كلية الفنون وشريط الذكريات

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صلاح النصري
مشاركات: 607
اشترك في: السبت يوليو 01, 2006 12:32 pm

مشاركة بواسطة صلاح النصري »

سلام لكل الفنانين
توثيق جميل لذكريات جميلة , ودائما نلاحظ في السودان أن الماضي أفضل من الحاضر ,وده بسبب كوارث وازمات الحكم ,وكل نظام شمولي يسعي ليكون تأريخ السودان يبدأ وينتهي وبه , ما علينا ولكن لدي ملاحظة وحتي يكتمل توثيقكم لتلك الفترة , لو تطرقتو لسيرة بعض زميلاتكم من الفنانات , لانه ليس هناك أي ذكر لدور المرأة السودانية في الحركة والمدارس الفنية , قد نعول علي قلة العدد لكن قط شك لكم زميلات .
يا أهل الفنون كايس لي معلومة , حسن البطل هل هو حسن مكرنجة الرياضي وكان حارس مرمي ولا عب كارتيه , منتصف السبيعنات علي ماأذكر ذهبت لكلية الفنون لا أداء أمتحان القدرات ووجدت حسن مكرنجة موجود بحوش الكلية , وكان معي صديق الله يطراهو بالخير قال لي أحسن نرجع لي جامعتنا بدل نشيل خانة و الحكاية دي مانقدر عليها, وكان الكلام ده بعد سؤالنا عن جدول المحاضرات ووجدنا من الصعب التوفيق بين الدراستين , وأظن أن أسم مكرنجة جاء من كورة القدم فريق التضامن تحديدا والأخ حسن الذي أعنيه من سكان الثورة, وتربطني به معرفة وهو فنان عصامي
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


أين أهل الخيط؟ ابتدروه ثم سحبوا أغطيتهم عليهم وناموا!
سنخرجكم من كهوفكم! وكما قال جورج بوش الإبن حين كان يقصف كهوف تورا بورا:
We shall smoke them out
نوم العوافي، يا أهل الخيط، سنحرسه لكم حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا.
قال المتنبي:
ذكر الصبا ومراتع الآرام جلبت حمامي قبل وقت حمامي!
يوم أن فتحت كلية الفنون أبوابها للطلاب الجدد في سبتمبر 1970، كنت في الليلة السابقة أعزف الأكورديون في حفلٍ غنائيٍ في عرسٍ في قرية هزاوي في ريفي المسلمية بوسط الجزيرة. كنا في العطلة التي فصلت بين انهائنا الثانوية في حنتوب وبين دخولنا كلية الفنون. وكن ذلك المفترق هو النقطة التي انتثر فيها عقد المجموعة الموسيقية لطلائع الهدهد. و"طلائع الهدهد" كما عرّفت نفسها حينها، تنظيم طليعي شبابي نشأ في مدرسة حنتوب الثانوية عقب انقلاب مايو ومشاركة الشيوعيين في حكومة مايو الأولى وأجهزتها المختلفة. وقف بالرعاية وراء ذلك التنظيم أساتذتنا عبد الله بولا، ومحمد عبد العال مراد، وتاج السر مكي أبوزيد، وعبد العظيم خلف الله، وإلى حدٍّ ما، محمد بشير المر. حاولت الإعتذار عن الإشتراك في تلك الحفلة لصديقيّ؛َ وهما عازف العود بابكر بلة موسى، (قرية صراصر)، ومطربنا الصداح مضوي الطيب بانقا، (قرية وادي شعير). قلت لهما إن عليّ أن أحضر معاينة القبول للطلاب الجدد في كلية الفنون في العاشرة من صباح اليوم التالي للحفل ومن الصعب التوفيق بين الإثنين. لكنها أصرا أن أحضر للإشتراك في الحفلة، ورفضا رفضًا باتًّا أن يقبلا لي عذرًا.

كانت تلك الحفلة هي نقطة افتراقنا الثلاثة الذي استمر حتى يومنا هذا، ليبلغ الآن عامه الثالث والأربعين. كنا قريبين من بعضنا عبر مرحلة حنتوب، قربًا شديدًا ومكملين لبعضنا، ومستقوين ببعضنا، وعارفين ببعضنا، وأريحيين مع بعضنا، ومنفتحين على بعضنا انفتاحًا لا يصدق. عز علينا الافتراق ولعله كان في داخل كلٍّ منا احساسٌ بانتظار معجزةٍ ما تحول بيننا وبين ذلك الافتراق الحتمي. ويبدو أن تلك الحفلة كانت بمثابة "خم الرماد" لرمضانٍ طويلٍ من صيام الافتراق الذي هو سمةٌ لازمةٌ لعهد الطلب. كانت آلة الأكورديون التي أعزف عليها هي العمود الفقري للفرقة، مما جعل مضوي الطيب وبابكر بلة يصران على ذهابي معهما رغم المخاطرة الكبيرة. لم يكن أمامي مناصٌ من الرضوخ. وبطبيعة الحال يسّر لي الرضوخ أنني، في قرارة نفسي، كنت أفكر في إمكانية الجمع بين الحُسنيين. وذاك هو التصرف المتوقع لشخصٍ في تلك السن؛ (19 سنة، كما يغني وردي). كنت لا أود في قرارة نفسي أن تفوتني تلك "البهجة"، كما كنا نسميها. وبالفعل ذهبت معهم وأمضيت الحفلة وأنا أعايش ذلك الخليط من الابتهاج والمسرة وتدفق ادرنالين الشباب في العروق، المشوب بشيءٍ من الهم الذي لا ينفك يضغط، في الفينة بعد الفينة، على حواشي القلب. فاحتمال ألا أصل الخرطوم قبل العاشرة صباحًا؛ موعد المعاينة كان كبيرًا جدًّا.

انتهت الحفلة على ما يرام، ولكن في وقتٍ متأخر، ولم أنل من النوم إلا قسطًا قليلًا. وفي الفجر أقلني البص قبل طلوع الشمس إلى الخرطوم. عبرنا حقول الجزيرة المزوقة بمختلف المحاصيل كما هو الحال في سبتمبر، وأمضيت زهاء الساعتين في ذلك الشرود اللذيذ الذي يصبح صوت الماكينة وثرثرة الركاب غير المميزة موسيقى تصويرية. هذا حال من النسق العالي لا زال يعتريني كلما ركبت قطاراً أو طائرة، أو حافلة في رحلة طويلة. سار كل شيءٍ على ما يرام، ودخلنا الخرطوم مع الحد الفاصل ما بين الصباح والضحى، ووجدت نفسي فجأةً وسط هذا الرهط المتنوع الذي طالما سمعت عنه من بولا. ظللت أتأمل المكان، وأقرأ السحن، واتفرس في هيئات الناس، وأخمن مسارات السنوات الأربع القادمات، وأحلم أحلامًا لا ملامح لها.

كنا نتجول في ردهات الكلية كمن يجبوب أزقة قريةٍ في يوم العيد. كان ذلك هو الرهط الذي طالما حلم بولا بأن يجتمع في كلية الفنون، وقد اجتمع بالفعل في ذلك الضحى من العام 1970. كان حسن موسى "يخوجل" بمشيته المتميزة، وإلى جانبة محمود عمر محمود نحيلا كما المُترار. أما آدم الصافي فكان يتدفق حركة متعِّينا بوثوقٍ في الزمان والمكان، بظهره القصير وأرجله الطويلة وتشكيلات وقفاته الفجائية والتفاتاته المعبرة.

من الجانب الآخر قطع بنا بولا أعوامًا منذ الوهلة الأولى حين ربط بيننا وبين من يحبهم ويؤثرهم من طلاب السنة الرابعة، والسنة الثالثة. فلقد تعرفنا منذ أيامنا الأولى على طلاب السنة الرابعة خلف الله عبود، ودار السلام عبد الرحيم، ونجاة جاد الله جبارة، والنور أحمد علي. أما من طلاب السنة الثالثة فقد تعرفنا على أحمد سيد أحمد، وبديعة الحويرص، وبابكر كنديو. وبالطبع فقد عرفنا كثيرين من غير هؤلاء. لكن منذ البداية بدأت المعسكرات الفكرية والسياسية تتضح لنا، ولم يكن غائبًا علي أي أحد في الكلية أننا ندور في مدار اليسار. كنا نتصرف بعفوية، وببراءة، وبوثوقٍ ربما لم يخل من رعونة، فلم نأبه للحواجز وكان في ذلك تجاوز غير معهود لقواعد اللعبة المرعية. ولذلك بدأ كهنة المؤسسة وسدنة هيكلها في التوجس من هؤلاء العيال الجدد الذين لا يراعون قواعد اللعب المتعارف عليها. ومنذ تلك اللحظة بدأت تخندقات وصراع كتيم يطفح على السطه، ثم ينكتم. وهو صراعٌ وسم كل الأعوام التي تلت.

ضمتنا واحدة من داخليات الإس تي إس ذات الطابقين بسلمها الحلزوني الذي يدور حول الحممات ليوصل من يصعد عليه إلى شرفة دائرية أشبه بالمصطبة terrace تقود إلى الطابق الثاني. كانت الداخلية عنبرا مفتوحا تفصل كل سريرين طوليين متقابلين فيه الدواليب، كما وصفها حسن موسى. أما ممر الوسط فيربط كل العنبر. في الجهة الشرقية سكن كل من حسن موسى، ومحمود عمر، وآدم الصافي، والنور حمد، ولا أذكر ما إذا كان بدر الدين حامد معنا كل الوقت ام أنه يجيء ويذهب. وأصبح عالمنا مقسما بين هذه الداخلية وميز المقرن حيث يسكن طلاب السنة الرابعة، وبين ساحة الكلية وحجراتها. نعود من الكلية بعد الغداء فنغرق في الرسم والثرثرة وقبل المغيب نعود إلى البوفيه لاحتساء الشاي باللبن ثم نعود إلى باحات الكلية. كانت كلية الفنون مثل خلية النحل. فهي لا تخلو من مجموعة منهمكة في إكمال عمل. كان الاستديوهات تظل مفتوحة حتى منتصف الليل. أيضًا كانت الأمسيات تجتذبنا بسبب الرغبة في لقاء الجنس الآخر. وهي لقاءات تتم بين إثنين تحدد مسار عواطفهما، وأيضًًا بين رهطٍ لم تتحدد بينهم مسارات العاطفة، فيستمتعون بمجرد اللمة والثرثرة والتردد على البوفيه، والجلوس على النجيلة أو قواعد التماثيل المنتشرة في باحات الكلية. كانت الأمسيات مجالًا لانسراح العواطف المنتثرة في غير وجهةٍ بعينها، ولرؤية الثياب الأنثوية تبعث العطر والحفيف المشوِّق.

لله در أبو قطاطي وأبو عركي:

شفت التوب وما لاقاني أجمل منِّو
شوفوا التوب، وسيد التوب يكون كيفنُّو؟
نظرة سريعة مرت بيها ما اتمتعتَ
خطوة وحيدة بيني وبينا لو أسرعتَ
خلت طيبا مالي الساحة، ما اتشبعتَ
زيها ما في، لا شاهدت لاني سمعتَ

من جاراتا قادلة حلاتا دخلت بيتا
سرت حداها، داير ألقاها، تب ما لقيتا
متكي كتيفا، تلّت إيدا،
حتى الحنة ديك ما نسيتا
قادت ناري، لو تطفيها بس، ياريتا

حين كنا في سنتنا الأولى كان استديو التلوين لطلاب السنة الرابعة يضم كلا من خلف الله عبود ودار السلام عبد الرحيم، وربما محمد عثمان، وعمر مدني. طال الزمن/ ولم أعد اذكر بالضبط، وأرجو التصحيح ممن يذكرون أفضل. وبطبيعة الحال كان هناك عمر خيري الفنان المحترف الذي اتخذ من استديو طلاب السنة الرابعة محترفا له. أصبح هذا الأستديو مزاراً لنا فكلنا كان يحب التلوين ولقد ظللنا محرومين منه طيلة العام الأول. فالعام الأول هو عام متطلبات عامة ولقد أمضيناه كارهين متنقلين بين كافة أقسام الكلية. فمارسنا شيئا من الخزف لدى نصيف جورج اسحق، ومارسنا شيئا من النحت لدى محمد حامد العربي، ودرسنا أبجديات الخط العربي على أيدي المصري عبد المنعم عبداللطيف المصري، ودرسنا أسس التصميم على أيدي محمد إدريس، وعمل الصورة picture making على أيدي حسن الهادي، وشيء من المعلومات حول تصميم المنسوجات، ثم الرسم على أيدي مجذوب حاج أحمد رباح.

بدأنا نرتاد المدينة في الأمسيات وكان لأمسيات الخرطوم طعمٌ مميزٌ حينها. كنا نحب سوق الخرطوم أول المساء. وكنا كما يقول أهلنا في الجزيرة مثل "تيمان البرقو الديمة ما بتفرقوا". كنا نغشى دار القلم غربي شارع الجمهورية ونغشى مكتبة أخرى في عمارة أبو العلا القديمة نسيت إسمها. كنا نشترى "القلم" و"مواقف" ودوواين الشعر. كما كنا نغشى محلات ميرزا في المحطة الوسطى لنتغزل في أدوات الرسم، ونشتري منها ما نطيقه، خاصة بعد أن تدهورت الأحوال وشحت المواد في الكلية، خاصة في عامنا الثاني، وانعدم لون الزيت الأبيض وأصبحنا نصنعه بخلط بدرة الزنك بزيت اللينسيد.

حين نقصد وسط الخرطوم أول المساء كنا نأكل الفول على الأرض في بوفيه قشلاق السجون قرب مبنى إدارة السجون، شرقي المعهد. ثم نمشي بالطريق الترابي الذي يقاطع شارع علي عبد اللطيف بجانب السفارة الأمريكية، ودكان اليماني المقابل لها. وكان ذلك قبل أن تصبح السفارة الأمريكية دشمةً عسكرية، ممنوعٌ منها الاقتراب والتصوير. ثم نسير شرقًا لنمرق من ذلك الشارع المظلم إلى ضوء السوق وجلبته لدى البنك الصناعي في الركن الجنوبي الغربي لميدان الأمم المتحدة.
(يتواصل)
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

يا صديقي العزيز النور حمد
سلام ... سلام

أحمد سيد أحمد قاعد يقرأ ولكنه غتيت وبيقول أنه بيكتب بمزاج ... ها ها ها
لكن أنا محضر كلام كتير جدا ولكني قلت أستانس بالتحليل الجميل الذي تكتبه ولا أقطع عليك الوارد ... ثم أن زوجتي وأختك الأستاذة جواهر متوعكة بصورة شغلتني عن الإنترنت ...على أي حال سوف أكتب ... وسابدأ بالكتابة عن زميلاتنا حسب طلب الأخ صلاح النصري وهو طلب في محله ... وقد شهدت طالبات الفنون مشاكل كثيرة من زميلاتهن في جامعة الخرطوم اللائي كن يجئن منعمات ومستغربات من ( غبشة ) زميلاتنا المناضلات في كلية الفنون في العمل اليدوي والتجرد من حركات البنات المظهرية.
ثم سأكتب عن الأستاذ سمير جرجس الفنان السياسي النشط والعجيب جدا... ثم عن ود البلد القبطي الشهم صديقي وأستاذي نصيف إسحق صياد الطيور والحيوانات البرية وعبقري الخزف.

سأعود بعد قليل من الوقت.
الحرية لنا ولسوانا
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

بنات الفنون...
وما أدراك ما بنات الفنون

عندما قبلنا في السنة الأولى في كلية الفنون، في العام 1968، كنا واحد وثلاثون طالبة وطالبا... خمسة عشر طالبا وستة عشر طالبة... وكان عدد زميلاتنا في السنوات السابقة أقل كثيرا من الزملاء ... حتى عدد أفراد الدفعات السابقة كان حوالى نصف عددنا... وقد ساهم هذا الوضع في نشوء علاقات حميمة بين الطالبات والطلاب، بورة لم تتح لمن قبلنا ... وسأتعرض لطبيعة هذه العلاقات ونتائجها في مجتمع كلية الفنون، فيما بعد.

طبيعة العمل الفني في الكلية طبيعة عملية تعتمد على المجهود اليدوي وهذا العمل في ذلك الوقت لم يكن غريبا على نساء السودان، ولكن الغريب هي الخامات التي يتم التعامل معها في كلية الفنون مثل الطين والخشب والأصباغ وهذه الخامات كانت تستدعي أن تتخلى البنات عن شئ كثير من الزينة والتلميع والمساحيق التجميلية التي تحرص عليها في العادة ويكتسبن بالتدريج، (غبشة) بسبب التعامل مع هذه الخامات والتعرض للغبار والطين والأصباغ... وقد اشرت لهذه الظاهرة لبنات الفنون في بداية هذه الذكريات، وكيف أن صديقات زميلاتنا، من الجامعات الأخرى، حينما كن ييزرن الكلية كن يستغربن من تلك (الغبشة) ويستنكرن هذا الحال المايل الذي آل إليه حال بناتنا في الفنون .. وإذا أضفنا طبيعة المكان الذي يجلس فيه الطلاب مع الطالبات اثناء تنفيذ العمل الفني، لرأينا أنه لايختلف عن أماكن تواجد العمال وبيئته هي بيئة العمال والحرفيين وقد تجلس الطالبات على الأرض دون خوف من إتساخ ملابسهن وقد تتأثر نعومة أيديهن بسبب إستخدام المعاول وحتى المقصات والفرشاة الكبيرة والمسامير إلخ...
كما أن مشاركة طلاب الفنون لطالبات الفنون في العمل اليدوي كان يلقي بظله على نوع العلاقة بين الإثنين، وهي علاقة ، على التحقيق، تختلف بين العلاقة بين نساء ورجال يتعاملون بأوراق واقلام فقط وهم يجلسون على مكاتب مكيفة أو بمراوح وعلى كراسي، حيث تكن العلاقة بينهم علاقة تفتقد الحميمية الناتجة عن علاقة العمل اليدوي لدي الحرفيين (الفنانين). وهذا العمل اليدوي بطبيعته يكسب الإنسان شخصية حرة ومنعتقة من التصنع والإهتمام بالمظهر على حساب الجوهر... ولهذا السبب تصير علاقة طالبات الفنون بطلابها علاقة أكثر حميمية من علاقة أصحاب العمل المكتبي، كما أسلفت ... زد على ذلك أن ممارسة الفنون أو العمل اليدوي تكسب الفرد من رجل أو إمرأة ثقافة فريدة ووعيا توحيديا داخليا ويساهم في تحريره من العادة ومن الإستكانة للتفكير المجرد الخاوي من التجربة العملية ... أي أنه كما يقول الأستاذ محمود محمد طه، يوحد البنية البشرية بتوحيده للعين والعقل والقلب "كتاب الإسلام والفنون"...
لكل هذا فقد صارت بنات الفنون من حيث تجربتهن هذه، أكثر حرية وإنطلاقا من غيرهن من طالبات الجامعات في العلوم النظرية...

نواصل.
الحرية لنا ولسوانا
صدقي كبلو
مشاركات: 408
اشترك في: الأربعاء مايو 11, 2005 9:02 pm

مشاركة بواسطة صدقي كبلو »

أخوانا خلف الله عبود واحمد سيداحمد و النور حمد والتشكيليون الذين أتوا أو سيأتون
أتابع هذا البوست بشغف فهو يحكي عن فترة عشناها بالطول والعرض في الحياة الطلابية والثقافية والسياسية في الخرطوم ‏وغيرها.‏
لفت نظري محاولة النور لرسم صورة عامة لتلك الفترة، أي لوضع خلفية او إطار تاريخي لتلك الفترة، وهذه مسألة تشغلني ‏منذ فترة وأفكر فيها كثيرا، نظر اليها النور بعيون ايجابية فرأى نصف الكوب الملئ، وأسأل نفسي لماذا يشعر جيلنا بحب تلك ‏الفترة، هل لأنه كان ينظر لها بنهوض اليسار منذ ثورة أكتوبر وصموده أزاء ضربة يوليو 1971. قلت أن النور نظر ‏لنصف الكوب الملئ، ولكن للأسف فترة الستينات والنصف الأول من السبعينات حدثت فيها أوسع هجمة على حركة ‏التحرر الوطني الأفريقية والآسيوية واللاتين أمريكية. الهجمة التي بدأت بمقتل لوممبا وإنقلاب توشمبي ثم موبوتو وانقلاب ‏عسكري ضد قاسم تبعته مجزرة وانفصال سوريا عن مصر وانهيار أول تجربة في الوحدة العربية وبينما نحن نقيم أول ثورة ‏شعبية ضد حكم عسكري في العالم تمت إنقلابات في غانا، مالي، الجزائر، أندونيسيا وصحبتها مجزرة للشيوعيين، وأمر ‏جونسون ببداية الحرب في فيتنام، ثم جاءت حرب يونيو وهزيمة مصر وموت عبد الناصر والسادات وافشاله لانقلاب علي ‏صبري وسماحه للاخوان بالعمل ضدالحركة التقدمية المقيدة بأجهزة الأمن، وإنقلابات عسكرية متوالية في أمريكا اللاتينية شملت انقلاب ومجزرة شيلي ، وأنا أنظر ‏لما حدث في لبنان بأنه خنق لرئة الحداثة والديمقراطية والعقلانية والتقدم في الشرق الأوسط. لماذا وسط كل ذلك كنا متفائلين ‏وكأن الهجوم لن يشملنا؟ يوجد ما يثبت أن السي آي أيه لها دور في إنقلاب عبود؟ ما دورها في مايو أو في الصراعات ‏داخلها؟ هناك حديث عن دور أجنبي في هزيم يوليو 1971!‏
الخرطوم الآن مفلسة وغير متناسقة عمرانيا وفقيرة ثقافيا لأنها استسلمت للغزاة منذ أيام نميري، صندوق النقد والبنك ‏الدولي أستباحوا البلاد ووقفوا الخطة السداسية لنميري وبدات البرامج الثلاثية وتخفيضات الجنيه المتوالية، حكم نميري ‏الاقليمي الشائه و تدخل نميري في حكم الجنوب وانتهاكه لاتفاقية أديس أبابا وشريعة نميري الاسلامية هي كلها نتاج لفشل ‏اقتصاده الذي سلمه لصندوق النقد والبنك منذ 1977. الخرطوم التي هبت في أكتوبر وشمت أباطها، لم يضع ثوارها في ‏حسابهم أن ما حدث وكان يحدث لحركة التحرر الوطني، يهددهم، وتسرب غصبا عنهم عبر غفلتهم وخلافاتهم ومحاولتهم ‏القفز فوق الموضوعي والتطور السلمي وثورة أغلبية الشعب لثورة الصفوة الانقلابية والتآمرية والتي تسعى لفرض التغيير ‏على الناس بدلا عن التغيير مع الناس وبالناس. فرطوا في قضاء مستقل وجامعة مستقلة وحركة نقابية ذات تقاليد ثورية ‏وديمقراطية وصحافة حرة وحركة ثقافية متعددة المشارب ومليئة بالابداع. فرطوا في حركةنسائية تنمو بوعي لتحرير حقيقي للمرأة. فرطوا في حركات مزارعين وحركات ريف ‏ديمقراطية تسعى للإصلاح في الريف وتناهض المركز بشكل سلمي وديمقراطي، بدأت كحركات قبلية وإقليمية للضغط وكان ‏أفقها يتسع بتجربتها للتتحول لحركات سياسية لها فعالية كما حدث لمؤتمر البجة واتحاد جبال النوبة. ‏
لكل ذلك يؤرقني النظر للنصف المملوء من الكوب، لأن تلك النظرة تعبر عن نستلوجيا جيل مهزوم ساهم في هزيمته، ولا ‏ينظر بشكل نقدي لتجربته ليرى غفلته واستعجاله وورفضه الالتحام بالناس العاديين والتعامل معهم باعتبارهم صناع التغيير ‏مثلما هم موضوع التغيير، فلا يمكن أن يتغيروا إلا بإرادتهم وبوعيهم، ولذا يصبح عبدالخالق محجوب ومحمود محمد طه ‏ابطال حقيقيين يستحقون الدراسة لأنهم أعطوا حياتهم لنشر الوعي والوعي المنظم.‏
أرجو ألا أكون قد إنتهكت بوستكم ولكن افهم الذكريات بأنها تفاكر نقدي.‏
آخر تعديل بواسطة صدقي كبلو في الخميس مارس 21, 2013 12:48 am، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

بالعكس يا عزيزي صدقي كبلو، فقد أثريت البوست... وبهذا يصبح الكوب مشاهدا في نصفه الممتلئ ونصفه الفارغ...
تحليل ممتاز وسوف أعود لمناقشته غدا فقد رأيته في آخر الليل، ولم أستطع الصبر، فكتبت هذا التعليق القصير ... ولي عودة مفصلة ... وأخال الدكتور النور لم يكمل حديثه وسوف يعلق بما يفيد. و.. فنحن أحوج لمثل هذه التحليلات، لنتدارك مصيرنا وسط هذا الإضطراب والردة السياسية والإجتماعية والتيه .
الحرية لنا ولسوانا
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

حين أعود بذاكرتي إلى تلكم الأيام _ ولي عودة إلى تعبير "تلكم الأيام" في السطور اللاحقة – أحس بأننا كثيرًا ما سددنا فجوات فكرنا آنذاك، بعاطفةٍ شديدة الجيشان. كان الشعر يحملنا على أهدابه، فنطفو معه في عوالمه. كنا نهرش أرجلنا من لسعات باعوض المقرن ونحن نفترش المراتب على بلاط ميدان كرة السلة بالقرب من ميدان الأسكواتش، في الركن الجنوبي الشرقي الأقصى من معهد الكليات التكنولوجية، ونغني مع ود المكي الذي كدنا أن نحفظ أشعاره عن ظهر قلب. تماهينا مع ود المكي، أحسن ما يكون التماهي، وهو يوجه إهاناته الشخصية إلى قيس بن الملوح. وكنا معه وهي يصور ويتشهى هايدي الأفعى، التي من البوق تغذت والطبول، والتي هي أحسن دورات الفصول. وكنا أيضًا محمولين على أجنحة درويش وغسان كنفاني، ومحمد بنيس، وأمل دنقل، وأحمد عبد المعطي حجازي. هذه العاطفة الطافحة فوق ثبج الشعر لم تمت، ومن الخير ألا تموت، فبقاياها المتقدة هي التي لا تزال تعيننا على حفظ التوازن، وهل من توازنٍ تركن إليه النفس في هذا العالم المجنون؟

أما كلمة "تلكم الأيام" فقد كتبتها وفي ذهني جملةٌ شعريةٌ من قصيدةٍ للراحل أحمد إبراهيم عبد العال. وهي جملة، لم تنفك تطن في ذهني، رغم تقادم السنين. تقرأ تلك الجملة: "في تلكم الأيام كانت الدنيا وليلها القديم في رحلةِ إرهاقٍ إلى ساحة التتويج". أهدى أحمد إبراهيم عبد العال، في فترة ميله القصيرة نحو الجمهوريين، تلك القصيدة إلى الأستاذ محمود محمد طه. والقصيدة، في ما أذكر، مكتوبة بخطٍ غرافيكيٍ حر على ورقةٍ مقوّاةٍ تشبه بطاقات الدعوات. ولقد شهدت تلك الفترة نهضةً كبيرةً في التحرر من قيود الخط العربي التقليدي، وهي فورةٌ شبيهةٌ بالهبة التي أخرجت شعر التفعيلة من قبضة موازين الخليل بن أحمد الفراهيدي. أعجَبَت قصيدة أحمد عبد العال الأستاذ محمود محمد طه، فعلقها خلف زجاج دولاب الكتب القديم الذي يقف عند رأس عنقريبه المعتمة الغارقة في بخور اللبان والند. ولعل مطلع القصيدة كان يحكي عن "وعلٍ يجوس في البرية"، فلقد طال الزمن، ولم أعد أذكر على وجه التحديد حقيقة منطوق ذلك النص.

كان أحمد عبد العال، عليه الرحمة، بارعًا في ابتكار التعبيرات الشعرية الغريبة الموحية، التي تدل على إطلاع حسنٍ على الآداب الغربية، وهو أمر تبدّى، كما هو بيِّنٌ هنا، في استخدامه لمجاز "طائر الرعد". فكلمتا طائر الرعد، كما هو معروف ترجمة لكلمة thunderbird، وهذا "الثندربيرد" مخلوقٌ خرافيٌّ مستخدمٌ في آداب السكان الأصليين لأمريكا الشمالية. وقد أصبح مجاز "طائر الرعد" يُستعار في الفنون البصرية، وفي الشعر وفي غيرها من سائر الفنون. ولقد تجاوزت استعارة رمزه الآسر ومجازه المشوق مجال الفنون بأنواعها لتدخل إلى عالم الصناعة والرأسمال، (والرأسمال لا يقصر، كما تعلمون!! "يقصر الملح")! فقد أطلقت شركة فورد منذ منتصف القرن الماضي على إحدى فئات سياراتها الرياضية السريعة إسم thunderbird. أسمى أحمد عبد العال إحدى قصائده "طائر الرعد"، ولا أذكر ما إذا كان عنوان القصيدة هو "طائر الرعد" أو أن تلك العبارة قد وردت فقط في متن القصيدة. المهم، بناءً على تلك العبارة أطلقت شلتنا "المشاغبة"، التي سبق أن عدّد أفرادَها حسن موسى في مداخلته في هذا الخيط، إسم "طائر الرعد" على صديقنا القريب البعيد؛ أحمد عبد العال. وأصبحنا لا نشير إلى شخصه في كل المحادثات التي تجري وسط شلتنا بأي إسم خلاف إسم "طائر الرعد". ولم يخرج ذلك الإسم خارج نطاق الشلة أبدًا.

لا أزال أذكر اجتماعنا مع أحمد عبد العال في غرفة محمد حامد شداد في منزلهم بحي المقرن. كان حي المقرن مكونًا من حيين منفصلين بينهما شارع، وخور جنباته مبنيةٌ بالطوب، حين كانت الخيران التي تحمل مياه الأمطار لا تزال معتناةٌ بها. القسم الشرقي من حي المقرن عمائر بيضاء، أغلبيتها فلل من طابقين لقدامى الأفندية من الغردونيين، ومن تبعهم في الأبهة بإحسان من أهل الطبقة الوسطى وما فوق الوسطى. أما من جهة الغرب فبيوت قصيرة مجللة بالزبالة هي "حلة المقرن" القديمة التي استأجر فيها زميلنا وصديقنا وزميلنا مكي محمد علي بيتا لأسرته. ومكي محمد علي أستاذٌ منتدب، حيُّ الشخصية، مشغول بالفكر وبالأدب وبالفن وبقضاياها. ولأساتذة المنتدبين إلى كلية الفنون، صفحةٌ خاصةٌ ربما قلَّبناها لاحقًا. تلك البيوت الطينية القصيرة هي البيوت التي كان الصلحي يبعث بالطلاب إليها ليرسموها بألوان الماء. أحيانا يبعثهم عدة مرات، ليرسموا نفس المكان، كما أخبرنا من سبقونا. ولخلف الله عبود مائية تصور أحد هذه البيوت الطينية القصيرة، وبؤرة تلك الصورة عربة كارو منكَّسة المقدمة تربض أما باب بيت، أرجو أن يكون خلف الله لا يزال محتفظًا بها فيرفعها في هذا البوست. في بيت مكي محمد علي الطيني، القصير الوطيء المستأجر تغدينا مرةً غداءً لا يُنسى. لاحقًا أصبح مكي قاصًا ونشر بعض الروايات.


أما قسم المقرن الشرقي فهو ، كما سلفت الإشارة، البيوت الإسمنتية البيضاء من طابقين التي يسكنها الغردونيون. هذا البيوت تحيط بالحديقة النباتية ذات الشكل الإهليجي. وتغطى الحديقة النباتية مساحةً تُقدر بعشرة أفدنة تقريبًا يحيط بها شارع مسفلت. على الجهة الشرقية من الحديقة النباتية يسكن عبد العزيز شدو، والفاتح عبدون، وعبد الرحمن عبدون، ولعله كان أحد أعضاء مجلس السيادة الأول عقب الاستقلال. هذه هي المنازل الفخمة بمقاييس ذلك الزمان. في تلك الجهة أيضاً، كان هناك ما كان يسمى بمعهد البحوث الصناعية، ونادي أساتذة المعهد الفني، والبنك الزراعي. كنت أبيع كتب الجمهوريين في معهد البحوث الصناعية واقف أمام تربيزة عز الدين الدحيش الذي كان موظفًا هناك، وهو في أوج نجوميته، وأتعجب من نجم يجلس خلف طاولة في مكتبٍ فارغ يغالب سأم يوم العمل في مكتب من مكاتب المصالح الحكومية. ولقد استضافت تلك المنطقة من حي المقرن معهد الموسيقى والمسرح في بداياته الأولى في فيلا مستأجرة. وحين تم الإفراج عن الفنان محمد الأمين، بعد واحدٍ من الإعتقالات المايوية، أستضافه طلاب معهد الموسيقى في حديقة ذلك المبني. أذكر أنهم ألبسوه أكليلا من الزهور احتفاءً بخروجه من السجن. في تلك الليلة البعيدة في النصف الأول من السبعينات سمعت بالعود، ولأول مرة، "شال النوار ظلل بيتنا" فأدهشتني لجدتها ومفارقتها للسائد، وانطبعت في فؤادي الغض، ولم تخرج منه حتى اليوم.


من الناحية الجنوبية لإهليج الحديقة النباتية كان يسكن الصحفي والمؤرخ التجاني عامر، وكان يسكن آل مغربي، وآل شداد. أما من الناحية الغربية فكان يسكن الصحفي المخضرم محمد سعيد محمد الحسن. وعلى الشمال الغربي من أهليج الحديقة النباتية كان هناك ميزان "جمع ميز" لطلاب المعهد الفني، أحدهما للبنات والآخر للأولاد. في ميز الأولاد عاش، ولا أجزم بصحة المعلومات التالية كلها، خلف الله عبود، وأحمد سيد أحمد "طبطب"، وكنديو، والنور أحمد علي، وغيرهم من طلاب السنتين الرابعة والثالثة. وفي ميز البنات كانت هناك دار السلام عبد الرحيم، وبديعة الحويرص، وفتحية محمد علي، وأسماء السنوسي، وأخريات. كنا نزور ميز طلاب السنة الرابعة والسنة الثالثة بكثرة. وكان لزيارات المساء تلك آثارٌ باقية في الذاكرة تستعصى على آثار الزمان. فقد ارتبطت ببرودة الليل في المناطق كثيرة الشجر كالحديقة النباتية، وصوت صرار الزرع، وأريج الياسمين المنبعث من الحديقة الكبيرة، ومن بيوت النخبة المتمدينة المحيطة بها، خاصة حين تختلط كل تلك المؤثرات الحسية بحالة شبابية كانت فيها الحواس في أوج تيقظها. يضاف إلى ذلك، أننا كنا نصحب الطالبات اللواتي يتأخرن في الأستوديوهات لوقتٍ متأخر سيراً على الأقدام، إلى أن نوصلهن الميز، فشوارع المقرن بالليل كانت موحشة، ومعتمة.

أعود لغرفة شداد المنفصلة عن الفيلا. كانت تلك الغرفة فوق شيءٍ أشبه بالجراج بالقرب من المدخل الرئيسي. فيها كان يسكن شداد محتفظا بخصوصيته بعيدًا، هونًا ما، من البيت الأم. في تلك الغرفة صنع شداد لنفسه عالمه الخاص به. كانت تلك الغرفة مكتظةً ومزينةً بأمور كثيرة عجيبة. في تلك الغرفة كان لقاؤنا بأحمد عبد العال في جلسة حوارية لم تخل من صخبٍ ولعلعة، فقد اتسمت بتباين الآراء حول الفكر والفن، وهذا ما جعل الأصوات تعلو فيها، ولكن في أريحية وود، رغم أن الخطوط الفكرية بقيت فيها متوازيةً كما كانت. وكان ذلك غريبًا جدًا أن يلتقي طلاب الصف السنة الأولى أو الثانية في نقاش يتسم بالندية مع طلاب السنة الثالثة والرابعة.

أمير شعراء غرب المعهد الفني

من الذكريات التي كان يرويها لنا خلف الله عبود، ورسخت في ذهني، وهي مرتبطة بالراحل المقيم أحمد إبراهيم عبد العال، حادثةٌ طريفةٌ جرت في المعهد الفني، قبل أن يصبح إسمه معهد الكليات التكنولوجية. روى لنا خلف الله عبود، الذي سبقنا إلى الكلية بثلاثِ سنوات، أن متشاعرًا من متشاعري المعهد الفني أرهق طلاب المعهد بقصائده الركيكة، وبحماسته المنقطعة النظير لشعره، وعدم قدرته على إدارك حقيقة أنه لا صلة البتة بين ما يكتب وبين الشعر. فانبرى أحمد عبد العال، وهو بطبعه صاحب مبادرة ومبادأة، للتعبير عن ضيق طلاب الفنون بذلك الشاعر الذي ينتمي إلى الأقسام الهندسية التي تحتل الجزء الغربي من المعهد الفني. لا أذكر التفاصيل التي ذكرها خلف الله عبود، ولكن يبدو أن أحمد عبد العال أطلق حملة للاحتفال بذلك الشاعر، ودعا إلى تنصيبه أميرًا لشعراء "غرب المعهد الفني". وبالفعل قام طلاب الفنون وعلى رأسهم أحمد عبد العال بتجميع مجموعة صاخبة من الطلاب اعتلى أحمد عبد العال في وسطها مكاناً مرتفعاً، ووقف في الطلاب خطيبًا، عاقدًا لواء "أمير شعراء غرب المعهد الفني" لذلك المتشاعر المزعج.

الطريف أن ذلك المتشاعر كان مصدقًا أن الإحتفاء به احتفاءٌ حقيقي. فكان في غاية الزهو، ولم يدرك أبدًا أن كل ذلك التهريج الذي يجري كان هدفه الوحيد هو السخرية منه، والتعبير عن الضيق به، خاصةً أن اللقب قد جعل منه أميرًا على شعراء "غرب المعهد الفني"، وليس على المعهد الفني ككل. والمعهد الفني آنذاك لا يتجاوز عدد طلابه الألف، يزيد أو ينقص قليلا. الشاهد، أن الرجل أزعج طلاب الفنون حتى احتفوا به من شدة الضيق! وهذه واحدةٌ من تعيُّنات المثل السوداني القائل: ((كان غلبك سدَّها وسِّع قدها)).

كان أحمد عبد العال شخصاً ذا عقلٍ نشطٍ، وجسدٍ نشطٍ، دلّت على كليهما انجازاته في الكتابة وفي الرسم. فقد كان مفرط الحيوية جم الحركة، جم النشاط، hyperactive ولربما تكون تلك الحيوية الدافقة هي التي استهلكت صحته، وجعلت إقامته بيننا قصيرة على ذلك النحو. ولي عودة لمداخلة صدقي كبلو في ما يتعلق بمدينتنا التي ماتت، والنضال الذي خبا أواره، بعد أن انبهمت مسالكه. فالأمر كما تفضل صدقي تفكُّرٌ في ما حاق بنا، وليس نوستالجيا أو فانتازيا.


((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

عشنا عقب دخولنا كلية الفنون في سبعينات القرن الماضي في شيء من بحبوحة بقايا "دولة الأفندية"، فكنا شاهدين على أيامها الأخيرة وسيرها المتسارع نحو أجلها المحتوم. أدركناها وهي تعبر أصيلها، الذي كان يشحُب، لحظةً إثر لحظة، وتابع مساره في مسلسل ذلك الأفول الدرامتيكي حتى غربت شمسها، وأحمر شفقها الدامي فغطى حافة الأفق. لم نقف مكتوفي الأيدي، ولم نكتف بالمراقبة، وإنما حاولنا، كلٌّ بطريقته، ما وسعتنا الحيلة، وقف عجلتها المتدحرجة نحو الهاوية. لكنها كانت مركبةً ثقيلةً متحدرةً من علٍ، فخارت قوانا وانزلقت المركبة عابرةً أصيلها نحو ديجورها الذي لا تزال فصوله تتوالى. لذلك، أجد من المهم جدًّأ أن يدلي المرء منا، نحن أهل ذلك الجيل، بشهادته حول ذلك الأفول المريع.

لقد كانت دولة الأفندية "دولة رفاهية"، ولكنها كانت دولة "رفاهيةً كاذبة". فهي دولةٌ ورث حداتها وقادتها تدليل المستعمرين البريطانيين لذواتهم، ولا غرو أن استحالت على أيدي هؤلاء الأفندية الذين ورثوها إلى بِدَل سموكن، وكدوسات، وليالي في غوردن ميوزيك هول، وبيوت درجة أولى في نمرة أثنين، والمقرن، ثم لاحقًا في العمارات، وعربات صوالين للسفر بالقطار، وتصاريح سفر مجّانية على سكك حديد السودان، وعلى سودانير، وعلى بواخر النقل النهري. وكذلك مساجين مساكين يخدمون سُخرةً في بيوت الموظفين الكبار. ولا ننسى البعثات الدراسية إلى الخارج، وتسهيلات ادخال العفش والسيارات إلى السودان، وكثير من جنس هذا. ونحن لم نراجع تلك السيرة المخزية لدولة الأفندية، وربما لن نفعل. غربت شمس تلك الدولة في حوالي العقد والنيف، ولم تَتِح لأحدٍ، بسبب سرعة تبخرها، فرصةً للمراجعة. بل إن "حكم الوقت"، كما يرد كثيرًا على لسان الأستاذ محمود محمد طه وقلمه، لم يكن ليسمح بشيءٍ من تلك المراجعة الواجبة. وما لبثت البلاد حتى جاءها نميري وركب معه بعضٌ من بني اليسار، فانقسم الحزب الشيوعي وأدى انقسامه إلى انتحاره "اللاإرادي" بعد عامين وشهرين فقط من قدوم مايو، وملأ الفراغ الذي خلفه اليسار المسخ المسمى الاتحاد الاشتراكي. ثم ما لبث أن بدأ الخراب العظيم. قال أدونيس - الذي كنا مفتونين به، وبحواره مع منير العكش في مجلة "مواقف"، في مطلع السبعينات - هذا البيت الشعري، وأظنه ورد في ديوانه: "مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف"، يقول مولانا أدونيس، أطال الله عمره، في بيته المفعم بالحذلقة الأدونيسية: "أتى العصفُ الجميل، ولم يأت الخرابُ الجميل". انعكست حالة القهر السياسي غير المسبوقة التي تعرض لها الشيوعيون عقب انقلاب يوليو 1971 على التعليم العالي والحركة الطلابية بشكل عام، وبطبيعة الحال على كلية الفنون.

أتت بـ "دولة الأفندية" "الكلفتة" التي لازمت الحركة الوطنية. فانتهى الاستقلال إلى أسلابٍ يتم تقاسمها. ولم يَعِف عن مغنم هذه الأسلاب سوى الأستاذ محمود محمد طه، وطلائع الشيوعيين. بخلاف ذلك، كانت "دولة غنائم وأسلاب" ولغ في ماعونها الآسن الجميع، فتآكلت حتى "هزلت وبانت كُلاها وسامها كلُّ مفلس". ونحن ممن نعموا بشيء من ريعها في نهاياتها. درسنا في المدارس الداخلية على نفقة الدولة في مدارس لم يكن ينقصها شيءٌ تقريبًا، وهذا شيء ربما صعب على الأجيال الجديدة تصوره. وحين جئنا إلى كلية الفنون، أعطوا كل واحد منا دعمًا ماليّا، يُسمى Bursary كان مقداره تسعة جنيهات. من هذه الجنهيات التسعة كنا ندفع الميز وكان لا يتجاوز الأربع جنيهات لكل الشهر. أما الباقي فنشتري منه الملابس، ونشترى مسلتزمات الصحة الشخصية كالصابون والمعجون وغيرها. وكنا ندفع منه أجرة المواصلات، ونشتري المجلات، والكتب والألوان، ونرتاد دور السينما، بل تمتد تلك "البيرسري"، التي كانت تعادل الثلاثين دولاراً وقتها، لتغطي مستلزمات المزاج من سجائر وغيرها. وكما سبق أن ذكرت قبل بضع سنوات أن حسن موسى كان يستلم من أسرته عشرة جنيهات إضافية أسمهت بقدرٍ كبير في "بحبحة" الشلة كلها.

كان سكان الخرطوم قليلون وقتها، وكان ذلك ظاهرًا في كل شيء. كانت حركة المواصلات سهلةً ومنتظمة. كانت سيدة المواصلات في النصف الأول من السبعينات بصات الفيات الإيطالية التابعة لمواصلات العاصمة. كنت تجدها مصطفّةً بالعشرات في الجزء الشمالي من ميدان الأمم المتحدة قبالة سوق الخضار القديم والجزارات. رسم هذه البصات حسن موسى مرةً بألوان الماء وأنتج صورةً جميلةً أدهشتنا. ولقد اقتنصت تلك المائية الحية روح نهار الشتاء في الخرطوم في تلكم الأيام. قال الناصر قريب الله، غشيت قبره سحائب المزن الهتون مخاطبًا معشوقته "أم بادر": "لست أنساكِ والبروقُ تجاوبنَ وروحُ النهار في اضمحلالِ". نفَّذ حسن موسى تلك اللوحة من منطقة الموقف مباشرة، في الجهة الغربية من ميدان الأمم المتحدة المقابلة لعمارة أبو العلا القديمة، وكان الجمهور الذي يرى طلاب الفنون جالسين يرسمون يعجب من فعل الرسم في الهواء الطلق. وكما قال المعري: "أقول والوحش ترميني بأعينها، والطيرُ تعجبُ مني، كيف لم أطِرِ؟!"

أشتهرت منطقة موقف المواصلات شمال ميدان الأمم المتحدة بأنها مكانٌ ثابتٌ للاعبي "ملوص"، الذين كثيرًا ما تهجم عليهم الشرطة، فينفضون، وما أن تختفي الشرطة يعودون سيرتهم الأولى يصخبون ويتغالطون ويتهاوشون في حين ينصرف عنهم ضحاياهم من "المخروتين" بحلوقٍ مرة. أما الجانب الجنوبي فكان يضم حلقة مديح تنتظم من بعد الضحى حتى يتقدم النهار. وصلت بصات الفيات تلك بعد أن انقرضت البصات الأمريكية الضخمة ماركة "بلوبيرد". وبعد أن نفقت بصات الفيات، بدورها هي الأخرى، وصلت بصات أبورجيلة في عهد نميري، وهي بصات مرسيدس برازيلية الصنع، ما لبثت، أن أصبحت، أثرًا بعد عين، في ما لا يزيد عن بضع سنواتٍ. ونحن، في ما يبدو لي، بحاجةٍ إلى مؤرخين ليؤرخوا لنا سيرة نظم المشتريات السودانية من الخارج، كالبصات، وعربات الجيش، والأسلحة. فهذه سيرة تتضمن في ثناياها قصصًا كثيرةً من جوانب الفساد الإداري، وسيرة فصول انهيار الدولة السودانية.

في حقبة الفيات، وهي حقبة النصف الأول من السبعينات، كانت بصات مواصلات العاصمة، تعمل حتى بعد الحادية عشرة ليلاً، وكانت وسيلتنا المفضلة لارتياد السينمات البعيدة كسينما النيل الأزرق والحلفايا، وغيرها. فقد كانت أجرة تلك البصات زهيدة "قرشين ونصف" على ما أذكر، كما كانت منضبطة جدًّا. كانت دور السينما تعمل مرتين؛ الدور الأول من حوالي السادسة حتى الثامنة والنصف، والدور الثاني من حوالي التاسعة حتى الحادية عشرة. كنا نتخير الأفلام وكان المعروض منها الذي يتسم بالجودة كثير جدا. ولقد جاءنا كل من محمود عمر، وحسن موسى من الأبيض بثقافة سينمائية كبيرة جدًا، فهما أولاد مدينة وكان شخصي، على سبيل المثال، إبن قرية لم ير السينما إلا في ود مدني في فترة حنتوب. وما سبق ذلك كانت السينما المتجولة التي تطوف على القرى، وهي تابعة لوزارة الإستعلامات والعمل وقتها، وكانت تبث أفلام تسجيليلة تشرح للأهالي جهود حكومتهم الرشيدة. أما سينما الدور المدينية فتجربتي معها، قبل المرحلة الثانوية، لم تتعد تلك التجربة البعيدة، حين أخذني خالي محجوب إلى الخرطوم ليستخرج لي شهاة تسنين، وعمري وقتها تسع سنوات. فنزلنا مع بعض أهلنا في حي ودنوباوي، وفي المساء أخذني إلى سينما برمبل وكانت في الميدان الذي يقع حاليا أمام بوستة أم درمان، وشهدنا يومها فلمًا مصريًا لتوفيق الدقن إسمه "سواق نص الليل". وحين ذهبنا إلى حنتوب كان ارتياد دور السينما بالنسبة لنا متقطعا، إذ يتم كل بضعة اسابيع، فنعبر النهر إلى ود مدني لارتياد السينما. اما السنة الأولى في كلية الفنون فقد كانت السنة الأبرز في تكوين ثقافتنا السينمائية ومعرفتنا بهولي وود وعمالقتها من الممثلين والممثلات والمخرجين. كنا نخرج من الاستوديوهات أو من باحة الكلية بعد الثامنة فنغشى بوفيه السجون لنتاول الفول ونعرج على سينما غرب جارتنا العزيزة لنرتاد الدور الثاني، وحين نخرج تكون بوابة معهد الكليات التكنولوجية قد أُغلقت فنذهب لـ "الشرمة" التي أحدثها قفز الطلاب الكثير فوق الحائط في الركن الجنوبي الشرقي الأقصى من سور المعهد قبالة أستاد الخرطوم فنقفز الحائط ونتجه إلى أسرتنا "ويا دار ما دخلك شر".
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

بيت ناس مكي

مشاركة بواسطة حسن موسى »

Elnour Hamad كتب:[size=24] .


أما من جهة الغرب فبيوت قصيرة مجللة بالزبالة هي "حلة المقرن" القديمة التي استأجر فيها زميلنا وصديقنا وزميلنا مكي محمد علي بيتا لأسرته. ومكي محمد علي أستاذٌ منتدب، حيُّ الشخصية، مشغول بالفكر وبالأدب وبالفن وبقضاياها. ولأساتذة المنتدبين إلى كلية الفنون، صفحةٌ خاصةٌ ربما قلَّبناها لاحقًا. تلك البيوت الطينية القصيرة هي البيوت التي كان الصلحي يبعث بالطلاب إليها ليرسموها بألوان الماء. أحيانا يبعثهم عدة مرات، ليرسموا نفس المكان، كما أخبرنا من سبقونا. ولخلف الله عبود مائية تصور أحد هذه البيوت الطينية القصيرة، وبؤرة تلك الصورة عربة كارو منكَّسة المقدمة تربض أما باب بيت، أرجو أن يكون خلف الله لا يزال محتفظًا بها فيرفعها في هذا البوست. في بيت مكي محمد علي الطيني، القصير الوطيء المستأجر تغدينا مرةً غداءً لا يُنسى. لاحقًا أصبح مكي قاصًا ونشر بعض الروايات.






يا النور دي واحدة من مائيات 1973، رسمتها تحت هجير الظهيرة و أنا واقف في الشارع على ورقة " كارتريدج" سريعة الجفاف بفعل الشمس.بيت ناس مكي كان ورا الشارع دا ممكن تلف يمين ورا الدكان الناصية و بعدين تاخد أول لفة شمال و لو سألت أي زول " ياخي بيت ناس مكي بي وين ؟" يوصلك للباب. أين مكي محمد علي اليوم؟


صورة
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

حسن موسى سلام
لقد أذكرت عهدًا مؤنسًا بنشرك لهذه المائية البديعة التي كدت أن أنساها!
حين كتبت عن حلة المقرن كانت صورتها غائمة ومبهمة هونا ما في ذهني بفعل تقادم الزمن ولكن المائية أحيت ذاكرتي.
تذكرت الدكان والمسجد، وشيئا من تفاصيل تلك "الحلة" الجالسة بين الغابة والمشتل، وكأنها تندس خجلاً من العمار الذي أحاط بها.
لا أدري أين هو مكي محمد علي الآن. فليدلنا عليه من يعرف.


تغنت جماعة عقد الجلاد بـ "جمال النيل والخرطوم بالليل". و"الخرطوم بالليل" إسم ثوبٍ نسائيٍّ سوداني أيضًا، كان قد شاع في حقبة الستينات. وهو ثوبٌ مُحلَّى بخيوطٍ معدنيةٍ براقة، وكانت الخرطوم تتلألأ بريقًا في "تلكم الأيام"، فأسموا ذلك الثوب على بريقها الليلي الذي ما لبث أن "خبا بعد التماع"، كما غنى زيدان من شعر إبراهيم ناجي. وكما قال سعيد عشا البايتات عليه الرضوان: "روح يا زمان، وتعال يا زمان!!". كانت أضواء النيون ذات الوميض قد دخلت لتوِّها، وكنتَ ترى الإعلانات التجارية ذات الوميض تزين واجهات وهامات المحلات التجارية فوق السوق الإفرنجي. كان سائقو التاكسي مهندمون وكاموا يغسلون سياراتهم ويلمعونها كل يوم. وحين يمرون أول المساء بشارع الجمهورية ترى انعكاسات أضواء النيون الملونة تنزلق على أسطح سياراتهم اللامعة. ثم ما لبثنا أن أظلنا عهد التراب! "وكل الذي فوق الترابِ ترابُ".

تلك كانت هي حقبة الستينات؛ "حقبة الصرعات الكوكبية" والثورات الكوكبية، وكنت الستينات وبدايات السبعينات هي عصر الألق في السودان، وكانت عصر الشعر، وعصر الآمال العريضة المخضلة قبل أن تنطفئ شموعها. في تلك الحقبة بدأنا نرى "لاس فيجاس"، مدينة القمار واللهو العظمى على وجه البسيطة، من خلال أفلام السينما، فنعجب من أضواء النيوين ذات الوميض التي تغطي تقريبًا كل واجهات أبنيتها. وانطلقت رأسمالية الخرطوم المسكينة والشركات الأجنبية القليلة في التأسي بلاس فيجاس وبأساليب الرأسمالية الأمريكية الصاعدة عقب الحرب العظمى. أسميت محلات المرطبات في أمدرمان "ميامي" و"مونتانا". كانت السيارات في الخرطوم دائمًا جديدة. وكان السوق في جملته مرتبط بأوروبا؛ فهناك الشركات الأجنبية كـ "جلالتي هانكي" و"ميتشل كوتس" و"سودان ميركنتايل" وهلم جرا. الشركات الأجنبية التي حافظت نوعًا ما على المظهر الحضاري للخرطوم استهدفها نميري، في سكرةٍ اشتراكيةٍ كاذبة، فقام بتأميمها بين عشية وضحاها، وما لبثت أن أضحت، في بعض سنوات، أثرًا بعد عين. من تلك الشركات، شركة خدمات ليس إلا؛ مثل شركة "البص السريع" الإسم الشهر في عالم النقل في السودان في الخمسينات والستينات. في تلك الحقبة كان سفر الموظفين لا يكون إلا بتلك البصات ذات المقاعد الوثيرة والزجاج المغلق. وقتها، كان السفر يتم باللواري. الموسرون والأفندية يركبون مع السائق، أما بقية الركاب فعلى هامة الشحنة المكونة غالبًا من صناديق البضائع، وكراتين الصابون، وصناديق البيبسي كولا، وجولات الحبوب والبصل وغيرها. السفر المريح على المقاعد حسنة التنجيد والزجاج الذي يحمي من الغبار لا يكون إلا بتلك البصات المقاتلة التي استوردها الخواجة، صاحب شركة "البص السريع"، وكانت مصممة لتسير على طرقات السودان غير المعبدة. كانت تصل الخرطوم بودمدني قبل تعبيد شارع الظلط، كما كانت تصلها بسنار وسنجة، والقضارف وكسلا، وكوستي. وكانت كل تلك السفريات تتم على طرقٍ غير معبدة. وكان للبص السريع إجازة خريفية، مدتها ثلاثة شهور. تبدأ من منتصف يوليو حتى منتصف أكتوبر، تجنبًا لوحل الخريف، الذي كان وقتها خريفًا حقيقيًا حتى في نطاق السافنا الفقيرة. في تلك الفترة يصبح القطار هو وسيلة النقل الوحيدة. كان يدير تلك الشركة الخواجة المالك، تعاونه حفنةٌ قليلةٌ جدّا من الموظفين. أمم نميري ومساندوه من اليساريين المتعجلين تلك الشركة، وأسموها "مؤسسة النقل الوطنية"، ودخلت بذلك بعد اجهاض انقلاب يوليو ضمن نظام استرضاء الجنرالات الذين تتم إحالتهم إلى المعاش. ولعلهم جعلوا على رأس مجلس إدارتها جنرالاً مُحالاً للمعاش كالعادة، لم أعد اذكر. خلقوا لها إدارةً مترهلةً مثل "إدراة عموم الزير"، فكانت الإدارة تزداد وتترهل، كما تزداد مخصصات "العاملين عليها، وفي الرقاب، وأبناء السبيل، هذا في حين كانت بصاتها تتناقص، حتى أصبحت شركة نقل بلا بصات، مثلما أصبحت سودانير شركة نقل جوي، بلا طائرات. بالمناسبة: أين "مواصلات الجزيرة" التي عبّأت طريق الخرطوم مدني في بداية الثمانينات ببصات "البارليه" الفرنسية؟ قال إبن عربي:

عبَّيْتُ أجيادَ صبري يومَ بينِهِمُ على الطريقِ كراديسًا كراديسا

وهكذا عبأت ولاية الجزيرة طريق الخرطوم مدني ببصات "البارليه" كراديسا، كراديسا، ولكنها اختفت، وكأن الجان اختطفها. هذا باختصارٍ مخل، بعضٌ من سيرة الدولة السودانية الغاربة، التي لا يريد أحدٌ أن ينبش فيها.

ونعود لأضواء الخرطوم المتلألئة في النصف الأول من الليل. كان شارع الجمهورية شارعًا براقًا تعلو هامات عمائره الإعلانات ذات الوميض. كانت هناك لوحةٌ ضخمةٌ من النيون ذات الوميض تعلن عن سجائر قولد ليف، وسجائر قولد ليف لمن لا يعلمون هو الطور الأحدث لسجائر البحاري، أو البحار ذي اللحية الذي تجلس صورته على واجهة الصندوق في إطارٍ من الحبال. كان البحاري قبل أن يتحول إلى قولدليف هو ملك السجائر في الخمسينات والستينات. كان السجائر المستورد منحصرا بشكل رئيس، في البحاري. أما المحلي فهو أبو نخلة، والبرنجي، ثم شامبيون، وكان ينتجها، على ما أظن، آل حجار. بعدهما أغرقت بال مال الإنجليزية السوق السوداني بالروثمانز والبنيسون آند هديجز. أما خلاف ذلك فلا شهرة له وإن وجد. وكان وجوده متركزًا على أغلفة المجلات المصورة التي تأتي من مصر وبيروت، حيث كنا نرى صوراً لسجائر مالبورو، وبيتر ستايفزانت، ونيوبورت، وغيرها. أيضًا كانت هناك لوحة إعلانٍ أخرى ضخمة لطيران BOAC قبل أن تصبح British Airways. وفي بداية السبعينات كانت هناك لوحة مضيئة قبالة المحطة الوسطى تعلن عن سيارات الفولجا والموسكوفيتش وذلك بعد أن بدأ الاستيراد من الاتحاد السوفيتي وبدأ احتكار البضاعة الإنجليزية للسوق السوداني يتراجع. كانت السيارات حتى بداية السبعينات سيارات بريطانية وألمانية وإيطالية. كانت البريطانية من ماركات مثل "هيلمان" و"كونسول" بأنواعها: "كونسول كورسير"، "وكونسول كورتينا"، إضافةً إلى "زوفير" و"همبر" و"إنجيليا" و"فوكسهول". أما الألمانية فيغلب عليها الأوبل، ومن موديلاتها: "أوبل ريكورد"، و"أوبل كاديت" و"أوبل كابيتور" بالإضافة إلى المرسيدس وهي سيارة صفوة الصفوة. أما الفلوكسواجن فقد اقتناها كل من هب ودب لرخص سعرها ولتوفر نظام الأقساط. وكان وكيلها في الخرطوم شركة سفريان. ولقد اقتنى كثير من أساتذة كلية الفنون السيارات الفلوكسواجن "بيتل"؛ منهم أستاذ الخط المصري عبد المنعم عبد اللطيف، وأحمد حامد العربي، وآخرين، ربما عبد المنهم تكستايل، ومحمد الأمين، وآخرين. أما أحمد مدرس الخط العربي فكانت له سيارة فيات 1100 تستوردها شركة قطان التجارية. الشاهد، أنه كان للسيارة الفلوكسواجن حضور كبير في باحات كلية الفنون. بعد تأميم الشركات انفتحنا على اليابان فدخلت "البرلينا" السيارة الصغيرة التي تنتجها "دايهاتسو" ثم التويوتا، ثم الداتسون التي كانت هي إسم النيسان. ثم اختلط الحابل بالنابل.

لم يكن السوق العربي نشطًا في الليل كما السوق الإفرنجي. ولذلك، لم تكن لافتات النيون شائعة فيه وكان النشاط التجاري في الليل ينحصر فيه في صفّي الدكاكين الواقعين جنوب ميدان الأمم المتحدة. وكانت أغلب هذه الدكاكين دكاكين أقمشة، وكانت حركة المتسوقين بالليل قليلة. كانت أشهر المحلات التجارية نشاطًا في السوق العربي بالليل محلٌّ للفول في الصف الثاني، نسيت إسمه، ولكنه كان يقدم فولاً بالجبنة وزيت السمسم "ما حصلش"، كما يقول المصريون. اشتهر هذا المحل بجودة الفول، مثلما اشتهر محل أبو العباس شمالي مستشفى الخرطوم. كما كانت هناك بعض الكافتريات النشطة التي تبيع السندويتشات والمرطبات والحلويات تقع في صف السوق العربي المواجه لميدان الأمم المتحدة من الجهة الجنوبية. وكان هناك محلٌّ شهيرٌ إسمه "جروبي" يفتح في مواجهة الجهة الشمالية من الجامع الكبير. هذه المحلات كانت تفتح حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل، وأظنها كانت تلبي حاجة من يخرجون من سينما كولوزيوم، وهم متجهين إلى موقف المواصلات حول ميدان الأمم المتحدة. كل هذه الأماكن أصبحت أثرًا بعد عين. المحلات في العالم المتقدم تعيش قرونًا إذ يسلمها الجيل السالف للجيل اللاحق في تتابعية واستمرارية مدهشتين، خاصة الأعمال التجارية التي تملكها وتديرها الأسر. في السودان تبدأ الأعمال التجارية ثم ما تلبث أن تختفي. لا شيء يستمر أبداً! وهذا موضع مبحثٍ في مسار الاضطراب وتقلب السياسات، وكذلك في سياسات الاستهداف والكيد. السودان ظل يعمل بمختلف طاقاته ضد الثبات والرسوخ وضد الاضطراد والنمو! الخرطوم اليوم لا صلة لها البتة بخرطوم الأمس. فما ظل يجري فيها كان هدمًا عشوائيًا، تحل محل المهدوم، بنية تجاريةٌ عشوائيةٌ جديدة، لا تلبث أن يأتي من يهدمها، وهكذا دواليك.

المنطقة المحصورة بين تقاطع شارع القصر وصينية سانت جيمس هي الجزء الأكثر حيوية من شارع الجمهورية. إنها قلب السوق الإفرنجي النابض. هناك للبقالات رائحةٌ خاصة، وهي رائحةٌ أوروبيةٌ "بحتة"؛ خليطٌ من روائح الأجبان الأفرنجية، والباسطرمة، واللحوم المدخنة، والفانيلا، والبن الحبشي المحمص، وغيرها من روائح البضائع الأجنبية المتنافرة الممتزجة. لقد كانت تلك الروائح، بالنسبة لي، روائحَ مُسكرةً وغامضةً ومهيّجة للواعج الاتصال بالبلدان البعيدة، وبالحضارة الأوربية في منابتها التي كانت وقتها أبعد ما تكون من أن تطالها أيدينا. لقد كانت رائحة السوق الإفرنجي جديدةً علينا تمامًا. فهي مما لم تعهده أنوفنا قط، وليس لها في "ذاكرتنا الشمِّية" أية مرجعية. كنا نتسكع في فرندات السوق الإفرنجي المضاءة؛ بتعبير ود المكي: "عار الدكاكينِ، الأرائكِ، والفرندات المضاءة". كنا لا نطيق صبرًا عن تلك الجهة من المدينة، فقد كان بنا جوعٌ لا يوصف، بحكم أمزجتنا التشكيلية، للمشاهد البصرية والتجارب البصرية. وكان السوق الأفرنجي بالنسبة لنا المكان الأغنى باللون وبالحركة وبالأضواء، وبالبشر وبالإناث من مختلف الأجناس، وبالسحن المتباينة وبالعطور، وبكل ما يلهب الحواس ويشبعها. أيضًا كان السوق الإفرنجي قنطرة تربط بين خلفيات نشأتنا السودانية ومحدودية عوالمنا، وبين العوالم التي دلتنا عليها الكتب والسينما ومختلف المواد المقروءة. لقد كانت تجوالنا هناك أقرب إلى التجارب التأملية الروحية، منه إلى مجرد التسكع. وقد كنا وقتها مشاةً أشاوس. نترك منطقة المقرن حيث المعهد والكلية لنتجه شرقًا من خلال بيوت الأقباط والأجانب، التي هي قوام منطقة الخرطوم غرب، لنلج السوق بشقيه العربي والإفرنجي. كانت تلك الروائح تنبعث من أماكن بعينها أذكر منها بقالة تقع على شارع الجمهورية قريبًا من محلات أتينيه الشهيرة. أيضًا كان لمحلات زكي في شارع البرلمان رائحتها الخاصة، وهناك محل على شارع القصر يسمى الـ GB لم نكن ندخله ولكن رائحته الأجنبية النفاذة تخرج من مدخله، وتلفح أنف من يمر أمامه. كما كانت لمحلات "جنبرت" رائحتها الخاصة، وكذلك مخبز بابا كوستا. أما محلات إبراهيم ميرزا التي نحبها بسبب معدات ومواد الفنون فقد كانت رائحتها مختلفة. أيضًا كان هناك محل يسمى "سويت روزانا" بالقرب من دكان عمر عطية للأسلحة في أقصى الجهة الشرقية من شارع الجمهورية. وكان للمعروضات المصرية رائحتها الخاصة بها المتسمة بشيء من القدم. أما دكاكين الأقشمة، التي كان يديرها السودانيون فرائحتها آنذاك خليط من رائحة الأقمشة الجديدة ورائحة القش المبتل المنبعثة من مبردات الهواء المائية، ماركة "أيسك" و"أدميرال" التي تُصنع في المنطقة الصناعية في بحري. حينها لم تعرف الخرطوم مبردات الهواء التي تعمل بالفريون، ولم تعرف استيراد أجهزة تبريد الهواء.

في هذا الجزء من شارع الجمهورية كان هناك فندقا "صحارى" و"أكسلسيور". لم نكن نعرف شيئًا عن عالم الفنادق. نسمع بها من الصحف، كما يقول أهلنا في الجزيرة؛ "سمع الجداد بالبحر". (وسبب المثل، أن كل حيوانات القرى ترد النيل الذي هو "البحر". أما الدجاج فلا يرد البحر، وإنما يسمع به سمعًا فقط). حينها كانت تترد أسماء في ليالي الخرطوم الموسيقية "المغربنة" التي عادة ما يحتضنها فندقا "صحارى" و"اكسليسيور"، وكذلك ملهى "الكريزي هورس" في المقرن، فتتردد أسماء مثل "كمال كيلا وفرقته"، و"عامر ساكس" و"جاز العقارب" و"شرحبيل أحمد وفرقته" و"البلو استارز" حتى ظهر "وليام أندرية وفرقته"، وأمورٌ شيقة أخرى كنا نسمع بها كلها: "سمع الجداد بالبحر". زرت شارع الجمهورية قبل فترة قصيرة فبدا هذا الجزء من المدينة الذي كان متألقًا في يوم من الأيام وكأنه قد أصابته قنابل نابالم "البركة فيكم". يتباكى كثيٌر من نوستالجيي الخرطوم على ما يسمونه بـ "الزمن الجميل". علّق على تلك البكائيات عبد الله علي إبراهيم ذات مرةٍ قائلًا: "الزمن الجميل بتاع الساعة كم؟". في ما يلي من التفكر سوف أتحدث عن أكذوبة "الزمن الجميل". فنحن معشر السودانيين لسنا سوى حليمة التي رجعت لعادتها القديمة. فـ "الزمن الجميل" الذي تبكي عليه طبقة الخرطوم المدينية الوسطى المكلومة، كان زمنًا كولونياليًّا، إنجليزيًا صرفًا ولم يكن زمنًا سودانيًا، وقد ذهب مع أهله، ورجعنا نحن إلى سنِّارنا، ومهديتنا، وما هو محيط بهما بشكلٍ عضوي.
فإلى لقاءٍ جديد!
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

مناحة "الزمن الجميل"

بكى بعضنا كثيرًا ولا زالوا يبكون، على ما اصطلحوا على تسميته بـ "الزمن الجميل"! أولئك هم رهط الأفندية، من أهل الطبقة الوسطى، وما جاورها، الذين غربت شمس مجدهم، وألقهم، وهناءتهم، بعد عقدين من الاستقلال. هؤلاء الذين بكوا على الزمن الجميل، وعوا أو لم يعوا، إنما بكوا حالة الاستقرار النسبي التي أعقبت قمع ثورة 1924م، وامتدت حتى لحظة الاستقلال. فالقمع البريطاني للحالة المهدوية السودانية بدأ منذ بداية القرن العشرين. فقد قمع البريطانيون دونما هوادة ولا رحمة كل شيء اشتموا فيه عودة الروح المهدوي الجهادي. كانت أبرز ما قمع البريطانيون انتفاضة عبد القادر ود حبوبة في منطقة الحلاوين بالجزيرة في العام 1908؛ أي بعد عشرة أعوام من انهيار الدولة المهدية. بعدها جاءت حركة الضباط المنضوين تحت "حركة أللواء الأبيض"، فجرى قمعها وهدأت الأحوال وحدث شيء من الاستقرار. ولقد تواصلت تلك الفترة من الاستقرار النسبي حتى بعد أن خرج الانجليز، فوصلت بقاياها عقد الستينات وبداية السبعينات.

يرى الباكون على "الزمن الجميل"، أنّ تراجعًا حدث، جعلنا نرتد عن ذلك "الزمن الجميل"، إلى زماننا الكالح هذا، الذي لا تنتطح في كلاحه عنزتان. غير أن حقيقة الأمر، أننا لم نرتد، وإنما فقط عدنا إلى حالتنا الأولى من خفوت النبض الحضاري. حالة خفوت النبض الحضاري حالةٌ تلبستنا منذ انهيار مملكة مروي في القرن الرابع الميلادي. هذه الحالة من الخروج من دائرة الفعل الحضاري، استمرت قرابة الألفي عام. فبعد سقوط مرو سياسيي ولده حلف قبلي مصلحي. فتلك الحالة من فقدان الدفق الحضاري تواصلت، حتى بعد التغييرين السودانيَّيْن المفصليَّيْن اللذيْن أحدثتهما سلطنة سنار الإسلامية في بداية القرن السادس عشر، مضافًا إليها الثورة المهدية في بداية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. الشاهد، أن حالة الاستقرار، والهدوء النسبي، والتحضر المديني، التي أحدثها البريطانيون، عبر الثمان وخمسين سنةً التي حكموا فيها السودان، لم تكن سوى حالةٍ طارئةٍ، تم تأسيسها قهرًا بقوتي السلاح والنار، كما تمت حراستها بهما أيضًا، في بيئةٍ ظلت تعاني لقرون عديدة مشكلةً حقيقيةً في وعيها بذاتها. هذه الحالة من الانبتات عن لجذر الحضاري حالت بنيويًّا، دون نشوء حالةٍ حضارية راسخةٍ، متَّسِقةٍ مع نبض العصر. وسوف تحول، ما لم تتم مراجعتها نقديًّا كما ينبغي.

أسهمت فترة الاستقرار النسبي التي أحدثها الانجليز، وحرسوها بالحديد والنار، والتي أسماها بعضنا "الزمن الجميل"، في خلق نهضةٍ فكريةٍ، وثقافيةٍ، وفنيةٍ، كبيرة ذاق ثمراتها كل السودانيين، بمختلف طبقاتهم، ومختلف مستويات تعليمهم وادراكهم، بما فيهم الأميُّون. أنتجت فترة الاستقرار هذه في بداياتها، في الثلاثينات من القرن الماضي، روائع شعر الحقيبة، التي لا تزال تعيش بين ظهرانينا حتى اليوم. كما أنتجت بُعَيْد الأربعينات بدائع منظومة غنائنا الحديث، شعرًا، ولحنًا، وأداءً آليّا موسيقيٍّا. كما أنها أزهرت في عقد الستينات، من الشعر الفصيح؛ الحديث منه والعمودي، ما لا يزال يدهشنا حتى هذه اللحظة. أنجبت هذه الحقبة في غير ما ترتيب كرونولوجي وغير ما حصر: خليل فرح، وحدباي، ومحمد علي الأمي، وعلي المساح، وأبو صلاح، وسيد عبد العزيز، ومحمد ود الرضي، وعمر البنا، ومصطفى بطران، وعبيد عبد الرحمن، وإبراهيم العبادي، وعبد الرحمن الريح، وعلي محمود التنقاري، ومحمد عوض الكريم القرشي، وإسماعيل حسن، وحسين بازرعة، والطاهر إبراهيم، وإبراهيم الرشيد، وعوض جبريل، إلى اسحق الحلنقي، وفضل الله محمد، وتاج السر عباس، ومن زاملوهم. كما أنجبت من المغنين: كرومة، وسرور، والأمين برهان، وإبراهيم عبد الجليل، وإبراهيم الكاشف، وحسن عطية، وأحمد المصطفى، وعثمان حسين، والتاج مصطفى، وعبيد الطيب، وعبد العزيز داؤود، وعثمان الشفيع، وإبراهيم عوض، ومحمد وردي، وأحمد الجابري، وسيد خليفة، إلى زيدان وأبوعركي ومن زاملوهم. أما في الشعر، فكان العباسي، والناصر، والمجذوب، ثم ود المكي، ومحمد عبد الحي، والنور عثمان أبكر، وعبد الرحيم أبو ذكرى، وعلي عبد القيوم، إلى عالم عباس، وألياس فتح الرحمن، ومن زاملوهم. وفي التشكيل، إبراهيم الصلحي، وأحمد شبرين، ومحمدعمر خليل، وعامر نور، والنجومي، وتاج السر أحمد، وحسين جمعان، وحسين شريف، وأولاد بلال، وأحمد عبد العال، إلى حسن موسى، ومحمد عمر بشارة، ومن زاملوهم. هذا الانتاج النوعي الثر أنتجته فترة اتسمت بالاستقرار والإحساس بأن للسودانيين وطن، وأنه لهم ولذلك الوطن مستقبل. غير أن الحال تبدل. وكما قال الطيب صالح في مريود: «فأقفرت الديار وعفت الآثار وجاء الجند وقادوهم إلى السجن».
وكما قال المتنبي:

زوِّدينا من حسنِ وجهِك، ما دام، فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ
وصِلِينا، نَصِلْكِ في هذه الدنيا، فإن المقامَ فيها قليلُ.

في النصف الثاني من القرن العشرين عاشت طبقة الأفندية حياةً مستقرةً، لم تعرف الاضطراب الاقتصادي، ولا الأزمات السلعية، ولا عدم التناسب بين الدخل والمنصرف. قصدت أن أقول من كل ما تقدم، أن علينا أن نفرق بين بنية وعينا التي شكلتها تاريخيًّا نومتنا الحضارية الطويلة، وأنتجت حالةً مزمنةً من العجز عن اجتراح الفعل الحضاري، وبين تلك الحالة العارضة، القصيرة جدًّا، التي كنا فيها محمولين على كتف رجال الدولة الأجانب، والمفهوم الغربي للدولة الكفؤة الفاعلة. هذا التفريق مهمٌ جدًا كي نفهم معضلتنا التاريخية، فهمًا عميقًا، ونسعى، من ثم، إلى حلها بناءً على تشخيصٍ صحيح. أعني، من الضروري جدًّا أن نفرق تفريقًا واضحًا بين قصور رؤيتنا للكون وللحياة، التي شكلتها حقبٌ من التراجع الحضاري، يُضاف إلى ذلك، العيش الطويل، على هامش المبادرات الحضارية، وبين جذور روحانيتنا، وشخصيتنا الحضارية الحقيقية التي انطمرت تحت ركامٍ كثيفٍ من التأثيرات الأجنبية السالبة.

ظل السودان يعيش، منذ انهيار حضارته الكوشية، التي تُعَدُّ احدى كبرى أمهات الحضارات الإنسانية في العالم، على هامش التاريخ. فقد ظلت القوى الخارجية هي التي تصيغ وعي أهله بذاتهم، بما يتفق مع مصالحها هي، لا مع مصالحهم هم. دخل الاسلام وصاغ لنا وعيا شرق أوسطيا، وجاء الأتراك وصاغوا لنا وعيا فقهيا عثمانيا، وورثنا المصريون من الأتراك وأدخلونا ف قمقم القومية العربية. وبين هذا وذاك اجتاحتنا العلموية الغربية والبعثية والشيوعية، فضعفت أحوالنا فهجم علينا مزيج الفقه الوهابي الإخواني والصيرفة، وحاق بنا ما حاق. ولا أدعي أن في وسعي في مثل هذا العرض القصير أن أقدم إجابةً، متكاملةً، متماسكةً، في ما يتعلق بحالة الضمور الحضارية التي أصابتنا، منذ قرابة الألفي عام، ولكن أرجو أن يكون في هذا اسهامٌ معقولٌ في تعميق الحفر من أجل معرفة مواطن العلل في حالة الانقطاع الطويلة في المسار الحضاري للرقعة الجغرافية والتاريخية المسماة اليوم بالسودان، وفقدان البوصلة المزمن.

تساءل عبد الله علي إبراهيم عن عبارة "الزمن الجميل" قائلًا: "الزمن الجميل بتاع الساعة كم؟!"، وحُقَّ له أن يتساءل. فذلك "الزمن الجميل" كان، في تقديري، هو زمن طبقة الأفندية المدينية، التي لا تساوي في عددها حينذاك شيئًا يذكر، إذا ما قيست بمجموع الشعب السوداني البائس الفقير. عاشت طبقة الأفندية هذه عيشاً هنيئًا رخيًّا، عبر أربعة عقود من الزمان. وهي فترةٌ يمكن أن نحددها، بشكل تقريبي، بالفترة الممتدة ما بين، 1935م و1975م. ملأت طبقة الأفندية تلك العقود الأربع تأنّقًا، وشعرًا، وغناءً، وسمرًا، وسفرًا، وابتعاثًا من مال الدولة، خاصّةً بعد الاستقلال. غير أن هذه الطبقة، التي لحق بها قدرٌ غير قليل من الغربنة المظهرية، ظلت في سويدائها أسيرة لقمع الفقه الحشوي. فما أن جاء الصيارفة الإسلامويون حتى تغيرت السحن، وتغيرت اللغة، وتسَعْوَدَ الحال، وغلب طبع العقل السلفي المشرج في البنية، على تطبع الحداثة العابر، وقشرة التحضر الرقيقة. لم تطوِّر النخب السودانية، من لدُنِّها، من المعارف ومن مهارات الحكم، ومن أساليب حراسة الدولة من التآكل، ومن الاهتمام بهموم العامة، وترفيع أحوالهم، ما يعينها هي على نماء وديمومة ذلك النعيم، الذي ورثته من المستعمر، و نعمت به، على قلته، فيتسع من جهةٍ فيشمل الجميع. ويُصان، من الجهة الأخرى، من عوادي التراجع، فيصبح نعيمًا مقيمًا. ذهب الانجليز، وتضعضعت حالة الاستقرار والهناءة العارضة تلك بسرعة البرق. تدهورت الأحوال، وانفض السامر، وصوَّحت، بين ليلة وضحاها، أزاهير "الزمن الجميل". ورويدًا، رويدًا ابتلع الحياةَ السودانيةَ المدينيةَ الكلاح. أما الريف، فهو لم يخرج أصلاً من بؤسه وكلاحه القديم الذي استمر لقرابة الألفي عام.

لم يكن نعيم ذلك "الزمن الجميل"، حصرًا على الطبقة العليا، والطبقة الوسطى المدينية، إذ تعدى تلك الطبقة إلى ما هم دونها من عامة الشعب. ولقد أمكن بالفعل للشعب، في مجموعه، أن يقطف طرفًا من الثمار المعنوية لذلك النعيم العابر، حتى أصبح، هو الآخر، يبكي على زواله، بمقدار ما قد قطف منه وذاق. وكما قال النابلسي: "وكل فتىً على مقدارِ ما قد سقاه بكفه الساقي يغنِّي". استمتع الشعب السوداني، على فقره، بثمار "الزمن الجميل" عبر الراديو، وعبر التلفزيون. واستمتع من نالوا حظًّا من التعليم، بالمنتديات، وبالشعر والنثر، عبر المطبوعات المختلفة من صحفٍ، ومجلاتٍ، وكتب. كما استمتع قطاعٌ مدينيٌّ، من مختلف الطبقات، بدور السينما التي كانت تعمل كما ينبغي. فكانت السينما تستجيب لحاجة العاصمة، مضافًا إليها حاجة ما يزيد عن العشرين مدينة إقليمية. وعن طريق السينما العالمية لستينات وسبعينات القرن الماضي، ذات المضامين الهادفة، انفتحت للجمهور السوداني فرص التعرف على حضارات العالم، وعلى مجريات الحرب الباردة. فتعرف على البنيات الفكرية والأخلاقية والإقتصادية للمجتمعات الغربية، وغير الغربية، وعلى صور الحضارة المعاصرة في تجلياتها المختلفة. ولقد جرى كل ذلك في وقتٍ سبق ثورة المعلومات الراهنة بعقودٍ عدة. ولكن، خبت تلك الومضة العابرة، على علاتها الكثيرة المندغمة في بنيتها الاستعمارية، وفي اسقاطاتها التنميطية، مما كان جزءًا من أدوات الحرب الباردة بين الكتلتين الشيوعية والرأسمالية، وفي وراثة الطائفية السياسية للدولة المعاصر الصبيَّة التي بناها المستعمر. وما لبث أن كثُر في السودان "خمج" الأفندية، في عقود الاستقلال الأولى، واستفحل انبهام السبل، وانفضح ضمور الأدوات السياسية، وعلا نجم "الاسلاموية الحركية"، ودخلنا، نتيجةً لكل ما تقدم ذكره، في مسلسل التقهقر الملحمي عائدين إلى الأجحار العقلية والوجدانية القديمة. وهو مسلسل لا تزال حلقات سلسلته تتلاحق، ولا يبدو في الأفق ما يدل على أن الخلاص منه وشيك.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

استوديو التلوين

مشاركة بواسطة حسن موسى »

صورة



كتبت مرة أننا في كلية الفنون كنا نتعلم من بعضنا البعض بأكثر مما نتعلم من أساتذتنا. ربما لأن التعلم من الأصدقاء يمتاز على التعلم من الأساتذة في كون الأصدقاء يبذلون علمهم بدون عقد المؤسسة التعليمية التي تموضع المعلم في موضع الإمتياز الإجتماعي كممثل للسلطات بطريقة ما.هذا الإمتياز الذي تنتحله المؤسسة التعليمية الرسمية لأعضائها كان يضجر المعلمين من شاكلة بولا فتمرد عليه و كلفه خروجه موقعه في هيئة التدريس بعد عامنا الأول معه.مرة أردنا الدخول لأستوديو التلوين لنعمل في نهار الجمعة. و كانت الاستوديوهات مغلقة . تحايلنا حتى وجدنا منفذا لأستوديو تلوين السنة الثالثة من خلال نافذة الأستوديو. فدخلنا منها و كان برفقتنا بولا. و في أثناء انهماكنا في الرسم سمعنا صوت بسطاوي بغدادي [ العميد ] يخاطبنا في قلق من وراء الباب المغلق :" إنتو مين أداكم مفتاح الأستوديو؟" " مافي مفتاح يا استاذ ،أنحنا دخلنا بالشباك " فأطل بسطاوي لداخل الأستوديو من النافذة و فوجئ بحضور بولا وسط شلتنا. " يا استاذ عبدالله إنت برضو دخلت الأستوديو بالشباك؟ " فأجاب بولا بالإيجاب و استمر في رسمه. بعدها بأسابيع ، حين تخلصت إدارة الكلية من بولا بحجة واهية لامه بسطاوي ، في فضول القول غير الرسمي ،على كونه يرفع الكلفة مع الطلبة بطريقة لا تليق.!
في 1971 أذكر أن عبود كان يرسم بورتريه لصديقتنا الشفـّة. كانت الشفة تلتفع ثوبا عليه زخارف نباتية يغلب عليه اللون الأصفر [ كادميوم ].كان الأصفر يكسبها حضورا مشعا كما زهرة عباد الشمس و كنا نتابع تقدم عبود في عمل بورتريه الشفة بمواظبة و نتعلم منه بعض اسرار صناعة التلوين التي تجود بها يد عبود ، عفو الخاطر.مرة دخلت دار السلام لتستأنف العمل في لوحة لها. كانت تلتفع ثوبا ملونا بتنويعات من الأخضر الزمردي و الأزرق النيلي، خلعت دارو ثوبها و علقته على سلك كان يعبر وسط الاستوديو و ارتدت بلوزة العمل و وقفت ترسم. كل ذلك المشهد استهوى عبود فترك بورتريه الشفة و أخذ لوحة جديدة متوسطة و أخذ يرسم عليها دارو في عمق الأستوديو ترسم و بعض الأثاث و الثوب الملون مبذول وسط فضاء الاستوديو كمثل شجرة مزهرة.عمل عبود على ذلك البورتريه المزدوج لدارو في عمق الأستوديو و للشفة في اسفل المقدمة بسرعة كبيرة و بحرية في تركيب الألوان و انتهى كل ذلك إلى ذلك العمل الذي بقي مطبوعا في ذاكرتي حتى اليوم. بالمناسبة الصورة الفتوغرافية اعلاه تعاني من الإحطيطاب . لا أدري أين هو الاصل اليوم و أرجو أن تتمكن يا خلف الله من تقديمه بألوانه الحقيقية إن كان بالإمكان تصويره و بذله للناس .طبعا كلامي دا بعيد جدا من " شرح الكبّاية " الكبيرالذي شرع فيه كل من النور و صدقي ، لكن أنا شايف فنجاننا الصغير دا ضروري لتقعيد البراميل الكبيرة [الفارغة للنص أو/و المليانة للنص] في موضوع تاريخ كلية الفنون.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

يمكن القول، أن مما أسهم في جعل زمن العاصمة الخرطوم تبدو لمن عاشوا فيه في عقديْ ما قبل الاستقلال (1935-1955)، مضافًا إليها عقدا ما بعد الاستقلال (1956-1976)، (زمناً جميلاً)، استقرار أهل الريف في مدنهم وقراهم. فكوارث النزوح، والهجرات الملحمية من الريف إلى العاصمة، لم تكن قد بدأت بعد. كما لم تكتظ شوارع العاصمة وأحياؤها بالناس، ولم يضطرب ايقاع الحياة فيها، ولم تعصف بتمدنها القليل الذي اكتسبته، عواصف الترييف الكاسحة المتتالية. وكانت أعتى تلك العواصف العاصفة التي استمرت في الهبوب عبر فترة حكم الإنقاذ. في هذه الفترة تم نسف الاستقرار في السودان وأصبح كل شبر في البلاد تقريبًا "دار حرب"، بمصطلح السلف. فالعاصمة السودانية، على تواضع بنياتها التحتية، عند منتصف القرن الماضي والعقدين اللذين تليا، كانت الأمور فيها أيسر، بما لا يقاس، مما هي عليه اليوم. وكانت الحياة فيها أكثر رسوخًا. وكل شيءٍ آنذاك كان، إلى حدٍّ كبيرٍ، يمكن التنبؤ به. ولذلك، كانت بروق الأمل في المستقبل، لا تزال تتلامع فوق سمائها الحانية الرحيمة، حتى قال شاعرنا الكبير ود المكي: "وسنبدع الدنيا الجديدة وفق ما نهوى، ونحمل عبء أن نبني الحياة ونبتكر"، وقال روائيُّنا الأكبر الطيب صالح: "هذه أرض الشعر والممكن، وابنتي اسمها آمال، سننهض، وسنبني، وسنهزم الفقر بأي وسيلة".

وقتها، لم تدرك أكثريتنا أن تلك الحالة، ليست سوى حالةٍ عارضة، وأنها كانت محمولةً على أكتافٍ غير أكتافنا. وحين انسحبت تلك الأكتاف الأجنبية، سقطت تلك الحالة سقوط جرمٍ هوى من حالق. قرأت خيط ملاكو عوض زودي الذي افترعه الأخ عادل إبراهيم، وقرأت شهادات آل الخليفة، سناء وأبو بكر، اللَّذين تبرطني بهما من جهة أبي بكر صلة الجمهوريين، ومن جهة سناء صداقة آال الخليفة للجمهوريين، وأخص منهم أحمد جعفر الخليفة. حين قرأت شهادات سناء وأبي بكر، طفرت من عيوني دمعات، وقلت في نفسي: يا له من سودان ذاك الذي فقدنا؟! لقد أتاحت قبضة الإنجليزية الحديدية وإمساكها بغول الهوس الديني فسحةً للسودانيين ليعيشوا دين الفطرة لبضع عقود: "كل مولودٍ يُولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو يمجِّسانه، أو ينصِّرانه". "دين الفطرة" هي الحالة التي حاول الأستاذ محمود سوق السودانيين والمسلمين إليها. وعلى دين الفطرة، وفي واحدة من تجلياته، عاش أهل القضارف؛ يمانية، وأحباش، وسودانيون من مختلف الإثنيات والثقافات، وفتحوا النفافيج على بعضهم بعضا، بعيدًا ضيق أفق الإكليروس الإسلامي. قرأت رواية عبد العزيز بركة ساكن "الجنقو مسامير الأرض" وعرفت، كما لم أعرف من قبل، عوالم ذلك المثلث المختلط الإثنيات والثقافات، بين القلابات، والقضارف، والشُّوك.

الزمن الجميل الذي ظل يبكيه بعضنا، لم يكن زمنًا من صنعنا نحن، وإنما كان زمنًا من صنع البريطانيين، ورؤيتهم للمدينة الحديثة. وفي الإقرار بهذه الحقيقة وعيٌ بأصل مشكلتنا، وفيه أيضًا عبرة لمن يعتبر. والبريطانيون حين أتاحوا لنا، دون قصدٍ منهم، ذلك "الزمن الجميل" إنما كانوا يصنعون فردوسًا نسبيًا لأنفسهم بقدر ما تتيجه لهم ظروف المستعمرات. صنعوه ليكون عوضًا لهم عن ترك جزيرتهم الجذلى، التي وصفها الطيب صالح على لسان مصطفى سعيد حين قال:

"ثلاثون عامًا. كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق، وطير الوقواق يغني للربيع كل عام. ثلاثون عامًا وقاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفن وباخ، والمطابع تُخرج آلاف الكتب في الفن والفكر. مسرحيات برنارد شو ثمثل في الرويال كورت والهيماركت. كانت إيدث ستول تغرد بالشعر، ومسرح البرنس أوف ويلز يفيض بالشبــاب والألق. البحر في مده وجزره في بورتمُث وبرايتُن، ومنطقة البحيرات تزدهي عامًا بعد عام. الجزيرة مثل لحن عذب، سعيد حزين، في تحول سرابي مع تحول الفصول. ثلاثون عامًا وأنا جزء من كل هذا، أعيش فيه، ولا أحس جماله الحقيقي ولا يعنيني منه إلا ما يملأ فراشي كل ليلة".

صنع البريطانيون ما يعوضهم فقدهم لجزيرتهم الجذلى بسبب عيش المستعمرات. صنع االبريطانيون لأنفسهم عالمًا يخصهم ونلنا منه، دون قصدٍ منهم، فترة استجمام. صنعوه في السودان وفي كينيا وفي الهند وفي مناطق عديدة من العالم. كما صنعه غيرهم من المستعمرين، في مستعمراتهم. ولقد صوَّر لنا جانبًا من جنّات الأجانب في كينيا، فِلْم المخرج الأمريكي، سيدني بولاك، المسمى، Out of Africa، الذي تقاسم فيه البطولة كل من روبرت ريدفورد، وميريل ستريب. حيث قامت فيه ميريل استريب بدور بارونةٍ دانماركيّةٍ كانت تملك مستعمرة للبن في كينيا. وبطبيعة الحال، فهناك أفلامٌ أخرى كثيرةٌ جدًّا، صورت نعيم المستعمرات في إفريقيا، وفي غيرها من قارات الأرض. الشاهد، أننا جميعًا انتفعنا من زمن الإنجليز "الجميل"، الذي صنعه البريطانيون بقوَّتيْ الحديد والنار. ولو كان لنا أن نخرج من ذلك "الزمن الجميل" الغارب، بتذكرةٌ واحدة، فلربما تكون تلك التذكرة والعبرة، انتباهنا إلى أنَّ بعضاً من سرّ تلك الحالة العابرة من الاستقرار، وذلك الاحساس العابر بحلاوة الحياة، وطلاوتها، إنما يكمن في اختفاء الهوس الديني من حياتنا اليومية، وخفوت الخطاب الديني العصابي المتشنج وقتها، واتساع مساحات الحرية الشخصية. أما الحريات العامة، فقد كانت، كما هو معلومٌ، مقيَّدةً أصلاً بطبيعة النظام الاستعماري. ومع كبت الإنجليز للحريات العامة، ذاق الناس بعضًا من طعم الحياة الحقيقي. ولذلك ربما أمكن القول إن الإستعمار الحقيقي، لهو استعمار العقول بالمفاهيم الدينية القاصرة، وامساك العصاب الديني بتلابيب الناس. هذا ما نحن فيه اليوم، وقولوا "يا لطيف"!

ولو نحن أردنا "زمنًا جميلاً آخر"، فعلينا أن نعرف كيف نعيد صوت الهوس الديني، في حياتنا، إلى الخفوت مرةً أخرى، بعد كل هذ العلو والارتفاع غير المسبوق. كما علينا أن نعرف، أيضًا، كيف نرسم دستورًا انسانيًّا، يكفل الحريات العامة، الحريات الشخصية، ويحرس التنوع من غوائل العصاب الأحادي، وأن نعرف كيف نقيم دولة القانون والمواطنة، وكيف نعترف بالتنوع الفكري، والديني، والثقافي، فعلاً، لا قولاً. ودون كل أولئك خرط القتاد، ما لم نُحدث، في أمرنا هذا كله، اختراقًا تاريخيًّا استثنائيًّا، نعرف به مكمن علتنا التاريخية، وأين أضعنا شخصيتنا الحضارية، وكيف وأين تم احتلال عقلنا، وكيف يتسنى لنا استعادة كل عافيتنا التاريخية المضاعة، وكل ما ورثته الذات الفردية للسوداني، والذات الجماعية للسودانيين، على مختلف تكويناتهم، من فضائل تاريخية مشرّبة أفضل ما يكون التشرب بالمعاني الإنسانية النبيلة الخالدة، فلن يبقى أمامنا سوى البكاء على أطلال "الزمن الجميل".

ضاق السودانيون بطهرانية المهدية، بعد أن خبت بينهم شِرَّة الثورة. وهذا ما جعلهم يقفون موقف المتفرج حين جاءت الجيوش الغازية من الشمال بقيادة كتشنر. بل تعدوا مجرد الفرجة وذهبوا ليتعانوا معها استخباراتيًّا ضد "حكمهم الوطني" الذي أذاقهم الأمرين. ذكر بابكر بدري في مذكراته، أنه كان شاهدًا على معركة كرري، وكان يقف على مقربةٍ من حيث كان يقف خليفة المهدي حين يراقب سير المعركةمن مكانٍ مُشْرِف. قال بابكر بدري أنه يذكر بداياته مع المهدية حيث كان يفتح صدره لبنادق الأعداء من فرط إيمانه بمهديته. أما مشاعره أثناء معركة كرري فقد وصفها بما يمكن أن نقول عنه بلغة اليوم، مشاعر مختلطة ومشوشة. فقد ذكر أنه كان يراقب منتظرًا نهايته، ليبدأ فصلٌ جديدٌ مختلف عن سابقه. ولا غرابة، أن أصبح بابكر بدري بعد بضعة عقودٍ من نهاية المهدية الرجل الذي نعرف الآن. تحول الرجل من أنصاريٍّ طهراني، ليتحول في قفزة واحدة، إلى رائدٍ لتعليم المرأة في السودان! فهل يا ترى سيحدث هذا لبعض أهل الانقاذ، حين يكمل التاريخ هذه الدورة ويبدأ دورةً جديدة؟!

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فلقد شهدت واحدةً من لحظات الأستاذ محمود التي تعكس طول نظره وقدرته على قراءة المستقبل. كنا جلوسًا في حضرته، وكنا جميعًا صامتين. وهذه حالة تتكرر كثيرا في مجالسه، إذ يمتد بنا الصمت لفترة طويلة، ويتعمق، حتى لكأن المرء يسمع صوت أنفاس الجالسين، وخفقان قلوبهم. فجأةً قطع الأستاذ حبل الصمت المتصل، وقال ومن غير مقدمات: "الناس بيفتكروا أنو المهدية انتهت، لكن المهدية لسّه فيها باقي". وقد كتبت قوانين سبتمبر فصلاً مهدويًّا أولاً، وها هي الانقاذ تكتب فصلاً مهدويًّا أخرًا، نرجو أن يكون الأخير.

بهذه السياحة التي تخلط بين الفكر والتأمل والنوستاجيا، نمارس فعل العبادة. قال شاعر "عروس الرمال"، وإمبراطور "رومانس" منتصف القرن الماضي، غير المُتَوَّج، محمد عوض الكريم القرشي:

قالوا الحب عبادةْ
قلوبنا خلاص أبادا
سلّمتُ القيادةْ
لي رب السعادة

سنطوِّف على الربوع من علٍ بعينيْ صقر، وحين نقضي وطرنا من التحليق، ومن ممارسة "الصلاة الذكية"، كما أسماها الأستاذ محمود، سنعود إلى تفاصيل كلية الفنون ويومياتها، ويا لها من يوميات، ويا لها من تفاصيل.
(يتواصل)
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

تم حذفه بسبب التكرار، معذرة
آخر تعديل بواسطة Elnour Hamad في الجمعة مارس 29, 2013 2:30 pm، تم التعديل مرة واحدة.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
الفاضل الهاشمي
مشاركات: 2281
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:14 pm

مشاركة بواسطة الفاضل الهاشمي »


ياله من خيط مُمتع وغني...

عزيزي النور حمد شكرا للتفاكر الهادئ الجميل فى مَغْنى حزب الفنانين والفنانات الذى يشدّنى شدّاً (خاصة والليل هدا عندى وناموا العِدا كما يقول مغنى الزمن الجميل)


دعني اقتطف من رياضك هنا مطوّلاً "من كل روضه عينه ومن كل عينه زهره " . تقول ان الاستقرار النسبي التي أحدثه الانجليز خلق زمناً جميلاً فى السودان و:


"نهضةٍ فكريةٍ، وثقافيةٍ، وفنيةٍ، كبيرة ذاق ثمراتها كل السودانيين، بمختلف طبقاتهم، ومختلف مستويات تعليمهم وادراكهم، بما فيهم الأميُّون. أنتجت فترة الاستقرار هذه في بداياتها، في الثلاثينات من القرن الماضي، روائع شعر الحقيبة، التي لا تزال تعيش بين ظهرانينا حتى اليوم. كما أنتجت بُعَيْد الأربعينات بدائع منظومة غنائنا الحديث، شعرًا، ولحنًا، وأداءً آليّا موسيقيٍّا." ليس ذلك فحسب لكنها بعد ذهابهم بعقد من الزمان (والكلام الى د. النور) "أزهرت في عقد الستينات، من الشعر الفصيح؛ الحديث منه والعمودي، ما لا يزال يدهشنا حتى هذه اللحظة. أنجبت هذه الحقبة في غير ما ترتيب كرونولوجي وغير ما حصر: خليل فرح، وحدباي، ومحمد علي الأمي، وعلي المساح، وأبو صلاح، وسيد عبد العزيز، ومحمد ود الرضي، وعمر البنا، ومصطفى بطران، وعبيد عبد الرحمن، وإبراهيم العبادي، وعبد الرحمن الريح، وعلي محمود التنقاري، ومحمد عوض الكريم القرشي، وإسماعيل حسن، وحسين بازرعة، والطاهر إبراهيم، وإبراهيم الرشيد، وعوض جبريل، إلى اسحق الحلنقي، وفضل الله محمد، وتاج السر عباس، ومن زاملوهم. كما أنجبت من المغنين: كرومة، وسرور، والأمين برهان، وإبراهيم عبد الجليل، وإبراهيم الكاشف، وحسن عطية، وأحمد المصطفى، وعثمان حسين، والتاج مصطفى، وعبيد الطيب، وعبد العزيز داؤود، وعثمان الشفيع، وإبراهيم عوض، ومحمد وردي، وأحمد الجابري، وسيد خليفة، إلى زيدان وأبوعركي ومن زاملوهم"

انتهى الاقتباس الغني بأهله.

هل كل هذا الكلام يا سيدي معطوف على الاستقرار النسبي الذي احدثه الانجليز وبسْ؟
لابد ان هنالك مقاومة شرسة تمّت لهذا الاستقرار النسبي على طول البلاد وضمنه حركة 1924 فى العاصمة (ودحبوبة ومقتل شقيقيْ عبدالرحمن المهدي الخ) . اقول مقاومة وشرسة كونه فى سياق زمانه لم يكن استقراراً ؛ ونسبيته ننزلها نحن عليه من عطب حالنا ومآلنا ) .
هذه المقاومة عبّر عنها كثير من الفنانين والفنانات المذكورين فى قائمة الشرف والمجد أعلاه فى انتاجهم الفني (ومنها كررى تحدّث عن رجالٍ الخ) . وربما هذا يطرح مفهوم آخر هو الاستقلال النسبي للفن والثقافة الخ.
ذاك الثراء الفني او مركزيته تحتاج الى بحث ومناهج كثيرة. وضمنها أقرأ هذه الايام يا عزيزي النور كتابك المستنير "مهارب المبدعين" ولابد ان في طيات مهارب المبدعين نافذة ما للوصول الى خيبة الهاربين وتضحيات غير الهاربين وقوائم المقتولين معنوياً وعدييييل كدا فى قائمة الشرف الاخري حتى يومنا هذا وكلنا نغني لهم ولهن وبهم وبهن كشهداء وشهيدات (تاني جبنا سيرة الشهداء والصديقين يا حسن موسى).

طبعاً لو رأي ثوار 24 فى مسشفى العيون ذلك الاستقرار النسبي لما ثاروا ولا يحزنون. وكذلك ناس ودحبوبة وووو ...

كنت اقول بالامس الى صديق ان الغناء السوداني (المركزي) حمّال أوجه ، فقط ركّز على مفهوم ما ومنهج ما ، ثم انظر الى قاعدة معلومات الغاء السوداني . سيكون بحوزتك حزمة كبيرة منه تعالج ماتطلبه. أقول المركزي كون كل هذه (الظيطة والظمبريطة) ذات "الحقيبة" التى تطيش باللباب مع التِرم تِرم لم تستصحب الغناء الشعبي فى الحديقة الخلفية (الباك يارد) فى البطانة وكردفان مثلاً ؛ حتى لا نذهب بعيدا الى ثراء الشرق والجنوب الفني الخ. وهذه جزء من مشاكل تنموية حضارية اخري فى انتظار البحث والتنقيب.
فى ظني يجب البحث فى اصول الغناء السوداني فى المركز (ولابد ان نفرّز بين الاقاليم الغنائية فيه) العربسلامي على أكتاف المسترقين والمسترقات حيث كان الفصام (الشيزوفرينيا) بين فضائيْن: عالمين ومكانيين وزمانيين واحد للعبيد والخدم وواحد للسادة. فى الاول الغناء والخمر وماملكت الايادي وفى الآخر اسواق الرقيق وشرف القبيلة. ودا كلّو موثّق غنائياً (والطيب صالح برضو ما قصّر) حيث كان الغناء فى العقل العربسلامي (العثماني والمهدوي كما تؤكد مهارب المبدعين) من المحاذير يقوم به الوضيعين والوضيعات لتسلية السادة والسيدات وملاك الرقيق والملوك والمكوك. من لدن ذلك الفصام اتى الهاربون (من مغنين أرقاء وحرفيين ومنتجين صغار وافندية برجوازيين صغار تضمهم القائمة أعلاه من الاسماء ، حتى "ماهان فرسان لنا") ؛ هاربون من كل شيئ ؛ ثم أتي الراكزون (غير الهاربين) الثابتون (قل الطالعون للربا والتلاف) الى كل شيئ بما فيه الموت والاعدام الذى شمل جد عيالك يا النور (حتى لا اقول شيخ الشهداء ، ويقوم حسن موسي يقول لي انت يا الهاشمي ياتوا انتخابات شيّخت فيها احد الشهداء!!) .

هذه تفاكير سريعة فى الاطروحة التي قضّ مضجعها زلزال وزلزلة المعاصر فطفقت تسائل استقرار الانجليز النسبي والزمن الجميل لغاية "ياحليل عبود ونميري" عند آخرين على سبيل منطق الانزلاق والتدحرُج المنطقي فى مقاربات لن تقف.

شكرا مرة اخرى عزيزى النور على مجهود "مهارب المبدعين" المقدّر. هذه الايام أقرأه بعين ؛ وبالاخرى أتاوق على عمايل غير الهاربين ...

مودّة ومعزّة محفوظة حتى للهاربين ... ومن الضفتيْن نستقى حتى نستبين على طريقة تكّف عنا سوء العذاب الحاصل علينا..

سؤال جانبي وانصرافي :

انتو ياجماعة الخير ماذا نفعل ب/ ومع الهاربين من أمثال ياسر عرمان ومنصور خالد ومحمد يوسف ؟؟؟

الفاضل الهاشمي
The struggle over geography is complex and interesting because it is not only about soldiers and cannons but also about ideas, about forms, about images and imaginings
ادوارد سعيد "الثقافة والامبريالية 2004"
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

عزيز الفاضل الهاشمي
أولا اشكرك على إشادتك بكتاب "مهارب المبدعين" وشهادتك شهادة قارئ بالمعني الحقيقي لكلمة قارئ، ولذلك لها عندي وزن خاص.
بمداخلتك فتحت باب "التفاكير"، كما يعبر حسن موسى. والتفاكير هي ما سأل عنها صديقنا صدقي كبلو. حركة 24 كانت امتدادًا لاغتيال أولاد المهدي في الشكابة ولانتفاضة ود حبوبة، ولانتفاضات أخرى متفرقة ثارت هنا وهناك، بعضها كان عيسويًا، تسقطً فيها اصحابها النبوءات الصوفية بأن عيسى يأتي بعد المهدي، وقد قمعها البريطانيون بغير هوادة، خشية أن يواجهوا من جديد ما واجهتهم به المهدية مُمثَّلين في شخصية غردون. وعمومًا لم يكن المزاج العام ذا استعداد لأي اضطرابات جديدة. فالناس قد خرجوا من فترة اضطراب طويلة استمرت قرابة العشرين عام، هي عمر الحقبة المهدوية. الاستاطات الوطنية patriotic على حرمة 24 اسقاطات بعدية في صناعة تاريخ النضال الوطني. حركة 24 لم تكن حركة وطنية استقلالية، وإنما وقعت في إطار الاحتلال المصري لعقول السودانيين بواسطة المستعمرين المصريين، وهذا احتلال لا نزال نعاني منه، وهو يحتاج مفاكرات كثيرة، لأنه غير متناول كما ينبغي، حسب وجهة نظري. فلو نجحت ثورة 24، وما كان لها أن تنجح اصلا، لاستبدلنا الاستعمار الإنجليزي باستعمار مصري. بعد حركة 24 التي لم يكن لديها سندٌ جماهريٌّ كاف، لأسباب عديدة، سكنت البلد، هونًا ما، حتى نشأ مؤتمر الخريجين، وبدأ النضال "السلمي" من أجل الإستقلال وهو ما أتي بهذا الاستقلال الهش الذي سرعان ما انهار كملح ذاب في الماء.

النضال الذي اتخذ شكل تبادل المذكرات بين الخريجين والبريطانيين لم يكن ليجبر البريطانيين على الخروج من السودان. ولا زال: لماذا خرج الإنجليز من السودان بتلك السهولة، يؤورقني ويقض مضجعي. و(العارف يقول لينا بالله). تقاعس الخريجين عن لنضال العنيف هو هذا ما قاد الأستاذ محمود محمد طه إلى اشعال ثورة رفاعة التي انتهت بسجنه. لم تجد انتفاضة رفاعة التي قادها الأستاذ محمود، هي الأخرى، سندًا جماهيريًا، واستمر جماعة المؤتمر في تبادل المذكرات مع الحاكم العالم البريطاني وإدارته. وانتهت بمحاكمة الأستاذ ممود وسجنه.

فترة الهدوء التي أشير إليها هي فترة 1938 - 1956. وهذا تقريب بطبيعة الحال. ولا يعني أنها لم تتخللها اضطرابات، لكن الإضطرابات كانت معزولة ومحدودة. منها ثورة رفاعة التي قادها الأستاذ محمود، ومنها أحداث الجمعية التشريعية التس أشعلها الأنصار. الشاهد أن الحياة المدينية كانت منتظمة، والقطر مستقر، والطبقة الوسطى كبرت وأصبح الهدوء مواتٍ للجميع. هذه هي الفترة التي أنتجت أفضل ما في حصيلتنا في السودان من فكر، وأدب، وغناء، وموسيقى. هل كان انتاج مركز؟ نعم. هل نحتاج أن نراجعها لنرى أين كان الهامش؟ نعم. هل نحتاج أن نقاربها بمناهج متعددة؟ نعم. كل ما تفضلت به يا الفاضل صحيح. نحن لم ندرس، حسب زعمي، تاريخ السودان، بالقدر الكافي الذي يعين على تشكل رؤى جديدة، وفتح مسار معافى للنهضة. غير أننا نقترب من ذلك، وفي أمور النهوض بعد القعود الزمن عنصر أساسي لا يمكن القفز من فوقه. المهم هو حث العقول لتخرج من الراكد إلى المتحرك.
مع تحياتي ومودتي
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »

الأعزاء عبود والصحاب، سلام .. سلام ، كما تقول يا عبود.
كتب عبود :-"
إقتباس " يا صديقي العزيز النور حمد
سلام ... سلام

أحمد سيد أحمد قاعد يقرأ ولكنه غتيت وبيقول أنه بيكتب بمزاج ... ها ها ها
لكن أنا محضر كلام كتير جدا ولكني قلت أستانس بالتحليل الجميل الذي تكتبه ولا أقطع عليك الوارد ... ثم أن زوجتي وأختك الأستاذة جواهر متوعكة بصورة شغلتني عن الإنترنت ...على أي حال سوف أكتب ... وسابدأ بالكتابة عن زميلاتنا حسب طلب الأخ صلاح النصري وهو طلب في محله ... وقد شهدت طالبات الفنون مشاكل كثيرة من زميلاتهن في جامعة الخرطوم اللائي كن يجئن منعمات ومستغربات من ( غبشة ) زميلاتنا المناضلات في كلية الفنون في العمل اليدوي والتجرد من حركات البنات المظهرية.
ثم سأكتب عن الأستاذ سمير جرجس الفنان السياسي النشط والعجيب جدا... ثم عن ود البلد القبطي الشهم صديقي وأستاذي نصيف إسحق صياد الطيور والحيوانات البرية وعبقري الخزف. " إنتهى


أولا سلامة زوجتك الأستاذة جواهر وأرجو أن تكون الآن فى أتم الصحة والعافية.
وهمسة فى أذنك يا عبود، إنت قاصد جرجس يا تو؟ عندما قلت إقتباس:

" ثم سأكتب عن الأستاذ سمير جرجس الفنان السياسي النشط والعجيب جدا"

أظنك تقصد جرجس نصيف سلامة ( ا لكلية ) وليس سمير جرجس الذى رحل قريبا. علما بأن كلاهما كان سياسيا.

والقصة يا جماعة إنو عبود وفى محادثة تلفونية بيننا
سألنى عن سبب غيابى ولقيتو ماهو عارف، إنو مرات أكون بعيد من لوحة الكمبيوتر ( عربى ) وأستطيع أن أقرأ فقط كما أخبرته. وحتى عندما تتوفر الوسيلة أحيانا تكون هناك موانع أخرى.
أتمكن من المشاركة فى البوستات التى يكفى فيها التعليق القصير أو العاجل حسب طبيعة البوست المعنى.
وحول هذا ضحكت مع عبود وقلت له أنى أكتب حسب المزاج ، زي ما كنت فى كلية الفنون أرسم بالمزاج !

أما هذا البوست وكما يدل عليه عنوانه فيحتاج إلى مهلة و ليست لدي مادة معدة مسبقة. وكلها مواضيع وأسماء ترد بالمناسبات وحسب الخاطرة.
الراس مليان ذكريات وحكاوى ، بس لآلام الظهر مين يداوى .! عشان الزول يقدر يقعد للكتابة الطويلة عندما يتوفر الزمن.

الشيئ الآخر هو إنو عبود نكت مواضيع مثيرة للذكريات والشجون وبذل رسومات بعثت ذكريات أخريات كثر.( عمر خيرى وذلك الإسكتش ولى عودة له . خضر بشير موضوع يستحق وقفة وتعليق. )

شاءت الظروف أن كان فاروق خضر وشخصى الذين ذهبنا للإتفاق مع الأستاذ خضر بشير، ولهذا قصة لا تنسى سأرويها، وما أعقبها من حفل ومواقف.

أما عندما أعلن عبود عن نيته الكتابة عن " بنات الفنون " فهنا توقفت الحركة، وكان لا بد من الإنتظار والترقب.!! خاصة وكان أخونا صلاح النصرى قد كتب: إقتباس
"... ولكن لدي ملاحظة وحتي يكتمل توثيقكم لتلك الفترة , لو تطرقتو لسيرة بعض زميلاتكم من الفنانات , لانه ليس هناك أي ذكر لدور المرأة السودانية في الحركة والمدارس الفنية، قد نعول علي قلة العدد لكن قطع شك لكم زميلات." إنتهى

عرض حسن موسى بعض لوحاته ورسوماته ذاك الزمان ووعد بالمزيد، فأسال اللعاب وفتح الشهية وشجع على أن نراجع أضابيرنا لنشارك بما عندنا. فتلك الصور قادرة على أن تحكى وتجلب الكثير من التعليقات والملاحظات عن الكلية ، زمانا ومكانا ، إنسانا وطرائف وحكم ومناهج. كلو زول يذكر زول. وكما قال لى حسن مرة " الزمن داك الكمرة غير متوفرة كما هي الآن." لذا أهمية الإسكتش واللوحة.
وفعلا بالرغم من معرفتى للراحل عمر خيرى، وذكرانا له " أيام الكلية "، إلاَ أن الإسكتش
الذى رسمه له عبود وعرضه علينا هنا له مفعول السحر فى وصف حالة عمر خيرى وهو
يرسم. تلك الإنحانة والإندماج سيتعرف عليها كل من عرف عمر بدون علامات الوجه والصفات
الأخرى له. هذا غير جمال الخطوط وسهولة التعاطى معها عند عبود. هل أقول زمان؟!

سعدت كما أثق أن الكثيرون قد سعدو بإنضمام الأخ النور حمد للبوست ، وإنعاشه لذاكرتنا وتحريك أشجاننا.
خاصة وصفه للأمكنة كالمقرن وحياة الداخلية.
( سأعود للحديث عن الميزات وساكنيها ).

وإختار النور أن يكتب تحت ما عرفه ب : إقتباس
" وأعود لخيط التشكيليين عن ذكريات كلية الفنون وهي ليست ذكريات وإنما reflection،
وتفكُّر في ما قطعناه من هذه الرحلة المضنية." إنتهى.

وده كلام عايز تأمل " براه. وقد يتضح مفهوم النور أكثر من طريقة أو منهج وغاياته فى الكتابة عن الموضوع.
لأنه من المتوقع أن يكون لكل مشارك/ه تصوره/ها عن الذكريات، مضمونا ، نوعا وكما وسقفا.


وأخصه هنا برسالة مشاغبة.!
سلام يا النور
" سمعتو وللا جابو ليك "
أو " لعل المانع خيرا "
أو " ليطمئن قلبى "

كتب عبود : إقتباس
"
شكرا للصديق العزيز أحمد سيد أحمد على إفتراع هذا الخيط الذي لن أمل من الكتابة فيه ... والذكريات ذات طعم خاص لمن يجترها ..
واضم صوتي لأحمد في الدعوة للزملاء في المنبر للكتابة عن كلية الفنون وجوها العجيب... "

كنت أنا قد كتبت :-"
عبود، سعادتى لا حدود لها بوجودك معى فى هذا البوست."
وكتبت أنا أيضا :- "
" كلما إتونست مع بولا يا عبود يعيد ويكرر إننا - كلنا - لازم نكتب
الذكريات عن أيامنا فى كلية الفنون. إيه رأيك تكتب، خاصة وإنك ( وقد لا يعرف الكثيرون) كاتب رائع من زمان.
وأضفت :-
"أخونا النور حمد كتب قبل سنوات فى هذا المنبر ذكريات حميمة ولطيفة. ( وبرضو أشار إلى بإسم محمد سيدأحمد )! ......إلخ
وكتب عبود أيضا: إقتباس
" يا سلاااااااااااااااااااااااااااااااااام
يا صديقي العزيز أحمد ورفيق الشباب والفن والمزاج.
لقد أعدتني إلى ايام جميلات عزيزات تشكّل فيها مزاجنا الفني والثقافى...إلخ" إنتهى

كلية الفنون وشريط الذكريات
[ انتقل الى صفحة: 1, 2 ]
37 Ahmed Sid Ahmed
2294 الاحد مارس 10, 2013 6:35 pm
Elnour Hamad


عزيزى النور،
بعد هذا كله وبعد أن شرفتنا بحق، وبصحبة العنوان أعلاه! كتبت أنت، إقتباس:- " أدناه :

Elnour Hamad

"

ارسل: السبت مارس 09, 2013 9:34 am موضوع الرسالة:
________________________________________
[color=] [/color]سلام يا جماعة الخير، كما يقول عرب الخليج.
شغلتنا عنكم "الدنيا أم قدود" كما تتواتر مرارًا إشارات حسن موسى إلى هذا التعبير. .....إلخ

ثم قلت:"
وأعود لخيط التشكيليين عن ذكريات كلية الفنون الذي افترعه عبود."




وأخيرا بعدها كتب عادل السنوسى :
إقتباس
"
عادل السنوسي



اشترك في: 09 مايو 2005
مشاركات: 523 ارسل: الاحد مارس 10, 2013 2:43 am موضوع الرسالة:
________________________________________
[color=]خلف الله عبود كتب:
شكرا للصديق العزيز أحمد سيد أحمد على إفتراع هذا الخيط
[/color]الذي لن أمل من الكتابة فيه ... والذكريات ذات طعم خاص لمن يجترها ..
واضم صوتي لأحمد في الدعوة للزملاء في المنبر للكتابة عن كلية الفنون وجوها العجيب...
ا



ثم عدت أنت بعدها مواصلا الكتابة اللطيفة وعبرت الأمر بلا توقف أو مراجعة.!

عزيزى النور ، لا يغيب عن فطنتك ولا فطنة القارئ/ة أن غرضى ليس إستحوازا على
البوست وإمتلاكه, فقد كان يمكن أن يكون عبود ، أو أي من الأصدقاء والصديقات. ولا
هو سبب معاتبتى أو " مشاغلتى " لك. ولكن غياب إسمى من ذاكرتك وعن نظرك إلى هذا الحد شغلنى قليلا. على نفسى وأيضا عليك.

على نفسى ، قلت النور ده أكون إتلومت معاه فى شى وأنا ما عارف. أو كما يقال " سمعتو واللاّ جابو ليك"!
ودى مشكلة إن تأكدت فلا بد من معالجتها ، ونحن فى زمان صار سوء الفهم والتفاهم ياتيك من حيث لا تحتسب.!
وعليك، قلت نحن - بعض - أصدقاء عبود نتهمه ( عبود ) بالسرحان والنسيان ، مازحين حينا وجادين حينا آخر،
فماذا جرى للنور؟!
ولأجد لك عذرا ولنفسى براءة من مأخذ عليَ ، قلت ربما لم يقرأ النور ما سبق من قبل , وجا نازل كتابة.!
" وهنا تبدو قضية "! كما قال الشاعر فى موقف مختلف.
( والحمد لله فى كتاباتك الأخيرة وأنت تستعرض أسماء من زاملتهم ( بعد أن أشار إليهم حسن موسى ) ذكرتنى حتى الإسم مثلث " طبطب"!)
وهناك قصة مع الأستاذ حسين جمعان بهذه المناسبة سأحكيها لك/م/ن.
وأخيرا ، لولا تقديرا منى لك ، لما شغلنى ذلك ، ولما شغلت القراء به، ولقضيت الأمر بتركه.
ربما المسألة نوستالجليا لشغب زمان.!
ومرحبا بك مرة أخرى، والبيت بيتك يا النور يا ضو البيت.

يتبع ....مسافة السكة!
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »

كتب عادل السنوسى : إقتباس
" الأخ العزيز خلف الله ، سلام و1000 تحية، قرأت دعوتك الكريمة للمشاركة في هذا الخيط في وقتها ، ولكني لم افعل تردداً.........إلخ.
.
الأخ عادل السنوسى ،

سلام وتحية ليك ومرحبا بك مشاركا وشريكا معنا. ياخى ما تتردد والذكريات
حلقات متصلة ومتواصلة. ومافى عامل سن يقف عائقا. وسميتنا مازحا " ديناصورات " وكنا قد سمينا
أخرين قبلنا " ديناصورات " ، وسمو هم من قبلهم " ديناصورات ".! شنو ليك. وبعدين تاريخ الكلية
الكلية كلو لم يتجاوز نصف القرن إلاَ قليلا. وأي زول فينا هنا بيكتب عن فترة لا تتعدى الأربعة سنوات
التى قضاها فى الكلية. وفى السابق كانت ثلاث سنوات فقط. وقس كل ذلك بعمر تاريخ التعليم الحديث فى السودان - الحديث - القصير.
وقس الأخير بتاريخ الشعوب.

كل زول يا عادل لو كتب عن بعض التجارب والذكريات التى عاشها فى الكلية ، أو عن الكلية من غيرإنتساب، وبدون ترتيب ، ولا أسبقيات،
سيتجمع لدينا رصيد هائل كما ونوعا من الذكريات والمعلومات المفيدة والطريفة. كل ذلك سيؤدى إلى فائدة عظيمة.

لسنا هنا - فى تقديرى - بصدد بحوث أكاديمية. وإن خلصنا لما يفيد فى بعض التوثيق لتلك الفترات فى كلية الفنون
يكون فى ذلك خير كثير

ياخى الأسماء التى ذكرتها من الذين تعرفت عليهم أنت كمعلمين، نشتاق لسماع حديثك عنهم. فقد عرف البعض منا بعضهم كزملاء.


ما حدث فى الكلية فى فتراتكم وما كان يجرى وحال الكلية من معايشة من سبقونا ، والذين أتو من بعدكم، ده المطلوب.

العجايز عايزين يعرفو الحاصل دلوقت، وناس دلوقت عايزين ومن حقهم يعرفو ما مضى. القصة لا تباهى لا تباكى. تباهى بعض الناس والحال من حولهم يبكى،
وبكى البعض والحال من حولهم يتباهى به آخرون.!

سأحاول أن أنقل بعض ما سمعته من ذكريات ودردشة مع الأساتذة محمد أحمد أبارو ومحمد الحسن عبدالرحيم " الشايقى "،- عملا بالتدريس بالكلية أوئل الستينيات -
وكان من طلابهم ناس جرجس وجمعان.!
وهما من طلاب الأستاذ عثمان وقيع الله والصلحى. والصلحى من طلاب عثمان وقيع الله.!

فاكتب واستكتب بالله عليك.

" عشان الحاجات تبقى كويسة ".
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »

إلى أخونا صلاح النصرى وكان قد كتب: إقتباس
"

'سلام لكل الفنانين
.....ولكن لدي ملاحظة وحتي يكتمل توثيقكم لتلك الفترة , لو تطرقتو لسيرة بعض زميلاتكم من الفنانات , لانه ليس هناك أي ذكر لدور المرأة السودانية في الحركة والمدارس الفنية , قد نعول علي قلة العدد لكن قطع شك لكم زميلات."

يا أهل الفنون كايس لي معلومة , حسن البطل هل هو حسن مكرنجة الرياضي وكان حارس مرمي ولا عب كارتيه , منتصف السبيعنات علي ماأذكر ذهبت لكلية الفنون لا أداء أمتحان القدرات ووجدت حسن مكرنجة موجود بحوش الكلية , وكان معي صديق الله يطراهو بالخير قال لي أحسن نرجع لي جامعتنا بدل نشيل خانة و الحكاية دي مانقدر عليها, وكان الكلام ده بعد سؤالنا عن جدول المحاضرات ووجدنا من الصعب التوفيق بين الدراستين , وأظن أن أسم مكرنجة جاء من كورة القدم فريق التضامن تحديدا والأخ حسن الذي أعنيه من سكان الثورة, وتربطني به معرفة وهو فنان عصامي " إنتهى

يا صلاح ، حسن البطل كان عاملا " تيكنشن " فى الكلية، كان يسكن الثورة ، وكنا نزوره هناك. بيته متحف وهو فعلا فنان عصامى.
وكان فنانا مبدعا ذى سيرة عطرة. أجرى صديقنا العزيز النور أحمد على معه حوارا
ثريا طويلا. إن تمكنت سأبذل لك رابطه. لا أدرى عن لقب مكرنجة.علمت بوفاته قبل سنوات له الرحمة.

بالله يا صلاح أحكى لينا أكثر عن ما كان يمكن أن يكون تجربة عظيمة وأنت تقول:
إقتباس " منتصف السبيعنات علي ماأذكر ذهبت لكلية الفنون لا أداء أمتحان القدرات ....إلخ
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

و با بكر دينج

مشاركة بواسطة حسن موسى »

و با بكر دينج
كنت أتجول وسط زحام الزوار بين الأستوديوهات لمشاهدة معارض خريجي 2009 .هالني العدد الضخم للخريجين [ بالمقارنة مع أيامنا أظن أن دفعتنا لم تتجاوز الأربعين شخصا ]. فجأة وجدتني ، وجها لوجه مع " أستاذ بابكر " ـ كما كان طلبة قسم التلوين ينادونه ـ فهش في وجهي " حسن موسى! إنت وين؟؟" فسألته بدوري " إنتو وين إنتو؟! و ضحكنا ثم وقفنا بضعة دقائق نستعيد ذكريات الكلية في السبعينات. تلك الدقائق كانت من أسعد لحظات زيارتي ذلك اليوم.

صورة
أضف رد جديد