معروف بميله لإستفزاز الجمهور ـ يكشف عن إتجاه جديد في حزب الأمة لإستخدام المعرض كوسيلة تعليمية غايتها توطين مفاهيم الثقافة الحديثة بين جماهير الحزب التي بقيت لأجيال رهينة لثقافة "الإشارة " التقليدية.و " تحديث " حزب الأمة صار من اولويات الصادق المهدي و مجموعة الناشطين المقربين منه، ذلك أن التجربة السياسية التي خاضوها في العقدين الأخيرين علمتهم أهمية التكيف مع متغيرات مجتمع سوداني متحوّل تحت شروط العولمة الثقافية .و قد دافع مدير" دار الأمة" عن فكرةإقامة معرض لمحمد حمزة في "دار الأمة" بأن الجمهور الذي يؤم "دار الأمة" لمشاهدة معرض رسم هو جمهور شعبي متواضع قد لا يتجاسر على دفع ابواب صالات العرض في الفنادق الفارهة او في المراكز الأجنبية المعروفة بتنظيم المعارض في العاصمة. و هكذا إذا لم يذهب الشعب لحيث الفن فيجب على الفن ان يأتي لحيث الشعب. وهكذا يخلص الجميع إلى حسم سؤال الفن و السياسة في السودان بالهتاف اليساري القديم: "عاش الشعب".
يمكن القول بأن الأدب المعارضي في السودان قد ساهم بنصيب أوفر في تسييس الممارسة الفنية بين التشكيليين السودانيين، و ذلك بشحنها بمضامين سياسية رغما عن كونها ذات طبيعة فنية متحققة خارج مقام السياسية التقليدية.و فيما وراء تسييس الفنانين فإن المعرض الفني نفسه إنمسخ لتظاهرة سياسية. لقد أصبح للمعارض الفنية جاذبية لا قبل للمنظمات السياسية بمقاومتها و ذلك بسبب كفاءتها في تغليف المضامين السياسية في غلاف الفن البريء.و تحت شروط ندرة أمكنة العرض في العاصمة ،فأغلب الفنانين التشكيليين الذين يودون عرض أعمالهم في أمكنة العرض المتيسرة في وسط البلد، قد يغضون الطرف عن شبهة الإستغلال السياسي من قبل الجهة السياسية، المحلية أو الأجنبية ، التي تيسر لهم صالة العرض و ربما بعض المساعدات المادية و التقنية [و لا شيئ مجانا]،و الجهات السياسية التي ترعى معارض الفنانين التشكيليين تعرف أنها تتوسل بوسيلة المعرض التي لا تقتضي صرفا ماليا كبيرا، لعرض نفسها من خلال عرض وجه ثقافي إيجابي يتعذر رفضه حتى بالنسبة للخصوم السياسيين.لقد ظلت أمكنة العرض، الموجودة في الخرطوم، و لعقود طويلة، إما تحت سيطرة الدولة أو تحت سيطرة المراكز الثقافية الأجنبية.و لكن واقع تسييس المعرض كظاهرة ثقافية لفت أنظار المنظمات السياسية المعارضة في السودان. و في هذا السياق يمكن فهم مبادرة منظمة سياسية تقليدية كحزب الأمة في العناية بتنظيم معرض فن تشكيلي في "دار الأمة" بأمدرمان.و يبدو أن العناية بالمعارض الفنية هو إتجاه أصيل في التوجه السياسي الثقافي لمنظمة سياسية تبحث عن تجديد صورتها في خاطر الجمهور.و في الموقف الذي وقفته إدارة حزب الأمة، أبان أزمة " معرض الفنان محمد حمزة" ،خير دليل على إستيعاب حزب الأمة لدرس المعرض في الحياة السياسية السودانية.أن تسييس المعارض الفنية في السودان يمكن من بناء جسور جديدة بين مقام الفن و مقام السياسة.و كفنان منتبه لأهمية النشاط السياسي أظن أنه شيئ محمود أن يعي الناس في السودان تداخل أشغال الفن و السياسة.و هو شيء محمود لو نظرنا إليه من زاوية تنمية الفنون في السودان مثلما هومحمود حين ننظر إليه من زاوية فنون التنمية في السودان.
حسن موسى
دوميسارق 31 أكتوبر 08
.............................
الهوامش و الصور المرفقة:
1ـ سورة يس 82
2ـ أنجيل يوحنا، الإصحاح الأول
3ـ "وقد ظلت هذه المخاوف كامنة في صدور أبناء الريف ردحاً طويلاً من الزمن. ففي سة 1918 اعترض أبناء أحد البيوت الدينية الكبرى ، كما اعترض “فكي” الخلوة على إنشاء مدرسة أولية بـ "مقرات" بالقرب من "أبي حمد" وأطلق أهالي "مقرات" على المدرسة الجديدة التي شيدت بالقرب منها في سنقراب " : كنيسة سنقراب"
انظر محمد عمر بشير (تطور التعليم في السودان)
4ـ السودان الجديد، 18 يونيو 1956
5ـ الأيام 18 يونيو 1956
6ـ انظر محمد سعيد القدال، معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، دار الفارابي و دار كوش 1999
7ـ أنظر عبد الخالق محجوب وثيقة" حول البرنامج ص ص 44/45
8ـ إبراهيم الصلحي، جامعة بايرويت، 1983
9ـ حوار مع أ. باير. المرجع السابق
10ـ الصلحي في آفريكان آرت1967
11ـ الأيام 21 /6/1979
12ـ أ. توينبي. أفريقيا العربية و إفريقيا السوداء، سندباد، باريس 1979
13ـ الحزب الشيوعي السوداني الماركسية و قضايا الثورة السودانية 150 ـ 154
14ـ محمد عبد الحي في " السياسة الثقافية في السودان، ص 13 ، نشر اليونسكو، باريس )1981
15ـ انظر ايضا محمد عمر بشير، ورقة" التعليم و الوحدة الوطنية"، معهد الدراسات الإفريقية و الآسيوية، 1983
16 ـ انظر ايضا محمد عمر بشير، ورقة" التعليم و الوحدة الوطنية"، معهد الدراسات الإفريقية و الآسيوية، 1983
17ـ أنظر : عبد الخالق محجوب " حول البرنامج"2002، دار عزة. ص 50
18ـ انظر " مجلة الثقافة السودانية،" المعارض الأخيرة" ، حسن موسى .مايو 1977
19ـ انظر صلاح حسن عبدالله، مساهمات في الأدب التشكيلي،دار أروقة،الخرطوم، 2004 ، ص 229
20 ـ أنظر مداخلات بولا و حامد يحيى الباشا في صفحة "ألوان الفن " الأيام 7 سبتمبر 1979 .
(أنظر ايضا سلسلة مقالات عبد الله بولا " مصرع الإنسان الممتاز" في " الأيام" سبتمبر 1976 و مارس 1977
21ـ أنظر الحزب الشيوعي السوداني ،ورقة " نحو حساسية شيوعية تجاه الإبداع و المبدعين" أبريل 1976
22ـ أنظر كلمة مامون احمد محي الدين في موقع " ملتقى التشكيليين السودانيين" الرابط:
https://www.sudanartistunion.com/vb/show ... php?t=1589
23ـ أنظر صحيفة " الأحداث" عدد 29 أبريل 2008)
انظر أيضا الرابط :
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 4017#23155
24ـ أنظر الرابط:
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 56577f4017