عبد السلام نورالدين ومحمد جلال هاشم وتبيدة شوكاي في ندوة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
صدقي كبلو
مشاركات: 408
اشترك في: الأربعاء مايو 11, 2005 9:02 pm

عبد السلام نورالدين ومحمد جلال هاشم وتبيدة شوكاي في ندوة

مشاركة بواسطة صدقي كبلو »

عبد السلام نورالدين ومحمد جلال هاشم وتبيدة شوكاي في ندوة بيرمنجهام
سيتحدث في ندوة بيرمنجهام عن ديمقراطية الثقافة كل من:
الدكتورعبدالسلام نور الدين المحاضر بجامعة ليدز والناشط في حقوق الإنسان
والأستاذ الباحث محمد جلال هاشم
والدكتورة تبيدة شوكاي أستاذة التمريض والناشطة في الدفاع عن قضايا جبال النوبة
وذلك ضمن برنامج
جماعة الثقافة السودانية
المهرجان الثقافي الثاني
تحت شعار:
ديمقراطية الثقافة
السبت 27/8/2005
الساعة الواحدة بعد الظهر وحتى العاشرة والنصف مساء
ستيرشلي كميونتي سنتر
Stirchley Community Centre
Preshore Rd (A441) Birmingham
بيرمنجهام
ندوة فكرية، قراءات شعرية، فنون شعبية ، موسيقى وأغاني
الدعوة مفتوحة
من نيو ستريت بصات 45/47
من ال M42
من Junction 2خذ ال 441
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

تحيا الآيديولوجيا


"المُلاح كان ما نجض يرجع النار"،
هذه القولة سمعتها من أمي و هي تتنبأ بانتكاس الديموقراطية الثالثة في نهاية 1988 .قالت المرأة الامية قولتها تلك و نحن في سوق أمدرمان و قد اضطرتنا مظاهرة عفوية من طلاب الثانويات الى الانتظار حتى يمر موكب المتظاهرين. و قد كان مقصدها أن التجربة الديموقراطية في خاطر السودانيين لم تبلغ من النضج ما يعصمها من العودة للنار. و لم تكن أمي تدري شيئا عن هول النار التي تنتظر السودانيين في جحيم الاسلاميين الذين أشعلوا الحرائق في البيت السوداني باسم الدين، بلا جدوى، و هم اليوم يفاوضون " آخر ايدهم"، تحت وصاية الخبراء الأمريكان، على منطق" الدين تلتة و لا كتلته"، بل و فيهم من زهد في" تلت "الدين قانعا من الغنيمة بـ " شلية/بيزنيس" تافهة لا تسمن و لا تغني عن جوع، بينما ملاح الديموقراطية السوداني ما زال على حاله ينتظر العودة الى النار النافعة.
خطرت لي دلالات قولة أمي و أنا أقرأ اعلان جماعة الثقافة السودانية عن أمسيتها المكرسة لموضوع ثقافة الديموقراطية و ديموقراطية الثقافة.و كنت أتوقع من الاصدقاء الذين نظموا المناقشة أن ينعموا علينا بشيء من الادب الذي لابد أنهم عالجوه في تلك الامسية البريطانية البعيدة عسى أن ينوبهم أجر المناولة في هذا الموضوع الجليل الذي يهمنا جميعا في هذا الوقت من عمر التجربة السياسية السودانية.و على كل حال فأملي كبير أن الاصدقاء الذين حضروا هذا النقاش و الذين ساهموا فيه سيتولون نشر المناقشة التي شغلتهم في تلك الامسية على الملأ فتعم الفائدة.
لقد دفع السودانيون غاليا ثمن قصور قادة الرأي السياسي عن الانتباه النقدي لمشكلات الواقع السياسي السوداني، بما فيها مشكلات طاقم القيادة السياسية السودانية نفسها . والسودانيون يدفعون اليوم ثمن الجهل بواقع البلاد من قبل غالبية القادة السياسيين الذين تعودوا على ارتجال التدبير السياسي بفقر مدقع في الفكر و بضيق مقذع في الخيال السياسي وبحظ مبدع في الالتواء الاخلاقي.
قلت أن المشروع الديموقراطي السوداني ما يزال ينتظر الرجوع الى ما أسميته بـ "النار النافعة" حتى ينضج و يمكن أهل السودان من تفتيح طاقاتهم الابداعية على آفاق شراكة عادلة حقيقية لمجمل السلطات و الثروات المادية و المعنوية المتكنزة في الثنايا التاريخية و الجغرافية للمجتمع السوداني .
و حين أقول " المشروع الديموقراطي السوداني" فأنا لا اتحدث عن مشروع خيالي أنوي طرحه لأهل السودان، و انما أتحدث عن مشروع حقيقي قيد التنفيذ بفضل مساهمات أجيال من الديموقراطيين السودانيين الذين فهموا، منذ عقود طويلة، حقيقة التضامن العضوي بين مطالب الديموقراطية و الوحدة الوطنية و التنمية الاجتماعية و السلام، وذلك في معنى أن لا تنمية بدون وحدة وطنية حقيقية، و لا وحدة وطنية بدون سلام، ولا سلام بدون ديموقراطية. و اذا كان أنصار الديموقراطية يتعلمون فصول الدرس الديموقراطي من واقع كفاحهم لتجذيرالممارسة الديموقراطية في تقاليد الحياة الاجتماعية للناس، و لتخليس الفكرة الديموقراطية الحديثة مع قيم المساواة و العدالة و التضامن في التقليد الموروث من المجتمع قبل الرأسمالي ، فان أعداء الديموقراطية بدورهم يتعلمون فصول الدرس الديموقراطي ـ و غصبا عنهم ـ بحكم أن واقع التعدد الثقافي و العرقي الذي يميز المجتمع السوداني يموضع الخيار الديموقراطي في موضع أحلى الأمرّين.
و لقد استغنى قادة الديكتاتورية العسكرية الاولى عن الديموقراطية وحاولوا مباشرة التنمية و صيانة الحرب في الجنوب فأوصلتهم هذه السياسة الى انتفاضة أكتوبر 1964 .و سعى قادة الديكتاتورية العسكرية الثانية الى مباشرة التنمية بانتباه لضرورة صيانة الوحدة الوطنية و احلال السلام في الجنوب بفضل اتفاقية اديس أبابا، لكنهم استغنوا عن الديموقراطية ، فانهارت خطط التنمية بفعل التخبط و الفساد تحت شرط غياب الرقابة الشعبية الديموقراطية.و في سنوات قليلة تحول السودان من الوضعية التنموية المتفائلة لـ "سلة غذاء العالم(العربي)" الى مجرد شعب من الجوعى ينتظرون هبات العون الغذائي العالمي.
و قد اقتضى الامر من قادة الديكتاتورية الثالثة الراهنة سنوات عجاف طوال من الحرب والعسف و الجوع و التخبط و الفساد، قبل أن يضطروا للتراجع عن مشروعهم الانتحاري و يعترفواـ على مضض ـ بكون الديموقراطية و الاعتراف بحقوق الآخرين أمور لا بد منها لضمان السلام ومباشرة التنمية.
و ان جاز أن الطغاة يخلصون في النهاية الى استيعاب درس الديموقراطية، فالمشكلة هي ان هذا النوع من الدروس ، رغم فداحة نفقاته المادية و المعنوية،يظل "مصيبة" كبيرة، معلقة فوق رؤوس السودانيين" بسبيبة" الوعي السياسي الواهية كلما عنّ لنفر من المتآمرين المسلحين سرقة السلطة من الشعب الاعزل. فما العمل؟
من مشهدي، على المدى القريب، (و بعد " مندري؟")، يبدو لي ، أن لا مخرج يجنب أهل السودان عواقب قلة حيلة تلاميذ مدرسة الديموقراطية المجبورين على القراية أم دق.لكن على المدى البعيد فان ما يمكن أن يجنبنا رزايا هذا النوع من تلاميذ مدرسة الديموقراطية السودانية يمكن تلخيصه بكلمة: الوعي.
اعني الوعي بكون الديموقراطية هي في آن وسيلة و غاية لضمان مجتمع العدل و السلام و التنمية.وأن الطريقة الوحيدة لحماية الديموقراطية بمزيد من الديموقراطية هي تحول غالبية أفراد المجتمع الى اعتناق الديموقراطية كآيديولوجيا ، تتجاوز الفضاء السياسي لتتخلل كافة فضاءات الممارسة الحياتية للسودانيين.و حين أبشر بضرورة اعتناق الديموقراطية كآيديولوجيا فأنا واع تماما ببعد الدين في عبارتيّ: " اعتناق" و " آيديولوجيا" اللتان تؤطران عبارة" الديموقراطية" ، الا أن الدين الذي أؤسس له كدعامة للديموقراطية زاهد في ثيولوجيا الايمان الموروثة من ديانات التوحيد.فالـ" ثيولوجيا" في معنى : علم الاعتقاد في الله، تهمني كتدبير ذهني قمين بتنظيم السلوك الاعتقادي العفوي الذي يملك أن يرتقي بمسلك الدفاع عن الديموقراطية الى مقام رد الفعل الغريزي لدى كل اصحاب المصلحة في استقرار الديموقراطية في مجتمعنا. و في هذا المنظور يبدو لي الموقف الثيولوجي، بوصفه وجه من وجوه التدبير الاجتماعي، سابق و مستعلي على فكرة الاله، على العكس من ما هو شائع في ثيولوجيات التوحيد السسماويات.بل أن منطق السلوك الثيولوجي هو في أصل اختراع مفهوم الاله نفسه، كضرورة تنظيم اجتماعي قبل كل ضرورة روحية أخرى، و في هذا المنظور ينطرح الاعتقاد الروحي كوجه من وجوه التدبير الاجتماعي.و تاريخ الاديان عامة يعكس تاريخ تطور ضرورات التنظيم المادي للمجتمعات المعنية. و اذا تأملنا في تجربتنا السودانية المعاصرة ضمن تداخل الثيولوجيا و التنظيم الاجتماعي ، فان تجربة استاذ نا محمود محمد طه تنطوي على دروس قيمة في صدد السعة التاريخية للمواعين الثيولوجية التقليدية للاسلام( أقول" استاذنا" و ضمير الجماعة يتجاوز حدود " الاخوان الجمهوريين" ليشمل جمهرة واسعة من التلاميذ غير النظاميين الذين تعلموا ـ من منازلهم ـ في مدرسة محمود محمد طه الكبيرة و هذا أمر يستحق عودة متأنية) .فقد انتبه الاستاذ محمود محمد طه ـ و من وقت مبكّر ـ الى ضرورة ثيولوجيا ثانية، أو قل:" رسالة ثانية" للاسلام تليق بانسانية القرن العشرين، بعد أن تيقن من جفاف و اند حار الثيولوجيا الاسلامية القديمة التي يدافع عنها الظلاميون و السلفيون والراسماليون و أعداء حقوق الانسان، كونهم وجدوا فيها ما يصون مصالحهم المادية الضيقة.وفداحة تجربة محمود محمد طه تكمن في كون تقويضه لثيولوجيا المسلمين السلفيين يفتح الباب واسعا أمام المبادرات الثيولوجية الجديدة من كل فج( بما فيها الفج الجمهوري بتنويعاته) لفتح دروب جديدة نحو المشروع الديموقراطي السوداني.و من هذه الثغرة التي تضامن محمود و السلفيون ـ كل بمنهجه ـ على فتحها في جدار الاسلام الموروث من القرن السابع تنفتح فرصة كبيرة أمام" أولاد المسلمين و بناتهم" في السودان لاعادة تأهيل المناقشة في المنفعة الاجتماعية للدين في السودان، و هي مناقشة ابتسرها الاسلاميون الاصوليون و ابتذلوها و بذّروا معانيها تبذيرا بسفههم السياسي و بقلة حيلتهم الفكرية و بالتواءهم الاخلاقي.أقول: من الثغرة التي فتحها محمود محمد طه ( بمعونة سياسات الاسلاميين الاصوليين) في جدار الثيولوجيا السلفية يمكن فتح بوابة كبيرة أمام أولاد المسلمين و بناتهم ( و أمام غيرهم من السودانيين غير المسلمين) للتضامن على استثمار البنية الدينية بما فيه خير أهل السودان قاطبة.و ذلك من خلال العمل على تعبئة المواعين الثيولوجية القديمة بقيم الديموقراطية و السلام.
هذا الطموح الجليل ، طموح اصلاح الثيولوجيا الاسلامية و اعادة تأهيل المجتمع السوداني العربسلامي بسبيل دفعه للمساهمة في تخليق مشروع العولمة الديموقراطية، هو في الحقيقة أحد المشاريع التاريخية التي تنتظر طليعة الطبقة الوسطى العربسلامية التي طالما أرّقها التطلع للمشاريع الجميلة المستحيلة من واقع تردداتهاو انقساماتها التاريخية بين أوهام العروبة و الافرقة و الحداثة و التقليد ، الدين و العلمنة الخ.
لقد طرح أيديولوجيو التمازج و الهجنة الثقافية ، من أبناء الطبقة الوسطى العربسلامية ، طرحوا مشروعهم على أساس العودة لليوتوبيا السنارية التي تتعايش أعراقها ، عربا و فونجا ، في سلام تمازجي تحت رعاية الدولة الاسلامية. و لتجاوز الحرج الظاهر الذي يجرهم اليه بعد الدين في اشكالية الشراكة التمازجية ليوتوبيا سنار ، اضطر السناريون الجدد ( الـ " نيو سناريون")، اضطروا للاستعانة بمفهوم " الاسلام السوداني" . و الاسلام السوداني مكيدة مفهومية جديدة على الخطاب السياسي السوداني نحته آيديولوجيو الهجنة العربسلامية الافريقية مع مطلع السبعينات، لتسويغ الدين الاسلامي كاطار أيديولوجي ليوتوبيا التمازج السودانوية.و جوهر مفهوم الاسلام السوداني هو أن البيئة الثقافية السودانية السابقة على الاسلام قد تعهدت الاسلام بالتنقيح و التعديل بشكل عفوي حتى أهلته للقبول الشعبي الواسع وسط السودانيين الذين جعلوا منه هذا الدين المتسامح المسالم القمين بقبول الاعتقادات المحلية السابقة على الاسلام و توليفها مع قيم الاسلام التقليدية ، مثلما هو قمين بالتصالح مع قيم المجتمع الرأسمالي الحديث.باختصار يمكن تلخيص الاسلام السوداني بكونه " عجينة ثيولوجية طيعة" في أيدي القيمين على أمور الدولة في السودان. و الاسلام السوداني في تحليل ما هو أحد مساعي اصلاح الثيولوجيا الاسلامية في السودان الا أنه ـ على خلاف مساعي الاصلاح الديني الاخرى كمساعي الأصوليين و مساعي الجمهوريين ـ اصلاح يستتر وراء قناع" الثقافة الشعبية" الذي يحمله مفكرون من صفوة الصفوة العربسلامية القابضة على مؤسسات السلطة في السودان.و قد تقدم ايديولوجيو التمازج السناري أمام دولتهم العربسلامية على درب الاسلام السوداني بخطوات ثابتة لا يراودهم شك في كونهم على الدرب الصحيح.كانت تلك أيام شعار " الوحدة الوطنية من خلال التعدد الثقافي" . لكن القوم نسوا أو تناسوا أن الشعار وحده لا يصنع اصلاحا. ذلك أن دولة الطبقة الوسطى العربسلامية كم كان يمثلها نظام النميري، ضمن اعادة ترتيب أولويات البقاء السياسي، اضطرت لتبديل الشعار المتسامح الذي يراعي قيم التعددية السياسية و التخلّس العرقي و الثقافي، بشعار آخر مناقض ، شعار الوحدة الآحادية الصمّاء التي تعتمد التخلّص من كل ما يشوب صفاء الحزب الواحد و الدين الواحد و اللغة الواحدة و العرق الواحد الخ. فكان أن تضعضع حلم الوحدة التمازجية الهش في زمن وجيز، و تراجع " الاسلام السوداني" بلا مقاومة أمام مزايدات الاسلام الاصولي الذي تقدم و احتل الساحة السياسية على أنه الاسلام الحقيقي .
و التضامن على صيانة الديموقراطية كآيديولوجيا في المعنى السياسي و في المعنى الوجودي لكلمة أيديولوجيا ، مشروع مركب لا يستغني بحال عن امكانات الطبقة لوسطى العربسلامية ، لكنه لن يتحقق اذا ما انفردت بتحقيقه الطبقة الوسطى العربسلامية وحدها.و من هذا المنطلق تنطرح ضرورة تشريك الآخرين من خارج دائرة العربسلاميين في صياغة اصلاح الثيولوجيا الاسلامية.ذلك أن اصلاح الثيولوجيا الاسلامية في السودان صار مسألة عواقبها تلمس السودانيين غير المسلمين و تِؤثر على حيواتهم جذرا و تفصيلا.
أقول أن صيانة الديموقراطية كآيديولوجيا في المعنى السياسي و في المعنى الوجودي لدلالة الكلمة أمر ضروري و عاجل لا يحتمل التأجيل كونه في تحليل نهائي ما يعتبر الضمانة الوحيدة لحماية المكاسب الديموقراطية و صيانتها بالمزيد من الديموقراطية.




صورة العضو الرمزية
ÓíÝ ÇáÏíä ÅÈÑÇåíã ãÍãæÏ
مشاركات: 481
اشترك في: الأربعاء مايو 25, 2005 3:38 pm
مكان: روما ـ إيطاليا

مشاركة بواسطة ÓíÝ ÇáÏíä ÅÈÑÇåíã ãÍãæÏ »

الأخ د . حسن موسي
أطيب التحايا
لاأريد أن أسبق جماعة الثقافة السودانية في فتح باب النقاش الذي ترجوه لموضوع ثقافة الديمقراطية وديمقراطية الثقافة ، وآمل - كا تأمل - أن يتكرم السادة الذين حضروا أو ساهموا في النقاش ، نشر المناقشة لتعم الفائدة . ولكنى أود الإشارة بإقتضاب لبعض النقاط :-
1- أثار إهتمامي بشكل خاص حديثك عن المشروع الديمقراطي السوداني بوصفه " مشروع حقيقي قيد التنفيذ بفضل مساهمات أجيال من الديمقراطيين السودانيين الذين فهموا منذ عقود طويلة حقيقة التضامن العضوي بين مطالب الديمقراطية والوحدة الوطنية والتنمية الإجتماعية والسلام ..." وليس بوصفه مشروعاً خيالياً تنوي طرحه لأهل السودان . أرجو تسليط مزيد من الضوء علي هذا المشروع .
2- تدعو " لفتح بوابة كبيرة أمام أولاد المسلمين وبناتهم ، وغيرهم من السودانيين غير المسلمين " من خلال " الثغرة التي فتحها الأستاذ محمود محمد طه في جدار الثيولوجيا السلفية " وذلك أيضاً " من خلال العمل علي تعبئة المواعين الثيولوحية القديمة بقيم الديمقراطية والسلام " . الأستاذ محمود ، في الواقع ، لم يفتح مجرد ثغرة في جدار الثيولوجيا السلفية ، وإنما عمل علي إزالةجدار الفهم السلفي الخاطئ بأكمله . والإختلاف بين فهميهما يطال أهداف الفكر ( أو اللافكر ) الثيولوجي السلفي نفسه .فالأستاذ محمود يدعو إلي قيام مجتمع لم يدخل بعد إلي حيز الوجود ، بينما تدعو الثيولوجيا السلفية للعودة إلي مجتمع القرن السابع الميلادي. وهو في ذلك لايدعو " لإصلاح الثيولوجيا الإسلامية " ، وإنما لإصلاح الفهم الخاطئ للإسلام المتمثل في الخلط بين الفروع المرحلية والأصول العصرية في شريعة المعاملات .
3- قولك بأن " الإسلام السوداني ، في تحليل ما ، هو أحد مساعي إصلاح الثيولوجيا الإسلامية في السودان ، إلا أنه - علي خلاف مساعي الإصلاح الديني الأخري كمساعي الأصوليين ومساعي الجمهوريين ، يستتر وراء قناع " الثقافة الشعبية ..الخ "، يفيد بأن للأصوليين مساعي إصلاحية . وهو أمر لاأجد له سنداً فكرياُ أوواقعياً في محتوي الدعوة الأصولية .
4- تري ضرورة " تشريك الآخرين من خارج دائرة العربسلاميين في صياغة إصلاح الثيولوجيا الإسلامية " لأنها مسألة تهم كافة السودانيين . ولكن كيف السبيل إلي ذلك ؟
عندما سئل مايكل آنجلو عن سر الإبداع في نحته لتمثال " الرأفة " "Pieta "
أجاب ببساطة :-" التمثال موجود اصلاً داخل الكتلة المرمرية ، كل ما هناك أني قمت بإستخراجه منها " . وأنت تعرف أهمية توافر الموهبة والأدوات والخبرة في صياغة العمل الفني ، ومع ذلك يبدوإستخراج الرأفة من المرمر ، مع الإعجاز ، أسهل بكثير من " تشريك الآخرين من خارج دائرة العربسلاميين في صياغة إصلاح الثيولوجيا الإسلامية " وقد دفع الأستاذ محمود حياته ثمناً لتجديد الفهم الديني ، ونصف قرن من الزمان لتحقيق ذلك ، ومازال الطريق وعراً في رحلة الصعود (Uphill) ، والمجتمع السوداني والإقليمي والعالمي علي الأكتاف .
5- أما صيانة الديمقراطية ، بالوعي كما ذكرت ، فلابد أيضاً من توافر صنوها "الإشتراكية " لكي ينهض المجتمع ، وهذا موضوع آخر .
مع وافرالتقدير .
سيف محمود
" جعلوني ناطورة الكروم .. وكرمي لم أنطره "
نشيد الأنشاد ، الذي لسليمان .
إسماعيل حامد
مشاركات: 8
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:31 pm

مشاركة بواسطة إسماعيل حامد »

الاعزاء جميعا
عذرا لعدم تمكنا من تقديم ملخص للحوار الذي دار في ندوه الثقافه و الديمقراطيه في منبر جمعيه الثقافه السودانيه ببرمنجهام و ذلك لظروف اللهث وراء لقمه العيش و انشغال اخرين بالمشاركه في فعاليات تابين الدكتور جون قرنق دي مبيور المنظم من قبل ويندوز فور سودان ببرمنجهام بعد غدا السبت
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

ماذا نفعل بالثيولوجيا؟

مشاركة بواسطة حسن موسى »

ماذا نفعل بالثيولوجيا؟


سيف يا أخانا الذي في روما بنت" رومولوس" و " فيلليني" و الله أعلم..
سلام جاك وقعد معاك و خلافه( و في خلافه امتنان و تقدير على مداخلاتك النقّادة الخلاّقة).
يا زول ناس جماعة الثقافة السودانية خليهم علي مهلتهم ، وكت يبقوا على الكلام يجوا يلقونا" سخّنا ليهم الكَفَر" ، على حد عبارة لم أحفظها جيدا عن بعض أصدقائي هواة الكورة الذين كانوا يتعجبون أيما عجب من جهلي بأمر كان مركزيا في وجودهم كله، الا أن سماحتهم الديموقراطية الشعبية كانت تجعلهم يحفظون هامشا لحضوري اللامبالي في فضاء الكورة.و على كل حال فموضوع ديموقراطية الثقافة و ثقافة الديموقراطية في بلادنا ـ و في غيرها ـ موضوع قديم ما زال الناس يخوضون فيه و يغالبونه فيغلبونه بحثا و يغلبهم تشعبا، و نحن ياصاحبي على الدرب، و ناس بيرمنجهام هم السابقون اللاحقون.
المهم يا زول أشكر لك ثقتك في طرحي ـ على علاّته ـ لمسائل الديموقراطية و الثيولوجيا، و أنا جد فرح بمطالبتك لي باضاءة مزاعمي في صدد" المشروع الديموقراطي السوداني" كونها تحفزني على اعادة النظر في هذه المواضيع على مسند ملاحظاتك النقدية.
و أول مزاعمي يتلخص في كون المشروع الديموقراطي السوداني قديم و مطروح قيد التنفيذ منذ أن وعى أهل السودان أن قدرهم هو قسمة شروط البقاء ضمن البراح الجغرافي و السياسي و الثقافي المتسمي بـ "السودان" و الذي أورثهم اياه واقع الهيمنة و القسمة الاستعمارية.
و حين أقول أن المشروع الديموقراطي قديم في السودان فأنا أبني قولي على مزعمي الثاني في كون أهل السودان تعلموا بالممارسة و بالتجربة المريرة من دروس الديكتاتوريات المتعاقبة، تعلموا منفعة الديموقراطية باعتبارها أحلى الامرين.
و منفعة الديموقراطية تثبتت في الخاطر السياسي الشعبي بما يفرض على أهل الديكتاتوريات السودانية، بلا استثناء، أن يموهوا من سلطات الاستبداد في ثوب الديموقراطية . و الادب السياسي لمؤسسات الاستبداد الحديث في السودان عامر بالمسميات التي تتمسح بمسوح الديموقراطية و تحرض على صفتها من باب مداهنة الذاكرة الرمزية السودانية التي تثمن الديموقراطية عاليا.و فيما وراء اهل الديكتاتوريات المتنكرين في لباس الديموقراطية ، فان أنصار معسكر الديموقراطية يتكشفون عن مناهج و دروب متنوعة نحو اليوتوبيا الديموقراطية.و لو نظرت في برامج و شعارات الاحزاب و المنظمات السياسية البرلمانية في السودان للمست بسهولة أن عبارة الديموقراطية انما تنطرح كنوع من حد أدنى منه تتفرق المسالك بتناقض المصالح.
و هذا الاحتفاء بالمبدأ الديموقراطي هو في حد ذاته أمر جديد، و قيل " مشاتر " تماما لو تفحصناه على ضوء الميراث الرمزي و السياسي الذي أورثتنا اياه ثقافة المجتمع قبل الرأسمالي. و قبول المبدأ الديموقراطي انما يعبر عن انخراط حاسم في منطق الحداثة، حداثة رأس المال. بيد أن الانخراط في منطق الحداثة تحت شروط المجتمع السوداني يؤدي بالمنخرطين الى اعادة اختراع الديموقراطية ضمن حساب تناقض المصالح بين فئات المجتمع السوداني.و تشغلني منذ فترة " حركة " اعادة اختراع الحداثة في السودان و تعبيراتها المتناقضة ضمن فضاءات السياسة و الفن و الادب و الفلسفة و .. الدين.
و ثالث مزاعمي هو أن دعم المشروع الديموقراطي لا يكون الا بتقوية الديموقراطية و تأسيسها في وعي الناس و في لا وعيهم كمسلك بقاء غريزي.
و رابع مزاعمي هو أن الدفاع عن الديموقراطية كسلوك غريزي انما هو مشروع تربية فردية و جمعية
و خامس مزاعمي هو أن التربية و التطبيع على أولوية الحفاظ على الديموقراطية أمر ممكن لو باشرناه على انتباه لمعطيات الواقع الثقافي و الاجتماعي الذي نحيا ضمنه
و سادس مزاعمي هو أن مشروع التربية الذي أنا بصدده انما أتصوره وسط أبناء و بنات المسلمين الذين هم ، بحكم موضع الحظوة الاجتماعية التاريخية الذي يتمتعون به بين بقية السودانيين من واقع تجربتهم كطبقة وسطى حضرية قابضة على مفاتيح السياسة والاقتصاد، فهم أكثر استعدادا لتفعيل مباديء مشروع التربية نحو نوع من " غريزة ديموقراطية" وسط قطاع كبير بين الجماهير.
و سابع مزاعمي هو أن حاجة السودانيين لتثبيت الديموقراطية كضرورة تنمية من جهة ، و قابلية الميراث الثقافي الديني لأبناء الطبقة الوسطى العربسلامية ، الذي هو ،رغم تخريب الافندية الاصوليين ، ما زال ينطوي على نوابض قمينة باستيعاب مباديء الدرس الديموقراطي و تجذيرها في الخاطر الشعبي ، من جهة أخرى،انما يشكلان تربة خصبة لتفتح نبتة التربية الديموقراطية كايديولوجيا جديدة لأولاد و بنات المسلمين. كثيولوجيا جديدة للطبقة الوسطى العربسلامية.و اذا كنت أنشغل بمصير ثيولوجيا أولاد و بنات المسلمين لصالح المشروع الديموقراطي السوداني فما ذلك الا لقناعتي باستحالة تجذير أي مشروع ديموقراطي بتجاهل أو باهمال الدور الرئيسي المناط بأبناء و بنات الطبقة الوسطى العربسلامية في مشهد الصيرورة التاريخية لوطن الاشتات المتسمي بالسودان.

بعض اصدقائي استغربوا مقالي في موضوع اصلاح الثيولوجيا الاسلامية ، على زعم أن هذا الامر، أمر اصلاح الثيولوجيا الاسلامية ، بعيد بالضرورة عن دائرة اهتمامات الفنان التشكيلي الذي توسموه في شخصي، مثلما هو بعيد، من باب أولى، عن دائرة اهتمامات" المسلم العاصي" المستعصي الذي رأوني أجسده.و حقيقة ما كان لي أن أخوض في شؤون الثيولوجيا الاسلامية لو كانت الثيولوجيا الاسلامية قد بقيت في علياء التقليد الثقافي قبل الرأسمالي ، بعيدا عن فضاءات العالم الواقعي المعاصر الذي نسكنه و يسكننا.و قد مر على الثيولوجيا الاسلامية عهد كان السودانيون فيه يعالجونها باعتبارها من متاع المحفوظات المتحفية الذي لا يهم سوى المتخصصين من الفقهاء أو من باحثي الاسلامولوجيا و من لف لفهم من هواة الاستشراق. ولقد انتبهت أنا شخصيا للطاقات المتكنزة في تلافيف الثيولوجيا الاسلامية من قراءاتي غير المنتظمة في نصوص الاستاذ محمود محمد طه و أنا قارئ يافع في النصف الثاني من الستينات، و أظنني اكتشفت محمود محمد طه أيام الضجة التي أثارتها محكمة الردة الاولى.و قد سحرني محمود محمد طه بلغته أولا كوني وجدتها لغة مفارقة و غريبة في بساطتها و في بلاغتها السهلة الممتنعة فتجملت بها في فضاء الفقر الادبي الذي كابدته و أنا أحيا بمكان قفر. و بمرور السنوات بدأت أرى محمودا كمثل شكل هندسي جواهري متعددة الاوجه ، من كل وجه ينفتح باب يؤدي لمسار مخالف.( و افتح قوسا هنا لوجه محمود السياسي، فقد كانت وجوه محمود الادبية و الدينية والفلسفية تسحرني يدرجات متفاوتة الا أنني احترت كثيرا في تدبيره السياسي و هذه فولة أخرى سأعود اليها لاحقا و اكتفي منها بالاشارة).
و اذا كانت الثيولوجيا الاسلامية المعاصرة، المنبعثة من أقبية ذاكرة تقليدية روّعتها الحداثة الرأسمالية ، تلاقي كل هذا الرواج الكبير وسط أولاد المسلمين وبناتهم ، فما ذلك الا لأن هذه الثيولوجيا الاسلامية قد استيقظت ،بعد سبات طويل ، في ثوب " الصحوة" السياسية، بوصفها وسيلة آيديولوجية ذات كفاءة مشهودة في تحريك الجماهير الحاضرة في ساحة الحرب الاجتماعية الراهنة.و من هذا المنظور ، منظور الثيولوجيا كسلاح آيديولوجي يتخطّفه الطامحون للامساك بالسلطة السياسية،أظن أن تفحص الثيولوجيا الاسلامية و تحليل مكوناتها السياسية ينطرح كأولوية قصوى ضمن سلم أولويات الحرب الآيديولوجية المستعرة داخل و خارج بلادنا اليوم.و من نفس المنظور فالنزاع الحاصل بين الفرقاء السودانيين المسلمين هو في حقيقته نزاع سياسي لا علاقة له بالدين الا من حيث انتفاع " هؤلاء الناس" أو أولئك الناس بوسيلة الدين في استقطاب الناس لصالح دعاويهم السياسية, و يوم يجد مستخدمو الدين وسيلة أنجع منه في استقطاب الناس لدعاويهم ( الرياضة أو الفن أو العلم أو الحرب أو البزنيس مثلا) فهم بلا شك سيهجرون أرض الدين لأهلها التقليديين من الفقهاء و علماء الاسلامولوجيا و دارسي سوسيولوجيا الاعتقاد.هذا التحليل يؤدي بنا الى ضرورة سحب القداسة من كافة السياسيين المتكلمين في الدين و ضرورة اجلاءهم بكل حيلة ممكنة عن فضاء الدين ليبذلوا للناس مشروعهم السياسي صراحة فينظر فيه المعنيون بالأمر ، يزكونه أو يرفضونه.
و أتوقف هنا مؤقتا و أعد بالمواصلة قريبا جدا.
مودتي
حسن
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

و ماذا نفعل بالدين؟

مشاركة بواسطة حسن موسى »


وماذا نفعل بالدين؟
الأخ سيف
لو عدت لنقطتك نمرة واحد في كون المشروع الديموقراطي السوداني هو في الواقع مشروع حقيقي و قديم و قيد التنفيذ منذ أن بدأ أهل السودان يعون فرصة وحدة مصائرهم ضمن وطن الاشتات الموروث من الادارة الاستعمارية ، تلزمنا وقفة عند المبدأ الديموقراطي نفسه. الأصل في المبدأ الديموقراطي هو أن الناس مختلفي المشارب و متنافري المصالح يلتقون عند حد اتفاق أدنى هو نوع من "عقد" سياسي و أخلاقي غايته صيانة تماسك أطلراف البنية الجمعية المبذولة وطنا على طموح حضارى مشترك. و ضمن هذا العقد يتنازل كل طرف للآخرين عن هامش من السماحة السياسية الواعية ـ و قيل البراغماتية ـ بسبيل التفاهم حول أفضل السبل السلمية لتدبير مصالح الكل بغير عنف. و قد بذل السودانيون ، في مشهد الحركة الديموقراطية البالغ الهشاشة ـ بذلوا لبعضهم البعض تنازلات رمزية و مادية كثيرة بسبيل صيانة العقد الديموقراطي. و أرى بعض هذه التنازلات الواعية في هوامش الثقافة التقليدية ( العصبية القبلية و الدينية و مفاهيم الهوية الاقليمية). فأبان أحداث حركة ثوار 1924 تناسى الكثيرون انتماءاتهم العرقية ليتضامنوا مع قادة جمعية اللواء الابيض الذين خرجوا من رحم طبقة وسطى مدينية على صورة الهجين العرقي و الثقافي لمدينة مطلع القرن العشرين.في ذلك الوقت لم يكن النقاد العرقيون من " أولاد القبائل " العربسلامية ، لم يكونوا يتورعون عن معايرة علي عبد اللطيف و رفاقه الوطنيين من قادة حركة 1924 بكون أصولهم العرقية غير معروفة أو بكونها بعيدة عن مرجع النقاء العروبي الهابط افتراضا من سبط العباس .و بين هذا الموقف العرقي المغالي و قناعات السودانويين الآفروعروبيين ـ الذين جمعوا بين صورة علي عبد اللطيف و صورة جون قرنق أثناء استقبالات قرنق عند قدومه الخرطوم ـ مسار رمزي و مشوار تربوي سياسي قطعه أبناء و بنات العربسلاميين بسبيل تبديل أيديولوجيا بنقيضها..و هيهات .و أقول " هيهات " للتنبيه على التركيب اللاحق بمسألة التطور الايديولوجي لأبناء و بنات المسلمين في منظور الصراع الاجتماعي الحاصل في السودان.
و التنازلات التي قدمها السودانيون العربسلاميون عند هامش الدين كثيرة بينها ما هو طوعي و ما هو قسري ،و سأتناولها في براح منفصل كونها تحتل موقع الحظوة ضمن مشهد التحول نحو قيم الديموقراطية في السودان.

لقد كتب على أبناء و بنات المسلمين الخارجين من رحم الهزيمة الحضارية و العسكرية في كرري، كتب عليهم أن يكابدوا الاندماج في حداثة السوق على عجل كبير و أن يجدوا من الاسباب ما يسوّغ قبول قيم تلك الثقافة الحديثة ، ثقافة السوق الرأسمالي ، بين أهليهم ، ففعوا ذلك بشيء من المكر و بكثير من العنف و انتهوا الى تمكين الآيديولوجية العربسلامية المعاصرة، أيديولوجية الطبقة الوسطى العربسلامية ، بوصفها ثقافة قومية للأمة السودانية من الظاهر ، و بوصفها، من الباطن، نسخة محلية، من واقعنا لأيديولوجيا رأس المال.
يا سيف لا أدري ان كنت بين من يتلقون جريدة الهدم النقاد و المعارضة التي أحاول المثابرة عليها منذ 1995. و أقول هذا لأن لي مقال كتبته في جهنم رقم 17، نوفمبر 2000 بعنوان :" السير عبد الرحمن، حداثة الغبش" و هو محاولة لتفهم الكيفية التي باصر بها عبد الرحمن المهدي المخرج من آيديولوجيا المجتمع قبل الرأسمالي لآيديولوجيا مجتمع رأس المال. لو لم تكن قد قرأته فسأحاول تصويره و ارساله لك في القريب العاجل ، و لو تسنى لي وقت أعدت كتابته في احدى صفحات الموقع فانتفع بملاحظات الجميع لدفع مشروع دراسة حول " الحداثة السودانية" التي أدخل عليها باعتبارها الارض التي طور عليها الاسلاميون السودانيون بتنويعاتهم ـ بما فيها التنويع الأصولي ـ أيديولوجيا الاصلاح الديني.
وقد لمست أن ادراجي للأصوليين الاسلاميين الذين يسميهم أدب الجمهوريين بـ " السلفيين"، لمست أن ادراجي لـ " هؤلاء الناس" ( على حد العبارة المشهودة لذلك الرجل الطيب الصالح) ضمن تيارات الاصلاح و الحداثة لا يبدو لك أمرا مقنعا، كونك لم تقاوم اغراء نزع صفة " الفكر " عن فكر القوم أثناء معارضتهم بفكر الاستاذ محمود، و ذلك حين تقول في نقطتك الثانية".. و الاختلاف بين فهميهما يطال أهداف الفكر (أو اللافكر) الثيولوجي السلفي نفسه".
و في نظري فان كل السودانيين الذين ولدوا في القرن العشرين هم بالضرورة حداثيين لمجرد كونهم ولدوا ضمن السياق الاجتماعي التاريخي لحداثة رأس المال.و السياق الاجتماعي لحداثة رأس المال يفرض عليهم جملة من المواقف التي تؤدي بهم ، رضوا أم أبوا، الى متاهة الحداثة الكبيرة التي لا ينجو منها أحد.و تحت هذه الشروط فالقوم مضطرون لانتاج فكر يصالحون به بين ميراثهم الرمزي و المادي قبل الرأسمالي مع معطيات حاضرهم الرأسمالي. هذا الفكر ـ بصرف النظر عن نوعيته المنهجية ـ هو بالضرورة اصلاحي و حداثي.

, لا يغيب على فطنتك أن مجرد وجود الفكر الاصلاحي الحداثي لا يعني بالضرورة انسانية ذلك الفكر ، فأنت تعلم ـ على أثر مولانا ماركس في " الآيديولوجيا الالمانية" ، و على أثر آخرين ـ أن الفكر طبقي. في معنى أن الفكر لا يقيم على حياد بين الفرقاء الاجتماعيين المتناحرين على مقدرات المجتمع المادية و الرمزية.و في هذا المنظور فالفكر أيديولوجي في كافة دلالات صفة الأيديولوجيا. و في هذا المنظور أيضا أبرر ادراجي الاصوليين السودانيين ضمن تيارات الاصلاح الديني، جنبا الى جنب، مع غيرهم من تيارات الاصلاحيين الاسلاميين الأخرى. و القاسم المشترك الاعظم بينهم جميعا هو أنهم يقفون على مسافة نقدية ، تطول أو تقصر ، من الدين الذي كان يحكم حياة جيل الاجداد قبل الرأسماليين.و أنهم في دخيلة نفسهم الدينية على قناعة بأن الدين في خطر .و في هذا المشهد ينطرح موقف الاصلاح كسعي لانقاذ ما يمكن انقاذه على منطق " الدين تلته و لا كتلته"

قلت في حديثي السابق أن الفرز بين المعنى السياسي و المعنى الوجودي لعبارة "الآيديولوجيا" ضروري لوضع النقاط على الحروف في خصوص الالتباس الشائع الذي يتربص باستخدامات المصطلح ، فما أدراك ما الايديولوجيا

المتتبع لاستخدامات العبارة في الادب السياسي المبذول في العربية، بين السودانيين و بين غيرهم من كتّاب العربان و العجمان،يلمس بسهولةالنبرة القادحة المتعالية التي تصيب من تلحق به سبّة الآيديولوجيا.و منذ نهاية الحرب الباردة، صارت صفة الآيديولوجيا تدل على الجمود الفكري وغياب المرونة السياسية و عدم القدرة على قبول متغيرات الفكر و التعامي عن رؤية حقائق الواقع ،بالذات بين فلول اليساريين المدافعين عن الفكر الماركسي اللينيني، الذي دالت دولته شرقي أوروبا بعد سقوط حائط برلين، و قد تستخدم سبة الايديولوجيا لتوصيف كل مفهوم سياسي ينطلق من تراث الفكر المادي بعامة.
هذا الفهم الذي يختزل تنوّع أبعاد الآيديولوجيا الي البعد السياسي وحده ليس جديدا تماما.و هو فهم يمسخ مفهوم الايديولوجيا من سعة الرؤية الوجودية للطبقة الاجتماعية المعينة الى ضيق الاستخدام الاداتي له كمجرد وسيلة من وسائل الممارسة السياسية.و حين أقول الآيديولوجيا كتجسيد لـ " الرؤية الوجودية للطبقة الاجتماعية المعينة" فأنا اعتمد على مساهمة ماركس و انجلز في نقد " الآيديولوجيا الالمانية"، والتي تلخص الايدولوجيا من منظور طبقي في معنى "أن الافكار السائدة في كل العهود هي بالضرورة أفكار الطبقة السائدة في مجتمع ما. و بعبارة أخرى فالطبقة التي تمثل القوة المادية السائدة في المجتمع انما تمثل في نفس الوقت القوة الروحية السائدة فيه".
و الايديولوجيا في هذا المعنى تدل على منظومة الافكار التي تؤلف نظرة متكاملة للوجود منسجمة مع المصالح الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية للطبقة المهيمنة. و هذا المفهوم للآيديولوجيا كمنظومة أفكار يجد جذوره عند مفكرين فرنسيين عرفوا الايديولوجيا كـ " علم الافكار" كـ " ديستوت دو تراسي"(1754- 1836)
Destutt de Tracy
زعيم " الايديولوجيين"، على أثر الفيلسوف الفرنس " كوندياك" (1715-1780)
Condillac
الذين كانوا يرفضون الميتافيزيقيا و يسعون لتأسيس ما يسمى بـ " العلوم الثقافية" على أسس عقلانية انسية.و على أثر " الآيديولوجيين" صارت الايديولوجيا تدل على " كل نظام فكري معني بدراسة الافكار في حد ذاتها بصرف النظر عن القيم الميتافيزيقية التي قد تستبطنها"
Jean Servier ,L’Idéologie, PUF, 1982
ودلالة مصطلح الايديولوجيا في المعنى الذي يتجاوز مفهوم الاداة السياسية،" معنى" مفهوم الوجود"، على حد عبارة الاثنولوجي الافريقاني الفرنسي " مارسيل غريول" (1898 -1956)، يجد تعبيره الاكثر ثباتا عند المهتمين بسوسيولوجيا الثقافة.و هو مفهوم معين للعالم و لوضع الانسان ضمنه.و في مشهد مارسيل غريول تتداخل الآيديولوجيا مع "الاسطورة" فتتجاوز وضعية الفكرة الادبية أو الفرضية الجدلية المجانية لتصبح مفتاحا يفتح مغاليق الدروب المؤدية لداخل حضارة ما و ييسر للناس فهمها.."( سيرفيي نفسه ص 4).
و حين أقول " الآيديولوجيا بوصفها وسيلة أو أداة في الممارسة السياسية" فأنا أعتمد على ماركس أيضا. فالمصطلح في استخدام ماركس يراوح بين الفهم الوجودي العام و الفهم السياسي الاداتي . و هذا أمر لاحظه نفر من دارسي ماركس بينهم باتريك تور في " ماركس و مشكلات الايديولوجيا"
فـ " تور" يرى نظريتين متعارضتين للآيديولوجيا في أدب ماركس:
الاولى تتعلق بالآيديولوجيا المهيمنة كانعكاس بريء لوضعية الطبقة المهيمنة و الثانية تتعلق بالآيديولوجيا المهيمنة كأداة ـ غير بريئة ـ لفرض سيادة طبقة على الطبقات الأضعف. و اذا كانت الايديولوجيا ، في الحالة الاولى هي مجرد انعكاس بسيط لواقع اجتماعي، فهي في الحالة الثانية أداة مستخدمة ، عن سبق القصد و الترصد ، لفرض الأفكار التي تخدم مصالح الطبقة المهيمنة.
Patrick Tort, Marx et les Problèmes de l’ Idéologie, PUF, 1988

هذا الازدواج في مفهوم الآيديولوجيا، كانعكاس بريء لصورة الطبقة المهيمنة و كأداة قهر في يد نفس الطبقة المهيمنة، هو في واقع الامر جزء أصيل في طبيعتها كصورة لواقع المجتمع الطبقي التناحري. بيد أن هذه الصورة ليست ثابتة بشكل نهائي. انها صورة حية و متحركة من حياة و حركة نفس المجتمع الطبقي التناحري.و في هذا الافق فكل موقف نقفه تجاهها انما يتخلّق بالضرورة كوجه من وجوه التعبير، الواعي أو غير الواعي، عن الايديولوجيا المهيمنة( يعني سيك سيك معلق فيك).و لعل هذه الوضعية العجيبة التي تعطي الناس انطباعا بكون الآيديولوجيا قدر لا فكاك منه ،هي المسئولة عن ميل المفكرين العفوي للعن الأيديولوجيا كما درج المتدينون على لعن الشيطان أو كما لاحظ الفيلسوف الفرنسي المعاصر " ريجيس دوبريه" في " نقد العقل السياسي" :" ..لقد صارت الآيديولوجيا هي الاسم العلمي للشيطان. و باسمها يتخذ ابليس من فضاء السياسة مقره الرسمي.."
Régis Debray,Critique de la Raison politique(1981)

و من جملة المآخذ النقدية الموجهة للأيديولوجيا ، بما فيها مآخذ ماركس و انجلز على "الآيديولوجيا الالمانية"، يلخص الباحثان " سيلفان أورو، و " ايفون فايل" الامر في أربعة نقاط:
"1 ـ ليس للآيديولوجيا تارخ خاص بها، و ليس هناك تاريخ مستقل للأفكار، كون تطور الفكر يرتهن بتاريخ الناس.
2 ـ الايديولوجيا هي وعي زائف كونها ترهن الحياة الواقعية بوعي فرد افتراضي. بل هي ضلال عن الشروط الواقعية لوجود الفرد لأنها تتأسس على جملة من التبريرات و العادات التي يفهم بها الكائن الاجتماعي ذاته بطريقة مغايرة لما هو عليه في الواقع.
3 ـ الآيديولوجيا خطل كونها تعكس العلاقة بين الواقع و صورته و تحل الصورة محل الواقع.و يرى الباحثان أن هذا القلب هو نتيجة منطقية لغياب منهج علمي واقعي و ايجابي ينبني على أساس الافتراضات الواقعية ( الناس المنتجين) و يقدر على تأسيس صورة اجتماعية موضوعية.
4 ـ انتاج الايديولوجيا شيء طبيعي لا يمكن تجنبه ضمن واقع اجتماعي يصون تقسيم العمل.فتحت شروط تقسيم العمل يملك الوعي أن يتصور أنه يمثل شيئا آخرا مغايرا لحال كونه وعيا ناتجا عن واقع الممارسة الاجتماعية ، أي أن الوعي ينسلخ عن واقعه و يتلبس واقعا متصورا."
Sylvain Auroux & Yvonne Weil , « Idéologie » in Dictionnaire des auteurs et des thèmes de la Philosophie, Hachette , 1991
و اذا كان الخلاص من الآيديولوجيا قد أضحى اليوم نوعا من حلم جماعي جديد يروج له البعض، تحت شعار " موت الآيديولوجيات"،و بالذات بعد انهيار الأيديولوجيا السوفييتية، فان بين هذا " البعض" من يِؤسس ـ عن وعي أو عن غير وعي ـ لآيديولوجيا جديدة هي بالتحديد " آيديولوجيا موت الآيديولوجيات" ( ديالمان و فوريست مئة مقتطف..)
Paul Désalmand & Philippe Forest, « Idéologie » in 100 Grandes Citations Expliquées, Marabout,1990.
.و هي أيديولوجيا غايتها مصادرة و الغاء كل تراث الانسانية النقدي السياسي و الأخلاقي و رميه في مزبلة التاريخ بدعوى ارتباطه بالفكر الآيديولوجي البائد الذي تجاوزه التاريخ.ومشروع أيديولوجيي موت الآيديولوجيا هو ببساطة أن ننسى الماضي و نتضامن على " فتح صفحة جديدة " و تعريف قوانين و قواعد جديدة لتدبير شئون المجتمع الانساني بما يحقق العدالة و الرفاه للجميع.طبعا لا أحد يقول لمن يعود حق القوامة على تنفيذ اليوتوبيا الجديدة. و ليست هناك مناقشة جادة وسط سادة عصرنا القابضين على مفاتيح السلطة و الثروة لتشريكنا ، نحن المستضعفون، ملح الأرض، في المناقشة المزعومة ديموقراطية.و تحت شروط الهيمنة الطبقية الراهنة في عالمنا، يصبح مجرد الكلام في مدى مشروعية القوامة المزعومة على تنفيذ اليوتوبيا الجديدة المعافاة من مرض الآيديولوجيا، يصبح أكبر " تابو" في سلم المناقشات التي يحظرها السادة على المسودين اليوم.

و حين أتحدث عن آيدولوجيا الطبقة الوسطى العربسلامية في السودان فان عبارتي تسعى للاحاطة بمجمل المفاهيم و القناعات الفكرية التي يتقاسمها أعضاء الفئة السودانية المتوسطة اجتماعيا ( و قيل جغرافيا). هذه الفئة، الحضرية غالبا ،تطرح نفسها ، و عن قصد واضح ،كفئة مستعربة على عروبتها الفطرية الموروثة و متأسلمة على اسلامها العفوي الموروث . في معنى أنها لم تقتنع بعروبتها الفطرية فاستعربت، مثلما لم تقتنع باسلامها العفوي فتأسلمت، ذلك أنها وجدت مصلحة طبقية مادية في اشهار عروبتها و اشهار اسلامها كقرائن على انتمائها لهوية اجتماعية تاريخية جديدة ، هي، في تحليل نهائي ما، " هوية قطيعة " مع الماضي الثقافي قبل الرأسمالي، رغما عن ميل العربسلاميين لتوصيفها بصفة " العودة للجذور". و هي هوية يساهمون في تخليقها ، كل حسب حاجته ، كل حسب وسائله ، ضمن مفاوضة" تجارية" مستمرة عند تقاطع المصالح( الاقتصادية و السياسية و العرقية و الدينية) الموروثة من ثقافة المجتمع قبل الرأسمالي و تلك التي يبذلها المجتمع الرأسمالي الحديث..
سيف الأديان كلها يا أخانا الذي يقرأ نشد الانشاد.هذا الكلام طال بما يفوق طاقة المجال و من الاسلم قطعه هنا لزوم التقاط الانفاس و استدراك ما يمكن استدراكه فعفوك حتى أعود.
حسن
صدقي كبلو
مشاركات: 408
اشترك في: الأربعاء مايو 11, 2005 9:02 pm

مشاركة بواسطة صدقي كبلو »

حسن موسى يا صديقنا
سلام
سررنا لمداخلتك، وبما أن أخينا إسماعيل باشا (وهذه من عندياتي لزوم تأكيد أثر الإقطاع التركي على ثقافتنا) حامد قد وعد بإنزال ندوة بيرمنجهام، فلن أتعرض لما دار فيها، غير اني أقدم هنا مساهمة مستقلة تمت كتابتها قبل فترة طويلة من عقد الندوة وهي تتناول ثلاث قضايا: ديمقراطية التعليم وديمقراطية الثقافة وثقافة الديمقراطية.
صدقي كبلو
مشاركات: 408
اشترك في: الأربعاء مايو 11, 2005 9:02 pm

مشاركة بواسطة صدقي كبلو »

ديمقراطية التعليم والثقافة وتعليم الديمقراطية و ثقافتها


1- مفهوم ديمقراطية التعليم
لعل شعار "ديمقراطية التعليم" كان أهم شعارات الحركة الديمقراطية وسط الطلاب والمعلمين خلال فترة نهوض الحركة الديمقراطية في الستينات قبل انقلاب مايو، بل أنه شغل كثيراً من العاملين بالتعليم العالي حتى أن المرحوم البروفسير النذير دفع الله وكان مديراً لجامعة الخرطوم قد اختار أن يقدم محاضرة عند تقاعده عن ديمقراطية التعليم وهو ذلك العالم الباحث الذي ترك اسمه في سجل العلوم البيطرية في السودان وكان بوسعه لو أراد أن يقدم محاضرة عن بعض قضايا بحوثه التي شغلت العاملين في ذلك المجال ولكنه اختار أن يكون حديثه وهو يودع موقعاً شغله بجدارة وكفاءة واقتدار، عن ديمقراطية التعليم وفي نفس الفترة تقريباً (وأنا أكتب عن الذاكرة) اختار معلم الأجيال المرحوم الأستاذ عباس علي أن يترجم مقالاً طويلاً نشر في "الماركسية اليوم" عن ديمقراطية التعليم وكتب المؤرخ الدكتور محمد سعيد القدال كتابه حول التعليم في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ولكن الشعار تراجع وانزوى بفعل ما لحق بشعارات الحركة الديمقراطية من تزوير وإفراغ للمحتوى على أيام انقلاب مايو وثورتها التعليمية التي تؤرخ لبداية انهيار التعليم العام والجامعي والعالي في السودان. ولكن ماذا يقصد الناس عندما يتحدثون عن ديمقراطية التعليم؟
أن مفهوم ديمقراطية التعليم هو جزء من مفهوم مركب وغني للديمقراطية يتجاوز المفهوم السياسي للديمقراطية (وهو مفهوم ضروري وأساسي يتطور بالإضافة إليه لا بالحذف) إلى مفهوم ينشر الديمقراطية في خلايا المجتمع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وهو يدعو لنشر الديمقراطية في مجال التعليم في ثلاثة محاور أساسية.
1. مجال تعميم التعليم بجعله إلزامياً ومجانياً في مستوى التعليم العام. وجعل فرصه متاحة على قدم المساواة في التعليم العالي وفقاً للاستعداد الذهني وقدرات الطالب التحصيلية وما يبذله من جهد، لا وفقاً على قدرة الطالب على الدفع، وهذه مسألة تبدو طبيعية وسهلة التحقيق ولكنها في الحقيقة مسألة شائكة سنحاول إلقاء الضوء عليها في فقرات قادمة.
2. مجال ديمقراطية المناهج والمعارف وتمليك التلاميذ والطلاب القدرة على الإستعياب والبحث والاستقصاء وتكوينه الرأي المستقل وإدراك نسبية الحقيقة، وهي تشمل إعداد المعلم الديمقراطي والذي دون الإخلال بواجبه في إعطاء الطلاب المعارف الأساسية إلى تهيؤهم للتميز والتفكير المستقل والإطلاع الواسع، يعطيهم منهجاً للتعليم في مستقبل حياتهم لا يلقنهم فقط نتائج العلوم بل كيفية الوصول إلى تلك النتائج وغيرها بأعمال فكرهم وبحثهم وتجاربهم المعملية والحياتية، فديمقراطية المناهج تلغي التلقين للحقائق المطلقة وتزرع شك المعرفة والاكتشاف والاختراع مع تدريب في طرق البحث والتفكير والاستقصاء والاستقراء واستعمال أدوات وتقنيات العلم الحديث.
3. مجال ديمقراطية ادارة التعليم والتي تحول المدرسة والمعهد والكلية والجامعة الى مؤسسات ديمقراطية يشترك كل أعضائها في ادارتها وفي وضع قوانينها ولوائحها. ويكون الطلاب والمعلمون هم أساس إدارتها وللآباء ومنظمات المجتمع المدني دور في إدارتها وتوجيهها والرقابة عليها.
ديمقراطية التعليم العام
ويمكننا التعرض لقضايا ديمقرطية التعليم العام وفقا للمحاور الثلاث التي اوضحناها من قبل:
1. المجال الأول: ديمقراطية التعليم العام بمعنى تعميمه حتى يصبح متاحا لكل الأطفال والشباب في سن التعليم العام، ولجعله متاحا لا بد من أن يكون موجودا في المكان المناسب، وأن يكون مجانا، وأن تتوفر له أدوات ووسائل التعليم , أن يتوفر العدد المناسب من المعلمين والمعلمات المدربين تدريبا علميا مناسبا للقيام بمهنة التعليم في المواد والفنون والعلوم والتطبيقات التي يراد تعليمها، فلا يكفي مثلا فتح مدرسة تكون بعيدة من القرية والحي ولا تتوفر وسيلة النقل المناسبة، كما لا يكفي أن تفتح المدرسة وليس بها كتب أو معدات ووسائل تعليم أو ينقصها المعلمون والمعلمات أو يطلب من التلاميذ احضار مقاعدهم وكتبهم وكراساتهم أو دفع مبلغ من المال للمدرسة للحصول عليها ويمكن هنا أن يبدأ البرنامج بتعميم التعليم الأساسي، مدرسة أساس لكل قريةـ او مجموعة قرى مع توفر النقل أو الداخلية، على أنه يمكن أن تكون المدرسة مختلطة تلاميذ وتلميذات للفوائد التربوية ولاختصار التكلفة الاقتصادية. ثم ننتقل لمدرسة ثانوية لكل عدد من المدارس الأساسية، حتى نصل لهدف مدرسة ثانوية قصاد كل مدرسة أساس وحينها نكون وصلنا بالتعليم العام لمرحلة الإلزام.
2. ديمقراطية مناهج التعليم العام تنطلق من تحقيق هدفين نظري وتطبيقي، الأول يعد التلميذ لكي يتعلم، يزرع فيه حب المعرفة والبحث والاستفصاء ويسلحه بالأدوات الضرورية للمعرفة والتعلم وبالمنهج العلمي، والثاني يعده للحياة وقضاياها اليومية معيشية واجتماعية وسياسية واقتصادية فيملكه فنون فعل الأشياء وانجاز الأعمال وكيفية المشاركة في الحياة الاجتماعية وسط أهله وبيئته وهنا تكمن ضرورة الربط بين الدروس والمناشط التربوية كالجمعيات المدرسية والفرق الرياضية، وضرورة شمول المناهج الدراسية لبرامج تعليمية تطبيقية في مجالات الصناعة والزراعة والتكنلوجيا.
3. ديمقراطية الإدارة: نبدأ بتطوير تجارب مجالس الآباء والأمهات والمعلمين لتنتخب إدارات للمجالس، يمثل فيها الأباء والأمهات والمعلمون والتلاميذ، وتطوير الجمعيات المدرسية والمنازل الرياضية لتصبح إلى جانب دورها المعرفي أدوات ديمقراطية لإدارة المجالس، ومناشط للتدريب الديمقراطي ونشر المعرفة والتقاليد الديمقراطية.
ديمقراطية التعليم العالي
و يطرح مفهوم ديمقراطية التعليم العالي على نفس المستويات الثلاث في إرتباط وثيق بديمقراطية التعليم العام.
القضية الأولى : ديمقراطية القبول للتعليم العالي
ترتبط قضية ديمقراطية القبول وبالتعليم العالي بقضية أساسية في الديمقراطية الاجتماعية : وهي الفرص المتساوية للجميع باختلاف وضعهم الطبقي والإثني والديني والثقافي والإقليمي وهي باختصار تسمى في الأدب المنشور والشعارات العامة "سياسة الفرص المتساوية" Equal Opportunity Policy بالطبع لا يكفي رفع الشعار أو كتابته في القانون أو إعلانه كسياسة عامة بإتاحة الفرص المتساوية سواء كان ذلك في مجال التعليم أو غيره.
ولنحصر حديثنا حول التعليم في السودان، موضوع هذا الفصل ونقول أن اتاحة الفرص المتساوية في القبول تعني لكي لا تكون المسألة شكلية اتاحة تعليم متساو وفرص تحصيل متساوية في المدارس الثانوية، فلكي تكون الفرص المتاحة لطالب متقدم للجامعة من نيالا الثانوية وآخر من الخرطوم القديمة متساوية لابد أن تكون المعامل متطابقة والمكتبات المدرسية والكتب المدرسية والمعلمون المؤهلون متاحين في المدرستين كما لابد أن تتاح لطالب نيالا امكانية ووقت للتحصيل كما يتاح لطالب الخرطوم القديمة أو العكس بوجود الكهرباء والجاز الأبيض بعدم المشغولية في الوقوف في صف الرغيف أو السكر أو القيام بعمل عضلي مجهد بعد المدرسة لكسب قوت العائلة. وليست هذه أفكار اشتراكية أو يسارية ففي البلدان الرأسمالية تقدم المدرسة وجبات للغذاء لكل الطلاب من كان غنياً يدفع أو يأت بوجبته معه ومن كان فقيراً يعطى الوجبة ويدفع المجلس المحلي نيابة عنه، دون أن يعرف أحداً من يدفع من جيبه ومن يدفع له المجلس.
ولقد كانت مدارسنا الثانوية الداخلية تتيح لابناء الفقراء فرصاً متساوية مع غيرهم عندما كانوا يقبلون مجاناً بينما يدفع أبناء الأغنياء المصاريف وهم يأكلون نفس الطعام وينامون في نفس العنابر ويحضرون نفس الحصص ويعملون في نفس المعمل وتوزع عليهم الكتب ذاتها ! ولكن بانهيار المدارس الداخلية واستبدالها بمدارس أكثر في المدن حيث الطلاب خارجين لم تعد الفرص المتاحة متساوية وعاد التعليم ليصبح طبقياً. أصبح التلميذ والطالب يعاني مشكلة المواصلات ويواجه مع عائلته مشاكل المعيشة اليومية وقد يجد أو لا يجد الجو المناسب لإستذكار ومراجعة دروسه خاصة عندما أصبحت الكتب الدراسية نفسها سلعا غير متوفرة إلا للقادرين.
وكان أبناء الفقراء يتقدمون للقبول للجامعة وهم يعلمون أن شهادات فقرهم لن تقف أمام قبولهم أو مواصلتهم لتعليمهم لأنهم سيسكنون مجاناً ويأكلون مجاناً وليس أمامهم إلا الاجتهاد للنجاح ورفع مستواهم ومستوى أهلهم، ولكن الآن وقد أدخل نظام جديد وأصبحت المصروفات الدراسية عالية وعلى الطلاب أن يعولوا أنفسهم أو أن تدفع لهم مصاريف إعالة لا تكفي لأعاشتهم فأين الفرص المتساوية؟.
وأصبحت هناك جامعات ومعاهد أهلية وخاصة ولم تعد هناك بعثات لدول اشتراكية وتغير نظام جامعة القاهرة الفرع (جامعة النيلين الآن) منذ أيام نميري لجامعة نهارية حارمة الفقراء من الجمع بين الدراسة والعمل !
لذا يصبح من المهم أن أردنا فرصاً متساوية في القبول من
1. اصلاح التعليم العام كله والثانوي على وجه الخصوص واعادة الداخلية والمعمل والكتاب المجاني والمعلم المؤهل.
2. توفير السكن والإعاشة لطلاب التعليم العالي، وليس بالضرورة الرجوع لنظام جامعة الخرطوم القديم، بل بضمان أن الطالب في التعليم العالي تتوفر له الموارد كي يسكن ويأكل ويترحل لمكان الدراسة.
ورغم أنه ليس من أغراض هذا الفصل تقييم كل جوانب التوسع في التعليم العالي الذي حدث تحت ظل ديكتاتورية الجبهة الإسلامية إلا أنه من الضروري تناول ذلك على أثر ديمقراطية التعليم بشكل عام وديمقراطية القبول بوجه خاص.
لاشك أن التوسع في التعليم العالي مع افتراض عدم تغيير المعطيات الأخرى يزيد عدد الفرص للاستيعاب ولكن مع افتراض عدم تغيير إيجابي في التعليم الثانوي بحيث يجعل الفرص متساوية حقاً للمنافسة، فالقضية تبقى في مكانها دون حل، خاصة إذا كان القبول مركزياً والمنافسة على نطاق الوطن وليست هناك أماكن محجوزة للمنافسة بين طلاب الإقليم حيث يوجد مقر المؤسسة التعليمية المعنية. ولكننا عندما نتناول المعطيات جميعها نجد أن التوسع لايسهم في ديمقراطية التعليم لأنه يقدم جامعات ومعاهد لا تتوفر فيها سبل التعليم العالي من أستاذ وكتاب ومعمل وأدوات تعليمية مختلفة، بل أنه يهدد بوجود جامعات درجة أولى وأخرى درجة ثانية، لذا يكون برنامجنا لإصلاح التعليم العالي شاملا الإصلاح الكامل لهذه المؤسسات.
القضية الثانية ديمقراطية المعرفة والبحث العلمي في التعليم العالي
ديمقراطية المعرفة تعني تغيير المناهج وطريق التدريس مع تلقين نتائج العلوم لتمليك مناهج البحث من الملاحظة والاستقصاء والاستقراء والتجريب والتجريد إلى التحديد والتعميم من تمليك النتيجة إلى تمليك طريقة اكتشافها، من تلقين المسلمات إلى منهج الشك والنقد والبحث الدؤوب عن الحقيقة لإدراك تعدد طرق المعرفة وتعدد المدارس الفكرية والعلمية من نظام للتعليم يجعل الشخص يتعلم بقية حياته وهو ينتج وهو يعمل ولكن كيف نحل تناقضاً ظاهرياً بين ما ندعو إليه وبين ارتباط التعليم باحتياجات الناس من خدمات وتنمية وإنتاج؟.
نقول أن ذلك تناقض ظاهري لأننا في الحقيقة عندما نتخذ النهج الذي ندعو اليه فنحن نؤهل الخريج الذي يحتاجه المجتمع والذي يستطيع أن يواجه القضايا القديمة والجديدة ويقدم لها الحلول سواء أكان طبيباً أم اقتصادياً أم زراعياً أم كيمائياً أم مهندساً فيلسوفاً كان أم أدبياً ! ففي كل مجال للمعرفة هناك معارف لا يعاد اكتشافها ولكن في كل مجال معرفة هناك حقائق نسبية وهناك إشكاليات معرفية لم تحل بعد. وهناك إشكاليات لم يكتشف وجودها أو لم تصاغ كإشكاليات معرفية حتى الآن وما ندعو اليه يريد اعداد الخريج لكل هذا.
ولنأخذ مثالاً من مجال أعرفه فمثلا من الضروري لطالب الدراسات الاقتصادية أن يتعرف على المدارس الاقتصادية المختلفة وهي كثيرة و من الضروري أن يتعرف على مناهج التحليل الاقتصادي التي تستعملها هذه المدارس من الاقتصاد السياسي للاقتصاد القياسي، من مناهج الاقتصاد الكلاسيكي إلى مناهج المدرسة النقودية النيوكلاسيكية، مروراً بماركس والمدرسة النمساوية ومارشال وكينز والكينزيين الجدد وغيرهم وهو في نفس الوقت مطالب بمعرفة الاقتصاد السوداني، الإقليمي والعالمي وما يدور من حوار وصراع حول تحليلهم وفهمهم، وهو هنا يجمع بين مناهج التحليل وبين ما توصلت إليه تلك المناهج وقادر على الاختيار والاختيار هو مفتاح الديمقراطية.
وديمقراطية المعرفة تعني توفير الكتاب ليس فقط الكتاب المدرسي وإنما ما ينتج في المجال المعرفي من كتب ودوريات علمية وإلا سيصبح الخريج الجامعي متحفاً حاوياً للمعارف القديمة ولمتابعة تطوّر المعرفة لابد من ربط معاهدنا وجامعاتنا بشبكات الإنترنت وإعادة تدريب أساتذتنا لاستعمال التكنولوجيا وطرق البحث والتدريس الحديثة ولعل جامعاتنا هي الوحيدة في العالم التي لا تدرب أساتذتها على طرق التدريس .
ولا شك أن توسع التعليم العالي دون توفير الموارد المالية والبشرية لمقابلته سيكون له أثر سلبي في ديمقراطية المعرفة وفي تفاوت مستويات التعليم بالمؤسسات التعليمية وتدني مستوى التعليم بالمؤسسات الجديدة وسيكون ذلك أحد التحديات الكبيرة التي تواجه عملية الإصلاح بعد إزالة ديكتاتورية الجبهة.
ولا تكتمل ديمقراطية المعرفة بدون حرية البحث العلمي وحرية نشر نتائجه ولا تعني الحرية هنا أي شيء بدون توفير الإمكانيات للبحث العلمي. كما لا تكتمل ديمقراطية المعرفة بدون الانفتاح الثقافي الناقد لثقافات الشعوب الأخرى وللثقافة الانسانية عموما.
القضية الثالثة ديمقراطية ادارة التعليم وانتشار الديمقراطية في المؤسسات التعليمية:
أن بعض جوانب هذه القضية سيحل بشكل تلقائي بمجرد استعادة الديمقراطية في البلاد، إذ أن هناك تراثاً غنياً في ممارسة العمل الديمقراطي في مؤسسات التعليم العالي، ومن هذه الجوانب عودة المؤسسات الديمقراطية للطلاب والأساتذة والعاملين كالاتحادات والنقابات والجمعيات الأكاديمية والثقافية ولجان الأندية والتنظيمات السياسية الطلابية وغيرها، ولدي بعض المؤسسات التعليمية كجامعة الخرطوم مثلاً تراث في الإدارة الديمقراطية من حيث تركيب مجلس الجامعة وتمثيل الأساتذة والطلاب والخريجين ومؤسسات المجتمع المدني وانتخاب المدير والعمداء ورؤساء الأقسام واللجان المشتركة التي يمثل فيها الطلاب والأساتذة والعاملون.. الخ. ويبقى كيفية الاستفادة من مثل هذه التجارب وتطويرها وتطبيقها على مؤسسات التعليم العالي الجديدة، بحيث تعم الديمقراطية كل مؤسسات التعليم العالي وهذا يتطلب اشراك كل أعضاء المؤسسة التعليمية في صياغة قوانينها ولوائحها عن طريق ممثليهم وفتح الحوار حول مشاريع القوانين واللوائح وعقد الاجتماعات العامة والندوات والسمنارات للاستماع لكافة وجهات النظر قبل الصياغة النهائية واقرار تلك القوانين بواسطة أجهزة منتخبة.
صدقي كبلو
مشاركات: 408
اشترك في: الأربعاء مايو 11, 2005 9:02 pm

مشاركة بواسطة صدقي كبلو »

2- ديمقراطية الثقافة وثقافة الديمقراطية
أ- ديمقراطية الثقافة
قضية ديمقراطية الثقافة مرتبطة بإشاعة الديمقراطية في كافة أوجه الحياة في بلادنا، مما يتطلب نشرا واسعا لثقافة الديمقراطية التي ترتكز على إحترام حقوق الانسان والجماعات، خاصة فيما يتعلق بحرية الضمير والاعتقاد وحرية التعبير والنشر، واحترام التعددية الثقافية بما في ذلك تعدد اللغات والديانات والمعتقدات والآراء والأفكار والمذاهب، وحرية التعبير عنهم والدعوة لهم، وهي مرتبطة باحترام حق التنظيم والتجمع وإقامة المهرجانات والاحتفالات وممارسة الطقوس الجماعية والفردية.
وتحتل قضية التعددية الثقافية مركزا أساسيا في ديمقراطية الثقافة لطبيعة التعدد القومي والعرقي وتعدد اللغات في السودان، فإلى جانب الحق الانساني الأصيل لكل الجماعات في التعبير عن نفسها، فإن تطور ثقافة سودانية لا يتم إلا بتلاقح هذه الثقافت المتعددة مع بعضها البعض ومع الثقافة الانسانية عموما في جو من الحرية والديمقراطية (وهذا لا يعني بالضرورة إندماجها أو ذوبان إحدى مكوناتها في أخرى أو هيمنة ثقافة على بقية الثقافات)، لذا من الضروري أن تعبر المؤسسات الثقافية والإعلامية والتعليمية والبحثية عن كل ثقافات السودان، هذا إلى جانب حق هذه الثقافات في التعبير عن نفسها وفقا لمؤسسات أهلية وتطوعية، تقليدية وحديثة.
وديمقراطية الثقافة تتطلب نشرها وتعميمها بحيث تكون في متناول الجميع وهذا يتطلب الاهتمام بأدوات نشر الثقافة من دور للنشر وللصحف والمجلات، وإذاعات و إرسال تلفزيوني وشبكات الأنترنت، والمسارح والأندية والمكتبات العامة والمقاهي ودور العرض السينمائي وصالات المعرض للفنون الجميلة والمتاحف القومية والإقليمية والمتخصصة. مما يتطلب أن تكون الدور التعليمية في التعليم العام والعالي من مدارس ومعاهد وجامعات مراكز للإشعاع الثقافي في مناطقها. ويتطلب هذا الإهتمام بالمؤسسات الثقافية على كل المستويات الاتحادية والإقليمية والمحلية، التابعة للدولة والأهلية التطوعية و التجارية الربحية.
ورغم الدور الهام للدولة في توفير أدوات الثقافة، لكن لا بد من نشر الديمقراطية في إدارة مؤسسات الثقافة والإعلام بحيث تنشأ لها مجالس أو لجان إدارة يمثل فيها العاملون في حقل الثقافة واتحاداتهم ونقاباتهم من كتاب وأدباء ونقاد وفنانين وموسقيين وفنانين تشكيليين ومعلمين والعاملين في المكتبات العامة ومكتبات الجامعات والمعاهد وفي دور النشر والمسارح ...إلخ. ويراعى في تمثيل هذه المؤسسات ممثلو الشعب المنتخبين على كافة المستويات الاتحادية والاقليمية والمحلية، وممثلو الثقافات السودانية المتعددة. إن الإدارة الديمقراطية للمؤسسات الثقافية تضمن عدم خضوع هذه المؤسسات للرأي الواحد أو للبيروقراطية الحكومية أو للرقابة غير الديمقراطية.
ولا بد أن يخضع إنشاء المؤسسات الثقافية لتخطيط يهدف لتوزيعها بشكل عادل في كل أنحاء البلاد، فمثلا نبدأ بإنشاء مكتبة عامة ومسرح ومتحف في كل إقليم، ثم في كل مدينة بها 50 ألف مواطن، ثم لكل مدينة بها 20 ألف مواطن، حتى نصل الى مستوى مجمع للفرى أو القرى الكبيرة، ويمكن الاستفادة من المدارس أو الأندية أو مكاتب الحكم المحلي وهكذا. فمثلا تكون المدرسة مقرا للمسرح بالمدينة، ومجلس الحكم المحلي مقرا للمكتبة العامة. ويمكن العودة لتقاليد مؤتمر الخريجين بإقامة المهرجان السنوي والانتقال به من مدينة لأخرى كل عام، كما يمكن العودة لنظام الدورات الثقافية المدرسية، وتشجيع الأندية الثقافية والأندية متعددة النشاطات الثقافية والاجتماعية والرياضية.
ب- ثقافة الديمقراطية
ولا يمكن تطوير ديمقراطية الثقافة، بل والنظام الديمقراطي كله بدون نشر ثقافة الديمقراطية وسط الأطفال والشباب والنساء، بدء من ديمقراطية الأسرة وإحياء مبادئ التسامح، ونشر ثقافة تقتلع التمييز العنصري والنوعي وتحترم التعدد القومي والثقافي.
والأساس لنشر ثقافة الديمقراطية هو نشر مبادئ حقوق الانسان بتدريسها في المدارس والمعاهد ومن خلال أجهزة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء وتدريسها في كليات الشرطة والسجون والكليات الحربية، والإحتفاء الرسمي والشعبي باليوم العالمي لحقوق الإنسان وبالثورات والهبات الديمقراطية وتشجيع وتنمية منظمات حقوق الانسان الطوعية، وإعطائها حق الرقابة والتفتيش والإهتمام بنشر تقاريرها السنوية عن وضع حقوق الانسان في البلاد.
ونشر ديمقراطية الثقافة يتطلب تدريبا صبورا للتلاميذ والطلاب والشباب على الإدارة الديمقراطية عن طريق تشجيع الجمعيات والمنازل الرياضية والمنظمات الطلابية السياسية والثقافية والرياضية.
ونشر ديمقراطية الثقافة يتطلب أيضا تضمين مفاهيم الديمقراطية في القوانين واللوائح المنظمة والمسجلة لمنظمات المجتمع المدني وجمعياته ونقاباته.
إن العلاقة بين إذدهار ثقافة الديمقراطية وديمقراطية الثقافة هي علاقة جدلية ومترابطة وإن إنتصار الثورة الديمقراطية في البلاد رهين بكسب المعركة الثقافية. كما أن تطور الثقافة العلمية وهي الشرط الضروري للتنمية المستمرة، لا يمكن أن تنتشر ووتتطور بدون ديمقراطية الثقافة وثقافة الديمقراطية.
الدور التنويري والكفاحي للمثقفين الشيوعيين والديمقراطيين
ومن الضروري أن يلعب المثقفون الشيوعيون والديمقراطيون دورا طليعيا في نشر المعرفة والعلم وتطوير الثقافة والفنون والأداب بأشكالها المختلفة، فيكونوا المبادرين في تنظيم حلقات محو الأمية وفي توسع التعليم الحكوميو الأهلي، العام والجامعي والمهني والفني، وفي نشرهم المجلات والدوريات العلمية وفي تصديهم للترجمة ونشر المعارف العلمية والديمقراطية والتقدمية للجماهير وفي تأسيسهم الأندية الثقافية ودعمهم للأندية القائمة وتقديمهم المثال العملي للمنابر الديمثراطية وكيفية إداراتها وكيفية إتاحتها الفرص لكل وجهات النظر والمدارس الفكرية للحوار الديمقراطي الحر والمثمر، المثقفون الشيوعيون والديمقراطيون هم حملة ألوية التنوير وهم مطالبين بخوض كفاح ثقافي ينتصر للثقافية الديمقراطية والمعرفة العلمية وعلى إنتصارهم في هذه المعركة الثافية يعتمد مجمل التحول الديمقراطي في كافة أوجه الحياة.
إسماعيل حامد
مشاركات: 8
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:31 pm

مشاركة بواسطة إسماعيل حامد »

الاعزاء الاستاذ حسن موسي والاستاذ سيف الدين إبراهيم
عاطر التحايا و خالص الشكر انقله لكم باسم الاصدقاء في جمعيه الثقافه السودانيه ببرمنجهام لاهتمامكم المقدر بتجربتنا المتواضعه ..... ورغبه منا في دعم الحوار وتوسيعا لمداراته نضع بين ايديكم ملخص للافكار الاساسيه التي تناولها المتحدثين بشكل موجز اتمني ان لا يكون مخلا . اعتمادا علي ما قام بتدونه عضويه الجمعيه اثناء ساعات المناقشه و جاء غياب التوثيق برغم اهميته لشح الامكانيات و ضيق ذات اليد. وعذرا نقدمه لكم جميعا قراء و مساهمين لتأخير هذا التلخيص.
دعوه شديده الخصوصيه وكثيفه الالحاح اقدمها " للخال" بولا والصديق محمدمحمود الذي حرمنا ارتحاله للعمل في الولايات المتحده الامريكيه تذوق عذب حديثه و ثراء مسا هماته، للمشاركه في هذا الحوار وتفعيله وفقا لم اتسمح به شروط زمنهم. و نحن في رجاك يا صدقي.
ملخص للمساهمات مقدمه علي اساس تراتبها الزمني:
مساهمه لاستاذ محمد جلال هاشم:
ابتدر مساهمته بالتنبيه الي التمييز بين اصطلاح الديمقراطيه والليبرليه، نافيا ما يشاع اصطلاحا بالديمقراطيه الليبراليه.اعقب ذلك التفكيك الاصطلاحي التأكيد علي تعدد اشكال الثقافه السودانيه و تباين انماطها، ويري استاذ محمد جلال برغم ما يمثله هذا التنو ع من ثراء الا ان الدوله و مؤسساتهاانحازت الي ما يسمي بالثقافه العربيه الاسلاميه،قامعه ونافيه لكل ما عداها من ثقافات،وهذا الشكل في التعاطي مع الثقافه السودانيه،قاد الي توتر حاد ما بين المركز والهامش، معتبرا ان هذا المركز لا يقوم علي اساس عرقي بل علي اساس سلطوي، مدعما رؤيته بتقديم نمازج لافراد ينتمون عرقيا الي الهامش و عمليا ايدولجيا الي المركز، وبالتالي ليس من الصحيح النظر للازمه السودانيه علي انها ازمه ما بين الشمال العربي المسلم والجنوب الافريقي المسيحي اي علي اساس التقسيم الافقي خطيا،بل يجب النظر اليها من خلال الجدليه القائمه بين المركز والهامش. ويري محمد جلال ان مؤسسات المجتمع المدني وقواه السياسيه منذ الاستقلال ما هي صوره اخري من صور هذا المركز و معبره عن مصالحه لاغفالها لهذا الجدل.
مساهمه د. محمد عبد السلام نور الدين:
تناول في بدايه حديثه المخطط التاريخي لتطور المجتمع السوداني، ذاكرا ان مصادر التحيز في السودان قامت علي اسس مختلفه فهي اما ان تكون تحيزا قبليا من خلال تعظيم دور القبيله وتراتبها الهرمي، او علي اساس ديني ، طبقي،لغوي ، او تعليمي.
جانب اخر تناوله الدكتور عبد السلام ما يعرف اصطلاحا بديمقرطيه التعليم،والذي يري انه تم التعامل معه بإزدواجيه افرغته من محتواه، وذلك لما قامت به مؤسسات التعليم السودانيه بإختلاف مراحلها من ترسيخ للثقافه العربيه الاسلاميه بإعتبارها هي المظهر الاوحد للثقافه السودانيه، متناسيه عمدا ما عداها من ثقافات. وبدعوته الي تاسيس وترسيخ مفهوم السودان متعدد الهويه اختتم د. عبد السلام نور الدين مساهمته.
مساهمه د. تبيده شوكاي:
من اهم النقاط والعناصر التي تناولتها د.تبيده ما يمكن ان تقدمه اتفاقيه نيفاشا من دعم لمفهوم ديمقراطيه الثقافه في السودان في السودان الجديد.وتتفق د.تبيده مع سابيقيها من متحدثيين من تحيز الدوله السودانيه و مؤسساتها الي الثقافه العربيه الاسلاميه و ما الخرطوم عاصمه للثقافه العربيه للعام 2005 الا مظهر من مظاهر هذا التحيز.
وختاما شكر خاص نقدمه للاستاذ محمد جلال هاشم، د.عبد السلام نور الدين ود.تبيده شوكاي لتكبدهم عناء ما سبق الندوه من انتظار.
صورة العضو الرمزية
ÓíÝ ÇáÏíä ÅÈÑÇåíã ãÍãæÏ
مشاركات: 481
اشترك في: الأربعاء مايو 25, 2005 3:38 pm
مكان: روما ـ إيطاليا

مشاركة بواسطة ÓíÝ ÇáÏíä ÅÈÑÇåíã ãÍãæÏ »

الأخوان صديق كبلو وإسماعيل حامد
شكراً للمداخلة ، ولملخص الأفكار التي تم تداولها في ندوة جمعية الثقافة السودانية ببرمنجهام.
الأخ حسن موسي
أثمن للغاية إنشغالك النبيل بهموم الديمقراطية ، " وحركة إعادة إختراع الحداثة في السودان ، وتعبيراتها المتناقضة ضمن فضاءات السياسة والفن والأدب والفلسفة والدين . وأجد متعة كبيرة في متابعة طرحك المتعدد الجوانب . ولكني - لأسباب عملية وذهنية راهنة – لن أتناول جميع طروحاتك بالتقصي والإفاضة اللآزمتين ، وإنما أكتفي بلمس بعض الجوانب الهامة ، بصفة خاصة في تقديري ، وأفسح المجال للآخرين .
من جملة المزاعم التي طرحتها حول المشروع الديمقراطي السوداني أبدأ بالإشارة للزعم الرابع " الدفاع عن الديمقراطية كسلوك غريزي إنما هو مشروع تربية فردية وجمعية " ، وهو زعم رائع وإن كان بحاجة لمزيد من البحث والتدقيق .
ثم الزعم السابع الذي يربط " حاجة السودانيين لتثبيت الديمقراطية بضرورة التنمية من جهة ، وقابلية الميراث الثقافي الديني لأبناء الطبقة الوسطي العربسلامية من جهة أخري " بوصفهما "تربة خصبة لتفتح نبتة التربية الديمقلراطية كأيديولوجيا جديدة لأولاد وبنات المسلمين ، وكثيولوجيا جديدة للطبقة الوسطي العربسلامية " ، وهو زعم يؤكد تماسك الخيط الوارد بصورة منتظمة ، وسلسة ، في كافة الجوانب اللآحقة من المقال ، وذلك في التعبير عن نقطة مركزية في الطرح ألا وهي فكرة الصراع الطبقي . وقد أجمل كارل ماركس ذلك الطرح في عبارته الشهيرة " التاريخ ماهو إلا سجل لحرب الطبقات " ، وفي تقريره حول" الأيديولوجيا الألمانية" بأن الفكر طبقي ، ثم علاقة ذلك كله بأيديوجيا المجتمع قبل الرأسمالي ، وأيديولوجيا مجتمع رأس المال .
لاأجدني متفقاً تماماً مع مولانا ماركس في زعمه بأن التاريخ ماهو إلا سجل لحرب الطبقات . ولاشك أن توتر العلاقات بين " العندهم والما عندهم " (Those who haves and those who have not) ، سبب أساسي – ومبرر- لإندلاع الثورات . وبإلقاء نظرة سريعة علي تطور المجتمع البشري عبر القرون ، نجد أن العامل المادي وحده لايكفي لتفسير حركة التاريخ ، وأن حركة التاريخ لاتسير في حلقة مفرغة ( بمعني أن التاريخ يعيد نفسه ) وإنما تسير في خط لولبي ( حلزوني ) ، كل درجة من درجاته تشبه سابقتها ، ولاتشبهها ، في الصعود من القاعدة العريضة إلي القمة الدقيقة . وما ذلك إلا لأن قصة المجتمعات تحكي قصة الفرد الذي ظل يسعي منذ هبوط آدم من الجنة ، وإلي يومنا هذا ، إلي تحقيق حريته وكرامته المتمثلة في دقة الفكر ولطافة الشعور ، والتوسل إلي ذلك بالنظم والقوانين التي تكفل له حاجة جسده للغذاء والكساء ، وحاجة عقله للحرية والكمال . المؤرخون الذين ينظرون إلي ماضي المجتمعات البشرية – من شاكلة ماركس – ويخفقون في إستقراء المستقبل ، أنبياء ينظرون للخلف . وقد أخفق ماركس ، كمؤرخ ومفكر إقتصادي ، في إستقراء مستقبل ثورة الطبقة العاملة حين تنبأ بإندلاعها في بريطانيا بوصفها رائدة الثورة الصناعية في عالم تلك الحقبة ، وإذا بها تندلع في روسيا الإقطاعية. وقد جاء لينين من بعده ليقرر أن ديكتاتورية الطبقة العاملة في روسيا ليست ناضجة بما يكفي لإدارة شئون الحكم ، فأضاف " ديكتاتورية الطبقة العاملة والمثقفين الوطنيين " ليقرر أن علي الطبقة العاملة واجب الإنتاج فقط ، وعلي المثقفين الوطنيين واجب التفكير نيابة عن الطبقة العاملة ، وإذا تطاولت اليد لمقام العقل ، تقطع اليد . أو الخبز مقابل الحرية .
ومن هنا أعود إلي عبارتك في زعمك الرابع بأن " الدفاع عن الديمقراطية كسلوك غريزي إنما هو مشروع تربية فردية وجمعية " ، فالديمقراطية نهج تربوي ونظام للحكم . وأدق تعريف للديمقراطية ، كفلسفة ونهج تربوي ، حسب علمي ، قد ورد علي لسان الأستاذ محمود في قوله أن الديمقراطية هي " حق الخطأ " . وهو قول يستمد نوره من الحديث الشريف " إن لم تخطئوا وتستغفروا فسيأتي الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم " . ومشروع التربية الفردية والجماعية يقتضي ممارسة حرية الفكر والقول والعمل ، مع تحمل تبعات الخطأ عند حدوثه ، وفق قانون دستوري يوفق بين جاجة الفرد للحرية وحاجة الجماعة للعدالة الإجتماعية الشاملة.إلا أن التربية لاتتم في فراغ ، ولابد لها من وسيلة ومنهاج . ومن هنا تنبع أهمية الدين ، تحت أي إسم أدرجته .
وعن سؤالك : ماذا نفعل بالدين ؟
أقول :- نستخرج من الدين قيمه الرفيعة المكنوزة في أصول القرآن لحل مشكلة الإنسان المعاصر ، كما يستخرج النحل العسل من رحيق الأزهار ، وكما إستخرج مايكل آنجلو " الرأفة" من الكتلة الصماء . والقرآن - كما قيل - لاينطق ، وإنما ينطق عنه الرجال . والرجال هنا لاتمثلهم الطبقة الإكليريكية التي إحتكرت لنفسها حق العلم والوصاية علي عقول العباد .
أما الديمقراطية كنظام للحكم ، فهي تعني حكم الأغلبية مع إحترام حق الأقلية في المعارضة السلمية . وتجربة الحكم الديمقراطي في تاريخ السودان المعاصر، تجربة بائسة وفقيرة ، رزئت بتغول الطائفية والفكر الديني السلفي - من خلال السلطة التنفيذية- علي إستقلال وصلاحيات الهيئة القضائية بطرد النواب الشيوعيين من البرلمان في الحادثة المشهورة . ولاأعرف نظاماُ للحكم في السودان نهض بقضية الديمقراطية بشقيها التربوي ، والمؤسسي – الدستوري . وماذكرته عن أحداث حركة ثوار 1924 ، وتناسي الكثيرين " إنتماءاتهم العرقية ليتضامنوا مع قادة جمعية اللواء الأبيض الذين خرجوا من رحم طبقة وسطي مدينية علي صورة الهجين العرقي والثقافي لمدينة مطلع القرن العشرين " يندرج في إطار" التسامح " وقبول الآخر كناتج طبيعي لإفرازات العدالة الإجتماعية ، والتي هي بدورها ناتج طبيعي "للغريزة " الديمقراطية , "والغريزة" الإشتراكية ، الساذجة ، في البنية السودانية . فالسوداني بطبعه " متسامح " ، وإن لم يكن ديمقراطياً بصورة واعية ، وإشتراكي خارج الأطر والطروحات السياسية والآيديولجية . والمطلوب هو " تقنين " وإرساء دعائم المؤسسية لصالح تلك القيم ، والجمع بينهما في جهاز حكومي واحد . وياله من طلب عجزت عن تحقيقه كل النظم والفلسفات المعاصرة ، وهو المؤشر الفاضح للخلل الذي تعاني منه المدنية الغربية الحاضرة ، ووصولها لنهاية الطريق المسدود .
لم أطلع يا حسن علي أي عدد من إصدارات " جهنم " ، وأشكرك علي الإهتمام بإطلاعي عليها، وأرجو أن تتمكن من إعادة كتابة " السير عبد الرحمن ، حداثة الغبش " في إحدي صفحات الموقع للإنتفاع بملاحظات الجميع حول ما أسميته مشروع " الحداثة السودانية " .
لاأستطيع أن أري ياحسن الكيفية التي يمكن للسيد عبدالرحمن المهدي أن " يباصر " بها المخرج من آيديولوجيا المجتمع قبل الرأسمالي لآيديولوجيا مجتمع رأس المال . فقد كان آل المهدي – إلي وقت قريب – يعيشون ، عملياً ، في عهد الإقطاع " المجتمع قبل الرأسمالي " في الجزيرة أبا . والإسلام ، بشريعته الأولي ، الإقتصادية ، أقر الإقطاع الذي يبيح ملكية وسيلة الإنتاج ( الأرض ) ومن عليها من البشر ( الرقيق ) ، وإن رغب عن ذلك أخلاقياً ( وليس تشريعياً ) . وأري أن أي جهد آيديولوجي إصلاحي - في زمننا هذا- لاينبغي ان ينطلق من آيديولوجيا المجتمع قبل الرأسمالي إلي آيديولجيا مجتمع رأس المال ، وإنما ينبغي أن ينطلق من آيديولوجيا مجتمع رأس المال ، إلي آيديولوجيا المجتمع الإشتراكي .
وبالتالي لايمكن للمهداويين ، والسلفيين ، " وكل السودانيين الذين ولدوا في القرن العشرين " كما تفضلت ، أن يكونوا بالضرورة حداثيين " لمجرد كونهم ولدوا ضمن السياق الإجتماعي التاريخي لحداثة رأس المال " . فمجتمع رأس المال ، وإن كان مهيمناً حالياً ووصل إلي أعلي مراحله بالإستعمار ( كما هو الحال في العراق مثلاً ) ، فإن مآله إلي مزبلة التاريخ . وحداثة الفكر الإشتراكي نفسه ، مرحلة علي الطريق إلي رحاب أفضل نحو الشيوعية التي لم تقطف ثمارها حتي دول الإتحاد السوفيتي سابقاً ، مع كونها مهد الثورة البلشفية .
لابد أن أتوقف هنا .
مودتي .
سيف
" جعلوني ناطورة الكروم .. وكرمي لم أنطره "
نشيد الأنشاد ، الذي لسليمان .
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

حداثة الغبش

مشاركة بواسطة حسن موسى »

حداثة الغُبُش
"السير" عبد الرحمن المهدي

الاعزاء صدقي و اسماعيل حامد الف تحية و شكرا على المداخلة و التلخيص الموجز و سلام من على البعد لصحاب الهم الديموقراطي السوداني.
العزيز سيف الدين
شكرا على كتابتك الشيقة المركبة كونها نبهتني الى طيات كانت خافية عليّ في المناقشة الجارية في خصوص المشروع الديموقراطي السوداني.
أولا ،أوافقك بأن مشروع بناء " غريزة "(يالها من عبارة) ديموقراطية في السلوك السياسي السوداني هو زعم " بحاجة لمزيد من البحث و التدقيق" كما جرت عبارتك.و أنا يا صاحبي مقيم على هم البحث في هذا الشأن بطريقتي ـ ترجم: بالبصارة ـ و في قاع الخاطر القناعة الشعبية بأن" من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم "، و ذلك في معنى جدل " ديالكتيك"العلاقة بين العمل و العلم.. و الله أعلم( و الله أعمل.. كمان).
المهم يازول، التاريخ الذي هو " سجل لحرب الطبقات " هو بالتحديد تاريخ المجتمع الطبقي التناحري.و لكن اذا تمادينا ـ مع مولانا ماركس ـ بمنطق صراع الطبقات لنهاياته ، فغاية الصراع هي تقويض المجتمع الطبقي و تأسيس يوتوبيا التضامن الخلاق في مجتمع يصنع تاريخه على أساس قيم انسانية لا طبقية.وأنا أؤمن ـ مع ماركس و آخرين ـ بكون تاريخ الانسانية لم يبدأ مع ظهور الطبقات مثلما أن نهاية مجتمع الطبقات لا تعني نهاية التاريخ لأن تاريخ الانسانية أكبر من السعة التاريخية لمجتمع الطبقات.و رغم أن الناس تعودوا الحديث عن التاريخ بمفصلته مع عصر غامض اصطلح الأوروبيون على تسميته بـ "ما قبل التاريخ" فأنا أؤمن بأن التاريخ لم " يبدأ" بعد نهاية
" ما قبل التاريخ " مثلما هو لم " ينته " بعد سقوط حائط برلين ، مثلما هو لن ينته بنهاية مجتمع الطبقات. و ذلك لأن التاريخ انما ينتج من قدرة المجتمع الانساني على اسقاط الدلالات الثقافية على الاحداث التي تؤثر فيه ضمن الزمان و المكان اللذين يؤطران وجوده ، و على هذا ينتج مجتمع الطبقات تاريخ حرب الطبقات.و اذا كان الرجال و النساء من معاصرينا الذين نشاركهم الوجود قد أنتجوا مفهوم التاريخ كتدبير أيديولوجي لتبرير الحدود الطبقية (الثقافية و الاقتصادية و السياسية الخ) التي يصونون ضمنها امتيازاتهم المذنبة و التي يباشرون عليها استبعادنا أو ضمّنا و استعبادنا، حسب ما يتوافق مع مصالحهم المادية و الرمزية، فان اليوتوبيا التي ستلغي الحدود الطبقية ستبذل لبني الانسان حدودا جديدة تليق بجلال الحلم الانساني الفادح الذي لا يأبه الحدود.هذه اليوتوبيا انما تكون خارج التاريخ الذي يعرفه ماركس كـ " سجل لحرب الطبقات" بين دفتيه تتحددجملة الحتميات الثقافية الاقتصادية التي تجعل من المادية التاريخية وسيلة علمية لفهم تاريخ المجتمع الطبقي.
سيف الدين ، أنت رجل دقيق العبارة،و هذا شيء نادر بين الكتاب الذين يعالجون أدب الفكر السياسي في بلادنا. و قد أعدت أنا قراءة الفقرة التي تقول فيها بعدم اتفاقك مع مولانا ماركس أكثر من مرة بسبيل استجلاء طبيعة الحجج النقدية المضمنة فيها، وقد حيرني فيها طابع التعميم الذي يجازف بالاشتطاط انطلاقا من " نظرة سريعة على تطور المجتمع البشري عبر القرون".فمن هذه النظرة السريعة تنبثق المقولات المكلّفة المنسوبة اضمارا الى ماركس،و التي تستنتج منها اخفاق ماركس" كمؤرخ و مفكر اقتصادي". تقول:
1 ـ " نجد أن العامل المادي وحده لا يكفي لتفسير حركة التاريخ
2 ـ و أن حركة التاريخ لا تسير في حلقة مفرغة(بمعنى أن التاريخ يعيد نفسه)و انما تسير في خط لولبي(حلزوني)، كل درجة من درجاته تشبه سابقتها ، و لا تشبهها في الصعود من القاعدة العريضة الى القمة الدقيقة"
و بعد هذه المقولة ترد عبارتك:
3 ـ " و ما ذلك الا لأن قصة المجتمعات تحكي قصة الفرد الذي ظل يسعى ".." الى تحقيق حريته..الخ"
4 ـ " و قد أخفق ماركس كمؤرخ و مفكر اقتصادي ، في استقراء مستقبل ثورة الطبقة العاملة حين تنبأ باندلاعها في بريطانيا بوصفها رائدة الثورة الصناعية في عالم تلك الحقبة، و اذا بها تندلع في روسيا الاقطاعية..".
و أنا يا صاحبي لا أتفق معك في كون حركة التاريخ يمكن تفسيرها بخلاف ما أسميته بـ " العامل المادي ". أقول قولي هذا و أنا أكاد أسمع بقية عبارتك من ذاكرة الأدب الجمهوري الذي يزاوج بين " العامل المادي " و " العامل الروحي " لتفسير حركة التاريخ. هذه المناقشة التي تفترض أن طرفيها يسلّمان بفرضية وجود الروح كنقيض أو كتكملة لوجود المادة، هي مناقشة قديمة ، قدمها لا يبرر اهمالها ،و يمكن أن نتأنّى عندها ضمن براح غير هذا، و أتوقف هنا كون كلامي هذا انما ينبني على افتراض ألهمتني اياه معرفتي بخبرتك بالفكرة الجمهورية.
و في نقطتك رقم 2 يفهم القارئ أنك تنسب لماركس مفهوم حركة التاريخ التي "تسير في حلقة مفرغة" و تعيد نفسها ، و ماركس بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، فأين وجدت مثل هذا الفهم في أدب ماركس؟
و في نقطتك رقم 3 استوقفتني عبارتك " و ما ذلك الا لأن..." و قد فهمت أن " ذلك " انما تشير الى ديالكتيك حركة التاريخ على نموذج الخط اللولبي اياه ( و هي فكرة ماركسية) غير أنك تجعل لحركة التاريخ غاية " تطورية" " في الصعود من القاعدة العريضة للقمة الدقيقة"، و غائية التاريخ مفهوم ديني لا يلزم غير أهل الاعتقاد، ذلك أن معنى حركة التاريخ انما يرتهن بطبيعة الجهة الطبقية التي تنتجها مثلما ترتهن بواقع تناقض المصالح تحت شروط المجتمع الطبقي و" الفي ايده القلم يكتب التاريخ على كيفه" كما يقول مثل سوداني من تدبيري.
و في نقطتك رقم 4 أبحت لنفسك ادانة" ماركس كمؤرخ و مفكر اقتصادي" لمجرد أن الثورة لم تندلع كما تنبأ لها في بريطانيا.و أنت تعلم أن نبوءة ماركس كانت تعتمد على المعطيات المادية لنموذج مجتمع رأسمالي قمين بانجاز الوفرة في الانتاج.و أن الثورة ،كفعل تغيير جذري تنجزه الطبقة العاملة، انما تستهدف ـ عند ماركس ـ تحقيق عدالة توزيع هذه الوفرة. و على هذا المنطق لم يكن واردا في مشهد ماركس امكانية لتحقق الثورة في بلد لا يعرف وفرة الانتاج كروسيا القرن التاسع عشر.فماذا حدث اذن في روسيا؟ هل هي ثورة بالمفهوم الماركسي لفعل الثورة ؟ أم هي ثورة بورجوازية دبرها نفر من مثقفي الطبقة الوسطى الروسية باسم الطبقة العاملة؟

ان موضوعة فشل نبوءة ماركس بشكلها الذي أوردتها به ـ أعني بالشكل الذي يربط بين فشل الثورة في بريطانيا المصنعة و نجاحها في روسيا الفقيرة الخ ـ ليست جديدة في الأدبيات السياسية المعارضة للماركسية، بل هي تبدو كمثل لازمة ثابتة تتردد في معظم النقد الموجه لماركس عند من يتذرعون بفشل نبوءته لدفن مجمل مساهمته الفكرية الجبارة.و ايراد فشل نبوءة ماركس بثورة بريطانيا مع اندلاع " ثورة الطبقة العاملة" في روسيا الاقطاعية أمر ينطوي على اجحاف في حق مفهوم ماركس للثورة مثلما ينطوي على عدم دقة في قراءة ما حدث في روسيا البولشفية.
أقول قولي هذا و أنا عارف بأن كثير من مقولات ماركس تظل قابلة للنقد على أكثر من وجه ، الا أن قابلية الرجل للنقد لا ينبغي لها أن تحفزنا على " دفن الليل.." في حق مفكر من طينة ماركس.
و في نهاية تحليل ما، فأنا لا أعتبر نفسي ماركسيا بالضرورة ـ و ان كنت أعتبرني شيوعيا بالقوة ـ كون المشروع الشيوعي هو الشكل الذي أعقله ليوتوبيا الرفاه و العدل التي أسعى نحوها، و في هذا المشهد ينوبني من ماركس بضعة أفكار و مفاهيم نقدية اتبناها بقدر كفاءتها في تفعيل مشروعي الشخصي نحو اصلاح الحداثة.
سيف الدين يا أخانا الذي في روما ..
كونك لم تطّلع بعد على أي من اعداد جهنم خلل يهمني اصلاحه فورا. و أبدأ و اقول لك
: مرحبا بك في رحاب" جريدة الهدم النقّاد و المعارضة" المشهورة تحت اسم
" ج هـ ن م " و هي نوع من رسالة عامة للخاصة، تعنى بما لا يعنيها و تخوض في كل أمور الوجود على نحو معملي، و طموحها تأسيس عادات كتابة نقدية جديدة على شرط الحرية.و توزيعها يتم مجانا بين الصحاب على منطق صاحب صاحبك صاحبك.
هذا الحديث يوصلنا لموضوع حداثة السيد عبد الرحمن المهدي.
تسألني عن الكيفية التي باشر عليها السيد عبد الرحمن المهدي الخروج من أيديولوجيا التقليد قبل الرأسمالي لآيديولوجيا الحداثة الرأسمالية. وقد فهمت من الفقرة الأخيرة في مداخلتك اعتراضك على توصيفي " للمهدويين و السلفيين و كل السودانيين الذين ولدوا في القرن العشرين" بصفة حداثة رأس المال. و قد بدا لي من ثنايا حديثك أنك تثمن الحداثة عاليا و تستكثرها على من لا تراهم يستحقونها مثل المهدويين و الاسلاميين السلفيين ، و أظن أن مثل هذا الموقف انما ينطوي على تعريف ايجابي للحداثة كقيمة أخلاقية انسانية و تنويرية . و لي أكثر من اعتراض على اعتراضك كوني أرى الحداثة كمفهوم طبقي.يعني كل زول بحداثته التي يخلقها تخليقا و يفاوض عليها من واقع تناقضات المصالح المادية. ذلك أننا لم نكن أبدا في مركز من يملك حق الاختيار بين الحداثة و غير الحداثة، فقد أخذتنا النسخة الاوروبية النصرانية لحداثة رأس المال على حين غرة ، و غمرتنا و جرفتنا كما السيل، فانجرفنا و فينا نفر سلم أمره لولاة أمور حداثة السوق، و فينا من عزم على المقاومة حتى الموت، و فينا من يفاوض سبل اصلاح ما يمكن اصلاحه بسبيل تقعيد الحداثة بأقل الخسائر الممكنة، و بين هؤلاء و أولئك شعوب و قبائل يموجون في مسالك متاهة الحداثة البديعة.
المهم يا زول ،أخلص من هذا أن الحداثة في بلادنا و في غيره انما هي " خشوم بيوت"، و من بيت عبد الرحمن المهدي خرجت نسخة سودانية مميزة لحداثة رأس المال . هذه النسخة استرعت اهتمامي و أنا أنظر في أدبيات المهدية و النيو مهدية بحثا عن مؤشرات تنفعني في مبحث حول صورة جسد الرعية و جسد الراعي.و لكي لا أطيل فسأواليك بالنص الذي نشر في جهنم في حلقات أرجو لها أن لا تطول.
مودتي
حسن
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

محاولات سودانية في تملّك الحداثة
" السير " عبد الرحمن المهدي

" بيعة قص الرقبة"

صورة الامّة في الاحتمال المهدوي السوداني تستلهم صورة الجسد الانساني ككيان حي متضامن في السراء و الضراء، و على نموذج الجسد تنطرح العلاقة بين الراعي و الرعية كعلاقة بين " الرأس/الارادة" و " الجسد/الوسيلة". و بقدر ما تتضامن الارادة و الوسيلة تتمكن الأمة من تحقيق تفتحها و انجاز مشروعها الوجودي.و على هذه الصورة يمكن فهم طقس البيعة كلحظة محورية في عملية احكام التضامن بين " الرأس/ الراعي" و
" الجسد/ الرعية". فالراعي ليس مجرد زعيم يطاع و لكنه " امام" يتّبع، و " هادي " يهتدى به، و " مثل " يقتدى به و " وسيلة " و " ملاذ " و " حبيب" يبث " الأشواق الغريزية"، على حد تعبير " عثمان دقنة" ، في تقاريره المرفوعة للمهدي عن حال الجهاد في الشرق.
( محمد ابراهيم أبوسليم، مذكرات عثمان دقنة،1974 ،دار جامعة الخرطوم للنشر ، ص 86 ).و الرعية ليست مجرد جمع من الجنود أو المقاتلين، و انما هي ، بالنسبة للراعي
" أحباب" و " أصحاب " على صورة صحابة النبي.
و قبيل الهجوم على الخرطوم ، يخطب المهدي في جموع الانصار من فوق جمله، و يطلب منهم أن يبايعوه على الموت.و ينقل بابكر بدري في مذكراته عبارة المهدي الرهيبة:
"بايعوني على قص الرقبة.
و سكت هنيهة حتى قال كل الجيش بصوت واحد:
بايعناك على قص الرقبة
و كرر هذه العبارة ثلاث مرات.."
(بابكر بدري ، تاريخ حياتي ، الجزء الاول، 1959 ,ص 35)
و يقول بابكر بدري:و بعد ذلك " بايعنا البيعة المعتادة، و هي : بايعنا الله ورسوله و بايعناك على أن لا نشرك بالله شيئا و لا نسرق و لا نزني و لا نعصيك في معروف، و أن لا نفر من الجهاد.(و ربما زاد): بايعناك على زهد الدنيا و اختيار الآخرة" ص 35 .
و وصف بابكر بدري للبيعة الثانية بصفة " المعتادة" يزكّي البيعة الاولى كـ " عقد " غير عادي، يطلب الراعي فيه من أفراد الرعية أن يعطوا حيواتهم " رقابهم" للقضية ، في حين أن البيعة العادية تتعلق بمسائل الالتزام بضوابط السلوك الديني و واجبات المسلم العامة التي عرّفها التنظيم الاجتماعي للمهدية. و على هذا يمكن الحديث عن تراتب في مستوى المطالبات التي يطرحها الراعي على جسد الرعية. و في مرتبة المطالبات " المعتادة " يطلب الراعي من الرعية أن تسخر طاقاتها المادية و الروحية لصيانة الامّة، غير أن ذلك لا يمنعه ، حين يحين الحين ، من أن يطالبها بأن تضحي بكل شيء لصالح الهدف السامي. و في كل حالة فالراعي يظل في حالة اندماج تام في جسد الرعية. فهو العبد الفقير الطامح للشهادة مثله مثل بقية الاحباب و الاصحاب من أفراد الرعية، ميراثه ميراثهم و مصيره مصيرهم.و اندماج قدر الراعي مع قدر الرعية لا ينفي التراتب بالكلية.و يبقى التراتب الوحيد الممكن بين الراعي و الرعية في المجتمع قبل الرأسمالي على صورة العلاقة بين الأب و أبناءه وفق نموذج المجتمع الابوي" البطرياركي" الذي تختلط فيه صورة الاب بصورة الزعيم القيّم على أمّة هي ، في آن ، رعيته و ذريته من لحمه و دمه، مثلما هي عرضه و ماله و غاية وجوده كله.
لكن هذه الصورة انمسخت و تبدلت مع استقرار مؤسسات الحداثة الرأسمالية في مجتمعنا مع نهاية القرن التاسع عشر.و الشكل المتسارع العنيف الذي لازم اختراق مؤسسات السوق الرأسمالي ـ مؤسسات الحداثة الاستعمارية ـ في بلادنا ، أكسب جيل السودانيين الذين ولدوا عند مطلع القرن العشرين وضعية غريبة ، كونهم يملكون الاحساس بكونهم يشكلون ، في آن واحد ، ذاتا و موضوعا لتاريخ الحداثة في السودان.خطر لي هذا الخاطر و أنا أطالع " مذكرات الامام عبد الرحمن المهدي"( مركز الدراسات السودانية 1966 )، هذا الرجل الذي كتب عليه ، في لحظة حرجة من تاريخ السودان، أن يحافظ على توازن عسير بين ميراث البنى الثقافية التقليدية المهزومة، و أعباء التأسيس للبنى الثقافية الحديثة الظافرة التي اكتسحت أرض التقليد بالعنف طورا و بسحر القيم الحديثة أطوارا .
يقول السيد عبد الرحمن المهدي في الفصل الذي يحكي فيه كيف جمع ثروته، و عنوانه ببراءة: " كيف جمعت ثروتي؟" :
" صحب الحكم الأجنبي مثلا جديدة و قيما لا عهد لنا بها. و أخذت هذه القيم تتغلغل في النفوس تدريجيا و تحولت نظرة الناس للحياة شيئا فشيئا حتى أصبح الجيل الذي نشأ في ظل الحكم الثنائي يعتبر العمل و الكسب المادي شارة النجاح، و لم يكن العمل و الكسب المادي من المثل المرموقة أبان المهدية، بل كان التقشّف و الاستشهاد في سبيل دين الله هما غاية ما يصبو اليه رجال الطليعة في ذلك العهد.لذا فقد عجز الرجال الذين تشرّبوا بمبادئ المهدية واكتملت شخصيتهم في عهدها عن مجاراة الحياة في عهد الحكم الاجنبي. فمنهم من حاول أن يقوم بثورة مسلحة مثل " ود حبّوبة" ، و منهم من انصرف كليا عن الحياة الجديدة و قبع في داره منتظرا آخرته.."(ص 56).
و كان السيد عبد الرحمن الذي خبر عنف التأسيس الحداثي الدامي في لحمه و هو طفل لم يبلغ الحلم( واقعة الشّكّابة) كان على وعي بالخيار الذي طرحته أمامه مؤسسات الحداثة الاستعمارية.و هو خيار بسيط و رهيب:
امّا " قص الرقبة " و الموت دفاعا عن التقليد ،أو الامتثال و الانخراط في حياة الحداثة بما تنطوي عليه من" عمل و كسب مادي".و قد عبّر السيد عبد الرحمن عن اختياره للحداثة بعبارة ذكية حين قال:" كنت أرى في الانصراف عن الحياة هزيمة لا أرضاها.."(ص 56).ذلك أن الحركة المهدية التي ورث أشلاءها لم تكن مجرد جيش من المقاتلين المهزومين ، و لكنها كانت كيانا ثقافيا مركبا يجسد جماع ثقافة المجتمع السوداني قبل الراسمالي.و حين سمحت له الحكومة الاستعمارية باستغلال الاراضي الزراعية في الجزيرة أبا، قصده الانصار المتمسكون ببيعتهم للامام المهدي و تجمّعوا حوله رهن الاشارة، يعمّرون و يزرعون و ينظفون أراضي الجزيرة أبا، و كان القانون يسمح بأن يتملّك الشخص الارض التي يعمّرها.
و يحكي السيد عبد الرحمن أنه مع حلول عام 1920 ، كان قد عمّر أغلب أراضي الجزيرة أبا، و يقول:" و حسب القانون سجّلت لي الارض التي عمّرتها، ثم أعطيت الارض المعمرة للأنصار لزرعها دون مقابل" (ص 57).حتى ذلك الحين كانت العلاقة بين السيد عبد الرحمن و الانصار المهاجرين العاملين في تعمير و زراعة أراضي الجزيرة أبا تعتمد على مرجعية العقد التقليدي ( البطرياركي) بين الراعي و الرعية، مرجعية البيعة على الجهاد في سبيل الله حتى و لو كانت عاقبتها " قص الرقبة". و عليه كان المجاهدون ينظفون الارض، لا بغرض " العمل و الكسب المادي"، و انما كمجرد ضرورة مرحلية للعيش في انتظار ساعة الجهاد و الشهادة.و كان الزعيم ، كما يقول ، يعطي الارض المعمرة للأنصار لزرعها دون مقابل ( لا حظ أن الانصار هم الذين أنجزوا تعمير الارض).ذلك أن الزعيم لم يكن ليبيح لنفسه أن يملك شيئا من حطام الدنيا الزائل.أقول : حتى هذه اللحظة كان المنطق الذي يحكم العلاقة بين الامام و الانصار هو منطق المجتمع المهدوي التقليدي. و كان الامام على وعي بدوافع الانصار الجهادية في العمل الزراعي ، أو كما عبّر:
" الواقع أن السيل المتدفق من الانصار نحو أبا ، و تلك الالوف التي تركت ديارها و أهلها و مالها لم تتجه نحو أبا لتعمل في الزراعة أو في خلافها، بل أتت لتسمع كلمة مني أعلن بها الثورة على الحكم الاجنبي، و كما ذكرت ، لم تكن الثورة من رأيي في ذلك الظرف.."(ص 57).لماذا ؟و يجيب السيد عبدالرحمن في بساطة الحس الريفي السليم :
" كنت أرى أن الثورة المسلحة آنذاك مقضي عليها بالفشل".
صورة العضو الرمزية
ÓíÝ ÇáÏíä ÅÈÑÇåíã ãÍãæÏ
مشاركات: 481
اشترك في: الأربعاء مايو 25, 2005 3:38 pm
مكان: روما ـ إيطاليا

مشاركة بواسطة ÓíÝ ÇáÏíä ÅÈÑÇåíã ãÍãæÏ »

الأخ حسن
الشكر مجدداً .
ماقصدته في النقطة رقم 2 ، هو التفسير المادي لحركة ا لتاريخ تحديداً ، وهو الجانب المتعلق بالفهم الماركسي . أما " إعادة التاريخ لنفسه " ، فهوإستطراد عام لاأرمي نسبته إلي ماركس بالضرورة . وقد يعزي ذلك إلي عجلة في الصياغة وبعض " التشتت الذهني " الذي أشرت إليه في صدر حديثي ، فمعذرة .
· بما أني لاأجيد " الكوتيشن " ، بإقتباس سطر أو سطرين أثناء الرد ، فسأنقل نقلاً .. " وأنا ياصاحبي لاأتفق معك في كون حركة التاريخ يمكن تفسيرها بخلاف ما أسميته "بالعامل المادي " .
يقودني هذا الرأي للإشارة للحروب التي إندلعت خارج نطاق الصراع الطبقي والدوفع التناحرية المادية ، منذ العصور الإغريقية القديمة حين نشبت أشرس الحروب " لأسباب عاطفية " تتعلق بإمرأة صارخة الجمال ، ثم غزوات روما الإمبريالية حتي مصر الفرعونية وقصة أنطونيو وكليوباترة المفعمة بالرومانسية ، ثم الفتوحات الإسلامية من شبه الجزيرة العربية حتي جبال البرنس بشمال غرب أوربا ، ثم الحروب الصليبية ، إنتهاءاً بأكثر الحروب مأساوية في تاريخنا الحديث - الحرب العالمية الثانية ، ذات الطابع العنصري حين قاد هتلر حرباً قضت علي الأخضر واليابس لتوكيد سيادة الجنس الآري علي الشعوب ، بما في ذلك الأنجلوساكسون . فالعامل " المادي" هنا يا عزيزي يتواري خجلاً أمام العوامل العنصرية والرومانسية والدينية للحروب .
· إذا كان ديالكتيك حركة التاريخ علي نموذج الخط اللولبي هي فكرة ماركسية ، ولكنها ليست غائية ، فإلي أين يقود هذا الخط اللولبي ؟
إذا رجعنا إلي عبارتك " وتمادياً مع مولانا ماركس بمنطق صراع الطبقات لنهاياته ، فغاية الصراع هو تقويض المجتمع الطبقي وتأسيس يوتوبيا التضامن الخلاق في مجتمع يضع تاريخه علي أساس قيم إنسانية لا طبقية " .
ألا نجد هنا أن للتاريخ " غائية " تستهدف إحراز وتمثل قيم إنسانية ؟ ثم ما هي هذه القيم الإنسانية و مدي رفعتها وعلو شانها ؟ أليست هي قيم الخير والحق والجمال والسلام ، التي نسعي جميعاً لتحقيقها وإن إختلفت الألوية الفلسفية والثيولوجية التي ننضوي تحتها ؟
ثم إن القيم الإنسانية نفسها نسبية ، حضارية كانت أم مدنية ، بدأت منذ إنسان الكهوف وإمتدت إلي عصر كوفي عنان و حقوق الإنسان والعولمة والواقع الإفتراضي الإلكتروني . ألا يشير ذلك إلي أن لحركة التاريخ غاية " تطورية " في الصعود من القاعدة إلي القمة ؟
لنتفق أولاً علي مفهوم " غائية التاريخ " ، ثم لنري ، بعد ذلك ، إن كانت مفهوماً دينياً " لايلزم غير أهل الإعتقاد " ، أم معني عريضاً تصب فيه كل روافد القيم الإنسانية .
الغاية من حركة التاريخ ، في تقديري المتواضع ، هي تحقيق السلام علي سطح هذا الكوكب وداخل البنية البشرية علي حد سواء . فالحروب في الآفاق- حقيقة - هي إنعكاس للحرب النفسية المشتعلة داخل البنية البشرية المنقسمة بين العقل الواعي والعقل اللآواعي , ونتيجة للخوف الطبيعي الموروث منذ بدء الخليقة ، والخوف المكتسب في السلوك الإجتماعي . وغائية التاريخ هي أن يعيش الإنسان في سلام مع نفسه ،ومع الآخرين، و مع البيئة المحيطة به. وتنبثق عن هذا السلام الداخلي ، في البنية البشرية ، كل معاني الخيروالحق والجمال . وأعتقد أن هذا ماتسعي إليه بلا شك ، بوسيلتك الخاصة ، التي توسمتها في الفن . فإذا صح ذلك ، فأنت ياصاحبي من " أهل الإعتقاد " ، وعقيدتك هي الفن ، كما كانت عقيدة إبن الرومي هي الموسيقي حين قال " الطرق إلي الله متعددة ، وأنا إخترت طريق الموسيقي " . وأينشتاين من أهل الإعتقاد بموجب نظريته "النسبية " التي أثبت بها أن المادة(الذرة)إذا إنشطرت إلي أدق جزيئاتها تتحول الي " طاقة " تدفع وتجذب في الفضاء ، وسمح لنا أن نسمي هذه الطاقة بأي إسم شئنا ، وهي تعني عنده " الله " . فعندما يثبت لنا أعظم علماء العلم التجريبي المادي المعاصرين بالدليل العملي (إنفجار القنبلة النووية ) ، أن المادة ، لدي التحليل الأخير ، ليست هناك ، وإنما هي في الواقع طاقة ، أو " روح " أو سمها ما شئت ، فيجب أن نعيد حساباتنا علي ضوء هذا الكشف العلمي المذهل ، ونعيد قراءتنا للأشياء ، علي قول الشاعر الفيتوري ، "واهم من ظن الأشياء هي الأشياء " ، ولاأشك في أن مولانا ماركس ، لو عاصر هذا الكشف العلمي الحاسم لأعاد النظر في فلسفة المادية الجدلية .
إذن من منطلق العلم التجريبي المادي ، وما أسماه الأستاذ محمود محمد طه بالعلم التجريبي الروحي ، فالإختلاف بين المادة والروح إختلاف مقدار “ quantitive “
وليس إختلاف نوع qualitative “ ، ويصب كل الحديث ، بالتالي ، عن النشوء والتطور وغائية التاريخ ، وما إلي ذلك ، في خانة واحدة في نهاية المطاف هي الوحدة ، وحدة الوجود ، ووحدة البنية البشرية، والإنتقال من الكثيف إلي اللطيف، ومن الجهل إلي العلم ومن الخوف الي الأمن والسلام .
أوافقك القول بأن إندلاع الثورة البلشفية في روسيا الإقطاعية بدلاً عن بريطانيا الصناعية ، الأولي في العالم وقتها ، لا ينبغي أن يقلل من شأن الدراسات القيمة لماركس في هذا الصدد ، لأن الظروف الموضوعية لقيام ثورة الطبقة العاملة كانت متوافرة في بريطانيا أكثر من روسيا . ولكن لماذا نجحت الثورة البلشفية في إزالة الإقطاع من روسيا والإنتقال بها الي الإقتصاد الصناعي والزراعي ، وغزو الفضاء الخارجي ، بينما بقيت بريطانيا معصومة حتي الآن من ديكتاتورية الطبقة العاملة؟
مع خالص مودتي .
سيف
" جعلوني ناطورة الكروم .. وكرمي لم أنطره "
نشيد الأنشاد ، الذي لسليمان .
صورة العضو الرمزية
ÓíÝ ÇáÏíä ÅÈÑÇåíã ãÍãæÏ
مشاركات: 481
اشترك في: الأربعاء مايو 25, 2005 3:38 pm
مكان: روما ـ إيطاليا

مشاركة بواسطة ÓíÝ ÇáÏíä ÅÈÑÇåíã ãÍãæÏ »

معذرة يادكتور ، إذ لم أر مداخلتك الأخيرة " محاولات سودانية في تملك الحداثة " إلا بعد إرسال مداخلتي أعلاه .
مع الشكر .
سيف
" جعلوني ناطورة الكروم .. وكرمي لم أنطره "
نشيد الأنشاد ، الذي لسليمان .
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

السير عبد الرحمن 2


سيف الدين يا أخانا الذي في روما
سلام جاك و شكرا على مداخلتك العامرة التي تفتح بابا للريح في المفاكرة الشيقة الجارية في بلادنا و في غيرها بخصوص معنى التاريخ. و هي مناقشة محورية تتقاطع عندها دروب مفاهيم مهمة كمفهوم الآيديولوجيا ومفهوم الهوية و الدين و الفن و.. الخ. وأنا ممتن لك كونك فتحت هذا الباب و أطمح للانتفاع بملاحظاتك النقدية في اعادة النظر النقاد في طرحي.
سيف أتوقف هنا حتى أعود لمواصلة بقية كلامي في موضوع حداثة السيد عبد الرحمن المهدي، و كنت قد بدأت نقله من المسند الورقي على المسند الرقمي، و أنا ياصاحبي من طائفة " السبّابة". و السبّابة في لغة أهلنا نفر من أهل التجارة الافتراضية يتاجرون في الاسواق بغير رأس مال و يتحركون بذريعة الوساطة في الـ " نومانزلاند" الكائنة بين بائع و مشتر ليست بينهما معرفة.و لعل أصل العبارة من كون السبّابي يبذل للبائع و للمشتر سببا يتحقق معه الرزق و الله أعلم... أما السبّابة الذين أنتمي اليهم فهم أكثر تواضعا من أهل السوق، فهم الناس الذين يضربون على الآلة الطابعة بسباباتهم، و طالما سحرني مشهد الكتاب الذين يضربون على الآلات الطوابع في مهارة كبار عازفي البيانو و لله في خلقه شئون.المهم يا زول أرجو أن تصبر عليّ حتى أستكمل نسخ نص " السير عبد الرحمن " و سأحاول العودة بملاحظاتك على كلامك و كلام الأعزاء صدقي كبلو و اسماعيل حامد في موضوع التعليم






اختراع الفولكلور
و هكذا كتب على السيد عبد الرحمن أن يؤسس لظهور مهدية جديدة " نيو ـ مهدية " فحواها تدجين الوحش المهدوي الجريح ، و اقناعه بالتحول عن الجهاد و الامتثال لمنطق حداثة رأس المال ، فيصبح أنصار المهدي مجرد طائفة دينية مثل غيرها من الطوائف المسالمة التي تؤطّر الوجود الديني للمسلمين تحت رقابة السلطات الاستعمارية.
و حين قال عبد الرحمن المهدي :
" كنت أعتقد أن واجبي يحتم عليّ أن أحافظ على تراث المهدية حتى لا تذهب تلك الصفحة المشرقة من تاريخ بلادنا هباءا " ، حين كتب عبد الرحمن المهدي هذه الكلمة الخطيرة ، فهو قد أكمل بها خروجه الناجز من البنية الآيديولوجية للمهدية المقاتلة، و بقي منها على مسافة نقدية تمكنه من التأمّل في الحقيقة المهدوية من على البعد و تحويلها لمادة تراثية و لتاريخ بائد جدير بالحفظ و بمساعي البر الاحيائي.و هكذا يفتتح السيد عبد الرحمن الفصل الاول من تقليد حفظ و احياء التراث في السودان قبل عقود من ظهور " مصلحة الثقافة" في السودان. ويقول : " كان من رايي أن يجتمع الانصار في جهة واحدة تتيح لهم تدارس شؤون دينهم فتعمر نفوسهم بالدين و تتوحد كلمتهم بالعقيدة حتى لا يخبو ذلك النور اللألاء و حتى لا يندثر تراث المهدية العظيم.". بيد أن الانصار الذين كانوا يبذلون قوة عملهم في مطلع القرن العشرين لتعمير و زراعة الاراضي المسجلة للسيد
عبد الرحمن لم يكونوا على نفس المسافة من الفكرة المهدية بما يمكنهم من التأمّل فيها كــ " فولكلور ".بل كانت الفكرة المهدية بالنسبة لهم واقعا يوميا يباشرونه تحت شروط بيعة جددوها لابن الامام المهدي و خاطرهم حافل برؤى الاستشهاد.
و مع ملابسات نطور العلاقة بين الراعي و الرعية من جهة، و بين الراعي و سلطات الحداثة الاستعمارية ، من جهة أخرى،انمسخت الرابطة بين " الامام " و " الانصار " الى نوع علاقة عمل بين " العمال " و " صاحب العمل". ويقول عبد الرحمن المهدي أن سلطات الحكومة الاستعمارية " منعت استخدام كلمتي {الأنصار و المهاجرين } و هي تسمية أطلقها الامام المهدي على أصحابه تيمنا بأصحاب النبي عليه الصلاة و السلام فاستبدلت أنا الاسمين بـ { الأصحاب و العمال} "( ص 47).
و سرعان ما أدّت علاقة العمل الحديث المفخّخ بالبيعة و احياء التراث بـ " الانصار/العمال" الى الانخراط النهائي في منطق علاقات الانتاج الحديث على مرجعية العمالة الزراعية في مشروع الجزيرة. ترى هل كانت " الألوف التي تركت ديارها و أهلها و مالها " لتلتحق بالسيد عبدالرحمن في الجزيرة أبا لو كان وعده يقتصر على مسخهم لمجرد عمال زراعيين في أراض لايمتلكونها؟. يقول السيد في مذكراته التي تمثل سجلا قيما لتاريخ صراع الطبقات في السودان:" ان علاقة الدائرة مع عمالها دائما تقوم على أسس أبوية محضة، حيث ألتزم أنا بسد حاجات العمال بغض النظر عن انتاجهم، فتعطي الدائرة للعامل المشتغل و العاجز ما يكفيهما من غذاء و كساء و ضروريات أخرى. و رأيت أن أغيّر هذا النظام في السنوات الاخيرة و أن أعطي العامل المشتغل في الحواشة 40 في المئة على أساس مشروع الجزيرة، و هذا النظام الجديد يكلف الدائرة أقل من النظام السابق حسب دفاتر الحسابات.." ( ص 58).
و هكذا يملك انتباه السيد عبد الرحمن لعواقب " النظام الجديد" على صعيد " دفتر الحسابات" أن يُقرأ كوجه من وجوه التغرير الأخلاقي برجال و نساء كانوا يعتبرون أنفسهم " أنصارا"و " مهاجرين " في الوقت الذي كان فيه الامام يعتبرهم " عمالا " زراعيين، و ذلك لكون انصراف" الراعي " عن خيار " قص الرقبة " لم يكن لتأسيس يوتوبيا مهدوية أساسها القسمة العادلة بينه و بين أفراد الرعية،و لكن لبناء " دائرة " من المكاسب الدنيوية الشخصية هو مركزها المادي و ...الروحي.
بيد أن ملابسات انمساخ الأنصار لعمال زراعيين و تحوّل الامام لصاحب أرض أعقد من أن تقرأ بهذه البساطة الـ" طبقية". فهذا الراعي الخارج من رحم الهزيمة كان واعيا بطبيعة دوره و عازما على القيام به كما ينبغي، و قد استغل رصيد " الأبوّة " في خاطر " أبناءه" لتقعيد النسخة السودانية لحداثة رأس المال من واقع قوامته الروحية و المادية. و هي حداثة تتميز بكون مبتدأها في علاقات الانتاج الشرقية الأبوية ممثلة في صورة الأب الذي يلتزم " بسد حاجات العمال بغض النظر عن انتاجهم" ، و منتهاها في تناقض علاقات الانتاج الجديدة بين العمل و رأس المال" على أساس مشروع الجزيرة. و تقعيد علاقات الحداثة الرأسمالية وسط جموع الأنصار، الذين كانوا يشكلون رأس رمح أي انتفاضة وطنية تستلهم النموذج الجهادي المهدوي، ما كان له أن يتم بهذا اليسر لو لم تتضامن عليه جهود السيد عبد الرحمن و جهود السلطات الاستعمارية.فمن جهته ، بذل السيد ما وسعه لتأطير جموع الأنصار و تغيير وضعيتهم المادية و الروحية بسبيل تقبّل الحداثة كأمر واقع و تجنّب المواجهة الدموية التي كان يراها خاسرة.و من جهتها ، بذلت السلطات الاستعمارية جهدها في دعم السيد عبد الرحمن لانجاز مهمته التاريخية المتمثلة في الحاق رعيته بالحداثة الرأسمالية، بل و لانجاز مهام سياسية أخرى لصالح البريطانيين ضمن نزاعهم مع مصر ، الشريك الاضعف في الحكم الثنائي.و قد أحصى جعفر بخيت في كتابه " الادارة البريطانية و الحركة القومية في السودان.."(1972) ، بعضا من مساعي الادارة الاستعمارية لدعم السيد عبد الرحمن " على أن يكون رجلا من رجال المال و الاقطاع ، و أحد بناة الاقتصاد الوطني السوداني، و ذلك لكي ينصرف عن قيادة الانصار قيادة مناوئة أو معادية ".." فمنذ عام 1919 كان السيد عبد الرحمن يُخص بالأفضلية في التعاقد مع الحكومة بالنسبة لبعض متطلبات خزان سنار و توريد الوقود لبواخر الحكومة. و قد أعطي قرضا قدره 4500 جنيه في عام 1926 ثم تنازلت له عنه الحكومة بادعاء أن ما استلم كان هبة منها له، و ذلك لكي يقوم ببدء الزراعة في جزيرة أبا. و فضلا عن ذلك فقد اتخذته الحكومة شريكا لها في مشروع قوندال لزراعة القطن بمديرية النيل الأزرق. و منح بعض الأراضي الحكومية في كل من أمدرمان و الخرطوم حيث شيد المنازل و الدكاكين.و من ثم أضحى أحد كبار الملاك بالعاصمة المثلثة.و كانت الحكومة تميل الى جانب اللين معه لدى تقدير الضرائب على أرباحه. و على هذا امتزج نفوذه الديني و السياسي بنفوذه القبلي و المالي ".." و كان المهاجرون من سكان منطقته المؤيدين للمهدية {الأنصار} اما أن يقوموا بالعمل لصالحه أو يدفعوا له نسبة اثنين و خمسة بالمئة من دخولهم كزكاة أو صدقة .." (ص 124 و 125 ).
للكلام صلة
صورة العضو الرمزية
نجاة محمد علي
مشاركات: 2809
اشترك في: الأربعاء مايو 04, 2005 1:38 am
مكان: باريس

مشاركة بواسطة نجاة محمد علي »



الأعزاء قراء وقارءات هذا الخيط
والأصدقاء صدقي، حسن، سيف الدين وإسماعيل،

لكم خالص التحايا

وصلتنا من الأستاذ محمد جلال هاشم المساهمة التي قدمها في هذه الندوة التي أقيمت بمدينة بيرمنغهام تحت عنوان "ديمقراطية الثقافة". سأنزلها إليكم هنا في حيز منفصل.

للجميع تحياتي، وللأستاذ محمد جلال هاشم خالص الشكر، وأتمنى أن يتمكن من التغلب على المشاكل التقنية التي تواجهه في دخول المنبر. كما أعبر له عن عميق سعادتي لوجوده بيننا لإثراء هذا الساحة.
نجاة

صورة العضو الرمزية
نجاة محمد علي
مشاركات: 2809
اشترك في: الأربعاء مايو 04, 2005 1:38 am
مكان: باريس

مشاركة بواسطة نجاة محمد علي »

مساهمة الأستاذ محمد جلال هاشم




نداء لندن من أجل السلام والتنمية والعدالة في شرق السودان
The London Call
For
Peace, Development & Justice in Eastern Sudan


مفهوم التهميش وتحديّات العمل المشترك
محمد جلال أحمد هاشم
المؤتمر النوبي (Nobiin Karayoos)
مكتب بريطانيا



17 September 2005
Wech Community Centre
Harrow Road, Athens Gardens, Elgin Estate
London WG 3RZ



مفهـــوم التهميش وتحديّــــات العمل المشترك
محمد جلال أحمد هاشم
المؤتمر النوبي (نوبيين كريووس)
مكتب بريطانيا





خلفية تاريخية

يُعتبر السّودان بمثابة غابة من الهويّات الثقافيّة. لكن هذا لا يعني انتفاء الوشائج والأواصر التي تشدّ هذا النّسيج ببعضه لتشكّل لوحة إثنية/ثقافيّة رائعة. فمثلاً المجموعة النّيليّة ـ الصّحراويّة تُشكّل نسبة 64% من مجموع الهويّات في السّودان، بينما تُشكّل المجموعة النّيجر ـ كردفانيّة نسبة 32%. إذن 96% من مجموع الهويّات بالسّودان ينقسم إلى مجموعتين أساسيّتين فقط! وتنقسم المجموعة النّيليّة ـ الصّحراويّة إلى ثلاث مجموعات صغرى هي: السّودانيّة الغربية، والسّودانيّة الوسطى، ثمّ السّودانيّة الشرقيّة، وهي تشمل المجموعات الثقافية/اللغوية المنتشرة في حزام بلاد السّودان من المحيط إلى البحر الأحمر. هذا هو إقليم بلاد السودان، وهذا هوالعمق الحقيقي للسودان [لمزيد من التفاصيل، يراجع: يوسف فضل حسن، 1971]. في هذه المجموعات اللغوية الثقافية يكون مستوى القرابة أشبه ببنات أو أبناء الأعمام. فعلى سبيل المثال نجد النوبيين (على النّيل [الكنوز، الفاديجّا، السّكّوت، المحس، والدناقلة] وفي شمال كردفان [الحرازة] وفي جنوب كردفان وجبال النّوبة [الدلنج، الغلفان، الداير، الفنْدا، كاركو، كاتلا] وفي دارفور [الميدوب والبرقد]) ينتمون إلى المجموعة السّودانيّة الشرقيّة مع العديد من الكيانات التي تتوزّع في جميع أنحاء السّودان، شرقأ ، وغرباً، وجنوباً. لهذا لا ينبغي أن نتعجّب إذا علمنا أن علماء المرويات [عبد القادر محمود، 1985] يقولون بأن لغة الباريا بأقصى جنوب السّودان من بين أقوى اللغات السّودانيّة المرّشّحة للعب دور أساسي في حل طلاسم اللغة المرويّة، وكلاهما (الباريا والمرويّة) ينتمي إلى السّودانيّة الشرقيّة، مثل الدينكا، الشلك، النوير، الأنواك، اللاتوكا، التبوزا، إلخ .. إلخ (حتى الأشولي بين السّودان ويوغندا والماساي بكينيا) .. ثم الإنقسنا بشرق النيل الأزرق، والداجو والميما والكانوري بدارفور ، فضلاً عن المجموعات التي تلتقي معهم في النيلية الصحراوية مثل الفور، الزغاوة والبرقو إلخ. هذا دون أن نذكر جبال النوبة والتي نصفها ينتمي إلى ذات المجموعة، مع نصف آخر ينتمي إلى النيجر ـ كردفانية مثل كانقا، كادوقلي، قارمي، توشّو، توليشي، إليري، توقولي، تيما إلخ [في هذا فليراجع www.ethnoglogue.org. هذه هي حقائق العلم فيما يخص هويّة السّودان. في هذه الخريطة الإثنية لا مجال أبداً إلى الزّعم بعروبة هؤلاء وأفريقية أولئك على أساسٍ عرقي. لقد انتهى إلى غير رجعة عهد الأنثربولوجيا العرقية حيث تتمايز السّلالات جينيّاً، سموّاً وانحطاطاً. إن المعيار العلمي والمادي اليوم هو الدّالة الثقافيّة واللغويّة.


الدولة السودانية والتعدد الثقافي والإثني
تُعتبر مؤسسة الدّولة في السّودان من بين الأقدم تاريخيّاً، إذ تعود إلى 7000 سنة قبل الميلاد على أقل تقدير [للمزيد ينظر: ديريك ويليسبي،2000]. وعٌرفت هذه الدولة عبر التاريخ بعدّة أسماء، مثل كرمة، كُوش، إثيوبيا، نوبيا، والسّودان، والتي تدور كلها حول معنى "السّواد"، كأنما ظل الاسم يُترجم من لغةٍ إلى أخرى عبر العصور [إنتصار صغيرون، 1999]. كما كانت حدودها أكبر بكثير مما هي عليه الآن، إذ كلما عدنا إلى الوراء، كلما انداحت دائرة حدودها. وتميّزت هذه الدّولة عبر تاريخها الطّويل هذا بالتّنوع والتّعدّد إثنياً، ولغوياً، وثقافياً ودينياً. ومن خلال الاعتراف بهذا التّنوّع تمكّنت الدّولة السودانية من الحفاظ على وحدتها الوطنية. تمثّل هذا الاعتراف في أن كل مجموعة ثقافية كانت تتمتّع في إطار الدّولة الواحدة بإستقلالية إدارية وسياسية داخل حدودها الخاصة بها. ذلك ما يعبّر عنه حالياً بمنظور "الوحدة في التّنوّع"، حيث يحتفظ كل إنسان بثقافته ولغته في تعايش سلمي تحت ظل دولة واحدة. في هذا الوضع تتكامل الثقافات مع بعضها البعض دون إزاحة أو استيعاب (أي تذويب).


الدولة السودانية واللامركزية
ظلّ السّودان يُدار بهذه الطريقة، التي نعرفها الآن بعدة أسماء مثل اللامركزية، الحكم الإقليمي، الحكم الذّاتي، الفدرالية، الكونفيدرالية ... إلخ، منذ أقدم العصور حتى السلطنة الزرقاء (1505م) التي دشّنت ميكانيزم إعادة إنتاج المجموعات الأفريقية (الهامش) ثقافياً داخل الوسط العربي الإسلامي (المركز)، وذلك باعتباره مشروعها للوحدة الوطنية. بعد ذلك جاء الاستعمار التركي ـ المصري (1821م) الذي انتهج أسلوب المركزية الباطشة. ولكن بلا طائل، الأمر الذي حدا به في النهاية إلى النكوص عنها ومن ثَمّ الرّجوع إلى اللامركزية والتي فشل فيها أيضاً لسيطرة الأسلوب المركزي على عقليته. منذ ذلك الحين تكرّست لدى الدّولة العقلية المركزية والمُقارَبة الأحاديّة لمعالجة أوضاع التّعدد والتّنوّع، الأمر الذي تبلور فيما يُعرف بمنظور "بوتقة الانصهار"، حيث ظلّت الدّولة تعمل بكل ما تملك من قوّة على إزاحة ومن ثَمّ تذويب اللغات والثّقافات الأخرى بتهميشها تنموياً وثقافياً.


الثقافة العربية/الإسلامية: حصان طروادة
استخدمت الدّولة في آليات التمركز والتهميش التي اتبعتها سلاحاً خطيراً تمثّل في تمرير سياساتها عبر أجندة الثّقافة العربية والإسلامية التي لا ينبغي أن نُحمّلها مسئولية ذلك، فهي منه بريئة. لقد لعبت الثقافة العربية ـ الإسلامية دوراً مجيداً في السودان، إذ دخلت معترك الصراع الحضاري فيه في فترة كانت المجتمعات السودانية تعاني من الانغلاق، فكسرت طوق الانعزال [للمزيد يراجع: يوسف فضل، 1973]. في ظل كل هذه المعطيات نشأت مؤسسة الدولة وفق حرائك الأيديولوجيا العروبية وما تبع ذلك من تمركز وتهميش، وما ذلك إلاّ لأن الأحادية الثقافية كانت هي عملة الوقت آنذاك، إذ لم تكن قد بزغت عندنا بعد شمس الدولة الوطنية القومية، كما لم تكن أزمة الهوية باعتبارها مرتكزاً من مرتكزات حقوق الإنسان قد تبلورت كما يشهد الآن روح العصر وعقله [محمد جلال هاشم، 1999]. إن التأكيد على أن الدين هو مصدر إلهام روحي ومعنوي، فضلاً عن كونه يخدم حاجة الإنسانية جمعاء للتفاعل السلمي والارتقاء الروحي والمعنوي، لا ينبغي أن يضعف المطالبة بفصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية، رفضاً تاماً لمفهوم الدولة الدينية، ومن ثم النظر إلى ذلك على أنه شكل من أشكال تسويغ القهر والاضطهاد السياسي بمسوغات دينية. إن الدولة الدينية لا تقف فقط على الأفكار الدينية، إذ إن من حق أي مجموعة دينية أن تعبر عن أفكارها سياسياً وأن تنشئ لذلك أحزاباً سياسية. فإن كانت هذه الأفكار ديمقراطية، فمرحباً بها مع جواز الاختلاف معها، أما إن كانت غير ذلك فينبغي مناهضتها لديكتاتوريتها ولمتاجرتها بالدين معاً.


الإسلاموعروبية: أيديولوجيا الدولة السودانية
في ظل كل هذه المعطيات نشأت مؤسسة الدولة منذ قيام دولة الفونج وفق الحراك الأيديولوجي الإسلاموعروبي وما تبع ذلك من تمركز وتهميش ومن ثمّ استقطاب أيديولوجي للطبقة المثقّفة من أبناء المجموعات المتعرّبة وتلك المستهدفة بالاستعراب وما تبع ذلك من هوس ديني فاشستي عهدناه في تجربة حركة الإخوان المسلمين (الجبهة القومية الإسلامية، المؤتمر الوطني، المؤتمر الشعبي إلخ قائمة التلاعب اللغوي). إن أخطر ما في الأمر أن مؤسسة الدولة ظلت تسوّق لأيديولوجيتها القائمة على التمركز والتهميش عبر أجندة الثقافة العربية الإسلامية، تحييداً لحملتها في صراعها ضد المجموعات المهمّشة بادية الأفرقة. وهذا هو مردّ اللبس في النظر إلى المجموعات العربية أو التي تعرّبت تماماً باعتبارها مسؤولة عن واقع التمركّز والتهميش، في الوقت الذي تعيش هي نفسها في تهميش مريع كما سيتضح أدناه.
في هذا نمايز تماماً بين مصطلحي "الإسلاموعروبية" و"الثقافة العربية والإسلامية". فالأول ذو دلالة أيديولوجية بحتة تعني مجموعة المحددات السلوكية التي تشكّلت بها الطبيعة الأيديولوجية للدولة السودانية الحديثة التي قامت على الأسلمة والاستعراب بوصفها وعياً اجتماعياً ـ ثقافياً (أي أيديولوجياً)، إذا قسناه بمقياس الإسلام، لن يكون إسلامياً، وإذا قسناه بمقياس العروبة، فلن يكون عربياً. بينما الثاني يعني المجمل التراث العربي والإسلامي في حال تجرّده من أي تشكلات أيديولوجية مرتبطة بالمصالح الحياتي لمجموعة معينة من البشر.



مفهوم التهميش

خلفية المصطلح
نشير إلى أن إدخال مصطلحي "المركز" و"الهامش"، الذي تولّد داخل أروقة الفكر الماركسي المحدث بعيد منتصف القرن العشرين، وذلك في تحليل أوجه الصراع الثقافي والسلطوي في السودان بدأت عام 1968م، عندما استخدم علي مزروعي [1971] المصطلحين في معالجته النقدية للصراع الثقافي بين مستعربي السودان وما شاكله من دول ذات شعوب مستعربة أسماها الهامش (السودان، الصومال، موريتانيا، جيبوتي)، وبين العرب العاربة الذين أسماهم المركز. في عام 1986م قام كاتب هذه السطور في الإصدارة الشعبية الأولى لكتابه منهج التحليل الثقافي بتوطين هذه المصطلحين في تحليله للصراع الثقافي في السودان بالنظر إليه على أنه بين مركز إسلاموعروبي وهامش أفريقي؛ وقد استصحب مع مصطلحي "المركز" و"الهامش" مصطلحي "الوسط" و"الأطراف"، ليركن بعدها في الطبعات الثلاث اللاحقة (1988؛ 1996؛ و1999) إلى مصطلحي "المركز" و"الهامش". بعد ذلك قام عبد الغفار محمد أحمد [1988]، متبنّياً رؤية علي مزروعي بخصوص الحزام الهامشي للدول العربية ، بمعالجة قضايا الصفوة والطبقة المثقفة في هذه الدول الهامشية من حيث تحامل رصيفاتها في باقي الدول العربية العاربة عليها. كما استخدم منصور خالد (1993) مصطلح "المركز" دون "الهامش" بمحمولات جغرافية ديموغرافية ("أهل الحضر والريف"؛ "المركز والتّخوم"). فيما بعد تمّ تكريس هذا المصطلح عبر كتاب أبّكر آدم إسماعيل جدلية المركز والهامش [1997] بأجزائه الثلاثة.


التهميش قديم
إن فهمنا ينهض على أن أصول التهميش ترجع إلى قرون وليست عدة عقود كما يرى البعض. كما يذهب فهمنا إلى أن عمليات التمركز والتهميش ليست مرتبطة بعرقٍ ما، أو جهةٍ ما، وما تصويرها على أنها كذلك إلا مجرد خدعة. فالمركز مركز صفوي يحتكر السلطة والثروة، وفي سبيل تأمين مصالحه يسخّر الثقافة والعرق والدين والجغرافيا [محمد جلال هاشم، تحت الطبع]. بهذا أصبح هناك طريق واضحة للطامحين بالسلطة إذا ركبوها وصلوا إليها: الأسلمة والاستعراب، أي تبنّي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. وهكذا تكوّن المركز من صفوة متباينة الأعراق والثقافات، متلاقية في الأهداف المتمثّلة في الثروة والسلطة. هنا لا يهمّ من أي مجموعة ثقافية أو عرقية ترجع أصولك، طالما كنت مستعدّاً للتضحية بأهلك تحت شعار الإسلام أو العروبة، وكلاهما بريئ من ذلك. في الواقع فإن أغلب الرموز القيادية التي قام عليها المركز من أبناء المجموعات الموغلة في التهميش إلى حد التعريض بها ثقافياً وعرقياً. هذا هو المركز الذي يسيطر على مؤسسة الدولة في السودان، مهمّشاً في ذلك جميع السودانيين [أبّكر آدم إسماعيل، 1997].
تشتكي كل المجموعات المهمّشة من قلة حظّها في السلطة وانعدام نصيبها في الثروة. ولكن في الأمر لبساً لا بدّ من إجلائه. إن إحالة المتنفّذين في أجهزة الدّولة والسلطة الحاكمة إلى خلفياتهم الثقافية والإثنية من حيث قيمتهم العددية وليس الأيديولوجية، لا ينبغي الأخذ به كمؤشّر ودليل على النسبة التي حازتها المجموعة من حيث السّلطة والثروة. فالمركز يجتذب العديد من أبناء المجموعات المهمّشة والتي نالت حظّاً وفيراً أو متوسّطاً من العلم كيما يصبحوا جزءً منه، مقابل أن يمنحوا السلطة والثّروة تعميةً لواقع حرمان أهلهم من كليهما. فعلى سبيل المثال لم تخلُ حكومة منذ الاستقلال وحتى الآن من المثقفين الجنوبيين، في الوقت الذي لا يغالط فيه إثنان أن نصيب الجنوب من السلطة والثّروة لم يتغير البتّة عبر كل هذه السنين. حتّى إنقلاب الإنقاذ في عام 1989م شارك فيه ثلاثةٌ منهم. ومثال آخر يوضّح المسألة ما عليه إقليم النوبيين في الشمال و إقليم أهلنا البجا في الشرق؛ فكلاهما يعاني من التهميش المزدوج. فبينما قبع البجا بأرضهم، اضطُّرّ النوبيون إلى هجرة بلادهم إلى درجة خلوّ الإقليم في بعض قراه من السّكان. وكلا المجموعتين مهددة في تراثهما وهويتهما من حيث احتمال زوال لغتيهما، إضافةً إلى فقر إقليميهما. من جانب آخر، إذا أحصينا عدد النوبيين الذين شاركوا في الحكومات منذ الاستقلال وحتى اليوم، مقارنةً مع ما عليه حال البجا، فإن الصورة ستعكس مفارقة ضخمة في ظاهرها، واحدة في جوهرها. إذ قلّما نجد نظام حكمٍ لم يشارك فيه وبصورة أساسية أشخاص يعودون في جذورهم العرقية و/أو الثقافية إلى النوبيين، فضلاً عن بعض رؤوس الحكومات مثل عبدالله خليل والنميري والصادق المهدي والزبير، ناهيك عن الوزراء الذين ربما لا حصر لهم، الظاهر منهم والخافي. بخصوص البجا، فإن العدد قد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، والمتّفق عليه بينهم عامةً هو عدد ستّة وزراء منذ الاستقلال وحتّى اليوم. لكن يبقى السؤال: بماذا انتفع النوبيون من كثرة عدد الوزراء والرؤساء ممن يعودون في خلفياتهم العرقية والثقافية إليهم؟ هل قامت تنمية في بلاد النوبة؟ لا! فقد حازت تلك الصفوة النوبية كلا السلطة والثروة، فهل تقاسمتها مع عامة الشعب النوبي؟ الإجابة لا أيضاً! من الملاحظ أن تلك الصفوة فيما تنزّلت من أجيال تنشّأتها وربتها، قد ابتعدت عن أهلها ثقافةً وموطناً، فقد استعربت وتأسلمت تماماً، فلا أبناؤهم يتكلمون النوبية ولا هم يعرفون في غالبيتهم شيئاً عن بلادهم وعن التهميش المزري الذي ترزح تحته. هذه الصفوة كما لو كانت قد باعت أهلها وبلادها من أجل السلطة والثّروة. فليت الأمر وقف عند ذلك، فقد وجد النوبيون المهمّشون أنفسهم في موقع الدّفاع عن أنفسهم باعتبار أنهم جزء من المركز الذي احتكر السلطة والثّروة، لا لشيئ إلاّ لأن بعضاً من أبنائهم الذين صرفوا عليهم من عرقهم ودمائهم قد باعوهم في سوق النخاسة السياسية. إن ما أفاد منه النوبيون من ذلك العدد الضخم من الرؤساء والوزراء يساوي ما أفاد منه البجا من ذلك العدد القليل من الوزراء، وهو لا شيئ. ولو انعكست الآية، لما تغيّر حال كليهما تهميشاً تنمويّاً وثقافياً.
إن المحتكم في هذه المسألة هو أن من تسلّم السلطة ينبغي محاسبتهم على ضوء البرامج الأيديولوجية التي بمقتضاها فعلوا ذلك، لا بمقتضى خلفياتهم الإثنية التي لا دخل لها فيما جرى. فحتّى الآن لم يتسلّم أيٌّ من أبناء البجا أو المناصير أو جبال النوبة أو النوبيين موقعاً سلطوياً باسم المجموعات التي يصدرون منها باعتبار أن ذلك الموقع يمثل جزءً من قسمة السلطة والثروة الخاصّة بالمجموعة. فمثلاً إذا استلم السلطة شخصٌ من الفور باعتباره عضواً في الجبهة الإسلامية انطلاقاً من أيديولوجية تمكين الدين وإعلاء راية الجهاد، ثمّ أثرى بعد ذلك عن فسادٍ زاخم، فضلاً عن بعض عمليات إبادة وتقتيل هنا وهناك، في الجنوب والأنقسنا إلخ، فكيف بالله نحمّل أهلنا في دارفور مسئولية هذا المارق؟



التهميش نوعان: تنموي وثقافي
إن الهامش ليس في جهة جغرافية بعينها (شمالاً كانت أو جنوباً، شرقاً أو غرباً أو وسطاً) دون غيرها، بل هو في كل مكان، ومن يغالط في هذا عليه أن يخرج مما يسمّى بالمناطق الحضرية عدة كيلومترات فقط ليرى التهميش بأم عينه. كما لا يصبح الهامش وقفاً على مجموعات إثنية بعينها دون أخرى. وهذا هو مناط القول بأن الهامش ليس جغرافياً كما ليس عرقياً، بل هو سلطوي [محمد جلال هاشم، تحت الطبع]. إلاّ أن التهميش يجري على نوعين: بسيط ومركّب. التهميش البسيط ذلك الذي ينحصر في الحرمان التنموي والاقتصادي. في هذا يتساوى جميع السودانيين بمختلف ثقافاتهم وأقاليمهم باستثناء صفوةٍ منهم يشكلون المركز وينتمون إليه. أمّا التهميش المركّب، فذلك الذي يجمع بين الحرمان التنموي والحرمان الثقافي ممثّلاً في توجّهات الدولة الأيديولوجية لمحق الهويات غير العربية وقتل لغاتها. في هذا كان التهميش الثقافي مدخلاً للتهميش التنموي، إذ جعلت مؤسسة الدولة الاستعراب مقابلاً للأفرقة، ومن ثمّ قامت بإعلاء الهوية العربية وإزراء الهوية الأفريقية. وقد كان من أثر هذه التكتيكات الأيديولوجية أن وجدت المجموعات الأفريقية (التي تعاني من التهميش المزدوج تنموياً وثقافياً) نفسها في الدرك الأسفل عرقياً، وثقافياً، واجتماعياً وسياسياً، الأمر الذي يستوجب منها عملاً موحداً، ولو تفاوتت درجات تهميشهم وتعرّضهم للاضطهاد.


التقسيم الخطي: تكتيكات الخداع
في سبيل تأمين تحكّمه على مؤسسة الدولة وعلى رقاب العباد، اتّبعت الصفوة المهيمنة على المركز العديد من الحيل. من ذلك تقسيم السودانيين إلى مجموعات خطية متقابلة: الأفارقة السود العبيد مقابل العرب الشرفاء؛ ثم العرب نفسهم يتم تقسيمهم إلى عدة مجموعات متقابلة، مثل الأشراف وأبناء القبائل العاربة مقابل الأعراب البدو. هذه التقسيمات الخطية القائمة على العرق تقابلها تقسيمات أخرى قائمة على الجغرافيا بتحميلات عرقية لا تخفى: الشمال (عربي، مسلم) ضد الجنوب (أفريقي، مسيحي)، أولاد الغرب (الغرّابة) ضد أولاد البحر (أولاد البلد، أي أولاد العرب). روّج المركز الذي سيطر على مؤسسة الدولة لهذه التقسيمات حتى أصبحت بمثابة مفاهيم نمطية فشت في ثقافة وسط السودان النيلي وشماله. إن الغرض من هذه التقسيمات هو تحييد أكبر قدر من المجموعات المهمّشة، ريثما يتمكن المركز من احتواء مجموعات بعينها تشكّل تهديداً مباشراً. إن التقسيم الأيديولوجي الحقيقي الذي يعكس هذا الوضع هو تقسيم دائري: مركز يحيط به هامش، وليس التقسيم الخطي [لمزيد من التفاصيل، يراجع: محمد جلال هاشم، 1999].


الحرب الأهلية: حرب الهامش ضد المركز
لقد استمرت هذه العملية لزمن طويل حتى وصلت في النهاية حد التمييز العنصري والاضطهاد، ولهذا نهضت المناطق التي وصلت حدّاً لم يمكنها معه تحمّل المزيد من هذا الاضطهاد بوجهيه الثقافي والتنموي، فقاومت بضراوة بلغت الآن مستوى الحرب الأهلية. إن وتيرة اندلاع الحرب الأهلية تتساوق طرديّاً مع درجة التهميش والاضطهاد، فقد بدأت في الجنوب فجبال النّوبة والإنقسنا، فالشرق ثم دارفور و عموم الغرب. ولنلاحظ أن الحرب في الجنوب بدأت عام 1955م، بينما لحقتها جبال النوبة والأنقسنا بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود. هذا لأن جبال النوبة والإنقسنا كانتا لا تزالان تحت التحييد، فالتقسيم الخطي (شمال ضد جنوب) كان لا يزال تأثيره عليهما سارياً؛ ثم بعد ذلك جاء أهلنا في جبهة الشرق ثم في دارفور ... وهكذا إلخ. والآن هاهم النوبيون، وهاهم أهلنا المناصير قد بدأوا في حراكهم، وحتماً سيلحق بهم آخرون إلى أن يكتمل تفكيك ماكينة التمركز والتهميش.


الكتاب الأسود والرؤية المقلوبة
لقد وقع الكثير من المثقفين السودانيين في شرك النظر إلى التهميش من زاويته الرقمية غير المنهجية، فأضاعوا جهدهم وجهد غيرهم فيما لا طائل من ورائه غير تغبيش الرؤية. إلاّ أن هذه الرؤية الرقمية السطحية للتهميش توّجت فيما عُرف بالكتاب الأسود [2003]، وذلك في سبيل نصرة قضية دارفور، وهي رؤية تضرّ بمسيرة نضال القوى المهمّشة، ذلك لأنها تشوّه الواقع أكثر مما تعكسه. وبدءً نشير إلى أن الكتاب قد انبنى على منهجيةٍ فضائحية، متحاملة لونياً وعرقياً، في تناوله للتهميش من حيث مسمّاه. وفي هذا كشف كُتّابُه، في أحسن الاحتمالات، عن تبعيةٍ غير نقدية وغير راشدة لأيديولوجيا المركز التي تحطّ من قدر كل ما هو أسود في بلد السّود الذي اسمه السّودان. إن هذه الأخلاقية الفاشيّة التي تُزري باللون الأسود تكشف عن الخلفيات الأيديولوجية التي قدم منها حاكةُ الكتاب، ألا وهي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية، وهي أيديولوجيا تواطأ معها المؤلّفة قلوبهم ممن حاكوا الكتاب الأسود. فمثلاً لتبيان وجهٍ من أوجه الخطل التي انبنى عليها الكتاب يمكن أن نشير، مثلاً، إلى أبناء دارفور الذين انخرطوا في سلك الجبهة الإسلامية المسئولة الأولى عن هذا النظام وعن سياسات التطهير العرقي التي اتّبعها في دارفور وقبلها في جبال النوبة والأنقسنا والجنوب، أكثر عشرات، عشرات المرّات من أبناء المناصير أو البجا أو النوبيين. فهل معنى ذلك أن نحمّل هذه الكوادر مسئولية الإبادة التي لحقت بأهلهم في دارفور؟ إن سياسات التطهير العرقي القائمة على العنصرية من حيث العروبة والأفرقة، متجذّرة في بنية مؤسسة الدولة منذ قيام سلطنة سنار عندما أصبحت تستند في مشروعيتها الفكرية على الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. وقد انطوت تلك الأيديولوجيا على منزلق سلوكي خطير، به أصبحت الدولة تتحدّر انزلاقاً يوماً بعد يوم. وفي هذا نشير إلى حقيقة أن التطهير العرقي بدأ في دارفو بمذبحة الضعين عام 1987م في ظل حكم الصادق المهدي، أي في الديموقراطية الثالثة [محمد جلال هاشم، 2005]. واليوم لو كان أبناء دارفور ممن بدّد سني شبابهم وكهولتهم في تبعيةٍ عمياء لدولة الجبهة الإسلامية المارقة، على سُدّة الحكم لما أجدى ذلك أهلهم فتيلا من حيث إمكانية تلافي التطهير العرقي، ذلك لأن هذا المنزلق، دون إعفاء الأفراد القائمين به من المسئولية، متأصّل في بنية مؤسسة الدّولة. ولعلنا لا ننسى أن مذبحة المساليت عام 1995م، والتي بدأت بها فعلياً موجة التطهير الأخيرة في دارفور، قد تمّت والوالي أحد أبناء المساليت. ومع ذلك ما انتفع المساليت من ذلك شيئاً.
ولعلّ مثل هذا النهج الجائر هو الذي انتهى بقادة المؤتمر الشعبي (أي نفس الجبهة الإسلامية المارقة في ثوب جديد) ومن والاهم من أتباعهم بحركة العدل والمساواة إلى إحالة مسئولية التهميش إلى مجمل مجموعتين ثقافيتين هما الدناقلة والشايقية، أو النوبيين [راجع تصريحات خليل إبراهيم خليل في قناة الجزيرة في "لقاء اليوم" www.aljzeera.net/channel/aspx بتاريخ 22/11/200، وما ذلك إلاّ لأنهم ارتأوا أن أبناء هاتين المجموعتين ممن انخرط في سلك هذه الحركة المارقة، جرّاء الاستقطابات الناشبة فيها، قد وحّدوا صفوفهم باعتبار أنهم شايقية أو دناقلة. وهكذا أدّى بهم غياب الرؤية الناهجة إلى الاعتقاد بأن المجموعتين الثقافيتين في مجملهما مسئولتان عمّا حاق بهم من تجريدٍ للسلطة ووخيم عاقبةٍ بين عصابة السُّرّاق. ولا يفيدهم في هذا القول بأن عصابة المتآمرين من دناقلة وشايقية قد شرعوا في توسيع أحلافهم من ذوي القربى تسلّطاً وإثراءً. فذلك ما استنّته هذه الحركة بنفسها عندما جعلت من المحسوبية، عن قرابةٍ كانت أم عن أيديولوجية، سياسةً معترفاً بها من الدولة.
أجدى من ذلك أن ننظر إلى التهميش في بعديه التنموي والثقافي، فإذا وقعنا عليه ما التفتنا إلى كم عدد المثقفين من ذلك الإقليم المهمّش ممن ارتضى أن يبيع أهله طمعاً في السلطة وبدرةٍ من مال السُّحت. بعد هذا يمكننا أن ننظر إلى الواقع المعاش من حيث التمتّع النسبي بالسلطة والثروة الذي فازت به بعض الأقاليم على حساب البعض الآخر، خاصةّ النيلية منها، إمّا لقربها الجغرافي من مركز السّلطة والثّروة، أو لزيادة حصّتها من التعليم الأولي منذ عهد الاستعمار التركي المصري ، أو لمحاباةٍ من المركز في سعيه الدّائم لتحييد بعض قطاعات الشعب ذات السّكون الأيديولوجي الإسلاموعروبي وتحويل ذلك السّكون إلى تواطؤ، ريثما يتمكّن المركز من تدجين القطاعات الأخرى جامحة الأفرقة لغةً وثقافةً. هذه هي الرؤية الناهجة التي كان عليها شهيد الحرب والسلام القائد العظيم جون قرنق [يراجع في: الواثق كمير، بدون تاريخ]، وعلينا أن نقارن بين رشاد هذه وضلالة تلك. في هذا يتضح أن التعليم نفسه قد تمّت قولبته وتشكيله ليخدم أيديولوجيا الهيمنة والقهر التنموية والثقافية. ويشهد واقع النوبيين اليوم ـ على سبيل المثال ـ بهذا؛ فهم من أكثر المجموعات نيلاً للتعليم وفق هذه القولبة الجائرة؛ كما هم الآن، بفضل هذا، من أكثر المجموعات تعرّضاً للاندثار كمجموعة أفريقية لها لغتها وثقافتها وموطنها الجغرافي.
بهذا يمكن القول بأن المجموعات المهمّشة التي لم تنل حظّاً من التعليم بصورته الشائهة للهوية هذه، كالبجا مثلاً، لم تخسر الكثير. فبينما البجا الآن على بكرة أبيهم يطالبون برفع التهميش عنهم نضالاً مدنياً وعسكرياً، نجد النوبيين منقسمين على أنفسهم، غير مدركين في أكثريتهم الساحقة بما يحيق بهم من خطر داهم. ففضلاً عن أن هذه الأغلبية الساحقة ذاهلة، لا تدري على أي وجه قد وقع عليها التهميش، ها هي السلطة المركزية التي يسعى البعض لتحميل النوبيين إجمالاً مسئوليتها قد وجهت طعنة غادرة للنوبيين من الظهر وذلك عندما باعت الحوض النوبي للمصريين بغية توطين 15 مليون فلاح مصري تحت غطاء ما يعرف بالحريات الأربعة [راجع: مذكرة مجموعة العمل النوبي، 2004؛ جريدة الصحافة، 31/3/2004]. ولعلّ من الطريف أن نشير هنا إلى تصريحات عبد الرحيم محمد حسين، وزير الداخلية السابق، في القاهرة (يناير 2005) عندما حذّر من تنامي الأفرقة كمّاً وكيفاً في السودان جرّاء الهجرات المستمرّة من غرب أفريقيا، بينما توقفت الهجرات من الدول العربية، داعياً المصريين إلى التسريع بالاستيطان في شمال السودان حلاًّ لمشكلة الانفجار السكّاني [راجع ذلك في: www.ahram.org.eg/archive/Index. لعلّنا سننتظر حتى يشرع هؤلاء الفلاحون بعد أن يتمّ توطينهم في قتل النوبيين الآمنين، لنسمع بأن عامة النوبيين قد اكتشفوا بأنهم ضحايا آلية جهنمية تعمل تهميشاً للريف السوداني عامةً، ومحقاً للمجموعات الأفريقية ثقافةً ولغةً وكياناً، ثم إبادةً كنهاية طبيعية لهذا المنزلق.
لكن، تُرى هل سننتظر كل هذه السنين حتّى تكتشف القوى السياسية أيضاً ما يحيق بالنوبيين وباقي المجموعات المهمّشة كالمناصير وغيرهم، ثم بالسّودان؟ أوليس من المؤسف أن الإقرار بأن مجموعةً ما تقع داخل دائرة التهميش لا يتحقق إلاّ بعد أن تُسفك دماء الأبرياء من المجموعة، والذين غالباً ما يكونون من الأطفال والنساء؟ فحتّى الآن لم تجرؤ أي قوّة سياسية على التّطرّق لموضوع بيع الحوض النوبي ولو من باب المجاملة. هل ذلك خشيةً من مصر التي ـ بعد اعترافها بالانقلاب الإنقاذي حتى قبل أن يعترف به مدبّره الترابي ـ قد احتضنت المعارضة؟ هل كان ذلك تدجيناً للمعارضة، خاصّةً التّجمّع؟ يبقى أن نسمع منهم.



توحيد قوى الهامش
جبهات الشرق والغرب: رأس الرمح
إن جبهة الشرق وحركة تحرير السودان، بوصفهما رأس الرمح حالياً فيما يخص المجموعات المهمّشة في مجالي السلطة والثروة يمكنهما أن تلعبا دوراً حاسماً في توحيد قوى الهامش. لقد نهضت مجموعات الهامش، كلٌّ على حدة، مطالبةً بحقوقها دونما تنسيق، محكومةً في ذلك بعوامل موضوعية وأخرى ذاتية. ولا تزال حتى الآن ينقصها هذا التنسيق. والآن، عندما تنضمّ إلى هذا الرّكب مجموعات أخرى مهمّشة كالنوبيين والمناصير لتُكْمِلَ الطّوق (شمالاً، جنوباً، غرباً، وشرقاً)، ينبغي لها أن تلعب دوراً حاسماً في كسب هذه المعركة. إن على جبهة الشرق وحركة تحرير السودان أن تعملا سويّاً لتوحيد قوى الهامش في الغرب والنيل الأزرق والأنقسنا وجبال النوبة والشرق والشمال. فتوحيد قوى الهامش يمثّل ضرورة للسودان أجمع في صراع القوى المهمّشة لنيل حقوقها، الأمر الذي تبيّن أنه لن يتمّ إلاّ بتفكيك ماكينة التمركز والتهميش. إن هذه الوحدة، فضلاً عن كونها ستشكل الأغلبية الكاسحة إذا ما تحققت، تقلب المائدة على التكوينات السياسية الكلاسيكية، من يمين ويسار ووسط إلخ، والتي تبين أنه لا فرق بينها جوهرياً وذلك عندما تبلغ الاستقطابات السياسية والأيديولوجية ذروتها، وما التجمّع إلاّ أوضح مثال في هذا.



إستراتيجيات الوحدة
لقد لفتت العديد من مجموعات الهامش أنظار العالم إلى قضاياها، فمنها من حسم أمره ومنها من لا يزال حتى الآن في طور المفاوضات. لكن هذا لا ينبغي أن يصرف الأنظار عن تلك التي لا تزال في المُربّع الأول، كالنوبيين في أقصى شمال السودان وكالمناصير، ثم كل المجموعات الأخرى والتي لا بدّ أن تكتشف تهميشها عمّا قريب فتلحق بالركب. ولكن خطوة كهذه لا يمكن أن تتم إذا ما زلنا ضحايا الإلتباس الناجم عن التمفصل الخطي الذي ينظر للمسألة باعتبار أن الشمال المتميّز هو الذي جنا علي الهامش، وهي النظرة التي جعل منها المؤتمر الشعبي الآن محوراً لخطابه الجديد في سلسلة تقلّباته السياسية وتلوّناته الأيديولوجية. إن ما يُخشى هو أن تحسم كل مجموعة هامشية قضاياها بمعزل عن المجموعات الأخرى، لأن ذلك يمكن أن يُفضي إلى نصرٍ كاذب بأن تُعزل كلّ مجموعة عن الأخرى كيما يسهُل أكلهم كل واحدة على حدة. ما هو أسوأ من ذلك أن تجد كل مجموعة نفسها في النهاية وحدها في ميدان المعركة تواجه أكثر من عدو خارجي في سياق الخط الأمريكي الرامي لتفتيت وتفصيص الدول ذات المساحات الجغرافية الكبيرة، ما يعني ذات الفاعليات والموارد النهضوية الكبيرة [لمزيد من التفاصيل، يراجع: محمد جلال هاشم، تحت الطبع]. لذا تذهب هذه الورقة إلى أن مدخلنا للنضال من أجل حقوقنا يتمّ عبر توحيد قوى الهامش. هذه الوحدة ينبغي تبدأ بالمجموعات المهددة تنموياً وثقافياً أولاً، ولا يحسّ بالنار إلاّ من يطأها بقدميه. بعد ذلك على هذه الوحدة أن تنهض على أرض صلبة من المبادئ قوامها الديموقراطية القائمة على الاعتراف بحق المجموعات الثقافية في التنمية والحفاظ على هويّاتها، ثم على العلمانية القائمة على فصل الدين عن الدولة ورفض كل أشكال استغلال الدين لتسويغ الأفكار الفاشية مثل تلك التي رفد بها تنظيم الجبهة الإسلامية المارق على الديموقراطية والتي تآمر ضدها ليقيم النظام الفاشي الحالي الذي ارتكب الإبادة ضد أهلنا بالجنوب وجبال النوبة والأنقسنا والشرق، ودارفور.


تكتيكات الوحدة
إن توحيد قوى الهامش ينبغي أن يمرّ عبر بوابة المجموعات المهمّشة تنموياً وثقافياً، أي تلك التي تعاني من التهميش التنموي كباقي المجموعات السودانية، ثم تزيد على ذلك بمعاناتها من التهميش الثقافي ممثلاً في ضياع اللغة والهوية. في الجانب الآخر، وبما أن المجموعات المستعربة التي مورس التمركز والتهميش باسمها، لم يكن حظها أفضل تنموياً، فإن هذا الأمر يستوجب منها أن تسارع باكتشاف تهميشها ومن ثم الوقوف في خندق واحد مع باقي القوى الأفريقية المهمشة، وذلك في سبيل تفكيك مركزية الدولة وسياساتها التهميشية. إن المعركة الحاسمة في مناجزة الدولة المركزية قد تجري داخل شوارع العاصمة المثلّثة وأحيائها التي جذبت إليها أهلنا المهمّشين لامتصاصهم وتذويبهم ومن ثمّ إعادة إنتاجهم ثقافياً كما تجذب الثقوب السوداء إليها كائنات الكون فتحيلها إلى العدم.
في هذا لا يملك المرء إلاّ أن يشير إلى الإمكانات السياسية والفكرية الهائلة التي تنطوي عليها هذه الوحدة. في هذا سأضرب مثالاً واقعياً متّخذاً من مناطق مثل الكلاكلات والحاج يوسف نموذجاً، وذلك لاكتظاظها بأهلنا من جميع أقاليم السودان، مثل مناطق أخرى كثيرة بالعاصمة. إن تحالفاً يجمع أهل الجنوب مع أهلنا بدارفور مع أهلنا من جبال النوبة مع أهلنا من منطقة المناصير، مع أهلنا من منطقة النوبة بشمال السودان، مع أهلنا من منطقة الأنقسنا وصعيد النيل الأزرق، مع أهلنا من جبهة الشرق، فضلاً عن القوى المستنيرة من باقي أقاليم السودان .. إن تحالفاً كهذا، فضلاً عن أنه سيكتسح أيّ انتخاباتٍ تُجرى في بحر أيامنا القادمة، سيقلب الموازين على كل الأصعدة. فهو أولاً سيفرز الكيمان أيديولوجياً، بصرف النظر عن مسمّيات اليمين واليسار والوسط التي لم تجدنا فتيلا. ثانياً سيظهر هذا التحالف من هم الأغلبية ومن هم الأقلية على أرضيةٍ من الواقع صلبة. ثالثاً ستتوفّر ولأوّل مرّة منذ قيام دولة الفونج الفرصة الحقيقية لتفكيك ماكينة التمركز والتهميش إلى غير رجعة، ليقف السودان ولأول مرّة منذ 500 سنة على قدميه الحقيقيتين، مارداً أفريقياً يتكلّم بأكثر من مائة لغةٍ معترفٍ بها من الدولة من بينها العربية والإنكليزية.
بهذا، وبهذا وحده يمكن لقوى الهامش أن تصنع التاريخ والمجد، وهو تاريخ قد صنعته منذ الأزل وباقي الأمم لمّا تصحُ بعد من سباتها. إن المدخل إلى هذا المجد أن تتّحد قوى الهامش أولاً، وهي وحدة نراها قريبة من حيث إمكانية تحقّقها؛ بعد ذلك على قوى الهامش أن تُلقي بكلّ ثُقْلها خلف الحركة الشعبية، رائدة نضال القوى المهمّشة، لكسب جولة الانتخابات القادمة. في هذا ستحتاج القوى المهمّشة إلى رؤية ناهجة للنهضة بها تَطْرِقُ الدّربَ عن بيّنة لا تحسّساً وتلمّساً تتمثّل في الجمع بين الثقافة والتنمية.



التنمية والثقافة: المدخل إلى تفكيك آليات التمركز والتهميش
إن آليات التمركز والتهميش لا يمكن أن يكتمل تفكيكها، حتى إذا تمّ تفكيك عرى هذا النظام الفاشي، إلاّ إذا ما تمّ ربط الجانب التنموي مع الجانب الثقافي في عملية مركبة واحدة دون فصل بينهما. إن هذه الخطوة تستدعي النظر إلى المواطن التاريخية بالنسبة للمجموعات المهمّشة بوصفها أقاليم ذات خصوصية إثنية وثقافية، وبالتالي تنموية وسياسية، الأمر الذي يضعها جميعاً على قدم المساواة مع باقي المناطق المهمشة وما يتبع ذلك من التقسيم العادل للسلطة والثروة والحفاظ على الهوية واللغة. في هذا تذهب الورقة إلى ضرورة الاعتراف بحق كل المجموعات الأفريقية التي تعاني من التهميش المزدوج في تقرير المصير والحكم الذاتي، وأن تكون لكل واحدة منها حكومة إقليمية ببرلمان إقليمي وتتمتع بحق إرساء الاتفاقيات مع الجهات الخارجية بما لا يتعارض والسيادة القومية وذلك بغية توفير التمويل اللازم لمشروعات التنمية.
إن جعل التخطيط التنموي تخطيطاً ثقافياً معنياً بكل أدوات ومؤسسات الثقافة والوسائط المعرفية الأخرى من وسائل اتصال جماهيري، ومسرح ومهرجانات، يقوم على هذه النظرة والتي بدونها سينهدم الأساس المشروع لرفع الفقر والتهميش تنموياً وثقافياً. إن من حق أي مجموعة ثقافية أن تكون لها محطة إذاعة وتلفزيون تبثّ بلغاتها. كما من حق أي مجموعة ثقافية أن تكون لها صحف ومجلات بلغاتها أيضاً. إن كل هذا لن يتأتّى لهم إلاّ إذا تمكنّوا من دفع فاتورة هذه النهضة. فالثروة والرفاهية لا تهبط على الناس من السماء، بل يصنعها الناس بالرؤية الناهجة وبأيديهم وقوّة عزيمتهم. إن هذا هو ما يستوجب منّا النظر إلى أي المناطق الجغرافية ذات المجموعات الأفريقية التي عانت من التهميش المزدوج بوصف كل واحدٍ منها إقليماً قائماً بذاته وذا خصوصية ثقافية وتنموية وبالتالي سياسية.



تقرير المصير أم الانفصال
إنه لمن الخطأ الفادح أن يتعامل المرء مع مصطلحي "تقرير المصير" و"الانفصال" باعتبارهما مترادفين. ذلك لأن مفهوم تقرير المصير يقوم في أساسه على أن مجموعةً بعينها قد تعرضت للظلم التاريخي من قبل المركز، وفي سبيل رد هذه المظالم فقد أُعطيت الحق في أن تقرر مصيرها وكيف يكون أمرها داخل الدولة السودانية بنفسها، فإذا ما تمّ لها ذلك، استمرّت على الوحدة، وإذا لم يتمّ لها ذلك نزعت عندها للانفصال. لقد تعرّض الجنوب للظلم والاضطهاد لقرون وقرون؛ ومما زاد الأمر سوءً ذلك الإزراء بالعرق الأفريقي وباللون الأسود التي اتّسمت به الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في السودان، أي بلد السود. ولم يقف هذا الإزراء أن بلغ حد التمييز العنصري، بل فاته ليتّحد مع مفاهيم مؤسسة الرق وارتباطها بأفريقيا السوداء دامغاً بذلك كل إنسان أسود، في بلد اسمه "السودان"، أي بلد السود، على أنهم عبيد [راجع أحمد سيكينجا، 1996].
لقد كانت هذه هي الأسس الأخلاقية التي قامت عليها نضالات قوى الهامش يقودها أهلنا في جنوب السودان لوحدهم لعقود وعقود، حتى لحق بهم الآخرون من أهلنا بجبال النوبة والأنقسنا، فدارفور والشرق دواليك، والبقية آتية. إزاء تعنّت الدّولة (الحامية الرئيسية للأيديولوجيا الإسلاموعروبية)، وإزاء الخسائر الجسيمة في المال والأرواح التي ظلّت تدفعها مجموعات الهامش، نزع بعضها نحو الإنفصال يأساً من هذه الدّولة السّودانية التي يقوم مشروعها الوطني على بوتقة الانصهار والتمركز والتّهميش. وهذه هو مأتي اللبس في الدمج بين المصطلحين. إننا لا ينبغي أن ننتظر حتى يبلغ الظلم والاضطهاد بباقي مجموعات الهامش ما بلغه بأهلنا في الجنوب. وهذا ما يستدعي المطالبة بحق كل المجموعات المهمّشة بتقرير المصير لتحدد موقعها من الإعراب في خارطة السودان الواحد، حتى إذا لم تُعطَ هذا الحق، حُقّ لها حينها أن تطالب وتواصل نضالها من أجل الانفصال.
أما أن يشرع بعض المثقفين بالترويج إلى أن على مجموعات الهامش بالمطالبة بالانفصال قبل ذلك، متّخذةً من المطالبة بتقرير المصير بوصفه مقدّمة طبيعية للانفصال، فإنه لا يعالج شيئاً، ذلك لأنه ينطوي على هروبٍ من المشكلة. فالمشكلة هي كيفية إدارة التّعدّد والتّنوّع الثّقافي والإثني من حيث توزيع السلطة والثّروة. فإن عجزنا عن إدارة هذه المشكلة وهي في إطار تشكيلاتها الكبرى (الجنوب، جبال النّوبة والإنقسنا، دارفور، الشّرق، والشّمال، ثم الوسط)، فإنّا سنكون أعجز عن أن ندير المشكلة وهي في إطار تفصيلاتها الدّقيقة. ذلك لأن الجنوب متعدّد ثقافيّاً أيضاً، كما هو الوضع في دارفور، وفي كل إقليم على حدة. فكأنّنا سنهرب من مشكلة التّعدّد، لنقع في ذات المشكلة لاحقاً. إن من يعجز عن إصلاح ساعة حائط، سيكون أعجز عن إصلاح ساعة يد. أهدى من ذلك أن نستعصم بوحدة السّودان كهدف إستراتيجي، ومن ثمّ نوحّد الجهود لتفكيك مركزية الدّولة.
إن برنامج الأحادية الثقافية هذا لم يعد الآن في صالح السودان، كما إنه لم يعد في صالح الثقافة العربية ـ الإسلامية نفسها. لكل هذا، آن الأوان كيما ننتقل ونتطور من مرحلة "بوتقة الإنصهار" إلى مرحلة "الوحدة في التنوع" حيث تتوازن حقوق الجماعات والثقافات في الرفاهية والنماء. لقد دخل السودان منذ استقلاله وحتى الآن فى متوالية عددية من الفشل. فكل نظام حكم كان أفشل من سابقه ديمقراطيا كان أم عسكرياً. إن القاسم المشترك الأعظم لكل هذه الأنظمة كان ـ ولا يزال ـ هو عملية التمركز والتّهميش. عليه إن هذا الفشل هو فى الواقع فشل مشروع الأحادية فى إدارة أزمات بلد متعدد الثقافات [لمزيد من التفاصيل، راجع: محمد جلال هاشم: 1999].



السودان الجديد: الحرية والعدل والسلام
إن السودان دولة متعددة الثقافات والأعراق والأديان والألوان والأقاليم، مما يفرض علي مؤسسة الدولة أن تحترم وتدافع عن هذه الحقوق الأساسية. إلا أن مؤسسة الدولة في السودان تشكلت وفقاً لأيديولوجيا ثقافية ودينية أحادية، فكان أن تورطت بشكل مباشر في مجمل عمليات التمركز والتهميش، وما تبع ذلك من قهر واضطهاد ثقافي وعرقي وديني. إن الكثير من الفوارق والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في السودان ساهمت مؤسسة الدولة في صنعها وتكريسها. لا يمكن للإنسان أن يقبل بالقهر والدونية، وإن شروط الحياة الكريمة يجب أن تقوم على مبادئ الحرية والعدل والسلام التي تقوم على أساس أن الناس متساوون في الواجبات والحقوق التي يكسبونها بالمواطنة، دون اعتبار للعرق أو الثقافة أو الدين أو الوضع الاجتماعي، إذ لا سلام بلا عدل، ولا عدل بلا حريّة. إن أي توجه أو قانون يقوم على التمركز والتهميش، أو يؤدي إلى وضعية كهذه، لا يجوز أن يصدر من مؤسسة الدولة، بل ينبغي على الدولة أن تعمل على إلغائه. لذلك عندما تتبنى الدولة موقفا كهذا، يكون من حق المجموعات الأخرى مناهضة ومحاربة هذا الوضع الظالم لإزالته. إن التعايش السلمي لا يمكن تحقيقه وحراسته إلا من خلال دستور يراعي الحقوق الأساسية لجميع المواطنين دون تمييز عرقي أو ديني، ويؤسس للديموقراطية التعددية وحكم القانون وحقوق الإنسان وذلك بعد أن يتم تفكيك آليات التمركز والتهميش.




مراجع عربية

• أبكّر آدم إسماعيل (1997)، جدلية المركز والهامش (3 أجزاء)، الخرطوم.
• إنتصار الزين صغيرون (1999)، "معاني أسماء الالسودان القديمة ودلالاتها الجغرافية والثقافية"، ورقة مقدمة لمؤتمر الأسماء الجغرافية، اللجنة القومية للأسماء الجغرافية بالتعاون مع جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، قاعة الشارقة، الخرطوم، 6 ـ 8 أبريل.
• حركة العدل والمساواة (2003)، الكتاب الأسود، الجزء الثاني.
• عبد الغفّار محمد أحمد (1988)، قضايا للنقاش: في إطار إفريقية السودان وعروبته، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.
• منصور خالد [1993]؛ النخبة السودانية وإدمان الفشل، جزءان، دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة
• محمد جلال هاشم (1999)، منهج التحليل الثقافي: القومية السودانية وظاهرة الثورة والديموقراطية في الثقافة السودانية، الخرطوم.
• الواثق كمير (إعداد وتحرير) [بدون تاريخ]، جون قرنق: رؤبته للسودان الجديد: قضايا الوحدة والهوية، المجموعة الاستشارية لتحليل السياسات والاستراتيجيات، القاهرة.
مصادر أولية: مذكّرات وصحف
• جريدة الصحافة، عدد 3892، 31/3/2004 (الصفحة الأولة)، عنوان: "طرح 6.1 مليون فدان في وادي حلفا أمام الشركات المصرية وفق عقود انتفاع طويلة الأجل".
• مجموعة العمل النوبي (2004)، "المذكّرة المرفوعة إلى كوفي عنان بشأن بيع الحوض النوبي لتوطين ملايين الفلاحين المصريين)، الخرطوم، 18 أبريل 2004.


مراجع إنكليزية

• Hasan, Y.F. “ed.” (1971), Sudan in Africa, Khartoum University press.
• (1973), The Arabs and the Sudan: from the Seventh to the Early Sixteenth Century, Khartoum University press, Khartoum.
• Hāshim, M. Jalāl (2005), "Sudan Civil Wars in the National Context", a Paper presented in the 5th Conerence of Pan Africanism, 26-29 May, Windhoek, Namibia.
• ………………….. (Forthcoming), To be or not to be: Sudan at Cross Roads, Khartoum.
• Mazrui, Ali (1971), “The Multiple Marginality of the Sudan”, in Yusuf Fadl Hasan “ed”, Sudan in Africa, Khartoum University Press, Khartoum.
• Sikainga, Ahmed [1996]; Slaves into Workers: Emancipation and Labour in Colonial Sudan, Modern Middle-Eastern Studies No. 18, Austin, Texas.
• Welsby, D. “ed.” (2000), Life on the Desert Edge: Seven Thousands Years of Settlement in the Northern Dongola Reach of the Nile, Sudan Archaeological Research society, London.

مواقع شبكية

www.ahram.org.eg/archive/Index.asp
www.aljzeera.net/channel/aspx
www.ethnologue.org
صدقي كبلو
مشاركات: 408
اشترك في: الأربعاء مايو 11, 2005 9:02 pm

مشاركة بواسطة صدقي كبلو »

شكرا نجاة وشكرا لمحمد جلال هاشم
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

الأعزاء
سلام و كلام كتير في الخاطر
هاهي بقية نص جهنم في خصوص حداثة الغبش و سأعود لبعض النقاط المهمة التي أثيرت هنا و هناك و القلم كما قال الخضر الشاعر ليهو رافع ..يالها من عبارة.


السير عبدالرحمن 3


حلم الولاية

عبد الرحمن المهدي ، بوضعيته العجيبة ، بين نارين : نار التقليد المهدوي و نار الحداثة الاستعمارية، لم يكن مجرد زعيم عادي لطائفة دينية مثل بقية زعماء الطوائف الآخرين، بل هو نموذج حي لتخلّق واقع الحداثة في السودان.و الشذرات التي يمكن تجميعها من
" بزل" تاريخه الشخصي، مما يتكشّف في مذكراته ، تؤشّر للتطور الذي اتبعته شخصيته حتى يتسنى له الاضطلاع بأعباء دوره التاريخي.فالطفل الذي جاء للوجود بعد ثلاثة أسابيع من رحيل والده الامام المهدي ، كان قدره أن يتلقى تلك النظرات المفعمات بالحنان و بالحنين لروح الامام الأب الراحل، و ذلك قدر كان لا بد له من أن يكرس الطفل الوليد كحامل صورة " العوض" ، ضمن منطق الأخذ و العطاء الذي ينتظم عليه وجود العباد في خاطر المسلمين.و قد جاء في الأثر أن لله ما أعطى و لله ما أخذ.
هذه الوضعية النفسية الفريدة للطفل الذي شهد اضمحلال و سقوط المهدية، لا بد أن تكون قد ساهمت في في تهيئة الصبي اليافع لاستبطان فكرة تولي مسؤولية الرعاية على أثر الأب، سيّما و أن الرجل الذي خلف الأب الامام على مسؤولية الرعاية كان شخصا من خارج صلة الدم.كما أنه ـ أي الخليفة عبدالله ـ لم يكن يخفي معارضته لفكرة وراثة الرعاية أصلا، وهي معارضة يبررها الخليفة على زعم منطقي فحواه أن المهدي صاحب دعوة و ليس صاحب ملك، أو كما عبّر السيد عبد الرحمن نفسه في مذكراته ، و بطريقة لا تخلو من شبهة الغبن الخفي المسقط في استنكار من وصفهم بـ " المشفقين و العاطفين" على ما كان يعانيه أبناء المهدي من جوع و حرمان ضمن ضيق المهدية :
" أذكر أنني كنت و أخوتي لا نتبرم و لا نشكو حين ينقطع عنا الطعام و نظل يوما أو بعض يوم لا نجد أكلا، فقد طبعنا على الصبر و كبح جماح الرغبات. و أذكر أننا كنا نسمع بعض الهمس من المشفقين و العاطفين، و نسمع من يستنكر ما نعانيه نحن أبناء المهدي من جوع و حرمان، و لكنا ما كنا نعبأ بذلك الهمس. و كان الخليفة يعلم ما نحن عليه من جوع و حرمان، و كان من جانبه يعتبر هذا الوضع يبعد عن أذهاننا أن المهدي ملك و سلطان، و انما هو صاحب دعوة تطهير للأنفس و تقرّب للواحد الديّان "(ص 28).
و لعل أفضل تعبير عن طموح الولاية في خاطر الصبي الحالم باستعادة مجد الأب الراحل، حتى من الخليفة نفسه ، يتمثل في حكاية " الرؤيا " التي تموّه في ثناياها نزاعا شكسبيريا على شرعية الولاية بين عبد الرحمن، الصبي اليافع و خليفة المهدي ، في تلك اللحظات الحرجة من عمر المهدية.كتب عبد الرحمن المهدي:
" لقد بدأت الاخبار ترد و يرددها الناس عن قدوم الترك ( الجيش الانجليزي المصري ).
و كان الانصار يفيضون عزيمة و ثقة بأن الدين منصور. و أذكر أنني رأيت ذات يوم من الأيام رؤيا.رأيت أن الترك قد دخلوا جامع المهدي من الناحية الغربية و أن صفوف الانصار منكسرة من الناحية الشرقية من الجامع، و رأيت مولى لنصر الدين أخي يسمى جابرا قد سقطت منه الراية الزرقاء، فقلت له في المنام : { يا جابر أرفع الراية}.لم أحدث أحدا بهذه الرؤيا، لكن خليفة المهدي سألني و قال لي:{ من الذي قال: يا جابر أرفع الراية؟ أنت أم خليفة المهدي؟ }. فقلت له : { أنا }،فكرر السؤال ثلاث مرات ، فأجبته عليه ، فقال لي : { أكتم هذه الرؤيا و لا تخبر أحدا }. و بعد حين سألني الخليفة محمد شريف قائلا : { هل رأيت رؤيا؟} ، قلت : {نعم }فقال : { ماهي ؟} فقصصتها عليه، فقال لي : { أكتمها و لا تخبر بها أحدا}، و استغربت كيف بلغهما ، كلا على حدة ، خبر هذه الرؤيا و ما كنت قد أخبرت بها أحدا" (ص 29).
و ربما كان هم الولاية قد استقر في خاطر الصبي اليافع بعد نجاته من الموت ، عبر مسلسل الموت الذي تخطّف أخونه الذكور التسعة من حوله فبقي وحيدا كأنما الاقدار قد انتخبته دون غيره لحمل تركة المهدية على كاهله الغض. و يروي السيد عبد الرحمن في مذكراته: " لم أذهب لكرري مع الجيش لصغر سني ، و قد أمر الخليفة أن يتخلّف أبناء المهدي الصغار فتخلّفوا، أما أخي محمد فقد كان من أول شهداء كرري " (ص 30).
أما شقيقه الصدّيق فقد قتل مع الخليفة في أم دبيكرات. و في حادثة الشكّابة، التي قامت قوات الحكم الثنائي فيها باعدام الخليفة شريف و أبناء المهدي الأكير سنا: الفاضل و البشرى ،أصيب عبدالرحمن الصبي بطلق ناري في صدره " اصابة خطيرة" كما يقول : "
و كنت أنزف بين الجرحى، أما القتلى بين الانصار فقد دفنوا الا الخليفة محمد شريف و الفاضل و البشرى ، فان أجسادهم قد أثقلت بالحجارة و قذف بها في نهر النيل.. لعل الحكام أرادوا أن لا تكون لهم قبور تزار" (ص 33).
و بعد حادثة الشكابة تشتت شمل عائلة المهدي " و كان من لم يقتل و لم يجرح من صغار أبناء المهدي : عبدالله ، الطاهر، نصر الدين و علي ، فقد اخذوا للأسر في أمدرمان حيث أقاموا حتى أضيف اليهم أسرى أم دبيكرات ، فأخذوهم جميعا الى الأسر برشيد.أما الجرحى فقد اخذوا لسنارو لكنني لم أذهب معهم ـ و لعل الحملة لم ترغب في ضمّي الى الجرحى خوفا من المسئولية الناتجة عن ضرب غلام لم يبلغ الحلم".." أراد الله أن أجرح و أن أترك وحدي مع النساء و العجزة ".." و بعد أن أقمنا سبع سنوات بجزيرة الفيل أعيد أهلنا الذين كانوا في الأسر برشيد الى أم درمان.لقد كانت المعاملة في رشيد قاسية ، و كان البرد و سوء الكساء و الغذاء أسبابا في القضاء على جميع اخواني الأسرى.فقد قتلهم السل واحدا واحدا، و لم ينج الا الطاهر المهدي الذي مات بحلفا متأثرا بالعلة التي أصابته أثناء الأسر برشيد ، و علي المهدي الذي عاش حتى توفاه الله عام 1945 " (ص 34).
و هكذا بعد موت أخوته، أصبحت الولاية في خاطر عبد الرحمن المهدي واقعا لا مناص منه.و بعد حادثة" عبد القادر ود حبوبة" 1908 ، حين رأت السلطات الاستعمارية ابقاء آل المهدي و الخلفاء و الأمراء و أسرهم في أم درمان ، " في منطقة العباسية بجوار المركز لتسهل المراقبة "، كان عبد الرحمن المهدي ، في مطلع العشرينات ، على وعي تام بجسامة مسئولية الولاية التي كتب عليه القيام بأعباءها الثقيلة ، و التي يتناقض ثقلها مع يفاعته فيما يبدو من عبارته :
" لقد كنت في تلك السن المبكرة مسئولا عن تلك الاسرة الكبيرة و لم تكن مهمة اعالتها و الدفاع عنها سهلة .."(ص 35).باختصار ،يبدو أن تطور أقدار عبد الرحمن المهدي كان يهيئه للعب ذلك الدور الفريد الذي كان يقتضي رجلا يقيم ـ بين نارين ـ في منطقة التماس بين الثقافة التقليدية البائدة و الثقافة الحديثة السائدة.رجل تكونت نفسيته منذ الطفولة على طموح الولاية كسيرورة طبيعية لابن المهدي ( الوحيد) ، ثم مكنه تطور الملابسات التاريخية و السياسية في سودان الحكم الثنائي، من الاحتياز على حق الولاية و لكن تحت شروط سلطات الحداثة الاستعمارية. هذا الرجل الذي تمخّضت عنه تناقضات الحداثة و التقليد قاد حياته كفاحا بالغ التعقيد لتقعيد الحداثة الرأسمالية بين قوم يحيون ضمن ثقافة مجتمع قبل رأسمالي. و قد كان عليه أن يقود نضاله الحداثي على أكثر من جبهة :
فمن جهة أولى جاهد عبد الرحمن المهدي على جبهة المهدية نفسها حتى يتحول الانصار من ذهنية" الجهاد" الاستشهادي لذهنية " العمل " الحديث، و من جهة ثانية جاهد عبد الرحمن المهدي على جبهة الحداثة ضد السودانيين الواقعين تحت تأثير الحداثيين المصريين الذين كانوا يلعبون دورا كبيرا في صياغة الرأي العام الوطني بين أهل حواضر السودان.أو كما قال معلقا على المفاوضات الانجليزية المصرية عام 1946 لتعديل مهاهدة عام 1936 :
" كنت دائما شديد الاعتراض على وضع السودان تحت التاج المصري كما ترغب بعض العناصر في السودان " .." و كنت أشفق على قومي و بلادي من التأثير المصري و النفوذ المصري و الاغراء المصري الذي أخذت طلائعه تطل علينا.."(ص 70). و بين التقليديين و المتمصرين كان على عبد الرحمن أن يقاوم تأثير الحداثيين السودانيين الواقعين تحت تأثير البريطانيين حتى يتسنى له تقعيد مؤسسات حداثة رأس المال في صياغة "سودانية" للـ " سودانيين"، فقام برفع شعار الغاء الشيع و الطوائف و الاحزاب ضمن مناورة ذكية فحواها تقعيد شيعته و طائفته و حزبه في مقعد" الأمة" ، مقعد " الوطن الكبير" ، حسب عبارته الرهيبة التي تكشف عن مشروعه الوطني الطموح : تأسيس الوطن الكبير. و قد كان عبد الرحمن المهدي على وعي بهشاشة مؤسسات "الوطن" الذي يفاوض باسمه من أجل تحقيق المصير و الذي كان يعرف أنه سيحكمه بعد الاستقلال. ففي تعليق له عن " الادارة الأهلية " يكشف عبد الرحمن المهدي عن حساسية سوسيولوجية مرهفة بطبيعة مؤسسات المجتمع الوطني الوليد، و ذلك في قوله:
" على الرغم من اعتراض بعض المتعلمين على الحكم العرفي فانه في رأيي أفضل من حكم الموظفين المباشر ، لأن الاخير يفتقر الى أهم دعائم الحكم الرشيد ، ألا و هي الولاء المشترك بين الحاكم و المحكوم ، و لم تكن القبائل آنذاك تعرف الولاء للوطن الكبير..".
هذا التعلير الجديد : " الوطن الكبير "، هو في ترجمة الاقتصاديين و من لف لفهم من المستثمرين هو السوق الكبير الجديد المتكامل بابعاده المالية و القانونية و الثقافية التي تنتظم عليها علاقات العمل الجديدة و رأس المال الوليد.و هو مجال استثمار واعد و منسجم مبذول لكل من يملك وسائل الاستثمار. و من غير هذا " الامام/ السير" ، بما يملك من بأس مادي و روحي، من غيره يقوى على بناء أول دوائر رأس المال " الوطني" الحديث عند تقاطع "عقد الولاء" التقليدي " المشترك بين الحاكم و المحكوم "( البيعة) ، و عقد علاقات الانتاج الحديثة بين العامل الزراعي الذي يبيع قوة عمله و صاحب العمل الذي يملك أن يشترى ( أو لا يشتري) هذه السلعة الجديدة الزهيدة الثمن: عرق فقراء " الوطن الكبير"؟. هذا الرجل المسكون بهم الولاية منذ رؤيته الرسالية التي أربكت خليفة المهدي (" يا جابر ارفع الراية") صان حلم الولاية عبر حياته الحافلة بين أم درمان و الشكّابة و أبا و القاهرة و لندن ، و قعّد المجتمع السوداني على مكيدة الحداثة الرأسمالية في نسختها السودانوية الفريدة في براغماتيتها، حتى أنها ـ حسب مقتضى الحال ، حال السوق ـ تملك أن تؤسس للمصالحة بين الأعداء كما تملك أن تؤسس للعداء بين الأحباب، فسبحان مغير الأحوال من حال التقليد المحلي قبل الرأسمالي لحال الحداثة الغربية المتسربلة بسرابيل التقليد.

حسن موسى
أضف رد جديد