Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه هي الحلقة الثالثة (كاملة)، من تعقيب محمد خلف على مداخلة الصادق إسماعيل:



السَّردُ مطيَّةُ الوعيِّ والأحلامُ وسيلةُ اللَّاوعي، وكلاهما مظهرانِ لعقلِ السَّاردِ المتشظِّي

-الحلقة الثَّالثة (كاملةً)-



عزيزي الصَّادق

وعدنا في المرَّةِ السَّابقة بتخصيصِ حلقةٍ ختامية للنَّظر إلى العلاقة بين علم النَّفس والأحياء، وقلنا إن فكرتها تدور بشكلٍ مبهم حول "معرض الجسم، متحف الرُّوح"؛ ولكن قبل أن نشرعَ في هذا الشَّأن، أرجو أن نحدِّدَ الدَّورَ الذي تلعبه الأحلامُ في توضيح الفارق الجوهري بين الحقِّ والحقيقة. إن الله هو الحقُّ (سورة "الحج"، الآية 62)، يقصُّ الحقَّ (سورة "الأنعام"، الآية 57)، وقوله هو الحقُّ (سورة "الأنعام"، الآية 73)؛ ويخبرنا في آية الكرسي (سورة "البقرة"، الآية 255) أنه المنفردُ بالألوهية، القائمُ على تدبير خلقة؛ ومن تمامِ قيوميته أنه لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، مما ينتفي عنه بالضرورة تعرُّضُه لما يعتري النائمُ في نومه. وأنبياءُ الله يقولون الحقَّ (سورة "مريم"، الآية 34)؛ وقد جاء في حديثٍ يُروى عن السَّيِّدة عائشة أن "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ"؛ وفي حديثٍ آخرَ أن "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ". أما البشرُ العاديون، فإن مادة أحلامهم التي تبدو في ظاهرها مفارقةً للوعي البشري العادي، هي ما يُخضِعُها علمُ النَّفسِ الحديث إلى الدِّراسة والتَّحليل والتَّفسير؛ وهو ما نحنُ بصددِ الحديثِ عنه في هذه الحلقة قبل الختامية.

يزعمُ علمُ الأحياءِ الحديث، وتدعمه مجموعةٌ من الملاحظات الثَّاقبة، أن جسم الإنسان تطوَّر على مراحلَ أملتها رغبته الغريزية في البقاء، حيث تمكَّن عبر أزمنةٍ طويلة من تكييف نفسه مع المتغيِّرات التي تطرح نفسها في بيئته. ويمكن بالمشاهدات العادية أن نلحظ التَّشابه والتَّحول التَّدريجي للأعمدة الفقرية للكائنات الحيَّة التي تشترك مع الإنسان في شعبة الفقاريات، حسب التَّصنيف البيولوجي المعروف. وقد سبق أن أشرنا في ردِّنا على عادل البراري إلى تركيب الدُّماغ البشري، وقلنا "إن وظائفه المعروفة تقع ضمن مستوياتٍ مُتراكبة، ومناطقَ مُتداخلة، وإن خصائصه المتفرِّدة تتوزَّع داخل كلِّ مستوًى أو كلِّ منطقةٍ مستقلة، قائمةٍ برأسِها. ففي مستوياته الدُّنيا الأساسية، يتمُّ عملية التَّنفُّس والنُّمو، إضافةً إلى الدَّورة الدَّموية، والهضم، وردِّ الفعل المنعكس، والتَّوازن. ويشترك الإنسانُ، ضمن هذا المستوى، مع بقيةِ الحيوانات؛ وهو المستوى الذي إذا اعتراه عطبٌ ما، فلن تكون بقيةُ المستوياتِ الأخرى بمنأًى عن التَّأثُّرِ السِّلبي.

"وفي المستوى الوسيط (الذي يُشار إليه أحياناً بالجهاز الجوفي)، تضطرمُ الانفعالات، وتصطرعُ العواطف، وتتدفقُ الأحاسيسُ، والأشواقُ العنيفة. ومنذ زمنٍ ليس ببعيد، كان يُظنُّ أن هذا المستوى له تأثيرٌ سلبيٌّ على أداءِ العقل، لذلك كان يُنصحُ بمراقبتِه عن كثب، ووضعِ العراقيلِ أمام طريقِه، وكبحِ جَيَشانِه، حتى يخلو الواقعُ الاجتماعي، أو الفكرُ المُعاش، من تأثيراتِه الضارَّة. إلا أن الأبحاثَ الحديثة تشيرُ بقوَّةٍ إلى أن هذا المستوى هو جزءٌ لا يتجزأ من العقل، الذي لا تتكامل أجزاؤه، إنْ حُرِم هذا الجزءُ عن التَّعبيرِ عن شغفِه، شوقِه، أو جَيَشانِه. أما المستوى الأخير، فهو مربطُ الفرسِ في الأداءِ العقلي، وهو ما كان يُظنُّ، حتى وقتٍ قريب، بأنه المسؤولُ وحدُه عن النَّشاط الفكري؛ فلنتخيَّل دماغاً فاشلاً في ضخِّ الدَّمِ عبر العروق، متبلِّداً لا يستجيبُ إلى المؤثِّراتِ الخارجية، مؤدِّياً إلى تعطيلِ الهضم، أو مُربِكاً لعملية الاستتباب أو التوازن؛ ولنتخيَّل شخصاً بلا عواطفَ أو انفعالات، ناضِباً من جهةِ الأشواق، أو متحجِّرَ الأحاسيس".

هذا ما قلناه في الرَّدِّ على عادل البراري؛ وما لم نقله في ذلك الرَّد، يشيرُ إلى ارتباط المستوى الأخير من الدُّماغ بالعقل اللَّاواعي كذلك، وهو ما تطرَّقنا إليه بشكلٍ عابر في الحلقة السَّابقة؛ وما لم نقله أيضاً حول المستويات الثَّلاثة للدُّماغ البشري، يشيرُ إلى أن هذه المستويات قد تطوَّرت في مراحلَ متعاقبة، وهو ما سنتطرَّق إليه في هذه الحلقة تحت فكرة "معرض الجسم"، توطئةً للحديث عن دور العقل اللَّاواعي وعلاقته بالأحلام، والثَّقافة، وأديان السِّجل الأنثروبولوجي، تحت فكرة "متحف الرُّوح".

في البدء، تطوَّرت أنساقٌ بسيطة واستجاباتٌ نمطية، تشمل أنظمة التَّمثيل الغذائي، وردود الأفعال الغريزية، والجهاز البيولوجي الثَّاوي خلف ما سيُولِّدُ لاحقاً الإحساسَ بالألم والدَّوافع والمحرِّكات المختلفة؛ ثمَّ تطوَّرت أنساقٌ أكثر تعقيداً، واستجاباتٌ نمطية، تشمل العواطف الثَّانوية، والعواطف الأساسية؛ ثم أنساقُ المشاعر التي تُنبئ بوجود الألم أو السُّرور، والعواطف التي تتكوَّن منها صوراً أولية؛ ثمَّ أخيراً الاستجابات المعقَّدة المرنة، والاستجابات المُعتزَمة التي يتمُّ صياغتها عبر صورٍ واعية، وربما تمَّ اعتمادُها في سلوكٍ بشريٍّ محدَّد.

يوجد المستوى الأول، وهو المستوى الخلفي، في قاع الدُّماغ، أو ما يُسمى بجذعِ الدُّماغ؛ ويوجد المستوى الوسيط في جوف الدُّماغ، لذلك يُسمى أحياناً بالجهاز الجوفي؛ أما المستوى الأخير، وهو المستوى الأمامي، فإنه يوجد في أعلى الدُّماغ، وهو المخ الذي يحتوي على قشرة الدُّماغ. وتتجاورُ هذه الأنظمة والمستويات، لكنها تؤدِّي وظائفَ متباينة، وإنْ كانت منسَّقة فيما بينها، كما أنها برزت إلى الوجود في مراحلَ مختلفةٍ من مراحل التَّطوُّر البشري، لكنها تعمل الآن في تنسيقٍ وتعاونٍ فائقين؛ فالجسمُ البشري عبارة عن معرضٍ تتجاور فيه الأعضاء؛ أما الدُّماغ البشري، فهو جناحٌ خاص ومتميِّز، تُعرض فيه الأجهزة المصنوعة في أزمنةٍ مختلفة، لتعملَ في الوقتِ الرَّاهن بكفاءةٍ ودقةٍ متناهيتين.

كما قلنا في فقرةٍ سابقة، فإن المستوي الأخير، الذي تطوَّر في مرحلةٍ لاحقة، ويحتوي على قشرة الدُّماغ، لا يرتبط بالوعي فقط، وإنما يرتبط كذلك بمنطقة اللَّاوعي، التي تمَّ اكتشافُها بواسطة علم النَّفس الحديث. ولم يؤدِ اكتشاف اللَّاوعي إلى استكشافِ منطقةٍ جديدة من الواقع فحسب، بل قاد إلى مضاعفةِ نظرتنا إلى العالم، كذلك. فقبل كلِّ شيء، لم نعُد نسأل فقط عما إذا كانت الظَّاهرة العقلية واعيةً أم لاواعية، بل أصبحنا نسأل كذلك ما إذا كانت الظَّواهر الواقعية نفسها مُكتسبةً عن طريق الوعي أم اللَّاوعي.

قلنا أيضاً إن الأحلام هي وسيلة اللَّاوعي للاتِّصال بالوعي، من غير أن يفقد العقل اللَّاواعي خاصيته. وفي حالة الأحلام العادية، فإن المحلِّل النَّفسي سيكون قادراً بمساعدة المريض على تفسيرها، سواءً كان عن طريق تقنية "التَّداعي الحر" عند سيجموند فرويد، أو الاهتمام بالأحلام ذاتها كنصوصٍ مستقلة قابلةً للتَّفسير بتعاونِ المحلِّل والمريض، كما هو الحال عند كارل غوستاف يونج. إلا أن بعضَ الأحلام تخرجُ عن النَّمط العادي، كأن تكونَ هوساً أو وسواساً أو مشحونةً بعواطفَ جمَّة، وهي ما يسميها فرويد بـ"البقايا القديمة". وقد اهتم بها يونج وأكسبها بُعداً شمولياً، وأسماها بـ"النَّماذج الأصلية" أو "الأنماط الأولية" (آركيتايبز).

حسب ما يرى يونج، فإن قوى اللَّاوعي الرَّهيبة لا تظهر فقط في الأحلام التي تشكِّل مادةً إكلينيكية، وإنما تظهرُ أيضاً وبشكلٍ أسطع بروزاً في الممارسات الأسطورية، والدِّينية، والفنية، وكافة الأنشطة الثَّقاقية (بالمعنى الأنثروبولوجي للمصطلح). ويرى يونج أن "الأنماط الأولية" هي أنساقٌ مشتركة موروثة بواسطة العقل الجمعي؛ وبما أن كلَّ النَّاس لديهم أنساقٌ موروثة من السُّلوك العاطفي والنَّفسي، فمن المتوقع أن نجد طابعاً لمنتجاتهم -التي تتخذُ شكلَ أوهامٍ وتصوراتٍ وأفكارٍ وممارسات- في كلِّ مجالات الأنشطة الإنسانية. فكما أن الجسم البشري هو "معرضٌ" قائم على الأنساق التَّشريحية العامة للثَّدييات، فإن النَّفس القديمة أو "الأنماط الأولية"، بحسب يونج، هي "متحفٌ" قائم على جوهر العقل البشري. وكما أن عالم التَّشريح الحاذق يجد عدَّة آثارٍ لأنساق الثَّدييات في الجسم البشري، فكذلك فإن خبير الرُّوح بإمكانه أن يجدَ عدَّة تشابهاتٍ وتناظراتٍ بين أحلام الإنسان المعاصر ومنتجات العقل البدائي، بصوره الجمعية وأفكاره الأسطورية المتكرِّرة.


كنَّا نرغب في أن تكون هذه هي الحلقة الأخيرة من مسلسل حلقات "السَّرد مطية الوعي والأحلام وسيلة اللَّاوعي"، إلا أن الحلقة قد طالت، ولم نتناول بعدُ علاقة اللَّاوعي بعلم الفيرياء، أو على الأصح علم فيزياء الجُسيمات المتناهية الصِّغر، لذلك سنخصِّص لها حلقةً رابعة، نرجو أن تكون، بإذن الله، هي الخاتمة الفعلية لهذا المسلسل.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 1:02 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

بهذه الحلقة يختتم محمد خلف بحثه وتأويلاته في أحد منعطفات هذا الخيط، وهو المنعطف الخاص بالسرد وعلاقته بالأحلام، الوعي واللَّاوعي، وهي الحلقة التي يواصل فيها تعقيبه على مداخلات ذات صلة من كل من الصادق إسماعيل (هنا) ومنصور المفتاح (في سودانيزأونلاين):



السَّردُ مطيَّةُ الوعيِّ والأحلامُ وسيلةُ اللَّاوعي، وكلاهما مظهرانِ لعقلِ السَّاردِ المتشظِّي

-الحلقة الرَّابعة-



عزيزي منصور

أو بالأحرى

عزيزاي الصَّادق ومنصور

ما كان من الممكنِ أن أستمرَّ في هذا الرُّكن، على أهمية رسالتي إلى الصَّديق عادل القصَّاص في ذاتها أولاً، وباعتبارها مِعبراً للتَّواصلِ مع جمهرة النَّاشطين في الحركة الثَّقاقية ثانياً، لولا تشجيعٌ صادقٌ لقيته منكما في شكلِ أسئلةٍ محرِّضة على التَّفكير، وفي شكلِ تقريظٍ يُثلجُ الصدرَ، ويدفعُ المرءَ نحو اجتراحِ المزيد. إلا أن التَّصوفَ بحرٌ عميقُ اللُّجة، ودربٌ وَعْرُ المسالك؛ وأنا لا أجيدُ السِّباحة، ولا أقوى على طولِ المسير. هناك غيري مَنْ هو أفضلُ منِّي في عرضِ تفسير الأحلام عند ابن سيرين أو النَّابلسي أو ابن شاهين أو ابن خلدون أو ابن عربي، غير أن غرضي هو تجاوز فكرة الكريبتوجرام أو النَّصِّ المشفَّر الذي يحتاج إلى مفتاحٍ لفكِّ طلاسمه أو قاموسٍ للاهتداء إلى معانيه، لذلك فقد تطرَّقت إلى فرويد، المعادل المعاصر لابن سيرين، في فقرةٍ واحدة لأخلُصَ منه إلى النِّطاق الأرحب الذي فتحه يونج، بالنَّظر إلى الأحلام في خصوصيتها التي تستغني عن القاموس العام، وتستعيضُ عنه بالمحلِّل المتعاطف مع المريض، الذي يساعدُ الحالمَ على فهم الرِّسالة التي يحاول العقل اللَّاواعي أن يوصلها إليه. فياعزيزي منصور، قد لا تجدُ عندي خراجَ ابن سيرين، لكنى أوعِدُكَ، بإذن الله، بتناولِ الآية 82 من سورة "يس": "إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"، إذ إنها هي كلمةُ الحقِّ، التي ترفُّ فوق هذا العالم الأرضيِّ المتشظِّي.

يُجدرُ بالذِّكرِ أن النِّطاق الأرحب الذي فتحه يونج لا يقفُ عند خصوصية الأحلام، وإنما يتجاوزها إلى الدَّور الذي يلعبه العقل اللَّاواعي نفسُه في استبصار العالم من حولنا، وهو الأمر الذي دفع عدداً من الفيزيائين المعاصرين ليونج، وعلى رأسهم وولفغانغ باولي، إلى القول بأن إدراك الطَّبيعة يستلزم إدراك طبيعة العقل النَّاظر إلى ظواهرها: هل هو عقلٌ واعٍ مدركٌ لما حوله أم أن هناك دوراً يلعبه العقل اللَّاواعي في استكشاف او استشراف هذا العالم. وهذا الجانب المعاصر المرتبط بالعلوم الطَّبيعية هو الذي يجذبني إلى مداراته، وأترك لِمَنْ هو أفضلُ منِّي مهمة التَّبحُّر في تراث الماضي أو الاسترشاد بالقبس القادم من ذاك الزَّمان السَّحيق.

يتعدَّى العقلُ اللَّاواعي عند يونج الجانبَ الشَّخصي، ليشملَ العقل اللَّاواعي الجمعي، وهو الذي يتضمَّن المستويات العميقة للنَّفس، وتحتوي على الموروثات المتراكمة، وهي ما يسميها يونج بـ"النَّماذج الأصلية" أو (الآركيتايبز). وقد بدأ كثيرٌ من المفاهيم العلمية، مثل المادَّة والطَّاقة والذَّرَّة، بوصفها "نماذجَ أصلية"، ثم تطوَّرت إلى أن صارت مفاهيمَ دقيقة، يتم التَّعبيرُ عنها حالياً وفق مصطلحاتٍ رياضية مجرَّدة. فهذه المفاهيم لم تُصَغْ في البدء للتَّعبير عن واقعٍ موضوعي، وإنما جاءت بدافعٍ فطريٍّ لدى الإنسان لإيجادِ صلاتٍ مناسبة بين الوقائع الخارجية وما يعتمل في النَّفس من وقائعَ داخلية. ويرى باولي أنه نتيجةً لاكتشاف العقل اللَّاواعي، فإن مراجعةً ضرورية لابد من إجرائها لفكرة تطوُّر الحياة، مما يستدعي مراجعة العلاقة بين النَّفس اللَّاواعية والعمليات البيولوجية الخارجية. ومما يُزكِّي هذه النَّظرة أن عمليات الارتقاء تحتاج إلى وقتٍ أكبر من العمر المعروف لكوكب الأرض، إذا ما تمَّتِ التحوُّلاتُ المُنتخبة عن طريق الصُّدفة المحضة.

وفقاً لهذه النَّظرة، فإن مصادفاتٍ "ذات معنى" هي التي سرَّعت من عمليات التَّحوُّل المُنتخب؛ وهي نفسُ المصادفات التي تقود عن طريق تنشيط "النَّماذج الأصلية" والموروثاتِ المتراكمة إلى التَّنبؤاتِ فوق الطَّبيعية، مثل معرفة مصطفى سيد أحمد لموتِ قريب أو عثورِ مسعودٍ على شيءٍ مفقود أو اضطرارِ حيوانٍ، تحت ظروفٍ ضاغطة، إلى تغييرِ مظاهرِه المادية الخارجية. إلا أن ما يهمني من تأثير يونج لا يرتبط بتفسير الظَّواهر الباراسايكولوجية أو إعادة تفسير النَّظرية الدَّارونية، وإنما يختصُّ بصلة علم النَّفس بعلم الفيزياء، أو على وجه الدِّقة: علم فيزياء الجُسيمات الدَّقيقة، وهو العلمُ المعروف باسم ميكانيكا الكم، الذي كان باولي، صديق يونج، أحدَ مؤسِّسيه الرَّئيسيين؛ والذي يرتبطُ باسمه أحدُ الحالات الطَّريفة التي تُسمى "أثر باولي"، وهي أن المعدات التَّقنية تُصابُ فوراً بالعطل في حضورِ عالم الفيزياء النَّظرية النَّمساوي وولفغانغ باولي، وهي الظَّاهرة التي أشار إليها إستيفن هوكنج بشكلٍ فَكِهٍ في كتابه الشَّهير: "تاريخٌ موجزٌ للزَّمن".

قد تبيَّن ليونج أثناء عمله اللَّصيق مع باولي أن علم النَّفس التَّحليلي في بحوثه التي يجريها في مجاله الخاص، كثيراً ما يضطرُ إلى صياغةِ مفاهيمَ شبيهةٍ بتلك التي يصيغها الفيزيائيون عندما يجابهون ظواهر الطَّبيعة المتناهية في الصِّغر؛ ومن تلك المفاهيم، يبرزُ واحدٌ من المفاهيم الشَّهيرة التي صاغها عالمُ الفيزياء الدَّنماركي، نيلز بور، وهو مفهوم "التَّكامل" أو "التَّكاملية". على سبيل المثال، يمكن النَّظر إلى الضُّوء باعتباره جُسيماً متناهيَ الصِّغر (فوتون)، كما يمكن النَّظر إليه باعتباره موجةً، ولكن لا يمكن أن يكونَ الاثنين معاً (جُسيماً وموجةً) في نفسِ الوقت؛ فتحت ظروفٍ تجريبية معيَّنة، يُظهِرُ الضُّوءُ نفسَه كجُسيم، وتحت ظروفٍ أخرى كموجة. وكذلك حسب مبدأ الرِّيبة أو اللَّايقين الذي صاغه عالمُ الفيزياء الألماني فيرنر هايزنبيرج، فإنه لا يمكن تحديد الموقع والسُّرعة المتَّجهة في نفسِ الآن. وعلى المراقب -الذي يتدخَّلُ بشكلٍ حاسم في التَّأثير على قياساته- أن يختارَ إعداداته التَّجريبية قبل الخوضِ في غمارِ التَّجربةِ ذاتِها، علماً بأنه سيضحي بالإعدادات الأخرى، إنْ فعل؛ وهو الوضعُ الاحتمالي التَّأسيسي الذي يعصف بنظرية اليقين في شكلها القديم الذي أرسته الفيزياءُ الكلاسيكية.

يُعتبر تفسير بور، الذي يستخدم مفهوم "التَّكاملية"، واحداً من عدَّةِ تفسيراتٍ تفوقُ العَشَرةَ بكثير لميكانيكا الكم؛ وهو من أشهر تلك التَّفسيرات، وقد لا يكونُ أهمها، لكنه الأهمُّ بالنِّسبة لموضوعنا، وهو تشظِّي هذا العالم. فقد قبل العلماء بشكلٍ عام دخول مبدأ الاحتمال على صياغاتهم العلمية الصَّارمة، إلا أن هذا الأمر يشكِّل أهميةً قصوى بالنِّسبة لعلماء النَّفس الذين ينظرون إلى الوضع النَّفسي العام من حيث الوعي أو اللاوعي على حدٍّ سواء؛ وعلى وجه الخصوص، كارل غوستاف يونج، الذي يستخدم فكرة "التَّكاملية" التي جاء بها نيلز بور، فهو يرى أن العلاقة بين العقل الواعي واللَّاواعي تقومُ هي كذلك على مبدأ "التَّكاملية"؛ فالمواد القادمة من جهة اللَّاوعي تغيِّر طبيعتها الأساسية، حينما تدخل في منطقة اللَّاوعي، إنْ كان ذلك في شكلٍ أحلامٍ أو أساطيرَ أو ممارساتٍ طقسية بدائية؛ وكذلك فإن مردودَ الوعي الذي يأتي من الأحلام، على سبيل المثال، له تأثيرٌ كبير على طبيعة اللَّاوعي لدى الحالمين.

قلنا في الحلقة الأولى إن المجالات الرَّئيسية الثَّلاثة للحقيقة، وهي العالم واللُّغة والعقل، كلُّها مجالاتٌ متشظِّية، إذ إنها قائمةٌ على صدعٍ أساسيٍّ في أنظمتها البنيوية؛ فالعالمُ مُغطًى بظاهرٍ قابلٍ للتَّعرُّفِ عليه، إلا أنه ينطوي على شيءٍ يصعبُ التَّعرُّفُ على كُنهِه؛ واللُّغة في جانبٍ منها نظامٌ إشاريٌّ يقومُ على التَّعيين، وفي جانبٍ آخرَ منها نَسَقٌ رمزيٌّ لا يعملُ إلا بالتَّضمين؛ وها هو يونج يوكِّد بأن العقل به قسمٌ واعٍ يستندُ إلى المنطق، وقسمٌ آخرُ يعملُ بوصفه عقلاً لا واعياً، وأن التَّأثير المتبادل بينهما يقومُ على مبدأ "التَّكاملية" التي قال به بور في مجال فيزياء الجُسيمات الدَّقيقة.

وما نقولُ به نحن إن عالم الحقيقة لا يبرأ من الصَّدع أو التَّشظِّي، فالمادَّة والعقل في تصدُّعهما البنيوي لا تلحمهما فكرة "التَّكامل"؛ كما أن اللَّغة التي من المفترض أن تعملَ كجسرٍ رابطٍ بينهما، هي الأخرى مكتنفةٌ في مجال الحقيقة بالتَّشظِّي. ومع إنها توهم في صيغتها الأدائية التي اكتشفها جي إل أوستن بالرَّتق، كأن يُفتتحَ برلمانٌ بصيغةٍ أدائية، فيصبحُ منعقداً على إثرها بشكلٍ رسمي؛ أو تُكتبُ صيغةٌ أدائية على ورقةٍ، فتصبحُ عملةً ساريةَ المفعول ومبرئةً للذِّمَّة بفضلِ صياغتها على ظهر الورقة؛ أو تُطلقُ صفارةٌ إيذاناً ببدءِ مباراةٍ لكرةِ القدم أو انتهاءِ دوريةٍ في مصنعٍ للملابسِ الصُّوفية. إلا أن فتقاً يعتري هذه الصِّياغات الأدائية، إذا نظرنا إلى التَّركيب الاجتماعي الذي تقوم عليه، سواءً اتَّخذ ذلك شكلَ إدارةٍ برلمانية، أو مصارفَ ماليةٍ مركزية، أو اتِّحاداتٍ محلية أو إقليميةٍ أو دولية.

أمَّا في رحابِ الحقِّ، فليس في الوجودِ من مُوجدٍ غيره؛ وإذا أراد شيئاً، فلا شيءَ يتوسَّطُ بين إرادته وكينونة الشَّيء، سوى كلمته. ولأن كلامه قائمٌ على العلم، وعلمُه يسعُ كلَّ شيء، فإن الإنسان لا يعلم إلا ما علَّمه الله. والقرآنُ هو كلامُ الله الذي نزل على نبيِّنا محمد بواسطة المَلَك جبريل. ومعرفته مرتبطةٌ بإذنه، إلا أن إرادة المفسِّرين المتأخِّرين عمِلت على تفسيرِ القرآن آيةً على إثرِ آية، وقد كانوا محقِّين في صيغةٍ لا جدالَ حولها، هي "اللهُ أعلم"، التي تخلَّلت جلَّ تفسيراتهم. وكان المفسِّرون الأوائل يذرعون الأرضَ من أقصاها إلى أقصاها لتفسيرِ آيةٍ واحدةٍ فقط. وبما أن كلامَه قديم، وزمانَه مديد، فإننا لا نعرف متى يُقدِرُ اللهُ أحدَنا على تفسيرِ بعضٍ من آياته على وجهِ اليقين، سوى ما جاء على لسانِ نبيِّه وأفضل أصحابه وعترته.

إلا أن هناك سماتٍ أو إشاراتٍ تضيءُ طريقَ التَّفسير؛ على سبيل المثال، "وألقى في الأرضِ رواسيَ أن تميدَ بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون" (سورة النَّحل"، الآية رقم 15)؛ فكثيرٌ من المفسِّرين، بما فيهم الطَّبري والقرطبي وابن كثير، يعتقدون أن الرَّواسي هي الجبال، ولكن المُلمَّ بمشكلة انهيار الإلكترونات داخل الذَّرَّة، حسب تصوُّر نيلز بور لها، والحلِّ الذي اقترحه وولفغانغ باولي، وهو ما صار يُعرف بـ"مبدأ باولي للاستبعاد" [وهو بالطَّبع غير "أثر باولي"، الذي تحدَّثنا عنه في فقرةٍ سابقة]، يدرك أن ما يمنع الأرضَ من أن تميدَ بنا، هو المبدأُ الذي أقدر اللهُ باولي على صياغته، وهو المبدأُ الذي لا يعملُ في الأرضِ فقط، وإنما في سائرِ الكونِ كذلك؛ وبالطَّبع، في نهاية هذه الحلقة الأخيرة من مسلسل "السَّردُ مطيَّةُ الوعيِّ والأحلامُ وسيلةُ اللَّاوعي، وكلاهما مظهرانِ لعقلِ السَّاردِ المتشظِّي"، لا يمكنُ لنا إلا أن نؤمِّنَ عن قناعةٍ كاملة على جملةِ المفسِّرين الأثيرة، بأن الله وحدَه هو الأعلم.


محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 1:04 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

عزيزي خلف
أعتقد أني مدين لك بالشكر على هذه الإضاءات المعرفية العميقة
وأجدني ممتن لك على تحفيزي على التفكير بعمق في الكثير من المسلمات
والتي كنت آخذها بتسليم مطلق.

قلت:
واللُّغة في جانبٍ منها نظامٌ إشاريٌّ يقومُ على التَّعيين، وفي جانبٍ آخرَ منها نَسَقٌ رمزيٌّ لا يعملُ إلا بالتَّضمين

في اي من الجانبين يمكن توطين الشعر. أو بالأحرى اللغة الشعرية والموسيقى كذلك
إن صحّ تصنيف الموسيقى كإشارات
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهنا يُعَقِّبُ محمد خلف على المداخلة-الأسئلة الأخيرة للصادق اسماعيل:


عزيزي الصَّادق

مرَّةً أخرى، أقولُ لكَ شكراً لمساهمتك، وحسنِ متابعتك، وفيضِ أسئلتك؛ ومرَّةً أخرى، أقولُ لكَ إن هناك غيري مَن هم أفضلُ منِّي في الإجابة على سؤالك المهم، وبعضُهم على مرمى حجرٍ منك؛ فكاليفورنيا، كما قلت لك سابقاً، ملأى بأساطينِ المعرفة؛ ففيها الأستاذ عبد اللَّطيف علي الفكي، الذي سأستحي من إطلاله على الإجابة المُبتسرة التي سأقدِّمها لك؛ وفيها الصَّديق أسامة الخوَّاض، وهو عالمٌ ببواطن اللُّغة، وضالعٌ إلى أذنيه في الكتابة الشِّعرية؛ وفيها الأستاذ مسعود محمد علي، المتخصِّص في تدريس اللُّغتين؛ وفيها هاشم محمد صالح، خبيرُ اللِّسانيات، الذي أتحرَّق شوقاً لسماعِ صوته وتسقُّطِ أخباره التي تصلني لماماً عبر الصَّديق المدهش، عذبِ اللِّسانِ وصادقِه: الأستاذ عبد الواحد ورَّاق؛ وبالطَّبع، فيها الأستاذ الصَّادق إسماعيل نفسه، ولكنه يريد أن يعمِّم الفائدة بأسئلته الذَّكية.

فلماذا، إذاً، لا تغشى مَن هم على مرمى حجرٍ منك، لعلنا نصطادُ منهم عدَّة إجاباتٍ ثمينة من غير حاجةٍ إلى رمي عصفورٍ مُفعمٍ بالبراءة بأيٍّ مما توفَّر لديك من حجارةٍ مجازية. وعليك ألا تنسى بأن تحمل معك جهازَ تسجيلٍ صغير، ولديك الرَّابعُ من يوليو بأكمله لإنجاز المهمة، أعاده اللهُ عليكم بالخيرِ والبركة. فلربما تمكَّنَّا بهذه الطَّريقة البسيطة من اجتيازِ الحاجز الوهمي القائم بين الشَّفاهة والكتابة؛ ولربما أغرينا بقية الأصدقاء ودفعناهم دفعاً للمشاركة الفاعلة في هذا الرُّكن الحيوي؛ ولربما استطعت، أعانك اللهُ يا عزيزي الصَّادق، أن تنجز بها مآربَ أخرى أكثر حيويةً. وعليك أيضاً ألا تنسى المحافظة على جهاز التَّسجيل وصيانته وجعله في المتناول، فكاليفورنيا منطقةٌ جاذبة، ويمرُّ عبرها كثيرٌ من خبراء الموسيقى وعشاقها، فربما تحصَّلت منهم على إجاباتٍ عن الشِّقِّ الموسيقيِّ من سؤالك.

فاللُّغة ياعزيزي هي في الأساس نظامٌ إشاري، إلا أن له مستويين: مستوًى تعييني، وآخرُ تضميني؛ الأول يشير إلى المعنى الحرفي، أو المقابل القاموسي للكلمة؛ والثَّاني يرمز إلى المحمول القيمي والتخييلي للكلمة. وعموماً يجدُ الأطفالُ ومتعلمو اللُّغة صعوبةً جمَّة في إدراك مستوى التَّضمين، في حين يتعامل المتحدِّثون الأصليون للُّغة في سهولةٍ ويُسر مع هذا المستوى. وأذكر مرَّةً أنني كنت بصحبة مسعود في حيِّ العباسية بأمدرمان، حيث كان يسكن مع أولاده وزوجته طاهرة، فجاءت ابنته الصَّغيرة ريَّان، التي كانت ولا زالت تتعلَّق بأبيها ولا تحبُّ مفارقته، ولو لثوانٍ قليلة؛ فأعطاها مسعود فرصتها الكاملة في الحديث، وأمهلها كثيراً، ولكنها كانت لا تريد مفارقته؛ وفي نهاية المطاف، قال لها مسعود: "يلَّلا يا ريان أدينا عجاج كرعيك"، فما كان منها إلا وأنْ أخذت "قبضةً" من باطن قدمها اليمنى وأعطتها في براءةٍ وصدق لوالدها، فتأمَّل!

لا يخلو الاستخدامُ العادي للُّغة من تجاورِ المستويين، إذ لا توجد لغةٌ صرفة قائمةً على التَّعيين، كما لا توجد أخرى قائمةً بشكلٍ كامل على التَّضمينِ وحده؛ ولكن الشِّعرَ يغلب عليه التَّضمين، الذي يدخل في اللُّغة المجازية بتشبيهاتها واستعارتها المعروفة. أمَّا الموسيقى، فإن لغتها بطبيعتها مجرَّدة وحُبلى بالتَّضمينات المفتوحة؛ وسيبدع الموسيقيُّ البارع إنْ مال بها ميلاً نحو التَّعيين، كأن يعزف موتزارت موسيقى قدَّاس الموتي، أو يُنطِقُ حسن عطية الوترَ، فيعمُّ الطَّربُ في حفلةِ زفافٍ أمدرماني.

محمد خلف
Masoud Mohammed Ali
مشاركات: 220
اشترك في: الاثنين إبريل 20, 2009 9:47 am

مشاركة بواسطة Masoud Mohammed Ali »

بسم الله الرحمن الرحيم
الان فقط اعتقد ان محمد خلف قد بدا
عشمي ان تظهر البداية في مستوى ( التشظي ) اللغوي ونقرأها كلمات مسطورة
اما حال كلامه فوق مستوى الحقيقة فقد كان قبل ميلاده وقبل التواضع الآدمي على معنى الزمن و المكان

شكرًا خلف على البداية
شكرًا عادل
شكرًا الصادق
شكرًا منصور

أظن ان الشيخ الأكبر هو من قال :
( ان لكل نهاية بداية وليست لكل بداية نهاية )



والله اعلم
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وإلى هذا التقرير القصير والمثير من محمد خلف:


المذيع التلفزيوني المخضرم ديفيد أتنبرا يرتادُ آفاقاً جديدة من السَّرد عبر تقنية "الواقع الافتراضي"

نشرت اليوم صحيفة "الجارديان" البريطانية تقريراً تحت عنوان: "المذيع التِّلفزيوني وعالم الطَّبيعة المخضرم، ديفيد أتنبرا، ومنتجُ برنامج ’إنتاج أطلسي‘ الطَّليعي يرتادان آفاقاً جديدة للسَّرد بغوصهما عميقاً داخل تيار ’الواقع الافتراضي‘". وتحدَّثت كاتبة التقرير ماغي براون عن تجربتها في مشاهدة الثَّواني القليلة الأخيرة من برنامج "الحياة الأولى"، وهو عبارةٌ عن تجربةٍ رائدة في استخدام تقنية "الواقع الافتراضي" لسردِ قصةِ العالَمِ الطَّبيعي، وهو برنامجٌ يرويه أتنبرا، ويتمُّ عرضه في الأستوديو التَّعليمي لمتحف التَّاريخ الطَّبيعي بجنوب كنسينجتون بلندن، الذي سُمِّي باسمه، احتفاءً بشهرته التي طبَّقت الآفاق. ويُعيدُ برنامج "الحياة الأولى" المحيط الكمبري مضاءً بنورِ شمسٍ ساطعة، وهو المحيطُ الذي انبثقت فيه الحياةُ فجأةً، فيما أصبح يُعرف بـ"الانفجار الكمبري"، وذلك قبل 540 مليون عام، استناداً على مُستَحجَراتٍ أُحفورية جمعها عالمُ المُتحجِّرات البارز بالمتحف، دكتور غريغ إدجكومب.

وقد لفت نظري إشارةُ الكاتبة إلى "أنومالوكيريس" (ذات الخرطومين البائنين)، على الرَّغم من هفوتها الإملائية الصَّغيرة، إذ كتبتها "أمالاكيريس"؛ هذا إضافةً إلى تثبيتها صورةً فوتوغرافية باهرة في نهاية التَّقرير لـ" أوبابينيا" (ذات الأعينِ الخمس)، وهما النُّموذجان الأكثر سطوعاً -في نظري- لعصرِ المفصلياتِ ثلاثيةِ الفصوص، التي تضاهي في أهميتها عصر الدِّيناصورات؛ فقلتُ أُشركُ قراءَ "رسالتي إلى عادل القصَّاص" ومتابعي هذا الرُّكن معي في مشاهدةِ هذه المادَّة البصرية الرَّائعة. ولفائدتهم جميعاً، أرفق أدناه تقرير "الجارديان" كاملاً.

David Attenborough and producer dive deep into potential of VR
TV veteran’s latest venture with pioneer Atlantic Productions for the Natural History Museum breaks new ground in storytelling


https://www.theguardian.com/media/2015/j ... ory-museum
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس أكتوبر 01, 2015 9:29 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهنا يُقَدِّمُ محمد خلف لحلقاتٍ قادمة يتناول فيها قِصَّة بقاء الإنسان حيَّاً إلى جانب الكائنات الأخرى:



كيف نحكي قصَّة بقائنا مع الكائنات الأخرى المتبقية على قيد الحياة؟

-الحلقة الأولى-




أكَّدنا في مشاركةٍ سابقة حقَّنا في أن نقصَّ أقاصيصَ، وإنْ كان ينقصُها حُسنُ التخلُّصِ من قيدي الزَّمان والمكان؛ وقلنا إنه في مجال الحقيقة، يحقُّ لنا أن ننسجَها عن واقعٍ فعليٍّ أو متخيَّل، حتى ولو لم نمسك بكلِّ خيوط السَّرد؛ وأمَّا في مجال الحقِّ، فما علينا إلا الاعتقاد بما جاء في القصص المُنزل، واتِّباع أحسن ما أُنزل علينا. فكيف يتسنَّى لنا إذاً سردُ قصَّةِ بقائنا الفعليِّ على قيدِ الحياة، إلى جانبِ ما تبقَّى من كائناتٍ شتَّى على ظهرِ هذه البسيطة؟

في عام 1999، كتب الصَّحفيُّ البريطاني ماثيو (مات) وايت رايدلي "سيرةً ذاتية" للجينوم البشري، صاغها في 23 قصَّة، على إثرِ اكتشافِه لأولِ مرَّةٍ من قبل العلماء بصورةٍ مفصَّلة، كروموسوماً على إثر كروموسوم، في السَّنوات الأخيرة من القرن العشرين؛ وقد جعل كلَّ قصَّةٍ تدورُ حول جينةٍ (وحدةٍ وراثية) تمثِّلُ داخل كلِّ كروموسوم جانباً من جوانب الطَّبيعة البشرية. ويتكوَّن كتابه، الذي اختار له اسم "الجينوم"، من 23 فصلاً، مرقَّماً وفقاً لحجم الكروموسوم، بدءاً من الأكبر، وهو زوجُ الكروموسوم رقم 1، وانتهاءً بالأصغر وهو زوجُ الكروموسوم رقم 22؛ أمَّا الكروموسومان الجنسيان (X) و(Y)، فقد وضعهما بعد الكروموسوم رقم 7، وهو الموقع المناسب للكروموسوم الجنسي الأكبر (X) للإناث، في حين أن الكروموسوم الجنسي الأصغر (Y) للذُّكور هو أصغرُ الكروموسومات. لذلك، ولا عجبَ رقم إثباتنا لعلامته، فإن الفصل رقم 23 من الكتاب يحمل عنوان الكروموسوم رقم 22!

وفي عام 1975، نشر الكيميائي الإيطالي بريمو ليفي مجموعةً قصصية، تحت عنوان: "الجدول الدَّوري للعناصر الكيماوية"، تحمل كلُّ قصَّةٍ من المجموعة -وعددُها 21 قصَّة- اسمَ عنصرٍ من العناصر الكيماوية كان له أهميةً قصوى في مسيرةِ حياته التي ابتدأت بالعيش داخل مجتمعٍ مغلق "غيتو" في إيطاليا، ومواجهةِ الحكم الفاشي، ومرارةِ الحبسِ في معسكرَيْ فوسولي دي كاربي (الفاشي) بإيطاليا وآوشفيتز (النَّازي) ببولندا، إلى أن انتهت في فترةِ ما بعد الحرب العالمية الثَّانية، حيث عمِل خبيراً في مجال الكيمياء الصِّناعية. على سبيل المثال، حمل الفصلُ الأول اسمَ عنصرِ "الأرغون"؛ والثَّاني "الهايدروجين"؛ والثَّالث "الزِّنك" أو الخارصين؛ ثم "الحديد" و"الرَّصاص" و"الذَّهب"؛ إلى أن يختم بعناصر "القصدير"، "اليورانيوم"، "الفضَّة"، "الفاناديوم" و"الكربون".

فكيف يمكن لنا أن نقصَّ نشأةَ الكون، إذا لم نتسلَّح بعلمِ الفيزياء الحديث؛ أو نسردَ عملية تكوين العناصر، إذا لم نحذق أسرارَ الكيمياء؛ أو نحكي قصَّة بقائنا مع الكائنات الأخرى المتبقِّية على قيدِ الحياة؛ إذا لم نطَّلع على سيرةِ تشارلس دارون وألفريد رسل واليس، هذا إنْ لم نقل جان-باتيست لامارك أو غريغور ميندل؛ أو تنبنَّى بشكلٍ جزئي، في مجال الحقيقة، قدراً من تصوُّراتهم التَّأسيسية، التي يقوم عليها علمُ الأحياء الحديث؟



سنحاولُ بدءاً من الحلقة القادمة التَّعرض إلى بعض العقبات التي تعترض طريق تفهُّمنا لعلم الأحياء الحديث، وسنحاولُ أيضاً – وربما بمشاركةٍ فاعلة من المتابعين لهذا الرُّكن – اقتراحَ بعض الحلول التي تمهِّد الطَّريقَ لجيلٍ قادمٍ من العلماءِ والقصَّاصين.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه حلقة خاصة عن سردية علم الوراثة (الجينيِّ) التَّنبؤيِّ الجديد، وهي -بالطبع- امتدادٌ لتأملات محمد خلف عن علاقات السرد داخل حقل العلوم الطبيعية، وغيرها، كما أشار لذلك في بداية الرسالة:



سردية علم الوراثة (الجينيِّ) التَّنبؤيِّ الجديد


في عام 2005، نشرت مونيكا كونراد، الباحثة في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، كتاباً تحت عنوان: "سردية علم الوراثة التَّنبؤيِّ الجديد: علمُ الأخلاق، الأنثروبولوجيا الوصفية والعلوم الطَّبيعية"؛ وهو كتابٌ يطرحُ في المقام الأول قضايا تهمُّ العالم الغربي المتطوِّر، إلا أنني ارتأيت إشراكَ قُرَّاءِ رسالتي إلى عادل القصَّاص من متابعي هذا الرُّكن في هذه الحلقة الخاصَّة، لثلاثةِ أسبابٍ، هي أولاً: ليس للتَّدليل فقط على شمولية السَّرد، وإنما لكي لا يظنُّ ممارسٌ لأيٍّ من مبادئ المعرفة التي لم نتطرَّق إليها بعد بأنه بمنأًى عن هيمنة السَّرد أو نفاذه إلى كافَّةِ الحقول المعرفية؛ وثانياً: لصلة الموضوع بالجينوم البشري، الذي تحدَّثنا عنه في مشاركةٍ سابقة، وللتَّسلُّل من خلال متابعة الغرب للمراحل الأولى من الاستفادة منه إلى إدراكِ ما يكون عليه الحال حينما تتطوَّر وسائلُ البحث لتغطي الصِّلات المتشابكة للجينات داخل الجينوم البشري، والتي لن تستبعد أحداً مهما نأى أو تباطأت وسائلُ اكتسابه للمعارف الجديدة؛ وثالثاً، وهو الأهم بالنِّسبة لموضوعنا، للتَّعرُّف على طبيعة التَّشظِّي داخل العلوم الاجتماعية.

تناولت الكاتبة بعض الأمراض الوراثية التي تسبَّبتِ اختباراتُها الجينية الحديثة في تغيير شكل العلاقة بين علمَي الأخلاق والطِّب. فقد وفَّرت تلك الاختبارات معلوماتٍ تشخيصيةً وتنبؤيةً دقيقة، مما أثار قضايا ذات أهميةٍ قصوى في الغرب، تتعلَّق بفكرة القبول، الخصوصية، واستخدام المعلومات السِّرية من قبل أفراد الأسرة والأطراف الأخرى. وقد ركَّزت الكاتبة على داء هنتنغتون (إتش دي)، الذي أصابتِ الاختباراتُ الجديدةُ بإزائه نجاحاتٍ باهرة، لارتباطه بمنطقةٍ محدَّدة للحامض النَّووي الرِّيبي منقوص الأكسجين (دي إن إيه) داخل الذِّراع القصيرة للكروموسوم رقم 4؛ أمَّا الاختبارات التَّنبؤية لحالات الأمراض المرتبطة بعدَّة جينات داخل الجينوم، فهي غير متوفرة في الوقت الرَّاهن لدى الباحثين البارزين في هذا المجال.

يُعتبر داء (إتش دي) أولَ حالةٍ للأمراض العصبية-الانتكاسية التي ينجحُ معها الاختباراتُ الجينية التَّنبؤية، التي أصبحت متوفِّرة مع نهاية الثَّمانينات. وهو مرضٌ نادر يُصيبُ الجهاز المركزي العصبي، ويتسبَّب في حدوث الحركات اللاإرادية والخرف التَّدريجي، ولا يوجد حالياً أيُّ علاجٍ معروف ومتوفِّر لهذا المرض. ويُصيبُ المرضُ عادةً الأشخاص في منتصف العمر، وأحيانا الأطفال؛ لذلك، فإنه يُشار إليه باعتباره مرضاً متأخِّرَ الظُّهور. ويستمر المرض لفترةٍ تتراوح بين عشرةٍ وعشرين عاماً. وقد يشهد المصابون بالمرض تغييراتٍ في شخصياتهم، قد تشمل التَّهوُّر، والنِّسيان، والاكتئاب، والسُّلوك العنيف. أمَّا من ناحيةٍ جسدية، فقد يعاني المريض من الفقدان التَّدريجي للنُّطق، والتَّدهور العام في القدرة على تأدية ردود الأفعال اللاإرادية، لدرجةٍ يصعُبُ معها بلعُ الرِّيق، مما يؤدِّي أحياناً إلى الموتِ اختناقاً.

بما أنه أصبح من السَّهل اكتشافُ كثيرٍ من الحالات، نتيجةً لتركيز الاختبارات على جينةٍ واحدة داخل الكروموسوم رقم 4، رغم إحجامِ عددٍ كبيرٍ من الأشخاص عن إجراء الاحتبارات، فقد تنامى عددُ المشخَّصين بالمرض، بل أن بعضهم قد تمَّ تشخيصه بالمرض قبل ميلادهم، مما أثار عدَّة مسائل حيوية ترتبط بمهنة الطِّب وعلم الأخلاق. وقد ارتبطت الباحثة بعددٍ من أسر المرضى والتَّنظيمات الأهلية العاملة في مجال التَّعريف بالمرض، وجمع التَّبرعات الخاصة بتطوير البحوث المتعلقة بهذا المجال. وقد حرصت الباحثة الأنثروبولوجية على إبراز سرديات أسر المرضى، والأفراد المشخَّصين بصورةٍ قبلية بالمرض، وما يطرحه ذلك من مسائلَ أخلاقيةٍ مرتبطة باستخدام المعلومات حول المرضى أو المشخَّصين مُسبقاً بالمرض، سواءً تعلَّق ذلك بمسألة القبول أو حماية الخصوصية؛ كلُّ ذلك في مقابل مبدأ حرية توفُّر المعلومات، وحقِّ مؤسَّسات الدَّولة في جمعها، ونشرِ الإحصائيات، ووضعِ السِّياسات الخاصة باحتواء المرض وعلاجه.

واجه علمُ الأنثروبولوجيا الكلاسيكي -بشقيه الثَّقافي والاجتماعي- صعوباتٍ منهجية في جمع المعلومات عن المجتمعات "البدائية"، كما واجه معضلاتٍ أخلاقية في استخدامها لأغراضِ البحث أو الإثارة الغرائبية. على سبيل المثال، لقي إدوارد إيفانز-بريتشارد صعوبةً جمَّة في فهم صناعة السِّحر عند الزَّاندي، وكان يدخل في جدالٍ لا ينقطع مع المخبرين المحليين في محاولته لفهم الظَّواهر الاجتماعية لدى قبيلتهم؛ وما درى أن البنية المفهومية أو الجهاز الإدراكي لكلٍّ من الباحث والمخبر يتدخَّلان بصورةٍ ما -وأحياناً حاسمة- في توجيه الوصف "الموضوعي" للظَّاهرة أو الظَّواهر التي تشْخَصُ أمامهما؛ وحتى حينما فهم إيفانز-بريتشارد استخدامَ الاصطلاحات الزَّاندية، واستطاع التَّدرُب على توصيف الظَّواهر اعتماداً على مركزية السِّحر، لم يتوفَّق في إخراجِ نسخةٍ مُستساغة وخالية من الإثارة أو التَّجريح. وحتى تاريخ اليوم، يصعُبُ التَّفريقُ الحاسم بين النَّهج "الموضوعي" لطرح القضايا والنَّبرة الاستعلائية أو الغرائبية التي تتسلُّل إلى عبارات الوصف، فتطعنُ في نزاهته. يمكن مراجعة التَّقرير الذي نشرته صحيفة "الدِّيلي تلجراف" يوم الأحد 5 يوليو 2015 تحت عنوان: "حبس الأطفال المُهُق (بتنزانيا) في ملجأ آمن خشيةً من الأطباء السَّحرة" لتوضيح هذه المعضلة المعرفية والأخلاقية.

أما علم الأنثروبولوجيا المعاصر، ممثلاً في كتاب "سردية علم الوراثة التَّنبؤيِّ الجديد"، فإنه يعاني من نفس مشكلة التَّشظِّي؛ وإذا كانت هذه المشكلة قد اتَّخذت شكلَ صدعٍ بين الباحث الأجنبي والمخبر المحلي، كما هو الحال عند إيفانز-بريتشارد، أو شكلَ صدعٍ في خيارات الباحث وغواياته عبر الملاحظة اللَّصيفة بالمشاركة الطَّويلة، كما هو الحال عند برونسيلاف مالينوفسكي (جزر تروبرياند بميلنيزيا)، فإنها اتَّخذت في هذا البحث الأنثروبولوجي المعاصر شكلَ صدعٍ بين الإحصاءات الحكومية التي تتحدَّث بلغة الأرقام لفرضِ الرُّؤى "العلمية" والسِّياسات الصِّحية والاجتماعية من جانب، وسرديات أسر المرضى والمشخَّصين مُسبقاً بالمرض من جانبٍ آخر، والتي لا تعكس معاناتهم فقط، وإنما تبرز أيضاً أنشطتهم، التي تشمل انخراطهم في العمل الخيري للتَّعريف بالمرض، والمشاركة في جمع التَّبرعات التي تساهم في تطوير البحوث المؤدِّية لاكتشاف العلاج أو استئصال شأفة المرض.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس أكتوبر 01, 2015 9:31 am، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

حذف للتكرار
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

هنا يواصل محمد خلف سرد ملحمة بقاء الإنسان حيَّاً إلى جانب الكائنات الحيَّة الأخرى:



كيف نحكي قصَّة بقائنا مع الكائنات الأخرى المتبقية على قيد الحياة؟

-الحلقة الثَّانية-



وعدنا في الحلقةِ السَّابقة بالتَّعرُّضِ لبعضِ العقباتِ التي تعترضُ طريقَ تفهُّمنا لعلم الأحياء الحديث، واقتراحِ بعض الحلول التي تمهِّد الطَّريق لجيلٍ قادمٍ من العلماء والقصَّاصين. وسنبدأ بالإشارة إلى ثلاثِ عقباتٍ رئيسية، قبل تقديمِ اقتراحاتٍ ببعضِ الحلول. تتمثَّل العقبة الأولى في تأطير العلاقة بين العلم والدِّين؛ وتتعلَّق الثَّانية بالإجراءات المتَّبعة بهدف الانتصار لأيٍّ من الطَّرفين داخل العلاقة المؤطَّرة؛ أمَّا العقبة الثَّالثة، فتختصُّ بصياغة المفاهيم الرَّئيسية المرتبطة بعلم الأحياء.

يقول المفكِّر الإسلامي سيِّد قطب في مقدِّمة كتابه "في ظلال القرآن": "إن هناك عصابة من المضلِّلين الخادعين أعداء البشرية. يضعون لها المنهج الإلهي في كفَّة والإبداع الإنساني في عالم المادَّة في الكفَّةِ الأخرى؛ ثم يقولون لها: اختاري!!! اختاري إمَّا المنهج الإلهي في الحياة والتَّخلِّي عن كلِّ ما أبدعته يدُ الإنسان في عالم المادَّة، وإمَّا الأخذُ بثمارِ المعرفة الإنسانية والتَّخلِّي عن منهج الله!!! وهذا خداعٌ لئيمٌ خبيث. فوضعُ المسألة ليس هكذا أبداً.. إن المنهج الإلهي ليس عدواً للإبداع الإنساني. إنما هو منشئٌ لهذا الإبداع، وموجِّهٌ له الوجهة الصَّحيحة.. ذاك كي ينهض الإنسانُ بمقامِ الخلافة في الأرض".

لا نختلف جوهرياً مع قول قطب حول الخطأ النَّاتج عن تأطير العلاقة بين المنهج الإلهي والإبداع الإنساني، إلا أننا نتحفَّظ على استخدام عبارة "عصابة من المضلِّلين الخادعين"، إذ إنها تهجسُ بنظرية المؤامرة التي توحي بأن هناك مجموعةً من الأشرار تعمل بليلٍ للإضرارِ بالبشرية، وكأنَّهم ليسوا بطرفٍ منها؛ كما أننا نختلف مع الاستخدام الاستعاري للكفَّتين التي تتضمَّن فكرة الموازنة التي تحتاجُ إلى طرفٍ ثالثٍ لإصدار الحكم بصددها؛ كما نأسفُ أيضاً لخلو الحُجَّة من إقامةِ دليلٍ على علاقةٍ لا يشوبها خللٌ منطقي.

لم ينتُجِ "الخطأُ" في تأطير العلاقة بين العلم والدِّين بسببٍ من أن هناك مجموعةً من الأشرار تعمل بوعي على تحقيق ما تريد أو لأن فئةً أخرى من ذوي النِّيات الحسنة لا تدرك ما تقدِمُ على الإتيانِ به بوعيٍ شاملٍ وعميق، حسب ما ذكر قطب في فقرةٍ تالية؛ كلُّ ما في الأمر أن هناك عاداتٍ فكرية خاطئة، أرساها رينيه ديكارت في الفكر الأوروبي السائد في العصر الحديث، حين زعم بأن هناك جوهرين، فسعى كلُّ طرفٍ إلى استبعادِ الآخر؛ وما يُرسِّخُ هذا التَّقليدَ المعرفيَّ التَّليد أن الطَّرفين لا يتباعدانِ في "كفَّتين" تنشأ بينهما مسافةٌ تحفظ استقلاليةَ أيٍّ منهما، بل يدخلانِ في "مواجهةٍ" قائمةً على التَّنافي، يسعى فيها كلُّ طرفٍ إلى تصفية الآخر أو إبعاده. في مقابل هذه المواجهة الأفقية التَّناحرية، يأتي تصوُّرُنا لعلاقةٍ رأسيةٍ سلمية قائمةً على التَّنزيلِ من علٍ، وليس المنازلة؛ فالعلاقة بين الحق (الدِّين المُنزل) والحقيقة (العلم بكلٍّ فروعه)، لا تقومُ على التَّكافؤ (الذي يستدعي الاستخدام الاستعاري للكفَّتين) أو النِّدية (التي تسوِّغُ فكرة النِّزال)، وإنما تقومُ على اللَّاتماثل (فالحقُّ ليس كمثله شيء).



سنخصِّصُ، بإذن الله، حلقةً منفصلة للإجراءات المتَّبعة بهدف الانتصار لأيٍّ من الطَّرفين داخل العلاقة المؤطَّرة بين العلم والدِّين؛ كما سنخصِّص أخرى لصياغةِ المفاهيم الرَّئيسية المرتبطة بعلم الأحياء، توطئةً لمعرفة الكيفية التي يمكن أن تُنتج بها سردياتٌ متوازنة حول بقائنا مع الكائنات الأخرى على قيد الحياة.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في هذه الحلقة، يعطي محمد خلف عرضاً موجزاً للصراع الدائر بين مناصري تدريس نظرية دارون ومعارضيها في المؤسسات التعليمية الغربية، تمهيداً للحلقة القادمة التي يواصل فيها خلف سرد قصة بقائنا، إلى جانب الكائنات الأخرى، أحياء:



كيف نحكي قصَّة بقائنا مع الكائنات الأخرى المتبقية على قيد الحياة؟

-الحلقة الثَّالثة-




تتخذُ الإجراءاتُ المتَّبعة في الصِّراع التَّناحري بين علم الأحياء الحديث والدِّين عدَّة أشكال، تتراوح بين التَّجاهل السِّلبي والمواجهة المكشوفة. على سبيل المثال، اشتكى عالمُ الأحياء البريطانيِّ المُلحِد الذَّائع الصِّيت، ريتشارد دوكنز، من أن الفلسفة و"العلوم الإنسانية" يتمُّ تدريسها كما لو أن دارون لم يعِش على ظهرِ هذه الأرض؛ وقد ردَّد أستاذُ علمِ الأعصاب البرتغالي الأمريكي الشَّهير، أنتونيو داماسيو، قول دوكنز بأن العلوم العصبية والمعرفية تمضي في حال سبيلها، وكأنَّ دارون لم يكن. في المقابل، تميل بعضُ الحكومات في سياساتها التَّعليمية إلى منعِ مناقشة الأدلَّة المُقدَّمة لدعمِ نظرية دارون، خصوصاً في توليفتها الحديثة التي تضمُّ علمَ الوراثة، والتي أصبحت هي الصِّيغةُ العلميةُ السَّائدة منذ الأربعينات من القرن الماضي.

من الجانب الآخر، يسعى بعضُ النَّاشطين، وعلى رأسهم دوكنز والكاتبة والصَّحفية الكوميدية البريطانية إيرين شراين، إلى استفزاز الرَّأي العام والمؤسَّسة السِّياسية البريطانية لعملِ شيءٍ بخصوص ما يرَونه تجاهلاً للنَّتائج والمكتسبات "العلمية"؛ ففي 21 أكتوبر 2008، أطلقت "الجمعية البريطانية الإنسانية" حملةً تحت اسم "حملة الحافلة الإلحادية"، انتهت في 11 أبريل 2009، وتبعتها حملاتٌ شبيهة في أوروبا والولايات المتحدة وكندا وروسيا. وفي بريطانيا، اعتلى دوكنز وشراين متنَ حافلةٍ كُتب على جانبيها شعارٌ يدَّعي القولَ: "من المرجَّح أنه لا يوجد هناك إله. دعِ القلقَ الآن وتمتَّع بحياتك"؛ وكأن لسانَ حالِهم يقول: "إنْ هيَ إلا حياتُنا الدُّنيا نموتُ ونحيا وما نحنُ بمبعوثين" (سورة "المؤمنون"، الآية رقم 37).

لا تُخفي كثيرٌ من الحكومات رغبتها في تحجيمِ تدريس نظرية دارون. وخلافاً لإصدارِ التَّشريعات الحكومية الخاصَّة بمنع مناقشة الأدلَّة، تعترضُ كثيرٌ من الطَّوائف المسيحية بشدَّة على الإجماع الذي ترسَّخ وسط فئة العلماء. صحيحٌ أن البابا يوحنا بولس الثَّاني قد قال في عام 1996، في محاولةٍ منه لإيجادِ طريقٍ وسطٍ بين العلم والدِّين، إن تحوَّلات الرُّوح الإنسانية أثبتت أن هناك "قفزةً أنطولوجية"، أي أن هناك "انقطاعاً أنطولوجياً" بين الإنسان وسائر الحيوانات. ومع محاولته هذه، وبالرَّغم من أن المحكمة الدُّستورية العليا للولايات المتحدة قد قضت بعدم دستورية تدريس نظرية الخلق، فإن كثيراً من الجماعاتِ الدِّينية تسعى إلى تدريسها إلى جانب الدَّاروينية.

إلا أن الحدث الأبرز هو أن جماعاتٍ دينية في عددٍ من البلدان، من بينها الولايات المتحدة، تقودُ حملةً لتقديم نظرية "التَّصميم الذَّكي" كتفسيرٍ بديل لنظرية داروين. وتبدو هذه النَّظرية في مظهرها الخارجي البرَّاق وكأنها نظريةٌ علمية بديلة، لكنها في واقع الأمر نسخةٌ غيرُ متقنةٍ للحُجَّةِ الغائية التي قدَّمها ويليام بيلي في بداية القرن التَّاسع عشر. وقد اقتنع بها دارون في بادئ الأمر، إلا أن بُطلانها قد ظهر له لاحقاً، فتخلَّى عنها، وصاغ بدلاً عنها نظرية الانتخاب الطَّبيعي. وقد سخِر منها في العصر الحديث ريتشارد دوكنز في كتابه الموسوم: "صانع السَّاعات الأعمى".

وما يُضعفُ حُجَّة بيلي أن عناصرها موجودةٌ في الطَّبيعة أصلاً. وتتلخَّص حُجَّتُه في أنك إذا كنت ماشياً فوق أرضٍ غير مزروعة، ووجدت ساعةَ يدٍ مُلقاةً على الأرض، فإنك لن تظنَّ بأن مكوِّناتها قد تمَّ تركيبُها مصادفةً، لأنها في غاية التَّنظيم والتَّعقيد؛ إذاً، لا بد أن يكون أحدُهم قد صمَّمها، وإلا فلن تعمل بصورةٍ جيِّدة؛ ولأن الكونَ منظَّمٌ ومعقَّدٌ، فلا بد أن يكون أحدٌ قد قام بتصميمه؛ وهذا "الأحدُ" هو اللهُ الأحد. إن سبك الحُجَّة هو الذي أدار رأسَ دارون أولَ مرَّةٍ؛ ولكن ضعفَها بيِّنٌ كحُجَّةٍ فلسفية، بل تصلُح في الإقناع البلاغي، وهو أسلوبٌ مقبولٌ ومتَّبع، لكنها لا تصمدُ أمام قوة المنطق. لذلك، يحترزُ القرآنُ لمثلِ هذا التَّدقيق بالحديث عن النَّشأةِ ابتداءً: "قُلْ يُحييها الذي أنشأها أولَ مرَّةٍ وهو بكلِّ خَلقٍ عليمٌ" (سورة "يس"، الآية رقم 79)؛ والنَّشأة الأولى: "ولقد علمتُمُ النَّشأةَ الأولى فلولا تذكَّرونَ" (سورة "الواقعة"، الآية رقم 62)؛ وتأكيد النَّشأة تأكيداً بلزوم الفعل لمفعوله المُطلق: "إنَّا أنشأناهُنَّ إنشاءً" (سورة "الواقعة"، الآية رقم 35)؛ ثم هو الذي يُنشئ النَّشأةَ الأخرى: "قُلْ سِيرُوا في الأرضِ فانظُرُوا كيف بدأَ الخَلقَ ثمَّ اللهُ يُنشئُ النَّشأةَ الآخِرةَ إنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ" (سورة "العنكبوت"، الآية رقم 20).



سنتطرَّق، بإذنِ الله، في الحلقة القادمة لصياغةِ المفاهيم الرَّئيسية المرتبطة بعلم الأحياء، والصُّعوباتِ الجمَّة التي يصادفها المطَّلعون عليها في صورتها المترجمة أو المعرَّبة، قبل انتقالنا للموضوع الأساسي لهذه الحلقة، وهو السَّعيُ لإنتاجِ سردياتٍ متوازنة حول بقائنا مع الكائنات الأخرى على قيدِ الحياة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

إلى الحلقة الرابعة من عرض وفحص محمد خلف لقصة بقائنا أحياء:


كيف نحكي قصَّة بقائنا مع الكائنات الأخرى المتبقية على قيد الحياة؟

-الحلقة الرَّابعة-



تحاشينا في الحلقةِ السَّابقة الإشارةَ بشكلٍ مباشر إلى مفهوم الـ"إيفَلوشن"، واستعَضنا عنه بـ"نظرية دارون" و"الدَّارونية"، وذلك لأن تشارلس دارون نفسه لم يستخدم هذا المفهوم في كتابه الرَّئيسي "أصل الأنواع"، وإنْ أشار في آخرِ جملةٍ منه إلى فعلِ ماضٍ مُشتقٍّ من جذر الصِّيغة الصَّرفية للمفهوم، وهي "إيفُولفد"؛ في مقابل ذلك، استخدم دارون عبارة: "تحدُّرٌ (أي من سلالة) مشتملاً على تعديل (أو مع تعديل)"؛ إلا أنه تأثَّر لاحقاً بالنِّقاشات التي أعقبت صدور الكتاب، فقبل المصطلح وأدخله في كتاباتٍ لاحقة، مثل كتابه المشهور: "تحدُّر الإنسان". وقد تخلَّل كتاب "أصل الأنواع" عدَّةُ جملٍ تسمح بقراءة المفهوم وكأنه مرتبطٌ بفكرة التَّقدُم، إلا أن المفهوم نفسه لا يحمل هذه الدَّلالة، إذ من الممكن، كما يستشهد بذلك عددٌ من علماء علم الأحياء، أن تشتملَ حياةُ جُرثومٍ في أعماقِ المحيطات على تعديلاتٍ وراثية أكبر بما لا يُقاس من تلك التي تحدُثُ لكائنٍ آخرَ يعيشُ على ظهر اليابسة، من دون أن يعني ذلك أن الأخيرَ أقلَّ "تطوُّراً" أو أنه أحرز قدراً ضئيلاً من "الارتقاء" و"التَّقدُم"، بالمقارنةِ معه.

يُثير هذا الوضعُ المذكور نقاشاً معافًى حول صياغة المفاهيم الرَّئيسية المتعلِّقة بعلم الأحياء، مما يوفِّر مناخاً صالحاً لنقدها وتطويرها. في المقابل، نجد أن ترجمة إسماعيل مظهر لكتاب "أصل الأنواع" (نستخدم هنا الطَّبعة الثَّانية عن مؤسَّسة "التَّنوير للطِّباعة والنَّشر" لعام 2012، علماً بأن الطَّبعة الأولى منه قد صدرت في عام 1918) قد أُرفقت بعنوانٍ جانبيٍّ هو "نظرية النُّشوء والارتقاء"، كما جاء العنوان الكامل في أعقاب المقدِّمة على النَّحو التَّالي: "أصل الأنواع – وتطوُّرُها بالانتخاب الطَّبيعي وحفظ السُّلالات المخبوءة في التَّناحر على البقاء". وليس المهم أن النُّسخة الأصلية من كتاب "أصل الأنواع" قد خلت من العناوين الجانبية، وإنما الأهم أن إضافتها في التَّرجمة العربية تُلزم بفهمٍ محدَّد، في حين أن الوضعَ الذي أشرنا إليه في الفقرة الأولى يصلُح تماماً لنقد المفاهيم وتجديدها.

يُستحسنُ دائماً عند ترجمة المفاهيم الواردة في نصوصٍ أجنبية البحثُ عن الجذر الثُّلاثي (أو الرُّباعي إنْ تعذَّر ذلك) للكلمة المُراد ترجمتها، ومن ثمَّ إيراد الصِّيغة الصَّرفية المناسبة لذلك، مع مراعاة اللُّغة المُستهدف النقلَ إليها، والانتباه إلى ثقافة أهلها، إنْ أُريدَ للكلمةِ المُترجَّمةِ رواجٌ من غير عوائقَ معرفيةٍ أو ثقافية؛ فمن ناحية، توفِّر الصِّيغة الجذرية إمكانياتٍ واسعة للاشتقاق، بينما يضمنُ الاحترازُ استقبالاً حسناً للكلمات والعبارات المنقولة من لغةٍ أخرى. ففي بداية القرن العشرين، تمَّ نقل كلمة "سوشاليزم" عبر الجذر الثُّلاثي لمادَّة [ش. ر. ك.]؛ ولا يخفى على أحدٍ إمكانية تحوير العبارة لتحمل دلالة الشِّرك المُنَفِّرة دينياً، بينما كان من الممكن أول مرَّةٍ أن تُنقل من مادَّة [ج. م. ع.]، لتُشير إلى دلالات الإجماع، والجمعية، والمجتمع، والجمعة، وبقية الاشتقاقات المقبولة ثقافياً؛ علماً بأن المصطلح المنقول ليس واضحَ الدَّلالة، وإنما رَسَخَ في الأذهانِ فقط لكثرةِ تكرارِه، وتداولِه عبر مؤسَّسات النَّشر والبثِّ التي ساهمت في انتشاره؛ وكان من الممكن للبديل المقترح أن يلقى نفس الرَّواج، إذا اتُّبعت معه نفسُ الآليات.

أما مصطلح "إيفَلوشن"، الذي ينقله غوغل إلى "تطوُّر"، "تحوُّل"، "نشوء"، "نمو" و"تقدُّم"، والذي يُعبِّرُ بلسانٍ زلق عن الرَّبكة الاصطلاحية، فإننا لا نقول إنه قد فات الأوان لإنقاذه من "فوضى المُصطلح"، وإنما سنسعى لتقديمِ إصلاحٍ بالسِّباحة عكس التَّيار السَّائد، فلربما يحمِلُنا ريحٌ طيِّبٌ قادمٌ من الجامعات ومعاهد البحث العلمي، أو يلتقطنا صحفٌ سيَّارة واسعةُ الانتشار، أو يعمُّ أمرُنا، بقدرةِ قادرٍ، عبر الإنترنت. وما نقترحه بصدد هذا المفهوم، هو نقله مجدَّداً إلى العربية، بالاعتمادِ على الجذر الثُّلاثي لمادَّة [د. و. ر.]، على أن يتمُّ اختيار الفعل الماضي الثُّلاثي مضموم العين (فَعُلَ)، ليكون أساساً للاشتقاق، إذ إنه فِعْلٌ لازمٌ يختصُّ في صيغته هذه بالأفعال الدَّالة على طبائع الأشياء، مثل حَسُنَ، وصَغُرَ، وكَبُرَ، وقَصُرَ، وطَوُلَ، وسَهُلَ، وصَعُبَ؛ وعليه، يكون دَوُرَ، فعلُنا الجديد، مُعبِّراً عن كلِّ ما يدوُر من تلقاء نفسه، وهو جوهرُ دلالة مفهوم التَّدَوُّرِ الدَّاروني، إضافةً إلى قُربِ دَلالته من الجذر اللَّاتيني.

كما يمكن أيضاً -بدلاً من الثُّلاثي المجرد- أن نختارَ جذراً رباعياً مزيداً بالنُّون، هو دَوْرَنَ (فَعْلَنَ)، مثل علمن، وعقلن، وشرعن؛ فيكونُ صيغتُه الصَّرفية الاشتقاقية هي دَوْرَن، يُدَوْرِن، دَوْرَنَةً أو تَدَوْرُنَاً؛ باعتبارها بديلاً اختيارياً لاشتقاق الثُّلاثي (فَعُلَ)، وهو دَوُرَ، يَدْوُرُ، دِوَرَاً أو تَدَوُّرَاً. وفي هذه الحالة، تكونُ خياراتنا الأربعة لنقل المفهوم الدَّاروني الرَّئيسي إلى العربية هي: الدَّوْرَنَة، والتَّدَوْرُن، الرُّباعيين (المَزِيدَيْن)؛ إلى جانب الدِّوَر والتَّدَوُّر، الثُّلاثيين (المُجرَّدَيْن). ومن ميزات الصِّيغة الرُّباعية المزيدة أنها تسمح بإجراء القلب، وهو ظاهرةٌ لسانية مُنتشرة في كلِّ اللُّغات البشرية، فتُصبح الدَّرْوَنَة أو التَّدَرْوُّن هما صيغتان مُعَرَّبَتَانِ ودالَّتان، لإشارتهما من جهةِ الدَّال اللُّغوي إلى دارون، مبدعِ هذا المفهوم، في مجالِ الحقيقة؛ وليس هو أولُ من أنشأه، بالاستنادِ إلى الحق.

وبالاستنادِ إلى الاشتقاق المتضمَّن في صياغتنا الجديدة للمصطلح، يمكن إعادة كتابة آخر الفقرة الأخيرة من ترجمة إسماعيل مظهر لكتاب "أصل الأنواع"، لتُصبحَ على النَّحو التَّالي:

"إن هناك جمالاً وجلالاً في هذه النَّظرة عن الحياة بقواها العديدة التي نفخها الخالقُ لأولِ مرَّةٍ في عددٍ قليلٍ من الصُّور أو في صورةٍ واحدة، وإنه لبينما ظلَّ هذا الكوكب يدورُ (هكذا) طبقاً لقوانين الجاذبية الثَّابتة كانت وما زالت تَدْوُرُ (بدلاً عن ’تتطوَّر‘ التي أوردها المترجم) من مثل تلك البداية البسيطة صورٌ لا نهائية من الحياةِ غايةً في الجمال وغايةً في العجب".

نلاحظ في هذه الجملة الختامية ثلاثَ ملاحظاتٍ مهمة: الأولى، هي إشارته إلى الخالق، مما ينفي عنه صفة الإلحاد التي يحاول البعضُ إلصاقها به، فهو لم يكن مُلحداً، بل كانت تنتابه نوباتُ شكٍّ عاصفة، فلم ينعم مثل معظمِ المفكِّرين في عصرِه بنعمة الإيمان، فقد ظلَّ إلى آخر حياته لاأدرياً، لكنه لم يكن ملحداً حاملاً لبطاقةٍ مثل معظم الدَّاروينيين الجدد؛ والثَّانية، استخدام كلمة "يَدُوْرُ" الأصلية، وتراسلها من جهةِ الدَّال والدَّلالة مع الكلمة المُقترحة "تَدْوُرُ"، حيث تشير السَّابقة إلى الثَّبات، الذي أكَّد عليه دارون نفسه، بينما تشير اللَّاحقة إلى التَّحوُّل؛ ويقودنا ذلك إلى الملاحظة الثَّالثة، وهي أن دارون قد حصر نظريته داخل فكرة نشوء الحياة (وتقعُ بين النَّشأة الأولى والنَّشأة الآخِرة بالدَّلالة القرآنية التي تحدَّثنا عنها في الحلقة السَّابقة)، ولم يتعدَّاها إلى فكرة التَّدَوْرُنِ خارجها، لتشملَ أصلَ العناصر (علم الكيمياء) أو أصلَ الكونِ نفسِه (علم الفيزياء)؛ وهو ما سنتحدَّثُ عنه، بإدنِ الله، في حلقةٍ قادمة، قُبيل تطرُّقنا لإنتاجِ سردياتٍ متوازنة حول بقائنا مع الكائنات الأخرى على قيد الحياة.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

خلف
كيف حالك
أعجبني استخدامك لاشتقاقات ( دٓوُرٓ)
وإن كان ثمة من عائق يحول دون إستخدامه
فسيكون هو إعتماد مصطلح ( تدوير) كتعريب لًًـRecycling
ولا يخفى عليك تناقض فكرة الدورنة والتدوير
ولكنه على العموم هو إقتراح يعالج مشكلة تعريب المصطلحات
وتخليصها مما يشوبها من تشويش دلالي يرجع في معظمه
لما أشرت له، بذكاء، من عدم الرجوع للمصدر (ثلاثياً كان أم رباعياً).
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

التالي هو تعقيب من محمد خلف على مداخلة الصادق إسماعيل الأخيرة:


بابُ الاشتقاقِ واسعٌ ورحابته اللُّغوية تضمن تعايشاً سلمياً للمفردات المستقلة

عزيزي الصَّادق

سواءً أسماكَ والداكَ على (الصَّادق) الأمين صلوات الله وسلامه عليه، أو أسمى أبابكرٍ أخي والداهُ على (الصِّدِّيق) عليه السَّلام، فإن (صداقةً) تنشأ بينكما لا تحتاجُ إلى (تصديقٍ) من السُّلطات؛ ويُقدِّمُ الرَّجلُ عندنا (صَداقاً) أو (صِداقاً) مَهْراً للمرأة، ولا (يتصدَّق) عليها به، وإنما يُقدِّمُه تعبيراً عن (صِدقِ) محبته ورغبته (الصَّادقة) في الارتباط بها مدى الحياة؛ و(تصديقاً) لهذا القول، فإن (الصَّدَقَة) تُعطى للفقراء والمساكين؛ ويمكنك أن (تُصدِّقَ) أو لا (تُصدِّق)، فإنني لم أتحرَ (صِدقاً) واتِّساقاً منطقياً لهذه الجملة المُشَقَّقَة، بل "قصدتُ" (وهو تقليبٌ للكلمة يُسميه أبو علي الفارسي أستاذ ابن جنِّي بالاشتقاق الأكبر أو الكبير) من ورائها (المُصادقة) على الرَّأي المُضمَّن في عنوان هذه الحلقة.

وعليه، يمكن الزَّعم بأن اشتقاقاتِ كلٍّ من الجذر الثُّلاثي المجرَّد (دَوُرَ) والجذر الرُّباعي المزيد بالنُّون (دَوْرَنَ)، إضافةً إلى الرُّباعي المُنقلب عنها (دَرْوَنَ)، تذكيراً بدارون – يُمكنُ لها كلُّها أن تتعايشَ سلمياً، داخل مظلَّة الاشتقاق الواسعة، مع مصطلح (تدوير)؛ وإنْ كان هناك من مشكلةٍ بإزاء استخدام هذا المصطلح الأخير، فإنها ستكون مع نفسه: فهل المقصود (تدوير) الشِّعر، أم إعادة (تدوير) المفاهيم القديمة، أم (تدوير) المربع؟ ولكن لا عليك، فاللُّغاتُ البشرية تحتشدُ بأمثلةٍ لا تُحصى للكلمة الواحدة ذات الدَّلالات المتعدِّدة أو الدَّلالة الواحدة التي يتمُّ التَّعبير عنها بكلماتٍ متعدِّدة. ويُمكنُ لهذا المصطلح أن يتعايشَ مع ما اقترحناه من بدائلَ لترجمة "إيفَلوشن"، مثلما يُمكنُ له أن يسكُنَ في (دارٍ) واحدة، أو يعملَ في (دائرةٍ) واحدة، تحت (إدارةٍ) موحَّدة، وأن يلعبَ (دوراً) مهمَّاً في توزيع (الأدوار) على العاملين في (الدَّوريات) المختلفة؛ ومن دون لفٍّ أو (دوران)، فإن هذا الوضع المعتدل لايحتاجُ إلى (استدارةٍ) أو تربيعٍ مستحيلٍ لـ(الدَّائرة).

هناك كلماتٌ كثيرة مُعَرَّبة، تُضربُ مثلاً على نجاح مهمَّة التَّعريب، من بينها كلمة (ديمقراطية)، التي تقبلُ لام التَّعريف، ونون الجمع، وألف الاثنين، وتاء التَّأنيث، وياء النَّسب، والتَّذكير والتَّأنيث، والتَّنوين بأنواعه؛ إلا أن استحالة قبول الكلمة لجذرٍ ثلاثي، لطولها، ولعدم تحديد جذرها الرُّباعي منذ بدء الاصطلاح على استخدام الكلمة: هل هو مادَّة [د. ق. ر. ط.] أم مادَّة [م. ق. ر. ط.] – كلُّ ذلك جعل من الصَّعب صياغة فعلٍ منها يلقى قبولاً فورياً لدى المتعاملين مع العربية؛ فلا يوجدُ (مصداقيةٌ) مقنعة حتى الآن لعبارة "(دقرطة) الثَّقافة" [من دقرط، يدقرط، دقرطةً] أو "(مقرطة) الحياة السِّياسية" [من مقرط، يمقرط، مقرطةً]، كما يزعمُ غلاةُ الحداثيين؛ كما لا يوجدُ (صِدقيةٌ) في الزَّعم بأن التَّرجمة تتمُّ وفقَ ما يهوى التُّرجُمان (أو التَّرجَمان)، أو أن التَّعريبَ يُمكنُ أن يتمَّ بمعزلٍ عن بنية اللُّغة العربية أو مبناها المُتعارف عليه بين أهلها والنَّاطقين بلسانِها.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر الحلقة التالية، وهي الخامسة، يواصل محمد خلف إقتراح سرد قصة بقائنا أحياء إلى جانب الكائنات الحيّة الأخرى:



كيف نحكي قصَّة بقائنا مع الكائنات الأخرى المتبقية على قيد الحياة؟

-الحلقة الخامسة-



قلنا في الحلقةِ السَّابقة إن تشارلس دارون حصر نظريته داخل فكرة نشوء الحياة (علم الأحياء)، وأكَّدنا من جانبنا على أنها تقعُ بين النَّشأة الأولى والنَّشأة الآخِرة بالدَّلالة القرآنية، ولم يتعدَّاها إلى فكرة التَّدَوْرُنِ (وهو بديلُنا المقترح لتعريب مصطلح "إيفلوشن") خارجها، لتشملَ أصلَ العناصر (علم الكيمياء) أو أصلَ الكونِ نفسِه (علم الفيزياء). ويمكن القول في مستهلِّ هذه الحلقة إن علم الأحياء يتعاملُ مع ظاهرةٍ أحدث، هي الحياةُ على هذه الأرض، كما أنه يتعاملُ مع وحدتها الأصغر نسبياً، وهي الجينة؛ يليهُ علم الكيمياء، الذي يتعاملُ مع ظاهراتٍ أقلَّ حداثةً، وهي العناصر الكيماوية المكوِّنة لهذا الكون، كما أنه يتعاملُ في ذات الوقت مع وحداتٍ أقلَّ صغراً، وهي البروتونات والنيوترونات والإليكترونات؛ ويأتي في نهاية المطاف علمُ الفيزياء، الذي يتعاملُ مع نشأةِ الكونِ ذاتِها؛ لذلك، فإن وحداته المتناهية في الصِّغر التي تتكشَّفُ يوماً بعد يوم، وآخرُها ما تمَّ الإعلانُ عن اكتشافِه في يوم 14 يوليو 2015، وهو البنتاكوارك (أو الكوارك الخماسيُّ الشَّكل)، تعمل على تثبيت أو دحض النُّموذج القياسي لعلم فيزياء الجُسيمات المتناهية في الصِّغر، بكواركاته وليبتوناته وبوزوناته. وبما أن الصِّلة بين العلوم الثَّلاثة قائمة بشكلٍ منطقيٍّ وأنطولوجيٍّ على علاقة السُّوبرفينينس (وهي هيمنة خصائص المستويات الدُّنيا على تلك الموجودة على المستويات العليا)، فإن الاكتشافاتِ التي تُحدِثُ تغييراً في النُّموذج القياسي لعلم الفيزياء، تغيِّر أيضاً تصوُّرَنا للخصائص المتعلِّقة بعلمي الكيمياء والأحياء.

بالفعل، وبفضل علم ميكانيكا الكم، أصبح علمُ الكيمياء أكثر دِقَّةً وانضباطاً؛ أمَّا الثَّورة التي حدثت في علم الأحياء، فقد كان مَنْشَؤها بسببِ نفسِ العلم. وكان أحدُ مؤسِّسيه الرَّئيسيين، وهو إيرفين شرودنجر، يعتقدُ بأن أصغرَ وحدةٍ وراثية، وهي الجينة، سيتمُّ تفسيرُها عن طريق علم ميكانيكا الكم الوليد. هذا لم يحدُث، على وجه الدِّقَّة المطلوبة، ولكن كتابه: "ما هي الحياة؟"، ومحاضراته التي ألقاها في عقد الأربعينات من القرن الماضي، وخصوصاً افتراضه بأن الجينة ستكونُ جُزيئاً كبيراً، هي التي دفعت العلماء من مختلف الحقول إلى البحث عن "سرِّ الحياة" في مجال علم الأحياء. وعندما تمَّ اكتشاف الـ"دي إن إيه" (الحامض النَّووي الرِّيبي منقوص الأكسجين) في عام 1953، كان مكتشفوه الأربعة، قبل محاضرات شرودنجر، منشغلين في أمورٍ شتَّى: كان فرانس كريك مشغولاً بتصميم الألغام البحرية في بورتسموث؛ وجيمس واطسون ما زال طالباً في جامعة شيكاغو؛ وموريس ويلكينسون منخرطاً في مشروع مانهاتن الخاص بصنع القنبلة الذَّرية في الولايات المتحدة؛ أمَّا روزاليند فرانكلين، فقد كانت تنقِّب في بنية الفحم الحجري لصالح الحكومة البريطانية إبان الحرب العالمية الثَّانية.

يختلفُ تعريفُ الجينة بحسب نظرة الباحث ورؤيته الفلسفية لموضوع البحث، ويتراوح ما بين النَّظر إليها كوحدةٍ وراثية، والتَّركيز على جانبها العلاجي (كما ذكرنا في حلقةٍ سابقة بخصوص داء هنتنغتون "إتش دي"، وعلاقته بجينةٍ موجودة في الكروموسوم رقم 4)، إلى النَّظر إليها باعتبارها وحدةً للانتخاب الطَّبيعي. وإذا أخذنا بأيٍّ من التَّعريفات المذكورة، أو غير المذكورة اختصاراً للأمر في هذه المساحة المحدودة، فإننا نكونُ أمام وحدةٍ أساسية للحياة، يوجد منها طقمان كاملان (جينوم) داخل كلِّ نواةٍ لخَلِيَّةٍ عرضها واحدٌ على عَشَرَةٍ من المليمتر، علماً بأن جسم الإنسان يحتوي على 100 تريليون (واحد أمامه 14 صفراً) خَلِيَّة؛ وداخل كل طقم، يوجد ما بين 60 ألف إلى 80 ألف جين، في كلٍّ من أزواج الكروموسومات البشرية، وعددُها كما قلنا في حلقةٍ سابقة 23 كروموسوماً. وبالتَّعرُّف على الشَّخصية الأساسية، وهي الجينة؛ وتحديد وظيفتها الأساسية، وهي صنعُ نسخةٍ من نفسِها، ثمَّ إرساءُ نظامٍ مفتوح يفلت من إسار الإنتروبيا، التي يقول بها القانونُ الثًّاني للدِّيناميكا الحرارية؛ وتحديدُ إطارٍ زماني ومكاني لمجال عملها؛ يمكن بسهولة، من غير حاجةٍ إلى قصص الخيال العلمي، إنتاجُ سرديةٍ ملائمة للجينة المحدَّدة مسبقاً.

يُمكنُ عملُ نفسِ الشَّيء مع البروتونات والنيوترونات والإليكترونات، في مجال الكيمياء؛ ومع الكواركات واللِّبتونات والبوزونات، في مجال الفيزياء. على أن الأمر الحاسم في السَّرد هو العلم؛ وتحديدُ طبيعةِ العلم المُراد العمل داخله يُعدُّ أمراً أساسياً لإنتاج السَّرديات؛ فإذا كان العلمُ المقصود هو العلمُ اللَّدني، فـ"اللهُ يعلمُ وأنتمْ لا تعلمونَ" (سورة "البقرة"، الآية رقم 216)، ولا نعلمُ في هذا المجال إلا ما يُعلِّمُنا اللهُ، أو يأذن بمعرفته، وهو الحق؛ أما إذا كان المقصود هو العلمُ الطَّبيعي، بأقسامه المعروفة التي ذكرناها في فقرتين سابقتين، فإن ما نَعلَمه هو ظاهرٌ من الحياة الدُّنيا (سورة "الرُّوم"، الآيتان رقم 6 و7)، وهو مجال الحقيقة. ومتى ما توفَّرت للسَّالكِ في دربِ الحقيقةِ مقوِّماتُ العلمِ الطَّبيعي، فبإمكانِه إنتاج سردياتٍ متوازنة في هذه الخصوص؛ وما يخِلُّ بالتَّوازنِ أو يعصفُ بميزان القص، إلا عدم التَّمييز بين الأمرين أو تداخلهما لنقصٍ في العقول أو زَيْغٍ في القلوب.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

على أن الأمر الحاسم في السَّرد هو العلم؛ وتحديدُ طبيعةِ العلم المُراد العمل داخله يُعدُّ أمراً أساسياً لإنتاج السَّرديات؛

خلف
عيدك سعيد

التفريق بين العلم اللدنّي والعلم الطبيعي يبدو صعباً وعصيّاً
وسأعود هنا لموضوع الأحلام مرة أخرى مقروءاً مع الإقتباس أدناه من كلامك


فإن عالم الرِّياضيات الفرنسي، هنري بوانكاريه، يعزي اكتشافاتٍ علمية مهمَّة لـ"كشفٍ" مفاجئٍ لصورٍ قادمة من العقل اللَّاواعي؛ أما رينيه ديكارت، فإنه يزعم في تجربته الرُّوحية الشَّهيرة بأن "ترتيب كلِّ العلوم" قد ظهر له في إيحاءٍ مباغت؛ بينما انتظر الرِّوائي الإسكتلندي، روبرت لويس إستيفينسون، أعواماً عدَّة، بحثاً عن قصَّةٍ تناسبُ إحساسَه القوي بفكرة الوجود المزدوج لبني البشر، إلى أن تكشَّفت له فجأةً حبكةُ روايته المعروفة "دكتور جيكل والسيِّد هايد" في حلمٍ ليلي.

بالطبع لا أزعم أن العلم اللدني يأتي من خلال الأحلام (ولا أنفي الإحتمال أيضاً)، ولكن أرى تشابكً ما في المقتبس
أعلاه وبين ماذكرته عن أنتاج سرديات قايمة على العلمين: الطبيعي (حسب فهمي لما عنيته بذلك) وآخر (دعنا نقل) غير طبيعي.

لأنك قلت سابقاً :

وما نقولُ به نحن إن عالم الحقيقة لا يبرأ من الصَّدع أو التَّشظِّي، فالمادَّة والعقل في تصدُّعهما البنيوي لا تلحمهما فكرة "التَّكامل"؛ كما أن اللَّغة التي من المفترض أن تعملَ كجسرٍ رابطٍ بينهما، هي الأخرى مكتنفةٌ في مجال الحقيقة بالتَّشظِّي. ومع إنها توهم في صيغتها الأدائية التي اكتشفها جي إل أوستن بالرَّتق، كأن يُفتتحَ برلمانٌ بصيغةٍ أدائية، فيصبحُ منعقداً على إثرها بشكلٍ رسمي؛ أو تُكتبُ صيغةٌ أدائية على ورقةٍ، فتصبحُ عملةً ساريةَ المفعول ومبرئةً للذِّمَّة بفضلِ صياغتها على ظهر الورقة؛ أو تُطلقُ صفارةٌ إيذاناً ببدءِ مباراةٍ لكرةِ القدم أو انتهاءِ دوريةٍ في مصنعٍ للملابسِ الصُّوفية. إلا أن فتقاً يعتري هذه الصِّياغات الأدائية، إذا نظرنا إلى التَّركيب الاجتماعي الذي تقوم عليه، سواءً اتَّخذ ذلك شكلَ إدارةٍ برلمانية، أو مصارفَ ماليةٍ مركزية، أو اتِّحاداتٍ محلية أو إقليميةٍ أو دولية.

أمَّا في رحابِ الحقِّ، فليس في الوجودِ من مُوجدٍ غيره؛ وإذا أراد شيئاً، فلا شيءَ يتوسَّطُ بين إرادته وكينونة الشَّيء، سوى كلمته. ولأن كلامه قائمٌ على العلم، وعلمُه يسعُ كلَّ شيء، فإن الإنسان لا يعلم إلا ما علَّمه الله


فهل يعمل العلم اللدني أحياناً لإعادة التوازن لسرد استعصى على العلم الطبيعي (بسبب تشظي المادة والعقل واللغة) من خلال الرؤى والأحلام (كما في موضوع ديكارت وتجربته في ترتيب العلوم)؟
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذا تعقيب من محمد خلف على المداخلة الأخيرة للصادق إسماعيل:



علاقاتٌ أفقية قائمة على التَّناحر وأخرى رأسية قائمة على الإخضاع تتخلَّلهما مصالحُ وفتوحات




عزيزي الصَّادق

كنت أحلمُ منذ صباي الباكر بفضاءٍ ثقافيٍّ مفتوح، تتلاقحُ فيه المساهمات، وتتنوَّع فيه وسائطُ الإنتاج الثَّقافي؛ وقد منَّ اللهُ علينا من خلال هذا الرُّكن بموازٍ إلكتروني، سعِدتُ فيه بمشاركاتك مع نفرٍ قليلٍ من النَّاشطين في الحقل الثَّقافي؛ ولم أقنط من رحمةِ ربِّي بأن يُهيأَ لنا مَنْ يتعاونُ معك على طرحِ مزيدٍ من الأسئلة المُضيئة، ومَنْ يُساعدُني على تقديم الرُّدود المُقنعة لكلِّ الأطراف. هناك مشاركاتٌ لي لم تنتهِ، وحججٌ أخرى لم تكتمل، ربما تسبَّبتْ في بعضِ البلبلة؛ وفي البال، مشاركةٌ حول لودفيج فيتجنشتاين ومفهوم اللَّعِب؛ وأخرى حول الحقِّ والحقيقة والعلاقةِ بينهما. أرجو أن أتمكَّن في هذه المشاركة من سدِّ بعض الثَّغرات، تمهيداً للإجابة على سؤالك الأساسي، الذي جاء في نهاية مشاركتك الأخيرة، وهو: "هل يعمل العلم اللَّدني أحياناً لإعادة التَّوازن لسردٍ استعصى على العلم الطَّبيعي (بسببِ تشظِّي المادَّة والعقل واللُّغة) من خلال الرُّؤى والأحلام (كما في موضوع ديكارت وتجربته في ترتيب العلوم)؟

تدخل المفاهيمُ -والممارساتُ القائمة عليها- في علاقاتٍ أفقية تناحرية، لا تخلو من مردودٍ إيجابيٍّ مفاجئ؛ بينما تدخلُ أخرى في علاقاتٍ رأسية إخضاعية، تتزاحمُ هي الأخرى بفتوحاتٍ لا انقطاعَ لها. سأشرعُ في شيءٍ من التَّفصيلِ غير المُطوَّل في إضاءةِ هذه الجملة المُكثَّفة. فالممارساتُ المُستندة إلى مفاهيمَ متضاربةٍ تدخل عبر مُعتنقيها في صراعٍ أفقيٍّ مكشوف، قائماً على التَّنافي وتصفية الآخر، ووسيلته المواجهة السٍّلمية أو الحرب الضَّروس. وما دامتِ الآراءُ متضاربةً، فقد لا يصلُحُ على ما يبدو من الظَّاهر سوى النِّزال، سلمياً كان أم حربياً. إلا أن هناك أمراً مفاجئاً يكتنفُ هذه العلاقة، لا يقودها إلى توافقٍ مستحيل، بحكمِ التَّضاربِ المنطفي، بل إلى تبادلٍ للمصالح، رغماً عنه. فكيف يتمُّ ذلك الحلُّ المدهش؟

في يوم اكتشافهما لبنية الـ"دي إن إيه" (الحامض النَّووي الرِّيبي منقوص الأكسجين – ونُصِرُّ على التَّسمية الكاملة رغم طولها، حتى لا يختلطُ الحامضُ بالحامضِ النَّووي الرٍّيبي الآخر: "آر إن إيه")، صاح فرانسيس كريك، حسب رواية جيمس واطسون، مُسْمِعاً كلَّ من حوله لدى دخولهما حانة "النَّسر"، التي اعتادا تناول الغداء فيها، قائلاً: "لقد اكتشفنا سرَّ الحياة". وبدوره، يقول روبرت رايت، مؤلف كتاب "اللَّاصفر"، إن لديه منافِساً آخرَ لـ"سرِّ الحياة"، وهو العلاقة التي لا يُنتجُ حاصلُ قيمتها صفراً؛ وهي العلاقة المسؤولة في نظره عن تطوُّر الحياة الاجتماعية (إنْ لم نقل تدروُنها، منذ 15000 عام -على الأقل- وإلى عصر الإنترنت). ففي مباراةٍ للتِّنس يتواجه فيها خصمان، لا تكونُ نتجتُها إلا فوز أحدهما وخسارة الآخر؛ أما في "الألعاب" اللَّاصفرية، فإن المصالح تتداخل، وفوزُ أحدهم لا يعني بالضرورة خسارة الآخر؛ ويعتمد رايت في تصويره لهذه العلاقة على المفاهيم المُنتجة من خلال "نظرية الألعاب"، ويوضِّحها أكثر من خلال استعارة "اليد الخفية"، التي استخدمها آدم سميث في مجال علم الاقتصاد.



فرغنا في هذه الحلقة من توضيح العلاقات الأفقية، وربما عُدنا إليها لمزيدٍ من التَّوضيح؛ وسنشرعُ في الحلقةِ القادمة، بإذن الله، في توضيحِ منطق العلاقات الرَّأسية التي تنظِّم عملَ الحقيقة، من دون أن يُحرمَ طالبوها من عطاءِ ربك، "وما كانَ عطاءُ ربِّكَ محظوراً" (سورة "الإسراء، الآية رقم 20).

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس أكتوبر 01, 2015 9:33 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

هناك مشاركاتٌ لي لم تنتهِ، وحججٌ أخرى لم تكتمل، ربما تسبَّبتْ في بعضِ البلبلة؛


عزيزنا خلف

إذا أحببت أن أنتظر بأسئلتي حتى نهاية طرحك، فلا مانع لدي.
أو ممكن أن أضع الأسئلة وأنت تجيب عليها بعد إنتهائك من الكتابة وإيراد الحجج.

فأيّ الطريقين أمْثَل؟
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وثمة هنا إستجابة محمد خلف للمقترح الأخير من الصادق إسماعيل:



نحتاجُ إلى تمكين السَّائل، مثلما نحتاجُ إلى إضعاف المُجيب



عزيزي الصَّادق

أقولُ لك بكلِّ صدق إن هذا الرُّكن يتنفسُ بنفحاتِ أسئلتك؛ فالمطلوب إذاً هو طرحُ مزيدٍ من الأسئلة، وليس إطراحها جانباً، أو الانتظار المُحبط ريثما تكتمل الحُجج؛ فهذا لا يؤدِّي في مناخٍ تفاعلي، بل نحتاجُ، كما قلت لك، إلى مَنْ يُساعدك في عملية إنتاج الأسئلة، وإلى مَنْ يساعدني، ولا أستثنيك من ذلك، في مهمَّة تقديم الرُّدود المُقنِعة.

نحتاجُ كذلك إلى تمكين السَّائل، مثلما نحتاجُ إلى إضعاف المجيب. فكلما اطمأن السَّائلُ وانتصبت أسئلته، كلما عمَّت فائدته؛ فالسُّؤال الصَّحيح، كما يقولون، نصفُ الإجابة. أمَّا إضعافُ المجيبِ، فضروريٌ حتى تنهارَ حججُه إنْ كان أساسُها واهياً أو تسعى شامخةً بين النَّاس إنْ لمسوا فيها ما يعينهم على المسير. ويتطلَّب هذا الأمرُ بدوره ملكيةً عامة للأفكار السَّليمة، مثلما يتطلَّب أيضاً مسؤوليةً فردية عن تحمُّل التَّبعات.

قبل كلِّ ذلك، نحتاج إلى وضعِ ميزانيةٍ لتخصيص الوقت، وإنْ صعُب ذلك، مثلما أتوقَّع، فعلينا أن نضعَ أسئلتنا وإجاباتنا على نارٍ هادئة؛ خصوصاً إذا حدث المأمول، وانفجرت قريحةُ المشاركين بالأسئلة أو ازدانت مشاركاتُهم بالرُّدود. فهذا الرُّكن لن تكتملَ إضاءتُه، إلا باستنارةٍ قادمة، بفضلِ اللهِ، من جهةِ الآخرين.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس أكتوبر 01, 2015 9:35 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

خلف كتب:
يتميِّز القصصُ القرآني بالتَّحكُّم البديع في بُعدي الزَّمان والمكان، وحسنِ التَّخلُّص من وطأتهما؛ فالانتقالُ السَّهل يتمُّ عبر الأزمنة السَّحيقة، وقبل هذا الزَّمان المتمكِّن على الأرض؛ كما أن الأرض والسَّماء معاً رهنُ إرادة الله وطوع بنانه: "ثمَّ استوى إلى السَّماءِ وهي دخانٌ فقال لها وللأرضِ ائتِيَا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعينَ" (سورة "فُصِّلت"، الآية رقم "11"). ثم يأتي خلقُ الإنسانِ في أحسن صورةٍ، قبل إقصائه إلى أسفلِ درك، باستثناء المؤمنين (سورة "التِّين"، الآيات رقم "3" إلى رقم "5"). وتعقبُ ذلك مسألة التَّخيير وعرض الأمانة على الأشياء والأحياء معاً: "إنَّا عرضنا الأمانةَ على السَّماواتِ والأرضِ والجبالِ فأبينَ أن يحملنَهَا وأشفقنَ منها وحَمَلَهَا الإنسانُ إنهُ كان ظلوماً جَهُولاً".

إن القصص القرآني لا يتبع سمتاً فنياً معروفاً، ناهيك عن أنْ يكون متَّخذاً شكلَ القصَّة الفنية، كما زعم الأستاذ محمد أحمد خلف الله في نهاية الأربعينات من القرن الماضي. فالقرآن ليس بنثرٍ معروفٍ ولا شعر؛ وإنَّ أفضل ما يمكن أنْ نختم به هذه الحلقة هو القول مع الدُّكتور طه حسين إنَّ "القرآن ليس نثراً، كما أنه ليس شعراً، إنما هو قرآن، ولا يمكن أنْ يُسمَّى بغير هذا الاسم؛ ليس شعراً، وهذا وضع، فهو لم يتقيَّد بقيود الشِّعر؛ وليس نثراً، لأنه مقيَّدٌ بقيودٍ خاصة به، لا توجد في غيره؛ فهو ليس شعراً، ولا نثراً، ولكنه: ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، فلسنا نستطيع أن نقول: إنه نثر، كما نصَّ على أنه ليس شعراً. كان وحيداً في بابه، لم يكن قبله، ولم يكن بعده مثله، ولم يحاول أحدٌ أن يأتي بمثله، وتحدَّى الناسَ أن يحاكوه، وأنذرهم أنْ لن يجدوا إلى ذلك سبيلاً" (طه حسين: "من حديث الشِّعر والنَّثر").



ألا ينطبق هذا الوصف إلى درجة ما مع السرد الإسطوري لملاحم الأولين (وإن شئت فأساطيرهم)، وتحضرني هنا اسطورة مثل (الاينوما إيلش) و(جلجامش)، وبعض ما حكاه لي دينق دينق عن أساطير الدينكا، وعن نوباتيا، والرقيات التى قيلت في المعابد القديمة.
عندما قرأت الاينوما إيليش لأول مرة اصبت بالذهول من روعة السرد، القرآن يصف قصصه بأنها (أحسن القصص) هل هي مقارنة بينها وبين هذه السرديات القديمة (اقرأ الأساطير) لذلك استعمل القرآن صيغة التفضيل "أحسن"؟
هذه النقطة تبدو محورية في تفريقك بين الحق والحقيقة والسرد النابع منهما أو القص؟

هذا التساؤل عنّ لي وأنا أعيد قراءة هذا الخيط من بدايته مرة أخرى، وأحببت أن أضعه على نار هادئة ونحن ننتظر استنارات الآخرين
.
أضف رد جديد