عبد الرحمن علي طه: كيف أقصي الملتوون المستقيمين؟! (1)

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

عبد الرحمن علي طه: كيف أقصي الملتوون المستقيمين؟! (1)

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »



عبد الرحمن علي طه: كيف أقصي الملتوون المستقيمين؟! (1)


ربما تعَّين علينا، ونحن نعبر هذا المخاض الطويل، المؤلم، للميلاد المتعسر لأمتنا، أن نتأمل سير جيل الرواد من الآباء المؤسسين، الذين أداروا الحراك السياسي لنيل الاستقلال، وعملوا على توطيد أركان الدولة السودانية المستقلة. فاستنطاق سير جيل الرواد، ربما مثَّل واحداً من الأمور المعينة على فهم ما اعتور حركتنا الوطنية من تدافعاتٍ كثيرةٍ غير منتجة، كان لها الكثير من الآثار السالبة على مسارات السياسة، والثقافة، والتنمية، في بلادنا. ظلَّت أسماء الكثيرين من أفراد ذلك الجيل، الذي أسهم في جهود نيل الاستقلال، وتوجيه دفة الدولة السودانية الوليدة، تترد على أسماعنا، كلما أظلتنا ذكرى الاستقلال، أو ثار الجدال حول تاريخ التجاذبات المتعددة لحركتنا الوطنية. غير أننا نجد اسماً كاسم عبد الرحمن علي طه، (1901م ـ 1969م)، قليل التردد على مسامعنا، رغم دور الوطني المتميز، كاستقلاليٍ صلب، وقف بقوة وإباءٍ وشممٍٍ أمام محاولات المصريين لإجهاض مشروع الدولة السودانية المستقلة، تارةً بالإغراءات، وتارةً بالتهديدات. الشاهد، أن الأدبيات المكتوبة التي تعرضت لسيرة عبد الرحمن علي طه، ليست بالكثرة التي ينبغي أن تكون به عليها. فلو كانت الأمور في السودان أموراً طبيعية، ولو كانت نظرتنا إلى تاريخينا، وإلى سير كبارنا، نظرة مؤسسية، وتقييمنا لأهل السير تقييماً عادلاً، لكانت سيرة عبد الرحمن علي طه على كل لسان لدى الأجيال اللاحقة. ولولا أن الأقلام ظلت في أكثر أحوالها عند غير أهلها، ولولا التحامل، والحسد، وغلبة النظر لشؤون السودان بعينٍ أجنبية، لكُتبت عن عبد الرحمن علي طه الكتب، والمقالات، ولحملت الشوارع والمدارس، اسمه في أكثر من مدينة سودانية. ألم يكن، على الأقل، أول وزيرٍ سودانيٍ للمعارف، أو "التربية والتعليم" كما سميت لاحقا؟!

أكبر سِفْرٍ رصد سيرة الأستاذ عبد الرحمن علي طه، كان الكتاب الذي أصدرته ابنته، الدكتورة فدوى عبد الرحمن علي طه، أستاذة التاريخ بجامعة الخرطوم، تحت عنوان: (أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه 1901م ـ 1969م: بين التعليم والسياسة وأربجي). وقد صدر كتاب الدكتورة فدوى عن دار جامعة الخرطوم للنشر، في العام 2004م. كما عرض لعبد الرحمن علي طه، أيضاً، الأستاذ مكي أبو قرجة، ضمن من عرض لهم في كتابه: (أصوات في الثقافة السودانية)، الصادر عن مؤسسة الإمارات للإعلام، في أبو ظبي، في العام 2008م. ولربما تكون هناك بعض الكتابات المتناثرة عن الرجل وسيرته، ولكنها قطعاً لم ترفع ذكره في العالمين كما ينبغي.

عُرف عبد الرحمن علي طه، أكثر ما عُرف بكتاب (سُبل كسب العيش في السودان)، الذي كان أميز الكتب عن جغرافية السودان للمرحلة الابتدائية. كما شاع عن عبد الرحمن علي طه إتقانه للغة الإنجليزية. ولكن دور عبد الرحمن علي طه كأبرز أصوات التيار الاستقلالي قُبيل وبُعيد لحظة الاستقلال، فليس له من الذكر ما ينبغي أن يكون له. وأهم من ذلك كله، لم تصل إلى الأجيال اللاحقة السيرة النظيفة، والسمت الأخلاقي، عالي العيار، مسبوك النسق، الذي تميز به هذه الرجل. وتلك، في نظري، واحدةٌ من شواهد تعتيم الصغار، على أدوار الكبار في السودان. وهذه علةٌ سودانيةٌ صميمةٌ، لا تزال "قواديس" ساقيتها دائرة حتى اليوم!

لم تكن معرفتي بعبد الرحمن علي طه، حتى بعد أن تجاوز عمري العشرين عاماً، قد تعدت ما كان شائعاً عنه، مما سبق أن أشرت إليه عاليه: (كتاب سبل كسب العيش، وإتقان اللغة الإنجليزية). غير أن اهتمامي بعبد الرحمن علي طه ازداد وتعمق بعد أن سمعت عبارات قالها عنه الأستاذ محمود محمد طه، وهو يقف على قبره. كان ذلك في العام 1972م، حيث كنت مع رهط من الجمهوريين في زيارةٍ لمدينة أربجي، موطن عبد الرحمن علي طه. وكان غرض تلك الرحلة هو زيارة الأستاذ محمود محمد طه، الذي ارتحل إلى هناك لكي يكتب كتابيه، ((الثورة الثقافية))، و((تعلموا كيف تصلون)) وذلك في منزل، الأستاذ علي لطفي، الذي كان مديرا للمدرسة المتوسطة في أربجي. والأستاذ علي لطفي هو الشقيق الأصغر للحاجة آمنة لطفي، زوجة الأستاذ محمود. ذكر الأستاذ محمود لنا، قبل سفره إلى أربجي، أن كثرة الزوار في منزله في مدينة المهدية بأمدرمان، قد حالت بينه وبين كتابة هذين الكتابين. وعقب صدور الكتابين، حمل غلافاهما مكان تأليفهما، وهو مدينة أربجي. في تلك الزيارة طاف الأستاذ محمود بتلامذته، كعادته دائماً، على قبور الأولياء، والأعلام، من أهل البرزخ. وشمل الطواف قبر الشيخ عبد الصادق جد الصادقاب، ويقع القبر شرقي قرية أم دغينة، غرب أربجي. كما شمل الطواف قبر القاضي دشين، بمقابر أربجي شمالي المدينة. والقاضي دشين هو القاضي الذي يقول عنه كتاب الطبقات لود ضيف الله، إنه نازع الشيخ محمد ود عبد الصادق في الجمع بين أختين. وانتهى ذلك الطواف الذي استغرق قسما معتبراً من النهار، بقبر عبد الرحمن علي طه، الواقع في مزرعته جنوب شرقي أربجي. في الغرفة الصغيرة المربعة الشكل، التي ضمت رفاة عبد الرحمن علي طه، وقف الأستاذ محمود محمد طه من القبر، موقف الإمام في صلاة الجنازة. رفع الأستاذ محمود كفيه وقال مخاطباً الحضور: ((إقرأوا الإخلاص إحدى عشر مرةً على روح عبد الرحمن علي طه، فقد كان صالحاً، وفالحا)). ألقت قولة الأستاذ محمود محمد طه تلك بذرةً في وجداني، نبتت منها شجيرةٌ، أثمرت بمرور الأيام وشيجةً فكريةً، وروحيةً، جعلت عبد الرحمن علي طه مذكوراً عندي، يسكن خاطري، كما الصالحين.

ينصب غرضي الرئيس من كتابة هذه المقالات في تركيز الضوء على لفظ الحراك السياسي السوداني للمتميزين. بل وخلق كل ما من شأنه أن يطردهم من بؤرة الفعل المؤثر، لتتلقفهم الهوامش، حيث تحتوشهم الظلال. يتحدث كثيرون عن أن نظام الإنقاذ قد طرد الكفاءات من البلاد، وأبعد الكثيرين إلى الهوامش داخل البلاد، وهذا قولٌ صحيح. ولكنه يبقى قولاً ناقصاً، ومعتلاً، حين نقف به عند هذا الحد. فهذا الحد يحول بيننا وبين النفاذ إلى جذور الأزمة وتركيبها وتعقيدها. فالذين يلقون بكل شيء عند عتبة الإنقاذ لا يهمهم، في حقيقة الأمر، سوى الترويج للغة الخطاب السياسي اليومي، القاصدة، جملةً وتفصيلاً، إلى الكسب الآني. ولا يهم لدى هؤلاء، إن ثلم هذا النهج المتعجل، حد قدرتنا على تلمس جذور مشاكلنا، ومن ثم، فهمها على الوجه الأتم. فظاهرة نزف العقول، أو ما يسمى بالإنجليزية بالـ brain drain، ليست ظاهرة سودانية محضة، وإنما هي ظاهرة "عالم/ثالثية، مثلما هي "عالم/أولية"، ولكن بقدر أقل. وفيما يخص القرن الإفريقي تحديداً، يقول سيساي أسيفا، أستاذ الاقتصاد، ومدير مركز بحوث السياسات التنموية في إفريقيا، في جامعة ويسترن متشيجان، في ورقته: (القرن الإفريقي: الخلفية التاريخية، والرؤية، والمبادرات الإقليمية)، التي نشرتها صحيفة "أديس تربيون" في عددها الصادر في 30 مايو 2003، ما نصه: ((عقود من الحرب، ومن التدخلات الحكومية المدمرة، بواسطة الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت السودان، ويوغندا، وإثيوبيا، والصومال في سبعينات، وثمانينات القرن الماضي، أدت إلى فقدانٍ مهولٍ لرؤوس الأموال، ولنزفٍ للعقول، ولتدهورٍ في البيئة، ولازديادٍ في حدة الفقر، وتكرارٍ للمجاعات)).(الترجمة من عندي).

لا ينحصر نزف العقول في هجرة العقول من القطر إلى الخارج، وحسب، إذ أن هناك نزفاً داخلياً للعقول. ويتلخص هذا النوع من النزف في إقصاء المقتدرين، وإبعادهم من مراكز صناعة القرار، وعن مواقع المشاركة الفاعلة. ولذلك فإن الذي يهمني في هذه المقالات، إنما هو هذا النزف الداخلي، الذي سوف أعالجه متوكئاً على سيرة الأستاذ عبد الرحمن علي طه. فطرد الأقل كفاءة للأكثر كفاءة، والأرق خلقا، للأقوم خلقاً، شيء شائع في سودان ما بعد الاستقلال. فالحركة السياسية السودانية، منذ مؤتمر الخريجين، وحتى اليوم، حركةٌ امتلك زمام أمرها متوسطو القدرات، وخامدو المواهب. ومتوسطو القدرات يضيقون ذرعاً بمرتفعي القدرات.كما أن رقيقي الأخلاق يضيقون ذرعاً بمتينيها. والسياسة عالم تكتنفه المطامع من جميع أقطاره. وحين تعلو المطامع، تنحط القيم الأخلاقية، فيعاف أهل الإباء، والعفة، وكبار النفوس، الحلبة، ويبتعدون من مركز الضوء إلى منطقة الظلال، خاصة حين تمسك المطامع بتلابيب الأغلبية، ويصبح تغليب صوت العقل، وصوت الحق متعذراً.

باختصارٍ شديد، أرى أن الوقت قد آن لكي نناقش مساراتنا السياسية مستصحبين هذه الأبعاد، دون ازورارٍ، ودون مواربة. وسيرة الراحل عبد الرحمن علي طه واحدةٌ من السير التي يمكن أن تعيننا على فهم لماذا عافت بعض النخب التعاطي مع فعل السياسة، خاصةً أولئك الذين خاضوا غمارها ردحاً من الزمان؟! ومن هؤلاء، المربي الأكبر عبد الرحمن علي طه، الذي تراكمت سحب التعتيم، تحت شمسه الساطعة، فحجبتها عن الأعين، حتى قبل أن يغادر هذه الدار الفانية. عاف عبد الرحمن علي طه الوسط السياسي، لتنكبه جادة النزاهة، والتجرد، والأخلاق. فاعتزله وهو في ذروة خبرته، وفي أوج قدرته على العطاء. رجع عبد الرحمن علي طه إلى قريته أربجي عقب انقلاب الفريق إبراهيم عبود في العام 1958م، ليعمل على تطوير حياة أهالي بلدته، بعيداً عن المناصب الرسمية، حتى توفاه الأجل في مستشفى الحصاحيصا الريفي، في العام 1969م، وهو في الثامنة والستين من العمر. لزم عبد الرحمن علي طه مدينته أربجي، طيلة سنوات عمره الإحدى عشر الأخيرة، معتزلا السياسة، وهو لا يزال في سن السابعة والخمسين، فلماذا؟! (يتواصل).

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »

عزيزى النور حمد

جهلى بـ(عبد الرحمن على طه) تقاصر حتى عن ما كان شائعاً عنه: (كتاب سبل كسب العيش، وإتقان اللغة الإنجليزية)، و لكنى بعد قراءة مقالك تذكرت أننى قد مررت على كتاب كان قد شدّنى الأسلوب و النـّـفـَس اللذان كُتبا به بصورة جعلتنى أحتار أنه قـُبيل الإستقلال كان هناك من يكتب و يُعبّر بتلك الرّوح الإستقلالية الصريحة و الشجاعة الأبيّة. و طفقت أتساءل عن سبب غياب و إندثار و موت هذه الروح و ذاك النـّفـَس.

قُلت فى مقالك:
{عُرف عبد الرحمن علي طه، أكثر ما عُرف بكتاب (سُبل كسب العيش في السودان)، الذي كان أميز الكتب عن جغرافية السودان للمرحلة الابتدائية. كما شاع عن عبد الرحمن علي طه إتقانه للغة الإنجليزية. و لكن دور عبد الرحمن علي طه كأبرز أصوات التيار الاستقلالي قُبيل وبُعيد لحظة الاستقلال، فليس له من الذكر ما ينبغي أن يكون له. و أهم من ذلك كله، لم تصل إلى الأجيال اللاحقة السيرة النظيفة، والسمت الأخلاقي، عالي العيار، مسبوك النسق، الذي تميز به هذا الرجل. وتلك، في نظري، واحدةٌ من شواهد تعتيم الصغار، على أدوار الكبار في السودان. وهذه علةٌ سودانيةٌ صميمةٌ، لا تزال "قواديس" ساقيتها دائرة حتى اليوم! }

نعم لقد كان لـ(عبد الرحمن على طه) كأبرز أصوات التيار الإستقلالى هذا الكتاب:

صورة

و جاء على غلافه الأخير:

صورة

أين ياترى ذهبت و تبدّدت هذه الروح و النـّفـَس؟! اعتقد أن المسافة بين صوت (عبد الرحمن على طه) فى ذاك التاريخ و إستباحة مصر لسيادة السودان الآن بواسطة (إتفاقية الحريّات الأربعة) بينما يصطاد جيشها السودانيين على الحدود الإسرائيلية كالأرانب .. فى الوقت الذى تتهدّد السودان الإنقسامات فى كل الإتجاهات، تكشف لنا عن هول إنجازات التركية السابقة من أجل إخضاع السودان فى صورتها اللاحقة الماثلة الآن ... و ما كان ذلك ليكون لولا غياب تلك الرّوح و النفس الإستقلاليين الأبيين.

سأعود.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

[color=indigo]شكرا يا ياسرعلى المساهمة وشكرا على رفع غلاف "السودان للسودانيين" معي من الكتاب طبعة أخرى بغلاف مختلف ويبدو أن طبعتك هي الأقدمستكون لي وقفات في هذه السلسلة مع هذا الكتاب الجرئ الواضح. كما ستكون لي وقفة مع كتاب الإخوان الجمهوريين المسمى "التكامل" الذي انتقد اتفاقية التكامل 1982م. الأمور التي نبه إليها عبد الرحمن علي طه، ونبه إليها كتاب الجمهوريين "التكامل" لا تزال تتهدد السودان والسودانيين حتى هذه اللحظة. الخطة الخديوية للسودان لا تزال كما هي وما زال من بيننا من يقول: "نيل واحد شعب واحد"!!نعم هناك ارتباطات تاريخية مصرية سودانية لا يمكن انكارها وهناك مصالح مشتركة بالغة الحيوية. لكن لابد أن توضع هذه الأمور في إطار جديد أساسه "المصالح المشتركة" لا النزوع إلى الهيمنة المدفوع بالأطماع التوسعية التاريخية وبالإمتلاء بالرؤية الخديوية الاستعمارية نحو السودان الذي لم تر فيه سوى فضاء أقل قيمة يمكن استباحته واستتباعه.[/co
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

عبد الرحمن علي طه: كيف أقصى الملتوون المستقيمين؟! (2)

هناك عدة روابط تربط بين المربي عبد الرحمن علي طه، والأستاذ محمود محمد طه. أولى هذه الروابط رابطة أسرية ربما لا يعرفها كثير من السودانيين. فهناك ثلاث أسر أصبحت ذات صلة، بسبب من ريادة الشيخ بابكر بدري في مجال التعليم في مدينة رفاعة. تلك الأسر الثلاث، هي أسرة الشيخ، بابكر بدري، وأسرة الحاج طه، عمدة أربجي، وهو جد عبد الرحمن علي طه، ثم أسرة آل قوي في ديم لطفي برفاعة. وقوام أسرة آل قِوَيْ في النصف الأول من القرن العشرين، هما الشيخان، القاضي يوسف يوسف قوي، وابن عمه الشيخ، محمد لطفي عبدالله قِوَيْ الشهير بـ "لطفي". و"لطفي" ليس إسماً وارداً في أسماء العائلة، وإنما هو لقب أطلقه عليه الشيخ بابكر بدري. وقد كان الشيخ لطفي واحداً ممن عملوا مع بابكر بدري في حقل التعليم. وديم لطفي الواقع في الطرف الغربي من مدينة رفاعة، يقابل مدينة أربجي، الواقعة على بعد كيلو متر، أو يزيد من الضفة الجنوبية للنيل الأزرق. فالنيل الأزرق، في هذه المنطقة، يسير من الشرق إلى القرب تقريباً، وليس من الجنوب الشرقي صوب الشمال الغربي، كما هو إتجاهه العام داخل الأراضي السودانية. وقد اتفق للشيخ لطفي عبد الله قِوَيْ، أن درَّس في خلوة أربجي، التي كان عبدالرحمن علي طه تلميذاً فيها. وقد قام بالتدريس في خلوة أربجي أيضاً، القاضي، يوسف قِوَيْ ابن عم الشيخ لطفي، وزوج أخته. كما لابد من الإشارة إلى أن عبد الرحمن علي طه سكن لفترة، حين كان تلميذا في مدرسة رفاعة، في منزل الشيخ بابكر بدري هناك. وقويت الصلة الأسرية بين آل طه وآل قوي بعد تزوج الطيب علي طه، الشقيق الأصغر لعبد الرحمن علي طه، من صفية بنت القاضي يوسف قِوَيْ، وهي ابنة عم آمنة بنت الشيخ لطفي، زوجة الأستاذ محمود محمد طه. وتبعت تلك المصاهرة مصاهرات عديدة بين آل طه وآل قِوَيْ، لا يتسع المجال لتعديدها.

رابطة التلمذة

ثاني الروابط التي ربطت بين المربي عبد الرحمن علي طه، والأستاذ محمود محمد طه هي رابطة التلمذة. فقد أصبح عبد الرحمن علي طه، أستاذاً بكلية غردون، في العام 1927م، وغادرها ليصبح نائباً لعميد معهد بخت الرضا في العام 1935م. وبما أن الأستاذ محمود محمد طه تخرج من كلية غردون في العام 1936م، فإنه غالباً ما يكون قد عاصر عبد الرحمن علي طه الأستاذ في كلية غردون، في الفترة ما بين عام 1930م و1935م. أردت من التفصيل في أمر رابطتي العلاقة الأسرية والتلمذة أن أقول إن شهادة الأستاذ محمود محمد طه حول المربي عبد الرحمن علي طه، التي قال فيها عنه إنه ((كان صالحاً وفالحاً))، قد انبنت على معرفة لصيقةٍ طويلة به. وهي معرفة تأتت للأستاذ محمود محمد طه من أكثر من زاوية. ولابد أن الأستاذ محمود لاحظ منذ عهد الطلب في كلية غردون، تميُّز عبد الرحمن علي طه على أقرانه من مدرسي الكلية. ولقد كان عبد الرحمن علي طه متميزاً بحق على سائر أقرانه في كلية غردون. زامل عبد الرحمن علي طه في التدريس بكلية غردون كلا من السيد، إسماعيل الأزهري، وعبد الفتاح المغربي، وعبيد عبد النور، والنصري حمزة، ونصر الحاج علي. وحين تم إبتعاث زملائه في الكلية، إلى جامعة بيروت، المزيدٍ من التأهيل العلمي، اِسْتُثنِي عبد الرحمن علي طه من البعثة، لأن رؤساءه في كلية غردون رأوا أنه ليس بحاجة للذهاب إلى بيروت. فقد كان مؤهلاً في نظرهم بما يكفي للتدريس في الكلية. (فدوى عبد الرحمن علي طه، أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه 1901م-1969م: بين التعليم والسياسة وأربجي، دار جامعة الخرطوم للنشر، 2004م، ص 59). وقد مرَّ على كلية غردون، في الفترة التي أمضاها بها المربي عبد الرحمن علي طه، كوكبةٌ من أبرز طلائع الخريجين. نذكر منهم، على سبيل المثال، كلاً من : مكي عباس، أمين التوم، بابكر عوض الله، التجاني الماحي، يحي الفضلي، محمود محمد طه، محمد أحمد أبوسن، أحمد محمد يس، سرور محمد رملي، إبراهيم جبريل، وآخرين غيرهم ممن عرفتهم مسارح الحياة السودانية عبر مراحل الحراك الوطني السياسي، عبر الثلثين الأخيرين من القرن العشرين.

شهادة مستر قريفيث

ومن الشهادات المشرقة في تميز عبد الرحمن علي طه، ما تفضل به مستر قريفيث، البريطاني الذي تولى عمادة معهد بخت الرضا في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. وهي شهادة أوردها الأستاذ مكي أبو قرجة، في كتابه "أصوات في الثقافة السودانية". كتب أبو قرجة: ((لخص مستر قريفث دور أبي عوف في تجربة "بخت الرضا" في كتاب له أهداه إليه بقوله: إلى ذكرى عبد الرحمن علي طه، نائب العميد لاثني عشر عاماً، وأول وزير للتعليم في السودان، والذي بدون أمانته ووفائه لما كان لهذه التجربة أن تنجح ...... كان ذا نفوذٍ فريدٍ بين المعلمين القدامى، أما بين صغار المعلمين فقد كان تقريباً الوحيد بين هيئة التدريس الذي "يخشون" ـ بالمعنى الإنجيلي السليم)). (مكي أبو قرجة، أصوات في الثقافة السودانية، مؤسسة الإمارات للإعلام، أبو ظبي، ط1، 2008م، ص 290 – 291). ويتضح من شهادة مستر قريفث في حق عبد الرحمن على طه، ما تمتع به هذا الرجل من مكانةٍ خلقيةٍ، وعلمٍ غزيرٍ، ومهنيةٍ عالية. وإشارة مستر قريفث إلى أن عبد الرحمن علي طه، ربما كان الوحيد الذي "يخشاه" صغار المعلمين، "بالمعنى الإنجيلي للكلمة"، إشارة شديدة الأهمية. وما من شك عندي أن عبد الرحمن علي طه لم يكن يخيفهم بسلطته، أو بتجبره. إذ لم يُعرف عن عبد الرحمن علي طه التجبر والتسلط قط، بل على العكس من ذلك، فقد عُرف عنه أنه كان لصيقا بالناس، بعيداًُ عن التعالى عليهم. كما عُرف عنه إيمانه العميق بالديمقراطية، وتطبيقه لها في حياته اليومية. ولذلك فإن طلابه كانوا "يخشونه"، لأنه كان "تقياً"، وكان ذا خشية، وذا سمتٍ يُجبر من يتعامل معه على "خشيته". فتقوى عبد الرحمن علي طه كانت، في ما يبدو، تقوىً مجسدةً في اللحم والدم، تظهرها تفاصيل السيرة اليومية، في ما يأتي وما يدع، ولم تكن تقوى مُدَّعاةً بالمظهر الديني الأجوف. الشاهد، أن ملاحظة مستر قريفيث لـ "خشية" صغار الأساتذة لعبد الرحمن علي طه، على ذلك النحو، ملاحظة ثاقبة وشديدة الأهمية!

أيضاً، من شواهد تميز عبد الرحمن علي طه، النعي الذي أوردته الدكتورة فدوى عبد الرحمن علي طه، نقلاً صحيفة التايمز البريطانية. فقد نعت صحيفة التايمز مستر قريفيث، عقب وفاته، في العام 1984م، منوهة في ذلك النعي بإسهامات عبد الرحمن علي طه، زميل كفاح قريفيث في إنشاء وتطوير معهد بخت الرضا. قالت صحيفة التايمز متحدثةً عن مستر قريفيث: ((إنه ومعه أثنين آخرين سكوت، وعبد الرحمن علي طه، كانت لديهم الموهبة الفذة للاهتداء إلى خير ما يُعمل في أسوأ الظروف. إذ قادتهم بصيرتهم إلى برنامج لتدريب المعلمين في بيئةٍ ريفية، مع إصلاح مستمر للمناهج وطرق التدريس. ولذا كانت البداية في عام 1934م في أكواخ من الآجر بالقرب من الدويم)). ولقد شهد لعبدالرحمن علي طه بالتميز كثيرون، خاصة عقب وفاته. ومن بين من كتبوا عنه شهاداتٍ ناصعة، في حياته الصحفي الأشهر بشير محمد سعيد، كما نعاه، معددا مآثره عقب وفاته، الدكتور التجاني الماحي، والشاعر أحمد محمد صالح. (فدوى عبد الرحمن علي طه، مصدر سابق، ص 73).

رابطة "الإستقلاليين"

أما الرابطة الثالثة، والأهم عندي، فهي رابطة سياسية تتمثل في أن كلا من المربي عبد الرحمن علي طه، والأستاذ محمود محمد طه، كان "استقلالياً" صلباً لا يساوم في استقلاليته. ولقد جمعت بينهما هذه الرابطة "الاستقلالية"، رغم أن الأستاذ عبد الرحمن علي طه اختار الإنضمام إلى حزب الأمة، بدعوة من السيد عبد الرحمن المهدي، كما سيرد تفصيله لاحقاً. ولقد أصبح عبد الرحمن علي طه، بعد أن انضم لحزب الأمة، أقرب المقربين إلى السيد عبد الرحمن المهدي. أما الأستاذ محمود محمد طه فقد اختار تأسيس الحزب الجمهوري بعيداً عن البيتين الطائفيين الكبيرين. ورغم تفرق المسارات السياسية بين الرجلين على ذلك النحو، بقي الأستاذ محمود محمد طه عارفاً لفضل، ولتميز، ولمكانة عبد الرحمن علي طه. ووصفه له بـ "الصلاح" و"الفلاح"، وصفٌ انتقى فيه الأستاذ محمود محمد طه الكلمات، كعادتة، بعنايةٍ فائقة. كما أنه نطق بتلك الكلمات بشكلٍ بالغ التأثير، ولقد كنت أقف إلى جانبه، أنظر في وجهه، حين نطق بها. وتلك هي اللحظة التي بدأت أعرف فيها عبد الرحمن علي طه في أفق جديد، وأتعلق بسيرته العطرة الملهمة. (يتواصل)
نقلا عن صحيفة الأحداث 27 سبتمبر 2010
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
محمد عثمان أبو الريش
مشاركات: 1026
اشترك في: الجمعة مايو 13, 2005 1:36 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد عثمان أبو الريش »

الأخ النور،

حاولت الإتصال بكم وبالإيميل ووسيلة أخرى ولكن لم يكن هناك احد فى الطرف الاخر.

لقد نقلت الجزء الاول لأونلاين، ونقل أخ أخر الجزء الثانى فى ذات البوست، ولأهمية الموضوع رأيت توسعـة فرص النقاش
فى منابر أخرى...

محمد
Freedom for us and for all others
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

عبد الرحمن علي طه: كيف أقصى الملتوون المستقيمين؟!(3)

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

عبد الرحمن علي طه: كيف أقصى الملتوون المستقيمين؟!(3).

[email protected]

وُلد عبدالرحمن علي طه في عام 1901م بقرية أربجي التي تقع على الضفة الغربية من النيل الأزرق. وتبعد أربجي بحوالي السبعة كيلومترات جنوب شرقي مدينة الحصاحيصا. وتبعد مدينة الحصاحيصا عن الخرطوم بحوالي المائة وخمسة وثلاثين كيلومترا. بعد أن أكمل عبد الرحمن علي طه الخلوة في أربجي، تحوَّل إلى المدرسة في مدينة المسلمية جنوب غربي ودمدني. غير أنه سرعان ما تحوَّل منها إلى مدرسة رفاعة، حيث عاش في منزل الشيخ بابكر بدري، كما وردت الإشارة سابقاً. ولا استبعد أن يكون اتجاه عبد الرحمن علي طه إلى حقل التعليم، والتفاني فيه، على النحو الذي عُرف به، قد تجذر، في بعض جوانبه، في تأثره المبكر بنموذج الشيخ بابكر بدري.

يُعتبر عبد الرحمن علي طه من الجيل الثاني الذي ارتاد كلية غردون التذكارية. ويقول هو عن نفسه إنه تخرج من كلية غردون في بدايات عام 1923م، وعمل ما بين 1923م، و1927م، مدرساً بمدرسة أم درمان الوسطى. ثم تم تعيينه بعد ذلك أستاذا بكلية غردون التذكارية التي عمل بها حتى عام 1935م، حيث تم نقله منها إلى معهد بخت الرضا لتدريب المعلمين، ليكون مساعدا لعميده. عمل عبد الرحمن علي طه عقب نقله من كلية غردون إلى بخت الرضا، لمدة قاربت الثلاثة عشر عاماً. وفي العام 1948م تم اختياره ليصبح وكيلاً لوزارة المعارف، فغادر بخت الرضا إلى الخرطوم. وبعد عام واحد فقط أمضاه وكيلاً لوزارة المعارف، أصبح عبد الرحمن علي طه أول وزير سوداني للمعارف. تولى عبد الرحمن علي طه ذلك المنصب الرفيع، عن حزب الأمة، في فترة الجمعية التشريعية. وهي الفترة التي سبقت الجلاء الكامل للإنجليز عن السودان.

البيوت الطائفية والمثقفون:

يقول قاسم عثمان نور إن زعماء الطوائف الثلاث: السيد عبد الرحمن المهدي، والسيد علي الميرغني، والشريف يوسف الهندي التفتوا، عقب ثورة 1924م، إلى المثقفين بوصفهم عنصراً جديداً في الساحة السياسية. ويضيف قاسم نور، أن السيد عبد الرحمن المهدي قد كان الأسبق من بين زعماء الطائفية إلى استقطاب المثقفين. (قاسم عثمان نور، أضواء على الحركة الوطنية السودانية:جمعيات القراءة والجمعيات الأدبية ومؤتمر الخريجين 1926م – 1938م، وزارة الثقافة بالإشتراك مع مركز قاسم للمعلومات، الخرطوم 2004م ص71). ورغم أن استقطاب السيد عبد الرحمن المهدي للأستاذ، عبد الرحمن علي طه قد تم في العام 1943م، إلا أن جهود السيد عبد الرحمن في استقطاب المثقفين ترجع، بشكل عام، إلى ما قبل ذلك بكثير. ففي عام 1934م وصفت المخابرات السيد عبدالرحمن المهدي بأنه الزعيم السياسي "لطبقة الخريجين" (محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث 1820م-1955م، مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، 2002م، ص 461. كما أورد الدكتور الطيب محمد آدم الزاكي، ما يشير إلى ذلك في تقريرٍ للحاكم العام في الخرطوم، كان قد رفعه إلى المندوب السامي في عام 1935م . تقول إحدى فقرات ذلك التقرير: ((يبدو جلياً ومؤكداً أن السيد بدأ يضم لصفوفه مجموعات من الشباب المثقف، ومن المستنيرين سياسياً، الذين باتوا يتطلعون إليه أكثر من أي زعيم سوداني آخر، وهو بدوره يميل إلى تبني الأفكار الوطنية الحديثة، ويحث تابعيه على التخلي عن لبس الجبة والاستعاضة عنها بالملابس الحديثة، وما من شك أنه يتطلع إلى لعب دور القائد المعترف به من قبل كل الشعب)). (الطيب محمد آدم الزاكي، العرش والمحراب: الدور الإجتماعي والاقتصادي للإمام عبد الرحمن المهدي في تاريخ السودان الحديث، الشركة العالمية للطبع والنشر والتوزيع. ط1 2005 م، ص 169-170).

السيد عبد الرحمن المهدي وعبد الرحمن علي طه

أرجِّحُ أن سمعة عبد الرحمن علي طه كأستاذ في مدرسة أم درمان المتوسطة، وبروزه في أنشطة نادي الخريجين الثقافية بأمدرمان، ثم السمعة الطيبة التي علقت به وهو في كلية غردون، إضافة إلى ما حققه لاحقا من انجازات باهرة، وهو يعمل في وظيفة نائب عميد لمعهد بخت الرضا، قد لفتت إليه نظر السيد عبد الرحمن المهدي. ولذلك، ربما أمكن القول إن عبد الرحمن علي طه لم يسع إلى العمل السياسي، بقدر ما سعى إليه العمل السياسي. وما من شك أن سعي السيد عبدالرحمن المهدي إلى استقطاب الأستاذ عبد الرحمن علي طه قد كان سعيا موفقاً جدا، وقد دل على سعة الحيلة السياسية لدى السيد عبد الرحمن المهدي. فقد أصبح عبد الرحمن علي طه أحد أقوى أذرع السيد عبد الرحمن المهدي. ويروي عبد الرحمن علي طه بنفسه قصة التحاقه بالسيد عبد الرحمن المهدي، قائلاً: ((كنت في معهد التربية بالدويم في عام 1943م حين جاءني رسولٌ يقول: إن الإمام عبد الرحمن المهدي بالدويم، وسيحضر بعد ساعة لتناول وجبة الفطور معك. ولم يكن لي في ذلك الوقت أي معرفة بالإمام. أكبرت وعظَّمت الإمام الذي يسعى، بدلاً أن يقول للرسول مُرْهُ ليحضر، إني أريد أن أتحدث إليه ـ بل حضر بنفسه، ألا ما أعظمه. جاء إلى منزلي وتناولنا وجبة الفطور، ثم قال لي: يا عبد الرحمن إن الشعب السوداني ناصر الإمام المهدي حتى انتصر وانتزع استقلال السودان من الغاصبين، وهذا الشعب أنا مدينٌ له بأشياء كثيرة! أهمها نصرته للإمام المهدي، ولا أدري مكافأة للشعب السوداني غير أن أعمل على استرداد استقلاله، ولكني أريد رجالا أُعَوِّل عليهم فهل أُعَوِّل عليك؟ فكانت إجابتي كالآتي: يا مولاي لولا أن المسألة تخرج بي من حدود الأدب واللياقة، لقلت لسيادتك إن استقلال السودان هو أملي الوحيد في هذه الحياة، ولكنني أريد رجالاً أُعَوِّل عليهم فهل أُعَوِّل عليك. فضحك رحمه الله ولم يزد بكلمة واحدة. ومن ذلك الحين تبايعنا إلى أن أخذه الله إلى رحمته))، ( فدوى عبد الرحمن علي طه، مصدر سابق، ص 266- 267).

يوضح النص أعلاه، أن عبد الرحمن علي طه قد كان تواقاً إلى العمل من أجل الاستقلال، وكان يريد أن يجد فرصةً لخدمة البلاد من موقع سياسي ما. ولكنه، لم يحدد الكيان السياسي الذي ينتمي إليه. كما لم يكن قد قرر بعد اتخاذ أي خطوة عملية في هذا الصدد. غير أن تلك الزيارة المفاجئة التي باغته بها السيد عبدالرحمن المهدي في بيته بمعهد بخت الرضا جعلته يقرر العمل تحت راية السيد عبد الرحمن المهدي. ويبدو أن تلك الزيارة قد كسرت لعبد الرحمن علي طه حاجزا كان يحول بينه وبين الإقدام لدخول عالم السياسة. ولربما دل بقاء عبد الرحمن علي طه بعيداً نوعاً ما، عن حقل العمل السياسي، حتى عام 1943م، على أن له تحفظات، من نوع ما، نحو ما كان يجري وقتها. فلقد كانت تلك الفترة هي فترة هرولة المثقفين للإستظلال بمظلة إحدى الطوائف الكبيرة. فقد ساءت أوضاع الخريجين، عقب ثورة 1924م، وشددت الإدارة البريطانية قبضتها عليهم، محاربةً إياهم في أرزاقهم. ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية في سنة 1929م، فزادت الطين بلة. فنتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية، خفضت الإدارة البريطانية الوظائف، كما خفضت الرواتب. أيضا نتيجة لثورة 1924م، وتحركات الطلاب، والخريجين المناوئة للإدارة البريطانية، اتجهت الأخيرة إلى تقوية وضعية رجال الطوائف والعشائر، فاعتمدتهم ممثلين للشعب السوداني. وكان ذلك بغرض المزيد من تهميش طبقة الأفندية وعزلها. ورغم هرولة الأفندية إلى الطائفتين الكبيرتين، بقي عبد الرحمن علي طه على السياج، ولم يتخذ خطوة عملية في الانضمام إلى أي جهة، حتى العام 1943م، حين زاره السيد عبد الرحمن المهدي في عقر داره، تلك الزيارة المفاجئة، التي لم يتم الإعلان عنها إلا قبل ساعة واحدة فقط من حدوثها!

يبدو أن عبد الرحمن علي طه رأى في قدوم السيد عبد الرحمن المهدي له في عقر داره، طالباً منه وضع يده على يده، أيذاناً له بولوج عالم السياسة. ولا أستبعد أن يكون قبول عبد الرحمن علي طه لطلب السيد عبد الرحمن قد فرضته عليه طبيعة الموقف. فليس من السهل إن يأتيك شخصٌ في مقام السيد عبد الرحمن المهدي، في بيتك، خاطباً ودك، وتعاونك، ثم تتأبى عليه. أيضاً، لابد لشخصٍ مثل عبدالرحمن علي طه أن يكون واعيا بالطاقات التي يملكها، والتي كان لابد أن يجد لها متنفساً في مجال الحراك القاصد إلى استقلال السودان، خاصة وأن الأكفاء قد كانوا قليلين جداً في ذلك المنعرج التاريخي. أيضاً، كان السيد عبد الرحمن المهدي قد أصبح، في تلك اللحظة من تاريخ السودان، مؤسسةً راسخةً، دينياً، وإقتصادياً، وسياسياً. ولذلك فلربما رأى عبد الرحمن علي طه، وهذا راجحٌ عندي، الانخراط في العمل السياسي من خلال الإنضمام إلى ما تشكل وأصبح واقعاً عملياً قائماً. فهو ربما رأى أن تغيير الواقع العملي القائم، الذي كانت الطائفية ممسكة بأعنته تماماً، وخلق واقع عمليٍ جديدٍ مكانه، أمراً بالغ الصعوبة، إن لم نقل مستحيلا. ولذلك يمكن القول أن السيد عبد الرحمن المهدي، قد كسر لعبد الرحمن علي طه حاجز التردد، بتلك الزيارة المباغتة. (يتواصل).
صحيفة الأحداث 4/10/2010
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

شكرا يا أبو الريش
إيميلي موجود في الحلقة الثالثة ولم استلم من إيميل
شكرا على نقل المقال إلى سودانيزأونلاين
فقد دخلت هناك وعلقت
شكرا لك مرة ثانية
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

عبد الرحمن الظل و عبد الرحمن العود

مشاركة بواسطة حسن موسى »



عبد الرحمن الظل و عبد الرحمن العود


النور يا أخانا الذي في الهم السوداني العام
أتابع باهتمام كتابتك عن عبد الرحمن علي طه و ما كان من أمر ما أسميتهم بـ "المستقيمين" و" الملتوين " إلخ .. و في " إلخ " يمكنك أن تدرج فزّاعة " المصريين " الذين يتربصون بالسودان عند كل منعطف، و التي روّعتنا بها في مسلسل مردة الهضبة و السهل [ سأعود لموضوع "المصريين" في مقام مستقل حين تكتمل وثائقي ].ومعلوماتي عن الاستاذ عبد الرحمن علي طه محدودة لا تتجاوز أعجابنا القديم بـ " سبل كسب العيش في السودان" و ما قد حفظته الذاكرة السياسية من تحالفه مع عبد الرحمن المهدي إمام طائفة الأنصار و زعيم حزب الأمة.و قد نفعتني المعلومات الجديدة التي أوردتها أنت في سيرة عبد الرحمن علي طه المهنية و العائلية و السياسية و حفزتني على البحث عن المزيد في مسار هذا المثقف السوداني الحداثي الرائد الذي نجهل عنه الكثير.
قلت أنك سمعت الاستاذ محمود محمد طه يقول عن عبد الرحمن علي طه أنه " كان صالحا و فالحا ".و في البداية ادهشتني قولة "الاستاذ" في حق عبدالرحمن علي طه و جرى في خاطري ان الاستاذ، لا بد، يقصد معنى مغاير لظاهر العبارة أو ربما فضـّل ـ و هو واقف على قبر الرجل ـ إحسانا في ذكر محاسن الموتى. ثم ترددت العبارة في نصّك ، " في خفة النمر و شراسته " ،[ هل تذكر "زد " كوستا غافراس ؟ ] فداخلني شيء من الشك في هذه القولة التي نسبتها أنت للأستاذ محمود، و أفسد علي هذا الأمر بهجة قراءتك ـ و في قراءتك بهجة ـ و قلت في نفسي لا بد أن أُذْنك قد التقطت هذا في لحظة من لحظات إختلال السمع . و اختلال السمع ـ مثل اختلال النظر و اختلال الذوق واختلال الشم و اختلال اللمس و اختلال الذاكرة ـ بعض من مخاطرة الإدراك الحسي لا ينجو منه بشر. ذلك لأني اصنف نفسي بين من يعتقدون [ شايف الدين؟] بأن الاستاذ محمود شخص لا ينطق عن الهوى.[ اللهم إلا في الحالات النادرة ، مثل هذه الحالة التي تتداخل فيها موجات الهوى العائلي و الحنين الشخصي مع ملابسات العمل العام ] .أقول قولي هذا و استغفر الله لي و لك و للأستاذ محمود ، لأن الاستاذ محمود ، الذي لا بد أنه يعرف عبد الرحمن على طه معرفة حميمة اساسها عشرة الدم و الفكر و الهم العام، جاد عليه ـ حسب شهادتك ـ بصفتي الفلاح و الصلاح . و قد بدا لي هذا الإطراء مشاترا نوعا كونه صدر عن الاستاذ محمود الرجل المسالم عن قناعة و الذي لم يتردد ـ حين طفح الكيل ـ في رفع عصاه [ " بسطونته "] في وجه بعض الصحفيين الناطقين باسم الإدارة الاستعمارية على أيام النضال ضد الإستعمار. و حادثة " بسطونة الأستاذ " قرينة قيمة في حساب الحساسية الوطنية العالية للأستاذ محمود. و أنا أذكر كل هذا لأني رأيتك تصر على تلخيص حركة النضال الوطني من أجل الإستقلال داخل فئتي " المستقيمين " و " الملتوين "، بينما كان واقع "التيار الإستقلالي " في تلك الفترة ينطوي على قدر من التركيب الذي لا يمكن لمراقب حصيف تجاهله .ففي مواجهة الإستقلاليين من التاج البريطاني كان هناك فريق الإستقلاليين من التاج المصري لكن هذا الإستقطاب القوي لم يمنع ظهور" الإستقلاليين من منازلهم " الذين ناضلوا من أجل استقلال السودانيين من كل تاج، و في طليعتهم هذا "المسـّاح " المشاكس الذي كان اسمه في ذلك الزمان محمود محمد طه ، حافية من لقب الأستاذية.
ما الذي جعل الاستاذ محمود يجود بصفتي الفلاح و الصلاح لرجل اختار ان يكونا ظلا لعود في عوج عود عبد الرحمن المهدي؟
ذلك ان محمود محمد طه لا يمكن ان يجهل ان اختيار عبد الرحمن علي طه العمل لجانب "السير" عبد الرحمن المهدي في ايام النضال من اجل استقلال البلاد يمثل ،على الاقل ، خطوة طوعية في ما سميته أنت بـ" نزف العقول الداخلي " ، ناهيك عن الثقل الفكري النوعي الذي يحمله مثقف من وزن عبد الرحمن علي طه لمعسكر خصم سياسي من وزن عبدالرحمن المهدي الذي يمثل كأقوى تجسيد للطائفية في السودان.و أنت أدرى بالأدب النقدي الذي جادت به حركة الجمهوريين تجاه مثالب الطائفية في السودان.
و قد تعجبت من تقويمك لسعي عبد الرحمن المهدي لإستقطاب عبد الرحمن علي طه في عبارتك " و ما من شك ان سعي السيد عبد الرحمن المهدي لإستقطاب الأستاذ عبد الرحمن علي طه قد كان سعيا موفقا جدا ". و فكرة التوفيق هنا محيرة لأن توفيق عبد الرحمن المهدي يدعم موقفه ضد خصومه الطبقيين من تلك القطاعات الواسعة من الرعاة و المزارعين الفقراء الذين غرر بهم رجل الأعمال الذي عرف كيف يستثمر الميراث الرمزي لوالده" المهدي" بمباركة السلطات الإستعمارية حتى تمكن من مسخ انصار الإمام المهدي لمجرد عمال زراعيين لا أكثر.
ترى ما الذي حفز رجلا في ذكاء و وطنية عبد الرحمن علي طه على التحالف مع هذا الزعيم الطائفي الموالي للبريطانيين في عام 1943 ؟ و أنا أتساءل لأني تعجبت ايضا من تفسيرك لقبول عبد الرحمن علي طه التعاون مع عبد الرحمن المهدي لمجرد ان " السيد" زاره في بيته!فقد كتبت أنت:
فليس من السهل ان يأتيك شخصا في مقام السيد عبد الرحمن المهدي في بيتك خاطبا ودّك و تعاونك ثم تتأبّى عليه" فكأنك تلخـّص مجمل التعقيدات السياسية و الوجودية لمثقف في ذكاء عبد الرحمن علي طه لمسلك في بساطة واجب الضيافة. و إذا كانت التحالفات السياسية تبرم بمنطق المجاملات السودانية فلماذا لم يذهب عبد الرحمن المهدي لزيارة محمود محمد طه في منزله لإستقطابه كما فعل مع عبد الرحمن علي طه ؟ وعبد الرحمن المهدي بهذه الطريقة لم يكن يحتاج لأكثر من زيارة كل الفرقاء السياسيين في بيوتهم و استقطابهم و السلام. لكن عبد الرحمن المهدي سياسي " واقع من السما سبعة مرات " ـ كما تعبر بلاغة الأهالي، و هو ما كان ليخاطر بالسعي لإستمالة عبد الرحمن علي طه لو كان الشك يراوده في إحتمال ان يرفض عبد الرحمن علي طه عرض الإستمالة .و عبد الرحمن المهدي يعرف كيف ينظم الأجندة السياسية لزياراته و مجاملاته الإجتماعية ضمن هذه المكيدة البالغة الإلتواء التي أسميها تأسيس النسخة السودانية لحداثة رأس المال. و لإنعاش الذاكرة في خصوص عوج عود عبد الرحمن المهدي الذي لم يكن خافيا على أحد ، ناهيك عن عبد الرحمن علي طه ، اقتطف لك هذا المقطع من نصي " حداثة الغبش" الذي سبق نشره في هذا الرابط:
https://www.sudan-forall.org/forum/viewt ... 7c3dce2e37


اختراع الفولكلور

و هكذا كتب على السيد عبد الرحمن أن يؤسس لظهور مهدية جديدة " نيو ـ مهدية " فحواها تدجين الوحش المهدوي الجريح ، و اقناعه بالتحول عن الجهاد و الامتثال لمنطق حداثة رأس المال ، فيصبح أنصار المهدي مجرد طائفة دينية مثل غيرها من الطوائف المسالمة التي تؤطّر الوجود الديني للمسلمين تحت رقابة السلطات الاستعمارية.
و حين قال عبد الرحمن المهدي [ في مذكراته ] :
" كنت أعتقد أن واجبي يحتم عليّ أن أحافظ على تراث المهدية حتى لا تذهب تلك الصفحة المشرقة من تاريخ بلادنا هباءا " ، حين كتب عبد الرحمن المهدي هذه الكلمة الخطيرة ، فهو قد أكمل بها خروجه الناجز من البنية الآيديولوجية للمهدية المقاتلة، و بقي منها على مسافة نقدية تمكنه من التأمّل في الحقيقة المهدوية من على البعد و تحويلها لمادة تراثية و لتاريخ بائد جدير بالحفظ و بمساعي البر الاحيائي.و هكذا يفتتح السيد عبد الرحمن الفصل الاول من تقليد حفظ و احياء التراث في السودان قبل عقود من ظهور " مصلحة الثقافة" في السودان. ويقول : " كان من رايي أن يجتمع الانصار في جهة واحدة تتيح لهم تدارس شؤون دينهم فتعمر نفوسهم بالدين و تتوحد كلمتهم بالعقيدة حتى لا يخبو ذلك النور اللألاء و حتى لا يندثر تراث المهدية العظيم.". بيد أن الانصار الذين كانوا يبذلون قوة عملهم في مطلع القرن العشرين لتعمير و زراعة الاراضي المسجلة للسيد
عبد الرحمن لم يكونوا على نفس المسافة من الفكرة المهدية بما يمكنهم من التأمّل فيها كــ " فولكلور ".بل كانت الفكرة المهدية بالنسبة لهم واقعا يوميا يباشرونه تحت شروط بيعة جددوها لابن الامام المهدي و خاطرهم حافل برؤى الاستشهاد.
و مع ملابسات نطور العلاقة بين الراعي و الرعية من جهة، و بين الراعي و سلطات الحداثة الاستعمارية ، من جهة أخرى،انمسخت الرابطة بين " الامام " و " الانصار " الى نوع علاقة عمل بين " العمال " و " صاحب العمل". ويقول عبد الرحمن المهدي أن سلطات الحكومة الاستعمارية " منعت استخدام كلمتي {الأنصار و المهاجرين } و هي تسمية أطلقها الامام المهدي على أصحابه تيمنا بأصحاب النبي عليه الصلاة و السلام فاستبدلت أنا الاسمين بـ { الأصحاب و العمال} "( ص 47).
و سرعان ما أدّت علاقة العمل الحديث المفخّخ بالبيعة و احياء التراث بـ " الانصار/العمال" الى الانخراط النهائي في منطق علاقات الانتاج الحديث على مرجعية العمالة الزراعية في مشروع الجزيرة. ترى هل كانت " الألوف التي تركت ديارها و أهلها و مالها " لتلتحق بالسيد عبدالرحمن في الجزيرة أبا لو كان وعده يقتصر على مسخهم لمجرد عمال زراعيين في أراض لايمتلكونها؟. يقول السيد في مذكراته التي تمثل سجلا قيما لتاريخ صراع الطبقات في السودان:" ان علاقة الدائرة مع عمالها دائما تقوم على أسس أبوية محضة، حيث ألتزم أنا بسد حاجات العمال بغض النظر عن انتاجهم، فتعطي الدائرة للعامل المشتغل و العاجز ما يكفيهما من غذاء و كساء و ضروريات أخرى. و رأيت أن أغيّر هذا النظام في السنوات الاخيرة و أن أعطي العامل المشتغل في الحواشة 40 في المئة على أساس مشروع الجزيرة، و هذا النظام الجديد يكلف الدائرة أقل من النظام السابق حسب دفاتر الحسابات.." ( ص 58).
و هكذا يملك انتباه السيد عبد الرحمن لعواقب " النظام الجديد" على صعيد " دفتر الحسابات" أن يُقرأ كوجه من وجوه التغرير الأخلاقي برجال و نساء كانوا يعتبرون أنفسهم " أنصارا"و " مهاجرين " في الوقت الذي كان فيه الامام يعتبرهم " عمالا " زراعيين، و ذلك لكون انصراف" الراعي " عن خيار " قص الرقبة " لم يكن لتأسيس يوتوبيا مهدوية أساسها القسمة العادلة بينه و بين أفراد الرعية،و لكن لبناء " دائرة " من المكاسب الدنيوية الشخصية هو مركزها المادي و ...الروحي.
بيد أن ملابسات انمساخ الأنصار لعمال زراعيين و تحوّل الامام لصاحب أرض أعقد من أن تقرأ بهذه البساطة الـ" طبقية". فهذا الراعي الخارج من رحم الهزيمة كان واعيا بطبيعة دوره و عازما على القيام به كما ينبغي، و قد استغل رصيد " الأبوّة " في خاطر " أبناءه" لتقعيد النسخة السودانية لحداثة رأس المال من واقع قوامته الروحية و المادية. و هي حداثة تتميز بكون مبتدأها في علاقات الانتاج الشرقية الأبوية ممثلة في صورة الأب الذي يلتزم " بسد حاجات العمال بغض النظر عن انتاجهم" ، و منتهاها في تناقض علاقات الانتاج الجديدة بين العمل و رأس المال" على أساس مشروع الجزيرة. و تقعيد علاقات الحداثة الرأسمالية وسط جموع الأنصار، الذين كانوا يشكلون رأس رمح أي انتفاضة وطنية تستلهم النموذج الجهادي المهدوي، ما كان له أن يتم بهذا اليسر لو لم تتضامن عليه جهود السيد عبد الرحمن و جهود السلطات الاستعمارية.فمن جهته ، بذل السيد ما وسعه لتأطير جموع الأنصار و تغيير وضعيتهم المادية و الروحية بسبيل تقبّل الحداثة كأمر واقع و تجنّب المواجهة الدموية التي كان يراها خاسرة.و من جهتها ، بذلت السلطات الاستعمارية جهدها في دعم السيد عبد الرحمن لانجاز مهمته التاريخية المتمثلة في الحاق رعيته بالحداثة الرأسمالية، بل و لانجاز مهام سياسية أخرى لصالح البريطانيين ضمن نزاعهم مع مصر ، الشريك الاضعف في الحكم الثنائي.و قد أحصى جعفر بخيت في كتابه " الادارة البريطانية و الحركة القومية في السودان.."(1972) ، بعضا من مساعي الادارة الاستعمارية لدعم السيد عبد الرحمن " على أن يكون رجلا من رجال المال و الاقطاع ، و أحد بناة الاقتصاد الوطني السوداني، و ذلك لكي ينصرف عن قيادة الانصار قيادة مناوئة أو معادية ".." فمنذ عام 1919 كان السيد عبد الرحمن يُخص بالأفضلية في التعاقد مع الحكومة بالنسبة لبعض متطلبات خزان سنار و توريد الوقود لبواخر الحكومة. و قد أعطي قرضا قدره 4500 جنيه في عام 1926 ثم تنازلت له عنه الحكومة بادعاء أن ما استلم كان هبة منها له، و ذلك لكي يقوم ببدء الزراعة في جزيرة أبا. و فضلا عن ذلك فقد اتخذته الحكومة شريكا لها في مشروع قوندال لزراعة القطن بمديرية النيل الأزرق. و منح بعض الأراضي الحكومية في كل من أمدرمان و الخرطوم حيث شيد المنازل و الدكاكين.و من ثم أضحى أحد كبار الملاك بالعاصمة المثلثة.و كانت الحكومة تميل الى جانب اللين معه لدى تقدير الضرائب على أرباحه. و على هذا امتزج نفوذه الديني و السياسي بنفوذه القبلي و المالي ".." و كان المهاجرون من سكان منطقته المؤيدين للمهدية {الأنصار} اما أن يقوموا بالعمل لصالحه أو يدفعوا له نسبة اثنين و خمسة بالمئة من دخولهم كزكاة أو صدقة .." (ص 124 و 125 ). "

النور يا صديقي، أنا لا أنكر ان عبد الرحمن علي طه [ مثل كثيرين غيره من رواد الحداثة السودانية ] شخصية تستحق الدراسة و التحليل، كونه كان ضالعا بعمق في جملة الأحداث التي تمخضت عن صورة المشهد السياسي السوداني الحديث. و أظن ان علاقته بعبد الرحمن المهدي تستحق أن نعالجها من مسافة نقدية ابعد من مجرد تأجيج العواطف السياسية للسودانيين ضد فزّاعات المشهد السياسي الراهن. و من يدري فربما وجدنا في علاقة العبدرحمانين مفاتيح فهم دور المثقفين السودانيين في فضاء العمل العام السياسي.
سأعود ، ربما..
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

شكرا يا حسن موسى على المداخلة
المسافة النقدية التي تحكي عنها لا تجعل عود السيد عبد الرحمن المهدي
عودا أعوجا بالضرورة، فيصبح من ثم ظله (عبد الرحمن علي طه)
ظلا أعوجا. الموضوح "حساب" وليس "كوار"!!
بعدين أنا أقول ليك سمعت تقول لي إمكن سمعت غلط؟
أنا ما سمعت براي كانوا معاي ناس كتيرين وما قالوا لي سمعت غلط!!
سأعود للتفصيل حين أجد متسعا من الوقت
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
يوسف ادريس
مشاركات: 12
اشترك في: السبت سبتمبر 24, 2016 4:00 pm

عبد الرحمن علي طه: كيف أقصي الملتوون المستقيمين؟! (1)

مشاركة بواسطة يوسف ادريس »

مستر يودال ( مابين التعليم والسياسة )
ظل مستر" يودال " عميدا لكلية غردون حتي عام 1930 ،ولكن كثيرين لايعلمون أن للرجل بصماته الكثيرة والمؤثرة في تاريخ السودان الحديث، منذ الفتح،والتفكير في تأسيس نظام تعليمي ،كما تخيله الانجليز ،يخدم التنمية بمنظورهم، والي الان.
(1)
نبدأ بتقرير المستر " اسكوت " عام 1930،والذي بناء علي توصياته قامت " بخت الرضا "،تحت ادارة مستر "جريفث" و "عبد الرحمن علي طه"،عام 1934.
لكن ماذا فعل الرجل قبل هذا التاريخ؟
كانت له نظرة إيجابية تجاه التعليم المدني الحديث، في مقابل التعليم الديني(المعاهد الدينية)،وهي توجهات السياسة الحكومية في ذلك الوقت.حتي ان خريجي " غردون التذكارية " كان لهم التفضيل في التعيين والراتب الأعلى مقارنة بخريجي"معهد أم درمان العلمي "(الديني).وعندما عاب خريجي " معهد أم درمان العلمي "،علي طلاب كلية " غردون التذكارية " وقبولهم التعلم في مدرسة "المبشر" الأمريكية في أم درمان ،كما كانت تروج الاغنية الوطنية ذائعة الصيت لشاعرها " يوسف مصطفى التني " التي تقول بعض أبياتها :
بديني أفخر وأبشّر
ما بهاب الموت المكشر
وما بخش مدرسة المبشر

وقد تظاهر طلاب " المعهد العلمي " وعيروهم ،بذكر مستر "يودال "، ضمن الهتافات.
وفي قصيدة واضحة البذاءة ،يهجو الشاعر(حسين منصور)صاحب ديوان (الشاطئ الصخري)،طلاب الكلية التي سيكونون النخبة التي تقود البلاد نحو الاستقلال يقول:
يسمونها كلية وحقيقة جمعت كل الضلالة والهلس
ينمي علي ماء الرجال نباتها وإن أكرموهم فالغذاء من العدس
تظن بهم خيرا وعجب هزرهم فان زرتهم ماسوا باذرعة ملس
ومدوا شفاها ادميت من ترشف وقالا بلا خوف لطالبهم هيس
هم النفر الانجاس من غرس"يودل"واخوانه من ذلك الصنف والجنس
(2)
ما يهمني هنا هي علاقة مستر " يودال " بالسيد "عبد الرحمن المهدي " ،وهو الذي أوصي الحكومة البريطانية ،بان تعير الرجل اهتماما وتدعمه ماليا ،لتصبح طائفة "الانصار" متساوية مع الطائفة الميرغنية (راجع كتاب حسن محمد إبراهيم " ،عن السيد "عبد الرحمن المهدي- المهدية الجديدة في السودان 1899-1956).وظلت علاقته بالسيد " عبد الرحمن المهدي" مستمرة ، حتى بعد تركه السودان عام 1930،وكانت هناك مراسلات بينهما. حتي عينه مستشاراً سياسياً وشخصياً له عام 1940،وظل مستشارا له حتي وفاته. وظل هو يخاطب الحكومة ويطرح آراؤه رغم تركه خدمة حكومة السودان.
واظنه هو الذي رشح له من يتعين الاستعانة بهم من طلابه النجباء.
(3)
قامت "بخت الرضا" ودارت الأيام، وذهب " عبد الرحمن علي طه "،ليكون من المقربين للسيد "عبد الرحمن المهدي " ،
لكن ما الذي حدث وراءه في المعهد؟؟
قال محدثي وهو التفكير في إنشاء " معهد التربية بالدلنج "، باعتباره المعهد الثاني لتدريب المدرسين، وكان ذلك في عام 1946. كان في تلك الفترة صراع بين مجموعتين تحملان اتجاهين مختلفين، هو أسماها لي:
"مجموعة ناس رفاعة "ومجموعة " القادمين من الشمال" ، تجاه الرؤى في كيف يكون التدريب والمناهج وطرق التدريس ؟ .وذكر لي أن من كان يمثل تيار الاستنارة والتوجه الذي يمثل القادمين من الشمال هو المربي الأستاذ " محمد حسن عبد الله "،والذي كان يشغل وظيفة وكيل لوزارة التربية والتعليم ، في الفترة التي كان فيها اللواء " طلعت فريد" وزيرا للتربية والتعليم،والذي في عهده تم انشاء مدارس عديدة لكل المراحل ،خاصة المرحلة الثانوية.
وأعتقد ان "مجموعة ناس رفاعة" قد انتصرت بالسيطرة علي " بخت الرضا "،وتغلبت رؤاها للتعليم. و يلاحظ أن خريجي "بخت الرضا " تسللوا للخدمة المدنية، تاركين قلة هي التي استمرت في المجال.
(3)
مرفق سيرة مستر " يودال ":
1.Udal, Nicholas Robin
(1883 - 1964)

1906-1915 Inspector, Education Department, including Sennar Province and Khartoum; House Tutor, Gordon College
1914-1918 War service: Political officer for H.M.S. Dufferin on patrol duty in the Mediterranean, 1915 ; press censor on the Egypt/Sudan frontier; acting A.D.C. to General Sir F.R. Wingate in Cairo, 1916-1918
1915-1918 Chief Inspector of Education, Blue Nile and Kordofan
1918-1930 Assistant Director of Education
1927-1930
Warden of Gordon College

2.HASSAN MOHAMED HBRAHIM,AL SAYED ABDEL RAHMAN AL MAHDY:A Study of Neo-Mahdism in the Sudan(1899-1956).Brill Academic Publishers 2004.

يوسف إدريس
28 أبريل 2017
.
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

إلى العلا
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

أدناه مقال مترجم بوساطة بروفيسور بدر الدين الهاشمي
وهي توضح صورة من قدرات عبد الرحمن المهدي السياسي:

*
عرض لكتاب حسن أحمد إبراهيم " السيد عبد الرحمن المهدي: دراسة في المهدية الجديدة بالسودان، 1899 - 1956" .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نشر بتاريخ: 25 تشرين2/نوفمبر 2016
عرض لكتاب حسن أحمد إبراهيم " السيد عبد الرحمن المهدي: دراسة في المهدية الجديدة بالسودان، 1899 - 1956"
H. A. Ibrahim, Sayyid Abd –al Rahman al – Mahdi: A Study of Neo – Mahdism in the Sudan
Heather Sharkey هيزر شاركي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لعرض كتاب البروفيسور حسن أحمد إبراهيم "السيد عبد الرحمن المهدي: دراسة في المهدية الجديدة بالسودان، 1899 - 1956"، الذي نشرته دار نشر بريل بهولندا في عام 2004م. ونشر هذا العرض عام 2006م في العدد الثامن والثلاثين من المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط International Journal of Middle East Studies.

ويعمل البروفيسور حسن أحمد إبراهيم أستاذا بالجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، بينما تعمل الدكتورة هيزر شاركي أستاذة مشاركة في جامعة بنسلفانيا، متخصصة في تاريخ ولغات وحضارات الشرق الأوسط والأدنى. وقد نشرت عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر كنت قد عرضت من قبل لبعضها مثل كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر" و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر" و"تاريخ الصحافة العربية في السودان".
المترجم
**********

سيدرك القارئ منذ الوهلة الأولى أن هذا الكتاب "السيد عبد الرحمن المهدي: دراسة في المهدية الجديدة بالسودان" يتناول سيرة ذاتية وتاريخا سياسيا. ويركز هذا الكتاب على السيرة المهنية (career) لابن مهدي السودان، السيد عبد الرحمن المهدي (1885 – 1959م)، الذي ولد بعد وفاة والده، والذي لقي معارضة عنيفة من المعارضة البريطانية في البدايات الباكرة للحكم البريطاني – المصري (1898 – 1956م) وتحملها، ثم جمع ثروة ضخمة واتباعا كثر، وظهر بحسبانه قوة قائدة رعت وعضدت من السياسة الوطنية السودانية. وكان السيد عبد الرحمن المهدي هو مهندس ما أطلقت عليه السلطات البريطانية الاستعمارية "المهدية الجديدة"، التي هي حركة تمتد جذورها إلى العقيدة المهدوية (أي الإيمان بتعاليم محمد أحمد المهدي)، إلا أنها سارت في درب يتجه نحو السلمية والعملية، وغدت خليطا من "الطريقة الصوفية" و"المنبر السياسي".

وكيفت "المهدية الجديدة" نفسها في بدايات القرن العشرين على حقائق ووقائع الحكم الاستعماري، وشرعت بالتدرج في صياغة رؤية للوطنية السودانية تقوم على أساس فكرة "السودان" بحسبانه منطقة مستقلة ثقافيا جديرة بنيل الاستقلال السياسي من بريطانيا ومن مصر المجاورة أيضا (لا بد هنا من تذكر أن والد السيد / عبد الرحمن كان قد أعلن الجهاد على حكم نظام استعماري سابق حكم أجزاء (واسعة) من السودان بعد أن غزاه في 1820م حتى قيام الثورة المهدية في بدايات ثمانينيات القرن التاسع عشر). وقادت جماعة من نخبة رجال الطبقة المتعلمة المتحدثة باللغة العربية في شمال السودان الجناح الوطني في "المهدية الجديدة" للمناداة بشعار "السودان للسودانيين". ووقفت تلك الجماعة بعيدا عن (وفي مواجهة) جماعة أخرى من صفوة المتعلمين كانت تنادي بـ "وحدة وادي النيل"، ويقصدون بذلك الشعار علاقة ارتباط أقوى مع مصر. وأنشأ السيد / عبد الرحمن في عام 1945م حزب الأمة، وهو أهم مظهر للمهدية الجديدة التي بقيت قوة سياسية في فترة ما بعد الاستعمار تحت قيادة (السيد) الصادق المهدي، حفيد السيد/ عبد الرحمن.
وهذا الكتاب الذي نحن بصدده هو تجميع لمقالات نشرها المؤلف في غضون ثلاثين سنة في دوريات مختلفة منها "السودان في رسائل ومدونات SNR "، و"المجلة الدولية للدراسات الإفريقية التاريخية The International Journal of African Historical Studies" و"دراسات الشرق الأوسط Middle Eastern Studies"، وهو بهذا يعد خلاصة أعمال بحثية تراكمية، محكمة وثاقبة، اعتمدت في مصادرها على طيف واسع من الوثائق والمذكرات والكتابات في الصحف والمجلات العربية والإنجليزية، إضافة إلى المقابلات الشخصية. وكان اعتماد المؤلف في مقالاته المحكمة على مصدرين أساسين: دار الوثائق بالخرطوم، التي تحتوي على أوراق يرجع تاريخها إلى العهد البريطاني - المصري– ومكتب السجلات العامة في لندن، التي تحتوي على أوراق وزارة الخارجية البريطانية المتعلقة بالسودان. وهنالك قليل جدا من المؤرخين الذين استفادوا من وثائق وأوراق دار الوثائق بالخرطوم مثلما فعل حسن أحمد إبراهيم. وهو بهذا الاعتماد على تلك الوثائق الأصلية يضاعف من قيمة دراساته في تاريخ المهدية الجديدة.

غير أن ما يعيب الكتاب هو ما اِعْتَراهُ من بعض الأخطاء الطباعية والنحوية في اللغة الإنجليزية وفي نسخ لغة بعض العبارات العربية بحروف لغة أخرى (transliteration). ولابد هنا من الإشادة بدار بريل للنشر لتبنيها نشر سلسلة من الكتب تحت عنوان "الإسلام في أفريقيا"، والذي كان هذا الكتاب الذي نحن بصدده أحد أجزائه. غير أن دار بريل يلزمها أن تكون أكثر حرصا وتدقيقا في تحرير ومراجعة ما تنشره من كتب، إذ أن مثل تلك الأخطاء والهنات تنعكس سلبا على الناشر أكثر مما تنعكس على الكاتب.
لا شك أن هذا الكتاب الغني بالتفاصيل سيكون مفيدا جدا لمن لهم معرفة جيدة بتاريخ السودان الحديث. غير أن الذين ليس لهم معرفة حسنة بتاريخ شمال السودان في بواكير سنوات القرن العشرين قد يلزمهم أن يطلعوا (أولا) على كتب أخرى مثل تلك التي ألفها م. دالي وجبريل واربورغ (زميل حسن أحمد إبراهيم، إذ كانا معا تحت إشراف البروفيسور هولت في جامعة لندن. المترجم).

وسيلاحظ القارئ في مقاربة المؤلف لتاريخ السيد / عبد الرحمن على الفور بعض المداهنة والتملق (adulation) الذي يتعدى حدود الإعجاب (admiration)، فهو يصف السيد / عبد الرحمن بأنه "رائد حركة استقلال السودان في القرن العشرين، وراعيها وحارسها" وأنه "رجل عصامي" و"صاحب رؤية مستقبلية" وهو الرجل الذي كان بإمكانه إنقاذ السودان بُعَيدَ استقلاله من كثير مما حاق به من محن إن عاش بأطول مما عاش، أو لو كانت الصفوة السياسية في السودان قد حذت حذوه. ولعل كل من قرأ سيرة حياة السيد / عبد الرحمن سيتفهم الأسباب التي جعلت الكاتب يبدي كل ذلك الإعجاب بشخصية الرجل. ويشهد كثير من البريطانيين والبريطانيات الذين التقوا بالسيد / عبد الرحمن في السنوات الأخيرة للحكم الثنائي بأنه رجل ودود وكريم وصاحب ذكاء وفطنة، وفوق كل ذلك فللرجل كاريزما وجاذبية خاصة (panache). وفي المقابل، فإن آراء السودانيين في السيد / عبد الرحمن كانت تعتمد على الولاءات والانتماءات الطائفية.
وعلى الرغم من أن الكاتب يتناول في بعض المواضع أمر القواعد الشعبية لحركة المهدية الجديدة (خاصة في الطريقة التي كان يهب بها كثير من بسطاء أنصار المهدية قيمة عملهم في الأعمال الزراعية التي كون منها السيد/ عبد الرحمن ثرواته)، إلا أنه يركز أساسا على السيد عبد الرحمن نفسه وعلى صفوة الطبقة المتعلمة، وتفاعلهم مع السلطات البريطانية. وبهذا فإن الكتاب يصف تاريخ الوطنية وصفوة متعلمي السودان ومواجهتهم للاستعمار.

ولا ريب عندي أن المؤلف كان يضع في ذهنه أنظمة الحكم في السودان بعد عام 1983م (أي بعد تطبيق أحكام الشريعة في السودان. المترجم) وهو يشيد بالسيد عبد الرحمن كمثال للإسلام العقلاني/ المعتدل/ الوسطي، والمهموم بالقضايا الاجتماعية، وكرجل مسلم عملي، ليس بمتطرف.
ويقترح المؤلف على المسلمين في السودان وغيره من البلدان أن يتعلموا من السيد / عبد الرحمن أن "يتأملوا في تراثهم التاريخي بتفكر وعقل ناقد، دون أن يفرطوا في تحمل أثقاله"(صفحة 240).
لقد أفلح المؤلف بالفعل في تقديم طرح مقنع عن أهمية السيد / عبد الرحمن المهدي في التاريخ السياسي السوداني، وفي توضيحه أن حركة المهدية الجديدة استمدت الكثير من ثاقب تفكره وبصيرته في المجتمع السوداني المسلم، ومن موروثات والده، المهدي.

https://www.sudanile.com/index.php/منبر-الرأي/135-6-9-7-6-0-3-2/95776-عرض-لكتاب-حسن-أحمد-إبراهيم-السيد-عبد-الرحمن-المهدي-دراسة-في-المهدية-الجديدة-بالسودان،-1899-1956-ترجمة-بدر-الدين-حامد-الهاشمي


*
أضف رد جديد