Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

الألفه الخواد ما صنعته فيك الأخوانيات لا يستحق الغدر!!


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

بعد اضطراره إلى الانقطاع عن هذا الخيط لبضعة أسابيع، ها هو محمد خلف يعود إلينا بهذه المساهمة:



السَّرد بوصفه بُعداً نوعياً للممارسة السِّياسيِّة

1. وجهة نظر صحيفة "الجارديان" بشأنِ هزيمة حزب العمال


تعرَّض حزبُ العمال البريطاني لهزيمةٍ نكراءَ في الانتخاباتِ العامة التي جرت في 7 مايو 2015، حيث فقد كلَّ مقاعده في إسكتلندا، ما عدا مقعداً واحداً؛ كما لم يحقق مكاسبَ كانت متوقَّعةً في إنجلترا وويلز. وقد بدأ المحلِّلون وكبارُ السياسيين من حزب العمال بالإدلاءِ بآرائهم حول أسبابِ الهزيمة، وحول آفاقِ مستقبلِ الحزب. على سبيل المثال، دعا رئيسُ الوزراء الأسبق، توني بلير، إلى عودة الحزب إلى مركزِ الوسط حتى يتمكَّن من الفوز في المرَّةِ القادمة بنتيجةِ الانتخابات؛ بينما دعا بيتر ماندلسون إلى تبنِّي طموحات الطَّبقات المتوسطة. إلا أن صحيفة "الجارديان" انفردت برأيٍّ له علاقةٌ وثيقة بموضوع هذا الرُّكن، وهو السَّردُ، الذي حاولتْ رسالتي إلى الصَّديق القاص عادل القصَّاص توسيعَ مداه ليشملَ كافَّة العلوم البشرية، التي اصطلحنا على تسميتها بمجالِ الحقيقة، وذلك توطئةً للاقتراب منه عبر القصصِ القرآني، التَّعبيرِ الأسمى عن الحقِّ.

قالت صحيفة "الجارديان" في افتتاحيتها في أعقاب إعلان نتيجة الانتخابات إن حزب العمال قد اعتاد لفترةٍ طويلة أن يقفَ ضد التَّياراتِ المُنادية بتشتيتِ مراكز التَّصنيع (بتوزيعها حول العالم، وأينما تتوفَّرُ الموادُّ الخام، وحيثما تُوجدُ العمالةُ الرَّخيصة)، وتفكيك النِّقابات، وهيمنة النَّزعة الاستهلاكية؛ لكنه يواجه الآن أيضاً نزعةً انفصاليةً قومية تقشعِرُّ لها الأبدان، في إشارةٍ إلى الصُّعود الصَّاروخي للحزب القومي الإسكتلندي، تحت رئاسة السَّيِّدة نيكولا إستيرجن. وقالت الصَّحيفة أيضاً إن ما يحتاجه حزبُ العمال في الأشهر القليلة القادمة المُثقلة بصدمةِ الهزيمة، ليس وجهاً جديداً، بل وقتاً للتَّفكير؛ فعوضاً عن النِّقاشات التي تتكهَّن بشخصية الزَّعيم الجديد، كان الأجدى، في نظر الافتتاحية، التَّصدي لسردية التَّحالف (وهو التَّحالفُ السِّياسيُّ بين المحافظين والدِّيمقراطيين، الذي حكم بريطانيا طيلة الخمسِ سنواتٍ الماضية)، وهي السَّرديةُ التي تزعم بأن البلادَ تعرَّضت للإفلاس بسببِ الإنفاق المفرط على الخدمات الاجتماعية، بدلاً عن القول بأنها أفلست بسببِ ممارساتِ المصرفيين، في إشارةٍ إلى الأزمة المالية التي اندلعت في بداية 2007، واستمرَّت حتى نهاية 2008؛ كما ضاعف حزبُ العمالِ الخطأَ بفشلِه في تقديمِ رسالةٍ واضحة تحدِّد الكيفية التي تختطُّ بها بريطانيا طريقاً للنُّمو يُخرِجُها من وهدةِ الدِّيون.

وقالت افتتاحية "الجارديان" إن على حزب العمال أن يحذِقَ كيفية سَردِ القصصِ بصوتٍ –وربما بنبرةٍ- تُسمِعُ أذناً صاغيةً للفردِ الواحد، إنْ لم نقلْ للبلدِ ككل. على أن يتمَّ ذلك بالتَّخلُّصِ من المصطلحاتِ الغريبة، وإيجادِ وسيلةٍ جديدة لنشرِ الحججِ الأخلاقية، بدلاً من تفشي المعجم الكئيب الذي يبثُّه التكنوقراطيون؛ وعلى أن يتم ذلك أيضاً بطرحِ الأسئلة الصَّحيحة، ومن ثمَّ إيجادُ الإجاباتِ المقنعة. ورأتِ الافتتاحية أن زعيم حزب العمال، إد ميليباند، الذي قدَّم استقالته في أعقاب الهزيمة، كان مُحِقَّاً في طرحِ الأسئلة الصَّحيحة، لكن حزبَه كان حذِراً في تقديم الإجابات الواضحة.

وتخلُص افتتاحية "الجارديان" إلى القول بأن ما يحتاجه حزبُ العمال الآن، وبشكلٍ عاجل، ليس البحثَ عن الذَّاتِ أو الجريَ وراءِ المبادئ الأولية، وإنما كيف يمكن تحويل هذه المبادئ إلى سياساتٍ تلقى أُذناً صاغية لمستمعٍ للرَّاديو أو مشاهدٍ للتِّلفريون؛ وهي تلك المبادئ التي يمكن أن يستخدمها زعيمُ حزب العمال الجديد للكشفِ عن قصَّةٍ واضحة لم يكنِ الزَّعيمُ القديمُ قادراً على سردها.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:33 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عقب فراغ الصديق محمد خلف من كتابة رسالته إليَّ/نا، وغالباً بعد أن قمنا بنشرها في هذا الخيط، اطَّلَع عليها أحد أصدقائه من المقيمين في لندن، ثُمَّ ما لبث هذا الصديق أن تَحَمَّسَ لنشرها في الملحق الثقافي لصحيفة "الشرق الأوسط". وبالفعل قام بتسلميها للمحرر الثقافي للصحيفة، الذي أُعْجِبَ بها بدوره، وقرَّرَ نشرها - أو بالأحرى نشر أجزاء منها يراها مهمة ومناسبة لصفحته - على حلقات. التالي هو الجزء الأوَّل مما نشره في الملحق الثقافي لـ"الشرق الأوسط"، بعد أن أجرى عليه تحريره:



أين مضى شعراء السودان وقصاصوه ؟
قسم اختطفته الدبلوماسية والحياة الأكاديمية.. والآخر الصحافة



صورة

الناقد أحمد الطيب عبد المكرم (يسار) يتلقى تكريما قبل رحيله - الروائي عيسى الحلو - الكاتب جمال محمد أحمد

لندن: محمد خلف الله

للراحل جمال محمد أحمد، أول رئيسٍ لاتحاد الكتَّاب السودانيين، رأي طريفٌ حول الرواية والتاريخ؛ وطرافته ليست نابعةً من السَعَةِ والتحرُّرِ الناشئين من الانتقال المدهش من حرفيَّةِ التاريخ إلى بلاغةِ الرواية، وإنما مصدرُها ناجمٌ عن رأيِّهِ حول التاريخِ ذاتِه، فقد كان يرى في التاريخ، ما كان يراه الفيلسوفُ الإيطالي غيامباتيستا فيكو، وهو أن هناك احتمالاً قويًا بأن الناسَ في فتراتٍ تاريخية مختلفة يمتلكون أنظمة متباينة للفكر، مما يعني أن حرفيَّةَ التاريخِ ذاتِها خاضعةٌ لأنماط التفكير المتنوِّعة، الأمر الذي يضاعف من حريَّةِ الانتقالِ في مجالِ التعبيرِ الروائي.
من الجائز أن يكون جمال محمد أحمد قد توقَّف في مشوارِ التماسِه لقبسِ الحداثةِ الأوروبية، بحُكمِ السنِّ، عند فيكو؛ ولكنَّ شبابَ الكتَّابِ، في منتدياتهم التي غصَّت بها دارُهم في حي المقرن بالخرطوم، كانوا ينشدون فكاكًا من إسارِ التقليد، فينتهجون بنيويةً لهم ثم تفكيكًا، فينتقلون في سلاسةٍ ويُسر من فيكو إلى فوكو؛ فيتعلَّمون من الأخير حِرفة التنقيب، وكيفية إجراء حفرياتٍ عميقة في حقل المعرفة.
إلا أن أول رئيسٍ لاتحاد الكتاب السودانيين كانت له أيضا حفرياتُه المتميِّزة؛ فبينما كان الشبابُ يهرعون للانضواءِ تحت أسلوبيَّةٍ معاصرة، ظلَّ أستاذنا الكبير ينقِّب بصبر في بنيةِ اللغة العاميَّة السودانية، ويجد لها وشائجَ وارتباطاتٍ وصلاتِ نَسَبٍ وقُربى باللغةِ العربيةِ الكلاسيكية، فيُرفِدُ كتاباتِه بدفقاتِ مشاعرَ حيَّةٍ، نابعةٍ من وصلِ اللغةِ الشعبيَّةِ الحميمة برَحِمِ أمِّها الفُصحى، فيكون له بين جمهرةِ الكتَّاب جميعهم، صغيرهم وكبيرهم، أسلوبه الأدبي الخاص، ذو النكهةِ الجماليَّةِ المحبَّبة.

* قصاصو الثمانينات
في عام 1985، كان الكتَّابُ الكبار، من أمثال جمال محمد أحمد، قليلي العدد في الخرطوم؛ أما الكتاب صغار السن، على كثرتهم، فينقسمون، من منظور تجربتي الخاصة، إلى شقين: كان بشرى الفاضل يقفُ على قمَّةِ مجموعةٍ من القصَّاصين السودانيين؛ بينما كان عادل القصَّاص، يقفُ على قمَّةِ مجموعةٍ أخرى. ويأتي في طليعةِ المجموعة الأولى القاصُّ الشاب ذو الإحساس المرهف والنبوغِ المبكِّر سامي يوسف غبريال، يليه شابٌ تتَّقد عيناه ذكاءً وتفتُّحًا مبكِّرًا، هو القاصُّ من الله الطاهر من الله؛ وقد رافقتُ كليهما خلال أيام الطلبِ الباكرة إبان المرحلةِ المتوسطة، وكانت تضمُّنا جمعيَّةٌ أدبيَّة يرعاها القاصُّ عيسى الحلو، وكانت باكورة إنتاجه «ريش الببغاء» قد خرجت لتوِّها من المطابع، وما زالت رائحةُ الحبرِ عالقةً بأغلفةِ النُسَخِ المعروضة في المكتبات؛ وكنتُ أقف على هامشِ الجمعيَّة الأدبيَّة تحت رعاية المعلِّم شيخ مصطفى عبد المولى، خزانة الأدب العربي: أشعارُه، وأمثالُه، وحِكَمُه، وأقوالُه المأثورة؛ وكان لا يطرأ طارئٌ أثناء اليوم الدراسي إلا وقابله بما يُطابِقُه من خزانته التي لا يفلت من مظلَّةِ تفسيرِها حدثٌ عارضٌ أو قولٌ يومي ممجوج.
ويأتي ضمن المجموعة الأولى القاصُّ، ذو الرهافةِ والشفافيةِ العالية، هاشم محجوب، وكان يقابله في معالجةِ الكتابة شعرًا، والبحثِ عن بدائلَ للأطرِ الأدبيَّة المستقرة، الشاعر محجوب كبلو. رافقت كليهما إبان المرحلة الثانوية، وكانا على طرفي نقيضٍ في صياغةِ أحلامهما، وفي تخيِّر توسُّلهما لأجناسِ الأدب؛ لكنهما كانا مُتَحِدَيْن في رؤيتهما لمستقبله، وفي مناهضتهما للتيارِ العام الذي يُرسِي التقليدَ أساسًا لتجميدِ محاورِ الكتابة. وينضمُّ إلى المجموعةِ الأولى أيضا رجلٌ ذو حواشٍ رقيقة، ومناقيرَ مُعَدَّةٍ لالتقاطِ ما استدقَّ من تفاصيلِ الحياةِ اليوميَّة؛ وهو الكاتبُ جعفر طه حمزة. كرَّس لرواية «المداري» وقتًا طويلاً، حتى أصبحنا وكأننا لا ندري: أيكتبُ «المداري» أم أن روايته «المداري» تكتبه؛ ففي حضرةِ حمزة، يختلط الواقعُ بالخيال، وتمتزج الرؤى بالرؤيا، ويفوحُ في المكانِ عطرٌ صادرٌ من أعماقِ روحِه القصيَّة.

* شواغل الحياة
للدبلوماسيَّةِ سحرُها الذي لا تُخطئه العينُ الفاحِصة، كما أن للحياةِ الأكاديميَّةِ بريقُها وغواياتُها؛ وقد تعاون السحرُ والغواية في اختطافِ حمزة من محيطِه الروائي الأثير ليغطيانه بضبابيَّةِ الحياة الدبلوماسيَّة؛ مثلما تعاونت مهنةُ المحاماةِ والسياسةُ اليومية في اختطافِ ساحرٍ آخرَ من فنون القصِّ، وهو القاصُّ الذكي، ذو الروحِ المتأجِّجة على الدوام، عبد السلام حسن عبد السلام.
وينضافُ إلى هذه المجموعة باستحقاقٍ وجدارة قاصٌّ شاب متعدِّد المواهب، اشتُهر بترجماته لأقصوصاتٍ لكافكا، كما اشتُهر أيضا بتأليفه لمسرحية «حكاية تحت الشمس السخنة»، ولاحقًا رواية «سن الغزال»؛ إلا أن مواهبه لا تقفُ عند هذا الحد، فقد كان يعزف الكلارنيت منذ تتلمذِه على يد الصول حسن؛ والعود برفقة هاشم حبيب الله ومحمد إسماعيل الأزهري؛ والمزمار والهارمونيكا ليُذهب عن نفسه، وعنَّا وحشةَ الانعزال ومرارةَ العهدِ الديكتاتوري الثاني، وذلكم هو القاصُّ المبدع صلاح حسن أحمد.
لم ينقطع صلاح عن الكتابة، ولكن حرفة الصحافة أخذت جُلَّ وقتِه، منذ مجلة «سوداناو» (Sudan Now) وإلى صحيفة «الشرق الأوسط» بلندن. وأثناء فترة عملِه في إدارة تحرير المجلة، تقدَّمتُ إليه بأولِ نصٍّ أكتبه باللغة الإنجليزية، فقامت إدارة «سوداناو» بنشرِه في عام 1980؛ وكان النصُّ تحت عنوانٍ: «تحليقٌ انسيابي فوق حَرَمِ الجامعة». ولأن النصَّ كان مفارقًا لما عُهِد الناسُ عليه، فقد كتبت تقييمًا نقديًا للطريقة التي استحدثتها في الكتابة، وهي عبارة عن أسلمةٍ عفوية لنمطٍ ألماني معروفٍ في الكتابة. أما المجموعة الثانية، فقد كانت تضمُّ مجموعة متميِّزة من النقاد والقصَّاصين؛ كان أبرزهم في مجال النقد، الناقد الراحل أحمد الطيِّب عبد المكرَّم؛ وكان من ضمنهم الكاتب المثقَّف محمد خلف الله سليمان؛ وكان عادل القصَّاص، رغم التفافِه حول كوكبةٍ من الكتَّابِ السودانيين، ألمعهم شهرةً، وأكثرهم - توسُّلاً بالتعبيرِ الرشيق والوصفِ الحميمِ - قدرةً على جذبِ القارئِ العادي إلى فضاءِ النصِّ، وإغوائه على معايشته، واشتهائه. وتكبُر هذه الميزات عشراتِ المرات، إذا عرفنا أن المجموعة تشمل أساتذةً كبارًا ذوي خِلالٍ لا تجرح خليلاً، وأَرُومةٍ إبراهيميةٍ كريمة لا تُخْطِئُها العينُ الناظرةُ إلى أسمائهم التقليديَّةِ المحبَّبة: عبد القادر محمد إبراهيم، وعبد الله محمد إبراهيم، وإبراهيم جعفر. ليس صعبًا على الباحثِ الذكي أن يجد عادل القصَّاص في نصوصِه، ولكن الباحثَ الأكثر ذكاءً سيلتمسُه في فضاءاتٍ اجتماعيةٍ أرحبَ سَعَةً وأعمقَ غورًا: سيجدُه في جلساتِ الاستماعِ، والمنتديات؛ وسيلحظُه في المجالسِ العفوية، والسهراتِ، والمناسباتِ الاجتماعيَّة؛ مثلما سيلقاه ناشطًا متجلِّيًا في الروابطِ، والجمعياتِ، والاتحاداتِ الأهلية. ولم يكن يتخذ تلك الأطر مطيَّةً للوجاهةِ الاجتماعيَّة، أو سُلَّمًا للمناصبِ السياسيَّة؛ بل كان ينفُذ إلى عِظامِ الكلمات، ويتخللُ أبنيتها الصرفية، ويتسللُ إلى جذورها، لإيقاظِ دلالاتِ الارتباطِ، والإجماع، والوحدةِ الهاجعةِ في أحشائها العميقة.



https://aawsat.com/home/article/358196/% ... %87-%D8%9F
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:35 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه مساهمة من خلف تزور حقلاً مختلفاً:



خمسُ قصصٍ خارج الملعب تؤدي إلى هزيمة آرسنال في ملعبه بشمال لندن



ظللتُ منذ مدَّة طويلة أتابعُ أثرَ القصصِ التي تتناولها الصُّحفُ وأجهزةُ الإعلام المرئية والمسموعة على الأداء الفعلي للأفراد داخل ملاعب كرة القدم في لندن والعالم أجمع. على مستوى العالم، يمكن للمتابعين أن يراقبوا عن كثب أثر القصَّة الدَّائرة بين باتريس إفرا السِّنغالي (لاعب يوفينتوس حالياً، ومانشستر يونايتد سابقاً) ولويس سواريز الأوروغوياني (لاعب برشلونة حالياً، وليفربول سابقاً)، عندما يلتقي فريقاهما الحاليان في نهائي دوري أبطال أوروبا، وهي المنافسة التي ستُقام في الإستاد الأولمبي ببرلين في 6 يونيو 2015. كما يمكن للمتابعين أيضاً أن يسترجعوا قصَّة الهزيمة القاسية التي تلقَّاها مدرِّب فريق بايرن ميونيخ، بيب (جوسيب) غارديولا، على يد لاعبي فريقه السَّابق بارشلونة؛ أو أن يستذكروا تلك الإصابة الرَّأسية التي أحرزها دافيد لويز (لاعب باريس سان جيرمان، حالياً، وتشيلسي سابقاً)، فأخرج فريقه القديم من المنافسة الأوروبية الشَّهيرة.

على المستوى المحلي (وللأسف، أعني لندن وليس الخرطوم)، يمكن استرجاع القصَّة التي دارت بين جون تيري (لاعب تشيلسي) وليز فيردناند (لاعب مانشستر يونايتد سابقاً، وكوينز بارك رينجرز حالياً) وشقيقه أنطون فيرديناند (لاعب ريدينغ حالياً، وكوينز بارك رينجرز سابقاً)، والتي انتهت بمحاكمةٍ استمرت أربعة أيام، تمَّت فيها تبرئة تيري من تهمة العنصرية. كما يمكن تذكُّر الإصابة الوحيدة التي أحرزها داني ويلبيك (لاعب آرسنال حالياً، ومانشستر يونايتد منذ نعومة أظفاره)، أو ما يمكن أن يفعله في مباراة الأحد 17 مايو، عندما يلتقي الفريقان مجدَّداً، إذا خلي من إصابةٍ في ركبته، أو سمح له المدرِّب الفرنسي آرسين فينجر بمواجهة فريقه القديم مرَّةً أخرى.

إلا أن ما أود أن أسلِّط عليه الضُّوء في هذه المشاركة، هو مجموعةٌ من القصص، أختارُ منها خمساً، أدَّت إلى هزيمة فريق آرسنال اللَّندني في ملعبه يوم الاثنين 11 مايو من قبل فريق سوانزى الويلزي بهدفٍ وحيد، مع إن كلَّ التَّوقعات كانت تشير بقوة إلى فوزِ الآرسنال، إذ إنه الفريقُ الأكثر استعداداً، والأسطعُ نجوماً، هذا خلاف أنه ينافس لاحتلالِ المقعد الثَّاني في الدَّوري الإنجليزي، كما أنه لم يُهزم أبداً خلال هذا العام، ما عدا مباراة موناكو التي أخرجته وسط جمهوره من منافسات الدَّوري الأوروبي.

القصَّة الأولى تدور حول اللَّاعب البولندي لوكاش فابيانسكي (حارس مرمى فريق سوانزي حالياً، وآرسنال سابقاً) الذي انضم إلى الفريق اللَّندني في مايو 2007، وبدأ موسم 2010-2011 بوصفه خياراً ثانياً، بعد الإسباني مانويل ألمونيا. تعرَّض فابيانسكي لإصاباتٍ في موسم 2011-2012، فبدأ موسم 2012-2013 خياراً ثانياً، بعد البولندي فويتشيك تشيزني. لم يتحمَّل الأمرَ كثيراً، فانتقل إلى فريق سوانزي في مايو 2014. وكانت مباراة الاثنين 11 مايو مناسبةً لكي يثبت لمدرِّب فريقه القديم أنه حارسُ المرمي رقم واحد، وكان الأحرى أن يحتفظ به وفقاً لهذه الصِّفة، بدلاً عن بيعه بثمنٍ بخس إلى فريقٍ لا يضارعُ الآرسنال أو يقف معه كتفاً بكتف. وبالفعل، كان فابيانسكي نجم المباراة بلا منازع، حيث أنقذ فريقه الجديد من وابلٍ من الهجمات التي قادها عددٌ من مهاجمي فريقه القديم.

القصَّة الثَّانية تدور حول أرون (هارون) رمزي (لاعب وسط آرسنال حالياً، وسوانزي سابقاً). للذين لا يعرفون رمزي، هو لاعب وسط ممتاز، قاد فريق آرسنال والفريق القومي الويلزي إلى عدَّةِ انتصارات. وقد اشتُهر بسيطرته على الكرة، وتمريراته الذَّكية، وإحرازه لإصاباتٍ قاتلة في وقتٍ تمسُّ الحاجةُ إليها، وغالباً ما تكون هي الإصابةُ المرجِّحة بالفوز. وفي يوم الاثنين، تخلَّى رمزي عن تمريراته البديعة ومساعداته الشَّهيرة لزملائه بالملعب، إذ إنه كان متلهفاً لإحرازِ إصابةٍ ضد فريقه القديم، ربما لثأرٍ طال أمده أو لخلقِ انطباعٍ إيجابي لدى جمهور سوانزي أو لدى مدير الفريق القومي الويلزي، فضاعت محاولاته سُدًى، وكان من نتيجة ذلك أن تلقَّى فريقه الحالي هزيمةً موجعة، وإنْ كانت بهدفٍ يتيم.

أما القصَّة الثَّالثة، فإنها تدور حول اللَّاعب الفرنسي، أوليفيه جورو (رأس حربة فريق أرسنال منذ عام 2012، ومونبليه سابقاً). أصبح هدَّافاً رئيسياً لآرسنال في موسم 2013-2014، ويلي أليكسيس سانشيز في عدد الأهداف هذا الموسم، حيث أحرز حتى الآن 18 هدفاً (وسانشيز 24 هدفاً). ومع ذلك، فقد تعرَّض في الآونة الأخيرة لانتقادٍ شديد اللَّهجة من قبل اللَّاعب الفرنسي تييري أونري، هدَّاف آرسنال وبرشلونة السَّابق، وأسطورة كرة القدم العالمية، والمعلِّق الرِّياضي حالياً بقناة إسكاي الرِّياضية. تصدَّى جورو لانتقاداتِ أونري اللَّاذعة، وربما بإيعازٍ من وكيله الرَّسمي حتى لا تنخفض قيمته في الأسواق الكروية، إلا أنه لم يثبت شيئاً في مباراة الاثنين يمكن أن يغيِّر وجهة نظر أونري، وربما كان واقعاً تحت وطأتها أثناء اللَّعب، فاضطر مدير الفريق، الفرنسيُّ هو كذلك، إلى تغييره في الدَّقيقة الخامسة والسَّبعين من عمر المباراة، مما أفقد آرسنال فرصةً ذهبية للاستفادة من لعبه الجماعي وتمريراته الذَّكية.

وتدور القصَّة الرَّابعة حول اللَّاعب الفرنسي بافيتيمي غوميز (لاعب سوانزي حالياً، وليون الأولمبي سابقاً). ففي مرتين سابقتين، اتَّبع فريق سوانزي مع آرسنال نفس التَّكتيكات؛ وهي تتلخَّص في الدِّفاع بعشرةِ لاعبين، أو -على حدِّ التَّعبير الذي صاغه في الأصل مدرِّب تشيلسي جوزيه مورينيو- إيقافِ حافلةٍ على خطِّ الدِّفاع. وفي آخرِ عشرِ دقائق، يتمَّ إدخال غوميز للاستفادة من سرعته وطوله الفارع؛ ومن ثمَّ، يقوم أحدُ المدافعين بإرسالِ كرةٍ عالية وطويلةِ المدى خلف دفاع الآرسنال، فيقفز غوميز في الهواء بخفَّةِ الفهد، ويدفع الكرة دفعةً قوية برأسه محرزاً هدفاً تهتزُّ على إثرِه الشِّباك، مثلما تنفرطُ في أعقابِه قلوبُ المشجعين. وهذا على وجهِ التَّحديد هو ما حدث في الدَّقيقة الخامسة والثَّمانين في مباراة الاثنين.

أما القصَّة الأخيرة التي اخترناها ضمن هذه المشاركة، فهي قصَّة فريق آرسنال نفسه، فقد ظلَّ لعدَّةِ سنواتٍ يحتلُّ المركز الرَّابع في الدَّوري الإنجليزي، ويدخل في المنافسات الأوروبية عن طريق التَّأهيل، وليس بشكلٍ تلقائي مثلما يحدثُ للفرق الأوائل الثَّلاثة. وكان الأملُ معقوداً خلال أبريل وأول مايو من هذا العام أن يحرز آرسنال المركز الثَّاني، أو الثَّالث على أسوأ الفروض؛ ولكن نتيجة مباراة الاثنين تبدِّد هذه الآمال، وتضع آرسنال في مباراة الأحد 17 مايو ضد مانشستر يونايتد في موقف المدافع عن المركز الثَّالث أو الرُّجوع بالهزيمة إلى المركزِ الرَّابعِ المعهود، وكأننا يا بدرُ لا رحنا ولا جئنا؛ أو بالتَّعبير البلدي، فإن "حليمة" ستعود حتماً إلى "قديمها" أو سابق عهدها.

على ذكرِ العهد السَّابق، كان يوجد في الخرطوم في نهاية السَّبعينات وأوائل الثَّمانينات ركنا نقاشٍ سمح نظام جعفر نميري لهما، دون سواهما، بحرية التَّعبير. الأول، كان ركناً يديره أحمد مصطفى دالي تحت شجرةٍ وريفةِ الظِّلال على ساحةِ القصرِ الجمهوري، وسرعان ما انتقل هذا الرُّكن بشكلٍ منتظم إلى جامعة الخرطوم، بعد أن كان دالي يعقد في الجامعة أركاناً على نحوٍ متقطع؛ وسرعان ما أصبح ركنُ دالي ركناً رسمياً للحزبِ الجمهوري، ومثالاً يُحتذى لعدَّةِ أركانٍ لأحزابٍ مختلفة، كانت بمجملها – بجانبِ أنشطةٍ سياسيةٍ أخرى خارج الجامعة - بمثابةِ تمهيدٍ للانتفاضة التي أطاحت بنظام جعفر نميري نفسه في عام 1985. أما الرُّكن الثَّاني، فكان هو ركنُ الرِّياضيين، الذي يُعقد يومياً تحت شجرةٍ بين كشكين من الأكشاك القائمة على ميدان الأمم المتحدة في وسط سوق الخرطوم.

كنَّا نتعالى على مشجعي كرة القدم الذين يتقاطرون على الرُّكن كل صباح، وفي أيديهم صحفٌ ومجلاتٌ ملأى بالقصص الكروية، وكتيباتٌ وألبوماتٌ حافلةً بصورِ اللاعبين، كانت تُستخدم في دعمِ الحجج، وتدبيجِ القصص حول كوكبةٍ من اللَّاعبين عبر عدَّة حقبٍ للتَّدليل على عراقةِ نادٍ أو التَّبخيس من مقامِ آخر؛ وكنَّا ننسى في يفاعةِ الصِّبا أنهم كانوا يجدون لهم متنفساً عبر ذلك الانشغال الكروي، مثلما نجده نحن ساكني داخلية العرب في هارمونيكا صلاح حسن ومزماره الذي كان يُذهِبُ عنَّا مرارةَ العهدِ الدِّكتاتوري الثَّاني، كما جاء في صلبِ رسالتي لعادل القصَّاص. كما كنا ننسى أيضاً بأنهم مدفوعون بحسٍّ ودافعٍ بشريٍّ غريزي لإنتاجِ القصص التي تضيء ساحة رؤياهم وتعمٍّق مدارك فكرهم، بغضِّ النَّظرِ عن مادته، إن هي تخلَّصت تماماً من الحرجِ الأخلاقي.

في ختام هذه المشاركة، لا يفوتني أن أترحَّم على جدَّتي بتول بنت حسن، فقد كان حوش سليمان كركساوي ببيت المال يمتلئُ بالرُّواد، عندما تأتي إلينا من الجزيرة إسلانج، جزيرة الفكي الأمين، لتقضي بضعة أيامٍ يستمتع خلالها أطفالُ حي الكراكسة وأمهاتهم بحكاوٍ وأقاصيصَ لا تنتهي عن "ود النَّمير"، و"إبار في قزاز"، و"فاطمة السَّمحة"؛ وكانت أحاجيها تبدأ بعد صلاة العشاء مباشرةً، وتستمر إلى ما بعد منتصف اللَّيل؛ وفي الصَّباحِ الباكر، تأتي الأمهاتُ واحدةً تلو أخرى، وفي أعينهن بقايا من نُعاس، ليحملن أطفالهن الذين تداعوا اللَّيلة البارحة إلى النَّوم قبل اكتمالِ الحكاية.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:36 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

هنا يواصل محمد خلف سلسلة كتابته عن "السَّرد بوصفه بُعداً نوعياً للممارسة السِّياسيِّة"، حيث عرض في الحلقة الأولى، "هزيمة حزب العمال البريطاني في الانتخابات الأخيرة كما رأتها صحيفة الغارديان":




السَّرد بوصفه بُعداً نوعياً للممارسة السِّياسيِّة

2. بين التَّمديد التَّوافقي والتَّعميق القائم على الخلاف


للسِّياسةِ والثَّقافةِ معنيان، أحدُهما ضيٍّقٌ والآخرُ قائمٌ على التَّوسُّعِ في المصطلح؛ وكذلك هو الحالُ مع مفهومي الاقتصاد والاجتماع. فالسِّياسة بمعناها الضَّيِّق تشمل الممارسة الفردية والجماعية للأنشطة اليومية ذات الصِّلة بالمصلحة العامة، وتضمُّ بمعناها الواسع كلَّ ممارسةٍ ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية؛ فما من عملٍ وفق هذا المفهوم الموسَّع إلا وله صلةٌ، سلبية أو إيجابية، بالمصلحة العامة. والثَّقافة بمعناها الضَّيِّق تشير إلى التَّحصيل والتَّعميق المعرفي لحقلٍ من حقولِ التَّعلُّم، وتُقارِبُ بمعناها الواسع ما يشير إليه الباحثُ الأنثروبولوجي؛ فكلُّ ممارسةٍ في الحقل الذي يدرسه هي ذاتُ صلةٍ بثقافةِ ذلك المجتمع، مهما بعُدت في ظاهرها عن تكريس المعرفة. والاقتصاد، بالنِّسبة للباحثين والنَّاشطين ذوي النَّزعة الاقتصادوية، هو المفسِّر لمجمل الممارسات البشرية؛ فما من عملٍ يمارسه شخصٌ أو جماعةٌ في أيِّ مكانٍ أو في أيِّ حقبةٍ من الحقب إلا وله مردودٌ اقتصادي أو هو صادرٌ بسببٍ من نشاطٍ اقتصاديٍّ ظاهرٍ أو خفي. أما الاجتماعُ بمعناه الضَّيِّق فهو يمسُّ العلاقات المتداخلة القائمة بين الأفراد داخل مجتمعٍ بعينه؛ ويتَّسعُ المصطلح في معناه الآخر ليشمل الحقل الاجتماعي بمجمله؛ فما من ممارسةٍ سياسيةٍ أو ثقاقيةٍ أو اقتصادية إلا ولها صلةٌ وثيقة بالبنية الاجتماعية الشَّاملة، وهو المعنى الذي قصده المفكرُ الفرنسي لوي ألتوسير، وتبعه من العرب مهدي عامل، فلم يفقهِ النَّاسُ عنه شيئاً يُذكر.

عندما حرصنا على متابعة الأنشطة السَّردية في حقولٍ مختلفة، بدأت بعلم الأحياء إلى أن أوصلتنا إلى السِّياسة (والرِّياضة لاحقاً)، كنَّا ننظر لتلك الحقول بمعناها الضَّيِّق المُتعارف عليه، وكنَّا نقيِّدها أيضاً، ونشدُّها شدَّاً، بمداراتِ الحداثة؛ إلا أننا كنَّا ندرك في نفسِ الوقت أنَّ السَّردَ قد وُلد ولادةً جديدة مع تيارِ ما بعد الحداثة، الذي أخرج المفهوم من حقله المألوف وأوصله بالمجال الواسع للسِّياسة والثَّقافة والاقتصاد والاجتماع. وكانتِ البداية تقريرٌ كتبه المفكرُ الفرنسي جان-فرانسوا ليوتارد عن "وضعِ العلوم والتَّقنية، والفنون، وأهمية تحكُّم التِّكنوقراط (الفنيين)، والسَّبيل الذي يتمُّ عبره التَّحكُّم في تدقُّق المعلومات والمعرفة في العالم الغربي". وقد نظر للسَّرد باعتباره شكلاً من أشكال إضفاء الصِّبغة الشَّرعية على التَّعبيرات التي يتم إنتاجها من خلال تطوُّر المعرفة والثَّقافة؛ كما نظر أيضاً إلى العلوم وعددٍ من المذاهب المعروفة باعتبارها سردياتٍ أو محكياتٍ كبرى، ينقصها بردُ اليقين الذي ذهب أدراجَ الرِّياحِ في أعقابِ دخول المجتمعات في أحشاءِ العصر الما بعد صناعي، ونفاذِ الثَّقافات إلى باطن العهد الما بعد حداثي.

للاقتراب اللَّصيق من هذا الفهم الجديد لمصطلح السَّرد، لا بدَّ من وصله بمفهوم "الأزمة" عند توماس كن؛ و"الشَّرعنة" عند يورغن هبرماس؛ و"المزحة اللُّغوية" عند لودفيج فيتجنشتاين؛ و"الأدائية" عند جي إل أوستن؛ تمهيداً لفهمه ونقده في ذات الوقت؛ وهذا ما سنحاول فعله في حلقةٍ أو حلقاتٍ مكمِّلة لهذه المشاركة، بإذن الله.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:41 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الحلقة الثانية (الجزء الثاني) من مساهمة محمد خلف، عن السَّرد بوصفه بُعداً نوعياً للممارسة السِّياسيِّة:



السَّرد بوصفه بُعداً نوعياً للممارسة السِّياسيِّة

2. 2 بين التَّمديد التَّوافقي والتَّعميق القائم على الخلاف


قلنا في الحلقةِ السَّابقة من هذه المشاركة إن مفهوم السَّرد الذي انبثق مجدَّداً مع حركة ما بعد الحداثة يحتاجُ إلى إضاءةٍ ضرورية بوصلِه بمفاهيمَ ذات صلة، من بينها مفهوم "الأزمة" (توماس كن)، و"الشَّرعنة" (يورغن هبرماس)، و"اللَّعبة اللُّغوية" (لودفيج فيتجنشتاين)، و"الأدائية" (جي إل أوستن)؛ وذلك تمهيداً لنقده في ذات الوقت.

فلنبدأ بمفهوم "الأزمة" عند توماس كن، ولنمهِّد له كذلك بخلفيةٍ موجزة عن وضع العلوم في نهاية القرن التَّاسع عشر والثُّلُثِ الأول من القرن العشرين. شهدت السَّنوات 1896-1926 تطوَّراً عاصفاً في حقل العلوم الطَّبيعية، حيث بدأت تلك الفترة باكتشاف ظاهرة النَّشاط الإشعاعي (هنري بيكريل)، وانتهت بفصلِ الفوتونات عن الأشعة الضَّوئية (بعد أن كان يُنظر إلى الضُّوءِ باعتباره موجةً مندمجة غير قابلة للفصلِ إلى جزيئياتٍ متناهيةِ الصغر). كما شهدت تلك الفترة نشوء فكرة الكم (ماكس بلانك) التي تتلخَّص في أن الموجات الكهرومغنطيسية تتكوَّن من مقاديرَ صغرى من الطَّاقة تُسمَّى كمَّات، ومنها نشأت ميكانيكا الكم التي زلزلت أركان الفيزياء النِّيوتونية التَّقليدية.

شهدت هذه الفترة أيضاً مساهمة ألبرت آينشتاين الأولية في تطوير ميكانيكا الكم، كما شهدت مقاومته لنتائجها التي تبدو مخالفةً لما ألِف النَّاسُ عليه عند مقاربتهم للظَّواهر الطَّبيعية؛ وقد تخلَّلت هذه الفترة مساهماتُه الرَّئيسية في مجال الفيزياء؛ ففي عام 1905، نشر آينشتاين أربعَ أوراقٍ شهيرة، أرست إحداها أسس النَّظرية النِّسبية الخاصَّة، ونال عن أخرى جائزة نوبل للفيرياء في عام 1921؛ وفي عام 1915، أرسى أسس النَّظرية النِّسبية العامة بإضافة الجاذبية إلى نظريته الخاصة بالزَّمان والمكان. إلا أن آينشتاين لم يكن في السَّاحةِ وحده، فقد كان فارسُها الذي لا يُشقُّ له غُبار هو العالم الدنماركي نيلز بور، الذي تحلَّق حوله العلماءُ وأتوه من كلِّ حدبٍ وصوب، لإيجادِ تفسيرٍ مقنع للفيزياء الجديدة، التي عُرفت بميكانيكا الكم. فجاء إليه فيرنر هايزنبيرج (الذي أرسى مبدأ اللَّايقين)، وولفغانغ باولي (الذي وضع مبدأ الاستبعاد)، وبول ديراك (صاحب المعادلة الشَّهيرة التي تسمَّت باسمه)، وإيرفن شرودنغر (المعروف بتجربته الفكرية الشَّهيرة باسم "قطَّة شرودنغر"). هذا إضافة إلى آخرين ذوي شأنٍ كبير في مجال الفيزياء، لا يتسعُ المجالُ لذكرِهم.

عندما صاغ توماس كن مفهوم "الأزمة"، كان في باله هذه الفترة التي خلخت أسس الفيزياء التي أُرسيت فيما مضى. وقد أشار في كتابه الشَّهير "بنية الثَّورات العلمية" إلى هذه الحقبة، وإلى حقبٍ أخرى شهدت انتقالاتٍ شبيهة من النِّظام البطليموسي إلى النِّظام الكوبرنيكي، ومن الفيزياء الأرسطية إلى الفيزياء النِّيوتونية. وتتجلَّى سماتُ هذه "الأزمة" في أن العلماء يمارسون عملهم العلمي تحت إطارٍ نظريٍّ متفقاً عليه بين جمهرة العلماء. وعندما يظهر شذوذٌ أو مفارقاتٌ في عملهم اليومي، فإنهم لا يعزون ذلك إلى وجودِ خللٍ في الإطار النَّظري العام (البرادايم)، وإنما يظنون أنهم أخطأوا في تجاربهم المعلمية أو أنهم أخفقوا في مشاهداتهم أو تسجيل قياساتهم على وجه الدِّقة المطلوبة. ولكن عندما تتكاثر هذه المفارفات ويسود الشَّاذ أو يتغلَّب على النَّمط العادي، يضطرب عملُ الفيزيائين وتدخل الفيزياءُ نفسها في "أزمة"، تستدعي معها التخلِّي عن طريقة العمل الاعتيادية، واستبدالها بعملٍ استثنائيٍّ ثوري يقود في نهاية الأمر إلى الإطاحة بالإطار النَّظري القديم واستبداله بإطارٍ نظريٍ جديدٍ قادرٍ على تفسير المفارقات السَّابقة بما يشتمل عليه من توسيعٍ في مداه التَّفسيري، وبما ينطوي عليه من تحديثٍ لأدواتِ عمله. فهل كانت ما بعد الحداثة تطويراً أو توسيعاً للمدى التَّفسيري للحداثة؛ وهل كانت صياغتها لمفهوم السَّرد إضافةً أو استبدالاً لما اعتاد النَّاسُ عليه من سرد؟

سنقتربُ حثيثاً من إجابةٍ مُرضية، عندما نلملم أطراف "الشَّرعنة" عند هبرماس، و"اللَّعبة اللغوية" عند فيتجنشتاين، و"الأدائية" عند أوستن، ونرتقها بأوصال ما بعد الحداثة. وهذا هو الأفقُ المفتوح لعملنا في الحلقات التي خصَّصناها لمعالجة موضوع السَّرد ومقارنته في إطاره السِّياسي بين التَّمديد التَّوافقي والتَّعميق القائم على الخلاف.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:43 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الحلقة الثانية (الجزء الثالث) من مساهمة محمد خلف، عن السَّرد بوصفه بُعداً نوعياً للممارسة السِّياسيِّة:



السَّرد بوصفه بُعداً نوعياً للممارسة السِّياسيِّة

2. 3 بين التَّمديد التَّوافقي والتَّعميق القائم على الخلاف


يتمُّ الانتقالُ عند توماس كن من إطارٍ نظري أو صيغةٍ نموذجية (بارادايم) إلى أخرى عبر تحوُّلٍ في الصِّيغةِ النَّظريةِ نفسِها، يُحدِثه علماءُ يشتغلون داخل الصِّيغة القديمة في وقتِ أزمتها، ويتميَّزُ عملُهم هذا بشكلٍ نوعي عن عمل العلماء العاديين الذين رضوا بالصِّيغة القديمة، رغم دخولها في أزمتها الطَّاحنة. أمَّا يورغن هبرماس، فإنه ينظر إلى "أزمة الشَّرعنة" باعتبارها أزمةً تحيط بالنِّظام الاقتصادي السِّياسي الاجتماعي-الثقافي برمته؛ وتتجلَّى "الأزمة" في فقدان الثِّقة في المؤسَّسات الإدارية التي تدير المنظومات الفرعية (اقتصادية/سياسية/اجتماعية-ثقاقية) التي تشكِّل مجمل النِّظام. و"الأزمة" بإزاء النَّمط الغالب لهذه المنظومات الفرعية تتحدَّد بالنَّظر إلى التَّكوينات الاجتماعية السَّائدة في مجتمعٍ بعينه.

ففي التَّكوينات الاجتماعية البدائية القائمة على علاقات القرابة، تتجلَّى "الأزمة" في شكل تغييراتٍ تمسُّ هوية المجتمع من خارج؛ وفي التَّكوينات الاجتماعية التَّقليدية القائمة على حكم طبقةٍ سياسية، تتجلَّى "الأزمة" في شكل تغييراتٍ تعصف بالمجتمع من داخل؛ وفي التَّكوينات الاجتماعية الرَّأسمالية اللِّبرالية، القائمة على علاقات العمل المأجور ورأس المال، تتجلَّى "الأزمة" في شكل مشاكل اقتصادية، تتخفَّي في قناعٍ آيديولوجي يجعلها عصيَّةً على الحل (ومن هنا تأتي، في نظر هبرماس، أهمية الاتِّصالات لنزع الطَّابع الآيديولوجي لتلك المشكلات عبر تحليلها ونقدها)؛ أمَّا في المجتمعات الرَّأسمالية المتقدِّمة، القائمة على التَّركُّز الاقتصادي، فإن "الأزمة" تنشأ في كلِّ النِّظام: أزمات اقتصادية في المنظومة الفرعية الاقتصادية، وأزمة عقلانية وشرعنة في المنظومة الفرعية السياسية، وأزمات تحفيز في المنظومة الفرعية الاجتماعية-الثَّقافية.

يجدر الملاحظة هنا إلى أن مفهوم "الأزمة" عند كن، يرتبط بوجود العالِم الفرد في شبكةٍ من العلاقات الاجتماعية، تُحتِّم عليه، ليس النَّظر فقط إلى مقولاته وتعبيراته العلمية، وإنما أيضاً إلى إكسابها الطَّابع الشَّرعي بالوصولِ إلى اتفاقٍ جماعيٍّ في الرأي وسط مجتمع العلماء. إلا أن هابرماس لا يكتفي بالنَّظر إلى "الأزمة" داخل مجتمعٍ محدود، مهما كانت أهميته النَّوعية، وإنما ينقلها إلى المجتمع بأسره، بمنظوماته الفرعية المكوِّنة له، وبتشكيلاته الاجتماعية المختلفة. وربما يتبع هابرماس في ذلك تقليداً ألمانياً أصيلاً في النَّظر إلى النِّظام (أو مبدأ الكلِّية)، عوضاً عن الانشغال بظاهراتٍ معزولة، مهما بلغت من أهميةٍ في إضاءة ما حولها من ظواهر.

ويبقى لنا في هذه المشاركة تناولُ مفهوم "اللَّعبة اللغوية" عند فيتجنشتاين، و"الأدائية" عند أوستن، حتى نتمكَّن من متابعة مفهوم السَّرد الذي انبثق مجدَّداً مع حركة ما بعد الحداثة، خصوصاً وفقَ ما جاء في كتاب "حالة ما بعد الحداثة" للمفكَّر الفرنسي جان-فرانسوا ليوتارد.
محمد خلف

آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:46 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

ففي التَّكوينات الاجتماعية البدائية القائمة على علاقات القرابة، تتجلَّى "الأزمة" في شكل تغييراتٍ تمسُّ هوية المجتمع من خارج؛
وفي التَّكوينات الاجتماعية التَّقليدية القائمة على حكم طبقةٍ سياسية، تتجلَّى "الأزمة" في شكل تغييراتٍ تعصف بالمجتمع من داخل
وفي التَّكوينات الاجتماعية الرَّأسمالية اللِّبرالية، القائمة على علاقات العمل المأجور ورأس المال، تتجلَّى "الأزمة" في شكل مشاكل
اقتصادية، تتخفَّي في قناعٍ آيديولوجي يجعلها عصيَّةً على الحل
في المجتمعات الرَّأسمالية المتقدِّمة، القائمة على التَّركُّز الاقتصادي، فإن "الأزمة" تنشأ في كلِّ النِّظام


خلف سلام

لو سمح لك الوقت بعد الإنتهاء من الكتابة، أن تعطينا أمثلة لتلك الأزمات
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الحلقة الثانية (الجزء الرابع) من سلسلة حلقات محمد خلف، عن السَّرد بوصفه بُعداً نوعياً للممارسة السِّياسيِّة:



السَّرد بوصفه بُعداً نوعياً للممارسة السِّياسيِّة

2. 4 بين التَّمديد التَّوافقي والتَّعميق القائم على الخلاف


في كتابه الموسوم "تحقيقات فلسفية" (وأحياناً يُترجم "بحوث فلسفية")، خرج لودفيج فيتجنشتاين بمفهومٍ جديد للُّغة هو مفهوم ’اللَّعبة اللُّغوية‘. ففي رأيه، يمكن النَّظر للاستخدامات الأولية للُّغة، سواءً أن كان ذلك في إطار التَّعلُّم أو أغاني الأطفال أو اللُّغات البدائية، باعتبارها ’ألعاب لغة‘؛ كما يمكن النَّظر أيضاً إلى اللُّغة نفسها باستخداماتها المختلفة بوصفها ’لعبة لغة‘. لكن ما هي الفكرة الثَّاوية خلف ’لعبة اللُّغة‘، وبالتالي ما هي ماهية اللُّغة نفسها بوصفها ’لعبة لغة‘؟

ويجيب فيتجنشتاين بالقول إنه لا توجد فكرة عامة مشتركة تجمع بين ’ألعاب اللُّغة، أو ما يمكن اعتباره بأنه لغة؛ كلُّ ما هنالك أنه توجد علاقة أو علاقات بين ’ألعاب اللُّغة‘، بحيث يمكن أن نشير إليها بأنها لغة. على سبيل المثال، فإن ألعاب الطاولة، وألعاب الورق، وألعاب الكرة، والألعاب الأوليمبية، كلُّها ألعاب؛ إلا أنه لا يوجد رابطٌ مشترك بينهما، وأن كلَّ ما يمكن أن يُقال هو أن هناك تشابهاتٍ وعلاقاتٍ بينهما هي أقربُ إلى "التشابهات الأسرية".

قد يظنُّ ظانٌ بأن التَّسلية عنصرٌ مشترك بين الألعاب، إلا أن هذا التَّصوُّر لا يصمد عند المقارنة بين لعبة الشَّطرنج والكلمات المتقاطعة. وقد يحسِبُ آخرُ بأن كلَّ الألعاب تتضمَّنُ منافسةً بين اللَّاعبين، إلا أن هذا الاعتقاد يتلقَّى ضربةً موجعة عند تأمُّل "لعبة الصَّبر" أو "لعبة سوليتير". وقد يعتقد غيره بأن كلَّ الألعاب تستلزم فوزاً أو خسارة، إلا أن هذا الظنَّ يتبخَّرُ عند النَّظرِ إلى طفلٍ وهو يرمي بالكُرةِ على الحائط، ثم يلتقطها مرَّةً أخرى. ويطلب فيتجنشتاين من القارئ أن يتأمَّل في الدَّور الذي تلعبه المهارة أو الحظ في مختلف الألعاب: أيٌّ منها يظلُّ قائماً، وأيُّ منها يختفي من غير رجعة. وقد يجد القارئ، وفقاً لفيتجنشتاين، عنصرَ التَّسلية في ترنيمةٍ للأطفال، ولكن أيُّ عنصرٍ آخرَ سيختفي من غير أثر.

يمكن، في نهاية المطاف، تلخيص وجهة نظر فيتجنشتاين بالقول إنه قد نبَّه مبكِّراً إلى تعدُّدية المعنى المتضمِّن في ألعاب اللُّغة. أمَّا الفيلسوف الفرنسي جان-فرانسوا ليوتار، فقد أخذ مفهوم التَّعدُّدية، ارتكازاً على ما جاء في "تحقيقات فلسفية"، ليسِمَ به "حالة ما بعد الحداثة" التي جاءت في أعقاب انهيار السَّرديات الكبرى، وهي نمطٌ من الخطابات التي لا تسمح بالتَّعدُّدية والاختلاف، بل تمارس التَّهميشَ والإقصاءَ للخطاباتِ الأخرى المنافسة، باستخدامِ مكوِّناتٍ تشمل الدِّين واللُّغة والتَّصوُّرات الشَّعبية السَّائدة.

محمد خلف

آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:48 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه حلقة جديدة، بعث بها محمد خلف، في سياق فكرته الرئيسة، في هذا الخيط، عن موضوع السرد:



شخصيات القصَّة: سايكودراما من شخصيتين (نون واحد ونون اثنين)

1. الدَّور الذي يلعبه نون واحد


يشير علماءُ النَّفسِ بشكلٍ واسع إلى وجودِ نظامين، أو نمطين رئيسيَيْن للتَّفكير، وهما: نظام واحد (أو نون واحد، حسبما نرمز إليه اختصاراً)، ونظام اثنين (أو نون اثنين، حسبما نرمز إليه اختصاراً، كذلك). أما دانيل كانيمان، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2002، فإنه يمضي أبعد من ذلك، إذ إنه يشير إلى النِّظامين، في كتابٍ له صدر عام 2011 تحت عنوان: "التَّفكيرُ، سريعاً وبطيئاً"، باعتبارهما شخصيتين داخل دراما نفسية. نون واحد يعمل بشكلٍ تلقائي، وفي غايةِ السُّرعة، ومن غير جهدٍ يُذكر أو أيِّ إحساسٍ بالتَّحكُّم الطَّوعي. أما نون اثنين، فإنه يعطي اهتماماً للأنشطة العقلية التي تتطلَّب جهداً، مثل العمليات الحسابية المعقَّدة؛ لذلك، فإن نون اثنين غالباً ما يرتبط بالتَّجربة الذَّاتية للأفراد، وبما يختارونه، وبالأشياء التي يركِّزون عليها.

بالرَّغم من أن النَّاس عادةً ما يربطون أنفسهم بنون اثنين، وهي الذَّات الواعية المفكَّرة، التي لديها معتقداتٌ، كما تملك خياراتٍ، وبإمكانها أيضاً أن تقرِّر بشأنِ ما تفكِّر فيه أو تعمله، إلا أن كانيمان قد اختار نون واحد، ليكون بطلاً لكتابه الصَّادر في عام 2011. ويصف كانيمان بطل كتابه بأنه تعبيرٌ عن مجموعة الانطباعات والمشاعر التي تنبثق من غيرِما جهدٍ يُذكر، والتي تشكِّل في مجموعها مصدراً رئيسياً للمعتقدات المحدَّدة والخيارات المتعمَّدة التي يملكها نون اثنين. فالعملياتُ التِّلقائية لنون واحد تقودُ بشكلٍ مدهش إلى توليدِ أنماطٍ معقَّدة من الأفكار، إلا أن نون اثنين الأكثر بطئاً في عملِه هو الذي ينشئُ الأفكارَ في سلسلةٍ من الخطوات المنظَّمة. ويحثُّ كانيمان القارئ على النَّظر إلى النِّظامين (نون واحد ونون اثنين) بوصفهما شخصيتين لهما قدراتهما وإمكانياتهما المحدودة.

يعطي الكاتب أمثلةً للأنشطة التِّلقائية التي تُنسبُ عادةً لشخصية نون واحد، حيث يقول إنها قادرةٌ على أن تستبينَ بوضوحٍ كافٍ أن شيئاً ما يلوحُ في الأفق هو أبعدُ من شيءٍ آخر؛ وإنها مهيئةٌ لأن توجِّه انتباهها إلى مصدرِ صوتٍ مباغت؛ وبإمكانها أن تُكمِلَ عبارةً على شاكلة "على نفسِها جنتْ....."، أو إذا كانت من عُشَّاقِ الأغاني السُّودانية، أن تُكمِلَ عبارة "الشُّوق و....."، هذا إنْ لم تردِّد فورَ إكمالِها: "تارا رارا را-را را-را"؛ وإنَّ وجهَها يكفهرُّ ويقشعرُّ بدنُها، عندما تتبدَّى أمامها صورةٌ مروِّعة؛ وإنها قادرةٌ على تمييزِ نبرةً عدائية في صوتٍ بشري؛ وبإمكانها أن تجِدَ إجابةً صحيحة لحاصلِ جمع 2+2=؟؛ وهي قادرةٌ على قراءةِ العباراتِ المكتوبة على لوحاتِ الإعلاناتِ الكبيرة على جانبي الطَّريق؛ وتستطيعُ قيادة السيارة في طريقٍ خالٍ من حركة المرور؛ كما بإمكانها أن تحقِّق أفضل نقلات الشَّطرنج (إذا كان الشَّخص المعتمد عليها ماهراً في لُعبة الشَّطرنج)؛ وتستطيع شخصية نون واحد أن تفهم جملاً بسيطة؛ وأن تدرك أن "الرُّوح الوديعة التي جُبلت على التَّنظيم والتَّرتيب، والتي لديها ولعٌ كبيرٌ بالتَّفاصيل" هو وصفٌ يطابق إلى حدٍّ كبير الشَّخصية المهنية النَّمطية.

يقول الكاتب إن قدرات نون واحد تشمل المهارات الفطرية التي نتشارك فيها مع بقية الحيوانات. فنحنُ، حسب وجهة نظر كانيمان، قد وُلدنا باستعدادٍ غريزي لإدراكِ العالم من حولنا، ولتمييزِ الأشياء، ولتوجيهِ الانتباه، ولتفادي الخسارة، وللخوفِ من العناكب. أمَّا الأنشطة العقلية الأخرى، فإنها تصبح سريعةً وتلقائيةً من خلال الممارسة الطَّويلة. ويتعلَّمُ نون واحد الرَّبطَ بين الأفكار (عاصمة مصر، على سبيل المثال)، ومهاراتٍ مثل القراءة، وفهمَ الفروقِ الدَّقيقة في المواقف الاجتماعية. ويعتقد الكاتب أن بعض المهارات (مثل معرفة أفضل النَّقلات في لُعبة الشَّطرنج) يتمُّ اكتسابُها بواسطة الخبراء المتخصِّصين فقط، إلا أن غيرها يتمُّ تقاسُمُه على نطاقٍ واسع بين عامَّةِ النَّاس، حيث تُحفظُ المعلوماتُ في الذَّاكرة، ويسهُلُ الوصولُ إليها من دونما قصدٍ أو جهدٍ يُذكر.

نختم هذه الحلقة بالقول إن دانيل كانيمان، عالمَ النَّفس الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2002، يعتبر أن نظامَي نون واحد ونون اثنين قائمان على تقاسمِ عملية التَّحكم في الانتباه؛ فعلى سبيل المثال، فإن توجيه الانتباه نحو صوتٍ عالٍ هو عادةً عمليةٌ لا إرادية تقع ضمن اختصاص نون واحد، إلا أن نون واحد يحرِّك في ذات الوقت، أو على الفور، الانتباهَ الطَّوعيَّ لنون اثنين. ففي مقدور الشَّخص أن يقاوم، على سبيل المثال، الالتفات نحو مصدر الصَّوت العالي أو التَّعليق النَّابئ في قاعةِ حفلٍ مكتظَّةً بالضُّيوف، ولكن حتى لو لم يلتفت رأسُ المرءِ، فإن انتباهَه يبقى مشدوداً، ولو لفترةٍ وجيزة، تجاه الحدث. إلا أنه من الممكن صرف الانتباه عن مركزِ حدثٍ غير مرغوب في متابعته، وذلك بتركيز الانتباه عن عمد، وبصورةٍ رئيسية، على شيءٍ آخر.



سوف نخصِّص الحلقة الثَّانية، بإذن الله، للدَّور الذي يلعبه نون اثنين؛ وربما تطرَّقنا في حلقةٍ ثالثة إلى دورِ كليهما في تقييمِ الأدلة، واتِّخاذِ القرارات، والاقتصادِ السُّلوكي، على وجهِ العموم.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:52 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

رد محمد خلف، على استفسارات الأخ الصادق إسماعيل:



خطورة الانزلاق ضمن الافتراضات المُسبقة لدى الكاتب، أو زمرةِ أتباعِه



عزيزي الصَّادق

شكراً لمشاركاتك القيِّمة، وتهذيبك الرَّاقي في طرح الأسئلة؛ وكان من الممكن أن أُرجئَ الإجابة حتى نهاية الكتابة، كما طلبت، ولكن السَّرد، كما تلاحظ، أمرٌ مفتوحُ، ويصعُب التنبؤ إزاءَه بنهايةٍ محدَّدةٍ أو قاطعة؛ فليس من الإنصاف إذاً أن أترك إجابةً واثقةً من نفسها ممدَّدةً على حبل الانتظارِ الطَّويل. فأنتَ تطلبُ أمثلةً عن الأزماتِ التي تحدَّث عنها يورغن هابرماس؛ وفي حقيقة الأمر، إنه لم يقدِّم أيَّ أمثلةٍ في كتابه الموسوم: "أزمة الشَّرعنة"، بخلاف الأمثلة التي جاءت عند مستوى التَّكوينات الاجتماعية، والتي ضمَّنتُها من قبل في مشاركتي السَّابقة؛ وإنَّ كلَّ ما يمكن أن أُقدِّمه هنا هو تفسيرٌ لإحجامه عن تقديم الأمثلة عند المستوى الأدنى المتضمَّن في سؤالك.

ترتبط الأمثلة عادةً بمستوى عمومية الطَّرح؛ وسأستغني هنا -للتَّوضيح- عن معلِّم الفلسفة، وسألجأُ -عِوضاً عنه- إلى مدرِّس الجغرافيا. فإذا كان موضوع الدَّرس هو جغرافية العالم، فإن المدرس سوف يضرب أمثلته على المستوى القاري؛ فتكونُ أستراليا، حيث يقيم الصَّديق عادل القصَّاص، أو أفريقيا أو آسيا، أو إحدى الأمريكتين، أو أوروبا. وإذا كان موضوع الدَّرس هو جغرافية أوروبا، فإن المدرس سوف يضرب أمثلته على المستوى القطري؛ فتكونُ ألمانيا، حيث يقيم الفيلسوف هابرماس، أو إيطاليا أو فرنسا، أو إنجلترا. وإذا كان موضوع الدَّرس هو جغرافية إنجلترا، فإن المدرس سوف يضرب أمثلته على المستوى الإنجليزي؛ فتكونُ لندن أو بيرمنجهام أو وولفرهامبتون، حيث يقيم الصَّديق عثمان حامد. أمَّا إذا كان موضوع الدَّرس هو جغرافية وولفرهامبتون، فما على المدرِّس إلا الاستعانة بابن القرية الذي عصفت به الأقدارُ من الخرطومِ إلى طرابلس فصنعاءَ؛ ومنها إلى أمستردام، فوولفرهامبتون في غرب وسط إنجلترا (وست ميدلاندز).

بما أن هابرماس كان يسعى عند تأليفه لكتاب "أزمة الشَّرعنة" إلى صياغةِ نظريةٍ عن النِّظام (الاجتماعي) الكلِّي، جرياً على عادة المفكرين الألمان، من أمثال هيغل وماركس وكانت، وحتى لوكاش (الفيلسوف المجري الذي كتب بالألمانية)، فقد اتَّخذ التَّكويناتِ الاجتماعية نفسها أمثلةً لِتَمَفصُل ذلك النِّظام الاجتماعي الكلي. ففي الفصل الثَّالث من الكتاب، الذي جاء تحت عنوان: "توضيح المبادئ الاجتماعية للتَّنظيم"، يقول هابرماس: "أريد أن أوضِّح ما الذي يُعنى بالمبادئ الاجتماعية للتَّنظيم، وكيف يمكن أن نستقي منها أنماطاً محدَّدةً من الأزمة عن طريق ثلاثة تكويناتٍ اجتماعية". ويقول أيضاً إن هذه الملاحظات الفضفاضة، ليس الغرض منها الاستعاضة عن نظريةٍ للارتقاء الاجتماعي؛ وإنما الغرضُ منها فقط هو إدخالُ مفهومٍ جديد عن طريق الأمثلة؛ ففي كلِّ واحدةٍ من التَّكوينات الاجتماعية الثَّلاثة، سوف أضعُ مخططاً للمبدأ المحدَّد للتَّنظيم، وسوف أشيرُ إلى الإمكانيات التي يفتحها أمام الارتقاء الاجتماعي، كما سوف أستنتجُ منها أنماط الأزمات التي تسمح بنشوئها".

بالطَّبع، يمكننا أن نعطي أمثلةً افترضَ الكاتبُ سلفاً أنها مألوفةٌ لدى القارئ، إلا أن هناك خطورةً تنشأ من الانزلاق ضمن الافتراضات المُسبقة لدى الكاتب، أو زمرةِ أتباعِه الذين يقبلون طرحَه من دون مواجهتِه بما يستحقُّ من تساؤلات. على سبيل المثال، فإن ما يُسمَّى بالمجتمعات البدائية قد يكون هو واحدٌ من المفاهيم المقبولة لدى مؤسِّسي علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، فقد نشأ العلمُ وترعرع إبان الحملة الاستعمارية؛ فالذي يدرس النُّوير (إدوارد إي إيفانز-بريشارد) هو صنوٌ للحاكم الاستعماري، وربما تضعضعت أطروحاته عند تناولها لدى منظرِّي خطابات ما بعد الاستعمار. وقد نجد آراءَ موازية، إذا تتبعنا الدَّارسين لشعوب الإينو (اليابان)، أو التشكشي (سيبيريا)، أو التشينشو (الهند)، أو الشوشوني (أمريكا الشَّمالية). ففي كلِّ تلك المجتمعات، يمكن أن نتصوَّر، اعتماداً على هبرماس، انبثاقاً للأزمات، فقط من خلالِ عاملٍ خارجي، إذ لا يوجد حافزٌ داخلي للإنتاج بما يفوق تلبية الحاجاتِ الضَّرورية للسُّكان؛ ولا تنشأ أزمةٌ إلا بوجودِ نموٍّ سكانيٍّ يدفعُ إلى هجرات، فتؤدِّي إلى تبادلٍ اقتصاديٍّ أو حروبٍ أو فتوحات.

بخصوص التَّكوينات الاجتماعية التَّقليدية، قد لا يحدُثُ اتفاقٌ حول ما هو تقليدي، منظوراً إليه من موقعٍ مركزيِّ أوروبيٍّ تارةً، ومن موقعٍ طرفيٍّ تارةً أخرى. أما التَّكوينات الاجتماعية اللِّيبرالية الرَّأسمالية، فهي عظمُ النِّزاع الأساسي، ومن أجلها انخرط منظرو اليسار الماركسي الجديد في التَّفكير العميق من أجل إيجادِ تبريرٍ مقبول لتأخُّر انبثاق المجتمع الفاضل الذي تنبأت به المادية التَّاريخية الكلاسيكية، بمراحلها الصَّارمة المعروفة. ألا ترى معي، يا عزيزي الصَّادق، أننا سننزلق، إذا لم ننتبه بشكلٍ كافٍ، داخل افتراضاتٍ نحن في غنًى عنها؛ فكلُّ ما يهمُّنا من طرح هابرماس أنه أوجد ربطاً ما بين المراحل المتأخِّرة من الرَّأسمالية، أو ما بعد الرَّسمالية، وقضايا ما بعد الحداثة، التي أثارها الفيلسوف الفرنسي جان-فرانسوا ليوتارد. ومن أجل ذلك فقط، اضطررنا إلى التَّطرُّقِ لما أتى به هابرماس من أفكار.

أما إذا سألت عن رأييِّ الخاص، فإنني أرى أن من الأجدى صياغة الأطروحات بكيفيةٍ تسمح بتفنيدِها، وفقاً لما طوَّره الفيلسوف النَّمساوي-البريطاني كارل آر بوبر، عِوضاً عن الالتفافِ اللَّانهائي حولها لإثباتِ صِحَّةٍ متوهَّمة أو التَّمسُّكِ بخرافاتٍ لا طائلَ من ورائها، أو التَّشبُّثِ بمفاهيمَ عفا عليها الدَّهرُ وشرِب. فمنذ أن وقعت عيناي في مستهلِّ عام 1975 على كتابه الشَّهير الصَّادر في عام 1945 تحت عنوان: "المجتمع المفتوح وأعداؤه" (من جزئين)، أدركت أن كلَّ ما كنتُ أقرأه أو أكتشفه خلف السُّطور يثبت ما أنا مقتنعٌ به أصلاً، ولا توجدُ طريقةٌ لزحزحتي عما أعتقد به، خصوصاً وأن ما كنتُ أعتقدُ به في ذلك الوقت هو عبارةٌ عن تنبؤاتٍ فضفاضة لا يحدُّها توقيتٌ دقيق أو مكانٌ بعينه، بحيث تستعصي تماماً على التَّفنيد؛ هذا غير أنها تُستخدم بأزيائها الواسعة لتفسيرِ ظواهرَ محدودةِ الأرجاء. وكان الوضعيون المنطقيون في فيينا يرفعون راية البرهنة أو التَّحقُّق تحت قيادة الفيلسوف الألماني رودلف كارناب، فجاء بوبر فأعلى من شأنِ الدَّحض ورفع راية التَّفنيد. وقد قبل توماس كن أطروحة بوبر في "بنية الثَّورات العلمية"، إلا أنه رأى أنها تكون ناجعةً فقط في وقتِ الأزماتِ التي تتخلَّل فتراتِ العلمِ الاعتيادي.

راجع كن لاحقاً في كتابٍ صدر بعد وفاته تحت عنوان: "السَّبيل منذ البنية" مواقفَه السَّابقة والثَّغراتِ التي أدَّت إلى انتشار "البنية" خارج مجال العلوم الطَّبيعية، والتَّأثيرِ السَّلبي الذي قاد إلى تبنِّي آرائه بواسطة منظِّري ما بعد الحداثة، خصوصاً ذلك التَّيار المنفلت، الذي سنتناوله بالنَّقد والتَّحليل في ختامِ حلقاتِنا حول "السَّرد بوصفه بُعداً نوعياً للممارسة السِّياسية".

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:54 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يواصل محمد خلف هنا تأملاته عن السرد، ويحضّنا عليه:



من حقِّنا أن نقصَّ أقاصيصَ وإنْ كان ينقصها حسنُ التخلُّصِ من قيدي الزَّمان والمكان



يقول الفيلسوف الوجودي الفرنسي، جان بول سارتر، "نحن محكومين (نُصبت خِصِّيصاً لاختصاصِها بشؤون البشر) بأن نكونَ أحراراً"؛ ويصحُّ، خلافاً لذلك، أن نقول نحن محكومون، بوصفنا بشراً، بأن نروي حكاياتٍ، ونقصَّ أقاصيصَ عن واقعٍ فعليٍّ أو متخيَّل؛ إلا أننا، مع ذلك، لسنا بأحرارٍ في التَّخلُّص من ركيزتي السَّرد الأساسيتين: وهما الزَّمان والمكان.

تبقَّى من أسلافِ البشر على ظهرِ البسيطةِ أربعةُ أجناسٍ من الأساسيات: 1. أورانج أوتان (إنسان الغاب)، وله نوعان: سومطرة، وبورنيو؛ 2. الغوريللا، ولها نوعان: الشَّرقية، والغربية؛ 3. الشِّمبانزي، وله نوعان: النَّوع الشَّائع، والبونوبو؛ 4. الإنسان الحديث، وله نوعٌ واحد: هو النَّوعُ البشري. ولأن له نوعٌ واحد فقط، فكثيراً ما يتمُّ الخلطُ في الكلام العادي بين الجنس البشري والنَّوع البشري، وهما مرتبتانِ تقعانِ في مستويين مختلفين من مراتب التَّصنيف البيولوجي، الذي تمَّ اعتماده في أعقاب صياغته بواسطة عالم النَّباتات السُّويدي، كارل فون لينيه (أو كارولوس لينيوس، حسب صيغته اللَّاتينية، التي اتَّبعها لينيه نفسه في التَّسمية الثنائية للأنواع الحيَّة في تصنيفه الشَّهير).

ما يهمنا من ذلك التَّصنيف أن الجنسَ البشري نوعٌ واحد؛ وعلى قاعدة هذه الوحدة التَّأسيسية، يمكن النَّظر إلى تاريخ البشر، كما يمكن النَّظر أيضاً إلى سردياته عبر القرون. وأول ما يمكن الانتباه إليه أن هذه الوحدة لا تقوم فقط على أساسِ نمطٍ ظاهري (فينوتايب)، وإنما تقوم أيضاً على أساسٍ جيني (جينوتايب). بمعنى أنه لا فرقَ في التَّكوين الظَّاهري أو التَّكوين الوراثي بين الشُّوشوني (أمريكا الشَّمالية) والأنجلوسكسونيين؛ أو بين التشينشو (الهند) والعدنانيين؛ أو بين التشكشي (سيبيريا) والسَّلافيين؛ أو بين الإينو (اليابان) والجعليين؛ أو، على حدِّ تعبير عالم النَّفس والأعصاب المعرفي، مايكل غزانيغا، "لا يوجد (من ناحية الغرائز الأساسية والقدرات العقلية) ما قيمته عشرة سنتاتٍ من الفرق بين بوشمن كلهاري (بتسوانا-ناميبيا) والمحاضر في جامعة أكسفورد".

ما يفرِّق بين النَّوع البشري الموحَّد في الأساس هو الاعتبارُ الثَّقافي. ومن أجل هذا تختلف الرُّؤى والسَّرديات بشأنِ الأنا والآخر؛ وبحسب تلك الرُّؤى والسَّرديات، تختلف الثَّقافات والأديان. لذلك يصبح من المهم والحاسم، بالنِّسبة لموضوعنا، التَّفرقة بين الأديان التي تقع ضمن السِّجل الأنثروبولوجي، بحيث يتطابق فيها الدِّين أو يتماهى مع الثَّقافة، والأديانِ التي نؤمن بأنها مُنزلةٌ من السَّماء. وبناءً على ذلك، يتمُّ التَّفرقة أيضاً بين الأقاصيص التي يرويها بشرٌ، وأحسنُ القصص التي تتنزَّل من السَّماء: "نَحنُ نقصُّ عليكَ أحسنَ القصصِ بما أوحينا إليكَ هذا القرءانَ وإنْ كُنتَ من قبلِهِ لَمِنَ الغافلينَ" (سورة "يوسف"، الآية رقم "3").

تتعامل حركة ما بعد الحداثة مع الأديان، كلِّ الأديان، بوصفها جزءاً لا يتجزأ من السِّجل الأنثروبولوجي؛ وعلى هذا الأساس، يتمُّ تعاطفُها مع الدِّين، مثلما تتعاطفُ أيضاً مع القبائل "البدائية"، والشُعوبِ المضطهدة، والفئاتِ المقهورة، والنِّساء والأطفال، والشَّواذ، والمسحوقين. وتستبطن في تعاطفِها هذا حداثةً تظنُّ أنها وحدُها القادرة على تجاوزِ سلبياتها، بتوسيعِ معطفها لاحتضانِ كلِّ هذه الظَّواهر المتباينة. وسبيلُها إلى ذلك تعدُّد الخطابات، ونسبية الحقيقة، وقبول الآخر، مهما اشتطَّ في أطروحاته.

في مقابل ذلك، نقول إنه، في مجال الحقيقة، يحقُّ لنا أن نقصَّ أقاصيصَ عن واقعٍ فعليٍّ أو متخيَّل، حتى ولو لم نمسك بكلِّ خيوط السَّرد، أو نتعرَّف بدقَّة على حدود الزَّمان والمكان، إطاري السَّرد الأساسيين. وللحقيقةِ طُرقها ومناهجها العلمية المعروفة، من سبرٍ واستقصاءٍ واختبارٍ وبرهان وتفنيد؛ ولا مجالَ فيها إلى النِّسبية الفالتة التي يعتمدها تيارُ ما بعد الحداثة. أما في مجال الحقِّ، فما علينا إلا الاعتقاد بما جاء في القصص المُنزل، واتِّباع أحسن ما أُنزل إلينا. فهل يوجد تضاربٌ بين ما نقصُّ من أقاصيص، وما أُنزل علينا من تنزيل؟ بمعنًى آخر، هل يوجد تناقضٌ بين الحقيقة الإنسانية والحقٍّ الإلهي؟

سيكون هناك تضاربٌ وتناقضٌ إنْ نحنُ وضعناهما في مواجهةٍ أفقية، لا يستقيمُ فيها الأمرُ إلا باستبعادِ الآخر؛ ومن هنا نشأ ذلك الوضعُ الشَّاذ الذي أدخلنا فيه رينيه ديكارت، حين زعم أن هناك "جوهرين"، فعصف بوحدةِ العالمِ المادي، الذي يعكف العلماءُ، في مجال الحقيقة، على سبرِ أغواره؛ فظلَّ النِّزاعُ قائماً إلى يومنا: بين علماءَ يعملون بأيديهم وأرجلهم لاستبعاد "الجوهر" غير المادي الذي افترضه ديكارت، ورجالِ دين غير مستنيرين يحاولون سُدًى أن يستبعدوا "الجوهر" المادي، وهو هذا العالم الذي نحيا بين ظهرانيه.

ما نقترحه من حلٍّ يفترض وضعيةً تبدو من أولِ وهلةٍ وكأنها "ثنائيةٌ" غير كارتية (نسبةً إلى رينيه دي كارت)، تقوم على "هرميةٍ" رأسية، تكون فيها العلاقةُ بين الأعلى والأدنى علاقةً غير متماثلة، بحيث يتمُّ التَّنزُّل من أعلى إلى أدنى بواسطةٍ أو من غيرِ واسطة، على ألَّا يتمُّ الانتقالُ من أدنى إلى أعلى إلا بسلطان، وهو الإذن؛ كما يمكن للأدنى أن يستقلَّ نسبياً بضربٍ من التَّوهم أو الخيار المنهجي، بحيث تصبح الحقيقة مسعًى يومياً وهدفاً يستعصي على التَّحقيق؛ أمَّا الحقُّ، فهو في آنٍ متعالٍ على دنياوات البشر، وقريبٌ منها كحبلِ الوريد. وليس في الأمرِ تناقضٌ، إذ لا ينشأ التَّناقضُ إلا حين نضع الصِّفتين في مواجهةٍ أفقية صدامية، قائمةً على الفتق؛ أما إذا وضعناهما في سمتٍ رأسيٍّ، قائماً على الرَّتق، فإن الفوارقَ تذوبُ مع أولِ حزمةِ ضوءٍ نوراني؛ ففي حضرةِ الدَّيمومة، لايكون الزَّمانُ المتعارف عليه زماناً، ولا المكانُ مكاناً.

إلا أن ما يبدو في ظاهر الأمر وكأنه "ثنائيةٌ"، هو في الواقعِ أمرٌ معقودٌ على توحيدٍ صميمي؛ فالأعلى ليس كمثلِه شيءٌ، والأدنى لا يضارعُ الأعلى أو يضاهيه، لأن العلاقة بينهما قائمةٌ أصلاً على عدم التَّكافؤ؛ لذلك، فإن ما يبدو في ظاهرِ الأمرِ وكأنه وضعٌ "هرميٌّ" ينتقلُ فيه الأدنى إلى الأعلى عبر سطحٍ متواصل ومنبسط، هو في واقعِ الأمرِ قائمٌ على انقطاعٍ صميمي، منظوراً إليه من أسفل؛ وربما تَكَشَّفَ الأمرُ عن تواصلٍ لا انقطاعَ فيه، إذا تسنَّى لنا الإطلالُ من علٍ، ولكن هيهات. كل ما يمكننا معرفته عن العالم العلوي هو ما يأتينا في صورةٍ مقرَّبة عبر القصص القرآني.

يتميِّز القصصُ القرآني بالتَّحكُّم البديع في بُعدي الزَّمان والمكان، وحسنِ التَّخلُّص من وطأتهما؛ فالانتقالُ السَّهل يتمُّ عبر الأزمنة السَّحيقة، وقبل هذا الزَّمان المتمكِّن على الأرض؛ كما أن الأرض والسَّماء معاً رهنُ إرادة الله وطوع بنانه: "ثمَّ استوى إلى السَّماءِ وهي دخانٌ فقال لها وللأرضِ ائتِيَا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعينَ" (سورة "فُصِّلت"، الآية رقم "11"). ثم يأتي خلقُ الإنسانِ في أحسن صورةٍ، قبل إقصائه إلى أسفلِ درك، باستثناء المؤمنين (سورة "التِّين"، الآيات رقم "3" إلى رقم "5"). وتعقبُ ذلك مسألة التَّخيير وعرض الأمانة على الأشياء والأحياء معاً: "إنَّا عرضنا الأمانةَ على السَّماواتِ والأرضِ والجبالِ فأبينَ أن يحملنَهَا وأشفقنَ منها وحَمَلَهَا الإنسانُ إنهُ كان ظلوماً جَهُولاً".

إن القصص القرآني لا يتبع سمتاً فنياً معروفاً، ناهيك عن أنْ يكون متَّخذاً شكلَ القصَّة الفنية، كما زعم الأستاذ محمد أحمد خلف الله في نهاية الأربعينات من القرن الماضي. فالقرآن ليس بنثرٍ معروفٍ ولا شعر؛ وإنَّ أفضل ما يمكن أنْ نختم به هذه الحلقة هو القول مع الدُّكتور طه حسين إنَّ "القرآن ليس نثراً، كما أنه ليس شعراً، إنما هو قرآن، ولا يمكن أنْ يُسمَّى بغير هذا الاسم؛ ليس شعراً، وهذا وضع، فهو لم يتقيَّد بقيود الشِّعر؛ وليس نثراً، لأنه مقيَّدٌ بقيودٍ خاصة به، لا توجد في غيره؛ فهو ليس شعراً، ولا نثراً، ولكنه: ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، فلسنا نستطيع أن نقول: إنه نثر، كما نصَّ على أنه ليس شعراً. كان وحيداً في بابه، لم يكن قبله، ولم يكن بعده مثله، ولم يحاول أحدٌ أن يأتي بمثله، وتحدَّى الناسَ أن يحاكوه، وأنذرهم أنْ لن يجدوا إلى ذلك سبيلاً" (طه حسين: "من حديث الشِّعر والنَّثر").

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:55 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

محمد خلف
الأحلام أيضاً تبدو متحررة من قيد الزمان والمكان
وسردها مدهش في بعض الأحيان، ويمكن أن نرى أنها ساهمت
في (مجال الحقيقة) بأقاصيص كثيرة، بل وبحروب وصراعات
وكتب إن شئت (فصوص الحكمة).

أين مكان الأحلام في (مجال الحقيقة) وسردياته؟
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

حقّا، "الصادق اسماعيل صاحب الأسئلة الذكية".
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

عادل القصاص

رمضانك كريم
الزاوية البيشوف منها محمد خلف
الحاجات زاوية جديدة عشان كدا الأسئلة بتكون جديدة أكتر من إنها بتكون
ذكية.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

البِحِبُّو كُلُّو كريم يا الصادق.

أتفق معك بخصوص جِدَّة أو إختلاف، زاوية خلف. غير أنني أرى أن "المواضيع القديمة" تظلُّ دائماً - وهنا تكمن أهم إسترايجيات التقَدُّم - في أمَسِّ الحاجة "لأسئلة جديدة" (فالأسئلة الجديدة تَتوَلَّدُ من قراءة جديدة، مختلفة أو مُتَمَيِّزَة). بمعنى أن المرء منا سيكون صاحب إضافة (أو أسئلة) نوعية، أو جديدة، أو مُتَمَيِّزَة إذا قَارَبَ - على سبيل المثال - قصيدة كلاسيكية لعمرو بن ربيعة أو للمرقّش الأكبر أو ساءل إحدى الأطروحات السلفية لمحمد عبده أو سيد قطب.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

تعقيب محمد خلف على مداخلة أو أسئلة الصادق إسماعيل الأخيرة:



السَّردُ مطيَّةُ الوعيِّ والأحلامُ وسيلةُ اللَّاوعي، وكلاهما مظهرانِ لعقلِ السَّاردِ المتشظِّي

-الحلقة الأولى-

عزيزي الصَّادق

رمضان كريم

يُسعدني أن أقولَ في مستهلِّ هذا الشَّهرِ المبارك إن اعتباراتٍ شتَّى تدفعني دفعاً للرَّدِّ عليك على جناح السُّرعة، إلا أن ثلاثةً منها قد تدافعت إلى المقدِّمة: أولها، تقديري لمساهمتك الإيجابية في هذا الرُّكن الغني؛ وثانيها، رغبتي في تقديمِ مزيدٍ من التَّوضيح للفرق القائم بين الحقِّ والحقيقة؛ وثالثها، ارتياد مجال علم النَّفس -عبر رائديه الرَّئيسيين: سيجموند فرويد، وكارل غوستاف يونج- وسبر علاقته بعلم الفيزياء، وبقية الأفرع الأخرى المتشظِّية لمجال الحقيقة.
كنتُ أرغبُ في التَّحاورِ عبر رسالتي إلى الصَّديق عادل القصَّاص مع عددٍ لا يُستهانُ به من الأصدقاء الموزَّعين على مدنِ الشَّتات، كما كنتُ أرغبُ في التَّواصلِ مع أصواتٍ مليئةٍ بعنفوانِ الحياة. صحيح أن الرِّسالة قد احتشدت بأصواتِ الرَّاحلين ودعواتِ التَّرحُّمِ على الموتى، إلا أن أولويتها كانت لمخاطبةِ الأحياء، كما كان مسعاها مكرَّساً لفتحِ الفضاءِ الثَّقافي، ولإدارةِ حوارٍ ذكيٍّ مع ألمعِ رموزه. لذلك، فإن التَّحاور معك لا ينضحُ فقط بالعنفوان، وإنما يرشح أيضاً بقيمةِ التَّعويض، إضافةً إلى أنه يُبشِّرُ بعودةٍ لا بدَّ منها للأصواتِ المتغيِّبة، "فمهما هم تأخَّروا، فإنهم يأتون".
إنَّ تقديري لأصحابِ "الحقيقةِ" ذوي النِّياتِ الحسنة، مثل صاحب "الفصوص"، لا يعرف الحدود، لكنه يتراجعُ مع انحدارِ الأتباعِ إلى انتماءاتٍ تتمسَّحُ بجوخِ السُّلطان. إلا أنني أعتمدُ على "الحق"، وفقاً لما جاءَ في القرآن، الذي لم يستخدم مطلقاً مصطلحَ "الحقيقة"؛ وهو ما خصَّصتُه لتغطيةِ ثلاثةِ مجالات، هي: العالم، واللُّغة، والعقل؛ وكلُّها مجالاتٌ متشظِّية، إذ إنها قائمةٌ على صدعٍ أساسيٍّ في أنظمتها البنيوية؛ فالعالمُ مُغطًى بظاهرٍ قابلٍ للتَّعرُّفِ عليه، إلا أنه ينطوي على شيءٍ يصعبُ التَّعرُّفُ على كُنهِه؛ واللُّغة في جانبٍ منها نظامٌ إشاريٌّ يقومُ على التَّعيين، وفي جانبٍ آخرَ منها نَسَقٌ رمزيٌّ لا يعملُ إلا بالتَّضمين؛ أما العقل، فإن به قسماً واعياً يستندُ إلى المنطق، وقسماً آخرَ يعملُ في منطقةٍ دون مستوى الوعي، بحسب فرويد، أو أنه يعمل بوصفه عقلاً لا واعياً، بحسب يونج.

سوف أتحدَّث في مشاركةٍ أخرى، بإذن الله، عن تفسير الأحلام عند هذين الرَّائدين، توطئةً للإجابة عن سؤالك الأساسي حول موقعها في مجال السَّرديات.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:57 pm، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يواصل محمد خلف هنا تعقيبه على أسئلة الصادق اسماعيل:



السَّردُ مطيَّةُ الوعيِّ والأحلامُ وسيلةُ اللَّاوعي، وكلاهما مظهرانِ لعقلِ السَّاردِ المتشظِّي

-الحلقة الثَّانية-


عزيزي الصَّادق

قلتُ في ختام الحلقة السَّابقة إنني سأتحدثُ عن تفسير الأحلام عند رائدي علم النَّفس الحديث، كما قلتُ في بدايتها إن اعتباراتٍ شتَّى تدفعني دفعاً للرَّدِّ عليك على جناح السُّرعة؛ إلا أن من الواضح أن مطلب التَّفسير الضَّروري يتضارب تضارباً شديداً مع مطلب السُّرعة المطلوبة، فحتى مجرَّد التَّصفُح السَّريع لكتاب سيجموند فرويد "تفسير الأحلام" يحتاج إلى وقت، ناهيك عن مضاهاته مع "الإنسان ورموزه"، كتاب كارل غوستاف يونج الأخير، الذي اشتمل أيضاً على موادَّ أعدَّها عددٌ من تلاميذه وأتباعه قبيل موته في يونيو عام 1961. لذلك، سأحاول، قدر المُستطاع أن أوفي بالحدِّ الأدنى للمطلبَيْن.

في عام 1900، وضع فرويد أمام نفسه مهمَّةً تضعه في طريقٍ صدامي مع الحكمة السَّائدة في الأوساط الأكاديمية؛ فقد كانت، خلافاً للحكمة الشَّعبية السَّائدة في أوروبا منذ قرون، ترى أن الأحلام لا معنى لها، وأنها لذلك غيرُ قابلةٍ للتَّفسير. أما فرويد، فقد زعم بأن بإمكانه أن يستخلصَ من مرضاه، عن طريق تقنية "التَّداعي الحر"، ما يُعينه على إيجادِ تفسيرٍ لأحلامهم، التي تحاول الإفلات من "رقابة" الوعي، فتُعبِّرُ عن نفسها بطريقٍ ملتوٍ لا يُدركُ معناه في سهولةٍ ويُسر؛ وسيساعدُ المريضُ في الكشف عن هذا المعنى الخفي لمادَّة الأحلام، إنْ هو التزم بالإفصاح الحر عمَّا يدور بخلده، دون توجيهٍ واضحٍ من المحلِّل النَّفسي، سوى الالتزام بالتَّقنية المُشار إليها، وهي تقنية "التَّداعي الحر".

أما يونج، فإنه يرى أنه ليس من الضَّروري اتِّخاذ الأحلام نقطةَ انطلاقٍ لتقنية "التَّداعي الحر"، إذ من الممكن استخدام أيِّ واقعةٍ أخرى كنقطةِ انطلاقٍ لهذه التَّقنية؛ أما الأحلامُ نفسها، فإنها تكتسب أهميةً كبرى في ذاتها باعتبارها مؤشِّراً لما يريد العقلُ اللَّاواعي التَّعبيرَ عنه، وإنْ بشكلٍ ملتوٍ. لذلك، يحرص يونج على عدم الابتعاد عن نصِّ الحلم، ومساعدة المريض –من غير تدخُّلٍ فظٍّ أو فرضِ هيمنةٍ من المحلِّل- على اكتشافِ رموزه؛ والتي يعتقد يونج أنها عبارةٌ عن نواقلَ للرَّسائل من الجزءِ الغريزي إلى الجزءِ العقلاني من العقلِ البشري، وأن تفسيرها من شأنه أن يثري فقرَ الوعي، بحيث يصبح بإمكانه مرَّةً أخرى معرفة اللُّغة المنسيَّة للغرائز.

وفق ما يرى يونج، فإن المواد المموَّهة في العقل اللَّاواعي التي تصدرُ منها رموزُ أحلامنا بشكلٍ تلقائي، تتكوَّن من دوافعَ وحوافزَ ونوايا؛ ومن كلِّ الإدراكاتِ والحدوس؛ ومن كلِّ الأفكار العقلانية وغير العقلانية؛ ومن الخلاصاتِ، وعملياتِ الاستقراء، والاستنتاجات، والمقدِّمات؛ ومن جميع أنواع المشاعر. فحسب ما يرى يونج، فإن أيَّاً من هذه المواد منفردةً أو مجتمعة، يمكنها أن تتخذَ شكلاً جزئياً أو مؤقَّتاً أو ثابتاً للعقل اللَّاواعي. فهذه المواد لم تصبح لاواعيةً، إلا لأنه لا يوجد متَّسعٌ لاحتوائها داخل العقل الواعي؛ وذلك إمَّا لأنها قد فقدت زخمها العاطفي، أو لأنها أصبحت غير مُشوِّقةٍ أو غير ذات صلةٍ بالموضوعات الحيَّة، أو لأننا نُريدُ أن نُقصيها جانباً لأمرٍ في نفسِ يعقوب.

مثلما أن محتويات العقل الواعي قابلةٌ للاختفاء داخل المنطقة المموَّهة للعقل اللَّاواعي، فإن موادَّ جديدةً لم يتمُّ إدراكُها بعد، يمكن أن تنبثقَ من العقل اللَّاواعي؛ فالعقلُ اللَّاواعي، حسب يونج، ليس مجردَ مستودعٍ للماضي، لكنه ممتلئٌ أيضاً ببذورِ أفكارٍ خلَّاقة ومواقفَ نفسيةٍ تفضي مستقبلاً إلى مشاريعَ فكريةٍ أو إبداعية. فالحياةُ اليومية مليئةٌ بالمعضلات التي تمَّ حلُّها بأكثر الافتراضاتِ إدهاشاً. ويدينُ العديدُ من الأدباء والفنانين والفلاسفة، وحتى العلماء، في كثيرٍ من أفكارهم، إلى دفقاتِ الإلهام التي تبرز لهم فجأةً من ثنايا العقل اللَّاواعي. على سبيل المثال، فإن عالم الرِّياضيات الفرنسي، هنري بوانكاريه، يعزي اكتشافاتٍ علمية مهمَّة لـ"كشفٍ" مفاجئٍ لصورٍ قادمة من العقل اللَّاواعي؛ أما رينيه ديكارت، فإنه يزعم في تجربته الرُّوحية الشَّهيرة بأن "ترتيب كلِّ العلوم" قد ظهر له في إيحاءٍ مباغت؛ بينما انتظر الرِّوائي الإسكتلندي، روبرت لويس إستيفينسون، أعواماً عدَّة، بحثاً عن قصَّةٍ تناسبُ إحساسَه القوي بفكرة الوجود المزدوج لبني البشر، إلى أن تكشَّفت له فجأةً حبكةُ روايته المعروفة "دكتور جيكل والسيِّد هايد" في حلمٍ ليلي.



سوف أختم، بإذن الله، بحلقةٍ أخيرة، فكرتها تدورُ حتى الآن بشكلٍ مبهم حول "معرض الجسم، متحف الرُّوح"، وربما تتبدَّد في الهواء، إنْ لم ينقذها "كشفٌ" مباغت؛ وهي مختصَّةٌ بالنَّظرِ إلى العلاقة بين علم النَّفس والأحياء؛ هذا بالطَّبع، إضافةً إلى ما وعدنا به سابقاً بشأنِ استجلاء علاقته بعلم الفيزياء.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 1:00 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

عزيزنا محمد خلف
في السرد القادم من اللاوعي، كيف يمكن التفريق بين
الحلم والهلاويس والكشف والالهام والرؤية وثقاب الرؤية
والوحي الالهي؟

وهذه المرة انا لا اسأل بقدر ما افكر بصوت عالي
ومبعث هذا التفكير انتباهي لنقطة محددة، بعدما قرأت ردك اعلاه، والنقطة هي
أن تجربة الأديان مرتبطة بشكل ما بالرؤى والأحلام عند مؤسسيها أو أنبياءها
بل أن منبع عبادة كاملة مثل الحج وطقوسه جاء بعد رؤية الذبح وتداعياته كما وردت في
الكتب السماوية. وعلى ما ذكر أن واحدة من الأديان الاسيوية قامت على حلم او رؤية، ومولد المراغنة
جاء نتيجة لحلم، وقد أشرت في سؤالي السابق لكتاب ابن عربي والذي جاء نتيجة للحم
وقد أضفت أنت أنواع أخرى من الرؤى أنتجت أدباً ومعرفة.

تجربة الايحاء أيضاً تٰصعِّب من فهم مسألة الاحلام، ولدي تجربة مع عدد من الاصدقاء
كنت اقول لهم مثلاً (اليوم ستشاهد في حلمك فلان الفلاني اذا قرأت سورة يوسف قبل النوم)
والذي يحدث انه يرى ذلك الفلان. وكنت ارجع ذلك الى أن الشخص يحلم بما يفكر فيه.

كما قلت فهو تفكير بصوت عالي، وربما محاولة لفهم ظواهر مثل الاديان وسردياتها
والظاهرية الابداعية في مختلف المجالات والباراسيكلوجي وغيره من الظواهر التى
تستعصي على العقل الواعي، وقد أردت مشاركة قراء هذا الخيط فيه.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

هذه هي الحلقة الثالثة من تعقيب محمد خلف على المداخلة قبل الأخيرة للصادق إسماعيل:



السَّردُ مطيَّةُ الوعيِّ والأحلامُ وسيلةُ اللَّاوعي، وكلاهما مظهرانِ لعقلِ السَّاردِ المتشظِّي


-الحلقة الثَّالثة-




عزيزي الصَّادق

وعدنا في المرَّةِ السَّابقة بتخصيصِ حلقةٍ ختامية للنَّظر إلى العلاقة بين علم النَّفس والأحياء، وقلنا إن فكرتها تدور بشكلٍ مبهم حول "معرض الجسم، متحف الرُّوح"؛ ولكن قبل أن نشرعَ في هذا الشَّأن، أرجو أن نحدِّدَ الدَّورَ الذي تلعبه الأحلامُ في توضيح الفارق الجوهري بين الحقِّ والحقيقة. إن الله هو الحقُّ (الحج 62)، يقصُّ الحقَّ (سورة "الأنعام"، الآية 57)، وقوله هو الحقُّ (سورة "الأنعام"، الآية 73)؛ ويخبرنا في آية الكرسي (سورة "البقرة"، الآية 255) أنه المنفردُ بالألوهية، القائمُ على تدبير خلقة؛ ومن تمامِ قيوميته أنه لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، مما ينتفي عنه بالضرورة تعرُّضُه لما يعتري النائمُ في نومه. وأنبياءُ الله يقولون الحقَّ (سورة "مريم"، الآية 34)؛ وقد جاء في حديثٍ يُروى عن السَّيِّدة عائشة أن "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ"؛ وفي حديثٍ آخرَ أن "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ". أما البشرُ العاديون، فإن مادة أحلامهم التي تبدو في ظاهرها مفارقةً للوعي البشري العادي، هي ما يُخضِعُها علمُ النَّفسِ الحديث إلى الدِّراسة والتَّحليل والتَّفسير؛ وهو ما نحنُ بصددِ الحديثِ عنه في هذه الحلقة الختامية.



[كُتبت هذه الفقرة التَّمهيدية للحلقة الثَّالثة قبل مشاركة الصَّادق إسماعيل الأخيرة، ولم تمنعني إلا شواغلُ من إكمال بقية الحلقة قبل تلك المشاركة؛ وعندما جلستُ اليومَ لإكمالِ الحلقة، وجدتُ مشاركة الصَّادق قد سبقتني، فقلتُ أدفعُ بهذه الفقرة، على أن أُكمِلَ الحلقة صباح الغد، عسى أن أُضيفَ إلى ما في ذهني إجاباتٍ لخواطرَ وردت في تفكير الصَّادق المسموع.]
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 1:02 pm، تم التعديل مرة واحدة.
أضف رد جديد