Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه وردة من قلب منعم رحمة:



ياااامحمد.

هذا نص جدير بالحياة ، وجدير بأن يُكْتَبَ على لوح الشرافة ، و يقرأ على هدي نار التُقَّابَة.

لكم كنت أخشى أن يأخذك نهار المعيش عن تسهاد ليل القلم ، فله الحمد الذى لم يحرمنا من فيوضات تَحَبُّبِك فى نص من كرمنا بالقلم وعلمنا ما لم نكن نعلم .

طِبْتَ وطاب القصاص ، عادل.

وليتنى ، أنا الشقي الشقي ، أفوزبسطر مما أنت مقبل عليه من فتوحات .

محبتى لكم .

منعم رحمة.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الجمعة أكتوبر 02, 2015 2:38 am، تم التعديل مرة واحدة.
Masoud Mohammed Ali
مشاركات: 220
اشترك في: الاثنين إبريل 20, 2009 9:47 am

مشاركة بواسطة Masoud Mohammed Ali »

سلام عليك يا عادل وسلام على صحبك
شكرًا لمحمد خلف لحصة التاريخ الذي يحتوي كل تواريخ تشظي الحقائق !
أراني غير قادر حتى الان ان استبصر الحق منفصلا عن الخلق او الخلق بعيدا عن الحق وهذا ما لا يقع لخلف كما ابان في رفضه لمبدأ وحدة الوجود
مسالة الوعي وهب وليست كسبا
وقد يهب الحق لك فرقا
او قد يهب لك جمعا
ولآخرين قد يهب الانبهام الفاهم عند عتبات الحيرة
شكرًا خلف على الحصة
شكرًا عادل على السبورة
اما فهم القرّاء للدرس فمتروك للنصيب الموهوب
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

لإخوه محمد خلف وناديا أراكما قد وضعتمانى فى إمتحانٍ قاس وشاق
بأن أقول قولى فى هذا السفر الفريد لا بل هذه المقامه الرفيعه التى
أحسبها حقيقة بجلوة باهره خرج بها محمد من زاويته بعد أن صام عن
القول كما الذى نذر بأن لا يكلم إنسيّاَ قط معتكفاً فى زاويته مبتهلا
متوكلا على الله فى رحلة السفر إلى عمق الذات العصيه والتى
تقسو وتشق معرفتها لتفلتها كما البروة فى اليد إلا لذوى اللالوب والقرض
والزهد فى الغرض إغتداء بقول سيد الحق عليه أفضل الصلاة والسلام
(من عرف نفسه عرف ربه) ومن قبله سغراط الذى هوى بالفلسفة من
عوالم السماء إلى الأرض ومن عوالم المثل والأرواح لعوالم المادة
والأشباح بقوله (أعرف نفسك) وبذلك الكتلوج إستطاع محمد خلف أن
يخرج أثقاله الحارقة لافاها ليعصف بعقولنا ويلعب بها كما الذى يلعب
بحبات سبحته مستغرقا ربه وليس فى عالمه إلا ركوةٍ وفروه. شدنى تقارب
محمد للمكان والزمان فى الأدب والقرآن والتاريخ الإجتماعى وأثره فى
تشكيل ذاكرة فى نخاع الروح يخرجها الروائى والشاعر فى نصٍ مبدع
تبين فيه دلالات المكان وأثره وكما للمكان تلك الخاصيه ف للزمان مثلها.
إستطاع محمد خلف فى مناغمته لعادل القصاص أن يسرد تاريخا إجتماعيا
دالا على وفائه وإخلاصه وسماحته ففى ذكر أماته اللواتى
لم يختف طعم النعناع فى شايهن من لسان ذاكرته وكذا القهوه لا
لم تستطع السنين أن تنسيه لون الشباك الذى كانت تأتيهم عبره
أو من خلاله تلك القهوة والشاى والشباك رمزٌ لحياة كامله سكت
فيها عن الكثير لا بل قال الأكثر وطفق يذكر أهل الحارة فردا فردا
جكسا وصنوه وأبناء شيخ الدين المقداد وتبارك وتماضر الوصافه وعفاف
العزافه وعائشه والوافر ورشا وهمرور فعائشه يا محمد بأميركا متزوجه
من الأخ إسماعيل أحمد فرح شقيق أصدقائى الأفاضل وهى فى فرح سرمدىٍّ
أبدى ونتمنى لها ذلك نعم أن للمكان قداسته وأن السرد الروائى والإبداع
الشعرى لاريتأتى إلا من مخزون متراكم يخرجها الأديب بإزميل يراعه
راشا عليها بمكر الكتابة بهارٍ يحدث فيها بعداً معيارياً لافتاً كما فى
موسم الهجره إلى الشمال وضوء البيت ودومة حامد والمنسى وما
ينطبق على الطيب ينطبق على إبراهيم إسحاق والقصاص بعد
إن إشتدت عيدان الدِرْبَة فيهم ومثلهم الآخرين شعراء وأهل قص.
أيضا عزف خلف لحونا شجيه فى فقه اللغه ودورها كصفائح
حمولٍ للإبداع ودلق معرفة بعظم النقد جباره ولم يشح
بوجهه عن الفلسفه بل غرف من مواعينها وكبّها لنا فى دُلّقٍ
مهيل ورمى عليه قرعةً لنغرف بها وهى ترعى كما الوزة عليه
وعلى ما فيه من سلاف فكرٍ وخندريس معرفه فيا عزيزى محمد خلف
هذه كتابة كما كتابة الحوليات وأن قراءتها تحتاج لحولٍ كامل
أعدك بأن ساقيس فمها بودعةٍ وأمشى وأجيها راجع إنها لا تتأتى
إلا لبشرٍ من طينتنا صيد باله ناجعٌ منه - أشكرك يا خلف
على هذه الوجبة الدسمة الفخيمه التى عملت فيها إزميل معرفتك
بحرفنة خارقه أخرجت لنا هذه المقامة البديعه الشكر والسلام
لكم والأبناء.


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذا ما كان من أمر الياقوتة الأولى لبابكر الوسيلة، شاعرنا وصديقنا، والأخ الأصغر لمحمد خلف، ولي، الى أن يطل علينا بالمهرجان، كما وعد:


في اللحظة التي وقعت فيها عيناي على الصفحة الأولى من هذه الرسالة ، أدركت أن هناك قلوباً ستخفق بأجنحة عامرة بالمحبة لهذا النهر الأخوي النادر . كما أنني أحسست بأن هناك بركات ، ولا ريب وراء هذه الأحرف العميقة الغور . سطعت أولى البركات بظهور هاشم محجوب ومحجوب كبلّو في ذات اللحظة التي طبعت فيها الرسالة مهيئا نفسي للذهاب إلى حيث سريري ومتعة القراءة . حدثتهما عن الرسالة ، فرحا كطفلين . لا ، فرح هذان الطفلان . خرجا من مركز النت الذي طبعنا فيه الرسالة . وذهبا كلٌّ يحمل حلوى تلك الأيام بيمناه . لم أُقابلهما منذ ذلك اليوم ، ولكني أظن أن رسالتك ستشتعل وتشتغل داخلهما بدفء . أرسلت الرسالة أيضاً إلى محمد عبد الرحمن بوب ، صديقك المفكر العميق ، وإلى خالد عبد الله نيجي ( كنا في العام السابق قد قمنا نحن في "منتدى مشافهة النص الشعري" بطباعة كتابه الشعري الأول "وأختصر الرياح بزهرة أولى" ) ثُم إلى أصدقاء أنت لا تعرفهم ولكنهم يعرفونك من كلماتي الدائمة عنك . سأفيدك بلطف أجنحتك هذه في قلوب أصدقائي أولاً بأول . ولكن متى كان للهلال فضائل ؟!

بابكر الوسيلة

آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الجمعة أكتوبر 02, 2015 2:39 am، تم التعديل مرة واحدة.
عادل عثمان
مشاركات: 845
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:14 pm
مكان: المملكة المتحدة
اتصال:

مشاركة بواسطة عادل عثمان »

كتب منصور المفتاح تعليقآ على مقالة الاستاذ محمد خلف الله عبدالله:

" لإخوه محمد خلف وناديا أراكما قد وضعتمانى فى إمتحانٍ قاس وشاق
بأن أقول قولى فى هذا السفر الفريد "

محمد خلف هو كاتب المفالة، من هي ناديا التي لم يرد ذكرها في المقالة او في البوست؟
There are no people who are quite so vulgar as the over-refined.
Mark Twain
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

العزيز بحيري،

إذن فقد بلغت "الرسالة" مراما من مراميها المركزية، الذي هو، بالضبط، المساهمة في إزالة "ما تراكم في وجداننا (وأذهاننا) من صدأ".

أقالدك أيها الصديق.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس نوفمبر 20, 2014 9:24 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الأستاذ علي بابكر،

هنيئا للرسالة بقارئ فاحص مثلك.

وكما قلت، فقد تناول محمد خلف "أكثر القضايا تعقيدا و إثارة للجدل في الفلسفة ومختلف العلوم بإشارات مفتاحية محكمة وموجزة وغنية مازجا إياها بحكاوى حميمة عن الأمكنة والأصدقاء في نسيج بديع مليء بالألوان وممتع"...وكما عبّرت بأنه "من الصعب أن يكتب الواحد جامعا بين الشتات الذي إحتوته مقالة خلف وتظل المادة رصينة وممتعة تشدك حتى آخر حرف فيها".

أنا أيضا مدين لخلف، وأصدقاء آخرين، مثل بشّار الكتبي، عبد الله بولا، أحمد عبد المكرم، وعبد اللطيف على الفكي ومحمد خلف الله سليمان، بالذات حين يتعلق الأمر بالرؤى والممارسات الثقافية، الفكرية، الابداعية والسياسية، كما سيأتي تفصيل ذلك في "رسالتي الى خلف".

أشد على يدك.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس نوفمبر 20, 2014 9:27 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

سلام يسابق الشوق وشوق يسابق السلام يا صديقي مسعود.

هي مائدتنا جميعا إذن.

ونحن موعودون بالمزيد.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

العزيز منصور،

لك الامتنان والعرفان على هذه الحفاوة السخية - كما على التداعيات والحوارات التي تسببت فيها الرسالة لكلينا سواء بسبب النسخة المنشورة هنا أو في سودانيز أونلاين أو عبر التراسل الخاص.
سآتي بالكثير من التفاصيل في وقت قادم.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

صديقي وأخي بابكر،

للصديق عادل عبد الرحمن قصيدة جميلة تتميز - من بين ما تتميز - بعنوان يقول (لنا):

"تلك مائدتي والدعوة غير عامة".

نحن في انتظارنا إذن.

قالد، لأجلنا، هاشم محجوب، محجوب كبلو، (بانتظارهما) محمد عثمان عبد النبي، أحمد المصطفى الحاج، محمد خلف الله سليمان، محمد عبد الرحمن (بوب) ومحمد نجيب محمد علي.


في صحتك.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الصديق عادل عثمان،

في اللحظة التي دفعت أنت بتعليقك أو ملاحظتك أو تساؤلك للنشر هنا، كنت أنا من بين أول من قرأه، إذ كنت أجلس - حيث أنا الآن - الى "منبر الحوار الديموقراطي". فهممت بالرد عليك، ذلك أن المعلومات التي سألت عنها متوفرة لدي. غير أنني ما لبثت أن بعثت برسالة مشاورة قصيرة الى منصور لظني أنه ربما يرغب في الاستجابة. فخولني بكتابة الرد. وقبل أن أقوم بتنفيذ ردي جاءتني، قبل وقت قصير، السطور الحميمة التالية من محمد خلف:


عزيزي عادل

رسالتي إليك بدأت تعمل كرسالةٍ أيضاً إليَّ، فكأنها امتصَّت خاصيَّة البومارانغ (السفروق) الأستراليِّ الأصل؛ فها هو سميٌّ لي من جنوب الوادي، محمد خلف الله سليمان، يهفو عبرك إليَّ - أو كأنها لعبةُ كرةِ مضرب، لا أقول يشترك فيها عملاقان، وإنما ينخرط فيها لاعبان من بلادِ العمالقة، أحدُهما في "ويمبلدون" والآخرُ في "ملبورن"، يتبادلانِ الضرباتِ المتبادلة عبر طرفي الكرةِ الأرضية؛ فيما ينتظر سميٌّ لي من جنوب الوادي، محمد أحمد خلف الله، منذ مولدي، أن أهفو إليه متجاوزاً قوله، فقد قرَّر منذ ذلك العهد أنه لا يجب أن يُفهم قوله على إطلاقه، "وإنما هي الحلولُ التي نضعها لنفسحَ مجالَ القولِ أمام الدارسين" – أو كأنها مباراةٌ وديَّة بين "سودانفورول" و"سودانيزأونلاين" ليس فيها مهزومٌ أو منتصر؛ فها هو منصور يبرهِّنُ ذلك بمساهمته في الموقعين بنفسِ المشاركة، موجِّهاً خطابه لي وناديا (أو "نادية"، كما أُحبُّ أن أكتبَ اسمَ رفيقةِ عمري)، فيسأل سميٌّ لك، عادل عثمان، عن صاحب الاسم؛ فنحارُ جميعاً: هل ينبغي أن يردَّ منصور أم عادل القصَّاص، أم نكتفي بالإجابة المُضَمَّنَة في هذه الرسالة المقتضبة، إذا قرَّر القصَّاصُ نشرها في رُكنِه بموقع "سودانفورول"؛ أو سمح لمنصور بنشرها في رُكنِه بموقع "سودانيزأونلاين".

محمد خلف


-----------------------

أيضا، يا صديقي عادل، نادية هي إبنة عمنا وأستاذنا الراحل الرشيد نايل محمد (المحامي)، أخت أمينة ومامون، وابنة خالة (أو عمة) منصور المفتاح، الذي أورد إسمها في تعليقه هنا لأنها هي التي بعثت إليه بنسخة من رسالة خلف، عبر بريد خاص، قبل أن نقوم ببذلها هنا، في إشارة إمتنان منه.

لك مودتي وشوقي للتواصل معك.

عادل
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 10:00 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

منعم رحمة، يا منعم علينا وبنا، منذ "بيت الصافية"، الذي لم أره، ومع ذلك كنت - وما أزال - أحد قاطنيه؛ ومنذ "تعريشة سلوى حبيب"، "بيت السابعة"، "بيت توني"، "بيت جبرا" وعصبة "نسوان عادل القصّاص" الجميلات، كما وسمهنَّ، بوسامة لسانه المعهودة، إبن أمي، محمد مدني؛ ومنذ غير ذلك من وساماتنا - وهي جَمَّةٌ، أنت فصلٌ مكينٌ، حَيٌّ وجارٍ، من فصول حياتنا، التي هي ليست ماضية، وإنَّما ماضية إلى الأمام.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الثلاثاء نوفمبر 18, 2014 12:20 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

يا عادل عثمان والقصاص

ناديه علمٌ ممنوعٌ من الصرف للعلمية ومجيئها على وزن الفاعل وعلم بالإضافة إلى علمين الرشيد نايل ومحمد خلف
وعلمٌ لأنها القارئ الأول لخلف وعلمٌ لأنها ملمة إلماما دقيقا بكل فنون التثقيف وواقفة على أرضيةٍ معرفية صلده
وإن توفر لها الظرف لتكتب فحتماً سيقع فك قارئها من الدهشه فإن لناديه حس أدبى وفنى وإنسانى رفيع المقام
لها التحايا وسمح الأمانى.





منصور
آخر تعديل بواسطة منصور المفتاح في الاثنين نوفمبر 17, 2014 5:50 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الهميم والحميم، منصور

ها أنتذا تبرهن، عبر أكثر من حزمة عشب أو باقة ورد، بأن الدرب الذي التقينا فيه، كان، وسيظل، أخضرا ل أو على كلينا، كما ل أو على كل من بنا مَسٌّ منه أو منها.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

القصاص عل الدرب يبقى أخضرا وسالكا ليس بشاقٍ ولا وعِرْ وعلنا نظل قادرين
على أن نسلكه، شكراً عادل وشكرا لعادل الآخر الذى منحنا رخصة
القول عن ناديا ولم نستطع قولها كما ينبغى.
شكرا ثانية القصاص,



منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وما أن قالد شقيق روحنا، محمد خلف الله سليمان، "رسالتنا" هذه حتى بعث الينا بهذه الكلمات الموسومة بالحضن:



عادل شقيقي

تلك محبة لا توصف.
هي فرجة معرفية لاتملك إلاّ وأن تقف أمامها مشدوهاً ومندهشًا.

تحياتي لهذا السميّ الجميل.
وعنوانه لو تفضلت ولنا الكثير.

تحياتي للعائلة والأصدقاء.

محمد
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 10:02 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

صديقي خلف،
رُبَّمَا في الفترة التي كنتَ أنت تبدع خلالها نَصَّكَ السردي الأول، "تحليق انسيابي فوق حرم الجامعة"، باللغة الإنجليزية، أو رُبَّمَا – وهذا هو الأرجح – في الوقت الذي نُشِرَ فيه هذا النص في مجلة سوداناو، في نوفمبر من عام 1980، كان ضجري وضيقي، من جُلِّ المواد التي كان يفرضها علينا منهج تدريس مواد الزراعة، خلال السنة الأولى واليتيمة التي درستها في مدرسة أُم ضَوَّاً بان الزراعية، قد بَلغَا أوجهما.
كان السبب الرئيس الذي دفعني إلى اختيار دراسة الزراعة هو أنني أردتُ أنْ أنخرط في دراسة ثانوية عُليا (ثانوية لاحقاً)، لا تحتوي – في ذلك الوقت – على مواد الرياضيات، الفيزياء والكيمياء! فعندما كنتُ أنتظر دوري لمقابلة مُمَثِّل وزارة التربية والتعليم، الذي كانت مهمته مراجعة استمارات الالتحاق بالمرحلة الثانوية العُليا، قُبَيْل الجلوس لامتحانات نيل شهادتها، بما في ذاك التأكُّد من صِحَّة البيانات الشخصية للطُّلَّاب المُمْتَحَنِين ومنح الفرصة لمن يرغب في تغيير – أو بالأحرى – إعادة ترتيب تطلُّعاته أو خياراته الدراسية للمرحلة الثانوية العُليا، إذا بأحد زملائي الطلبة المُمْتَحَنِين يسألنني عمَّا إذا كنت سأجري تعديلاً في ترتيب تطلُّعاتي أو خياراتي، التي كانت: (1) أكاديمي (2) زراعي (3) تجاري (أو، رُبَّمَا، صناعي – طبعاً لو كان متاحاً لي خيار عدم كتابة "تجاري" أو "صناعي"، لفعلت!) فأجبته بأنْ لا. فقال لي بأنه قَرَّر وضع خيار التعليم الزراعي في صدر تطلُّعاته أو خيارته. وعندما سألته لماذا يريد أن يُقدِمَ على خطوة كهذه، أجابني بأنه يُقَالُ إنَّ مواد التعليم الزراعي قليلة وسهلة. فسألته هل تعني سهولتها هذه خُلُّوُها من الرياضيات، الفيزياء والكيمياء. فرَدَّ عليَّ بأَّنَّ هذا بالضبط ما حَبَّبَ إليه هذا الخيار! فما كان مني إلَّا أنْ حذوتُ حذوه، ليس دون تَأمُّلٍ فحسب، وإنَّمَا بلَهْوَجَةٍ ودغدغةِ أُمْنِيَةٍ مُكَابِرَةٍ أيضاً، فيما كانت مُخَيِّلَتِي تتَذَوًّقُ النُعُومَةَ والفُغُوْمَ اللذين توحي بهما كلمة "زراعة"؛ فطلبتُ من ممثل الوزارة أنْ يجعل تطلُّعاتي أو خيارتي مرتبة على هذا النحو: (1) زراعي (2) أكاديمي (3) تجاري (أو صناعي).
ثم لم ألبث أنْ نجحتُ في امتحان الدخول للمرحلة الثانوية العُليا بنسبة غير ممتازة ولكنها جيدة، إذْ أحرزتُ تقديرات عالية في مواد كالتاريخ، الجغرافيا، اللغة الإنجليزية، اللغة العربية والتربية الإسلامية، بينما أذكر أنَّ تقديري في الرياضيات كان 3 من 100 (وفي أغلب الظن أنَّ ذلك التقدير العددي، الفقير إلى درجة تكاد تكون إستثنائية، لم يُمْنَح لي مقابلَ حَلِّيَّ لمسألةٍ من مسائل الامتحان، وإنَّمَا لقاءَ كتابة اسمي ورقم جلوسي على صدر ورقة الإجابات!). فكانت مدرسة أُم ضَوَّاً بان الزراعية من نصيبي، حيث عانيتُ، في اليوم الأول من وصولي إليها، من ثلاث صدمات:
الصدمةُ الأولى تتمثَّلُ في أنني وجدتُ مباني مدرسةٍ تُنَاقِضُ الصورة التي أنشأها في مُخَيِّلَتي قِسْمٌ مُؤثِّرٌ من قراءاتي السردية والشعرية، حتى ذلك الوقت، إلى جانب الدلالات الناعِمَة والفاغِمَة التي أحالتني إليها كلمة "زراعة"؛ ذلك أنني فُوجِئْتُ بمباني مدرسةٍ لا تتوسَّطُ مَرْجَاً أخضرَ مُطَرَّزَاً بأشجارٍ متنوعةٍ وورودٍ وزهورٍ مُتَعَدِّدَة، وإنَّما صُفِعَتْ عينايَ بهيئةٍ هزيلةٍ وكئيبةٍ لمبانٍ مُقَامةٍ على أرضٍ شاسعةٍ، آيلةٍ لصحراء، ينبتُ منها الغبار والعُبُوس.
الصدمةُ الثانيةُ تتلخَّصُ في أنَّ غُرَف الداخليات كانت عبارة عن غُرَفٍ مُلَفَّقَةٍ، أُنْشِئَتْ لأجلنا – مؤقتاً، فيما قيل لنا – داخل بَرَنْدَةٍ طويلة ذات سقفٍ زِنْكِيٍّ؛ أي أنَّ ذلك الإِنشاء تَمَّ بتقسيم تلك البَرَنْدَة إلى حُجَيْرَاتٍ ضيِّقة، تشبه الزنازين، بواسطة ألواحٍ من خشب البُوسَنَايْت أو الأَبْلَكَاش؛ وكان الفصل شتاءً، حيث الريح لا تُحَاوِرُ الخاطر، وإِنَّمَا تَلْطُمه.
أما الصدمةُ الثالثةُ – الأشَدُّ قُوَّةً وقسوةً من الصدمة الأولى والثانية معاً – فقد كان مصدرها ليس تَبَيُّنِي خرافة خُلُّو مواد التدريس هناك، التي كان ينحدر معظمها من منهج تدريسٍ مصريٍّ، من الرياضيات، الفيزياء والكيمياء فقط، وإِنَّمَا – أيضاً – اكتشافي أنه لم تكن ثَمَّة مادة من المواد التي كنا نُدَرَّسُهَا خلال تلك السنة عارية – بدرجات مختلفة – من عناصر تلك المواد الثلاث. فكانت النتيجة أنني لم أجد أيَّمَا متعة – لذلك السبب ولاعتقادي بغياب السرد – في أية مادة من مواد تلك السنة الدراسية، الأولى والأخيرة. الإِثارةُ الهَشَّةُ، الوحيدة والمؤقتة، التي كنت أشعر بها خلال الأسابيع القليلة الأولى هناك، كانت تتمَثَّلُ في المعانقة الطازجة لأُذنيَّ للهجة المصرية الصادرة عن عدد قليل من مدرسينا المصريين.
كان ذلك مأزقٌ دِرَاسيٌّ لم – وفي الغالب لن – أواجه مثيلاً له طوال حياتي الدراسية المُنتَظِمَة. وكان ما ضاعف من غيظي أنَّ ذلك الزميل الطالب، الذي تَسبَّبَ لي فيه، لم يكن من بين الطلبة الذين تَمَّ إلحاقهم بمدرسة أُم ضَوَّاً بان الزراعية؛ فلو كان معنا هناك لكنت فَشَّيْتُ غبينتي فيه بطريقةٍ تلائم عمرنا في ذلك الحين. فقلت في نفسي رُبَّمَا كان من الذين أُحِيلُوا إِلى مدرسة زراعية أخرى مثل طلحة أو أبو نعامة؛ أو – ورجَّح حُنْقِي، أو رغبتي في الانتقام، هذا الاحتمال – رُبَّمَا لم ينجح في امتحان الشهادة الثانوية العليا؛ إذْ إنَّ شخصاً بمثل هذا الغباء – واستثنيت نفسي، طبعاً، باعتباري ضحيةً – لا يمكن أنْ يكون النجاح حليفه!
أما أملي في الخلاص من ذلك المأزق، فلم يكن سوى أنْ أتطلَّعَ، بفارق الصبر، إلى انتهاء العام الدراسي، كي أحزم روحي المكروبة وأمتعتي وأعود إلى بيتنا الأُمدرماني، الكائن في الثورة الحارة السابعة، دون رجعة، مهما كانت النتائج.
وما أنْ فعلتُ العودة، بنهاية ذلك العام الدراسي، حتى أبلغتُ ناس بيتنا بعدم رغبتي في العودة لمواصلة دراسة الزراعة، كما اقترحت عليهم أنْ يجدوا لي طريقة تنقلني إلى "مدرسة أكاديمية" في أمدرمان، إلى حيث لابد أن يكون للسرد نصيبٌ في بعض المواد.
قابَلَ رَجُلَا بيتنا، أبي وأخي الأكبر، قراري ذاك بعاصفة من الغضب، الذي كانت عَاقِبَتهُ إعلان كليهما الامتناع (الرَخْوِ طبعاً) عن تقديم المساعدة لي، فيما احتضنته امرأة البيت، أمي وأمك، الحاجة صفيَّة، ليس بعاطفتها السخيَّة فَحَسْب، وإِنَّمَا بسعيها العملي كذلك – هي التي ليست بقارئة ولا كاتبة – لإيجاد مدرسة ثانوية ("أكاديمية") تستوعبني.
فكان أنْ كُلِّلَتْ مساعيها بقبولي في المدرسة الأهلية الثانوية العليا بأمدرمان (حيث سبقتني أنت إلى الدراسة فيها) التي كان ناظرها، في تلك الفترة، يُدْعَى التِّلِب (نسيت اسمه الأول؛ ترى، هل تربط صديقنا مأمون التِّلِب أية قرابة به، غير قرابة أمدرمان، رُبَّمَا؟) غير أنَّ إدراة المدرسة رفضت قبولي في الصف الثاني بحجة أنني قرأت مواد مختلفة ("غير أكاديمية") في السنة الأولى؛ فرأتْ أنْ لابد من مروري بمواد الصف الأوَّل. ولم يكن ثَمَّة من بُدٍّ من الرضوخ؛ فانتظمت في "سنة أولى ثانوي عالي" مرة أخرى.
لم يوَفِّر لي التحاقي بالمدرسة الأهلية الثانوية العليا الاستمتاع بمواد ذات وشائج متباينة الكثافة بالسرد (مثل اللغة العربية، اللغة الإنجليزية، التربية الإسلامية والتاريخ) فقط، وإنَّما كافأت روحي الظمأى للسرد، للشعر، ولأنواع أخرى من "القراءات أُمْ غِيْرْ دَقْ"، بالمكتبة المدرسية.
كانت المكتبة المدرسية هناك ذات فوائد نوعية مُرَكَّبَة. فهي رفدتني بثروة سردية وشعرية ضخمة، علاوة على آفاق تأملية ونقدية مختلفة، في مدة وجيزة، مما كان سيستغرق منِّي سنوات من "المُعَافَرَة المُستَقِلَّة"؛ كمَا أهدتني فكرة عملية ثانية للتَهَرُّبِ من حِصَصِ الرياضيات، الفيزياء والكيمياء، وذلك بأنْ غدوت أتجَنَّب – في كثير من الأحيان – حضور تلك الحِصَص بالذهاب إلى المكتبة.
أمَّا الفكرة العملية الأولى، فقد كانت تتمثَّل في أنني كثيراً ما كنت أحوِّل الوقت المُمِلَّ، الذي كنت أقضيه في هذه الحِصَص، إلى وقتٍ مُمْتِعٍ؛ وذلك إمَّا بالقراءة، شبه السِرِّيَّة، لجزءٍ أو نَصٍّ – إبداعي على الأرحج – من كتابٍ، مجلةٍ أو صحيفةٍ؛ أو بالانهماك، شبه السِرِّيِّ، في كتابةٍ ما، غالباً ما يكون لها نزوعٌ إبداعيٌّ؛ أو بمحاولاتٍ، شبه سِرِّيَّةٍ، في الرسم؛ (وقد كان من فوائد انتقالي إلى المدرسة الأهلية أنَّه كان لدينا أستاذٌ مُتَخَصِّصٌ في الرسم، رغم عدم اكتراث معظم التلاميذ بحضور حِصَّتِهِ – بل أحياناً كنت أنا التلميذ الوحيد الذي يحرص على حضورها؛ غير أنني لست أستَحْضِر، على وجه التحديد، فيما إذا كنتُ قد تَمَرَّدتُ على تلك الحِصَّة كذلك، لصالح القراءة، أم أنها أُلْغِيَت بالأساس. على أنني أتذَكَّر أنني لم أنخرط سوى في حِصَصٍ قليلة منها، وهي التي كان محكوماً عليها – أصلاً – بحضور بالغ الضمور في الجدول الأسبوعي للحِصَص المُقرَّرَة علينا. كما أستَدْعِي أنَّ أستاذ مادة الرسم ذاك كان هو أيضاً أحد المرتادين القلائل لتلك المكتبة المدرسية. كذلك كان من أبرز الفوائد التي منحني لها ذلك الأستاذ أنْ علَّمني كيفية تقسيم سطح الورقة – ذهنياً أو تَصَوُّرِيَّاً على الأقل – قبل البدء في رسم منظر طبيعي؛ كما كان قد اقترح عليَّ قراءة كتاب إِيْرْنِسْتْ فِشَرْ "ضرورة الفن"، الذي كان حاضراً في المكتبة أيضاً – وقد فعلت ذلك بمتعةٍ وفخر. ومن المؤسف أنني لا أستَحْضِرُ اسم ذلك الأستاذ. بيد أنني أتذَكَّر حين تعرَّفْتُ لأوَّل مرة، في منزل بَشَّار الكُتُبي، إلى الفنان التشكيلي عبد المنعم الرَّيَّح – بعد ذلك ببضعِ سنواتٍ – ظننتُ – لمدة غير قصيرة – أنه ذلك الأستاذ من فرط أوجه الشبه بينهما: نفس طول القامة، عين لون البشرة، نفس الوجه المستطيل العامر بلحيةٍ موصولةٍ بالفودين وبالشارب. وعندما سألتُ وَدَّ الرَّيَّح فيما إذا كان هو ذلك الأستاذ، لم ينفِ ولم يُؤَكِّد. بيد أنَّ افتقار وَدَّ الرَّيَّح – في ذلك الوقت على الأقل – إلى مَلْمَحٍ رَئيسٍ من ملامح ذاك الأستاذ – المُتَمَثِّل في هدوءٍ راسخٍ – كان هو الذي حسم لي أمر اختلاف الشخْصِيَّتَين).


(يتبع)
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يناير 26, 2015 3:42 am، تم التعديل 5 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كتبتُ، على مدار بضع حِصَصٍ من حِصَصِ الرياضيات، الفيزياء والكيمياء رسالةً طويلة، ذات ثلاثة أجزاء تقريباً، موجَّهة إلى صديقي القديم، الحميم، الهميم، بكري حسين حسن عمران، الذي – ويا لحزني المقيم عليه – رحل عن دنيانا بعد كتابة تلك الرسالة بنحو ربع قرن، بسبب صعقة كهرباء خليجية.
حين كتبتُ تلك الرسالة الطويلة إليه، كان بكري مُبْتَعَثَاً، من قِبَل عائلته التي كان جُزْءٌ منها يجاور أسرتي في الحارة السابعة، ليتلَقَّى كورساً قصيراً في علوم الكمبيوتر في القاهرة. كان سرداً حارَّاً، أهيَفَاً ودفَّاقاً. كانت حساسيتي النقدية، الغريزية تقريباً في ذلك الأوان، قادرةً على أنْ تتعرَّف بسهولة على الهوية الإبداعية العامة لتلك الرسالة. فتماطلتُ في بعثها إليه بالاشتغال الدؤوب، المُمْتِع، عليها، إلى الدرجة التي كانت أحياناً تُنْسِيني أنَّ هذه رسالة كُتِبَتْ إلى صديقٍ صميمٍ وأنَّ من حقه، ليس أنْ يطَّلع عليها فحسبُ، وإنَّمَا أنْ يمتلكها في المقام الأوَّل والأخير. فظللتُ على ذلك النحو من التماطل و/أو العمل عليها، الذي تُوِّجَ بعَنْوَنَتِي لها بِ "حُمَّى الزمنِ الصِفْر"، إلى أنْ رجع بكري من القاهرة، فسلَّمته نسخة منها باليد! فقال لي، بسخريته الهادئة، الرشيقة والموحية، بأنه لن يكون بوسعه أنْ يتقَيَّد بنفس الخطوات والإطار الزمني للردِّ عليها!
أمَّا النسخة التي بقيتْ بحوزتي، والتي كان كل يومٍ يمرُّ عليها يزيدني قناعة بأنها نص إبداعي، فقد أرسلتها إلى محمد نجيب محمد علي، الذي كان حينها يشرف على تحرير صفحتين أدبيتين أسبوعيتين من صفحات مجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح. بيد أنه لم يتمكن من نشرها – رغم إعجابه الجارف بها – كما أوضح لي ذلك حين التقيته بعد بضعة أسابيع من إرسالي إليه بها، وذلك بتحريض وتسهيل من خلف الله سعد، صاحب كُشْك الجرائد الشهير الواقع في سوق الحارة الرابعة. فكان السبب الذي منع محمد نجيب من نشرها يعود إلى إنهاء المجلة تعاقدها معه في الوقت الذي كان هو يعدُّ ذلك النص للنشر في العدد المقبل.
كان للإعجاب الجارف لمحمد نجيب بتلك الكتابة، كما كان لحَمِيَّة خلف الله سعد نحوي، كشاب يافع ظل يراه يعِدُ بمستقبل إبداعي، دوراً حاسماً في أن أعرض على الأخير نصاً سردياً آخر، موسوماً بعنوان "عفواً، كنتُ أُمارِسُ فيكِ العِشقَ"، كنتُ قد فرغتُ حديثاً من كتابته، التي توزعتْ بين حِصَصِ الرياضيات، الفيزياء والكيمياء وبين "غرفة السابعة".
يدين هذا النص، وقبله كاتبه، لخلف الله سعد بالكثير.
تعود صلتي بخلف الله إلى "علاقتي التاريخية" بكُشْكه، الذي لم يكن شهيراً بسبب بيعه للجرائد، المجلات، الدوريات وطائفة من مطبوعات أخرى، محلية وغير محلية، فقط، إذْ كان يتمتع بزبائن كُثْرٍ بنتيجة موقعه في سوق كبير، ولا بعامل الانتشار الاجتماعي لخلف الله، فحسب، وإنَّمَا، أيضاً، لأنه كان يُمَثِّلُ مُلتَقًى عفوياً لعدد من ذوي الاهتمامات و/أو الممارسات التي تنتمي للحقل الثقافي، الإبداعي، الصحفي والسياسي من قاطني الحارة الرابعة، وبعض الحارات المجاورة وشبه المجاورة، بل وحتي بعض الحارات القَصِيَّة إلى ذلك الزمن. فقد كان من أشهر مرتاديه – على سبيل التمثيل – بَشَّار الكُتُبِي، سامي سالم، عبد الوهاب حسن الخليفة، أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم وأحمد المصطفى الحاج؛ ولم أكن أعرف من هذه القامات النقدية والأدبية أحداً عدا سامي سالم، الذي كانت تربطه صداقة بابن عمي الشاعر محمد الفاضل تمساح، مما نجم عنها صداقات له مع أقرباء آخرين لي؛ فيما كنتُ أنا – رُغْمَ صِغَر سِنِّي في ذلك الحين – أحد أبرز "الزبائن العريقين" للكُشْك؛ إذْ إنَّ علاقتي المتنامية به بدأت منذ أنْ كنت تلميذاً في مُستَهَلِّ المرحلة الثانوية العامة (المُتَوَسِّطَة لاحقاً)، ورُبَّمَا قبل ذلك بقليل، أي منذ ذيل المرحلة التي كنتُ فيها صديقاً لسلسلات "الألغاز"، "أرسين لوبين"، "القديس" و"الهارب"، على سبيل المثال. فكان من نتيجة كثرة تَرَدُّدِي على الكُشْك أن غدوتُ صاحب حظوة وثقة لدى خلف الله إلى الدرجة التي صَيَّرَتهُ يطلب مني أحياناً الجلوس في الكُشْك لحراسته والإشراف على البيع، حينما يكون ذاهباً لقضاء غرضٍ ما، لمدة تطول أو تقصر، وكانت غالبا ما تطول؛ بالإضافة إلى أنه – وهو القارئ الذكي، المُتَابِعُ الاجتماعي النشط والسياسي اليساري العنيد، كان قادراً على الإلمام العام بمراحل نمو حساسيتي الثقافية، الإبداعية والسياسية العامة، غير السائدة فيمن هم في مثل عمري. وذلك ما جعله يأمل – كما أصدقاء ومعارف آخرين – في أن أصبح عضواً في الحزب الشيوعي السوداني، الذي كان هو عضواً فيه.
وفي مرحلة ما من مراحل "صعودي المدرسي"، التي كان يوازيها نُمُوٌّ حَثيثٌ لحساسيتي الثقافية، الإبداعية، الاجتماعية والسياسية، المُكتَسَبَة من خارج المدرسة بشكلٍ رئيس، انتقل سَأَمِي من مواد الرياضيات، الفيزياء والكيمياء إلى بقية المواد المدرسية. فكان هذا حافزاً إضافياً لي للتَهَرُّبِ، ليس من حِصَصٍ بعينها فقط، وإنَّمَا من الذَهَابِ إلى المدرسة بَرُمَّتِها. فصار ذهابي إلى الكُشْك، سواء للونسة مع خلف الله أو لمساعدته بحراسة الكُشْك والإشراف على البيع في غيابه، بما يشمل طبعاً حافز "الاطِّلاع المجَّاني" على بعض المعروضات، من العادات المُحَبَّبَة لديَّ.
لم يترَتَّب على قراءة خلف الله لنص "عفواً، كنتُ أُمارِسُ فيكِ العِشقَ" إعجاباً به فحسب، وإنَّمَا أيضاً حماساً لعرضه على مَنْ يرتاد الكُشْك من ذوي الاهتمامات والخبرات النقدية والأدبية. فكان بَشَّار الكُتُبِي أوَّل من قرأ هذا النص، بحضوري المُتوَتِّر. أثنى بَشَّار على النص مُعَلِّقاً بأنه يُمَثِّلُ كتابةً جميلة وجديدة؛ ثُمَّ اقترح على خلف الله عَرْضه على كُلٍّ من سامي سالم و أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم للإفادة من رأيهما، كما من احتمال تَمكُّنِهمَا من المساعدة في نشره.
وفي يومٍ تالٍ، أو رُبَّمَا في عصر نفس ذلك اليوم، طالع أحمد الطَيِّب النص، بحضوري المُتَطَلِّع بغير قليل من التَوتُّر. سيلعب التقييم النقدي لأحمد الطَيِّب الدور الحاسم، الأوَّل، في أن تغدو هويتي الأدبية: كاتِبَ قِصَّةٍ قصيرة؛ إذ كان رأيه أنَّ هذا النص يمكن إدراجه تحت تصنيف "الحساسية الجديدة في القِصَّة القصيرة" – وسيتفق معه لاحقاً كُلٍّ من عبد الوهاب حسن الخليفة، عبد الله محمد إبراهيم، سامي سالم وبَشَّار الكُتُبِي – وذلك لما يشتمل عليه – كما أوضح – من مفارقة للشكل والأسلوب التقليديين للقِصَّة القصيرة، حيث يتم تطبيق تقنيات مختلفة على الشكل وحيث الطاقة الشعريةً للُّغَة تتفَجَّرُ إلى مدىً بعيد.
قَبْلَ أحمد الطَيِّب، ومَنْ أيَّدَه مِنْ تلك القامات الأدبية والنقدية، لم أكن أعلم أن ذلك النص يمكن أن يُصَنَّفَ كقِصَّة قصيرة، كما لم أسمع بتيار "الحساسية الجديدة في القِصَّة القصيرة". ومنذ ذلك الحين، أصبحت قراءة القصة القصيرة لديَّ تسير على قدم المساواة مع – إن لم تتَفوَّق أحياناً على – قرائتي للرواية والشعر؛ حيث سأفيد، فائدةً جَمَّة، من خبرات الاطِّلَاع، الكتابة والنقد، في هذا الحقل وفي غيره من حقولٍ، لتلك القامات الأدبية والنقدية، ولقاماتٍ أخرى تَشرَّفتُ بمعرفتها ومصادقتها، في نفس تلك الفترة تقريباً، وهذه تشمل محمد خلف الله سليمان، أحمد المصطفى شريف ومحمد عثمان عبد النبي، وقبلهم وأثناءهم، أحمد المصطفى الحاج، الذي لعب دوراً مماثلاً لخلف الله سعد في سريان اسمي والحديث عن تلك القصة إلى دائرة أوسع، لا تبدأ من محمد نجيب محمد علي ولا تنتهي عند سعد الدين إبراهيم، وذلك بحكم حركته اليومية الدائبة بين أكثر من حارةٍ، حَيٍّ ومَوقِع.


(يتبع)
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس يناير 08, 2015 7:42 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

مَوْضَعَتْنِي بعضُ الصداقات التي تَسَبَّبَتْ فيها قِصَّة "عفواً، كنتُ أُمارِسُ فيكِ العِشقَ" – قبل أن يتحقَّقَ لها النشر بنحوٍ من عامين – في مرحلة جديدة من الأسئلة أو الاهتمامات ذات العلاقة العضوية بالهَوِيَّة الشخصية والمشتركة، بالممارسة الاجتماعية-الثقافية الشخصية وبالتغيير السياسي العام؛ وهي المرحلة التي شَهِدَتْ تأثيراً متداخلاً ومتفاوتاً من كُلٍّ من بَشَّار الكُتُبِي، محمد سعيد بَازَرْعَة وأحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم. إنها المرحلة الراديكالية، إلى سأقطع فيها مع التعليم المدرسي المُنتَظِم، ومع الخريطة الاجتماعية الأبجدية.
فإذا كنتُ في السابق أتَجنَّبُ أحياناً الذهاب إلى المدرسة كي أقضي وقتاً طويلاً في كُشْك خلف الله سعد، فقد صرتُ الآن أُكْثِرُ من تفادي المضي إليها من أجل قضاءِ زمنٍ أطول في صالون بَشَّار. و لو كان الجلوس لحِصَصِ الرياضيات، الفيزياء والكيمياء يجلب لي حموضة سابقاً، فقد بات حضوري لأيَّةِ حِصَّةٍ اليوم يَتسبَّبُ لي في حَرَقَان. أصبح شعوري بالغربة عن أيَّةِ مادَّةٍ، عن أيِّ مُدَرِّسٍ، عن أيِّ تلميذٍ-زميلٍ، يتعاظم يوماً بعد آخر. وشيئاً فشيئا غدوتُ أُحِسُّ بأن بعض الطلبة يتغامزون بشأني، إذ يلمسون انكماشي من التفاعل المؤسسي-الاجتماعي معهم، كأنَّمَا لسان غمزهم يقول: "مَنْ يظنُّ نفسه؟!" وليس ذلك بنتيجةِ تحاشيَّ الانغماس العام معهم في عوالم المرحلة فحسب، وإنَّما، أيضاً، لأنني درجتُ – عندما أجيئ إلى المدرسة – على جلب جريدة يومية، "الأيام" أو "الصحافة"، معي. فكنتُ، قُبَيل الدخول إلى مبنى المدرسة صباحاً، أقرأ الصفحة الأخيرة – تلك التي تضُمُّ الصفحة قبل الأخيرة كذلك، أي التي تحتوي عادةً على شؤون الرياضة، التي هجرتُ الاطِّلاع عليها مع تَوقُّفي عن ممارسة لعبة كرة القدم، رغم أنني كنت مُبَرِّزاً فيها، منذ أعوام قليلة. ولما كانت هذه الصفحة هي مثار الاهتمام الأبرز لأغلب بقية زملائي الطلبة، مما يحمل بعضهم على التَسابُق نحوي، وبالتالي انكبابهم وفرضهم عليَّ إفرادها بيننا من أجل القراءة المشتركة، كنت أقوم بفصلها عن بقية الجريدة، ومن ثَمَّ أمنحها لأوَّل زميل يَبلُغَني؛ ولم أكن أفعل ذلك دون ندمٍ وخجلٍ داخليين.
ظللتُ على هذه الحال من الغربة عن المدرسة، من إهمال دروسها، ومن التَهرُّبِ المتزايد من الذهاب إليها، لصالح المضي إلى صالون بَشَّار، إلى أن جاءت المرحلة الحاسمة، مرحلة الجلوس لامتحانات الشهادة السودانية، التي لم أكن، بالطبع، مستعداً لها من جميع الجوانب. ولأنني لم أُرِدْ أن أُبَدِّد وقتي في عمل شيء أنا على يقين من أنَّ لا طائلَ من ورائه، أي كتابة اسمي ورقم جلوسي وانتظار مرور نصف الزمن على كل امتحان لكي أُحَرِّر نفسي منه، لم أجلس لأيِّ امتحان.
وازى ذلك "التَحوُّل الثقافي" تَغيُّرٌ تدريجيٌّ في خريطة ارتباطاتي الاجتماعية، التي كان يطغى عليها صداقاتي ومنادماتي مع الأقرباء والجيران. فصار صالون بَشَّار، بالنسبة لي، هو المدرسة والمَلْهَى: نقاشاتٌ ثريَّة تبدأ خلال النهار، أو منذ الصباح عندما يكون اليوم عطلة، وتستمر إلى المساء الذي يكافئها بالعَرَق، وغالباً بانضمام مناقشين أو ندماء جُدُد. كنتُ أنا الرائد الأصغر سِنَّاً، الأكثر صمتاً وإصغاء، بين رُوَّاد ذلك الصالون، الذي كان يقيم فيه محمد سعيد بَازَرْعَة لبضعة أشهرٍ كلما حضر إلى العاصمة من بورتسودان، والذي كان يرتاده، على نحوٍ شِبْهِ مُنتَظِمٍ، كُلٌّ من أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم، عبد الوهاب حسن الخليفة، عبد الله محمد إبراهيم، معاوية معروف وشخصي. غير أن ذلك الصالون لم يكن يخلو، سواء خلال النهار أو المساء، من رُوَّاد غير مُنتَظِمين، من ذوي الاهتمامات الثقافية أو الإبداعية أو السياسية، أو حتى ناشدي "المنادمة الصرفة". فكنت تلتقي فيه أحياناً بسامي سالم، أحمد المصطفى الحاج، محمد مصطفى الأمين، التجاني سعيد، عمر الطَيِّب الدوش، ود أبُّو، الطاهر عبد الرحيم، خلف الله سعد، محمد عثمان عبد النبي، سيد أحمد بلال، خالد عبد الله حسن (نيجي)، عبد الله محمد الطَيِّب (أبْسَفَّة)، صلاح محمد إبراهيم، حاتم محمد صالح، يحيى فضل الله العوض، السر السيد، عثمان الحويج، هشام الشاذلي، حسان الشاذلي، عبد الحليم كابو، عبد المنعم الرَيَّح، محمد عبد الله (تَمَّنُّو)، كمال إبراهيم، محمد خلف الله سليمان، الفاضل كَبَّاشي، أبو الحسن بَلَّه، عبد المنعم الشيخ، جعفر نصر، محمد مدني، عادل عبد الرحمن، محمد أحمد عمر الحَبُّوب، إبراهيم سعيد، الطَيِّب إبراهيم العبَّادي؛ ولاحقاً، عبريَ على الأرجح، بكري حسين حسن عمران، محمد خلف الله عبد الله، إبراهيم جعفر، عثمان حامد، أحمد الأمين أحمد، محمد النعمان، درير محمد عبد الرحيم، عصام علي (السمين). إنَّمَا هذه أسماء للتمثيل فقط.
كانت الكثير من الأفكار والحوارات التي تدور في ذلك الصالون تثير اهتماماً متنامياً عندي. لكن كانت قضيتا ما يُسمى بـِ "الأقليَّات العرقية" (وذلك-هذا مُصطَلَحٌ خبيثٌ، مُكَابِرٌ، مُتَعجْرِفٌ، مُضَلِّلٌ) و"التغيير السياسي الرَادِيكَالي"، عبر الكفاح المسلح، من أجل بناء مجتمع اشتراكي، على رأس القضايا التي تجد مني اهتماماً أكثر. كانت القضية الثانية تتَعزَّزُ باضطراد بتأثير من حواراتي الشخصية مع كل من بَشَّار الكُتُبِي ومحمد سعيد بَازَرْعَة وأسئلتي واستفسارتي لهما عن ملابسات تأسيس ومآلات منظمة "طلائع الكادحين الثوار"، التي أُشْتُهِرَت بنعت "الجيفاريين"، الذي يُقَالُ إنَّ مصدره هو تصنيفٌ نقديٌّ لعبد الخالق محجوب، والتي شاركا في تأسيسها في نهاية ستينيات القرن المنصرم إلى جانب كُلٍّ من عمر شين، فضل عبد الحميد، الطاهر عبد الرحيم، ولاحقاً محمد عثمان عبد النبي وفتح الرحمن بارْدُوس (وقيل سيد أحمد بلال كذلك). كما اضطلعا في ممارسة عملها العنيف المتناثر المحدود، الرمزي تقريباً، الأوَّل والأخير، الذي تفَجَّر في أعقاب انقلاب 25 مايو 1969 بفترةٍ وجيزة. ساهم في ذلك التعزيز أيضاً بعضُ قراءاتٍ ماركسية كلاسيكية وأخرى ماركسية جديدة و/أو نقدية للرؤى والتطبيقات الاشتراكية – تلك المستندة إلى تأويلاتٍ رائجة لأفكارٍ وشعاراتٍ ماركسية كلاسيكية – التي كانت سائدة في ذلك الحين. على أن ذلك التعزيز تُوِّجَ، وأُلهِمَ أكثر، ببزوغ الأفكار الآيديولوجية-السياسية والعمليات العسكرية للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، ومِن ثَمَّ اقترنتْ – بوضوح أكثر – بالقضية الأولى، هذه التي دَرَجَ الأدب السياسي، و"غير السياسي"، السائد لدينا، على وَسْمِها بمشكلة أو مسألة أو قضية "الأقليَّات العرقية" في السودان.
لم يأتِ ترتيب "قضية الأقليَّات العرقية"، في هذا السياق، باعتبارها المسألة الأولى التي أثارت اهتماماً مركزياً متنامياً لديَّ، جُزَافاً. يعود الفضل، الأوَّل، في غَرْسِ هذه القضية في قلبي، قبل عقلي لحُسْنِ حظِّي، لأُمِّي، أي أُمِّنَا، الحاجة صفيَّة بنت محمود، الأنصارية. حدث ذلك عندما شاهدتها، وأنا بعد تلميذٌ في أُهْبَةِ المرحلة الثانوية العامة، تُوَجِّهُ أسئلةً مُدَجَّجَةً بالغضب، بالاحتجاج وبالإدانة، إلى قُوَّةٍ من الشرطة كانت تقوم باعتقال مريم، جارتنا، الحيطة بالحيطة، صانعة وبائعة العَرَقِ، أُمِّ عوضية، رمضان، سعيد، حَمَّدُو وآخرين، التي كنتُ أنا – وما أزال – ابناً لها كذلك، والتي سنصير، نحن مقيمي "غرفة السابعة" وزُوَّارنا من الأصدقاء، رُوّاداً لبيتها وزبائن لمنتجها من العَرَقِ. رأيتُ مريم، ذلك اليوم، مُكَوَّمَةً في منتصف شاحنة الكُومَر. كانت، في تكَوُّمِها ذاك، مُحَاطَةً بعددٍ من أوانيها التي تستخدمها في صناعة العَرَقِ وفي بيعه: قِدُورٌ، حِلَلٌ وقنانٍ. ولم يكن بوسع أُمِّي، أي أُمِّنَا، الحاجة صفيَّة بنت محمود، الأنصارية، سوى أن تُشْهِرَ قلبها وعقلها، عبر لسانها، في تلك القُوَّةِ من الشرطة:
"مالكُمْ قاطعين رزقها ومُجَوِّعين أولادها؟! إنتو جِبتوا ليها شُغُل تاني وهي أبَتو؟! حَسَّع بتستفيدو شنو من البتعملوا فيهو ده؟!"
لم يأبه أيُّ فرد من أفراد تلك القُوَّةِ بهذه المرافعة؛ ثُمَّ مضت شاحنة الكُومَر وفي صندوقها الحديدي الخلفي تترجرج مريم وأوانيها، وقد خلَّفَ ذلك المشهد حزناً في بعض مَنْ كان يشاهد، لاسِيَّمَا فينا، نحن أطفالها، لا مبالاةً من بعض الجيران والمارَّة، شماتةً من بعضٍ آخر منهم، غضباً ولعناتٍ من الحاجة صفيَّة بنت محمود، الأنصارية:
"الله لا بَارَكْ فِيكُمْ ولا كَسَّبْكُمْ! الله يَقطَعْ عِيْشْكُمْ زي ما قطعتوا عيشها! شَاحْدَةْ الله، صاحب القُدْرَةْ المَابَعَدَا قُدْرَةْ، يَوَرِّيني فِيكْ يوم ياالنميري!"
كان ذلك المشهد يتَكرَّر بين فترة وأخرى. وكانت مرافعة الحاجة صفيَّة بنت محمود، الأنصارية، تتَكرَّر معه أو فيه، إنْ كانت حاضرةً، وهي التي لم تكن – وما تزال لا – تريدنا – نحن أولادها – أن نشرب الخمر لأنها تُضِرُّ بصَحَّتِنا، تُبَدِّدُ مالنا، ولأن الله يُحَرِّمها. أمَّا إنْ لم تكن حاضرةً، فإن عباراتها الغاضبة ولعناتها سرعان ما تبدأ بملاحقة آثار الشرطة، التي ترى أنها لم تعد تجد شغلاً لها سوى تصَيُّد الفقراء من أمثال مريم، لتُخْتَتم بالدعاء على الذي كان السبب، جعفر نميري، وبالشروع في خصم بعض أكل البيت، المحدود غالباً – إلى الدرجة التي يمكن أن تُسَوِّغَ تحريمه على الجيران أحياناً – لتناوله لعوضية، الابنة البكر لمريم، عبر الحيطة التي تفصل بين بيتينا. وحين يتم إطلاق سراح مريم، فإنها تناولها التهنئة أو الحَمْدَلَة بالسلامة، إلى جانب شيءٍ يُؤكَلُ أو يُحَلَّي به، عبر نفس الحيطة، التي كانت مريم تبادلها عبرها بعض أكل بيتها أو تَحْلِيَاتِه في أوقاتٍ أخرى، مُستَقِرَّة.
بعد مرور أكثر من عشر سنواتٍ على واقعة اعتقال مريم تلك، سأقوم باستلهامها وحلم العدالة الاجتماعية، الذي يتوَسَّلُ الكِفاح المُسلَّح، في قصتي القصيرة، "نَشيدُ التَماسُكِ وزَهرَاءُ التي تعرفُ كيف تضحكُ ويتَرقرقُ صوتُها في فمكَ"، التي صَدَّرتُها بإهداءٍ إلى كُلٍّ من بَشَّار الكُتُبِي، محمد سعيد بَازَرْعَة، عُشَاري أحمد محمود وعبد الله بولا. ولو مُنِحْتُ سانحة لأجري تعديلاً في، أو إضافة إلى، ذلك الإهداء، لوضعتُ أُمَّنَا، الحاجة صفيَّة بنت محمود، وخالتي مريم، صانعة العرق، في المقدمة، ثُمَّ أضفت أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم، حسن موسى وعبد الله علي إبراهيم – الذي أعانتني أطروحته الرائدة والنافذة، "الماركسية وقضايا اللغة في السودان"، أيَّمَا اعانة، ولكن مواقفَ وممارساتٍ صحفية تالية له من خلال مقالاتٍ كان يُكَرِّسُها للمتابعة السياسية، عبر زاوية كان يكتبها لجريدة "الخرطوم" على أيام شِبْهِ ديموقراطيتنا الثالثة، وَلَّدَتْ غُصَّةً في قلبي. كان ذلك الإهداء – وما يزال – امتنانٌ وعرفانٌ لرموزٍ أضافت لي مواقفها وممارساتها الاجتماعية، السياسية، وأطروحاتها الثقافية-الفكرية الكثير، النوعي، الذي سيعينني لاحقاً على ارتياد آفاق ثقافية وسياسية أرحب، حيث سَيتَطوَّرُ سؤال "الأقليات العرقية" إلى اهتمام أشمل بـِ "مسألة الهَوِيَّة" لدينا على أكثر من مستوًى، بما يشمل العام والخاص، وعبر سياقات زمانية ومكانية مختلفة، بما في ذلك تجربة شتاتنا السوداني العريض الراهن.


(يتبع)
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين أكتوبر 12, 2015 10:14 am، تم التعديل 8 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في تلك الفترة – وهي عينُ الفترة التي انهمكتُ فيها في صداقتك، عزيزي خلف، وصداقةِ عزيزنا عبد اللطيف علي الفكي – كان إعجابي بأطروحات عبد الله بولا وعشاري أحمد محمود قد بلغ ذروته. كما كانت رغبتي – المُفْعَمَة بعناقٍ غَضٍّ لمفهوم "المثقف العضوي" – في الانخراط في عملٍ سياسي قد وصلت أوجها. ففيما كان بولا يبدو لي المفكر التقدمي الأمثل، كان عشاري (الذي كنت أحسبه عضواً في الحركة الشعبية) يقف، بأطروحته الجديدة والسديدة عن "السياسة اللغوية في السودان"، في عيني نموذجاً لذلك المفهوم الغرامشيِّ، الذي برهن عليه – أكثر، في نظري، لاحقاً – "تقريرُ مذبحة الضعين" وتعرُّضُه للاعتقال المتكرِّر، في الوقت الذي كان فيه بَشَّار الكُتُبِي ومحمد سعيد بَازَرْعَة تجسيداً لروعة الفعل والشعر له. فكان أن اقترحتُ على بَازَرْعَة – الذي كان يضع اللمسات الأخيرة لمغادرة السودان والالتحاق بالحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان – أن يجعلني أصحبه. بيد أنه كان يرى أن الحركة الشعبية في أمَسِّ الحاجة إلى شماليين يعملون على الجباه السياسية، الثقافية، الإعلامية، النقابية والطلابية في الخرطوم، وأن بوسعي تقديم الكثير في هذا الصدد بمكوثي في العاصمة، على نحو ما يفعل عشاري، حسبما مَثَّلَ.
غير أن العمل السياسي الجماعي المساند للحركة الشعبية في و/أو من الشمال كان بالغ الضمور، البطء والبعثرة، تقوم به بؤرٌ جَدُّ قليلة ونحيلة، تفتقر إلى التنسيق فيما بينها، كما فيما بينها وبين الحركة الشعبية، التي كانت تُرَكِّزُ – بسببٍ من قصورٍ فكري، ثقافي وسياسي بنيوي داخلي وبتأثيرٍ من الحصار الحكومي المركزي – على العمل الاستخباري أكثر من الفعل السياسي اليومي. فأخذتُ أُحِسُّ بعطالةٍ سياسية فيما كان اشرئبابي لممارستها تنظيمياً يزداد احتقاناً. ورغم قناعتي بما ظللتُ أراه كجمودٍ فكريٍّ وضعفٍ سياسي للحزب الشيوعي السوداني، وغضبي من موقفه العام، ليس غير المُتَحمِّسِ للنضال المسلح فحسب، بل الذي كان يسعى، في المقابل، للوقوف موقف اليمين من الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان في ذلك الوقت من خريف شبه ديموقراطيتنا الثالثة، إلَّا أنني ما فتئتُ أُكِنُّ، أنا المُكْتَنِزُ بالأحلام المدنية الوسيمة، إعجاباً بـِ، وعرفاناً لـِ، تراثه المدني، السياسي والثقافي. فقلتُ أنضَمُّ إليه، إذ رُبَّمَا أساهم – إلى جانب آخرين من أعضائه وأخريات من عضواته مِمَّنْ يتوقون- يَتُقْنَ لتجديد إستراتيجيته الفكرية والسياسية – ولي فيهم-فيهنَّ أصدقاء صميمون وصديقاتٌ صميمات – أثق في سلامة الوجدان وفي خصوبة العطاء اللذين يَتمَتَّعون- يَتمَتَّعنَ بهما. وكنتُ أظنك – إلى قبل نحو عام من وقت انقلاب 30 يونيو – عضواً فيه (إلى أن أخبرتني أنت بالأسباب التي دعتك – من جانبك – للتَوَقُّفِ عن العمل السياسي المباشر منذ منتصف سبعينيات الألفية الدَّابِرَة)؛ فعلاوةً، طبعاً، على حساسيتك ورؤيتك المتقدمتين، كان تَسنُّمُكَ لرئاسة "نقابة إدراييِّ الخطوط الجوية السودانية" يسند اعتقادي ذاك. لذلك حاولتُ – أكثر من مرة – أن أستشيرك في مثل ذاك القرار إذ كنتُ أقول لك – لو تَتذكَّر – وكانت إقامتنا وقتها تَتوَزَّعُ بين منزلَيْ الثورة-الحارة السابعة وأركويت – ما معناه "إنني أريد مناقشتك أو الاستئناس برأيك في أمر هام يخصني". وكنتُ أُحِسُّ بأنك كنتَ تُخَمِّنُ ما أريد استشارتك بشأنه، ومع ذلك فقد كنتُ أشعر بأنك – وأنت سَخِيُّ العاطفة، الفكر والفعل – لا ترغب في تَحمُّلِ مسؤولية الموافقة أو الاعتراض، في ذلك الحين على الأقل، و/أو، أنك كنتَ تريد لي مزيداً من "النضج الفكري والسياسي" بما يؤهلني لتَحمُّلِ تبعات مثل ذلك القرار الجليل. فلجأتُ إلى عبد الله بولا أطلب رأيه. فنصحني، بعاطفته الوريفة وأفكاره الظليلة، بالانتظار لمدة عامين. وقد فهمتُ من هذا أنه يشترك معك – رغم قناعتي بأنكما لم تتحدثا عن هذا الأمر – فيما حَدَّسْتُ أنه موقفك.
ثم لم يلبث أن أجهز انقلاب 30 يونيو على ما تَبقَّي من الأمل في العمل السياسي العلني العام. فكان ذلك سبباً – آخر، بالنسبة إليَّ – أدَّى إلى مضاعفة جيشان وجداني برغبة الانخراط السياسي المؤسسي. فكتبتُ طلب انضمام إلى الحزب الشيوعي، بواسطة "مكتب الكُتَّاب والفَنَّانين"، عبر بشرى الفاضل، في مُسْتَهَلِّ الشهور الأولى للانقلاب. (تُرَى، هل يوحي اختيار مخاطبة أو توسيط "مكتب الكُتَّاب والفَنَّانين" بدرجةٍ ما من الحرص على هَوِيَّتي الثقافية-الإبداعية؟) كان ذلك طلباً غير سائدٍ في أفكاره وفي أسلوبه، أتَذكَّرُ أنني صدَّرته بعبارتين: الأولى لكارل ماركس، "كُلُّ ما هو إنسانيٌّ ليس غريباً عني"، والثانية لمكسيم غوركي، "لن أكُفَّ عن أن أكون إنسانياً أبداً"؛ ثم بدأتُ بالتثمين العالي للدور التاريخي، الطليعي ، الكبير، الذي اضطلعَ، وما يزال يضطلعُ، به الحزب في مسيرة الاستنارة، التَمَدُّن، التحديث والتقدم نحو مجتمع العدل والمساواة في السودان؛ ومن ثَمَّ أعربتُ عن قراري في أن أساهم في مسيرة التغيير التي يقودها. على أنني أبرزتُ وأكَّدتُ – في نفس السياق – اختلافي في بعض جوانب الإستراتيجية السياسية السائدة للحزب، ثُمَّ عَبَّرتُ عن رغبتي في مناقشة رؤيتي المختلفة عبر القنوات المتاحة داخله. بيد أنني سرعان ما ذهبتُ إلى أبعد من هذا، حين تَقَدَّمتُ برجاء ألَّا أُخْضَعَ لنمط التأهيل الماركسي المدرسي الشائع في الحزب (مدرسة الكادر) حيث بَرَّرتُ ذلك بأنني على درايةٍ بأُسُسِ الماركسية الكلاسيكية.
طبعاً لم يكن "مكتب الكُتَّاب والفَنَّانين" ينتظر الاعتداد الأخير بالنَّفْس لكي يصدر قراراً سريعاً، غير مباشر، برفض ذلك الطلب، إذ طُلِبَ من بشرى الفاضل أن يبلغني بصعوبة عقد اجتماع للمكتب لاتخاذ قرار في هذا الوقت بالتحديد (الشهور الأولى للانقلاب) بشأن طلبي، ثُمَّ أوصاني – المكتب، عبر بشرى – "أن أعمل بالتوازي مع الخط العام للحزب إلى حين يَتِمُّ البَتُّ في الطلب". سيؤكد لي الخاتم عدلان، بعد عدة أعوام في أسمرا، ما كنتُ أُحَدِّسُه: رَفْضُ الحزب (بذريعة أنني سأجلب له مشاكل) منحي عضويته، ولكن الاستعاضة عن ذلك الرفض بالإرجاءِ الذي تتناسل منه إرجاءات. نفس القرار والتبرير سيؤكدهما لي أيضاً بشرى الفاضل في القاهرة في بداية هذه الألفية، أي عقب حديثي مع الخاتم بخمسة أو ستة أعوام. قلتُ لم يكن الحزب ينتظر ذاك الاعتداد لأنني كنتُ أتَمَيِّزُ – بحسب شائعةٍ في ذلك الحين – بسمعة مزعجة كـ: "مُخَرِّبٍ" (ناقد للخط السياسي السائد للحزب)، كـ: " عُضوٍ مُفْتَرَضٍ في تنظيم يساري مُوَازٍ أو مُنَافِسٍ للحزب" ("الجيفاريين" و/أو اتحاد القوى الوطنية: الخشية من الاختراق ونَهْشِ الحزب من الداخل) وكـ: "عائقٍ" (أمام تجنيد عدد من الطالبات الديموقراطيات والطلبة الديموقراطيين في جامعة الخرطوم في ذلك الوقت: هالة، ندى، أماني سين، أماني عين، انتصار، درير، أحمد، نعمان، الصادق – لاحظ أن نجلاء، التي كانت تربطني بها علاقة حب، كانت قد استقالت من الجبهة الديموقراطية، ثُمَّ تلاها عصام الذي كان لصيقاً بي).
والآن، حين أعود بعيني الداخلية إلى الوراء، لاسِيَّمَا بعد تراكم معارف وخبرات سياسية، ثقافية، اجتماعية، وجودية، إبداعية ومهنية متعددة، باستطاعتي أن أستخلص تأثير قطبين على مسار حياتي الفكرية-الثقافية-السياسية: القُطْبُ الأوَّل يحتفي بالثقافي والإبداعي فيما يُفَضِّلُ الفعل السياسي-المؤسسي، وهذا يُمَثِّلُه بَشَّار الكُتُبِي ومحمد سعيد بَازَرْعَة (ويدعمه أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم). أما القُطْبُ الثاني فيشترط التأسيس الفكري والثقافي، الذي هو تأسيسُ موقفٍ سياسي بالضرورة، بغض البصر عن الانخراط السياسي-المؤسسي أو عدمه، ويقف على رأس هذا عبد الله بولا، محمد خلف الله عبد الله وعبد اللطيف علي الفكي (ويدعمه أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم. – ولا يعني هذا أن أحمد كان يقف على "الحياد". بل كان يرى جدوى ممارسة، تبادل وتداخل الحقلين، الثقافي والسياسي، في نفس الوقت). القُطْبُ الأول يصبو إلى الممارسة اليومية والنتيجة الإيجابية، بينما القُطْبُ الثاني يتبصَّر في العملية المُستَمِرَّة أو الحِرَاك (أو البُرُسِّسْ) للتطوُّر الفكري-الثقافي الذاتي والاحتمالات.
ورغم أن عدم تَرَيُّثي دفعني، عقب اقتناعي بالعائد السلبي لطلب التحاقي بالحزب الشيوعي – بالذات بعد إطلاق سراحي وخروجي من السودان – إلى الانخراط السياسي السريع مع "القيادة الشرعية للقوات السودانية المسلحة" (بواسطة بَشَّار الكُتُبِي وعادل عبد الرحمن، وتشجيعٍ – وتنبيهٍ لمزالق ذلك الانخراط – من أسامة عبد الرحمن النور)، ثُمَّ الانتظام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، في إرتريا، مما يمكن أن يعطي انطباعاً بـِ، أو رُبَّمَا يؤكد على، ميلي لمُقْتَرَحِ القُطْب الأوَّل. بيد أن تلك التجربة السياسية، أثبتت، في تقديري، أن هَوِيَّتي الثقافية-الإبداعية هي الأرسخ في وجداني أوَّلاً وفي عقلي ثانياً (أرجو ألَّا يوحي هذا الترتيب بتفريقٍ ميكانيكي). فهذه الهَوِيَّة أظهرتْ أن الذي ظَلَّ يقود بصيرتي السياسية ويحرس ممارستها إنَّمَا يكمن في حساسيتي الثقافية والإبداعية، الغريزية في المقام الأوَّل، ثُمَّ في معرفتي المحدودة، المُكْتَسَبَة من قراءاتٍ وخبراتٍ متواضعة، ومن أشواقٍ سامقة، ولكن المُسْتَلْهِمَة لمفاهيم يعود قسمٌ مَرْمُوقٌ منها – على سبيل النَمْذَجَة – إلى قراءات، إصغاءات لـِ، وحواراتٍ مع، عبد الله بولا، محمد خلف الله عبد الله وعبد اللطيف علي الفكي، في المقام الثاني (أرجو، مرَّةً أخرى، ألَّا يوحي هذا الترتيب بتفريقٍ ميكانيكي). فثلاثتكم يشترك في هَمِّ اكتسابِ – قبل توفير – المعرفة؛ منهجيةِ السَّبْر العميق؛ تَبَنِّي التَعدُّد، الشَّكِّ والاحتمال؛ خَصيصَةِ التَأنِّي، وسِمَةِ الانتباه لفراغات العادة واليقين. فَحَمَلَ وجداني وذهني، إلى منفاي الخارجي، تحذيرات عبد الله بولا من خطورةِ الخِفَّةِ الثقافية؛ تنبيهات محمد خلف الله للعوائق المفهومية لبُنْيَةِ العقل المَخْتُون؛ ودفاعات عبد اللطيف علي الفكي عن أولوية التنظير والكتابة، كأفعالٍ موازيةٍ. أعانني كُلُّ ذلك، وسواه حتماً، على ألَّا أُقَدِّمَ أيَّ تَنَازُلٍ – رغم الضغوط، الإغراءات والمكابدات – التي أنت على إلمام ببعض معالمها البارزة – لصالح السياسي النمطي السائد عندنا، يساراً كان موقعه أم يميناً. فلم أكن الأبْعَدُ عن وظيفة حرق البخور ومهنة التصفيق للقادة فحسب، وإنَّمَا كنتُ، أيضاً، المُبَادِرَ المُخْتَلِفَ، والمُمَارِسَ المُنَاهِضَ لـِ "تقليد التمرير أو التفويت"، (وهو التقليد الصادر عن بلادةٍ حيناً، عن خمولٍ حينا،ً عن مُدَاهَنةٍ حيناً، عن استسلامٍ حيناً، عن مراعاةٍ أو تَطُّلعٍ لمصالح شخصية حيناً، عن عدم تقدير للكوارث التي يمكن أن تَتَرتَّب على السكوت – كفعلٍ من أفعال التواطؤ – حيناً، ليظلَّ – ذلك-هذا التقليد – ماثلاً دائماً، مهيمناً، تحت لافتاتٍ وتبريراتٍ عِدَّة، على وجهٍ رئيسٍ، وفاعلٍ، من أوجه عملنا المؤسسي، السياسي و"الغير سياسي")؛ كما كنتُ الناقدَ، المَوْسُومَ بمواجهة الذات قبل مواجهة الرفيق، لقادةٍ ذوي وجوهٍ مَطْلِيَّةٍ بشعاراتٍ كالديموقراطية والتقدمية، قَلَّ أن يجرؤ أحدٌ على توجيه نَقدٍ لهم، حيث كنتُ، وما أزال، أرى أن فداحة أثرهم على حاضر ومستقبل الحياة السياسية (وغير السياسية طبعاً) في السودان لا يقلُّ عن فداحة آثار قادة الأنظمة التي يسعون إلى تغييرها، أو، للدِقَّة، إلى الحلول محلها. وهذا بالضبط ما ضاعف – دون ندمٍ مني – من تَجَشُّمَاتي الوجدانية والمادية، أنا الذي عشتُ، في حقبة إرتريا سِيَّمَا، أفتقرُ إلى المصادر الثقافية والفكرية، وإلى حَدٍّ كبير، الإبداعية، المُوَاكِبَة، كما إلى الوَرَفَان والتَخَاصُب المُبَاشِرَين لبعضٍ مِنَّا لسنواتٍ طويلة، مما سَبَّبَ لي رضوضاً عميقة في الروح، ما تزال بعض آثارها ناتئة، إلى الدرجة التي جَعَلَتْها تَقْعِدُ بالكثير، النوعي، من طاقاتي، خلال مرحلة ما بعد إرتريا أيضاً، أي طوال مدة مكوثي الأخير في مصر، وطرفاً من فترة انتقالي إلى أستراليا.
خلاصةُ القولِ، إنَّ تَشبُّثِي بهَويَّة المثقف، الكَاتِب، الفنَّان، حَصَّنَني من أدران السياسة اليومية، العارضة، مَيَّزَني بالعين الثالثة، لكنه – في نفس الوقت – جعلني – بالنتيجة – عُرْضَةً للانتهاش الخارجي والداخلي.
ومرَّةً أخرى، لستُ نادماً – قَطُّ – على ذلك-هذا التَشبُّثِ.
وكيف لي أن أعرِفَني دون ذلك-هذا التَشبُّثِ؟


(يتبع)
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يناير 26, 2015 4:28 am، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
أضف رد جديد