على طرقات نديم غورسيل

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

على طرقات نديم غورسيل

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

على طرقات نديم غورسيل
أنطوان جوكي
20 فبراير 2015

[font=Arial]على طرقات نديم غورسيل

في كتابه "الكتّاب ومدنهم"، الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن "دار سوي" الباريسية، يدعونا الكاتب التركي نديم غورسيل إلى سفر خاص. سفر نعود منه أثرياء على مستويين؛ فبموازاة تنقّلنا معه في فضاءات جغرافية كثيرة، يسير بنا على طرقات معارفه الغزيرة.

وفعلاً، هناك كمٌّ من الذهاب والإياب نحو الأدب وتاريخه في هذا العمل الذي يخرج قارئه منه دائخاً، كما من دوامة. ولا عجب في ذلك، فغورسيل الذي مارس بانتظام أدب الرحلة، غالباً ما كتب نصوصه خلال تنقّلاته؛ نصوصاً حول مدنه المفضّلة: إسطنبول طبعاً، ولكن أيضاً باريس حيث يعيش منذ سنوات طويلة، والبندقية وبرلين وموسكو؛ مدن تحوّلت مع الوقت إلى أجزاء لا تتجّزأ من حياته الخاصة.

لإنجاز هذا الكتاب، عاد غورسيل مراراً إلى كتابات سابقة وإلى ذكرياته، كما قام بأبحاث عميقة قادته إلى متاحف ومكتبات عامة وخاصة، علماً أن ثمّة خيطاً موّجهاً واحداً وهو الحب العاثر، ورغبة واضحة في السير على خطى كتّاب كبار أعزاء على قلبه. وفي هذا السياق، يأتي إلى البندقية لاستحضار أولاً علاقة لويس أراغون في شبابه بالكاتبة نانسي كونار التي سيهجر الشاعر أصدقاءه السورّياليين من أجلها ويلحق بها إلى مدن مختلفة، قبل أن يحاول الانتحار في البندقية بعد استنتاجه أنه أبداً لن يتمكن من امتلاك تلك المرأة اللعوب التي وقع في شباكها أهم الكتّاب والفنانين آنذاك، مثل ألدوس هاكسلي وإزرا باوند وتريستان تزارا وبرانكوزي...
"
لسفر الكاتب التركي محطات كثيرة وآسرة مثل سفر عوليس
"

وبعد أراغون، يسرد غورسيل لنا قصة العلاقة العاطفية التي ستربط أرنست همنغواي الخمسيني، في البندقية، بالشابة أدريانا إيفانسيش، ابنة التسعة عشر عاماً، التي ستلهمه تحفته الأدبية "العجوز والبحر"، قبل أن يقدم على الانتحار عام 1961؛ وزيارات مارسيل بروست العديدة إلى هذه المدينة التي تحضر بقوة في عمله الشهير "بحثاً عن الزمن الضائع" كالمكان المثالي لالتقاء العشّاق؛ وعلاقة توماس مان المعقّدة بهذه المدينة التي سيختبر فيها مفهوم الجمال المدمّر والقاتل فيكتب روايته الشهيرة "الموت في البندقية"، التي اقتبس فيسكونتي منها فيلمه الذي يحمل العنوان نفسه.

"أصبحت البندقية مدينة سرمدية بانبعاثها دوماً داخل الجغرافيا الشخصية لجميع الكتّاب الذين زاروها"، يقول غورسيل الذي يحلل بمهارة وذكاء كبيرين علاقة هذه المدينة بكتابات وحيوات الكتّاب الخمسة المذكورين، قبل أن يتابع سفره في اتجاه موسكو حيث تتسكّع، بحسبه، أرواح شعراء كبار انتحروا أو قُتلوا، مثل بوشكين وسيرغي إيسّينين وألكسندر بلوك وأوسيب ماندلشتام وطبعاً ماياكوفسكي وغوغول؛ شعراء ما زالوا حاضرين في المدينة من خلال تماثيلهم التي تتوزع فيها، ويصفها غورسيل لنا في معرض توقّفه عند عبقرية ومأساة كل واحد منهم.

ولأن لسفر الكاتب التركي في هذا الكتاب محطات كثيرة، مثل سفر عوليس، ننتقل معه، بعد موسكو، إلى برلين كما صوّرها الفنانَون التعبيريون جورج غروس وأرنست كيرشنر، وإلى تلك المدينة التي تركت أكبر أثر في كافكا، بعد براغ، وشكّلت محور علاقاته العاطفية. فإليها، سيرسل صاحب "التحوّل" مئات الرسائل لكسب قلب فيليسي، حبّه الأكبر، التي كانت تعيش في برلين، قبل أن يزورها مرات عديدة من دون أن يتمكن من الزواج منها والعيش معها.

وفي هذه المدينة سيمضي الفترة الأخيرة من حياته قرب الشابة دورا ديامان. ولأن فرانكفورت وفايمار لا تبعدان كثيراً عن برلين، لا يقاوم غورسيل رغبته في التوقف قليلاً في كل منهما لإلقاء التحية على غوته وزيارة منزله في فايمار الذي أصبح متحفاً اليوم، واستحضار حياته التي أمضى الجزء الأكبر منها في هذه المدينة.
"
تفاصيل مثيرة عن الإسكندرية كما عرفها كفافي ولورنس دوريل
"

وفي الجزء الأخير من كتابه، يعبر غورسيل بنا إلى الضفة الجنوبية من المتوسط، لسرد تفاصيل مثيرة عن الإسكندرية كما عرفها لورنس دوريل، وعن حياة كفافي فيها؛ حياة أمضاها الشاعر اليوناني يجوب الشوارع نفسها، الحي نفسه، حتى وفاته، نظراً إلى السحر الذي مارسته هذه المدينة عليه، والعلاقة الاستحواذية التي جمعته بها: "لن تعثر على بلاد جديدة / لن تعثر على بحار أخرى / ستلحق المدينة بك"؛ ونظراً أيضاً إلى الحرية التي أمّنتها له: "لم أقبل بأي قيد / منحتُ نفسي كلياً وسرتُ... / نحو ملذات كان بعضها حقيقياً / وبعضٌ آخر من صنع خيالي/ في الليل المضاء، ذهبتُ / ثم شربتُ خِماراً قوية، مثلما / يعرف كيف يشرب الرجال المرصودين للمُتع".

ومن الإسكندرية إلى وهران التي عاش ألبر كامو فيها وشكّلت مسرح روايتيه "الطاعون" و"الغريب". محطة أخيرة يستحضر غورسيل فيها الطريقة التي صوّر كامو فيها وهران كمدينة "بشعة" و"عادية"، محاصرة بجدرانها وموجّهة إلى الداخل، رغم وقوعها على المتوسط؛ مدينة لم يحبّ فيها إلا إمكانية العودة منها إلى الجزائر العاصمة حيث كانت تعيش أمه وأصدقاؤه. ويستغل غورسيل هذه المحطة لتصوير حاضر وهران أيضاً، وتوجيه اللوم لكامو على غياب العرب في جميع كتبه التي تناول فيها الجزائر، وكأن لا سكان أصليين في هذا البلد، بل فقط مستوطنون.

مسعى نديم غورسيل في إصداره الأخير لا يقتصر على مجرّد استحضار وقراءة حيوات كتّابه المفضّلين في المدن التي اختاروها كفضاءٍ حيوي للعيش. فعلى طول نصّه الغني والكثيف، يقارع هؤلاء الكتّاب عبر خلطه عناصر من سِيَرهم بتجاربه وانطباعاته الخاصة داخل المدن المقصودة، وذلك ضمن حبكة هي أشبه بمتاهة مثيرة وفاتنة تجعلنا ننتظر اليوم الذي سيسلك فيه كاتبٌ آخر دروب هذا الرحالة الكبير، ويقرأ كتاباته وفصول حياته على ضوئها.
- See more at: https://www.alaraby.co.uk/culture/e5ee6b ... 6d8#sthash
.CBl
XIdVh.dpuf
أضف رد جديد