موت الناقد ... البنيوية البارتية السودانية ونهاية التاريخ

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
موسى مروح
مشاركات: 172
اشترك في: الأحد نوفمبر 06, 2011 9:27 am

موت الناقد ... البنيوية البارتية السودانية ونهاية التاريخ

مشاركة بواسطة موسى مروح »

موت الناقد ... البنيوية البارتية السودانية ونهاية التاريخ

يعتقد بعضٌ من أصدقائنا البنيويين السودانيين، اعتقاداً أقرب إلى التديُّن منه إلى المعرفة المؤسسة على العِلم، أن بنيوية الناقد الفرنسي رولاند بارت هي خاتمة رسالات النقد، وأن تاريخ النقد قد انتهى، وأنه انتهى بها هي.

أحد هؤلاء الأصدقاء هو الكاتب الناقد محمد النعمان، الذي ظل (ثلاث مرات على الأقل) يبشرني كلما جمعتنا ندوة عامة، وبيقين لا يتطرق إليه شكُّ العِلم وتمحيصه، بخطل ما أقول أحياناً في شؤون الشعر والنقد.** كان آخر تلك الندوات أمسية جمعت بيننا الصيف الماضي، استضفنا فيها، مع مجموعة من الكتّاب، صديقنا المشترك الكاتب الشاعر عفيف إسماعيل.

قال النعمان لجمهوره ضمن ما قال في تلك الأمسية إن "الكلام البقول فيهو موسى دا انتهى." ثم واصل يحدثنا عن بارت وعن بعض من أفكار بارت مثل درجة صفر الكتابة وموت الكاتب. وبما أنني كنت قد تحدثت مع صديقي النعمان قبل ذلك، على انفراد، عن ضرورة إدارة خلافاتنا النقدية بشكل مناسب، بحيث لا تكون على حساب جمهور مرهق من أهلنا المهاجرين خصَّنا بوقته الثمين، أو على حساب أصدقاء أتينا في الأساس للاحتفال بهم مثل صديقنا عفيفي، فأن عودة النعمان لهذا الموضوع رغم ذلك تعني لي أنه غير راغب أو غير قادر على كبح رغبته في التعارك، والالتزام بطرفه من ذلك الاتفاق والتعايش مع من يخالفونه الرأي. وخطر لي أن صديقي النعمان قد يكون فسّر عدم رغبتي في الرد عليه بأنه ليس لدي ما أقوله في هذا الموضوع. ثم رأيت في النهاية أن النعمان منحني في الحقيقة فرصة، ليس للرد عليه فحسب، وإنما للنظر إلى مجمل كِتاب البنيوية البارتية السودانية، وتقييم دورها في إطار حركة النقد السوداني.

أثارت لديّ لغة النعمان، وبالتحديد اختياره للفعل "انتهى"، وهو فعل مشحون باليقين الساذج والإقصاء والرغبة في إلغاء الآخر، عدة أسئلة. وتذكرتُ أن اختيار النعمان لهذا الفعل قد وضعه في معية اثنين من المحافظين الجدد المعروفين، وهما فرانسيس فوكوياما الذي نظّر ل"نهاية التاريخ" فانتهى هو بدلاً من ذلك، كما قال إدوارد سعيد، وبول ولفووتس، أحد مدبري حرب العراق الخائبة، حينما تحدث عن "إنهاء الدول" التي "ترعى الإرهاب"، مثل إيران، فساعد إيران بحربه تلك لتصبح أكبر قوة معادية له في الشرق الأوسط.

فما هي هذه النعرة النقدية المستبدة التي ظلت تتلبس صديقنا النعمان وبعضاً من أصدقائنا البنيويين الآخرين تجاه ما يقوله ويكتبه من يخالفونهم الرأي؟ ما هو أصلها الفكري والنفسي؟ وماذا تعني بالنسبة لنا كشعب مأزوم بالحروب والاستبداد بأنواعه، يحاول أن يخلق مستقبلاً مختلفاً مبنياً على قيم التعايش والحوار؟ ماذا جنينا ثقافياً من بنيوية بارت في نسختها السودانية، وما هو موقع البنيوية السودانية البارتية على خريطة قيم الحداثة الحقيقية، إذا نظرنا إليها بعيداً عن مزاعم متكلّميها عن ختمها المزعوم لرسالات النقد؟ سأحاول في هذا المقال الإجابة على هذه الأسئلة، مستنداً في ذلك على مشاركتي في المشهد الثقافي السوداني ومتابعتي له منذ أوائل الثمانينات وحتى الآن.

نواصل. سأرحب بردودكم بعد أن أكمل ما أريد قوله في هذا الموضوع متعدد الحلقات.

------------------
** كل ما قلته في ندوة صديقنا عفيف هو أنني أوردتُ تعريفات للشعر لم أقلها أنا، وإنما قالها شعراء وكتاب ونقاد من مختلف الأزمنة والثقافات، منهم ربيعة بن حذار الأسدي والمتنبي وراينار ماريا ريلكه ولوركا ومارتن فالزر ومحمد عبد الحي.
صورة العضو الرمزية
موسى مروح
مشاركات: 172
اشترك في: الأحد نوفمبر 06, 2011 9:27 am

في الحداثة والتاريخ

مشاركة بواسطة موسى مروح »


في الحداثة والتاريخ

واضح أن فهم النعمان للتاريخ هو فهم جابٌّ لما قبله. فالتاريخ عنده مراحل تمسح ما قبلها بدلاً من أن تبني علي المعرفة الإنسانية التي راكمها من سبقونا. وهو كذلك تعريف يفترض أن العيش في زمننا هذا يجعلنا جميعاً، تلقائياً، بحكم أننا في آخر الصف، أعرف وأعلم ممن سبقونا في الحياة. هذا قول لا يصمد أمام منطق الأشياء، فجماعة داعش تعيش بيننا الآن في القرن الحادي والعشرين، ولكن فكرهم مبني على قراءتهم لفكر القرن السابع. والقارئ أعلم بانتشار الأصولية اليوم في كثير من مجتمعاتنا الحديثة، المسلمة وغير المسلمة، في الشرق الأوسط وأوربا وأمريكا، وحتى بين بوذييِّ بورما. إذن القول بأننا نحن الأفضل لأننا أتينا في النهاية هو قول لا يعوّل عليه. وهو بالضرورة قول غير علمي لأنه غير مبني على المعرفة التجريبية، المبنية على التراكم وعلى استخدام ذلك التراكم الذي حدث في الماضي لإضاءة المستقبل.

هناك نقطة أخرى ضعيفة في فهم النعمان للتاريخ والحداثة، وهي أن ذلك الفهم لا يفرِّق بين الحداثة كمنظومة قيم، وبين الحداثة كحقبة زمنية تقع الآن في نهاية خط الزمان كما نعرفه. فالتعريف الأول للحداثة يربطها بمنظومة من القيم التي تمثل أفضل الفكر الإنساني، بغض النظر عن العصر الذي عاش فيه ذلك الفكر. في هذا التعريف فإن النِّفري (القرن العاشر) مرتبط جمالياً بقصيدة النثر الحديثة، وكعب بن زهير (القرن السابع)، هو أحدث من رولان بارت الذي عاش في القرن العشرين، فقد لخّص في بيت واحد الكثير مما دبّج بارت المقالات لقوله في مسألة العلاقة بين الكتابة ودلالات اللغة والتنميط البرجوازي للذوق:
ما أرانا نقول إلا مُعاراً *** أو مُعاداً من لفظنا مكرورا

أما التعريف الثاني، الذي يرى النعمان العالم من خلاله، فهو يفسر الحداثة كحقبة زمنية تمثل الراهن الذي نعيش فيه، وهو تعريف اتفق عليه الأكاديميون لترتيب وتنظيم المعارف الانسانية حتى يمكن تقديمها للطلاب وتسهيل تحصيلها. لكنه تعريف واحد الاتجاه وعاجز بطبيعته عن الإلمام بتقلبات حركة تاريخ الأفكار. لذلك تجدنا نتحدث عن الحداثة وما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة، وعن الكلاسيكية الجديدة، وغير ذلك من التعابير التي تحمل تناقضها بداخلها. وملخص قولي هنا هو أن أي حداثة لا تستند، في رؤيتها للعالم وللرأي الآخر، على قيم التنوير، من احتفاء بتعدد الأفكار ورغبة في التعايش، هي في الحقيقة بضاعة قديمة رديئة يحاول صديقي النعمان إعادة تغليفها وتسويقها لنا، ولكننا لن نشتريها.

نواصل...
صورة العضو الرمزية
موسى مروح
مشاركات: 172
اشترك في: الأحد نوفمبر 06, 2011 9:27 am

يا لَلرجال لنقدٍ غير مسؤومِ

مشاركة بواسطة موسى مروح »

يا لَلرجال لنقدٍ غير مسؤومِ

كتب رولان بارت كتابه "درجة صفر الكتابة" في عام 1953، وكتب "موت الكاتب" في 1967. هذه الفترة مهمة لفهم بارت، فقد كانت الحرب الباردة والصراع بين الشيوعية والرأسمالية يسيطران على تفكير الناس، وكانت مجتمعات أوربا الغربية تمرّ بفترة ثورات سياسية-اجتماعية-ثقافية، مثل ثورة الشباب في فرنسا في مايو 1968، ومهرجان وودستوك للموسيقى والسلام في ولاية نيويورك في أغسطس 1969. كانت بيئة "الثقافة المضادة" تلك هي البيئة التي كتب فيها بارت أعماله الأولى، لذلك يمكن فهم ثورته على البرجوازية وعلى تنميطها للذوق العام من خلال ذلك السياق التاريخي، الذي لا بد أن بارت قرأه وفسره بخلفية بداياته الماركسية.

لكن الرجل مرّ بعد ذلك بعدّة تحولات فكرية، ونتج عن تلك التحولات أنه تخطَّى، بنهاية الستينات وأوائل السبعينات، بنيويته نفسها، إلى ما بعد البنيوية، بعد أن تبين له (الشكر موصول لجاك دريدا وآخرين) أن إحداث أي قطيعة بين النص وتاريخه ستنعكس بالضرورة سلباً على قيمة النقد وفائدته. هذه المرونة الفكرية والقدرة على التجاوز هي من أفضل ما يميز بارت، لكن ذلك الجانب ضاع وسط ولع بعض من بنيويينا بكتابات بارت الأولى، مثل موت الكاتب ودرجة صفر الكتابة، فألهتهم عن كل مكرمة نقدية، مثلما ألهت معلقة عمرو بن كلثوم بني تغلب:
ألهتْ بني تغلبٍ عن كل مكرمةً *** قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومِ
يروونها، أبداً، مذْ كان أولُهم *** يا للرجال لَشعرٍ غير مسؤومِ!!
-- (القائل غير معروف لي)

وهكذا، بعد عقد أو اثنين من تلاشي البنيوية في فرنسا، وتجاوز أهلها لها هناك، وصلت إلينا مثل البضائع فاقدة الصلاحية التي تملأ أسواق السودان اليوم. وصلت في ترجماتها العربية بالغة السوء، التي قام بها إخوتنا العرب المغاربة والشوام، الواقعون على هامش أوربا جغرافياً وثقافياً، والذين طالما مثلنا لهم نحن السودانيون، هامشاً لهامشهم، يَقرأ ولا يَكتب. جلبها إلينا، ضمن من جلبها، المسافرون والمغتربون إلى ذلك الهامش العربي، إضافة إلى شبابنا الذين ذهبوا لطلب العلم هناك، فصادفت هوى عند بعضهم لغرابتها وثوريتها ومعاداتها للماضي، الذي لم يجدوا من يحببهم فيه في مدارسهم ومناهجهم السودانية البائسة. وفي داخل السودان كانت حركة النشر، متمثلة في الأساس في دار جامعة الخرطوم، تكاد تتوقف، والمكتبات تكاد تنعدم، والنقد السوداني العضوي يكاد ينفرط عقده نتيجة لانعدام الحريات وتدهور الاقتصاد وتحامل أجياله على بعضها. ووسط هذا العوذ الثقافي كنّا نقرأ كل ما يجود به علينا ذلك الهامش العربي من مجلات وكتب شحيحة، من غير أن نسائل ذلك الهامش عما يقول، أو نسائل أنفسنا عن كيف نوازن بين الانفتاح الثقافي كضرورة حياتية للتقدم، وبين ربط مفاهيمنا النقدية الجديدة الواردة بتراثنا الثقافي ونقدنا، باعتبارنا أمّة لا يزال وجدانها في طور التشكل.

وهكذا فإن هذه النظرية النقدية الفرنسية التي تتطرق إلى الموضة الباريسية ونبيذ بوردو الأحمر وجدت طريقها بعد ذلك إلى بعض من مثقفي شيوعيي السودان الأقحاح، حيث زاوجوا فيها بقدرة قادر بين ضرّتيْ البرجوازية الفرنسية والبروليتاريا السودانية من غير أن تطرف لهم عين فكرية.

هذا كله مفهوم في حيثياته التاريخية والثقافية، كما هو مفهموم أيضاً أن بعضاً من نقادنا البنيويين المنتبهين استطاعوا تجاوز تلك الفترة من حياتهم الباكرة، فأي ناقد جاد يريد بمحض اختياره أن يعالج كل شيئ بالكيّ؟ لكن غير المفهوم هو "إنهاء" صديقي النعمان لآراء ماريا ريلكه ومحمد عبد الحي وغيرهم، وقتله لهم ككتاب، بينما يظل كاتبه المفضل رولان بارت حياً في رأسه، يرزق من نقدٍ كثير الصخب قليل الفائدة. وكان الأجدر بالنعمان أن يَخرج من عباءة بارت، وأن يخلق بينه وبينه مسافة نقدية تسمح له بمساءلته، قبل أن ينبري لمساءلة الآخرين.

نواصل ...
صورة العضو الرمزية
موسى مروح
مشاركات: 172
اشترك في: الأحد نوفمبر 06, 2011 9:27 am

موت الكاتب (1): ياتو كاتب لاكين؟

مشاركة بواسطة موسى مروح »

موت الكاتب (1)
ياتو كاتب؟

"رفض إناطة تفسير نهائي" للنص "يفسح المجال لما يمكن اعتباره عملاً مضاداً للّاهوت، عملاً ثورياً بمعنى الكلمة، لأن رفض (ذلك) التفسير هو، في النهاية، رفض للرَّب وثالوثه المتمثل في العقل والعلم والقانون."
-- رولان بارت

"فكرة أنه لا يوجد شخص خلف النص هي أسوأ الواردات الفرنسية. هل هنالك أي شيئ أكثر تصنُّعاً وعدواناً وتحجُّراً بلا نهاية من مثقف باريسي خلف نصه المتورِّم؟ لا يعدو الباريسي سوى أن يكون ريفياً حينما يتظاهر بأنه يتحدث باسم الكون."
-- كميل باقليا (أكاديمية وزعيمة نسائية أمريكية)

يفرق رولان بارت بين الكاتب (scriptor) والكاتب (author).
وتقوم أفكاره حول سلطة الكاتب وموته على المفهوم الثاني، المشتق من الأصل اللاتيني (auctor)، المشتق بدوره من الفعل (augere) بمعنى يخلق أو يُبدع. وبالإضافة إلى معنى الخلق والإبداع هذا، فإن لفظة (author) تحمل معانٍ أخرى في أصلها اللاتيني، معانٍ مرتبطة بمفهوم السلطة، منها في الإنقليزية، على سبيل المثال، اشتقاقات مثل (authority = سلطة/مرجعية) و (authoritarian = متسلِّط) و (authoritative = مرجعي) و (authorize = يخوِّل).

يرى بارت أن الكاتب يجب أن يكون مجرد (scriptor)، المشتقة من الفعل اللاتيني (scribere)، بمعنى "ينسخ" وهو المعنى الأقرب لمحمول اللفظة العربية (كاتب)، التي لا تضفي في أصلها اللغوي أي مفهوم سلطوي أو مرجعي على "الكاتب". الجذر (كَتَبَ) في اللغة العربية يشير إلى "جمع الشيئ إلى الشيئ"، مثل الأفكار إلى الورق في حالة الكتابة.

ومن هنا يتضح أن بارت، حينما ثار على الكاتب وأوصى بموته ("موت الكاتب هو ميلاد القارئ") فقد ثار على ال (author) وليس على ال (scriptor)، وذلك جزئياً بسبب اقتران معنى اللفظة الأولى (author) بالسلطة والتسلط في لغته وتراثه اللغوي اللاتيني الفرنسي. أما في اللغة العربية التي يكتب بها البارتيون السودانيون فإن ذلك المعنى الإضافي غير موجود. هذا الفرق المفاهيمي الأساسي في البنيوية ضاع، حرفياً، في ترجمات البنيويين العرب السيئة، وتلقُّف البنيويين السودانيين لتلك الترجمات بلا مُساءلة فكرية. مثلُ هذه المطبات بين الألفاظ ومعانيها واختلاف تلك المعاني بين اللغات يعرفها المترجمون جيداً. ورأيي فيها كمترجم هو أن نُعطي الأولوية للمعني على حساب الجري وراء تناظُر المفردات، حتى وإن تطلّب ذلك الإطالة النسبية في التعبير، لأن المعنى هو الهدف المراد توصيله عبر اللغة.

هل كان بارت سيُخرِّج رأيه في الكتابة والكاتب تخريجاً آخراً لو أنه كان يكتب بالعربية التي لا تحمل فيها لفظة "كاتب" تلك المحمولات السلطوية؟ لا أعرف. ما أعرفه هو أن البارتيين العرب والسودانيين اختلط عليهم حابل المعني بنابل اللغة، في مفهوم أساسي في نظريتهم، وأنهم بعد ذلك لم يكلفوا أنفسهم عناء تصحيحه. فما قصدوه هو ليس "موت الكاتب" وإنما "موت سلطان الكاتب"، هذا بالطبع إذا تجاوزنا ذوقهم اللغوي الرديئ في ربط مفهوم الموت بالكتابة بدلاً من ربط الكتابة بالحياة. ولكني سأعود إلى ذلك في حلقة لاحقة.

نواصل ...
صورة العضو الرمزية
موسى مروح
مشاركات: 172
اشترك في: الأحد نوفمبر 06, 2011 9:27 am

رسالة من محمد النعمان

مشاركة بواسطة موسى مروح »

وصلتني هذه الرسالة من محمد النعمان، وأنشرها هنا حسب طلبه. ما زالت خطتي هي أن أرحب بأراء محمد والقرّاء بعد أن أكمل ما أريد قوله. ولكن الباب مفتوح بالطبع لمن يريد أن يشارك الآن.


عزيزي موسى مروح، تحياتي.

نبهني أحد القراء لما قمت بنشره في منبر الحوار الديمقراطي. وبما أنني لست عضواً بذلك المنبر فقد رأيت مخاطبتك عن طريق هذا الإيميل حتى تتفضل، مشكوراً، بنشر تعليقي الإبتدائي على ما كتبت.

أولاً: اختلاق هوية لي كناقد، وناقد بنيوي، ثم ناقد بنيوي "بارتي"، على وجه التحديد، قد يصلح مدخلاً للقصاص الشخصي من تيار معرفي ومنهجي بعينه، في مزاوجة غير بريئة بين الخاص والعام، ولكنه إختلاق لا يملك له سنداً في التجربة. أستطيع أن أؤكد لقرائك بأنك شخصياً لم تقرأ لي حرفاً، أو تسمع مني كلمة قد تدعم هذه الهوية المسلوقة. من المؤكد أنني سوف أثمن عالياً نشر أي دليل نصي، أو حتى شفاهي من الدرجة الأولى، حول بنيويتي أو "بارتيتي" المزعومة.

ثانياً: ليس من العدل أن تحتكر الشهادة على نفسك وعلى غرمائك الفكريين (في غيابهم الشخصي والنصي) ثم تبنى على هذه الشهادة أحكام قيمة هائلة ضد موقف محمد النعمان "اليقيني الساذج" من التاريخ والحداثة ومن عبد الحي أيضاً. فيديو هذه الندوة متوفر لدى الجالية السودانية بمنطقة واشنطون فقم، مشكوراً، بإضافته لخيطك حتى تنقذ طرحك من عبء هذا الشخصي الماحق، وأن تتيح لقرائك ممارسة حقهم الفكري والأخلاقي في تفسير أو تأويل ما قيل. وحتى قيامك بتمليك هذا الحق لقرائك أسمح لي أن أؤكد لك ولهم بأنني لم أصدر، في تلك الندوة المبتسرة، عن خطاب الناقد، بأية حال، ولكنني تداخلت فيها عبر أقوال المؤرخ ومعارفه.

ثالثاً: لا أعرف أحداً أكثر عزوفاً منى عن جدالات المثقفين ومشاجراتهم الصغيرة حول المسألة الإبداعية. ففي الوقت الراهن تشغلني أمور عملية وفكرية أخرى حتى أصبح مفهوم الدولة، على سبيل المثال، أقرب إلى إنشغالاتي ومزاجي من مفهوم النص. مع ذلك فقد أعود للتعليق بعد فراغك مما تصنع.

أرجو صادقاً أن تتحرر كتابتك من مرارتها، وأن تنفتح على همها المعرفي الذي قد يتجاوز بها ذواتنا الممأزقة. عموماً لا تضيرني إشانة السمعة الشخصية إن مكنتك هذه الكتابة من إنتاج معرفة حقة بالمشهد الثقافي خلال ثمانينات السودان البعيدة. ثم ألم يسمع موسى أن الإسلاميين قد سيطروا على السلطة عام 89؟

مع إحترامي لك ولقرائك.

محمد النعمان
صورة العضو الرمزية
موسى مروح
مشاركات: 172
اشترك في: الأحد نوفمبر 06, 2011 9:27 am

موت الكاتب (2)

مشاركة بواسطة موسى مروح »

موت الكاتب (2)

"موت الكاتب هو ميلاد القارئ."
-- رولان بارت

أول ما يلاحظ المرء في مفهوم موت الكاتب عند البنيويين هو أن هذا المفهوم يتوسل، من بين جميع ما تهبه اللغة من معانٍ إيجابية، بالموت لتوضيح نفسه. فالبارتيون لا يريدون لنا أن نتجاهل الكاتب، مثلاً، أو أن نساويه بالقارئ، أو نأخذ ببعضٍ مما يقول ونترك البعض الآخر، أو أن نعيش معه على مضض، وإنما يريدون له أن ينعدم بالموت حتى تنقطع صلته بنصه نهائياً في ذهن القارئ.

الغرض من كل ذلك، حسب بارت، هو تمكين القارئ، عبر منحه الحرية والاستقلال النقدي اللازم للتعامل مع النص. ربما يبدو ذلك أمراً محموداً للوهلة الأولى، ولكننا إذا ألقينا نظرة ثانية متفحصة إلى تصوُّر بارت لذلك القارئ، فسنجد أن بارت، في قرارةِ تفكيره، ينظر نظرةً دونية للقارئ ولا يثق فيه ولا في خياراته الذوقية والفكرية، بمعنى أن القارئ قاصرٌ عنده ما ظل الكاتب حيّاً والفارس رولان بارت غائباً أثناء معركة فعل القراءة. وهكذا فإن بارت في الحقيقة يعطي حريته تلك للقارئ بيده الرأسمالية اليمنى ليعود ويأخذها بيده الماركسية اليسرى.

هنالك إشكال آخر، وهو أن ثنائية الكاتب والقارئ هذه لا توجد أساساً في الطبيعة والواقع. فبينما يكون الكاتب واحداً في العادة، فإن القُرّاء عادةً ما يكونون بالعشرات أو حتى الملايين. لذلك فإن بناء نظرية نقدية كاملة على ضرورة تعدد التفاسير، ثم عدم إيلاء الأهمية النقدية الضرورية لأثر هذا الجسم المعرفي الهائل المتعدد المشارب الذي نطلق عليه القرّاء هو نوع من الغفلة غير اللائقة. وحينما يوصي صديقي محمد النعمان أحد الأصدقاء الكتّاب الذين أتينا لمناقشة إصداراتهم في مناسبة عامة أخرى غير تلك التي ذكرتُ في بداية هذه المقالات بأن "موسى دا ما تسمع كلامو"**، فإن النعمان في نظري يتحدث بنفس روح الوصاية على الآخرين التي نجدها عند بارت.

وهكذا فإن البنيويين البارتيين لديهم هذا الانفصام النقدي. فقد أتوا أساساً لمحاربة بعبع الكاتب، لكنه انتهى بهم الأمر، في مفارقة عجيبة أقرب إلى سلوك "سيكلوجيا القهر" في علم النفس، ليصبحوا هم أنفسهم ذلك البعبع الذي أتوا للقضاء عليه. لو كانت المشكلة الأساسية هي تسلط الكاتب، فلماذا لا نحلّ إشكال السلطة هذا برمته، بدلاً من إعطاء تلك السلطة لدكتاتور آخر هو الناقد البنيوي؟

يتضح من هذا التطرف البنيوي أن في جوهر مفهوم موت الكاتب هلعاً عصابياً نفسياً من الكاتب، واعترافاً ضمنياً بدونية الناقد/القارئ، الذي لا يمكنه العمل على أي نص حتى يُنعى له الكاتب في الصحف. وبهذا المفهوم كذلك اعتراف ضمني بسلطة الكاتب على نصّه، بدليل ظِلِّه النفسي الواقع على الناقد. وسلطة الكاتب هي غير مطلقة بالطبع، ولكنها مستحقة بحكم زاوية رؤيته لنصه باعتباره مَن أبدعه، وهي زاوية لا يمكن لأحد غير الكاتب أن ينظر منها للنص، بحكم موقعه من عملية إبداع نصه. لا أعرف مجالاً معرفياً آخراً لا يكون فيه رأي الصانع المجرِّب مفيداً في موضوع التعرف على صناعته تلك، ولا ينبغي لأي نقد أن يشذ عن بقية المعارف الإنسانية، وإلا أخرج نفسه بذلك خارج العلم والمعرفة، وأدخل نفسه في بهلوانيات لا طائل من ورائها.

وكان الأجدر حسب منطق الأشياء أن نعترف للمبدع بخصوصية زاوية رؤيته، بل أن نطلبها لتكتمل بها رؤيتنا للنص. أقول "تكتمل" لأن تعددية وجهات النظر ضرورية لتعددية القراءات، ولأن التخلص من رؤية الكاتب، أو أي رؤية أخرى، سيكون بالضروة على حساب تلك التعددية. الأبداع، بما في ذلك الكتابة، هُو رأي فكري وشعوري وفلسفي في العالم، والحجر على هذا الرأي بحجة تحرير النص من ماضيه ومن كاتبه هو نوع من الخَمَج النقدي.

مفهوم موت الكاتب هو إذن مفهوم إقصائي شمولي، يتوسل بالموت والعنف ويتعارض مع مفاهيم الحرية والتعايش والتمدن والتقدم. وهو كذلك نوع من التأميم الفكري على الرأي، تأميم قائم على انتزاع حق الكاتب في الحديث عن نصه الذي أبدعه، وإعطاء ذلك الحق للناقد البنيوي-البارتي العاطل عن الإبداع.

نواصل ...

------------------
**كنا في ندوة لتدشين روايتين للصديق والرجل المتمدن حقاً الدكتور صلاح البشير. وكنتُ سألت الدكتور صلاح إن كان له رأي، سوى حق أي شخص في تسمية ما يشاء بما يشاء، في إطلاق تسمية رواية على إحدى إصدارتيه، وأظن أنها كانت في 13 عشرة صفحة، إو شيئ من هذا القليل. هذه هي المناسبة التي تحدثت بعدها مع صديقي النعمان على انفراد حول ضرورة إدارة النقاش بيننا بشكل أفضل.

صورة العضو الرمزية
موسى مروح
مشاركات: 172
اشترك في: الأحد نوفمبر 06, 2011 9:27 am

درجة صفر الكتابة

مشاركة بواسطة موسى مروح »

درجة صفر الكتابة

[الكتابة الجيدة هي التي] "يبدع الكاتب [فيها] كتابةً بلا لون، كتابة تحررت من جميع أنواع العبودية، وأعادت اللغة إلى أصلها الأول."
-- رولان بارت

يقوم مفهوم درجة صفر الكتابة عند بارت على ضرورة إحداث "قطيعة معرفية" بين النص وتاريخه، حتى لا يصبح ذلك التاريخ عائقاً أمام القارئ في محاولته الاقتراب من النص. هذا المفهوم يظل يتكرر في أعمال بارت النقدية تحت مسميات وتقاطعات مختلفة، منها على سبيل المثال مفهوم "موت الكاتب" الذي سبق الحديث عنه. ويُحمد للرجل قدرته العجيبة على تطليع زيت مفاهيمه، فهو يعصر لك أحدها فيَخرُج منه زيتٌ قليل، ثم يصبّ ذلك الزيت راجعاً في عصّارة نقده ليعصره ثانية، ويسوِّق لك الزيت المكرَّر بعد ذلك على أنه زيت جديد.

وإذا كنت، عزيزي القارئ، قد قرأت كتابة بارتية سودانية من قبل، وأُصبت بالدوار أو لم تفهم شيئاً، فالبارتيون السودانيون سيقولون لك إن العيب فيك أنت وليس فيهم. أما مسؤولية المتحدث أو الكاتب، أياً كان، في توصيل ما يريد أن يقول لجمهوره بلغة يشترك في فهمها الجميع، فلا تشكل أولوية في قاموس البارتيين الأخلاقي، ذلك لأن مثل هذا السلوك الديمقراطي في التعامل مع الآخرين يندر وجوده في تعامل البارتيين السودانيين مع قرائهم، أو الذين يخالفونهم الرأي.

والحق يقال، فإن نتاج الكتابة البارتية الذي بين يدينا من نقد وغيره، سواء كان ذلك لبارت نفسه أو لمريديه السودانيين، يُعدّ منسجماً تماماً مع الأفكار المؤسِّسة له، وهذه محمدة نوردها في حق الرجل، فمن منا لا يحب اتِّباع الناس أقوالهم بأفعالهم؟ فهذا النتاج يعبر فعلاً عن كتابة "بلا لون" كما أراد لها بارت. لكن السؤال الأهم هو إن كانت إضافة "الكلور" البارتي إلى غسيل اللغة لتخليصها من ألوانها سيحسِّن من درجة الإبداع في النص كما تزعم البنيوية البارتية. والإجابة في نظري هي "لا"، كما سأوضح أدناه.

واضح أن بارت يصارع هنا طاحونتي هواء، الأولى هي عدم وجود مفهوم "القطيعة المعرفية" أساساً في واقعنا الحياتي، والثانية هى حقيقة أن اللغة هي قاسم مشترك أدنى بين الناس وليست قاسماً أعلى كما يريد لها بارت. في موضوع "القطيعة المعرفية"، فإن بارت يخلط بين المخالَفة المعرفية و"القطيعة المعرفية". ففي المفهوم الأول، يسلك المخالِفان طريقين معرفيين مختلفين، فيسير أحدهما في هذا الاتجاه، بينما يسير الآخر في اتجاه مخالف، أو حتى معاكس. ولكنهما يظلان كما يظل السالب والموجب في التيار الكهربائي، أو القطب الشمالي والجنوبي في كوكب الأرض، يجمعهما نفس المكان المعرفي، ويوجَدان فيه كردّتي فعل لبعضهما، ويشتركان في موضوع خلافهما، وإن كانا يقفان مواقف مختلفة من ذلك الموضوع، بمعنى أن حبل الخلاف يظل موصولاً معرفياً بينهما، وليس مقطوعاً كما يرى بارت، لإن مفهوم القطيعة يعنى أنه لا يوجد حبل معرفي متصل بينهما في الأساس. هذا المفهوم البارتي غير موجود في الواقع، لأننا نَرِد جميعاً نفس حوض الموضوع، لكننا قد نصدر من ذلك الحوض في اتجاهات مختلفة.

هذا الاتصال رغم الاختلاف يظل ممكناً بفضل اللغة التي تساعدنا في نقل أفكارنا إلى بعضنا. واللغة في الأساس وظيفتها الاتصال حتى يتم التعبير عن تلك الأفكار بيننا عبر استخدام تلك "الألوان" التي بها، كلٌّ منا حسب طريقته في التعبير، لأن اللغة ينبغي أن تظل قاسماً مشتركاً أدنى بيننا. اللغة هي إذن إتفاق عام بين الناس، ترتبط فيه المعاني المعينة بألفاظ معينة. فإذا أحدثنا في هذا الاتفاق قطيعة ما، فعلينا، على الأقل، ألا نستغرب إن لم يفهمنا الناس، لأن عملية الاتصال تصبح مثل مكالمة هاتفية يقع أحد طرفيها في منطقة لا يغطيها الإرسال. هذه الحقيقة البسيطة تظل تمثِّل إشكالاً هائلاً ومعيباً عند البارتيين. ولكنهم بدلاً من الانتباه إليه ظلوا يناطحون صخر نظريتهم محدودة الإمكانيات، إذ كيف يمكننا الاتصال بالناس إذا بنينا نظريتنا النقدية على أساس القطيعة معهم؟

وهكذا أصبح مفهوم درجة صفر الكتابة عند البارتيين، السودانيين منهم خاصةً، سبباً في "قطيعة معرفية" مع شعبهم.

إذن درجة صفر الكتابة، بدعواها أن يُردّ النص إلى سلفه في اللغة، هي فكرة خرافية لا يمكن تحققها على أرض الواقع، وأي كتابة نقدية تتمثلها هي نوع من الوهابية النقدية، ذلك لأن اللغة التي تستخدمها أي كتابة والأفكار التي تريد تلك الكتابة قولها، هي جميعها ملكية مشتركة بين الناس لايمكن تجريدها من محمولاتها وتاريخها. الكتابة التي درجتها صفر قيمتها أمام شعبها صفر أيضاً، لأنها ليست معنية أساساً بذلك الشعب ومورثه الثقافي ووجدانه المرتبط بالضرورة بالمكان والزمان.

نواصل ...
آخر تعديل بواسطة موسى مروح في الأحد ديسمبر 07, 2014 11:26 pm، تم التعديل مرة واحدة.
عادل عثمان
مشاركات: 845
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:14 pm
مكان: المملكة المتحدة
اتصال:

مشاركة بواسطة عادل عثمان »

[align=right]الاستاذ موسى مروّح
سلام عليك وشقيش قول لي يا مروّح قبّال صباحنا يروّح

جاء في الاثر كلام اشعب الاكول حين مطّقوه بطعام شهي ما رأيه فيه فقال : " لا احكم على غائب ". وهو قول حكيم من اشهر البطينيين في الثقافة العربية. كيف يقول رأيآ وهو لم يذق الطعام محل السؤال. ونحن قراء (سودان للجميع) لا نستطيع ولا ينبغي لنا ان نحكم على ارائك في موضوع غائب عننا تمامآ. كما احمد في الركايب. وفي الغياب تنطلق الكلاب -السنونا صفر- في عض ونهش لحم الغياب والموضوع الغايب والخصم الفكري او السياسي الغائب عن جمهرة القراء اللذين تستحلب تعاطفهم بكتابة من طرف واحد زي الحب. ومع ذلك استمتعت الى الان -ولكن بفضول شديد- بهذه الفصول من خصومتك مع الاستاذ محمد النعمان التي لا نعلم عنها شيئآ موضوعيآ سوى ثقتنا في نزاهة كتابتك، ولكن هذا لا يؤدي كما يقول الدكتور بشرى الفاضل. الانصاف والوجدان السليم يوجب عليك ويحق لنا نحن القراء ان نلم بالموضوع من طقطق الى سلامو عليكو بلهجة اخوتنا المصريين.

There are no people who are quite so vulgar as the over-refined.
Mark Twain
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

الأخ موسى مروح ما قمت به تقريب مفيد لبنيوية بارت وتوضيح كذلك
لطلاسمها التى صنعتها الترجمه كما صنعت بكيدٍ جبار نقل الإنجيل
من الآراميه للعبريه ومن ثم للإغريقيه حتى صار شيئا آخر تتقبله
الثقافه الرومانيه فأعتنقوه كما هو ومن كاد به يدرك تماما خلل الكيد
غير أن كيد الترجمات العربيه للبنيويه تم بلغويين لا بأهل فلسفة وفكر
فصنعوا بذلك نصاً آخر إكتسب ذات القداسه من الذين جذبهم
كما بان ذلك فى بوست كان عامر بسودانيس أونلاين للأخ
أسامه الخواض حيث حمى الوطيس بينه وبين عبدالمنعم
عجب الفيا وكاد أن يفقد فيه أبوته من بولا وحسن موسى
لو لا لطف الله - أتمنى أن يمنح الأخ الأستاذ محمد النعمان
شرف العضويه بهذا المنبر حتى يتثنى له تفنيد قولك فى هذه
البنيويه حتى نكون على إدراك بأمرها المحيّر ولك ولمحمد النعمان
السلام.


منصور
صورة العضو الرمزية
حاتم الياس
مشاركات: 803
اشترك في: الأربعاء أغسطس 23, 2006 9:33 pm
مكان: أمدرمان

مشاركة بواسطة حاتم الياس »

وأنا أشاركك الراى يامنصور المفتاح لغرض أخر يتعلق بانشغالات الأستاذ محمد النعمان بمفهوم الدولة فهى بحسب تصنيفه تدخل فى الأنشغالات الكبرى التى لأجلها يُكرس الجهد والتفكير..حتى ندخل معه آمنين من شر القضايا الأبداعية الأنصرافية
صورة العضو الرمزية
موسى مروح
مشاركات: 172
اشترك في: الأحد نوفمبر 06, 2011 9:27 am

موت الناقد

مشاركة بواسطة موسى مروح »

موت الناقد

"يا ولدي، قالوا الحَدِيس كان في، ما بارك الله في السِّكات. وقالوا حِجّة اللّيك كان دخّلوك فيها أدخل، وكان ما دخّلوك أدخل."
--الوالد أحمد مروِّح، حينما يريد أن يناصحك في شيئ لا يعجبه.

ترجمة: "يا ولدي، قيل إنه إن كان هناك ما يوجب الحديث، فلا بارك الله في الصمت. وقيل إن دخولك جائزٌ في أمرِ مَن يَلِيك، دُعيتَ لذلك أم لم تُدع."

يتضح مما أوردنا في هذه المقالات من أفكارٍ مؤسِّسة للبنيوية البارتية أن هذه النظرية النقدية قد جُبلتْ من طينة الإقصاء. فرولان بارت يريد أن يُقصي الكاتبَ من نصه، واللغة من ألوانها والمجتمع النقدي من "ثالوث العقل والعلم والقانون."

لكن هذا الثالوث الذي يريد لنا بارت أن نرفضه، هو نفسه الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الديمقراطية الحديثة، وهو نفسه الثالوث الذي يقاتل ويصارع ويُسجن ويموت ويُقتل ويُشنق أحرارُ السودان بمختلف مشاربهم من أجل أن يكون دستوراً بيننا كلنا، نعيش تحت ظله، ونحترم ونحتفل بتعدديتنا الفكرية والثقافية والإثنية تحت حمايته. المشكلة هي أن بعضاً من أصدقائنا البارتيين السودانيين يريدون أن يصلّوا خلف بارت ثم يأتوا بعد ذلك ليأكلوا مع أحرار السودان. وقد يقول قائل إن ذلك أمر معيب فكرياً، إلا أنه في حد ذاته حق فكري لهم. هذه حجة مقبولة، لكن غير المقبول هو تنصيبهم لأنفسهم أوصياء على أذواق الناس وآرائهم، ودعواهم بأن كل ما يخالف ما يقولون به قد "انتهى" أو لا يستحق أن يُستمع إليه، وهى دعوى كشفنا هنا، من داخل أفكارها ولغتها، بأنها أوضع بكثير من نصوص البارتيين "المتورِّمة."

ولا أجد هنا تعبيراً عن رأيي، باختصار، عن البنيوية البارتية أفضل مما قاله ربيعة بن حذار الأسدي (القرن السادس) في شأن شِعر عمرو بن الأهتم، في محاكمة شعرية شهيرة تحاكم فيها كلٌّ من علقمة بن عبدة التميمي (الفحل، صاحب المعلقة)، والزبرقان بن بدر السعدي والمخبِّل وعمرو بن الأهتم هذا إلي ربيعة:
"...وأما أنت يا عمرو، فإن شِعرك كبُرْدٍ حِبَرَة، يتلألأ في البصر، فكلما أعدتَهُ فيه نقص." وترجمة ذلك بعاميتنا السودانية على عجالة هو: "يا عمرو يا أخوي، ياخي شعرك دا زي التياب البتتراقش ليك من بعيد، لاكين لمن تجيها قريب بتلقاها طلعت كلام ساكت."

هذه المقالات أصبحت الآن ملكاً للناس، وأصبحتُ أنا مسؤولاً عما كتبتُ، وأنا أرحب بهذه المسؤولية وأتشرف بها. هذا يعني أنه لا يزعجني إن رآها شخص آخر على غير ما أرى، على أنها "خصومة" بين شخصين لا يهمه منها إلا ما بها من "شمار"، أو نوعاً من "جدالات المثقفين ومشاجراتهم الصغيرة" كما أورد صديقي النعمان في رسالته إليّ. فهذا حق للناس ولكل منا زاويته التي يرى بها الأشياء ولا يرى بها الأشياء الأخرى. لكنه بما أنني لا أومن بفكرة موت الكاتب، فأشعر أنه من حق القرّاء عليّ أن أقول لهم إن هذه المقالات تتحدث عن ظاهرة وليس شخص، وإن ضرورة ورود الأشخاص فيها أتي لسببين، أولها أن هذه الظاهرة، وهي إقصاء بعض النخبويين السودانيين لمن يخالفونهم الرأي في الوقت الذي يملأون فيه المنابر العامة بكلامهم عن الديمقراطية والتعددية والتعايش، جسّدها في نظري في هذه الحالة شخصٌ بعينه، هو صديقي محمد النعمان، وارتَكَز فيها كسلوك غير متمدن (غير متمدن لأنه كرّره ولأنني طلبتُ منه شخصياً، على انفراد، أن يتوقف عنه ولم يفعل) على الأفكار المؤسِّسة لبنيوية رولان بارت، مما أوجب ذكر بارت باسمه كذلك. والسبب الثاني هو أن الأشارة للناس بأسمائهم المعروفة عنهم هو نوع من الاحترام لهم ومحبة مني في الوضوح عموماً. شخص محمد أكن له كل احترام، وأنا ممتن للرجل في أشياء أخرى، تعاونّا فيها سوياً وأخذ هو فيها دوراً رائداً أشكره عليه، مثل احتفائنا بإصدارة صديقنا المشترك الشاعر عالم عباس الأخيرة.

طبعاً ما أقوله في هذه الحلقات هو رأي يعتمد على رؤيتي للأشياء، فمن شاء أن يرى غير ذلك، بمن في ذلك النعمان، فلن أقول له إن رؤيتك قد "انتهت" ولن أطلب من الناس ألا يستمعوا إليه.

ما لا ينبغي السكوت عليه هو الأفكار التي تتعلق بحياتنا العامة، بما في ذلك حياتنا الفكرية والأدبية، لأن شعبنا السوداني هذا تعب من متطرِّفي اليمين واليسار، الذين حولوه لمختبرٍ لأفكارهم ومشاريعهم الخائبة. لن نستخدم محبتنا لأشخاص أصدقائنا البارتيين السودانيين كذريعة لاستثنائهم من نقد نرى أنهم أهل له، وسنوجِّهُه، بالحجج والمنطق، لكل من يتصدى لحياتنا العامة، لأن ذلك حقهم علينا. ولا أرى هنا مناسَبة في توجيه النقد أفضل من أن يتصدى البنيويون السودانيون للحياة العامة الثقافية لعقود، من غير أن يرهقوا أنفسهم بفضيلة النقد الذاتي.

إن الذي مات فعلياً جراء أفكار البنيوية في السودان هو الناقد وليس الكاتب، لأن هذه النظرية النقدية عجزت عن التعامل مع التراث السوداني، ولأنها حوّلت النقد من وسيلة مفيدة لردم الهوة بين الماضي والحاضر من أجل استشراق المستقبل، إلى كهنوت تطهّري يتلو فيه كهنة النقد البنيوي خُطباً مبهمة بلا مبرر، بلغة لا تمت لواقع الناس بصلة.

البنيوية البارتية السودانية هي إذن، في تطرفها وإقصائها وجهلها بحركة تاريخ الأفكار وتهربها من مسؤوليتها أمام شعبها، تتمثَّل مشروعاً نقدياً يقابله في عالم السياسة السودانية مشروع الإسلام السياسي. كلاهما فيه رغبة مستوطِنة في تتفيه الآخر وإلغائه وفرض نموذج حياتي طوباوي عليه من أعلى "لإعادة صياغة الإنسان السوداني". وكلاهما استُوردَ إلى البيئة السودانية بلا نقد يقوِّمه ويهذبه، فأصيب بالإحباط حينما اصطدم برفض الناس له، وتحول ذلك الإحباط إلى علاقة مأزومة مع الواقع. وبذلك يصبح أصدقاؤنا البنيويون السودانيون، وعوا بذلك أم لم يعوا، مساهمين في تغييب الوعي الحقيقي بالفنون والكتابة والاستنارة، ما لم يلحقوا بركب التعايش الفكري.


أسامة الخواض
مشاركات: 962
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:15 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة أسامة الخواض »



بعْث المؤلِّف الفعلي بعد "موته"

درس أمبرتو إيكو

جمع إيكو بين كونه منظِّرا للتأويل يكتب نصوصا علمية\نظرية ،و مؤلفا يكتب نصوصا جمالية\إبداعية.و بذلك طبّق ما يقول به كمنظر على نصوصه كمؤلف من خلال محاورته لقرائه و ملاحظاته عن تأويلهم و استعمالهم لنصوصه.فإيكو كما أسلفنا يجعل قصدية النص هي موضوع التأويل و ليس قصدية المؤلف الفعلي أو قصدية القارئ من خلال وضعه حدودا للتأويل و التمييز بين المؤلف الفعلي\التجريبي و المؤلف النموذجي*،و القارئ الفعلي\ التجريبي و القارئ النموذجي،و استعمال النص و تأويله.

و قد ضرب إيكو في "مؤلف و مؤوِّلوه" مثالين لاستعمال القرَّاء الفرنسيين لنصه،حين قال "القرّاء التجريبيون يمكن أن يقرأوا بطرق متعددة،و ليس هنالك من قانون يخبرهم كيف يقرأون،لأنهم أحيانا يستعملون النص كوعاء لأهوائهم الخاصة،و التي يمكن أن تأتي من خارج النص أو يمكن أن يكون النص قد أثارها مصادفة.دعوني استشهد ببعض الحالات الفكِهة التي تعامل فيها بعض قرّائي كقارئ تجريبي و ليس كقارئ نموذجي".ثم ذكر إيكو أن هنالك شخصية في روايته "بندول فوكو" في الفصل 115 و اسمها كاسوبون كانت تمشي في شوارع معينة في مدينة باريس في ليلة 24 يونيو 1984. و قبل كتابة الرواية قام إيكو بالتجول –لعدة ليال-في تلك الشوارع التي ستمشي فيها تلك الشخصية الروائية،و كان إيكو يحمل مسجلا،آخدا ملاحظات عما يمكن أن يشاهده و انطباعاته.و بعد نشر الرواية،تلقى رسالة من قارئ يبدو أنه اطلع في المكتبة الوطنية على صحف يوم 24 يونيو 1984.و قد ذكرت الصحف الصادرة في ذلك اليوم،انه كان هنالك حريق كبير في أحد الشوارع التي من المفترض أن الشخصية الروائية قد مرت بها.و سأل القارئ إيكو عن كيف يمكن أن كاسوبون لم يكن قادرا على رؤية ذلك الحريق الكبير.فأجابه إيكو بأن كاسوبون يمكن أن يكون قد رأى ذلك الحريق،و لكن لم يذكره لسبب غامض،غير واضح بالنسبة لإيكو.و ثم عقّب إيكو قائلا إنه يعتقد أن ذلك القارئ ما يزال يحاول أن يعرف لماذا صمتت تلك الشخصية الروائية عن ذلك الحريق.

ثم يحكي إيكو قصة أخرى عن تلك "الليلة الروائية" المشهودة.أتي لها طالبان من مدرسة باريس للفنون الجميلة، و أروه ألبوم صور فيه المسار الذي سارت عليه تلك الشخصية الروائية في "بندول فوكو".ثم أروه صورة للبار الذي دخلته نفس الشخصية الروائية في نهاية الفصل الروائي.و عقب إيكو على صورة البار قائلا أنه لم يقل لهم أن ذلك البار هو من اختراعه ،و أنه صممه بناء على البارات الموجودة في تلك الشوارع الباريسية.و قال إيكو إن الطالبين لم يقوما بدور القارئ النموذجي،و إنما بدور القارئ التجريبي الذي يريد أن يتأكد إدا ما كان أنّ رواية إيكو تصف باريس الحقيقية.

و قد ضرب الباحث ديفيد كولوسي في "دور الكاتب بعد موته"، مثالا طريفا يتوحَّد فيه القارئ التجريبي مع المؤلف الفعلي من خلال استعمال رواية إيكو "بندول فوكو".فذلك القارئ التجريبي هو الذي قرأ ميشيل فوكو ،و لكنه لا يعرف ليون فوكو.و المؤلف التجريبي \الفعلي هو الذي يحضر إلى النص بمعلومات عن سيرة أمبرتو إيكو الذاتية مثل إيكو الذي كان يعزف آلة الطرمبة الموسيقية في شبابه أو ذلك المنظِّر الأدبي الذي كان يكتب في نفس زمن ميشيل فوكو.فكل من ميشيل فوكو و أمبرتو إيكو عند ذلك القارئ الفعلي\التجريبي قادمان من خارج حدود النص أي رواية "بندول فوكو"،و ليس لهما أي علاقة بأي تأويل لنص "بندول فوكو".فأي تأويل اقتصادي يحدث بين القارئ النموذجي و المؤلف النموذجي بناء على النص فقط.

إيكو لا يعطي المؤلف الفعلي أي أهمية في تأويل النص. يبدأ امبرتو ايكو محاضرة له بعنوان "مؤلف و مؤوّلوه"، في الاكاديمية الايطالية للدراسات المتقدمة في امريكا عام 1996 هكذا "إن ساردا و كذلك شاعرا ما يجب ألا يعطي تأويلات لعمله. النص هو الآلة المعدَّة لاستنباط التأويلات.عندما يكون عند أحد نص ليسأله،فليس من المناسب أن يسأل المؤلف".
فهو لا يرى أية أهمية مثلا لقصدية المؤلف الفعلي. ففي محاضرته الألى "التاريخ و التأويل" في محاضرات تانر عن "التاويل و التأويل المضاعف،متحدثا عن الغنوصية و علاقتها بقصدية المؤلف ،قال إيكو " إن الغنوصية النصية المعاصرة متسامحة جدا. فبإمكان أي كان أن يكون كائنا كليا، شريطة أن تكون لديه الرغبة في أن يحل قصدية القارئ محل قصدية الكاتب التي تستعصي على الضبط، لحظتها سيصل إلى الحقيقة، حقيقة أن الكاتب لا يعرف ما يقوله، فاللغة هي التي تتحدث نيابة عنه".

و تحدث في نفس المحاضرة عن العلاقة بين قصديات مختلفة للمؤلف و النص و القارئ،قائلا " قد يُعترض علينا بالقول بأن البديل الوحيد لنظرية خاصة بالتأويل الجذري الموجه نحو القارئ هو ما يدعو إليه القائلون بأن التأويل الوحيد الصحيح هو ذاك الذي يروم الإمساك بالمقاصد الأصلية للمؤلف. ولقد أشرت، في بعض كتاباتي الأخيرة، إلى وجود إمكانية ثالثة تتوسط قصدية المؤلف ( وهي قصدية صعبة التحديد وبدون أهمية في تأويل نص ما ) والشخص المؤوِّل الذي يكتفي بـ " إدخال النص إلى رحى تستجيب لغاياته " على حد تعبير رورتي، ويتعلق الأمر بقصدية النص".و يقول عن "صعوبة إدراك قصدية الكاتب "" فما بين قصدية الكاتب الصعبة الإدراك، وبين قصدية القارئ، هناك القصدية الشفافة للنص التي تدحض كل تأويل هش".

و ينطبق الأمر على "نوايا المؤلف الفعلي أيضا.ففي المحاضرة الثالثة من محاضرات تانر عن "التأويل و التأويل المضاعف"،يقول إيكو " إن هذا النمط من التفاعل بين معرفتي وبين المعرفة التي أسندها إلى الكاتب المجهول، لا يقودني إلى المراهنة على نوايا المؤلف، بل على نوايا النص، أي نوايا ذلك الكاتب النموذجي الذي أنظر إليه باعتباره استراتيجية نصية".

و رغم أن إيكو يرى أنه لا دور إطلاقا للمؤلف الفعلي في تأويل النص،فإنه كما يرى بعض الباحثين كروكو كابوزي البروفيسور في جامعة تورنتو في مقاله "التأويل و التأويل المضاعف : حقوق النصوص و القرّاء و المؤلفين الضمنيين" ، "لم يعتنق أفكار بارت عن موت المؤلف". و يرى ديفيد كولوسي ،أن إيكو استخدم مرة و احدة فقط مجاز "مو ت المؤلف"،بعد تأليفه لروايته "اسم الوردة"،حين قال " أن المؤلف ينبغي أن يموت بعد أن ينتهي من الكتابة حتى لا يعيق مسار النص".و يوضح " ديفيد كولوسي" أنه بعد إعلان موت الإله، من قِبل نيتشة فإن منظري ما بعد البنيوية أمثال ميشيل فوكو و جاك دريدا و بارت،إضافوا موت الإنسان و الذات و المؤلف.و يرى أن إيكو متقدم على معاصريه ،و لم يقدم تقهقرا نحو العالم الذي يتمركز فيه المؤلف،و لكن قدم انعطافة متفائلة،بدون استعارات الموت،نحو تعبيد الطريق لدور الكاتب بعد موت المؤلف.و بالرغم من ازدهار النظريات التي تكرس دور القارئ مثل ايزر و غادامر في الفينومولوجيا و في التفكيك دريدا و الفرع الامريكي له متمثلا في دومان و فيش و هارتمان و في البراغماتي الجديدة مممثلة في رورتي،فإن إيكو لم يترك القارئ حرا،في أن يقرأ النص بالطريقة التي تحلو له،فالنص هو الذي يخلق قارئه النموذجي،و بذلك فإن مطلق تأويل لا يعني أن له دائما كما يقول إيكو "نهاية سعيدة"،فقد يكون تأويلا مفرطا و قد يكون خاطئا.فالتعاون بين النص و القارئ النموذجي هو الذي يولِّد تأويلات "اقتصادية".

فالحياة الخاصة للمؤلف الفعلي ليست لها أي دور إطلاقا في تأويل النص.يقول إيكو " في محاضرته الثالثة "إن هذه القصة لا علاقة لها أيضا بأي تأويل ممكن للنص. والعبرة الوحيدة التي يمكن أن نستخلصها هي : أن الحياة الخاصة للمؤلفين الفعليين لا يمكن سبر أغوارها بسهولة، وهي في ذلك شبيهة بنصوصهم. فما بين خفايا التاريخ الخاص بإنتاج نص ما وبين متاهات قراءاته المقبلة، يمثل النص في ذاته حضورا مكثفا للمؤلف، أو هو بؤرة يجب أن نتشبَّث بها".
و يؤكد ايضا في نهاية حديث له عن أمبارو-إحدى شخصياته الروائية -"إن هذه القصة لا تأثير لها، على الإطلاق، على تأويل النص، ومع ذلك فإن النص بني انطلاقا منها، فأمبارو هي أمبارو هي أمبارو هي أمبارو".
و نبِّه مرةً إلى الغرض من إدراج المؤلف الفعلي،قائلا "أتمنى فقط أن يدرك الحاضرون، أني أدرجت المؤلف الفعلي في هذه اللعبة لغرض واحد : هو القول بلا جدوى آراء المؤلف وتأكيد حقوق النص".

*دور المؤلِّف الفعلي بعد موته: البعْث:

وجّه إيكو في محاضرته الثالثة السؤال التالي "لقد ختمت محاضرتي حول "التأويل المضاعف للنصوص" بسؤال درامي : هل مازال بإمكاننا بعد كل ما قلناه الاهتمام بالمؤلف الواقعي للنص ؟
يرى ديفيد كولوسي أن إيكو حدَّد أربع حالات يكون حضور المؤلف الفعلي فيها مهما.فبالرغم من "موته" يمكن أن يُسمح له أي للمؤلف الفعلي، أن يعلن قيامته أو بعثه.و كل تلك الحالات، ليست لها أي دور في عملية تأويل النصوص.

الحالة الأولى:

عندما يتوجَّه المؤلف الفعلي برسالة إلى شخص معين، يقول إيكو في محاضرته الثالثة "عند ما أتحدث إلى صديقي، فإن قدرتي على فهم ما يود قوله أمر يهمني. وعندما أتوصل برسالة من صديق وأفهم ما يود قوله، فهذا أمر يهمني أيضا". و سبق لإيكو أن قال في المحاضرة الثانية من محاضرات تانر " علينا أن نحترم النص دون الكاتب لذاته أو باعتباره شخصا. ولكن سيكون الأمر فظيعا إذا نحن أقصينا هذا الكاتب المسكين باعتباره شيئا لا موقع له داخل تاريخ التأويل. فهناك حالات، داخل سيرورة الإبلاغ، يصبح التعرف فيها على نوايا المتكلم أمرا في غاية الأهمية كما هوالحال في التواصل اليومي. إن جملة واردة في رسالة مجهولة " إني سعيد " قد تحيل على عدد هائل من الذوات التي تعتقد أنها ليست حزينة، ولكني أنا الذي قمت في هذه اللحظة بالضبط بالنطق بهذه الجملة " أنا سعيد". وبناء عليه، فمن المؤكد أن قصدي هو القول إنى "أنا" هو هذا السعيد، وليس شخصا آخر، وعليكم أن تفترضوا هذا الإمكان من أجل إنجاح التواصل بيننا".و سأضرب مثالا على ذلك من خلال صديقي الدكتور أحمد الصادق.فإذا ما أرسلت إليه إيميلا فيه نسخة "من قبر الخواض" مثلا،فيمكنه أن يؤوِّله بطرق عديدة.أما إذا ما أرسلت إليه إيميلا يتعلق بأهلي الذي يسكنون قريبا من بيته،فليس من حقه أن يؤوِّل هذا الإيميل الشخصي العائلي بطرق تبتعد عن مباشرة الرسالة و مضمونها الواضح الصريح الموجَّه إلى شخص واحد بعينه هو أحمد الصادق.

الحالة الثانية:

و تتعلق باستحضار قصدية المؤلف الفعلي.يقول إيكو في محاضرة تانر الثالثة "هناك حالة يستحب فيها استحضار قصدية المؤلف. إنها تلك التي يكون فيها المؤلف ما يزال على قيد الحياة، حيث يقوم النقاد بتأويل نصه. في هذه الحالة سيكون مفيدا جدا مساءلة المؤلف إلى أي مدى كان واعيا، باعتباره مؤلفا محسوسا، بمجمل التأويلات التي تعطى لنصه، وذلك من أجل تبيين الاختلافات بين قصدية المؤلف وقصدية النص. إن طبيعة التجربة ليست نقدية بل هي نظرية".

الحالة الثالثة:

و هي التي يكون فيها المؤلف منظِّرا للنصوص أيضا كما حالة إيكو نفسه.يقول إيكو عن ذلك في نفس المحاضرة "وقد تكون هناك حالات أخرى يكون فيها المؤلف نفسه منظِّرا للنصوص. وفي هذه الحالة من الممكن أن نكون أمام نوعين من ردود الفعل : سيرد أحيانا قائلا : " لا لم أكن أود قول هذا، ولكن علي أن أعترف بأن النص قد يوحي بذلك، وأشكر القارئ الذي نبهني إلى ذلك؛ أو يقول : " بغض النظر عن كوني لم أكن أود قول ذلك، فإني أعتقد أن قارئا مسؤولا لا يقبل بتأويلات من هذا النوع، لأنه تأويل يشتمل على خصائص غير اقتصادية" .
ثم يعلق إيكو على هذه الحالة باعتبارها تجربة مخبرية لا يمكن الاعتماد عليها في تأويل نصوص المؤلِّف\المنظِّر، قائلا " إن الأمر يتعلق بإجراء لا يعتد به، ولا يمكنني أن أستعين به لتأويل نص ما. وألجأ إليه الآن فقط باعتباره تجربة مخبرية أقدمها لمجموعة من العلماء. وأتوسل إليكم، لا تخبروا أحدا بما يحدث الآن، إننا نلهو بطريقة غير مسؤولة، تماما كما يفعل علماء الذرة الذين يفترضون سيناريوهات خطيرة لحروب مدمرة. وها أنا أحدثكم الآن، من موقع موضوع للتجربة وموقع رجل علم، عن بعض ردود أفعالي، باعتباري مؤلفا لروايتين، تجاه بعض التأويلات التي أعطيت لرواياتي".

الحالة الرابعة:

و هي سماع شهادة المؤلف الفعلي بغرض فهم سيرورة الإبداع الفني.يقول إيكو عن ذلك في نفس المحاضرة"وبما أن المحاضرة تقترب من نهايتها، فإني أحس أني لم أكن رحيما بالمؤلف الفعلي. فهناك حالة واحدة على الأقل تكون فيها شهادته ذات أهمية، لا من أجل فهم النص فهما جيدا، بل من أجل فهم سيرورة الإبداع الفني. إن فهم هذه السيرورة معناه فهم كيف أن بعض الحلول النصية تفرض نفسها صدفة كما لو أنها اكتشافات سعيدة، أو كما لو أنها نتاج ميكانيزم غير واع. فمن الأهمية بمكان معرفة الفرق بين الاستراتيجية النصية، باعتبارها موضوعا لسانيا وضع بين يدي القراء النموذجيين ( ما سمح لهم بالتحرك داخل النص دون الاستعانة بالمؤلف الفعلي ) وبين تاريخ تطور هذه الاستراتيجية. وهناك أمثلة سابقة توضح ذلك. واسمحوا لي أن أقدم مثالين آخرين من طبيعة خاصة. وهما مثالان لا يخصان سوى حياتي الخاصة، ولا يمكن أن يكونا معادلا نصيا، ولا علاقة لهما بقضايا التأويل. إن هذين المثالين قد يكشفان فقط كيف أن نصا أُنتج لكي يكون آلة مولدة للتأويلات، هو وليد مادة لا علاقة لها بالأدب أو لم تتبلور بعد داخلها هذه الصفة".
و لكن ديفيد لم يشر إلى الحالة التي كان يتصرف فيها إيكو كقارئ نموذجي.يقول إيكو عن ذلك ""ومع ذلك هناك حالات أخرى يكون فيها للمؤلف الفعلي الحق في التصرف كقارئ نموذجي".

علاقة المؤلف الفعلي بالقرّاء تكون مثمرة أحيانا.ففي مقاله "مؤلف و مؤوِّلوه"،يرى إيكو أن هنالك حالات يساعد فيه القارئ المؤلف في كتابة كِتاب آخر أو في أن يفهم أفضل الطريقة التي يكتب\تكتب بها. و قد ضرب مثالين على ذلك .المثال الأول على لسان إيكو " أول مخرج أفلام طلب مني أن يعمل فيلما من رواية "اسم الوردة" كان هو صديقي ماركو فيريري.ضمن الأشياء الجميلة التي قالها "أكثر من ذلك،أنا حتى لست محتاجا لإعادة كتابة الحوارات،لأنها تظهر و كأنها صممت لفيلم".المثال الثاني كان بعد "بندول فوكو"،فقد سألني صحافي فرنسي كيف نجحت في وصف الأماكن بشكل رائع".
_______________________________________________________________________________________________________
*في محاضرته "بين المؤلف و النص"،تحدث أمبرتو إيكو،عن نوع آخر من المؤلفين سمّاه المؤلف الاستهلالي،لكنه لم يكن من ابتكاره. يقول إيكو " ولقد أشار مؤخرا أحد طلبتي - ماورو فراريزي - إلى وجود كيان ثالث يتوسط المؤلف الفعلي والمؤلف النموذجي ( الذي لا يمكن أن يكون سوى استراتيجية نصية صريحة ) يتحرك- على هيئة شبح - ونسميه المؤلف الاستهلالي (liminal) أو الكاتب الموجود في العتبة، تلك التي تفصل بين قصدية كائن بشري وبين القصدية اللسانية المندرجة ضمن استراتيجية نصية". ثم يقول في نفس المحاضرة متسائلا " إلى أي حد يمكن للقارئ أن يعتقد في وجود هذه الصورة الشبحية للمؤلف "الاستهلالي"؟ لكنه يعود في ختام تحليل له لنص في نفس المحاضرة ليشكك في جدوى مفهوم المؤلف الاستهلالي من خلال اختلاط التأويل بالاستعمال و المعيارية الاقتصادية الضعيفة للتأويل المستند على مفهوم المؤلف الاستهلالي ليقول " قد يكون المؤلف الاستهلالي مهووسا بالنغمة الناعمة للاسم المعشوق، ومن المشروع أن يكون للقارئ الحق في تذوق وقع هذه الأصداء التي يقدمها النص. إلا أن النص يتحول، من هذه الزاوية، إلى حقل فضفاض يتداخل فيه الاستعمال بالتأويل، ويصبح معيار الاقتصاد معيارا ضعيفا".

*المراجع:

Colosi, David, The role of the writer after the death of the author, Umberto Eco and other folks in
https://www.3dlit.org/artist-index/david ... death.html

Capozzi, Rocco, “Interpretaion and Overinterpretation: Rights of Texts, Readers and Implied Authors, in “Reading Eco- An Anthology ”, capozzi rocco editor, Indian University Press, 1997, p 217-234.

Eco, Umberto, Interpretation and Overinterpretaion, Cambridge University Press, 1992.
قام الباحث و المترجم المغربي سعيد بنكراد بترجمة محاضرات إيكو الثلاث و كذلك مساهمة جوناثان كالر في محاضرات تانر،و أضاف إليها فصلين لإيكو من كتابه "حدود التأويل" و نشرها في موقعه الالكتروني ،كما أصدرها و قدَّم لها في كتاب بعنوان "أومبرتو إيكو-التأويل بين السيميائيات و التفكيك"، و صدرت الطبعة الثانية عن المركز الثقافي العربي.و قد ترجمها من الفرنسية ترجمة جيدة اعتمدنا عليها بعد مقارنتها بالنص الانجليزي الأصلي،لكنه أشار إلى أن المحاضرات كانت في جامعة يل بالولايات المتحدة،و الأصح انها كانت واحدة من محاضرات تانر الشهيرة و كانت في جامعة كمبردج.

Eco, Umberto, An Author and his Interpreters, in Capozzi, Rocco, editor, Reading Eco-An anthology, Indian University Press, 1997, p 59-70.
_________________
"في بلادٍ تموت من البرد حيتانها"
،
أتذكّر أنَّ هناك بلاداً،
أسامة

أقسم بأن غبار منافيك نجوم

فهنيئاً لك،

وهنيئاً لي

لمعانك.

لك حبي.



16\3\2003

القاهرة.

**********************************
http://www.ahewar.org/m.asp?i=4975
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

صورة العضو الرمزية
موسى مروح
مشاركات: 172
اشترك في: الأحد نوفمبر 06, 2011 9:27 am

مشاركة بواسطة موسى مروح »

شكرًا لجميع الإخوة المتداخلين هنا. حالت ظروف سفري دون شكركم في حينه على ما تفضلتم به من آراء.
أسامة الخواض
مشاركات: 962
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:15 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة أسامة الخواض »

[size=18]استعمال الطيب صالح:

يأخذ استعمال النص أشكالا عديدة لا حصر لها،منها ما يستند إلى نظريات نقدية و أخرى بحثية من علوم أخرى و أحيانا كجزء من صراع أيديولجي و أحيانا أخرى بسبب مفهوم بعض القرّاء عن التماثل بين قصد المؤلف الحقيقي و قصد النص،و غالبا لعدم توفر "القارئ" على لغة واصفة، و هذا نجده الطابع الغالب و المهيمن في "القراءات" الاسفيرية للنصوص الإبداعية، و منها ما يركتز على فضول القرّاء و تهاويمهم و نزواتهم .وقد يتم استعمال النص انطلاقا من العلاقة الوثيقة بين سيرة المؤلف الحقيقي و النص،مما نجد نموذجا له في كتاب "الطيب صالح" للدكتور أحمد محمد البدوي.

ويشير دكتور صلاح البندر في مقدمة كتاب أحمد محمد البدوي المعنونة "تقديم-ينابيع الألفة" ،ص 7 ، إلى نزوع البدوي للربط بين نصوص الطيب صالح و سيرته الذاتية.يقول البندر عن ذلك النزوع "الدكتور البدوي،الباحث و الناقد في إهاب واحد،لا يدور حول أعمال الطيب و لكن يستعرضها في بساطة و ترتيب تاريخي إلى القارئ،يركز على استجلاء علاقة التداخل الحميم بين إنتاجه الأدبي و سيرته الذاتية،و كأنه يريد أن يقول إن حياته هي مصدر عالمه الأدبي. و بنزعة الناقد،لا بمنهج مؤرخ السيرة و التراجم،يقدم دليلا بأن نظرية العمل الأدبي شكل منفصل عن الكاتب و قائم بذاته لا تنطبق على هذه الحالة".و يرى البندر أن معرفة السيرة الذاتية للطيب صالح ضرورية لتفسير و إدراك أبعاد مساهماته،و التي لم ندركها بشكل كاف و جلي نتيجة للجهل بالكثير من حياته المثيرة،حين يقول في نفس الصفحة" و إن كان من الضروري فهم مسارات حياة الطيب صالح حتى يمكننا أن نفسر و ندرك أبعاد مساهماته،فإن كل ما نعرفه عنها مصدره الطيب نفسه.لذلك ليس من المستغرب أننا ما زلنا نجهل كثيرا من المثير عن حياته و ما زلنا على الرغم من اجتهادات النقاد و البحاث لا ندرك بعد الأبعاد الكاملة لقصصه و رواياته".
و يبدو تقدير البندر لأهمية السيرة الذاتية لادراك أبعاد مساهمات الطيب صالح واضحا في إشارته لمنقصة شابت عمل البدوي عن الطيب صالح حين يقول في ص 34 "و على الرغم من أن هذا الكتاب ابتعد عن الحياة الشخصية للطيب،حبه و زواجه من جولي و تفاعلاته مع بناته،و لكن ذلك لا ينقص من أهميتها و تأثيرها العميق على إنتاجه الأدبي".

لم يقتصر عمل البدوي عن الطيب صالح على الربط فقط بين سيرته الذاتية و خطابه الإبداعي،و إنما حاول أيضا-ضمن أمور أخرى- أن يقارب ما يمكن أن نسميه النصوص الغائبة في خطاب الطيب صالح.و رغم محاولاته لإقامة علاقة وثيقة بين السيرة الذاتية و خطاب الطيب صالح،إلا أنه أشار مرارا إلى ما يكتنف تلك المحاولات من مآزق. فعن سؤال كمون عنصر من ذات الكاتب في الرواية؟يجيب البدوي "الإجابة: ما من شك في وجود ذلك على نحو ما، و لكن كيف نضع يدنا عليه؟إنه ليذكرنا بقول مالك: الاستواء معلوم و الكيف مجهول،و قول القائل: أجده في قلبي و لا يعبر عنه لساني".ص 161. ثم يعود ليقول "و لكن العنصر الذاتي ليس التماثل مع شخصية روائية حذوك النعل بالنعل، التشابه التام،تشابه التوائم،"الخالق الناطق"،و إنما التجليات الموشاة بالتزاويق،على أن موضوعية العمل الروائي ليست من الكثافة بحيث تستبعد كل ذاتي،فلا يلوح منه أي بصيص من نفس صاحبه،فإن لاح فإنما هو سراب بقيعة،و ليس ماء، مثل نار الحباحب،شيئ يروق و لا طائل فيه"،ص 161-162.

و يحذِّر البدوي- محقاً- من الركون إلى تفسير الروائي لعمله،إذ يكتب في ص 163 "إذا جاز لنا استمداد مؤدى عام،فهو التحرز من قبول التفسيرالذي يتبرع الروائي بتقديمه،فما يقدمه من آراء ينبغي أن يثبت أولا في دائرة الإدعاء،و كذلك رد النفي الذي يؤكده الروائي،بكثير من الحذر،لأنه نوع من التفسير،قائم على الإخفاء،بتوجيه الأنظار إلى التملي في غير تلك الجهة".ثم يتحدث البدوي عن تعقيدات بناء الشخصية الروائية،و عن هامشية الاهتمام بعلاقة الشخصية الروائية بالكاتب الحقيقي في ص 164"و الحق أن الشخصية في الرواية-مثل ضمير المتكلم في القصيدة الغنائية-لا تمثل من الكاتب إلا ما هو وليد أحلامه و تعديله و أوهامه و أشواقه و مكره،بحيث تختفي معالم الشخصية في الواقع،بما يخلع عليها من ألوان و خطوط.إنها خلق جديد.ذاك أمر لا يُنفي مرة واحدة،و لايثبت دائما،و هو من صميم رسالة الناقد،له أن يجتهد فيه بقدر،و يتحمل المسؤولية،و يضع في الحسبان قابلية الخطأ،و يعرف أن ذلك الجانب لا يستحق من الاهتمام إلا حيزا ضيقا جدا، لا يتعداه".

و رغما عن قوله بهامشية العلاقة بين الكاتب الحقيقي و الشخصية الروائية،إلا أنه يعود في ص 268،فيستعمل "موسم الهجرة إلى الشمال" لإثارة سؤال حول من هو "مصطفى سعيد-م س"،و هل هو أحمد قباني-علي أبوسن؟.و يستند في ذلك على ما أورده علي أبوسن في كتابه "المجذوب و الذكريات"حين كتب ""كنا لا نفترق..و أصبح الطيب صالح يتصيد قصص مغامراتنا-أنا و أحمد قباني-و يطلب أن نحكي تفاصيلها بصورة يومية مملة،و كأنه يكتب مذكرات عنها" ثم يسنتنج علي أبوسن "الطيب صالح كان ينظر إلينا باعتبارنا وجهين لعملة واحدة..فنشأت في ذهن الطيب رؤية روائية لنا".و بناء على مذكرات علي أبوسن، يوجِّه البدوي في ص 269السؤال التالي "فهل م س هو أبوسن-قباني؟

لم ينتبه البدوي جيدا إلى ما أورده عن الطيب صالح و امتعاضه من الأسئلة المتعلقة بحياته الزوجية.فهو يقول عن اسم زوجة الطيب صالح "جولي" في ص 78"و لم يذكر الطيب اسمها في لقاء قط،و في المرتين اللتين سئل خلالهما عن حياته الزوجية ذكر أسماء بناته الثلاثة،و لكنه لم يكن راضيا عن السؤال إن لم يكن ممتعضا،لأنه يميل إلى أن يهتم الناس بعمل الكاتب،و أن تصان حياته الخاصة من أسئلة تتصل بأمور تعنيه وحده و لا علاقة لها بأعماله.و لم يذكر في أي لقاء معه اسم زوجته"..و نشرت صور زوجة الطيب صالح و بناته الثلاث لأول مرة في عام 1997 في كتاب طلحة جبريل "على الدرب مع الطيب صالح"،و صرح فيه لأول مرة باسم زوجته،هامش 13 ص 99.

و يورد البدوي آراء للطيب صالح ينفي فيها أنه مصطفى سعيد كما يزعم كثير من القرّاء.ففي ص 75،يورد البدوي حوارا للطيب صالح مع زميله الإذاعي الفلسطيني الراحل أكرم صالح.ففي ذلك الحوار يرد الطيب على ملاحظة أكرم "أنت لخصتنا جميعا في شخصية مصطفى سعيد"،يرد الطيب قائلا "أخذت روح تلك الفترة و الجيل الذي سبقنا،بعض الناس يظنون أن مصطفى سعيد شخص بعينه،بعضهم يقول إنه أنا، واضح أن الأمر ليس كذلك،هذه شخصية خيالية فيها ملامح من مئات الناس".و في ص 161 يقول البدوي أن "الطيب ينفي عن نفسه تطابقه التام مع مصطفى سعيد إلى حد تبادل الأدوار، فيبدو م س (مصطفى سعيد) هو كاتب الرواية، و الطيب صالح (أي ط ص ) الشخصية الرئيسية في الرواية،و يتملح الطيب في الإجابة بدعابة فيقول "مصطفى سعيد ،ليت لي فحولته و ذكاءه" و هو محق في ذلك النفي".

يرى الطيب صالح أن العلاقة شائكة و معقدة بين الكاتب الحقيقي و خطابه.فقد أورد محمد شاهين في كتابه "تحولات الشوق في موسم الهجرة إلى الشمال"، لقاء للطيب صالح مع بعض من قرّائه،و فيه نرى مفهوم الطيب صالح لعلاقة سيرته الذاتية بكتاباته.
فهو يقول في ص ص 194-195 في إجابته عن سؤال قارئة "كيف تنعكس السيرة الذاتية ،و إلى أي مدى تنعكس على كتابات الكاتب؟عندما أدرس كاتبا في حد ذاته هل أدرس حياته أو أركز على ما هو مكتوب؟"يقول الطيب صالح "أما كم يوجد في رواياتي من حياتي،فهذه كما يعلم الأستاذان عصفور و شاهين،قضية شائكة في الأدب.أعتقد أن الكاتب موجود في كتاباته و لكن ليس بالطريقة التي يراها القارئ أحيانا".
ثم يورد مثالا واضحا ليبين فيه العلاقة بين ما يجري للكاتب في حياته العادية و بين طريقته في بناء شخصياته ،يقول الطيب صالح "سأقول لكِ شيئا،و هو سركبير أقوله لكِ الآن و لم أبُح به لأحد من قبل،و أقوله لكِ لأنكِ سألتني عن بناتي.السرّ الذي أفصح عنه هو: في "موسم الهجرة إلى الشمال" هنالك هذه الشخصية العجيبة و اسمها جين مورس.جين مورس شخصية حقيقية،و لكنها ليست نفسها في الرواية.تعرّفتُ عليها في الشهر الأول من وصولي إلى لندن عام 1952 في المتحف الوطني.قابلت فتاة جذابة حقا و كانت...(صمت) كان في المتحف آنذاك معرض عن الفن الانطباعي و بعدين...(صمت) تحدثنا مع بعض و سالتني من أين أنا إلى آخر ذلك...و كنتُ في ذلك الحين فتى يافعاً،لا بد أن تعترفوا بذلك و بعد أن خرجنا من المعرض و ذهبنا إلى مقهى و أمضينا بعض الوقت في الحديث عن أمور عامة،و بعد ذلك لم أرها قط،و اسم الفتاة جين مورس،و قد أحببت ذلك الاسم،و من ذلك اللقاء عَلِقَ اسمها في ذاكرتي و أدخلته في الرواية:الاسم و بعض الأمور الأخرى يعلم الله بها.فلذلك فالعمل الروائي،أو القصيدة،مليئ بالإشارات التي يحتاج الكاتب إلى أن ينفذ منها إلى ما هو أبعد و أعمق.لذلك يمكن أن يكون البحث عن الكاتب في كتاباته ضربا من العبث أحيانا.نحن نعلم الآن أشياء كثيرة عن فرجينيا وولف و خلفية بلومزبري.هذه الأشياء يتوق الناس إلى معرفتها و قد تنير السبيل أحيانا.و لكنني لا أعتقد أن حياة الإنسان الخاصة و هو ما يزال على قيد الحياة مهمة بالنسبة للقارئ.و لا أعتقد أنها يمكن أن تكون مفيدة له في قراءاته أعمال الكاتب" .

يواصل الطيب صالح في ص 196 إبداء رأيه في علاقته ككاتب حقيقي به ككاتب نموذجي إنْ طبَّقنا عليه تمييز إيكو الذي سبقت الإشارة إليه.فقد سئل "كثير من الكتّاب يعطون حياتهم لشخصية ما،هل فكَّر الطيب في إعطاء تجربته الطويلة لإحدى الشخصيات؟فأجاب الطيب صالح قائلا "حياتي الشخصية ليست مثيرة حتى أفعل ذلك بل و ربما ليست الإثارة فيها كافية لأضعها في شخصية.على كل حال لم أشعر بهذه الحاجة.هنالك إغراء بالنسبة للكاتب أن يضع نفسه في شخصية ما،و لكن عليه أن يقاوم هذا الإغراء لأنه يقترب من العالم السطحي،و من واجبه أن يغوص في عالم موهوم من المفروض أن يصنعه بنفسه".نجد أن الطيب صالح يولي اهتمامه الأكبر لما يسميها "المشكلة الفنية" و "السياق الروائي" في مواجهته "للمواد الخام" للرواية.يقول الطيب صالح في مقابلة مع ماجد السامرائي في ص 159 من كتاب البدوي"كان في ذهني أن أكتب محاكمة مصطفى سعيد،أن تكون محاكمة وثائقية،و فعلا قرأت كثيرا حول الموضوع،و زرت المحكمة،و لكن فجأة خطر لي أن هذا لا ضرورة له.فكل ما قرأته و عملته،لم آخذ منه إلا بضع جمل،يقولها القاضي أو المحامي،أو سواهما،لكنني باستمرار كنت أفكر بالمشكلة الفنية،فالقضية أصبحت فنية،المادة موجودة،الشخصيات معروفة،مجرى الأحداث واضح إلى حد ما.لكن المسألة كانت كيف تضعها جميعا في سياق روائي".

يدعم محمد شاهين في فصل بعنوان "الكاتب الحقيقي و الكاتب الضمني:الشخصي و الشخصية" وجهة نظر الطيب صالح.فمحمد شاهين يكتب في ص 47 عن أنّ " العملية الضمنية للرواية،و هي التي تشكل فنيتها،تقع بين طرفين: الكاتب الحقيقي و القارئ الحقيقي.و تنشأ المشكلة عادة بين الكاتب الحقيقي و الكاتب الضمني، أو بين القارئ الحقيقي و الضمني،او بين الواقع،كما نراه نحن كقراء حقيقيين،و بين النص الضمني،و هكذا تضيع فنية الرواية في واقع مألوف و حقيقي بالنسبة لنا،و لكنه ليس كذلك بالنسبة للرواية".و يعلق على ما قال به الطيب صالح عن جين موريس في الحوار في ص 50 "هذا هو الطيب الحقيقي يعلن لنا عن سر طالما انتظره القراء عبر السنوات الطويلة.و هو أن جين مورس شخصية حقيقية.هل يقدِّم هذا أو يؤخر في قراءة الرواية؟و هل يمكن أن يضيف شيئا جديدا إلى الطيب الضمني؟كل ما هنالك أنه يشبع شيئا من الفضول لدينا،و ربما يضيف إلينا متعة ذهنية منفصلة عن فنية الصورة.و من الطريف أن مثل هذا الاعتراف يؤكد على الفرق بين الطيب الحقيقي و الطيب الضمني الذي كانت جين مورس الحقيقية له لا تزيد عن مناسبة نما منها برعم التكوين.و يمكننا أن نستخدم هذا الاعتراف كبرهان قوي ضد الممارسة المالوفة التي تحاول أن تُرجع الصورة الفنية إلى أصلها و كأنها مطابقة للواقع".

نلاحظ أن محمد شاهين يستند على مصطلح "الكاتب الضمني".و هو مصطلح استعمله ،كما يرى إيكو في مداخلة له،واين بوث ، وذلك في كتابه بلاغة التخييل الصادر سنة 1961.ويرى إيكو أنه ظهر بعد ذلك "اتجاهان وتطورا وهما يجهلان بعضهما البعض. فهناك من جهة الاتجاه السميوطيقي البنيوي، وهناك من جهة ثانية الهرمنطيقا. نشأ الأول مع البحوث المجمعة في العدد الثامن من Communications 8 الصادر سنة 1966، حيث شدد بارث على وجوب عدم الخلط بين "الكاتب" (المادي والواقعي)وبين "السارد" ، وحيث أشار تودوروف إلى الزوج "صورة السارد" و"صورة الكاتب" .

و في مقابل أنواع الكتّاب،يرى إيكو أنه يقع " عدد مماثل من القراء المحتملين والقراء المثاليين وآخرين نموذجيين والقراء المتفرعين hyper lecteur والقراء المبنيين، والقراء المطلعين والقراء الجماع والقراء الضمنيين وما فوق القراء وغيرهم." و يرى إيكو أنه في زمن سطوة البنيوية كانت الأولوية ، لتحليل النص باعتباره موضوعا يملك خصائصه البنيوية المتميزة القابلة للوصف انطلاقا من شكلانية تتفاوت درجة صرامتها".و كرد فعل على ذلك النزوع البنيوي، ظهر التوجه الجديد الذي "قد وجّه الاهتمام نحو إشكالية تداولية القراءة".

يرى إيكو أنه قد نجم عن هذا الوضع الجديد المتوجه نحو القارئ و القراء "أن أصبح موضوع البحث في تيارات نقدية مختلفة - تمتد من استيتيقا التلقي إلى الهرمنطيقا، ومن سميوطيقا "القارىء المثالي" أو "النموذجي " إلى الطليعي الأنجلوساكسوني (المسمى بـ "النقد الموجه نحوالقارئ ") والنقد التفكيكي - هو طرائق بناء أو تفكيك النص التي يرهنها فعل القراءة باعتبارها شروطا فاعلة يستلزمها تحقق النص بوصفه نصا. ولم يعد موضوع البحث في تلك التيارات هوالطرائق الأمبريقية المرتبطة بالقراءة بمعناها الحقيقي (التي كانت موضوع سوسيولوجيا التلقي).

يعتقد إيكو أن الأطروحة الكامنة وراء هذه الاتجاهات تتمثَّل " في افتراض أنه لا يمكن تفسير اشتغال أي نص، بما في ذلك النصوص غير اللفظية، إلا إذا أخذنا في اعتبارنا - فضلا عن لحظة تكوينية أو عوضا عنها - الدورالذي يلعبه القارئ من زاوية فهمه وتحقيقه وتأويله، علاوة على الكيفية التي يتوقع بها النص صيغ المشاركة هذه".

*المراجع:

أحمد محمد البدوي، الطيب صالح-دراسة نقدية،دار كمبردج للنشر،كمبردج،بريطانيا،2010.
محمد شاهين ،تحولات الشوق في موسم الهجرة إلى الشمال-دراسة نقدية مقارنة ،الطبعة الثانية،مكتبة مدبولي،2006.
امبرتو إيكو "ملاحظات حول سميائيات التلقي"، مداخلة في ندوة الجمعية الايطالية للدراسات السيميوطيقية المنعقدة بـ"مانطو" بين 25 و 27 أكتوبر 1985،ترجمة محمد العماري،مجلة علامات، العدد العاشر، 1998،موقع سعيد بنكراد.
أسامة

أقسم بأن غبار منافيك نجوم

فهنيئاً لك،

وهنيئاً لي

لمعانك.

لك حبي.



16\3\2003

القاهرة.

**********************************
http://www.ahewar.org/m.asp?i=4975
أسامة الخواض
مشاركات: 962
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:15 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة أسامة الخواض »


ضد استعمال النص
درس الطيب صالح

ظل الطيب صالح في حواراته يحاول أن يدفع الافتراء عن كونه مصطفى سعيد و أن ما ورد في "موسم الهجرة إلى الشمال" من افكار على لسان مصطفى سعيد ليست ة هي أفكاره ككاتب حقيقي.كما كان يحاول دائما أن يؤكد أن إبداع الرواية ليس نسخا لسيرة ذاتية و إنما عملية فنية شديدة التعقيد،و أن حياته الشخصية ليس فيها ما يثير.لم يطلق الطيب صالح على المحاولات الدائبة للمماثلة بينه و بين مصطفى سعيد استعمالا للنص،كما لم يقم بتوصيف بعض التأويلات كتأويلات مضاعفة أو مفرطة كما سمّاه إيكو.

مرة سأله قارئ قائلا "بالنسبة لرواية "موسم الهجرة إلى الشمال"كلنا نعرف ما فيها من جو خيالي،و ندخل في هذا الجو الخيالي أو الأسطوري و نقبله بعض النظر عن صحته أو عدم صحته.لكنني لاحظت أن مشهد الشراب الذي يلقي فيه مصطفى سعيد قصائده باللغة الانجليزية يخرج عن حدود المعقول على الأقل بالنسبة لي و في إطار تفكيري.فالشراب لا يعقل أن يؤثر على شخص عاش في أوروبا بنفس الدرجة التي يمكن أن يؤثر فيها على شخص يعيش في الشرق.كيف يمكن أن نقبل تبريره (تبرير مصطفى سعيد) للراوي، و هو شخص مثله خريج جامعة إنجليزية، حيث يقول له اعتبرني كنت بهلوس أو بهذا المعنى، لا أتذكر النص الحرفي.التفسير غير منطقي،و الحادث غير منطقي في ضمن إطار ال ( make believe ) للرواية.ممكن توضح لنا كيف يمكن لهذا المشهد أن يقع ضمن هذه القصة؟ هو ضروري و هو اساسي لسير أحداثها، و لكن منطقيته في الأحداث بحاجة إلى توضيح.ص 178.

و ردَّ الطيب صالح مركزا على أننا نتحدث عن نص أدبي حين قال في ص 178 "تقولون في الإنجليزية ( suspension of disbelieve ) معاك كل الحق.كما لا يخفى عليك، في الأدب،الكاتب يخلق عالما مفتعلا و يخلق فيه مغامرات.أظن أن توماس هاردي مشهور بعمل أشياء غير منطقية إطلاقا،فجأة تجيئ رسالة،و مثلها أشياء أخرى.و أنا أعتقد أني أكثر منطقية من توماس هاردي".ثم يواصل الطيب صالح رده على القارئ في ص 179 مذكرأ ان مصطفى سعيد "كان يمثل دورا.لم يكن فلاحا عاديا يعيش مع الناس.و معنى ذلك أن ما فيه من الداخل،لا بد أنه كان يلح عليه.هل تظن أن رجلا عبقريا مثله سافر و حصل على الدكتوراة يستطيع أن ينسى ماضيه تماما؟طيب أقول لك،تابعني شوية.رفض، لو تذكر، أن يحضر هذه الحفلة،لماذا؟ لماذا رفض أن يشرب و يحضر مجالس الشراب؟لعله كان يحس أن كل هذا الماضي الذي يعتمل في داخله و يؤرقه يمكن أن يطفو على السطح.و هو لم يقل هذه الابيات، لم يلق شعرا.قال مجرد أبيات طلعت كما يحدث أحيانا مع الإنسان عندما يتحدث مع نفسه بعد أن يشرب، الله أعلم، ثلاثة أو أربعة أو خمسة كاسات من العرق". ثم يحاول الطيب صالح أن يورد معلومة لا يعرفها القارئ عن قوة العرق السوداني علها تكون كافية لإقناعه.قال الطيب صالح موجها كلامه للقارئ "و عرق التمر هذا شراب قوي جدا عندنا (في السودان).فأنا لا أجد غرابة إطلاقا أن هذا حدث."ثم يختم الطيب صالح حججه قائلا للقارئ "أنت من حقك ألا تقبل،و أنا لا أقول لك لازم تصدق".

كل تلك الحجج التي ساقها الطيب صالح انطلاقا من النص و خارج النص، لم تفلح في إقناع القارئ بعبثية مشهد سكر مصطفى سعيد،فقال معلقا "منطقية الحدث هي أن المعتاد على الشراب لا يتأثر بهذه السهولة".فرد الطيب صالح "أنت هنا تدخل عالما غير عقلاني irrational بعقلانية.هل قرأت ماركيز Hundred Years of Solicitude؟يجعل الناس يطيروا،نحن ما عملنا شيئ".

و يحاول نفس القارئ الذي تحدث عن عبثية مشهد سكر مصطفى سعيد،أن يجد صلة بين آراء مصطفى سعيد عن الاستعمار باعتبارها أي تلك الآراء تعبر عن آراء الكاتب الحقيقي الطيب صالح.سأل القارئ "اتجاه مصطفى سعيد نحو الاستعمار فيه نوع من (التأرجح) ambivalence تعتقد أنه يوجد تأثير لرأيك الشخصي؟فسأله الطيب صالح "تأرجح ambivalence من أي ناحية؟فأجاب القارئ "يعني موقفه من الاستعمار فهو يقول على سبيل المثال أن الانجليز بنوا مدارس و مستشفيات.ثم يقول إنهم بنوا سكك حديد لنقل الاسلحة لا الخبز! و نلاحظ موقفه المتأرجح بين الهجوم و الدفاع،أي أن لهم مساوئ و لهم فوائد أو منافع،و في هذه الحالة لا يتخذ مصطفى سعيد موقفا،كأن يراهم خيرا أو شرا".بدا الطيب صالح منفعلا قليلا في رده حين قال" أرجو أن أكون واضحا بما لا يدع مجالا للشك، أنا أعتبر الاستعمار شرا".
ثم يعيد القارئ إلى واقع أننا نتحدث عن نص روائي لا عن الطيب صالح الحقيقي،أي نتحدث عن الكاتب النموذجي،حين قال له"أنا أكتب رواية و بقدر الإمكان أريد أن أكون منصفا.يمكن لي أن أكتب رواية من منطلق عربي،و أشتم الانجليز و الاستعمار و يفرح الناس.لكن ليس هذا غرضي. أنا أخلق عالما متأرجحا،متوازيا يختلط فيه الخير و الشر،الصدق و الكذب (الفني طبعا)،بحيث أن القارئ هو الذي يقرر بينه و بين نفسه".ثم بعد برهة يعود لتذكير القارئ بموضوع "الكتابة" حين يقول له "نحن ككتَّاب نعمل في المجال الذي يتطلب استكشافا و إلا أكون داعية أو مثل ذلك،و لكن أنا كاتب رواية،يمكن أن أكون قد فشلت فيما أروي معك أنت بالذات لكن الاستعمار عندي شر ما فيه كلام".ص 181.

مثال آخر على استعمال النص.سألت قارئة الطيب صالح سؤالين متتابعىين.الأول هو "لقد صوّرت دور المرأة الأوروبية في علاقاتها الجنسية مع مصطفى سعيد بشيئ من السلبية.هل لك أن تقول لنا موقفك من هذا الأمر،أو هل بالإمكان توضيحه؟و الثاني كان "ألا تعتقد أن الرجال العرب ينظرون إلى المرأة الأوروبية دائما على أنها واحدة من تلك النماذج"ص ،و ص.و يعلق محمد شاهين على سؤاليها قائلا في ص 47 "صاحبة السؤال لا بد أنها اعتقدت (بدون أن تفكر في الموضوع تفكيرا موضوعيا) أن الطيب كتب مثل هذه الرواية لقارئة ظروفها العائلية شبيهة بظروفها".

و يرى شاهين ملخِّصا المحور الذي تدور حوله الأسئلة،أنه يرتكز على ما سمّاها "العلاقة بين القارئ الحقيقي و الكاتب الحقيقي".يقول في صفحتي 48 و 49 "كل هذه الأسئلة تدور في محور واحد،و هو أن السائل هو القارئ الحقيقي ،أي أن هذا القارئ يشعر بأن الرواية كتبت له بذاته،و أنها تخاطبه شخصيا،و أن الكاتب الحقيقي،و هو الطيب صالح،الذي ولد في السودان عام كذا و هو متزوج و عنده أولاد و يعمل في اليونسكو،هو الذي يجيب عن أسئلته.و بنفس الطريقة،فإن الأسئلة التي أجاب عنها الطيب ،على تنوعها،تنحصر في محور واحد.و لو أراد الطيب أن يجيب عنها في جواب واحد يشملها جميعا لفعل،و ربما قال:الطيب صالح الذي أمامكم ليس هو المسؤول عن الطيب الضمني،بإمكانكم أن ترجعوا إلى ذلك الطيب في روايته أو رواياته و تحصلوا منه على الجواب المطلوب،و كذلك فإن الطيب الضمني غير محصور بقارئة تخشى أن تمتد الصورة إليها شخصيا بسبب هوية أمها مثلا،و لا بقارئ يحاكم الأمور بإلحاح و منطقية مألوفة،و هي أن العربي الذي أدمن الشراب في الغرب لا يمكن أن يؤثر الشراب عليه بسهولة تجعله يتوجس خيفة من حضور مجالس الشراب".

و يحاول شاهين أن يلخِّص الأسئلة التي يوجهها عادة القراء إلى الكتاب،و التي تنطلق من فكرة أن النص هو انعكاس لسيرة الكاتب الحقيقي،و أن أفضل تأويل لنص هو ما يصدر عن كاتبه الحقيقي الذي يملك سر الشفرات الهرمسية المخفية بين ثنايا النص،و هو الذي يعرف خفايا شخصياته باعتبارها "أقنعة" لأفكار و هواجس الكاتب الحقيقي.يقول شاهين في ص 49 "و يمكن حصر الاسئلة التي توجّه إلى الطيب،أو إلى أي كاتب،في نوعين: النوع الأول يتعلق بالطيب الحقيقي: مثل كيف و متى و لماذا تكتب؟أو هل تضع السيرة الذاتية في الكتابة؟ و النوع الثاني مثل كيف تصور العلاقة الجنسية بين مصطف سعيد و جين مورس؟ ثم يحاول شاهين أن يوضح دور الكاتب الحقيقي في عملية تأويل نصوصه قائلا في نفس الصفحة "إذا أجاب الطيب الحقيقي عن النوع الأول فإن إجابته لا تهم الطيب الضمني و لا العمل الروائي،و هي لا تقدِّم و لا تؤخِّر، أما إذا أجاب عن النوع الثاني فيمكن أن يساعدنا على فهم الطيب الضمني،و لكن ليس بالضرورة أن يكون ما يقول لنا هو نهاية الأمر،و يمكننا أن نأخذ أو لا نأخذ به".و يرى شاهين أن تفسير تلك العلاقة بين القارئ الحقيقي و الكاتب الحقيقي بغرض الوصول إلى "التأويل الحقيقي "للنص،بواسطة مطالبة الكاتب الحقيقي بكشف النقاب عن هوية الكاتب الضمني،يتمثّل في ما سمّاه شاهين في ص 50 "الوهم الشائع الذي يعتقد أن الحقيقي يكمِّل الضمني و يفسِّره و يوضِّحه و يسيطر عليه دائما".

من المفارقات واجبة الذكر في هذا المقام،أن الطيب صالح خصّص في أحد كتب مختاراته فصلا هو الثامن عن رولان بارت. و أورد فيه مقتطفات من مقال رولان بارت المشهور "موت المؤلف"،و الذي يتحدث فيه بارت عن الأسباب التي تدعو إلى إزاحة المؤلف عند قراءة النص،،و من ثمّ -كما يقول في نهاية مقاله- فإنَّ "ولادة القارئ" ستكون على حساب "موت المؤلف".

و من ضمن ما أورده الطيب صالح ،نجد في ص ص 289-299 ،المقطع التالي لرولان بارت ":

"المؤلف شخصية مفتعلة ، بمعني أنه نتاج مجتمعنا ، بإرثه من العصور الوسطي ، والفكر التجريبي الانجليزي ، والعقلانية الفرنسية ، ودعوة حركة الإصلاح البروتستانية إلى تأكيد ذاتية الفرد ، او كما يقال تجاوزا (الفرد الانساني ) . هذه النظرة الساذجة ، وصلت قمتها بشكل منطقي إلى تهويل في الفكر الرأسمالي ، من أهمية الفرد ، أي المؤلف .
هكذا تجد ان المؤلف يتربع علي عرشه في كتب تاريخ الأدب ، وتراجم الكتاب ، والمقابلات ، وفي المجلات ، بل وفي رغبات المؤلفين انفسهم الذين يستهويهم أنْ يخلطوا بين ذواتهم وأعمالهم ، بواسطة نشر مذكراتهم ويومياتهم .
كل شيء في الثقافة العامة ، ينطلق من شخص المؤلف وحياته وذوقه وأهوائه (..) . النقد أبدا يبحث عن تفسير العمل ، في شخص الرجل او المرأة ، الذي صنعه ، كأنما العمل في نهاية الأمر شيء متاح ، ينبع من مصدر واحد هو صوت المؤلف الذي يهمس في آذاننا بأسراره (..) .
إزاحة المؤلف عن عرشه ، ليس فقط حقيقة تاريخية ، أو حيلة كتابية ، إنه أمر يحدث انقلايا في النص الحديث . أو بكلمات أخري ، النص بعد اليوم يكتب ويقرأ، بطريقة تجعل المؤلف غائبا عنه في جميع مستويات النص .. حين تعتقد في وجود المؤلف ، فانك دائما تتخيله كأنه " ماضي " كتابته .
الكتاب والكاتب يقفان بالضرورة علي خط واحد ، ينقسم إلي (قبل)، و(بعد) . المؤلف يظن أنه يطعم الكتاب أي أنه يوجد قبل الكتاب . يفكِّر ويعاني ويحيا من أجل الكتاب .إنها علاقة تشبه علاقة الوالد بمولوده".

من الواضح أن رولان بارت يوضِّح هنا ما يتعرّض له الكاتب الحقيقي الطيب صالح من جانب القراء من مطابقة بينه و بين الكاتب الضمني،و أنه ككاتب حقيقي بيده مفاتيح تأويل النص.لكن الطيب صالح-للأسف- لم ينتبه إلى ذلك ،بل و علّق على مقاطع رولان بارت قائلا في ص 301:

"ولا يحتاج الانسان إلي إعمال الفكر طويلا ، كي يدرك أنه لغو مملوء بالمغالطات والعجرفة . وهو لم يترك للقاريء اي مجال للحكم . لم يترك شيئا تقيس به او مرجعا تستند إليه ـ لأنه رفض كل شيء ضربة لازب .
ورغم ذلك ، فإنه لم يفلح أن يخفي المغالطة الكبري في خطابه . إذا كان قد أمات الكاتب والناقد والعقل والعلم والقانون ، فأين وضع هو نفسه ؟ ومن أين استمد الحق ان يصدر هذه الأحكام ( اللاهوتية ) كأنها حقائق تنزّلت عليه من السماء ؟
الأمر كما قال بودلير – كلام مثل هذيان المجانين . انه لا يعدو ان يكون محض لعب بالافكار والالفاظ ، من رجل يتيه بعلمه ، وهو فيما يتعلق بنا علي اي حال ، علم لا فائدة منه ولا خير فيه" .

رولان بارت بالتأكيد، لا يستحق تلك السخرية،و هذا ما لم يفعله إيكو. فإيكو –علاوة على أنه روائي،فهو يشتغل على مشروع أكاديمي هو "التأويل".و هذا ما لم يتوفَّر للطيب صالح.

و نواصل

*المراجع:

الطيب صالح، المضيئون كالنجوم : من أعلام العرب والفرنجة ، مختارات 2 ،تحرير حسن أبشر الطيب و محمود صالح عثمان صالح، منشورات رياض نجيب الريس ،بيروت، الطبعة الأولى، مارس 2005 .

محمد شاهين ،تحوّلات الشوق في موسم الهجرة إلى الشمال-دراسة نقدية مقارنة ،الطبعة الثانية،مكتبة مدبولي،2006.

Irwin, William, editor, The death and resurrection of the author? Greenwood Press, 2002.



_________________

"في بلادٍ تموت من البرد حيتانها"،
أتذكّر أنَّ هناك بلاداً،
أسامة

أقسم بأن غبار منافيك نجوم

فهنيئاً لك،

وهنيئاً لي

لمعانك.

لك حبي.



16\3\2003

القاهرة.

**********************************
http://www.ahewar.org/m.asp?i=4975
أسامة الخواض
مشاركات: 962
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:15 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة أسامة الخواض »


الحياة الشخصية للمؤلفين و نصوصهم

درس "جين مورس" و "أمبارو"

يرتبط تطبيق منهج السيرة الذاتية للمؤلف بعدة مزاعم منها إثبات أن النص له علاقة وثيقة بالحياة و الواقع ،و كمضاداة للاتجاهات الشكلانية في مقاربة النصوص الإبداعه،مما يعكس طريقتين في مقاربة النصوص "الداخل و الخارج".و منهج السيرة الذاتية يرى ان النص المبدع هو انعكاس للحياة الشخصية لمؤلفه،و من هنا الاهتمام بالسير الذاتية للمؤلفين.و هناك من يتحرك من الخارج أي السيرة الذاتية و يفتش في النص عما يشابه الحياة الواقعية للمؤلف الفعلي،مما يعتبر شكلا من اشكال استعمال النص، و قد يقود إلى قسر النص لكي يتوافق مع الحمولة الخارجية من المعلومات الواقعية التي أتي بها "القارئ" مستعملا للنص.

و يبدو أن تضخيم ذات الكاتب ما تزال آثاره حاضرة إلى الآن. يقول ماريو بارغاس يوسا " في رسائل إلى روائي شاب"ص 7 عن دور الرومانسيين في صياغة مفهوم الكاتب في إطار حديثه عن "الميل الأدبي" (1) . و اكتسبت دراسات السيرة الذاتية أهمية جعلت منها العامل الرئيس في مديح القرّاء للنص "راجعْ جنيفر وول في دراستها عن سونيتات الشاعرة الفيتكتورية اليزابيث براوننق ".

و تبدو هذه المقاربة الميكانيكية التي تربط بين السيرة الذاتية للكاتب و نصوصه ،كما يرى غولدمان مناسبة مع النصوص البسيطة و المتوسطة التعقيد أي تلك النصوص الشفافة التي يمكن من خلالها أن نرى بسهولة انعكاسات الواقع فيها.لكن تلك المقاربة تفشل فشلا ذريعا في رؤية الواقع العياني في النصوص المعقدة.و لنضرب مثلا سودانيا:
هل يمكن انطلاقا من السيرة الذاتية لمحمد عبد الحي أن نقرأ "العودة إلى سنار"؟

و حتى محاولات الربط بين السيرة الذاتية للطيب صالح و مصطفى سعيد أو الراوي فشلت فشلا ذريعا،مما جعل المتبنين لمنهج السيرة الذاتية أن يبحثوا عن شخصيات أخرى واقعية يمكن أن تكون هي "مصطفى سعيد"،و فشلوا أيضا فشلا ذريعا،و لم ينجحوا في إثبات مزاعمهم،و قد شهدنا في محاولة البدوي مثالا ناصعا على ذلك الإخفاق النظري و التطبيقي.

من خلال محاولة تأسيس علم اجتماع الأدب،تم الانتقال من المفهوم الضيق للمؤلف من خلال سيرته الذاتية الى فهم عصره، باعتباره فردا من فئة اجتماعية محدده. فهو أي المؤلِّف–بحسب لوسيان غولدمان-يمثل رؤية العالم لفئة اجتماعية محددة .و هاجرت تطبيقات البنيوية التكوينية إلى الفضاء الثقافي العربي من خلال التونسي الطاهر لبيب في كتابه "سوسيولوجيا الغزل العربي-الشعر العذري نموذجا" و المغربي محمد بنيس في كتابه "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب-مقاربة بنيوية تكوينية"،باتباع مرحلتي الفهم و التفسير.

اهتمت المقاربات البنيوية التكوينية العربية بنقد المنهج البيوغرافي.يقول الطاهر لبيب في المقدمة ص 5 من الترجمة العربية عن المناهج النقدية القديمة التي تربط النص الشعري بذات الشاعر و سيرته الذاتية" إن هؤلاء الذين ينوي هذا العمل،اتفاقا،فحص منهجهم،هم أولئك الذين يذهبون مباشرة لملاقاة الشاعر بجعل نصه بساطا متحركا لا يؤدي إلا إليه! في حين أن الذهاب ليس بلا عودة،ما دام النص "لا يتضح" إلا في العودة،بمعنى أنه يتوافق-عن طريق تلازم قهري-مع ما يمكن جمعه من أخبار مريبة أو خرافية،أو من نوادر،عن الشاعر،من تاريخ الميلاد و مكانه،و الحالة المدنية،و الدفاع عن القبيلة،و البسالة الفائقة،و صحة المعتقد أو فساده،و مغامرات حب تعس، إلخ...و يتم هذا الذهاب و الإياب بين الشاعر و النص انطلاقا من الفكرة التي تعتبر الأثر الشعري نتاجا لذات فردية".

في سوسيولوجيا الادب لسكاربيت بدا الكاتب في بنية أوسع من مجرد سيرته الذاتية.إذ أضيفت إلى سيرته الذاتية عوامل انتاج و تسويق الكتب،و علاقة الطبقات و الفئات الاجتماعية بالكتب و النصوص الادبية. في سوسيولوجيا سكاربيت نجد مقاربة يتداخل فيها الكاتب في الزمان و المجتمع مع إنتاج و توزيع و استهلاك الكتاب،و عملية النشر و دوائر التوزيع و علاقة الأثر الأدبي بالجمهور و القراءة و الحياة و التي اشتملت على عوامل مثل ظروف المطالعة (2).

كما رأينا، فهنالك محاولات لتوطين مناهج ترمي إلى الربط بين المؤلف و الحياة أو المجتمع مثل المنهج البيوغرافي و "سوسيولجيا الأدب" في الثقافة العربية.لكن كل محاولة للتوطين يجب أن تراعي الفروقات الحضارية بين منشأ تلك المناهج و بين الأرض التي سيتم توطين فيها تلك المناهج. فالذين يتبنون منهج السيرة الذاتية في مقاربة نصوص المؤلف،ينسون أو يتناسون حقيقة أن مجتمعات محافظة مثل المجتمع السوداني،لم تتطور فيها النزعة الفردية كما حدث في المجتمعات الغربية.فالحقائق و المعلومات المسهبة عن المؤلف محاطة بتابوهات لا حصر لها،مما يجعل جهود توطين منهج السيرة الذاتية كما جرى في سياقه الغربي،أمرا لن يعطي نفس الثمار –على علّاتها-كما جرى الحال في الثقافة الغربية .

و يمكن أن نلمس في مقدمة الطبعة العربية ل"سوسيولوجيا الأدب" ، الفروقات بين المؤلفين في دول غربية و نظرائهم في ثقافات أخرى مثل الثقافة العربية .يقول مؤلفا الكتاب "شرف لهذا الكتاب أن يترجم إلى العربية،و تحد له أيضا أن يكون توليفة في سوسيولوجيا الأدب.في الحقيقة،حظيت خصوصية البحث و النقد هذه،منذ زمن،بأهمية خاصة في بلدان مثل ألمانيا و بريطانيا و فرنسا،أي في بلاد اكتسب فيها الكتاب و الكتابة الأدبية،منذ فترة طويلة،مكانة في الاقتصاد التجاري و كذلك مكانة في الاقتصاد الرمزي.تشهد على ذلك أعمال بيار بوردو و باحثن آخرين في الحقل الأوروبي و مؤسساته و تأثيراته الواسعة.غير أن الوضعية التاريخية ليست و لم تكن هي ذاتها في بلدان أخرى من العالم،و لا كانت حتمية الأبعاد الاجتماعية في الأدب مرئية فيها بمثل هذا الوضوح.كما أنه إذا كان لا يسعنا إلا أن نغتبط لانتشار كتاب معين انتشارا واسعا فإن علينا أيضا أن نتساءل عن أسباب ذلك".ص 5.

فالمؤلف كما يبدو في "موت المؤلف" لبارت،و "ما المؤلف" لفوكو،ليس هو المؤلف في الثقافة العربية مثلا.
و يبدو الأمر أكثر مدعاة للتفكُّر،حين يقول المؤلفان عن سوسيولوجيا الأدب في الثقافة الغربية في ص 9 "لهذا ليس هذا الحقل الخاص اليوم نظاما معترفا به بصورة تامه.فهو لا يشكِّل فرعا من البرامج الإلزامية،لا لطلّاب الآداب و لا لطلّاب العلوم الاجتماعية،و لم يخصّص له أي كرسي جامعي و لا أية مجلة".

بين الطيب صالح و أمبرتو إيكو:

يثبت المؤلفون أنفسهم أن البحث في الحياة الشخصية لهم لن يقود إلى شيء جدي له صلة بإبداعية النص. كثيرا ما تقع المقاربات التي تعتمد السيرة الذاتية في تناقض مع نفسها،حين يصرح المؤلفون عن عبث محاولة الربط بين حيواتهم الشخصية و نصوصهم الإبداعية،لكن تلك المقاربات،كما في حالة البدوي،لا تلقي بالا لذلك التصريح المهم.و أدناه شهادتان للطيب صالح و أمبرتو إيكو.

جين مورس: شهادة الطيب صالح

يقول الطيب صالح مخاطبا قارئة قد سألته عن بناته "سأقول لكِ شيئا،و هو سركبير أقوله لكِ الآن و لم أبُح به لأحد من قبل،و أقوله لكِ لأنكِ سألتني عن بناتي.السرّ الذي أفصح عنه هو: في "موسم الهجرة إلى الشمال" هنالك هذه الشخصية العجيبة و اسمها جين مورس.جين مورس شخصية حقيقية،و لكنها ليست نفسها في الرواية.تعرّفتُ عليها في الشهر الأول من وصولي إلى لندن عام 1952 في المتحف الوطني.قابلت فتاة جذابة حقا و كانت...(صمت) كان في المتحف آنذاك معرض عن الفن الانطباعي و بعدين...(صمت) تحدثنا مع بعض و سالتني من أين أنا إلى آخر ذلك...و كنتُ في ذلك الحين فتى يافعاً،لا بد أن تعترفوا بذلك و بعد أن خرجنا من المعرض و ذهبنا إلى مقهى و أمضينا بعض الوقت في الحديث عن أمور عامة،و بعد ذلك لم أرها قط،و اسم الفتاة جين مورس،و قد أحببت ذلك الاسم،و من ذلك اللقاء عَلِقَ اسمها في ذاكرتي و أدخلته في الرواية:الاسم و بعض الأمور الأخرى يعلم الله بها.فلذلك فالعمل الروائي،أو القصيدة،مليئ بالإشارات التي يحتاج الكاتب إلى أن ينفذ منها إلى ما هو أبعد و أعمق.لذلك يمكن أن يكون البحث عن الكاتب في كتاباته ضربا من العبث أحيانا.نحن نعلم الآن أشياء كثيرة عن فرجينيا وولف و خلفية بلومزبري.هذه الأشياء يتوق الناس إلى معرفتها و قد تنير السبيل أحيانا.و لكنني لا أعتقد أن حياة الإنسان الخاصة و هو ما يزال على قيد الحياة مهمة بالنسبة للقارئ.و لا أعتقد أنها يمكن أن تكون مفيدة له في قراءاته أعمال الكاتب" .

أمبارو: شهادة أمبرتو إيكو في محاضرات تانر

لقد كان كاسوبان في بندول فوكو عاشقا لفتاة برازيلية اسمها أمبارو Amparo، ولقد رأى فيها جيوسي موسكا إحالة ( مزحة ) على أندري أمبير الذي درس القوة المغناطيسية بين تيارين. لقد كان جيوسي فطنا أكثر من اللازم. لا أتذكر لماذا اخترت هذا الاسم، لقد أدركت فيما بعد أن الاسم ليس برازيليا ولقد كتبت :
"لم أفهم أبدا لماذا كان لحفدة الهولنديين اسم اسباني، هم الذين استوطنوا رِسيف واختلطوا بالهنود والزنوج السودانيين وكانت لهم مسحة جمايكية وثقافة باريسية".

وهذا يعني أني نظرت إلى اسم أمبارو كما لو أنه آت من خارج الرواية. ولقد سألني صديق لي بعد ظهورالرواية بشهور : لماذا أمبارو ؟ أليس الاسم اسم جبل ؟ وشرح لي بعد ذلك أن هناك أغنية تقول : Guajira Guantanamera تشير إلى جبل اسمه أمبارو. يا إلهي، إني أعرف هذه الأغنية جيدا، رغم أني لم أعد أذكر كلمة واحدة من كلماتها. لقد غنتها فتاة في أواسط الخمسينات، وكنت مغرما بهذه الفتاة. لقد كانت من أمريكا اللاتينية، وكانت جميلة جدا، ولم تكن برازيلية ولم تكن ماركسية، ولم تكن سوداء ولا هستيرية كما كانت أبارو. ولكن من الواضح أني، وأنا أبتدع فتاة جذابة من أمريكا اللاتيني، كنت لاشعوريا أفكر في صورتي الأخرى، صورة شبابي عندما كنت في سن كاسوبان. لقد فكرت في هذه الأغنية، وبطريقة ما ظهر اسم أمبارو ( الذي كنت نسيته تماما ) من لاشعوري وتسلل إلى الصفحة.

إن هذه القصة لا تأثير لها، على الإطلاق، على تأويل النص، ومع ذلك فإن النص بني انطلاقا منها، فأمبارو هي أمبارو هي أمبارو هي أمبارو".
*****************************************************************

(1) “و الميل بكل تأكيد،مسألة مبهمة،محاطة بعدم اليقين و الذاتية.و لكن هذا ليس عائقا يحول دون محاولة شرح الأمر بطريقة عقلانية،مع تجنب ميثولوجيا الزهو و البهرجة،المصبوغة بالتدين و الغطرسة،التي كان يحيطه بها الرومانسيون،جاعلين من الكاتب مختارا من الآلهة،و موسوما من قوة خارقة سامية،لكي يكتب تلك الكلمات التي تتسامى الروح البشريعة على شذاها،متجاوزة نفسها،و تتوصل بفضل ذلك التلوث و الجمال (مع التشديد بالطبع) إلى الخلود.ليس هناك اليوم من يتكلم بتلك الطريقة،عن الميل الأدبي أو الفني،و لكن برغم من أن التفسير الذي يقدم في أيامنا،هو أقل أبهة و غيبية،إلا أنه ما يزال ملتبسا".

(2) عن ظروف المطالعة.هنا مثال جيد يقدمه كيليطو "من شرفة ابن رشد" عن ورلان بارت "ص 46 "كان يوزِّع الكتب إلى كتب النهار و كتب الليل.أفكار باسكال تنتسب للصنف الأول: كان يقرؤها خارج البيت،في مقهى الفلور أو في الطائرة،في وضح النهار، وفي فضاء عمومي.و بالعكس،فمن العسير تصوّره يقرأ، وسط زبناء الفلور، جول فيرن الذي لرواياته صلة حميمة بالنوم.يصرِّح في لذّة النص،أنه لا يقرأ ليلا إلا روايات أو قصصا كلاسيكية".من الواضح أن هنالك فروقا في بارت القارئ الفعلي و بين بارت الذي يؤو<ِل النص كقارئ.

المراجع:

الطاهر لبيب،سوسيوجيا الغزل العربي-الشعر العذري نموذجا،ترجمة مصطفى المسناوي،دار عيون و دار الطليعة.

بول آرون و الان فيالا،سوسيولوجيا الأدب،ترجمة الدكتور محمد علي مقلد،مراجعة د. حسن الطالب،دار الكتاب الجديد المتحدة،الطبعة الأولى،كانون الثاني\يناير 2013.

روبير اسكاربيت،سوسيولوجيا الأدب،تعريب آمال انطوان عرموني،عويدات للنشر و الطباعة،بيروت،الطبعة الثالثة،1999.

عبد الفتاح كيليطو، من شرفة ابن رشد،ترجمة عبد الكبير الشرقاوي،دار توبقال للنشر،الطبعة الأولى،2009.

ماريو بارغاس يوسا،رسائل إلى روائي شاب،ترجمة صالح علماني،دار المدى للثقافة والنشر،الطبعة الثانية،2010.

محمد بنيس،ظاهرة الشعر المغربي المعاصر-مقاربة بنيوية تكوينية،دار العودة للنشر،الطبعة الأولى،1979.

محمد شاهين،تحولات الشوق في موسم الهجرة إلى الشمال،مرجع سابق.

Eco, Umberto, Interpretation and Overinterpretation, Op.Cit..

Jennifer Kingma Wall, Love and Marriage: How Biographical Interpretation affected the Reception of Elizabeth Barrett Browning's "Sonnets from the Portuguese" (1850), https://www.victorianweb.org/authors/ebb/wall1.html

_________________
أسامة

أقسم بأن غبار منافيك نجوم

فهنيئاً لك،

وهنيئاً لي

لمعانك.

لك حبي.



16\3\2003

القاهرة.

**********************************
http://www.ahewar.org/m.asp?i=4975
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

أضف رد جديد