صدقي كبلو كتب:[font=Arial]يا وليد يا أخانا البعيد
التأصيل القاموسي لا يكشف عن المعنى الذي استعمله مكي، بل العودة لرؤية حسن حول الغابة والصحراء قد تفتح الباب الآيديولوجي لاستعمالها، فالغابة والصحراء ترى في سنار ليس مجرد تحالف سياسي، ولا اندماج ثقافي، بل تصاهر نتج عنه شعب خلاسي في إحدى قراءاتها، فهل يعني ذلك اكتمال التكوين العرقي السوداني؟ أم ما زالت التعددية هي السمة للأعراق والثقافات لشعوب السودان؟ لذا طالبنا بأن تكتب كما هي لحمولاتها هذه والتي تنقل القراءة من إمرأة خلاسية جميلة وهن كثر في السودان، إلى وطن خلاسي وهو موضوع للخلاف، لذا قلت لمكي في رسالة خاصة ردا على نعيه الغابة والصحراء بانها أنتهت، بأنها عائشة، وكنت أقصد أن شعرها ما زال مقروءا وجميلا ويحمل أفكارها كان نرضى كان نابى، وجمال الشعر وعذوبته لا يعني التجاوز عما يحمل من معاني!1
سلام يا وليد ، طبعا القاموس ما بخارجنا من عواقب هذه العبارة المفخخة بالنقاء العرقي و الديني و لو وجدت فجوة في حائط المشاغل الذي يعلو أمامي هذه الأيام لبذلت بعض الإستطرادات على أثر التفاكير التي وردت في نصي "شبهات حول الهوية"
"..
إن هشاشة و ضعف البنى و المؤسسات الإقتصادية و السياسية في السودان، تلعب دورا كبيرا في ظاهرة التبدل و التغيرات المفاجئة التي تعانيها توجهات الدولة السياسية.و هو أمر له عواقبه المباشرة على صعيد الخيارات المتاحة لـ "أفندية" الهوية السودانية في التعبير الرسمي الدولوي.فحين يرتفع صوت مثقف و أكاديمي رصين مثل محمد عمر بشير، في " ندوة الخرطوم الإفريقية العربية للتحرر و التنمية" ، عام 1975 ،قائلا بأن " التحرر و التنمية لا يمكن تحقيقهما إلا بالإعتراف بالتنوع.. و الحاجة الآن ملحـّة إلى صوغ مفاهيم جديدة عن الوحدة الوطنية و تطويرها لتحل محل المفاهيم القديمة البالية"، حين يقول محمد عمر بشير هذا الكلام فهو إنما يبني مقولته على معطيات واقع سياسي فحواه أن" الإقتناع الفكري بالتنوع الثقافي كأساس للوحدة القومية اتخذ شكله القانوني و الإداري بـ " إتفاقية أديس أبابا"[..] التي تم التوصل إليها عام 1972".
غير ان الواقع السياسي لدولة الطبقة الوسطى المدينية( المايوية) إنما هو واقع نزق ، متقلب و عشوائي لا يعوّل عليه إلا من يعوّل "على الراكوبة في الخريف".ففي أقل من عام من تاريخ إنعقاد " ندوة الخرطوم" التي انطرحت عيدا للفكرة التعددية شرع نظام مايو في تحالفاته مع قوى المحافظة العربسلامية محليا، بمباركة قوى المحافظة " الشقيقة" في العالم العربسلامي، و دارت لجان إعادات النظر في القوانين و الأعراف و العادات و التقاليد تنشط في إعادة أسلمة الفضاء الثقافي و خرج الرئيس النميري على نص دستور دولته الذي يساوي بين المواطنين( على إختلاف معتقداتهم) حين أعلن في خطابه أمام" لجنة إعادة النظر في القوانين"، في 16 أغسطس 1977 :
"و لما كان القانون أداة توحيد يتحقق عبرها التجانس، فإننا باستلهام شريعة الإسلام كمصدر لكل قانون، ينبغي أن نستلهم من الإسلام روحه و من واقع السودان المميز حقيقته، بحيث نحقق في النهاية وحدة إطارها الإسلام".
كام ذلك زمان تراجع دعاة التعددية أمام صعود" الإسلاميين" المسلحين بالغوغائية الدينية و" البترودولار"، و تحوّل نموذج السوداني من حال " التخلـّس" العرقي و الثقافي إلى حال "التخلـّص" من كل عرق أو ثقافة لا تنضوي تحب راية العربسلامية الصاعدة..
و كانت الحرب من جديد. حرب تستهدف كل ميراث الحركة العلمانية في السودان، بل و تتجاوز حدود العلمانية لتستهدف رموز الإستنارة الدينية الإسلامية القمينة بطرح نقد ديني معارض للإسلاميين السلفيين .
و كان على أفندية الهوية أن يتراجعوا عن كل ما نكصت عنه دولة
" الإمام" جعفر النميري، فأخلوا " الغابة " و تركوا أهلها تحت رحمة المليشيات المسلحة بتواطؤ السلطات العربسلامية [ في الضعين و الجبلين..]، و استكان جلـّهم في " صحراء " العقيدة البراغماتية باسم " الإسلام السوداني"، و غضوا الطرف عن قطعان " البغال" الخارجة من الأباريق، تمضي نهارها في " قطع الجمار" و الأيدي " مع خلاف" و تحلم بإقامة دولة خلافة " نيو إسلامية" تعطي واقع الإلحاق الإقتصادي نبرة دينية محلية.
كان لا بد لـ "حلم" التمازجية السودانوية أن ينمسخ "كابوسا" استبعاديا موجعا.فهو مشروع تأسس على محور الثقافة العربية و الدين الإسلامي الذي تتمتع الطبقة الوسطى المدينية العربسلامية فيه بموقع الحظوة بين أقوام السودان الأخرى : كل تلك الشعوب و القبائل المحسوبة، إحصائيا ،في الوطن، و المنفية، تلقائيا، من مواقع المبادرة الوطنية بذرائع العجمة اللغوية و العجمة الثقافية و العجمة العرقية.
نعم كان لابد لـ "حلم" التمازجية أن ينمسخ " كابوسا" و التعبير الفني لفكرة الهوية السودانية يتلوّن على نحو حربائي وراء التحولات في سياسة دولة تمسخ مبدعيها و مفكريها إلى مجرد منفذين للـ "تعليمات" و الأوامر. دولة تبدّل في هوية البلاد كلما تغيـّر فريق " المنقذين" الموسميين على سدة السلطة. ترى هل كان كل أدب الهوية السودانية ( بشقيه : التمازجي و الإستبعادي) مجرد " شغل حكومة" ينجزه أفندية الخدمة المدنية المثابرين الذين تعوّدوا أن يعمّروا " خيمة الحكومة" في مُولد الهوية لقاء الـ " أوفرتايم " و " الفايدة"؟
هذه العلاقة العصيبة بين السلطة و مثقفيها ألقت ظلالها الكثيفة على الطرح الجمالي لفكرة الهوية التمازجية فيما عرف بـ " مدرسة الغابة و الصحراء" في الأدب، و " مدرسة الخرطوم " في التشكيل، أو في توجهات النقاش بين الموسيقيين السودانيين حول قضية السلّم الخماسي و" الطابع الوطني" للموسيقى ، و بعض مباحث "المسرح السوداني"..و يضيق المجال هنا عن تحليل الخلفيات الإجتماعية لكل هذه المساهمات التي اكسبت فكرة الهوية السودانية محتوى جماليا معينا، غير اننا سنحاول معالجة كل مبادرة حسب الثقل النوعي لمساهمتها ، سلبا و إيجابا، في أفق حركة الخلق المعاصرة.
من غابة الصحراء إلى صحراء الغابة و بالعكس :
في نهاية الخمسينات كانت عواقب " النهضة" قد تجسدت في شكل التعليم الرسمي للبلاغة على أساس تراتب هرمي دقيق تتوزع فيه المسؤوليات (الأدبية) على" مناصب" و " ألقاب " مختارة بعناية ، من " أمير الشعراء" لـ " رائد الأدب العربي" لـ " شاعر القطرين" لـ " شاعر النيل" لـ "أستاذ الجيل" لـ " عميد الأدب العربي" إلخ.لكن الفائدة العميقة لـ "لنهضة" ، على صعيد حركة الأدب في السودان، هي في كونها جمعت أدباء العربية في السودان مع أدباء العربية في العالم العربي ، من خليجه إلى محيطه ، على مرجعية أدبية موحّدة بفضل استقرار المناهج المدرسية على أطر بلاغية متشابهة من بلد لآخر. و يبدو ان مكابدة أدباء السودان لمرجعية النهضة البلاغية قد سوّغت لهم طرح مساهماتهم ،ضمن زخم الحركة الأدبية العربية الحديثة ،دون احساس بـ "مُركّب الدخيل " المستعرب .و من المحتمل أن موقف الندية الإبدعية مع الأجيال الحديثة من رصفائهم العرب قد ساهم في توفير هامش مناورة نقدية ساعدهم على طرح ما سمّوهبـ " الخصوصية الإفريقية" او " الدم الإفريقي" في الأدب العربي السوداني.و كانت " مدرسة الغابة و الصحراء"، في مساهمة محمد عبد الحي و محمد المكي ابراهيم و النور عثمان أبكر، مهمومة بما سمّوه بـ "البلاغة السودانية" للأدب العربي ، على زعم أنهم هم أنفسهم، في لحمهم و في فكرهم، يمثلون تجسيد واقع الهجنة العرقية و الثقافية التي اتصلت في السودان منذ عهد سلطنة الفونج.و من خلال طرحهم الشعري يبدو الإشتباه بين الماضي الفونجي و الحاضر مقصودا ، بحيث تختلط صورة الشاعر السوداني الحديث بصورة البطل السناري الخلاسي، مثلما يختلط الواقع السياسي و الإجتماعي للسودان المعاصر، المطروح كمشروع للتمازج، بكليشيه دولة الفونج التي يتعايش عربها و زنجها " سمن على عسل" "..".
و بالرغم من أن التعريف الدارج لـ "الفونج" في أدبيات تاريخ السودان السائدة هو أنهم قوم مسلمون ، لا تعارض في الدين بينهم و بين حلفائهم العبدلاب، إلا أن شعراء" الغابة و الصحراء" المهمومين بالتعددية الثقافية غضـّوا الطرف عن بُعد الدين في اليوتوبيا السنارية المطروحة نموذجا يحتذى.و يبدو أن مشكلة الدين عند شعراء هوية التمازج العربسلاميين قد لعبت دورا حاسما في إختيار " سنار " كمرجع ثقافي و عرقي يُحال إليه السودان، بإمتداداته العديدة في التاريخ و الجغرافيا، بما يضمن إختزاله ضمن المشروع السياسي للدولة العربسلامية.
كما أن مشكلة مشروع الهوية ،في مساهمة الغابة و الصحراء، تتلخص في كونه مشروع يقوم على موضوعة " الرجوع". الرجوع لمعطيات التاريخ الثابتة النهائية، كأساس لتعريف هوية قوم يعيشون التحولات التي يفرضها العصر و يصيغون هوياتهم الواقعية على منطق التحوّل ( كأنهم يعيشون أبدا،كأنهم يموتون غدا) و لات مخرج.ثم أن هذا " الرجوع" لليوتوبيا السنارية ليس في براءة " البداءة النبيلة" لـ " لقاح" الغابة و الصحراء، إذ هو رجوع ملغـّم بخيار ثقافي و سياسي مسبّق هو خيار الثقافة الإسلامية المطروحة كأساس لبناء هوية أمـّة الخلاسيين التي تصلـّي في لغة الضاد.و بـ " الرجوع " لسنار تنجح " هويولوجيا" التمازج في" ضرب حجرين بعصفور واحد"(فيما يعبر مثل عربي من تحريفي). فهم بوصفهم عربسلاميين خـُلـّص يمرّرون مراجعهم الثقافية العربسلامية إلى موقع الحظوة في مشروع الهوية السودانية الذي يدّعون له طابع الشــراكة(" فيفتي فيفتي") بين الثقــافة الــعربية و الثقــافة الإفــريقية. ثم هم بوصفــهم إفريقــيين (خُــلـّص؟)
" يدسـّون"إسلامهم المصحـّح و المنقـّح ، على "علـْمنة" براغماتية من واقع الإلحاق،بدعوى الخصوصية الثقافية الإفريقية لـــ
" الإسلام السوداني".و هي مناورات ذات مردود سياسي اكيد على صعيد المنافسة مع غلاة الدعاة الإسلامجية في حلبة الغوغائية السياسية العربسلامية. ترى هل كان في وسع شعراء التخلـّس الرجوع إلى مدينة أخرى، بخلاف سنار، قمينة بتجسيد التلاقح و التخلّس؟
لقد عرف تاريخ السودان أكثر من ماض مجيد و أكثر من مدينة فاضلة قبل سنار الماضي الفونجي كـ "مروي " القرن الثالث قبل الميلادي او " دنقلا" النوبا المسيحية او " سوبا".فكلها مدن عامرة بالرموز، غير أنها مدن سابقة على دخول العروبة و الإسلام للسودان.و هي مدن لا تثير اهتمام منظـّري " الغابة و الصحراء" الذين يرون تاريخ السودان يبدأ مع دخول العرب المسلمين وادي النيل.و هو رأي يجد تفسيره في مساعي المداهنة الغوغائية للجمهور العربسلامي المعاصر أكثر مما يجده في الجهل بالخارطة الزمنية لأحداث التاريخ السوداني.و بالطبع لم يخطر على بال محمد عبد الحي و شركائه من العائدين إلى سنار أن تلك العودة إلى الجذور العربسلامية يمكن أن تتحوّل إلى" تصحيح" متعسف لمجمل تاريخ السودان السابق على الإسلام (بأثر رجعي) في إتجاه إلغاء سودان ما قبل الأسلمة و التعريب من ذاكرة التاريخ (20). لكن لمحمد عبد الحي و شركائه نصيب (الأسد؟) في المسئولية الأخلاقية ، بقدر ما عبّدوا الطريق لسلطة الصيارفة الإسلاموية و سوّغوا مقولاتهم الغوغائية على مراجع العروبة و الإسلام.
و بعد..
إن هناك الكثير مما يمكن قوله في صدد الهوية الإستبعادية العربسلامية حسب تعبيرها الأدبي المتسمي بجماع" الغابة و الصحراء"، غير أننا اقتصرنا على نقد مفهوم " العودة" إلى سنار المسلمة و تقديمها كمشروع هوية سودانية طالما طولب السودانيون غير المسلمين بتبنـّيه باسم " الوحدة الوطنية"و باسم " التنمية" أو باسم " خلاص إفريقيا" كلها إلخ.و لم يتكلم أحد بعد عن رأي السودانيين المسلمين المستعربين، على زعم أنهم ـ من باب أولى ـ متحمسين لهوية تمازجية تحبّذ مرجعيتهم العرقية و الدينية.و هو إفتراض ـ بالرغم من نبله الظاهري ـ فهو لا يستند على أي أساس موضوعي. بل أن واقع التراتب الإجتماعي ، في بعده العرقي ـ في مجتمع ما زال الناس فيه يتعايرون بشبهة الرق ـ يجعل من السودانيين المستعربين أشد استرابة بدعاوي التمازج العرقي.
و البعد النفسي لمشكلة " الهوية التمازجية" في طرح الدولة لها، يحوّل موضوعة الهوية التمازجية إلى نوع من كابوس نفسي يذنـّب الأفراد الذين قد لا يستسيغون فكرة التمازج، بل و يحمّلهم نفسيا بعض وزر الشتات القومي و تعثـّر مشروع الأمة " المستحيلة"، و قيل : فشل التنمية ..إلخ.ذلك أن فكرة التمازج تفترض ـ و قيل تطالب ـ المسلم المستعرب بالتنازل طوعا عن بعض مكونات ذاتيته العقائدية و العرقية، مثلما تطالب الإفريقي المتوثـّن أو المتنصّر بالتخلي ـ بالتي هي احسن؟ ـ عن بعض مكونات ذاتيته العقائدية و العرقية ( ضمن وهم بالمساواة في الحقوق و الواجبات)، و ذلك لكي يسوّغا معا فرصة تخلـّق جماع الذاتية السودانية الخلاسية، ذلك المخلوق الجديد الذي جاء يطالب " حراس سنار" بفتح الأبواب.لا بدوي و لا زنجي، و إنما عربي متزنوج و زنجي مستعرب. نوع من فرانكشتاين " زنجرابي" اخترعه موظفو دولة الطبقة الوسطى العربسلامية الذين يهجسهم نقاء عرقهم العربي الهابط من سبط العباس، و صفاء إيمانهم الإسلامي كـ " خير أمة أخرجت للناس". هذا الفرانكشتاين " الميري" ظل يستحوذ على اهتمام منظري الهوية السودانية في الدولة العربسلامية، لأنهم رأوا فيه نوعا من ضمانة نفسية و سياسية لتأمين مشروع الوحدة الوطنية لدولة الإلحاق التي وعدت شعبها بجنة التنمية و وعدت شعوبا " شقيقة" بأن تكون " سلـّة غذائهم" المبارك.
إن نقدنا لمساهمة محمد عبد الحي و شركائه في مشروع الهوية لا علاقة ( مباشرة) له بوجهة نظرنا النقدية في جمالية الخلق الشعري عندهم. و من المؤكد ان القوم شعراء على قدر عال من الرهافة التي تحرّك و تطرب. بيد أن خطورتهم إنما تتأتـّى من إمتيازهم الجمالي. فهم قوم لم يرعوا حرمة الإبداع و لم يعوا دور المبدع كمعارض و كخارج، و انساقوا وراء إرضاء الدولة المخدّمة بغشامة لا تليق برجال في ذكائهم.
و هم يستحقون اللعنة بقدر ما تتسع الشقة بين رهافة حسهم الجمالي و غلظة تواطئهم الإجتماعي.
.."[ النص منشور في خيط " أشغال العمالقة ]
يا صدقي كلامك عن " جمال الشعر و عذوبته " يردنا للتأمل في ذلك الزعم الإنتهازي المريب بأن " أعذب الشعر أكذبه " ، و الذي يرفع عن الشعراء المسئولية الأخلاقية و السياسية تجاه الأدوات التي يستخدمونها.و هذه ـ كما ترى ـ فولة أخرى تفيض عن سعة مكيالنا الذي نكيل به تفاكير الشعر السياسي للسودانيين.