محمد عبد الحي: الليلة يستقبلني أهلي

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

محمد عبد الحي: الليلة يستقبلني أهلي

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

[font=Arial]محمد عبد الحي: الليلة يستقبلني أهلي
الخرطوم - محفوظ بشرى
23 أغسطس 2014
متعلقات



بعد 25 عاماً على وفاة رائد تيّار "الغابة والصحراء"، الشاعر محمد عبد الحي، لا يزال سؤال الهوية مشتعلاً، ويقف خلف الكثير من النزاعات في السودان على عدة مستويات؛ ثقافية واجتماعية وسياسية، على الرغم من محاولات شعراء هذا التيّار في ستينيات القرن الماضي تلافي هذه الآثار باجتراح هوية توفيقية (الأفروعربية).

ولد الشاعر محمد عبد الحي (11 نيسان/ أبريل 1944 – 23 آب/ أغسطس 1989) في الخرطوم. وأسهم تنقل أسرته بين بقاع السودان المختلفة في إثراء مخزونه البصري والثقافي، وهو ما ظهر جلياً بعدها في شعره وفي تبنيه أفكاراً تسعى إلى الاندماج والتعايش بين الثقافة العربية والثقافات المحلية الأخرى، وكذلك ظهر في استخدامه صوراً ورموزاً طبيعية وثقافية غنية ومتعددة.

وتعدّ قصيدته "العودة إلى سنار" (1963) الأثر الأوضح والتعبير الأشمل عن تيار "الغابة والصحراء"، باتخاذها من "سنار" أو "السلطنة الزرقاء" (1504-1821) نموذجاً ورمزاً للهوية السودانية "الأفروعربية"، بديلاً للتنازع بين دعاة العروبة ودعاة الأفريقيانية في الستينيات، حيث تكونت سلطنة سنار من اتحاد القبائل العربية في الشمال (الصحراء)، والقبائل الزنجية في الجنوب (الغابة)، لتشكل معاً سلطنة قوية مركزها وسط السودان (السافنا/ الهجين).

لكن تيّار "الغابة والصحراء" لم يرضِ أولئك الذين رأوا فيه تقليصاً لدور الإسلام والهوية العربية في السودان، ولا أولئك الذين رأوا فيه تياراً عروبياً مستتراً.

مهما يكن من أمر، ظلَّ ما أنتجه شعراء هذا التيّار؛ محمد عبد الحي، والنور عثمان أبكر، ومحمد المكي إبراهيم؛ من العلامات الفارقة في مسيرة الشعر السوداني، وإن كان صوت قصيدة عبد الحي "العودة إلى سنار" هو الأعلى، رغم أنه كتبها وهو بعد في الثامنة عشرة.
"
لم يلقِ المثقفون السودانيون بالاً لـ "العودة إلى سنار" في تنازعهم بين الهويتين العربية والأفريقية
"

وتتكون القصيدة من خمسة أناشيد هي البحر، المدينة، الليل، الحلم، الصبح؛ يؤسس فيها لمفهوم العودة من "غربة الهوية" إلى أول نموذج ناجح لامتزاج المكونات الثقافية والإثنية للسودان: سلطنة الفونج. وتشي القصيدة بما يذهب إليه التصدير الذي يبدأها به، عن قصة أبي يزيد البسطامي المعروفة: "قال: يا أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك؟ قال: طلب الحق. قال: الذي تطلبه قد تركته ببسطام. فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فتح له".

ومنذ نشرها، ظلت "العودة إلى سنار" مثار تناول، إذ جاءت جديدة في أساليبها وموضوعها، تقترح طريقاً ثالثاً لم يلقِ إليه المثقفون السودانيون بالاً قبلها في تنازعهم بين الهويتين العربية والأفريقية.

لعبد الحي إسهام ذو مكانة في الأدب السوداني، إذ أصدر عدة كتب، منها دواوينه "العودة إلى سنار"، "السمندل يغنّي"، "حديقة الورد الأخيرة"، "الله في زمن العنف"، "رؤيا الملك (مسرحية شعرية)"، وكتبه: "الأسطورة الإغريقية في الشعر العربي المعاصر"، "التجانى يوسف بشير"، "الملاك والفتاة: الضرورة والحرية عند أدوين مويير" (رسالة ماجستير من جامعة ليدز)، "التفكير والتأثير الإنجليزي والأمريكي على الشعر العربي الرومانتيكي" (رسالة دكتوراه من جامعة أكسفورد)، إضافة إلى دراسات أخرى.

احتشدت حياة عبد الحي القصيرة (45 عاماً)، بكثير من النشاطات، حيث عمل أستاذاً في قسم اللغة الإنجليزية في جامعة الخرطوم بعد تخرجه، ثم حصل على الماجستير من جامعة ليدز برسالة عن الشاعر أدوين مويير، قبل أن ينال الدكتوراه من جامعة أكسفورد. عاد بعد ذلك إلى بلده ليعمل أستاذاً للأدب المقارن والأدب الإنجليزي بكلية الآداب في جامعة الخرطوم، ليعمل بعد ذلك مديراً لمصلحة الثقافة في عهد الرئيس جعفر النميري حيث أنشأ مركز ثقافة الطفل ونظم مهرجانات الثقافة بجانب نشاطات المسرح والتشكيل، وأسس بعد عودته إلى جامعة الخرطوم "مجلة الآداب"، وكان أول رئيس تحرير لها، كما قام بتحرير الملحق الثقافي لصحيفة "الأيام" برفقة يوسف عيدابي.

لكن بين كل أنشطته تلك، يظل الشعر هو النشاط الأكثر التصاقاً بعبد الحي حتى مماته. وهو من وصف الشعر في حوار معه، في آخر أيامه، بأنه: "حيوانٌ غريب، حصان جميل بقرن واحد، ولكنه أسطوري، قوي، والشاعر يركب الحصان هادئاً يقوده في مجاهل الذهن، أما إذا لم يستطع الركوب بقلب ثابتٍ: مات".
دلالات: ذكرى محمد عبد الحي شعر العودة إلى سنار مجلة الآداب الخرطوم
- See more at: https://www.alaraby.co.uk/culture/412a5b ... VI7rx.dpuf
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

العودة إلى سنار
محمد عبد الحي
23 أغسطس 2014

[font=Arial]النشيد الأول
البحر


بالأمس مرَّ أوّل الطّيور فوقنا، ودار دورتين قبل أن
يغيبَ، كانت كلُّ مرآة على المياه فردوساً
من الفسفورِ – يا حدائق الفسفور والمرايا
أيّتها الشمس التي توهّجتْ واهترَأت
في جسد الغياب، ذوبي مرّة أخيرةً،
وانطفئي، أمس رأينا أوّل الهدايا
ضفائر الأشنةِ والليفِ على الأجاجِ
من بقايا
الشجر الميت والحياة في ابتدائها الصامتِ
بين علق البحارْ
في العالمِ الأجوفِ
حيث حشرات البحرِ في مَرَحِها الأعْمَى
تدب في كهوفِ الليفِ والطحلبِ
لا تعي
انزلاقَ
الليلِ
والنهارْ
وحمل الهواءْ
رائحةَ الأرضِ،
ولوناً غير لون هذه الهاوية الخضراءْ
وحشرجات اللغة المالحة الأصداءْ.
وفي الظَّلامْ
في فجوةِ الصَّمت التي تغور في
مركز فجوةِ الكلامْ،
كانت مصابيح القرى
على التِّلال السودِ والأشجارْ
تطفو وتدنو مرَّة
ومرَّة تنأى تغوصُ
في الضَّباب والبخارْ
تسقطُ مثل الثّمر النّاضجِ
في الصَّمتِ الكثيفِ
بين حدِّ الحلم الموحشِ
وابتداء الانتظارْ.
وارتفعتْ من عتمةِ الأرضِ
مرايا النّارْ
وها هيَ الآن جذوع الشّجر الحيِّ
ولحم الأرضِ
والأزهارْ.

الليلة يستقبلني أهلي:
خيلٌ تحجل في دائرة النّارِ،
وترقص في الأجراس وفي الدِّيباجْ
امرأة تفتح باب النَّهر وتدعو
من عتمات الجبل الصامت والأحراجْ
حرّاس اللغةَ – المملكة الزرقاءْ
ذلك يخطر في جلد الفهدِ،
وهذا يسطع في قمصان الماءْ.

الليلة يستقبلني أهلي:
أرواح جدودي تخرج من
فضَّة أحلام النّهر، ومن
ليل الأسماءْ
تتقمص أجساد الأطفالْ.
تنفخ في رئةِ المدّاحِ
وتضرب بالساعد
عبر ذراع الطبّالْ.

الليلة يستقبلني أهلي:
أهدوني مسبحةً من أسنان الموتى
إبريقاً جمجمةً،
مصلاة من جلد الجاموسْ
رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوسْ
لغةً تطلعُ مثلَ الرّمحْ
من جسد الأرضِ
وعبَر سماء الجُرحْ.

الليلة يستقبلني أهلي.

وكانت الغابة والصحراءْ
امرأةً عاريةً تنامْ
على سرير البرقِ في انتظارِ
ثورها الإلهي الذي يزور في الظلامْ.
وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً.
يزهر في سلطنة البراءة
وحمأ البداءةْ
على حدودِ النورِ والظلمةِ بين الصحوِ والمنامْ.



النشيد الثاني
المدينة


سأعود اليوم يا سنَّار، حيث الحلم ينمو تحت ماء الليل أشجاراً
تعرَّى في خريفي وشتائي
ثم تهتزّ بنار الأرض، ترفَضُّ لهيباً أخضر الرّيش لكي
تنضج في ليل دمائي
ثمراً أحمر في صيفي، مرايا جسدٍ أحلامه تصعد في
الصّمتِ نجوماً في سمائي
سأعودُ اليوم، يا سنّارُ، حيث الرمزُ خيطٌ،
من بريقٍ أسود، بين الذرى والسّفح،
والغابةِ والصحراء، والثمر النّاضج والجذر القديمْ.
لغتي أنتِ وينبوعي الذي يؤوي نجومي،
وعرق الذَّهب المبرق في صخرتيَ الزرقاء،
والنّار التي فيها تجاسرت على الحبِّ العظيمْ
فافتحوا، حرَّاسَ سنّارَ، افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
افتحوا للعائد الليلة أبوابَ المدينة
افتحوا الليلة أبواب المدينة.

- "بدوىُّ أنتَ؟"
- "لا"
- " من بلاد الزَّنج؟"

- "لا"

أنا منكم. تائهٌ عاد يغنِّي بلسانٍ
ويصلَّي بلسانٍ

من بحارٍ نائياتٍ
لم تنرْ في صمتها الأخضر أحلامُ الموانئ.
كافراً تهتُ سنيناً وسنينا
مستعيراً لي لساناً وعيونا
باحثاً بين قصور الماء عن ساحرةِ الماء الغريبة
مذعناً للرِّيح في تجويف جمجمة البحر الرهيبة
حالماً فيها بأرض جعلت للغرباء
-تتلاشى تحت ضوء الشمس كي تولد من نار المساءْ _
ببناتِ البحر ضاجعنَ إله البحر في الرغو...
(إلى آخِرِهِ ممّا يغنِّي الشعراءْ!)
ثمَّ لّما كوكب الرعب أضاءْ
ارتميت
ورأيتُ ما رأيتُ:
مطراً أسود ينثوه سماءٌ من نحاسٍ وغمام أحمر. شجراً أبيض – تفاحاً وتوتاً – يثمرُ
حيث لا أرض ولا سقيا سوى ما رقرق الحامض من رغو الغمام.
وسمعتُ ما سمعتُ:
ضحكات الهيكل العظميِّ، واللحم المذابْ
فوق فُسفورِ العبابْ
يتلوى وهو يهتزّ بغصّات الكلامْ.

وشهدتُ ما شهدتُ:
كيف تنقضّ الأفاعي المرعدة
حينما تقذف أمواج الدخان المزبدة
جثةً خضراء في رملٍ تلظَّى في الظلامْ.

صاحبي قلْ ما ترى بين شعاب الأرخبيلْ
أرض "ديك الجن" أم "قيس" القتيل؟
أرض "أوديب" و"لير" أم متاهات "عطيل"؟
أرض "سنغور" عليها من نحاس البحر صهدٌ لا يسيلْ؟
أم بخار البحر قد هيّأ في البحر لنا
مدناً طيفيّةً؟ رؤيا جمالٍ مستحيل؟
حينما حرّك وحش البحر فخذيه: أيصحو
من نعاسٍ صدفي؟ أم يمجُّ النار والماء الحميمْ؟

وبكيتُ ما بكيت:
من ترى يمنحني
طائراً يحملني
لمغاني وطني
عبر شمس الملح والريح العقيمْ
لغة تسطعُ بالحبِّ القديمْ.

ثم لّما امتلأ البحرُ بأسماكِ السماءِ
واستفاقَ الجرسُ النائم في إشراقةِ الماء
سألتُ ما سألت:
هل ترى أرجع يوماً
لابساً صحوي حلماً
حاملاً حلمي همّاً
في دجى الذاكرة الأولى وأحلام القبيلة
بين موتاي وأشكال أساطير الطفولة.

أنا منكم.. جرحكم جرحي
وقوسي قوسكم.
وثنيٌ مجَّد الأرضَ وصوفيٌّ ضريرٌ
مجَّد الرؤيا ونيران الإلهْ.

فافتحوا
حرَّاس سنّار،
افتحوا بابَ الدَّم الأوّلِ
كي تستقبل اللغةَ الأولى دماهْ
حيث بلّور الحضورْ
لهبٌ أزرق
في عينِ
المياهْ
حيث آلاف الطيورْ
نبعتْ من جسدِ النّارِ
وغنّتْ
في سماوات الجباهْ.

فافتحوا، حرّاسَ سنّار،
افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
افتحوا الليلة أبواب المدينة
افتحوا...

"إنّنا نفتح يا طارق أبواب المدينة
إن تكن منّا عرفناك، عرفنا
وجهنا فيك: فأهلاً بالرجوعْ
للربوعْ.
وإذا كنتَ غريباً بيننا
إنّنا نسعد بالضِّيف، نفدِّيهِ
بأرواحٍ، وأبناءٍ، مالْ
فتعالْ.
قد فتحنا لك يا طارق أبواب المدينة
قد فتحنا لك يا طارق...
قد فتحنا..."

ودخلتُ
حافياً منكفئاً
عارياً، مستخفياً في جبة مهترئة
وعبرتُ
في الظلامْ
وانزويت
في دياجير الكلام

ونمتُ
مثلما ينامُ في الحصى المبلول طفل الماءْ
والطّير في أعشاشهِ
والسمك الصغير في أَنهارِهِ
وفي غصونها الثِّمارُ
والنجوم في مشيمةِ
السماءْ.



النشيد الثالث
الليل


وفتحت ذراعها
مدينتي
وحضنها الرغيدْ

- أيّة أنهارٍ عظيماتٍ
وغاباتٍ
من البروق والرعودْ –

تنحلّ أعضائي
بخاراً أحمر
يذوب في دمائها
تعوم روحي
طائراً أبيض
فوق مائها
ويطبق الليل الذي
يفتحُ
في الجمجمة البيضاءْ
خرافةً تعودُ،
وهلةً ووهلةً،
إلى نطفتها الأشِياءْ
فيها، وينضج اللهيبُ
في عظام شمسها
الفائرة الزرقاءْ
ويعبر السمندلُ الأحلامَ
في قميصه
المصنوع من شرارْ.
في الليل حيث تنضج الخمرةُ
قبل أن تموج في الكرومِ
قبل أن تختم في آنية الفخّارْ
في الليل حيث الثمر الأحمر
والبرعم والزهرة في وحدتها الأولى
من قبل أن تعرف ما الأشجارْ
في الليل تطفو الصور الأولى
وتنمو في مياه الصَّمتِ
حيث يرجع النشيدْ
لشكلِهِ القديمِ
قبلَ أن يسمِّي أو يسمَّى،
في تجلّي الذات، قبل أن يكون غيرَ ما يكونُ
قبل أن تجوِّفَ الحروفُ
شكلَهُ الجديدْ.



النشيد الرابع
الحلم


رائحة البحر التي تحملها الرياحْ
في آخر الليل، طيورٌ أفرختْ
في الشفق البنفسجيِّ بين آخر النجوم والصباحْ
أنصتْ هنيهةً !
تسمع في الحلم حفيف الرِّيش حين يضرب الجناحْ
عبر سماوات الغيابْ
هل دعوة إلى السفر؟
أم عودة إلى الشجر؟
أم صوت بشرى غامض يزحف مثل العنكب الصغير فوق خشبات البابْ
يبعثه من آخر الضمير مرَّة عواء آخر الذئابْ
في طرف الصحراءِ، مرَّةً رنين معدنٍ في الصمَّتِ،
أو خشخشة الشوك الذي يلتفّ حول جسد القمرْ
ومرَّة تبعثه صلصلة الأجراس
حين ترقص الأسماك في دوائر النجوم في النَّهر.
أم صوت باب حلمٍ يفتحه
في آخر الليل وقبل الصبحْ
المَلَك الساهر في مملكة البراءة
وحمأ البداءة
تحت سماء الجرحْ
يَمُدُّ لي يديه
يقودني عبر رؤى عينيه
عبر مرايا ليلك الحميمة
للذهب الكامن في صخورك القديمة
فأحتمي – كالنطفة الأولى –
بالصور الأولى التي تضيءُ
في الذّاكرة الأولى
وفي سكون ذهنك النقيِّ
تمثالاً من العاجِ،
وزهرة
وثعباناً مقدساً وأبراجاً
وأشكالاً من الرخامِ والبلور والفخّارْ.
حلمٌ ما أبصر أم وهم؟
أم حق يتجلّى في الرؤيا؟
في هاجرةِ الصَّحْراء أزيح قباب الرمل
عن نقشٍ أسودَ، عن مَلِكٍ
يلتفّ بأسماء الشفرةِ والشمسِ
والرمز الطّافر مثل الوعلِ
فوق نحاسِ الصَّحراءْ.

أسمع صوت امرأةٍ
تفتحُ باب الجبل الصَّامت، تأتي
بقناديل العاج إلى درجات الهيكل والمذبحْ
ثم تنامُ – ينامُ الحرَّاسْ –
لتولد بين الحرحر والأجراسْ
شفةً خمراً، قيثاراً،
جسداً ينضج بين ذراعَيْ شيخٍ
يعرف خمرَ اللهِ وخمر النّاسْ.
لغةٌ فوق شفاهٍ من ذهبٍ
أم نورٌ في شجر الحُلمِ المزهرْ
عند حدود الذَاكرةِ الكبرى
الذّاكرة الأولى؟
أم صوتي
يتكوَّر طفلاً كي يولد
في عتباتِ اللغةِ الزرقاءْ؟

وتجيءُ أشباح مقنّعةٌ لترقص حرَّةً، زمناً،
على جسدي الذي يمتد أحراشاً، سهوباً: تمرح الأفيالُ،
تسترخي التماسيح، الطيور تهبُّ مثل غمامةٍ، والنحل مروحة
ويغنِّي وهو يعسل في تجاويف الجبالِ، وتستدير مدينة زرقاء
في جسدي، ويبدأ صوتُها، صوتْي، يجسِّد صوت موتايَ الطليقْ
حلمٌ؟ رؤى وهميّةٌ؟ حقٌّ؟
أنا ماذا أكون بغير هذا الصوت، هذا الرمز،
يخلقني وأخلقه على وجه المدينة تحت شمس الليل والحبِّ العميقْ
وحينما يجنح آخر النجوم للأفولْ
ويرجع الموتى إلى المخابئ القديمة
كيما ينامون وراء حائط النّهارْ
أنام في انتظار
آلهة الشمس وقد أترع قلبي الحبُّ والقبولْ.



النشيد الخامس
الصبح


مرحى! تطلُّ الشمسُ هذا الصبحَ من أفق القبولْ
لغةً على جسد المياهِ،
ووهجَ مصباحٍ من البلّورِ في ليل الجذورِ،
وبعضَ إيماءٍ ورمزٍ مستحيلْ.

اليومَ يا سنّار أقْبَلُ فيكِ أيّامي بما فيها من العشب الطفيليِّ
الذي يهتزُّ تحتَ غصونِ أشجارِ البريقِ.
اليومَ أقْبَلُ فيكِ أيّامي بما فيها من الرّعب المخمَّر في شراييني.
وما فيها من الفرح العميقِ.
اليومَ أقْبَلُ فيكِ كلَّ الوحلِ واللّهب المقدَّس في دمائكِ، في دمائي.
أحنو على الرَّملَ اليبيسِ كما حنوتُ على مواسمكِ الغنيّة بالتدفق والنماءِ.
وأقولُ: يا شمسَ القبولِ توهّجي في القلبِ
صفِّيني، وصفِّي من غبارٍ داكنٍ
لغتي، غنائي.

سنَّارُ
تسفر في
نقاءِ الصحو، جرحاً
أزرق، جبلاً، إلهاً، طائراً
فهداً، حصاناً، أبيض، رمحاً
كتابْ
رجعت طيور البحر فَجْرَاً من مسافات الغيابْ.
البحر يحلم وحده أحلامه الخضراء في فوضى العبابْ.
البحرُ؟ إنّ البحر فينا خضرة،
حلم، هيولى،
شجراً أرى، وأرى القوارب فوق ماء النّهرِ
والزرّاع في الوادي، وأعراساً تقامُ، ومأتماً في الحيِّ،
والأطفال في الساحات، والأرواح في ظلَّ الشجيرةِ
في الظهيرةِ حين يبتدئ الحديث برنّة اللغة القديمةْ.
الشمس تسبح في نقاء حضورها، وعلى غصونِ القلب عائلةُ الطيّورِ،
ولمعة سحرية في الريحِ، والأشياء تبحر في قداستها الحميمةْ.
وتموج في دعةٍ، فلا شيء نشاز، كلُّ شيءٍ مقطعٌ، وإشارةٌ
تمتد من وترٍ إلى وترٍ، على قيثارة الأرض العظيمةْ.

(1963)
دلالات: ذكرى محمد عبد الحي شعر نصوص قصائد العودة إلى سنار السودان
- See more at: https://www.alaraby.co.uk/culture/163f33 ... TecqH.dpuf
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »


سلام يا ياسر، أيها اليقظان. تشكرعلى المبادرة والمناولة والإحتفاء بذكرى هذا الإنسان.

محمد عبدالحي شاعر وإنسان يستحق أن يظل مطبوعا فى الذاكرة لما قدمه فى حياته القصيرة والتى عاشها وكأنه على يقين من قصرها.

كان يسهر الليل يكتب ويراجع أمر المفردة والكلمة حتى يرضى عنها .
وكان أيضا ينظر إلى الأشياء " نظرة عذراء ". لا يخفى الدهشة ولا يكتم الضحكة.

كانت له القدرة على إخراج الطفل فى داخله، وكان مفكرا متأملا فى عمق وحكمة الشيوخ.
الوقت كان عنده من ذهب، وكانت أحلامه وطموحاته أكبر مما أتاح له العمر.

لم يكتب الشعر الذى يدغدغ المشاعر ويمنح الإسترخاء,
ولكنه كتب ما يطرد النعاس ويحرك ساكن الفكر، ويهب طربا من نوع مختلف.


" الشعر فقرُ والفقرُ أشراق. والإشراقُ معرفةُ لا تدرك إلاّ بين النّطع والسيف."

" وفى طرف الصّحراء كانت حقيقتى...نخلة تتلألأ بين الشمس والقمرْ."

:.............
" أشرقى ريح الصّبا بين الجبال
أشرقى بين الجبال
أشرقى ريح الصّبا
أشرقى........

فحبيبى كالغزال
يتمشى فى بساتين الخيال." ( الإنسان وهو يقرأ هذا ال...عليه أن يستمع أيضا وأن يتخيل.!)
......................

ليس ب " العودة إلى سنار " وحدها تحيى أشعار محمد عبدالحي.

أما عن " النخلة " و " الطفل " فى أشعاره فحدث.

آفاق أشعاره عريضة وعميقة فليتنا تأملناها أكثر.
آخر تعديل بواسطة Ahmed Sid Ahmed في الجمعة سبتمبر 05, 2014 9:51 pm، تم التعديل مرة واحدة.
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

[font=Arial]العزيز احمد سيد احمد


محمد عبدالحى مبدع وقامة بمثل قامة هذه البلاد , لم نستطع انا واندادى رغم ولوجنا لعالم الثقافة مبكرا ان ننهل منه مباشرة بكثرة لرحيله المبكر
كان فكرا متحركا واسئلة متعددة وموسوعة متعددة , كان وانتج اسئلة حقيقية تخطاها الكثيرون فى خضم البحث عن حلول جاهزة للمعضل الوطنى , استطاع
بقدرة ابداعية لاتنكر ان يفجر المقاربات القوية لمعانى الوجود والهوية والكينونة والصيرورة

اعتقد صديقى انه لم تتم دراسة محمد عبدالحى بالشكل الكافى , ولم تتفجر الاسئلة من واقع فضاء نصه بل اغلب ماقرات يدخل فى باب الردود الفكرية
والمقابلات ذات التأريخ الستينى بابستبساطه للحظات المفصلية فى تأريخ السودان
فغ

لك عظيم الود والمحبة
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

[font=Arial]
هنا ايضا نجد الاستاذة الكاتبة رانيا مامون فى دراسة واضاءة بينة لها عن جماعة الغابة والصحراء


https://www.aldohamagazine.com/article.a ... AnVTaPPwwo
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »

سلام يا ياسر.

فى العام 1993 إحتفلت " منظور "** ( والتى إحتفلنا بصدورها ) بالذكرى الرابعة
للشاعر محمد عبدالحي.


صورة

صورة

صورة

صورة


** هل فى المنظور أن نعرف شيئا عن قصة " منظور"?.
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

[font=Arial]صديقى احمد سيد احمد
بحثت عن مجلة منظور فى الانترنت , لم اجد متعلقا بها, ربما انت مفتاحنا لهذا المجلة , التى حقيقة لم اسمع بها من قبل ,
لك كل المودة واحب ان تحدثنا عنها اكثر

ومزيدا عن عبدالحى يترى
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

...ولهذا السبب، ولغيره، أيّها الصديق أحمد سيد أحمد، سبق لي أن جادلت الصديق بشرى الفاضل، عندما التقينا بعد أعوام طوال في القاهرة في بداية هذه الألفية، بقولي له ب"أنني أعتبر أن محمد عبد الحي هو أشعر رفاقه من جماعة الغابة والصحراء". غير أن بشرى كان يرى أن أشعرهم هو محمد المكي ابراهيم. ولعلي أخطأت التعبير - دون أن أخطئ تقييم شاعرنا هذا - باستخدام كلمة "أشعرهم" التي لم تساعد - بجلبها لأجواء "المباراة" - في بناء نقاش غني وموح مع بشرى، من جانبي أنا طبعا. فقد كان يجب أن أقول - مثلا - وعلى هدى حساسية تعليقك - "أفرعهم قامة شعرية"، حيث يمكن ادراج صفات أو خصائص كالعمق، الجدة الشعرية والفرق الشعري، الغنى الثقافي، البحثي والابداعي في ذلك التوصيف.

...أتذكر أن الصديق الشاعر العراقي باسم المرعبي أبدى لي في أول يوم تعرفت فيه اليه، في دمشق بداية تسعينيات القرن المنصرم، اعجابه العالي بشعر وشعرية محمد عبد الحي (لكنه عاب عليه مشاركته في "مربد صدام حسين") وطلب اليّ، بشغف واهتمام بالغين، أن أزوده بمجموعات عبد الحي الشعرية ان كان بامكاني طلبها من السودان. وأتذكر أنني وعدته بارسال بعض ما أحصل عليه منها من القاهرة (اذ كنت في طريقي الى الأخيرة في ذلك الوقت).

للأسف لم أفعل ذلك. غير أنني سأفعل - ولو بعض ذلك - بعد كل هذه السنوات يا باسم. سأفعل ذلك قريبا. أنا أيضا في حاجة الى اعادة معانقته.


نعم يا أحمد، عبد الحي لم يُدْرَس بالشكل الكافي بعد. ومن الجيد أن يرى المرء بعض الشعراء الشباب من المنتمين الى حقبة التسعينيات وما بعدها قد جعل من قراءة شعره ضرورة. وسيأتي وقت تتزايد الدراسات التي تقارب شعره فيما سيخبو التصفيق - وقد خبا بالفعل - لشعر بعض رفاقه. نعم يا أصدقائي، أحمد وياياسر وبشرى، انه أرفعهم قامة شعرية.


أشكرك، وأقالدك أنت أيضا، يا صديقي و"قريبي"، يا زمراوي.
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

[font=Arial]للجميع الحب والاحترام

الصديق عادل

هكذا هو الامر دائما ياصديقى ولعلة فى روحنا البشرية تجدنا ناشدين لما يثير كوامن الحس الجماعى
من الفرح والاحتفال بالاشياء ود المكى احتفل باكتوبر وتغنى بها بهيا واحياها فى ذاكرة اجيال قادمة
اذ ان هذا هو مكان الغناء الرحب ان يوقظ الشجون , ولكن فى مقام آخر نجد ان عبدالحى ساءل اختلافاتنا
وفروقنا , طرق تعبيرنا ومعيشتنا , تعايشنا وتداخلات شخصية التى تجعل من الشخصية السودانية كغيرها من الشخصيات متعددة الهويات اكثر ثراءا وتباينا وان كنت اقول ذلك الا انى بالتاكيد اعلم انك تعلم بهذا الامر منذ زمان وطيد

من الملاحظات صديقى المشابهةلهذا الامر انه وفى ايام الثورة التونسية اهتم العرب بمقولة زين العابدين؟هرب بينما تركوا المقولة الاكثر ثراءا من ذلك التى قالها مسن ( هرمنا من اجل هذه اللحظة التاريخية )الا ترى معى ياصديقى عادل انا بذلك هاربون من البلاغة ومرتمون فى اتون المباشرة بكل احتمالاتها القدرية
أضف رد جديد