جون قرنق،إليك تسري كل دروب السلام والمعارج.عبدالجبارعبد الله

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
نجاة محمد علي
مشاركات: 2809
اشترك في: الأربعاء مايو 04, 2005 1:38 am
مكان: باريس

جون قرنق،إليك تسري كل دروب السلام والمعارج.عبدالجبارعبد الله

مشاركة بواسطة نجاة محمد علي »



جون قرنق... إليك تُسري كل دروب السلام والمعارج


عبد الجبار عبد الله

ُ

قالت له إحدى البنيّات، إذ كان هادئاً يغط في غفوته الأبدية الأخيرة:
الآن يا مليك السلام،
متوجاً بالحقول؛
هل جلست إلى حزننا..
تحللت فيه من الأمنيات،
من تشكي الحبايب والمتعبين؟
هل علوت على نارنا وهي تعلو؟
هل عبرت إلينا
حارقاَ مثل حلم
خافقاً مثل نسر؟
جائلاً للأبد
أعالي الإماتونج
هذا المهيب العابث السعيد...

أواه من تلك الأماني الهاربة.. أواه من تلك الشموس الغاربة، قبل انبلاج الفجر.. هنيهة من حلول الغسق. آه من وجع السودان وحسرته! وما بين السياسة والشعر أو لنقل الإبداع عموماً، هناك ثمة قاسم مشترك، هو الشفافية والعبقرية، والقدرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء ولمس كبد الحقيقة. كان هكذا جون قرنق، ما سدت رؤيته أدغال الغابة ولا كثافة الأشجار، ولا أزيز الرصاص والبنادق، ولا سحائب الدخان الكثيفة التي سدت أفق السلام، على امتداد ما يشارف ربع القرن من الزمان! كان في نفاذ رؤيته وبصيرته، شبيهاً بانفلات عبقرية النحات الإيطالي العظيم مايكل أنجلو، إذ كان يرى تمثاله الذي يريد في قلب الصخر والحجر الأخرس الأصم، قبل أن يشرع فيه إزميله ويبدأ بنحته وتشكيله على الهيئة التي رآها وتصورها مسبقاً! ومثله وقبله كان القائد الإفريقي العظيم نيلسون مانديلا، يوم أن ومضت عبقريته السياسية، وهو لم يزل وراء القضبان، لنحو ربع قرن من الزمان أيضاً، باستشراف تداعي وانهيار نظام الفصل العنصري البغيض، الذي استمر يجثم على صدر بلاده لما يناهز الثلاثة قرون من الزمان، ويوم أن رأى وطنه وهو في صيرورة التحول إلى ديمقراطية يتساوى فيها البيض والسود، وإلى دولة لحكم القانون واحترام التعدد وتقديس حقوق الإنسان. وقد خط كل ذلك في كتابه الملهم الثمين " ليس الطريق سهلاً إلى الحرية". فهل كانت رؤية قرنق واستشرافه للديمقراطية والسلام أقل، وهل كان طريقه –بل طريق السودان كله- سهلاًَ إلى السلام والديمقراطية من توريت إلى نمولي .. إلى نيفاشا؟
وإذ كان يشق طريقه الطويلة عبر أدغال الغابة وسحائب الدخان واللهب، إنما كان يرى في السلام خطوة أولية لا غنى عنها، لفتح الباب على مصراعيه، أمام تحول سياسي غير محدود ولا مسبوق، في تاريخ السودان قديمه وحديثه. محور هذا التحول هو وحدة التراب السوداني، شمالاً وجنوباً، غرباً وشرقا. أداة هذه الوحدة ومفتاحها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ورفع الغبن والمظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، وإحقاق الحقوق على أساس المواطنة .. والمواطنة وحدها، دونما اعتبار لجنس أو لدين أو لعرق. كما كانت أداتها التنمية الشاملة لكافة أرجاء الوطن، ومحو عار التخلف والأمية والجهل ومكافحة واستئصال جرثومة الفقر. كان إلى سماء الفقراء و"أهل الهامش" ينتمي، وكان شاعرهم وحادي ركبهم، ما في ذلك أدنى شك.
وعن ساسة الجنوب وقادته، لطالما ساد الانطباع النمطي الدارج في الشمال، عن نزعة الانفصال عندهم، وعن ميلهم إلى تفتيت وحدة السودان وتمزيق أوصاله، وعن المساومة على الجنوب، لصالح قوى خارجية ما. وقد طال هذا الاتهام جون قرنق نفسه، وظل الإعلام الرسمي يدمغه باتهاماته الرخيصة المبعثرة يميناً وشمالاً. فظل ينعته مرة بالعمالة، وأخرى بالنعرة الانفصالية، وثالثة بكونه طابوراً خامساً، لقوى أجنبية ذات أطماع ومآرب في أرض السودان وثروته. وكان ذلك بعض الذي عاناه قرنق، مثل غيره من كثير من الوطنيين السودانيين، الذين عشقوا بلادهم وتفانوا في دفاعهم عنها، بوجدان صوفي معذب مولَه.
وما بين الصورة النمطية الزائفة التي رسمها عنه الإعلام الرسمي، وشخص الرجل وأصله ومعدنه ونواياه، انبلجت وتكشفت شمس الحقيقة ساطعة، منذ لحظة أن وطئت قدماه مطار الخرطوم، لأول مرة إثر اندلاع الحرب التي شنها باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان، في عام 1983. شمساً وأي شمس كان، قائداً وأي قائد! وهل تصلح هنا ترجمة الكلمة اللاتينية الأصل المعربة إلى "كاريزما" إلى مقابل عربي أكثر إبانة من قبيل "سحر القيادة" لا سيما وأن الكلمة تشير في الأصل إلى رقية أو تعويذة سحرية خارقة –قادرة على شفاء الداء العضال- وهي تمنح عادة من قبل روح علوية مقدسة، إلى كائن بشري ما، اصطفته وخصته الأرواح المقدسة بتلك الميزة؟ ألم يكن قرنق خير طبيب لأمراض السودان السياسية، وأدوائها العضال؟ وأي صورة أزهى وأبهى مما قالته حفيدته الشمالية "نجلاء" شعراً في هذا المعنى؟
ولما أخذت بك الطرق
هرول السجع من أغانينا لشفتيك؛
انشقت غيمة الفضة عن قروحنا كلها
وإذ رأيت كم نحن فقراء للعدل
كم ناحلين
بكيت؛
لمحنا عيونك بين ألفي يمامة بين مئات الجسور.
أيها الطفل الذي ننتظر؛
أنت بيننا يا أخي
مستدركاً صوتنا في اللغات القديمة
بضحكة.
كنت أجمل مما ظننا وأقوى.
وبقدر ما جلجلت في أرواحنا وآذاننا ضحكتك، وتهللت فينا الأسارير، بقدر ما انقبضنا وغصت الحلوق والعيون بحنظل رحيلك المباغت الحزين. إلى أين ذاهب أنت في الزمان الخطأ؟ متى حللت أهلاً وسهلاً؟ ألا تستجم قليلاً من عناء الحرب والترحال والسفر؟ لقد لحت في سمائنا نجمةً وضاءةً وسنى... وكنت فينا وبيننا أملاً للشمال وفألاً للجنوب.. زهرة للتقدم والتنمية. فأي شؤم اصطفاك.. أي نحس شقّ سماء الوطن، أي طائر؟
وداعاً أخي إلى لقاء قريب. ففي عيون "ربيكا" في أحزانها نلتقيك، في استنارة أنجالك وأحفادك الكثر نراك، في بسمة ميري ومهيرة... وفي ثبات شعبك ورفاقك على الدرب والمبادئ، وفي سيرنا جميعاً على طريق السلام يحلو لك المقيل والمقام، تحلو لك القهوة. ومن نمولي إلى نيفاشا.. إليك تؤدي كل الدروب والمعارج. وبيننا ستبقى بشرى للجنوب، أملاً للشمال... زهرة للتقدم والتنمية.

عبد الجبار عبد الله
Email: [email protected]
صورة العضو الرمزية
نجاة محمد علي
مشاركات: 2809
اشترك في: الأربعاء مايو 04, 2005 1:38 am
مكان: باريس

مشاركة بواسطة نجاة محمد علي »



الصديق العزيز عبد الجبار،
عاطر تحياتي

هذا هو نصك في رثاء الدكتور جون قرنق.
الحيز المتاح لكتابة العنوان، كما ترى، ضيق جداً بحيث لا يسمح بكتابة كل الكلمات التي نود أن يتضمنها العنوان. فأرجو المعذرة، إن لم يأت العنوان كما تتوقع.

لك خالص الود، وأتمنى أن تتسهل لك مشكلة دخول منبر الحوار الديمقراطي بعد الانتهاء من حفل تأبين الراحل العظيم، مع كل أمنياتي لهذا الاحتفال بالنجاح الكامل.

نجاة

ÚÇÆÔÉ ÇáãÈÇÑß
مشاركات: 164
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 6:43 pm

مشاركة بواسطة ÚÇÆÔÉ ÇáãÈÇÑß »

[size=24]وفي سيرنا جميعاً على طريق السلام يحلو لك المقيل والمقام، تحلو لك القهوة. ومن نمولي إلى نيفاشا.. إليك تؤدي كل الدروب والمعارج. وبيننا ستبقى بشرى للجنوب، أملاً للشمال... زهرة للتقدم والتنمية. [/size

عبد الجبار دائما تكمد الجرح ملحا ومع الالم يتوقف النزف ولكن حتما سيظل عبق زهرة التقدم والتنمية فواحا ما دمنا على الدرب ماضون ياقرنق .
شكرا ليك نجاة لاتاحتك لنا قرآءة عبد الجبار .
صورة العضو الرمزية
يحيى فضل الله
مشاركات: 183
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:22 pm

مشاركة بواسطة يحيى فضل الله »

مرثية لبطل لم يمت
----------------
الدكتور جون قرنق دي ما بيور
----------------------

بقلم: ديرك أويا الفريد
----------------


مدير مركز كوتو الثقافي
-----------------

مدخل فلسفي:

الموت واقع وجودي لا مفر منه ، فقد حير البشرية. فارتبطت محاولتهم وسعيهم لإدراك كنهه منذ أقدم العصور والحضارات بطقوس وممارسات واعتقادات كثيرة حول الظاهرة - الموت ، فيبدو أن السواد الأعظم من البشرية رفض فكرة الموت حينذاك ، كنهاية وفناء للإنسان ، وحاولوا اختراق حاجز الزمن بمحاولة الاستمرارية والتسرمد من خلال أشكال متعددة: كالاعتقاد في حياة أخري ، خلق أثار لذاكرهم ، وأحيانا أو غالبا تأتي أهمية الزواج في بعض المجتمعات لضمان الاستمرارية عبر الأبناء والأحفاد وقهر فكرة الموت - الفناء . لعل الفكر هو أقدر علي الصمود واختراق المنيّة كما يقول جان توشار:" ...كم تسببت الأفكار بإراقة دماء ، ذلك أن الأفكار لا يمكن قتلها أو حبسها والأفكار ليست تجريدات في الأذهان ، إنها أفعال وأحداث . والأفكار الحسنة لا تفني ، أي ليس لها عمر وزمن ، إنها دائما مستقبلية . والناس يؤمنون بالأفكار ويموتون من أجلها .. وليس أخطر من الفكرة حين تتلبس صاحبها وتستولي عليه. وترابط الأفكار وتنظيمها يعني بالضرورة ترابط الأحداث والأشياء وتنظيمها . وكل شيء يتم بفعل الأفكار . إنها تنتج الأحداث التي هي منها كالغطاء أو الرداء. والأفكار هي ذلك الشهاب الذي يثقب عالم المستقبل ، عالم المجهول. إنها هي التي تحرك الناس والشعوب . ومن خصائص الأفكار إنها قاسية لا ترحم . وتاريخ الأفكار هو تاريخ المنعزلين المنفردين . وكل حدث أو فعل لا قيمة له إلا بالفكر الكامن وراءه ...."

فجوة خبرية:

بدأ الخبر كإشاعة: أن الطائرة المروحية للرئاسة اليوغندية التي كانت تقل الدكتور جون قرنق من يوغندا إلي الأراضي السودانية بنيو سايت قد اختفت في ظروف غامضة يوم 30 يوليو 2005 م ... تلقيت الخبر اليوم التالي ظهرا كإشاعة أيضا .. وطال الانتظار لسماع الخبر اليقين من الدوائر الرسمية - الرئاسة الجمهورية السودانية التي يعمل بها الدكتور كنائب أول منذ ثلاث أسابيع فقط.. تأخر تأكيد الخبر حتى بدأ تداوله في الفضائيات العالمية .. ومنذ تلك الليلة دخلت في أحاسيس غريبة ، حزنت حينا .. كذبت النبأ في نفسي رفضت فكرة موته .. وفي الليل الحالك هاتفني أصدقاء من أمريكا ، كينيا وبعض مدن السودان متسائلين أيضا عن صحة الأخبار المتداولة في وسائل الأعلام .. منذ ليلة الأحد رأيت في منامي أحلاما وكوابيس مفزعة .. حملتني الأفكار بعيدا ، لأصقاع نائية .. راودتني خلالها أربعة محطات مشهدية:

المشهد الأول: " رحلة البحث عن قبر داخل القلب":

في غمرة النضال الثوري في نيكاراغوا بأمريكا اللاتينية في حقب السبعينات أو الثمانينات من القرن المنصرم ، حيث كانت نيكاراغوا تحكمها طغمة عسكرية مستبدة ، لمع نجم شاعر كان يقاوم ذلك النظام بقصائده وأشعاره الثورية ، فكان جزاءه أن أغتال العسكر أخاه انتقاما منه .. لكن الحبر لم يجف من يراع الشاعر . عمل نادلا بالعاصمة في احدي الفنادق الفخمة التي يعمها أفراد تلك الطغمة العسكرية للهو والعربدة والليالي الحمراء المخملية . جاء يوم القصاص حين حضروا لقضاء عطلة الأسبوع بالفندق ، والشاعر كان النادل الذي سيخدمهم في تلك الليلة . قدم لهم الشراب والطعام وانتهز تلك السانحة المواتية وقتل علي مرأى من الضيوف والحضور أحد الجنرالات ، وعلي الفور تم تصفيته جسديا ودفن جثمانه في أحدي المقابر في بقعة بعيدة ..

يشاء القدر أن تنجح ثورة السنتنستا لدانيال أورتيغا والناس فرحي بهذا التغير فتجئ ذكري الشاعر وكيف أنه ناضل وحيدا بقلمه بل بنفسه وأصبح أسما في تاريخ النضال النيكاراغوي .. وفي تلك التجليات قرر الشعب المحتفل أن يذهبوا سويا للبحث عن قبر هذا الشاعر المناضل .. قصدوا القبر علي الأقدام وهم يغنون بعض أشعاره ووصلوا إلي المكان ولم يجدوا القبر ، لان الجموع كانت غفيرة داسوا علي القبر بإقدامهم دون قصد ، فتلاشي ملامح ذلك القبر .. لكنهم أدركوا أن قبر ذلك الشاعر كان في قلب كل منهم .. فكيف يبحثون عن قبر خارج قلوبهم ؟!

المشهد الثاني: " لقطة سينمائية" :

في أحدي الأفلام الروسية الكلاسيكية ، يحكي أن شابا متحمسا ومشبعا بالماركسية والثورة في روسيا القديمة حينذاك أرسل من قبل قيادة الثورة البلشفية إلي ضاحية بعيدة ليعدّ الفلاحين ويعلمهم ماهية الاشتراكية .. غادر المدينة حتى وصل القرية بعد يومين … وفي اليوم التالي لوصوله جاءت برقية بان لينين قائد الثورة قد مات !! يا للهول !! ما العمل ؟!! قام الشاب غاضبا ومحبطا ومنكسرا بإشعال نار في أخشاب كبيرة وصاح في سكان القرية : " … هيا .. هيا استيقظوا .. كيف تنامون وقائد الثورة قد مات " .. تجمهر أهالي القرية حول النار في تلك الليلة الباردة ينظرون إلي هذا الشاب الذي أخبرهم أن لينين الزعيم قد مات !! وتساءل أهالي القرية : " وماذا تريد أن نفعل حيال ذلك ؟! " فتذكر الشاب أن القائد فعلا قد نالته يد المنيّة وعلي الحياة أن تستمر لطالما انه يعرف ماذا يجب أن يفعل في تلك المنطقة النائية .!!

المشهد الثالث: "اللقاء الذي لم يتم":

دعي معلم كبير .. والمعلم في الإرث الصيني التقليدي هو ذلك الرجل الهرم المسن ذو اللحية الطويلة البيضاء ، ذلك الزاهد الذي يعيش وحيدا علي جبل بعيد ، يتأمل في معني الحياة والإنسانية .. رجل ممتلئ بالحكمة وبعد النظر.. دعي تلميذا مبتدئا أن يأتي إليه عند التل.. فخرج التلميذ صباحا قاصدا المعلم ، وبينما هو في طريقه في ذلك الفجر رأي الشمس ترسل أشعتها الذهبية علي بقايا الندي علي أوراق الشجر تاركة بقعا ذهبية صغيرة منتشرة تلمع هنا وهناك .. أحس واستمتع بالنسيم الصباحي العليل المشبوب بالضباب ، رأي الطيور تغادر أعشاشها في يوم جديد ، رأي الحيوانات المفترسة في طريقها إلي مخابئها وعلي أفواهها بقايا دماء افتراس الليلة الماضية .. حتى إيقاع التلميذ ذلك الصباح كان مختلفا وجميلا .. فكله فرح وثقة ونشاط وحيوية .. صوت وقع أقدامه كان مموسقا وهو في تلك الرحلة الفاصلة للقاء المعلم الكبير .. فهنالك ظن انه سوف يتعلم منه اشياءا جديدة .. سيجد أجوبة وأسرارا لأسئلة كونية وإنسانية كان يبحث عنها في كل مكان.. وأخيرا وصل إلي أعلي التل .. ويا للمفاجأة !! لم يجد المعلم .. انتظر وانتظر .. لم يلح في الأفق شبح المعلم .. أنتظر اليوم بطوله .. لم يحضر .. بدأ الغضب يدب في أعصابه .. غضب وزمجر وتذمر .. وأخيرا عند الغسق وبعد عناء يوم طويل قرر أن يعود أدراجه إلي منزله في المدينة .. وهو في طريق عودته رأي طيور ذاك الصباح عائدة إلي أعشاشها ، رأي الشمس ترسل أشعتها الذهبية إلي الكون وعلي أوراق الشجر تاركة ألوان زاهية مختلفة عن منظر الصباح .. بدا يسمع زئير الحيوانات المفترسة في الغابات المجاورة وهي تستعد للافتراس بعد سدول الليل .. سمع صوت وقع أقدامه يشوبه الغضب والتعسف .. اختلف منظر الصباح وإيقاعه عن تلك الأمسية .. وأخيرا وصل إلي منزله في المدينة غاضبا .. وقال في نفسه : " لقد ضاع يومي هباء .." غير انه في لحظة بارقة أدرك أنه لم يضع يومه سدى، بل انه اكتسب يوما كاملا مليء بالتجارب الجديدة .. فقد عرف الصباح الجميل ، الندي ، أشعة الشمس، الطيور الجميلة وهو في طريقه للقاء المعلم الكبير في ذلك الصباح.. حتى تجربة المساء كانت ممتعة هي الأخرى: أشعة الشمس عند الغسق ، والطيور العائدة إلي أعشاشها ، وزئير الحيوانات المفترسة في المساء .. هنا فقط أدرك تماما انه عرف أشياء عن الكون ما كان سيعرفها لولا ذلك اللقاء - دعوة المعلم التي لم تتم .. !!



المشهد الرابع: طقس إفريقي روحي وإيحائي:

لساعات متأخرة من الليل وأنا أحاول سبر أغوار لغز الموت.. فلم أجد الإجابة الشافية .. ففي غياهب تلك التقاطعات - النعاس والتفكير ، توغلت عميقا في الثقافة الإفريقية ، مستلهما الطقوس الروحية ، حيث الشعائر الجنائزية التي أقامتها له روح الأسلاف والآلهة .. فكان راقدا في تابوته والصمت يلف المكان والمشاعل تضيء المكان الذي ينبعث منه الدخان ، والظلال من بين الأشجار لتظهر وجوه مألوفة لناس ماتوا منذ زمن بعيد - تلك الميتة الأسطورية التي تكتنفها الغموض والإلغاز … وجموع غفيرة جالسة في صمت علي الأرض ، وهو راقد في سكون في تابوته في منتصف المكان .. وعلي مقربة منه أبنائه وزوجته يجلسون علي الأرض في ثبات وتصميم وعزم ، أنظارهم تخترق المستقبل ، صامدون ، مصممون ، عازمون ، والزوجة - الأم تحتضن الأبناء في تماسك وتلاحم شديدين لسبر أغوار المستقبل .. تماسك عائلي ، تماسك علي المبادئ ، التماسك الذي تتطلبه الفجيعة .. وفي الحلبة الكبيرة يقف ثور أبيض (مابيور) ، أحضره (بنج بيط) - صاحب الحربة المقدسة لإقامة الطقس الجنائزي .. (بنج بيط) في ثقافة الدينكا هو ذلك الرجل المتدين علي الطريقة التقليدية ، ومشهود له بالأمانة والاستقامة والقدرة علي إقامة كافة الطقوس التي يحتاجها المجتمع مثل البركات ، العلاج ، المسامحة والغفران حتى إنزال اللعنات .. جاء اليوم لإقامة هذا الطقس الجنائزي الذي يقام دوما من أجل أن تستريح روح إي فقيد في سلام ، ولكي يرقد في سلام لابد من التطرق إلي : الأسئلة :" كيف مات الفقيد ؟! من كان وراء موته ؟! الآلهة أم الإنسان ؟! وعلي مقربة من الثور الأبيض بعض الطبول .. تقدم نحوها العازف واخذ الزوغم ( المضرب) وضرب أربعة ضربات قوية متتالية علي وجه الطبل الكبير ، فصاح رجل عجوز بأغنية مناحة حزينة بأحدي لغات تلك المنطقة ذات التباين الثقافي الشديد .. وهي أغنية تغني في مستهل الطقس الجنائزي .. ثلاث أبيات تغني في ظروف الموت كيفما كان سببه:

هل طال السكون الآن علي البلاد؟!
هل أثلج صدوركم الآن بموته ؟!
هل ارتحتم الآن أيها الحاسدون ؟!

فانبرت من الجموع المحتشدة امرأة عجوز مفجوعة تغني :

" انفخوا البوق لنعبر عن هذه المأساة
رباه .. لماذا لم توقف المنية ؟!
أباه .. الخيرات والثروات بعدك
من ذا الذي سيحافظ عليها ؟!

بدأ كأن تلك الأغنية حركت المشاعر الحزينة للناس فبدأوا يتدفقون إلي حلبة الرقص راقصين .. وهنا في هذه اللحظة التاريخية التراجيدية تدخل (بنج بيط)– صاحب الحربة المقدسة وطلب من الجموع الصمت والكفء عن الرقص والغناء ، ومن النساء طلب عدم العويل قائلا : " دعونا نصلي من أجل روح الفقيد" .. ثم أطرق حينا .. فهو منذ سماعه نبأ رحيله منذ أسبوع ، امتنع من تناول الطعام والشراب ، لم يقترب من زوجته وأبنائه .. اعتكف بعيدا في الغابة يتعبد ويصلي ويناجي الآلهة أن تعطيه القوة والمنعة لهذه المهمة الخطرة التي سيقوم بها ذلك اليوم .. أطرق حينا ثم صلي مخاطبا الآلهة والرب مباشرة دون وسيط وبصوت هادي ووقور:

يا أيها الرب الآلهة .. رب الأسلاف
خالق السماء والأرض
والمطر والزرع والخضر
والشمس والقمر
والليل والنهار
خالق الحياة والموت
لماذا عذبت هذا الشعب الفقير المسكين ؟!
ففي كل يوم .. كل حين وبين الفينة والفينة
يسقط الأبطال .. الواحد تلو الأخر
دون إكمال المنال
وأنت يا أيها الرب والآلهة لا تفعل شيئا سوي
النظر إلينا ساكنا من علوك !!
علي مدار نصف قرن من الزمان والدماء
تسيل علي هذه الوديان
والموت ينتشر في كل مكان
من أجل واقع جديد مشرق
من أجل كرامة الإنسان
وفي خاتمة المطاف لا شيء
سوي موت الولد ، البنت ، المر أة ، الرجل والشيخ
موت الزرع والبقر
وتصبح الأرض جدباء وجافة .
وتعاد الكرة من جديد والمحصلة هي عينها
موت البطل .. بطل جديد ..!!
(صمت)
بدأت تشع من عيني ونظرات (بنج بيط) شرارة من الغضب ، وواصل مخاطبا الآلهة الرب بصوت عالي مثل هدير الرعد:

باسم الأسلاف وباسم هذا الشعب الحزين والمسكين
أقول لكم يا أيها الرب الآلهة بكل صدق وتجرد من كل أكذوبة
إنني غاضب وحانق .. كلنا غاضبون .. غاضبون جدا
حزينين ومستاءين ..!!
تعلم جيدا يا أيها الرب الآلهة .. أن السواد الأعظم من هذا الشعب
جهلاء ، مرضي وفقراء
ورغم ذلك أنجبوا هذا الرجل الفذّ .. هذا البطل المغوّار
ليخلصهم ..
وكانوا يحتاجونه حيا .. عقلا وبدنا يمشي بينهم
يعلمهم ويقودهم حينا من الدهر
حتى إذا ما قوي عودهم
تأتي أنت لتأخذه حيث ما تشاء
لكن ، أن تفعل ذلك الآن .. في هذا الزمان
وهم لا يملكون خطوط الأشياء
لا يسيطرون علي ناصية الأشياء
فهذا هو الموت بعينه
موت شعب ..!!

(وفجأة صاح بصوت أكثر علوا يشبه الاحتجاج )

تعبنا يا رب الآلهة .. يا رب الأسلاف
تعبنا وتعبت نساءنا من إنجاب الإبطال
ليكون مصيرهم الموت - اللغز
تعبنا وتعبت نساءنا من إنجاب الأطفال
لا ليحيوا بل ليموتوا
فماذا تريد منا يا رب الأرباب
قل لنا الآن في هذا المكان
ماذا تريد ..؟!
(صمت)
( وبصوت أكثر اعتدالا ووقارا وإدراكا .... واصل الصلاة):

ما يغضبنا الآن ليس فقدانه ورحيله
فهذه الأرض
(يرشق الأرض بالحربة المقدسة البيضاء ، لتنتصب الحربة مستقيما تصدر منها اهتزازة من مقدمتها إلي جسم الحربة - العود النحيل الأملس في الأعلى )
يمكن أن تنجب الملايين من الأفذاذ علي شاكلته
ما أصابنا بالغضب الشديد المستمر هو
القذارة ، الخيانة ، الكذب ، النفاق ، الرياء
الزندقة ، الدهاء ، المكر ، الخبث والمدلسين في ربوع هذي البلاد !!
ما يزعج ويقلق الكثيرون
فيبتعدون وينشطرون ويحسون
بعدم الثقة في العيش فيما بينهم ..!!
ومصدر هذه الشرور هو الظلم ..!!
الظلم الاجتماعي .. اضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان !!
أريد أن تجتمع هذه الذنوب والأحقاد المحتقنة في الصدور زمنا
أن تدخل إلي جسم هذا الثور الأبيض – مابيور أمامنا.
(اتسعت حدقتا عيون الثور ، وانتصبت أذنيه إلي الأعلى ، بحذر صدر منه صوت وصاحب الحربة المقدسة مواصلا ): الشرور من هذي الوديان ( بدأت القدم اليمني الأمامية للثور ترتجف) والشرور والأحقاد من الكثبان الرملية (القدم اليسري الخلفية للثور بدأت في الارتجاف) الشرور المنتشرة في السهول والمستنقعات ( بدأت القدم اليسري الأمامية للثور ترتجف) والجبال والمرتفعات ( بدأت القدم الأخيرة اليسري الخلفية للثور في الارتجاف) من البطانة والصحاري (ارتفع فجأة إلي أعلي ذيل الثور في شكل عصا مستقيم ثم بدأ في قمة الارتجاف) كل هذه الشرور التي تثقل وتعذب ضمير هذه الأمة (بدأ الثور في الهياج والتبول مثل النافورة) لتصفو ضمائر الناس ، وليعلو صوت الحق والعدل والاحترام بين الناس ( الثور كله صياحا وهياجا وتبولا) كل هذه الخطايا مجتمعة ارميها في جسم هذا الثور المسكين يا رب الأرباب (يسقط الثور صريعا وميتا بلا حركة .. والناس مرعوبين من هذا الطقس المهيب ...)

صاحت أمرآة شجاعة بزغرودة طويلة شقت الصمت المهيب .. ثم تقدم (بنج بيط) صاحب الحربة المقدسة نحو التابوت المكسو بقماشين تداخلت فيها الألوان : الأحمر ، الأسود، الأبيض ، الأخضر ، فيما أختلف فقط اللون البنفسج - لون النبل والملك ونجمة صفراء ساطعة هادية علي صدره .. وقف (بنج بيط) صاحب الحربة و أطلّ بنظره عبر كوة مثل الشباك في التابوت مخاطبا إياه بصوت آمر .. " قم يا بطل وحدثنا .."

فاستيقظ الزعيم من مماته وحاول متعبا النهوض .. فأحس أن جسمه مخدر ومثقل .. فجاء لمساندته من جوف التاريخ والزمن السحيق رجالات يبدو إنهم كانوا ذوي همم ورسالة في أيامهم الغابرة ، غير أن تواصلهم مع الآخرين ما زال باديا من خلال الأفكار النيّرة التي تركوها خلفهم : علي عبداللطيف ، دينق نيال - الأب ، جوزيف قرنق، عبدالخالق محجوب ، محمود محمد طه ، اميلكال قبريال ، شكا زعيم الزولو ، المفكر ديوب ، كومارا ميشل ، عبدالرحمن الكواكبي ، أستيفن بيكو ، جون كنيدي ، مالكولم أكس ، مهاتما غاندي ، مارتن لوثر كينج ، كوامي نكروما ، جاءوا وساعدوه علي النهوض والجلوس واتكأ علي التابوت حيث يمكن رؤية مقدمة وجهه من خلال الكوة بالتابوت .. أعطوه ماءا من قرع ، شرب منه قليلا وتنفس الصعداء .. ثم التفت إلي هؤلاء الجهابذة وابتسم برهة .. تلاشت الابتسامة من شفتيه حين رأي الجموع الغفيرة الحزينة حول المكان .. استدار برأسه وتفرّس في الوجوه الكثيرة في حركة استدارة Pan Right طويلة وكان يقف بين الفينة والأخرى يحدق في بعض تلك الوجوه ويبتسم ويومئ برأسه في إعجاب واعتزاز ، خاصة حينما رأي زوجته الجسورة وأبنائه ، ورفقاء النضال ، ورؤساء حكومات ، زعماء وممثلي منظمات دولية ، النساء ، الرجال ، الشباب والشابات ، الأطفال .. والأطفال العرايا – الشماشة والمهمشين ، حتى وصل إلي آخر وجه بين هذه الجموع المحتشدة .. لكنه فجأة وفي حركة استدارة يسارية أخري Pan Left ، استدار بسرعة متفحصا الوجوه مرة أخري ، وكأنه كان يبحث عن أتراب ، أعزاء ، أصدقاء ، زملاء دراسة جمعهم أيام التحصيل الأكاديمي ، أو مداولات وتفاوض في الشأن السياسي لم يكونوا بين الجموع... تجمدت نظراته في نقطة ما في الأرض مفكرا ، وكأنه كان يقول لنفسه في همس " ما أشبه الليلة بالبارحة" .. ثم ابتسم ابتساماته الصادقة ونظر إلي السماء التي تكسوها النجوم وضؤ القمر والدخان المتصاعد .. سأله (بنج بيط):" ماذا رأيت ؟! فأجاب :" رأيت اشياءا كثيرة .. رأت جموعا كبيرة تبكيني ... تبكي من أجلي أو بالأحرى تبكي نفسها وطموحاتها التي كانت ترى إنها يمكن أن تتحقق من خلالي .. سمعت أقوالا وكلمات قيلت عني.. سمات وخصال حميدة قيلت في حقي .. مثل الكريزما التي أتمتع بها ، مقدرتي الفائقة لدخول قلوب وعقول الناس بسرعة ، صبري ، مصداقيتي ، وطنيتي الصادقة ، تفانيّ ، حبيّ العظيم لتراب وشعب هذا الوطن ، ذكائي الشديد ، سرعة بديهتي ، روح الدعابة التي أتحلي بها ، حنكتي السياسية وأشياء أخري كثيرة ، غير إني أدري إنها صفات يمكنهم اكتساب أي واحدة منها ... فانا فقط عشت واقعي وحاولت أن أفهم هذا الواقع وأجد التحليل الدقيق والتفسير الواضح والعلاج الناجع والشافي لهذا الواقع .. فلهذا جاءت أفعالي وسلوكي منسجمة وأنا في خضم البحث عن الإجابات .. فقط لو أصبحنا صادقين وأمينين وحقيقيين نحترم ونقدر هذا الشعب ، يمكن أن نصل لمبتغانا ، ولخرجت كلماتنا صادقة تلمس أفئدة وعقول الجماهير ، ولاصبحت رؤيتنا ثاقبة تخترق الأزمان .. ابتسم ابتسامته المعهودة وواصل قائلا : " لكن الطريق أمامنا طويل ومضني ، وأخشى ما أخشي أن يخيب آمالا وتطلعات أحسستها لدي مئات الملايين ممن جاءوا يوما إليّ ، وقفوا تحت وطأة الشمس الحارقة اللاسعة لساعات طويلة لاستقبالي .. أخشي أن تذهب هذه التطلعات سدى.. تطلعات نحو إيجاد مكان آمن جميل يسع الجميع ، حيث العلم والمعرفة الحقيقية ، حيث السلام والاستقرار ، حيث الحرية والعيش الكريم والعمران ، حيث العدالة والمساواة والعافية.. كان ذلك اليوم من أجمل أيام حياتي ، حيث شعرت بعبق الجماهير وحبها الكبير للتغيير والسلام.. رأيت بين الجمع الغفير صبيا ممزق ورث الثياب متسلقا احدي الأعمدة الكهربائية في تلك الساحة ينادي وينادي وصوته يخترق كل الأصوات والتصفيق والصفير المدوي صائحا :" يا قاف ، راء ، نون، قاف.. يا قاف راء نون قاف ... نحن جوعي ، جوعي نحن يا قاف ، راء ، نون ، قاف !!" هذه صيحة استغاثة صادقة صادرة عن الملايين من أمثاله يتوقون لغد أفضل .. لعل هذه الأصوات والاستغاثات هي التي حملتني لأخوض الحرب كل هذه السنوات ... فيا له من شعب مبدع .." أشرق وجهه ولمعت في العتمة عيناه ، لكن سرعان ما أصاب هذا الإشراق وجوم وعبوس وقال :" يحزنني صعود مشاعر الحرب والكراهية والحقد والضغائن والبغض إلي السطح من جديد عند إعلان نبأ رحيلي .. فكم أحزنتني كثيرا مشاهد العنف المدني المصاحبة لمماتي ... أخشي أن لا يكون هذا هو الديدن ، وأن لا يصب جام الغضب والتهم علي الشماشة والمهمشين .. فالسؤال الكبير هو : "هل يمكن أيجاد مجتمع لا يضطر فيه طفل أو صبي في سن المدرسة أن يعيش في الشارع جاهلا وعدوانيا وحاقدا علي المجتمع ؟! هل يمكن توفير للمهمشين مساكن ملائمة حتى لا يسكنوا في مساكن تسمي عشوائية وهي في الحقيقة مساكن اضطرارية نتيجة لسياسات عشوائية ؟! " هذا هو التحدي الكبير الذي يجب أن نخوضه .. لكن للأسف الشديد سوف لا أكون معكم !! فاحذروا وميّزوا الخيط الرفيع الذي يفصل السودان الجديد من السودان القديم ... فالمفردات التي قد تستخدم للإفصاح عنهما قد تكون هي نفسها .. مثلا .. الوحدة .. فالسودان الجديد يريد وحدة التراب والأرض ، لكن علي أسس جديدة ، حيث الكل متساو في الحقوق والواجبات ، في التوزيع العادل للثروة والسلطة . فالسودان القديم يريد الوحدة أيضا ، لكن علي الأسس القديمة ، حيث هناك شخص أرفع وأسمى من الأخر ، ولغة وثقافة ومعتقد أفضل من أخريات .. أو تقال تنمية مستدامة وتذهب ثروات البلاد النفطية إلي جيوب الأفراد .. ويصبحون أقوياء فوق القانون لا تطاولهم يد المحاسبة والشفافية ، وهنا ينطبق المثل القائل ( حاميها حراميها ) . ففي جدلية السودان الجديد والسودان القديم تحتدم المعركة ، معركة البقاء .. يسعى كليهما لتحقيقه . فعلي السودان الجديد اليقظة والحذر والحيطة والعمل الدءوب والصمود علي المبادئ والمواثيق لإنارة الطريق الطويل .. فالسودان القديم له ألاعيبه وحيله ودهائه ومكره .. وأخشى في خضم الصراع و الاصطدام ورفض الآخرون التغيير ، يحترق السودان والمحصلة النهائية - سودان محترق ومنشطّر وأعتق من القديم .. (صمت وإحباط ) نعم هذه هي الحقيقة المرّة ، فاحذروا .." سأله (بنج بيط) قائلا :" وكيف مت .. فهناك روايات وشائعات تدور في المكان والتخوم " أجاب مبتسما :" حتى إذا كان الأمر تحطم المروحية التي كنت أقلها أو تلقيت طعنة بخنجر مسموم لبروتس ، أو استخدمت في موتي أدق الوسائل التكنولوجية التي لا تترك أثرا وتحيّر الألباب ، فالموت واحد .. نعم تعددت الأسباب والموت واحد.. أنظروا إلي الأمام .. سيروا إلي الأمام ، وخذوا من عبر الماضي دروسا وزادا للفكر لاختراق الغد البعيد .. فكونوا أوفياء علي العهود والمواثيق .. فعندما تصمت البندقية تبدأ معركة جديدة ، معركة التنفيذ ، معركة السلام ، معركة التنمية ، معركة التسامح وهي معارك أصعب وأشرس من معركة الحرب والبندقية ... ... أخشي أن لا يكون مماتي هو أخر مسمار في نعش الوحدة " .. قال هذا ورحل في سلام .. ساعده رفقاؤه الجهابذة بوضع جسمه بعناية وبطء في التابوت واختفوا في الظلام .

وصاحب الحربة المقدسة (بنج بيط) واقف هناك .. الثور الأبيض - مابيور ميت علي الأرض ، والتابوت في مكانه والجمع يبحلق في الفضاء ، والدخان يتصاعد ، والمشاعل تضيء المكان هنا وهناك .. سأل (بنج بيط) صاحب الحربة المقدسة الآلهة قائلا :" ولكن لماذا أخذته منّا " فجاء صوت الآلهة قويا مجلجلا المكان : " إرادة الآلهة ليست هي إرادة الإنسان .. لأنني أحببته كثيرا .. أريده أنموذجا يحتذي .. نبراسا يضيء لا يطفأ نوره ليضيء لكم الطريق الطويل .. اختطفته سريعا حتى لا يتلوث ببراثن السياسة القذرة .. أردته بطلا نظيفا ومثاليّا ..."
(صمت)

بدأت حركة غريبة تحدث في جسم الثور الميت .. أولا تغير لونه إلي لون شاحب يميل إلي الأزرق ، وكأن أللعنة والشرور التي أصابت البلاد وتم جمعها وإدخالها في جسمه قد غيرت لونه إلي لون التسمم .. فبدأ الثور في الانتفاخ وحذر (بنج بيط) الجمع الغفير بالانسحاب من المكان ، لأن الشر داخل الثور يريد الخروج .. فإذا صادف أحد في طريقه سوف يصيبه بلعنة قاتلة .. بدأ الجمع بالانسحاب والمشهد المكتظ بالتلاشي .. الجمع ، الدخان ، والثور يزداد انتفاخا .. فأخذ (بنج بيط) الحربة المغروسة في الأرض وأحدث بها ثقبا في جسم الثور وبدا الشر يخرج في شكل دخان أسود كثيف وعازف الطبل يضرب علي الطبل ضربات قوية تحذيرية مع كل كلمة كانت تخرج من فم (بنج بيط) الذي كان يخاطب الآلهة.. قائلا:" يا رب الآلهة .. يا رب الأرباب .. يا رب الأسلاف .. إذا كان موت البطل بإرادتك فبدد في الهواء هذه الشرور المتصاعدة من الثور الآن .. إلا إذا كان موته يقف وراءه إنسان أريد الآن إن ينزل عليه هذا الدخان الكاتم الممتلئ شرا ليصيبه بلعنة أبدية هو ومن معه ، لعنة تنزل علي بيته وأهله وعشيرته وقومه جيلا بعد جيل حتى لا يذوقوا من الدنيا سوي العذاب الأليم والابتلاءات المتوالية .." وأخيرا تلاشي المشهد كليا .. الجمع ، الدخان ، صاحب الحربة ، الثور ، عازف الطبل ، المشاعل ، ولم يبق في مسرح الأحداث سوي التابوت في منتصف المكان يشع منه وميضا أبيضا وهاجا ، وأنا واقف أمامه ، فانهمرت السماء مطرا غزيرا وكأنها الدموع التي ذرفت وتذرف حزنا وكمدا لرحليه .. وتحول المكان إلي مكان أخر في قلب مدينة جوبا حيث ضريحه .. في أعلي نقطة تضاريسية في المدينة .. جوبا المكان الذي شهد يوم أن قرر أن يدخل الأدغال لخوض هذا النضال التحرري بدأها من بور مسقط رأسه وأخذ من تاريخ السادس عشر من مايو 1983 م تاريخ التحرير الذي امتد لعقدين من الزمان.. رأيت نفسي واقفا علي الضريح أضع إكليلا من الأزهار ومبتل بماء المطر.. فاستيقظت مذعورا من هذا الحلم والعرق يتقطر من جسمي في تلك الليلة من الليالي المفجعة لرحيله .. خطر بذهني علي الفور جملة قالتها ابنته في يوم التشييع :" أريد أن تكون ذكري والدي ظاهرة قوية .." فقلت في نفسي لتكون هذه الذكري قوية يجب:


* أنتاج فيلم وثائقي عن حياة الزعيم الدكتور جون قرنق - مراحل حياته ، دراسته ، الحياة الاجتماعية والمهنية والنضالية ، آراءه وأفكاره ...

* أقامة وإنشاء متحف يجسد شخصيته ، حيث يمكن وضع بعض من مقتنياته الشخصية - بذلته العسكرية ، كتبه ، رسائله الهامة ، أقلامه ، المنضدة التي كان يكتب عليها معظم أفكاره ، السرير الذي كان ينام عليه أيام النضال ، أسلحته وكل ما يمكن أن يحكي عن حياته الثرة .. يمكن أن يكون هذا المتحف جناح من متحف كبير يجسد نضال الجيش الشعبي لتحرير السودان.

* إنشاء جامعة تحمل اسم الزعيم الدكتور جون قرنق دي مابيور .. جامعة مقتدرة للأذكياء والأفذاذ من الطلاب المبرزين أكاديميا ، فهو نفسه كان فذا وأكاديميا لامعا .. يمكن الاستعانة بجامعة كورنييل بأيواه بأمريكا ، فالأخيرة ما زالت تكن للزعيم د. جون قرنق الكثير من الاحترام والتقدير كألمع طالب درس بها .

* إنشاء موقع الكتروني باسم الزعيم الدكتور جون قرنق به كل رسائله وخطاباته وخطبه السياسية .. التهاني والمراثي التي جاءت في الفترة القصيرة لحياته في الرئاسة الجمهورية .. يمكن جمع ذلك من الصحف اليومية .. الصور التي تجسد أحداث مختلفة من حياته .. ويمكن طرح نداء لمحبيه لتزويد هذا الموقع بالصوّر النادرة لديهم التي تحكي عن هذا الرجل العظيم .

* إقامة تمثال أو نصب تذكاري له في كل مدن الجنوب وبقية مدن السودان الأخرى التي تري فيه مثالا لرجل عظيم ...وعلي أن يكون التمثال في منطقة واضحة في المدينة .. يمكن أن يراه الناس بسهولة .

* إنشاء مكتبة أو مكتبات عامة تحمل اسمه د. جون قرنق فهو نفسه كان قارئا ممتازا ونهما ، كان يعتصر الكتب اعتصارا .. فقد تشكلت شخصيته علي الخلفية الواسعة للقراءة والإطلاع المستمر .. فما الإنسان إلا ما قرأ .

* تأسيس أكاديمية عسكرية تحمل أسمه د. جون قرنق تدرس فيها فنون النضال والخطط الحربية علي أسلوبه .. وكيف كان يجمع الحرب مع التنمية معا ..

وهكذا بحثنا عن قبره كما فعل الثوار مع الشاعر وأدركنا أن قبره في قلب كل منّا .. أرسلنا إلي بقاع بعيدة ونائية وسمعنا أنه رحل من ورائنا فأيقظنا الجميع صائحين لقد مات الزعيم ، وناسين انه حقا رحل ولكنه ترك بين أيدينا منهاج للعمل في مثل تلك البقاع البعيدة .. دعانا للقاؤه كما دعا المعلم الصيني تلميذه ، فجئنا ولم نجده ، فغضبنا ولكننا أدركنا إننا استفدنا من تجربة الرحلة .. فهل وعينا الدرس ؟ّ! أن نجعل الحلم حقيقة ؟ّ! فهلا نقيم له ذكري خالدة تليق بمقامه الكبير....!!
ÅÓãÇÚíá Øå
مشاركات: 453
اشترك في: السبت سبتمبر 10, 2005 7:13 am

مشاركة بواسطة ÅÓãÇÚíá Øå »

Dear Najat and yahya fadlalla and all the members i am sorry to write in english, my arabic system is in atrouble, the post is so important and useful, after having read the contribution of the tow poets i can say my contribution will not be in the same level, but i would like to say here that i am and i was thinking since the begin of my courses in film making to make a portrait about Garan, i am still looking for how to start, but his death was a big catastroph any how i am still insisting to make such work and may be you all you can help me. because i think that it is a very important thing for any people to have a hero, and garang was a hero by excellence.
entre guillmet" Je m'incline avec respect devant ceux qui sont laissé tuer sans avoir cherché à rendre le coup. J'ai voulu montrer cette bonté suprême de l'homme dans le personnage de Garang, car l'être humaine ne peut survivre sans héro, sans martyrs, parce que l'amour, comme tout acte de création véritable, est touours une victoire sur le mal. najat would you pls translate this phrases into a
ÅÓãÇÚíá Øå
مشاركات: 453
اشترك في: السبت سبتمبر 10, 2005 7:13 am

مشاركة بواسطة ÅÓãÇÚíá Øå »

to arabic if it is possible, I am sorry as i mentioned i can not write in arabic for the time being. till the next week and up again.
خالد الطيب
مشاركات: 300
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:33 pm
مكان: أديس أبابا

مشاركة بواسطة خالد الطيب »

مرحبا بابداعات الفنان عبدالجبار عبدالله . وشكرا لنجاة علي الاتيان بالصديق الفنان عبدالجبار و الذي نأمل أن تحل مشكلة دخوله , لنتواصل معه بعد طول الغياب ...

خالد
أضف رد جديد