Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر هذه المساهمة، التي هي الأولى من ثلاث حلقاتٍ، نصحب أفكاراً وتداعياتٍ حميمة لمحمد خلف فيما يبرِّر لنا استخدامه للشكل الهندسي المُتَمَثِّل في المُرَبَّع:




حكاية المربَّع والمكعَّب والمُشلعيب أو ثلاثةُ تصوُّراتٍ للدَّيمومة: المكان، والزَّمكان (مجال الحقيقة)؛ والدَّهر (مقام الحق)




عن أبي هريرة -رضي اللهُ عنه- قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (قال اللهُ عزَّ وجلَّ: يؤذيني ابنُ آدمَ، يسبُّ الدَّهرَ، وأنا الدَّهرُ، بيديَ الأمرُ، أُقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهار). رواهُ البخاري.



حكاية المربَّع:

أسرَّ إليَّ أحدُ الأصدقاء، من ذوي الخبرةِ الطَّويلة والمعرفةِ اللَّصيقة بأمزجةِ القُرَّاء داخل الفضاءِ الإلكتروني، أن الكثيرَ منهم يستريبُ من استخداماتِ النَّماذج والرُّسومات التَّوضيحية، إنْ لم يكن لا يستسيغُها أداةً للتَّفسير (كما يزعُمُ صديقٌ آخرُ هو مسعود محمد علي)؛ فقلتُ أُخفِّفُ قليلاً من ضغط قدمي على بدَّال السُّرعة، خصوصاً عندما تذكَّرتُ أن عالِمَ الفيزياء النَّظرية البريطاني، ستيفن هوكينغ، قد قال ساخراً إنه عمل بنصيحة النَّاشر بشأنِ المعادلات، فأسقطها جميعاً، ما عدا معادلة آينشتاين الشَّهيرة، التي تقيمُ تكافؤاً ليس واضحاً من أولِ وهلةٍ بين الطَّاقة والكتلة (ويمكن الرُّجوع إليها في متنِ الرِّسالة). إلا أنني أحتاجُ إلى تقنياتٍ تُعينني على توصيل فكرتي، فقلتُ أُمهِّدُ لعودةِ النَّماذج بهذه الحكاية، خصوصاً وأننا ما زلنا نستكشِفُ عالمَ السَّردِ الذي أضاءه لنا، بفضلِ الله، الصَّديق القاص عادل القصَّاص؛ فلا يفوتني تهنئتُه بالرُّوَية المصاحبة للشَّهادة، وأقول له عُقبال الرُّواية، على أن يتروَّى ولا يُديرُ ظهرَهُ تماماً للكائنات السَّردية الصَّغيرة أو المتناهية في صغرها (أين أنتِ يا فاطمة السَّنوسي؟ أبالحصاحيصا أم بدروبٍ ومسالِكَ لا يُمكن إحصاؤها؟ وإلى أيِّ الحصاحيصاتِ أنتِ الآن أقربُ؟ أحصاحيصةُ أزهري محمد علي وهاشم كرار وعبدالمنعم رحمة أم حصاحيصةُ عبد المنعم حسيب ومصطفى سيدأحمد وسُميَّة حسن؟ أم عبرتِ الأزرقَ صُبحاً -بنطوناً كان العبورُ أو جسراً- إلى رفاعةِ أبي سنٍّ وبابكر بدري ومحمود محمد طه؟ هبَّت عليه نسمةٌ عَطِرَةٌ من أربَجي، لتصرفَ عنه، رغم توسُّعِه في القول، اشتطاط الذين ضرَّجوا الطَّريقَ إلى الدَّهرِ بحُمرةِ الدِّماء، وأمطروها بوابلٍ من رصاصاتِ الكلاشِن وقاذفاتِ الآر بي جي).

أنا أعلمُ أن صورةَ هذا المكانِ، ذي الاسمِ المميَّزِ قد تغيَّرت، وربما لم يتبقَ منها سوى صوتُ الحصى الذي يخرجُ مُصَلصِلاً من ثنايا الدَّالِ الغريبِ؛ إلا أن صوتاً ندياً، فتياً ووريفاً (كما يعبِّر القصَّاص) يخرجُ الآن منها طازجاً كمالرغيفِ البلديِّ، وحادقاً كالسَّبانخِ، وحامضاً مثل عصيرِ اللَّيمون، وهو صوتُ حرم النُّور (عليها نور). تلك هي المسألة، بعيداً عن الأحكام الفنية والقيمية؛ وهي أن المكان، أيَّ مكانٍ (ركنٌ أو غرفةٌ أو مدينة)، عرضةٌ للتغيُّرِ المستمر في كلِّ لحظة. ومن هنا أهمية تسجيل تلك اللَّحظات الزَّائلة؛ ومن هنا ذلك الإحساسُ بالأسى واللَّوعة، المشوبُ أحياناً بالحبورِ، ورقرقةِ الدُّموعِ التي لا نعرفُ أيَّ الإحساسَيْنِ المتناقضَيْنِ كان مصدرُها، عندما نُقلِّبُ ألبوماً عائلياً أو يُطلِعُنا صديقٌ على طَرَفٍ من تاريخِه الشَّخصي (وربما يُفسِّر هذا جانباً واحداً من ولعِ النَّاسِ بهذا الرُّكن).

ومن مزايا المربَّع أنه قابِلٌ للتَّسجيل بِرُمَّتِه، في لحظةٍ واحدة، بواسطة كاميرا فوتوغرافية صغيرة (اُنظُر عن يمينك ويسارك إلى حَمَلَةِ الموبايل وهم يسعون بِهِمَّةٍ وعلى عَجَلٍ لاصطيادِ هذه اللَّحظاتِ المؤاتية). إلا أنه كغيرِه من الأشكال الهندسية، مثل الدَّائرة والمثلث والمستطيل، لا تُوجدُ بذاتِها في الطَّبيعة، التي تكتظُّ بالأشكال غير المنتظمة؛ وإنما تُوجدُ في أخيلتِنا، فنقومُ برَسمِها، بدءاً من النُّقطة، ومروراً بالخطِّ (وكلاهما من ذوي البُعدِ الواحد)، وانتهاءً بالأشكال الهندسية المعروفة، ومن ضمنها المربَّع (وكلُّها ذاتُ بُعدين، بخلاف الأشكال المُجَسَّمَة، ويُمكن رسمها على سطحٍ مستوٍ، سبورةً كانت أم ورقةً بيضاء). لذلك، فإن أيَّاً منها يصلُحُ أن يكونَ ابناً أو ابنةً مُدلَّلة لعلماءِ الهندسة والفيزياء النَّظرية، إذ لا يتطلَّبُ التَّعاملُ معها وجوداً متعيِّناً في الطَّبيعة.

ومن أجل ذلك، اخترنا المربَّع مناطاً للمكانِ القابلِ لأن تُصطادَ أنحاؤه في لحظةٍ واحدة؛ وحرصنا لأن تكونَ هذه اللَّحظةُ مُمَثِلَةً لكلِّ الوجود، قبل انتقاله إلى لحظةٍ أخرى تُشكِّل في تعاقبها المستمر نسيجَ الزَّمكان، الذي سنتحدثُ عنه في المشاركة التَّالية ضمن هذه الحلقة الثُّلاثية. وقد شحنَّا هذا المكان المربَّع، مستعيرين شملةً من الصَّديق القدَّال، بثلاثةِ أقانيمَ، هي الواقعُ والعقلُ واللُّغة. إلا أن الكاميراتِ الحالية مهما تطوَّرت تقنياتُها لا تستطيعُ أن تطالَ اتِّساعَ هذا الكون، لأننا ببساطة محكومون بسرعة الضَّوء (300 ألف كيلومتر في الثَّانية، وهو رقمٌ مستديرٌ للتَّقريب وسهولة التَّذكُّر)؛ وهي فيما يبدو سرعةٌ فائقة، إلا أنها سلحفائيةٌ، بالنَّظر إلى اتِّساعِ الكون، وتمدُّدِه الذي لم ينقطع منذ الانفجار العظيم؛ فضوءُ نجمٍ نراهُ في سماءِ الحصاحيصا الصَّافية، قد يكونُ قد استغرق بلايينَ السِّنين ليصلنا في تلك اللَّيلة. وحتى لو تمَّ كسرُ سرعةِ الضَّوء، كما زعم سيرن منذ أسبوعين، فإن النيوتريتو، الذي سيفوقُ سرعة الضَّوء بـ 60 نانوثانيةً، سيكون هو الحدُّ الأقصى الجديد للسُّرعة؛ فربما يُصابُ آينشتاين إذاً برشاشٍ قليلٍ في سمعته العلمية، ولكنَّ محبسَنا الضَّوئيَّ لن يَّتأثَّرَ كثيراً.

ومن مزايا المربَّع أيضاً أنه قابِلٌ للإسقاط على أيِّ سطحٍ مستوٍ، مثل شاشاتِ الكمبيوتر والآيباد والموبايل. إلَّا أنه بحسب نظرية الجِشطالت، لا يوجد شكلٌ من دون خلفيةٍ تدعمُه؛ لذلك، فإننا يا عزيزي القارئ مطالبونَ باستخدامِ الخيال في التَّعامل مع هذه الأشكال التي لا وجودَ لها في الطَّبيعة، وأن نمسحَ بجرَّةِ قلمٍ أو بمسحةٍ من الخيال أيَّ خلفيةٍ تُشوِّشُ نقاءَ المربَّع، إلى أن نلتقيَ في مشاركةٍ لاحقة نستجلي فيها، عبر حكايةٍ أخرى، أمرَ المكعَّب، توطئةً للتَّمسُّكِ بِعُرَى المُشلعيب (أفتونا يا علماءَ اللِّسانياتِ والإتيمولوجيا: هل تُوجدُ صِلةٌ بينه وبين عبارة "مُش لِعِب" الدَّارجة؟). وفي كلِّ الأحوال، فإنه سيشيرُ، ضمن أشياءَ أخرى سنذكرُها في حينها، إلى الآيةِ الكريمة: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ" (سورة "الأنبياء"؛ الآية رقم 16).

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين إبريل 25, 2016 4:50 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

لعلي لن أتسبَّب في حَرْفٍ ما لتدفُّقِك يا خَلَف؛ أو رُبَّما - آمل - أن ترفدَ هذا المساهمة تداعياتك بمزيد من الاندياح الحميم.

وبعد،

أيها الأعزاء والعزيزات، متابعات ومتابعي هذا الخيط،

لقد كنتُ ذكرتُ، في الحلقة الثالثة من "رسالتي إلى خلف"، كيف أن الكَشَّات المتكرِّرَة الذي كانت تتعرَّضُ لها خالتي مريم من قِبَل شرطة نظام مايو، بسبب إمتِهانِها (السابق) لصناعة وبيع العَرَق، وكذلك موقف والدتي، الحاجة صفيَّة بنت محمود الأنصارية، من ذاك الانتهاك التي كانت تتعرَّض له الخالة مريم، قد ساهما مساهمةً أساسية في ولادة قصتي القصيرة الموسومة: "نشيد التَّماسُك وزهراءُ التي تعرفُ كيف تضحكُ ويترَقْرَقُ صوتَها في فَمِك". ولقد درجتُ، عند كل زيارةٍ أقوم بها للبلد، أن أزور بعض جيراننا السابقين في الحارة السابعة بالثورة (فقد انتقلتْ أسرتي إلى حي ود البخيت الأم درماني قبل أعوام عديدة، أثناء تواجدي في الشتات). وفي مقدمة هؤلاء كنتُ أزور الخالة مريم. وفي زيارتي الأخيرة لها، كان الشيئ المختلف الوحيد الذي ميَّزَ تلك الزيارة عن سابقاتها يتمثَّلُ في اصطحابي لكاميرا فوتوغرافية.

ها هي خالتي مريم، أيها الأعزاء والعزيزات (وخَلْفَ منزلها يُرَى جانبٌ من منزلنا السابق، إذ كنا نجاور منزلها الحيطة-بالحيطة، حيث يبدو على يسار الصورة جزءٌ من الصالون، وعلى يمين الصورة يبدو جزءٌ من غرفتنا، "غرفة السابعة"، أي غرفتي وأصدقائي من أمثال محمد خَلَف، عثمان حامد، محمد مدني، عادل عبد الرحمن، أحمد عبد المكرَّم، عبد الوهاب حسن الخليفة، عبد اللطيف علي الفكي، يحيى فضل الله، السر السيد، طلعَتْ، محمد عباس محمد نور، موسى أحمد مُرَوِّح، إبراهيم جعفر، محمد سعيد بازرعة، أحمد المصطفى الحاج، أحمد الأمين أحمد، علم الدين عمر، والقائمة ليست قصيرة):



صورة


***

وفي الحلقة الأخيرة من "رسالتي إلى خلف"، مررتُ على ذكر أستاذي السابق، ناظر مدرستنا السابقة، "مدرسة بَكَّار الثانوية العامة بنين" بأم درمان، مصطفى الأسد، الذي كان مُعَلِّماً ماهراً لمواد الجغرافيا، العلوم (بأقسامها الثلاثة)، الرياضيات واللغة الإنجليزية؛ كما كان إدارياّ حاذقاً؛ وفوق هذا وذاك، كان مُربيَّاً وجاراً كفؤاً. ولم تتضمَّن جولاتي السابقة في حَيِّنا السابق في الحارة السابعة زيارة أستاذ الأسد لأنه كان قد رحل منها. غير أنني كنت أسأل عنه وعن أخبار أسرته كلما ذهبتُ للبلد. وفي هذه المرة تمكنتُ، بواسطة إبن أختي وصديقي ياسر محمد أحمد، من العثور على منزله وبالتالي زيارته التي احتفى بها أيَّما احتفاءٍ، لدرجة أنه لم يتركني أذهب إلا بعد قطعت له وعداً بأن أبعث إليه بنسخةٍ من مجموعتي القصصية "لهذا الصَّمتِ صَليلُ غيابِكِ"؛ وقد فعلتُ، إذ تركتُ نسخةً له مع إبنة أختي.

وهاهو أستاذ مصطفى الأسد:


صورة
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

عادل
سلام
دي رحلة جميلة شفت الصور في الفيسبوك
وصورتك مع مولانا وياسر اسعدتني خصوصاً انه مولانا
بصحة جيدة، وشفت شقل برضه يا الله دي لمة جميلة
يا ريت لو تكتب عنها اكتر لانه شوفك بيكون مختلف.


خلف
تابعت موضوع امواج الجاذبية، والموضوع مدهش
والادهشني كيف انه انشتاين دا اتنبأ بالحكاية دي

دي فعلاً ( قصة) عجيبة، وامر الكون كله قصة من احسن القصص
ولو دا (قليل العلم) فكيف كثيره؟
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

شكراً يا الصادق على المتابعة والتفاعل الحميم مع بعض آثار تلك الزيارة. غير أنها كانت فترة مضغوطة، ثلاثة أسابيع من اللهاث، جله ذي صلة بالاجتماعي؛ وأتمنى، مع ذلك، أن أقول شيئاً في وقت لاحق.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يواصل محمد خلف، عبر هذه الحلقة، تفاكيره حول الحق والحقيقة، حيث يعرض تصورات مختلفة للعقلانية:




الحق والحقيقة: من القطع المعرفي إلى مفهوم المراوحة وثلاثة تصوُّراتٍ للعقلانية



شرعتُ في يوم 29 فبراير في كتابةِ رسالةٍ ثانية إلى الصَّديق القاص عادل القصَّاص، وقد حرصتُ أن أبدأها في ذلك اليوم الذي لا يتكرَّر، إلا كلَّ أربعةِ أعوام، لنتذكَّرَ به عام 1916، عام المربَّع بامتياز؛ ولنبدأ به ليس فقط الانتقال من المربَّع إلى المكعَّب، أو من المكان إلى الزَّمان، بل أيضاً الانتقال من علم الأحياء إلى علم الكيمياء، على ألَّا نُغادر فضاءَ السَّردِ الذي هيَّأه لنا القاص المبدع؛ وفي البالِ، رسالةٌ ثالثة تنقلُنا إلى علم الفيزياء، ورابعةٌ أخيرة تُرجِعُنا إلى حظيرة الدِّين بمعناه الشَّامل، وهو الدِّينُ الحقُّ، الذي لا يكتفي بتجاوز أديان السِّجل الأنثروبولوجي، بل يُفسِّرُ ويُتوِّجُ كافَّة الأديان الكتابية. وإذا كان الانتقال من وضعٍ معرفيٍّ إلى آخرَ يتمُّ عبر آلية القطع الباشلاري (نسبةً إلى الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار)، فإن الانتقال بين المعرفة والعلم يتمُّ عبر التَّراوحِ الذي لا ينقطعُ تموُّجُهُ ما بين الحقِّ إلى الحقيقة، وما بين الحقيقةِ إلى الحق.

قد يستغرقُ كتابة الرِّسالة بعضَ الوقت، إذ إن جزءاً منه سيُنفقُ في رفقةِ دمتري مندلييف والجدول الدَّوري للعناصر الكيميائية، وجزءاً آخرَ منه سيُنفقُ في الاستمتاعِ والتأمُّلِ فيما يُرسِلُهُ لي الصَّديق عبد الواحد ورَّاق من تسجيلاتٍ وحواراتٍ نادرة مع دمتري البازار (خصوصاً وأن بين الدِّمتريَيْن صلةٌ مدهشة لا يمكنُ إدراكُها بسهولةٍ من أولِ وهلة)؛ هذا غيرُ الوقتِ الذي سأُقضيه مع ابنتي ماريا برفقةِ العائلة في تايلاند، مكان إقامتها المؤقَّت منذ ما يقرب من عامٍ واحد، وهو طولُ المدَّة التي ستقضيها هناك، قبل أن تستأنفَ دراستها الجامعية مع بداية العام الأكاديمي الجديد.

إلا أنني ارتأيتُ أن أُمهِّدَ لهذا الانتقال المُزمع من الأحياءِ إلى الكيمياء، ومن المكانِ إلى الزَّمان، ومن المربَّعِ إلى المكعَّب، ومن القطعِ إلى المراوحة، بثلاثةِ تصوُّراتٍ للعقلانية، لتُعينُنا في رحلةٍ فكريةٍ لم نُرِدْ لها أن تخرُجَ قط من مسار العقلانية؛ ولكن قبل ذلك، يتعيَّن علينا أن نُميِّزَ بين مفاهيمَ متضاربةٍ بإزائها، وأن نُوضِّحَ بالتَّفصيل إلى أيِّ العقلانياتِ نُشير، عندما نُحدِّدُ خيارَنا العقلاني. وبشكلٍ عام، فإن التَّصوُّرات الثَّلاثة المقصودة هي التَّصوُّرُ الضَّيِّق الذي يربطها برينيه ديكارت على وجه الخصوص، والفكر القاري (الأوروبي) على وجه العموم؛ والتَّصوُّر الواسع الذي يضعها في مقابل السُّلطة الكنسية على وجه الخصوص، والتَّوجُّهات السُّلطوية على وجه العموم؛ والتَّصوُّر الأكثر اتِّساعاً وهو الذي نقصده، الذي يربطها بالحق، في مقابل النَّزعات الإلحادية التي لا تقبلُ خالقاً لهذا الكون، حتى ولو جاء على الوجه الاستعاري، الذي ربما قصده كلٌّ من ألبرت آينتشتاين وستيفن هوكينغ، اللَّذان صرَّحا في مناسباتٍ عديدة أنهما يريدانِ من خلالِ أبحاثهما النَّظرية في مجال الفيزياء الحديثة استكشافَ عقلِ الإله.

ارتبط التَّصوُّر الضَّيِّق للعقلانية بديكارت، لأنه اعتقد أن بإمكانه الوصول إلى أفكارٍ واضحة ومتميِّزة، فقط من خلال فحصِه الصَّبور والممنهج للمحتوى الفكري لعقله البشري الخاص، من دون حاجةٍ إلى إعانةٍ من معطيات الحواس. في مقابل تلك النَّظرة الفلسفية، التي تبنَّاها كثيرٌ من فلاسفة القارة الأوروبية، من أمثال باروخ إسبينوزا وغوتفريد لايبنيتس، ومن ضمنهم إدموند هوسرل الذي أرجأنا الحديثَ عنه إلى حين بزوغِ سياقٍ مناسب، وتبنَّتها أيضاً بدرجاتٍ مختلفة حركاتٌ ومدارسُ فلسفية، مثل المثالية الألمانية، والظَّاهراتية، والوجودية، والبنيوية، وما بعد البنيوية، والتَّحليل النَّفسي، والماركسية الأوروبية – في مقابل كلِّ ذلك، تُوجد التَّجريبية البريطانية التي افترعها فرانسيس بيكون، وتبعه جون لوك وجورج باركلي وديفيد هيوم وجون ستيوارت مِل، وتبنَّتها بدرجاتٍ مختلفة حركاتٌ ومدارسُ فلسفية، مثل الفلسفة التَّحليلية، والوضعية المنطقية، والبراغماتية؛ وهي كلُّها تُقيمُ وزناً للحواس، وتضعُ معطياتِها أساساً لاكتسابِ المعرفة في جميع حقولها المعروفة. وبعد هذا العرض المُختصر، يُصبحُ أمراً نافلاً القولُ إن اللَّاعقلانية، بالفهم السَّائد لها، لا تُغطي كلَّ ما هو مقابلٌ لفكرِ ديكارت على وجه الخصوص، أو الفكر القاري الأوروبي على وجه العموم.

أمَّا التَّصور الواسع، فقد جمع كلَّاً من عقلانية رينيه ديكارت وتجريبية ديفيد هيوم، أو حتى تركيبية إيمانويل كانت، في سلَّةٍ واحدة، في مقابل الثَّوابت التي استقرَّت إمَّا عبر التَّأطير الأرسطي (نسبةً إلى الفيلسوف اليوناني أرسطوطاليس) للمعارف البشرية المُكتسبة أو، بشكلٍ كسبيٍّ مزعوم، من خلال هيمنة السُّلطات الكنسية التي وقفت عائقاً أمام حركة التَّنوير، فكان لابدَّ من التَّمرُّد عليها والإطاحة بها، وتأسيس الحداثة الأوروبية على أنقاضها. فاللَّاعقلانية بهذا المعنى هي تعبيرٌ عن تلك الحركة الرَّجعية التي وقفت ضد الحداثة باعتبارها صِنواً للفوضى، وتأسيساً لسلطة العقل البشري، في مقابل الحقِّ الإلهي، الذي ظلَّت ترعاه الكنيسة، ولم تكن ترغب في التَّخلِّي عنه، إلا تحت ضغط الثَّورات الأوروبية العنيفة. بمعنًى آخر، أن الحداثة الأوروبية كانت نتاجاً جديداً شارك في انبثاقه كلُّ تيارات الفكر الأوروبي الحديث، سواءً كان عقلانياً أو تجريبياً أو تركيبياً. أمَّا الوجهُ الآخر لِلَّاعقلانية، فقد كان يتمثَّل في إنكار إمكانية حدوث المعرفة في الأساس، وإنكار قدرة العقل البشري على الإتيان بها وتطويرها، مثل الدَّعوات النِّسبوية والتوجُّهات اللَّاأدرية.

هذا يقودنا إلى التَّصوُّر الأكثر اتِّساعاً الذي ندعو إليه، والذي من أجله أقمنا، ضمن أسبابٍ أخرى، تفرقةً ضرورية بين الحقيقة التي في متناولِ العقلِ البشري، والحقِّ الذي يعلو ولا يُعلى عليه. فقد لَحَظنا أن الإنتاج الفكري السَّائد يتمُّ تناوله من خلال العلوم الاجتماعية التي تُكثِرُ من استخدامِ ’الخطاباتِ‘ التي تُصبِحُ وسيلةً متاحة لتسريب الرَّغبات الشَّخصية والأمنيات الجماعية والأحلام المستحيلةِ ’التحقُّق‘، لذلك فقد حاولنا إدخالَ العلومِ الطَّبيعية بأقسامها الثَّلاثة الرَّئيسية لتوسيع مجال ’الحقيقة‘، وتقليص حجم ’الخطابات‘. أمَّا ’الحقُّ‘، فهو الملاذُ الذي نلجأ إليه في غدونا ورواحنا، حينما يطلُّ العجزُ، ويعزُّ المطلبُ، وتُستنفدُ إجاباتُ لِمَ ولماذا؛ "فالنِّهاياتُ البعيدةُ لا تُحَدُّ" (عزيزي إلدوس الإريتيري، المعروف بمحمَّد مدني أو محمَّد محمود الشِّيخ: هل لقِيَ مشروع توتيل رواجاً "استثنائياً" في إسطنبول، أم أنه اكتفى بتقدير "مقبول"؛ وماذا فعلتْ أحداثُ السَّاحةِ بتوتيل الأصل: هل لقِيَ تسريحاً يستحِقُّه، أم ما زال قابعاً في معتقلٍ لا يليقُ بقامته؟). وما يأتي من الحقِّ أو يُعطى بالحقِّ، فإن له على أقلِّ تقديرٍ مكاناً لائقاً ضمن خياراتنا المنطقية إزاء كلِّ ما يستعصي أمرُه أو يستحيلُ الإجابةُ عليه.

في هذا الخصوص، سمعتُ عالم الفيزياء الأمريكي ستيفن واينبيرج، وهو لا يُخفي عادةً إلحادَه، يقولُ في تعليلِ الطَّاقةِ المُظلمة، وهي شكلٌ غير معروف من أشكال الطَّاقة (وتمثِّل حوالي 68% من الكون المرئي حالياً، علماً بأن المادَّة المُعتِمة، والتي لا يمكن رؤيتها هي الأخرى وإنما يتمُّ افتراضُها لتفسيرِ جزءٍ من كتلة الكون، تمثِّل حوالي 27%، بينما تمثِّل المادَّة المعروفة حوالي 5% فقط)، وتُعرف أحياناً بالثَّابتِ الكوني، وقد افترضه آينشتاين ليُفسِّرَ به القوة المعاكسة للجاذبية، ويلقى افتراضُه حالياً قبولاً واسعاً باعتبار أنه عاملٌ مهم في تمدُّدِ الكون – يقول واينبيرج في تعليل الطَّاقة المظلمة ودقَّةِ معدَّلِ تمدُّدِ الكون إن هناك احتمالين لا غير: إما وجودُ مُصمِّمٍ مجبولٍ على الخير (أي خالقٍ لهذا الكون) أو الكونُ المتعدِّد (باعتبار أن حالة هذا الكون هي حالةٌ خاصَّة لا يُعوَّلُ عليها في صياغةِ قانونٍ كونيٍّ شامل للبديل المُتعدِّد)، فما كان من عالِمِ الأحياءِ البريطاني ريتشارد دوكنز، الذي يشتطُّ عادةً في إلحادِه، إلَّا أنِ استبعدَ من غيرِ إبطاءٍ الاحتمالَ الأول (باعتبار أن المُصمِّمَ لا بدَّ أن ينطوي على درجةٍ أكبرَ من تعقيدِ هذا الكون حتى يستحقَّ صفة الخالق، وأن تشارلز دارون قد قدَّم من قبلُ إجابةً شافية حول موضوع التَّعقيد، وإنْ خصَّ بها تعقيدَ ظاهرةِ الحياة، إذ من الممكن تعميم الإجابة لتشملَ الكونَ برُمَّتِه).

من جانبٍ آخر، فإن حركة ما بعد الحداثة تُوهِمُ الغافلَ بتقديرِها الإيجابيِّ لموضوع الدِّين، إلا أنها تفعلُ ذلك من موقع الاستعلاء بدافع التَّفضُّل على الفئات الثَّقافية والاجتماعية المقهورة، فتضعُ الأديانَ الكتابية في سلَّةٍ واحدة مع أديان السِّجل الأنثروبولوجي، جنباً إلى جنب مع المثليين والأقليات العرقية واللَّونية؛ هذا، بينما هي في واقع الأمر لا تُقيمُ وزناً للحقيقة، ناهيك عن الحق، وتعتبرهما إنشاءً بشرياً ليس إلا؛ وترى، وعلى الأخصِّ بعضُ تياراتها الفالته، أن أيَّ صياغةٍ تتبنَّاها مجموعةٌ بشرية يمكن أنْ تقومَ مقامَ الحقيقة (المُصاغةُ نظائرُها أصلاً من قبل البشر). فهذه النِّسبوية التي تتباهى بها الحركة بوصفها امتداداً طبيعياً للحداثة الأوروبية، هي نظرةٌ معادية للعلم والدِّين معاً (العلم باعتباره مُنتِجاً للحقيقة، والدِّين بوصفه دعوةً للحق). علاوةً على ذلك، فإن الخيار الاستبعادي المُتعجِّل الذي يتَّبعه دعاةُ الدَّاروينية المتشدِّدين، هو نهجٌ معادٍ للعلم والدِّين معاً (العلم باعتباره تقليباً متأنِّياً للخيارات، والدِّين بوصفه داعياً للتَّفكُّر؛ "أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ؛ سورة "الرُّوم"، الآية رقم 8).

وفقاً لذلك، يمكن اعتبار هذين النَّهجين (النِّسبوية والاستبعاد المتعجِّل) أساساً للَّاعقلانية، إذ إن الأخيرةَ تنهضُ نقيضاً واضحاً للعقلانية في إطار التَّصور الأكثر اتِّساعاً لها؛ فالنِّسبوية تُنكرُ في الأساس إمكانَ الوصولِ إلى الحقيقة أو الاقتراب من أنصعِ مداراتها، بينما يُخفي الاستبعادُ المتعجِّل في باطنه رغبةً في الاستحواذِ على الحقيقة عن طريق الضَّربة القاضية. وفي معاداةِ هذه اللَّاعقلانية ضمن هذا التَّصوُّر الأكثر اتِّساعاً، يمكن إنشاءُ أساسٍ راسخٍ للتَّعاونٍ بين العلم والدِّين، خصوصاً وأن العلماء، متديِّنين منهم وملحدين، يعملون معاً في إطارِ المظلَّةِ الواسعة للعلوم الطَّبيعية؛ وليس هنالك أدلُّ على ذلك من تلك الصَّداقة التي كانت قائمةً بين عبد السَّلام المُسلم (حتى وقت وفاته في عام 1996) وواينبيرج المُلحد، اللَّذين تقاسما معاً جائزة نوبل للفيزياء في عام 1979، لتطويرهما نظريةً لتوحيدِ قوَّتين من القوى الرَّئيسية في الكون، هما القوَّة النَّووية الضَّعيفة والقوة الكهرومغنطيسية؛ وهذه الأخيرة هي التي وَحَّدَها من قبلُ عالمُ الفيزياء الإسكتلندي جيمس كلارك ماكسويل بجهودٍ نظرية، استند فيها إلى تجاربَ عمليةٍ قام بها بنجاح عالمُ الكيمياء والفيزياء الإنجليزي مايكل فاراداي.

محمد خلف
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



عزيزى محمد خلف .. لك جزيل الشكر على هذا الدَّفق المعرفى العميق والشيِّق الذى أفادنى وأمتعنى أيُّما إفادة وإمتاع. أتداخل هنا لا لأنحرِفَ بخط إسترسالك المُحكم الحَـذِق، وإنما ليأتى توضيحك على إستفسارىَّ التاليين ضمن مسيرة رسائلك:

جاء فى الفقرة الأولى من رسالتك الأخيرة: (.. حظيرة الدِّين بمعناه الشَّامل، وهو الدِّينُ الحقُّ، الذي لا يكتفي بتجاوز أديان السِّجل الأنثروبولوجي، بل يُفسِّرُ ويُتوِّجُ كافَّة الأديان الكتابية.)

ومادمنا نسعى لخلق "تصوُّرٍ أكثر اتِّساعاً، يمكن به إنشاءُ أساسٍ راسخٍ للتَّعاونٍ بين العلم والدِّين"؛ فما هو موقع "أديان السِّجل الأنثروبولوجي" من معنى "الدين الشامل" ومفهوم "الدين الحق" ؟ .. إذ أن صياغة الجملة أعلاه، تعطى إنطباعاً بأن "الدين الحق" " يتجاوز" هذه الأديان، بإعتبارها فى درجةٍ أدنى، إلى ما هو أهم، وهو تفسير وتتويج كافة الأديان الكتابية !

وجاء فى الفقرة الأخيرة من الرِّسالة: (.. حركة ما بعد الحداثة تُوهِمُ الغافلَ بتقديرِها الإيجابيِّ لموضوع الدِّين، إلا أنها تفعلُ ذلك من موقع الاستعلاء بدافع التَّفضُّل على الفئات الثَّقافية والاجتماعية المقهورة، فتضعُ الأديانَ الكتابية في سلَّةٍ واحدة مع أديان السِّجل الأنثروبولوجي.).

أفهمُ من ذلك؛ أنه عند تناول معنى "الدين الشامل"، فليس من اللائق الجمع بين "الأديانَ الكتابية وأديان السِّجل الأنثروبولوجي"، من حيث كونهم "دين"، فى سلّةٍ واحدة. وبالتالى؛ إذا كان يتحتّم الفصل بينهما، فكيف إذن يمكن الحديث عنهما فى معنى "الدين الشامل"، ومفهوم "الدين الحق" ؟

وإستطراداً، هل "أديان السجل الأنثروبولوجى" هذه مشمولة فى معنى "الدين كله" الذى سيُظهَـر عليه "دين الحق"، فى الآية: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة التوبة 33]، أم أن هذا الإظهار يقتصر فقط على "الأديان الكتابية" ؟

فإن كانت مشمولة؛ ما الضَـيْر من وضعها مع الأديانَ الكتابية في سلَّةٍ واحدة ؟ .. وإن لم تكن كذلك؛ كيف إذن يمكن لنا الحديث عن معنى "الدين كله"، وقد جعلناها، بعدم إستصحابها فى سلَّةٍ واحدة، خارج "حظيرة الدين الشامل" ؟

أقول ذلك من واقع أن "أديان السجل الأنثروبولوجى" لديها الكثير لتقدِّمه فى عملية التَّعاون بين العلم والدِّين. فقد كانت، ولازالت، "العلم" الذى به طوّرَ الإنسان مقدراته، وبه نظّم مجتمعاته وتجاوز تحدِّيات الطبيعة ومحن الحياة .. وبه إستطاع الصمود والبقاء.

وأقبل منى عامر المودّة والتقدير

صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

فراس السوّاح في كتابه "مغامرة العقل الأولى"
أعتبر ديانات السجل الأنثربولجي هي المحاولات الأولى
للعقل لتفسير الظواهر حوله. وهناك الكثير من الأساطير
ظهرت في الديانات الكتابية بنفس التفاصيل.
والذين لم يؤمنوا بالإسلام كانوا يصفون كلامه بأنه
أساطير الأولين، مما يدل على معرفتهم بها
ومما يشي بوجود صلة بين هذه الأديان والاديان السماوية.
علي عجب
مشاركات: 470
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 5:48 pm

مشاركة بواسطة علي عجب »


اوصاني صديق عزيز ان ابحث عن هذا البوست..

فعلا سياحة تستحق الاحتفاء

التحية والاحترام لكل من اسهم في هذه الحوارات
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر هذه المساهمة، يتَّخِذُ محمد خلف من الأسئلة والاستفسارت التي ساقها ياسر عبيدي مناسبة ليستدرك ويوضح الدلالات التي يقصدها باستخدامه مصطلحات أو تعبيرات بعينها:




من معاني التَّجاوز، والتَّفسير، والتَّطوير، والتَّتويج


تعلَّمتُ منذ تأسيس جماعة "تجاوز" للإبداع في منتصف الثَّمانينات حرفة الاقتراب من الدِّقة حيال المفاهيم المُستحدثة والمفردات المُستخدمة في توصيلها، علاوةً على الانتباه إلى السِّياقات التي تتحرَّك في داخلها، مما ينتُج عنه تبديلٌ في دلالاتها أو تحويرٌ لمقاصدِ مستخدميها. إلَّا أنها حرفةٌ أشبه بحرفةِ المحارب السَّامرائي، لا ينجو صاحبُها من طعنةٍ إثر هفوةٍ أو كسرٍ لانشغالٍ بأمرٍ عابر. وكان مصطلح "التَّجاوزِ" مُنتشراً بتضميناته الأدونيسية التي لا تخفى على أحد، وكنَّا نُصارعُ لتبرئته من تضميناتِ الإلغاءِ أو الإقصاءِ أو الإبعاد، أو تلك الدَّلالاتِ المجاورة التي تأتي بسببٍ من التَّرفُّع أو الاستعلاء؛ فتجاوزُ القديمِ لا يعني إلغاءه، واحتضانُ المُعاصِرِ لا يعني إقصاءَ السَّائد، وتبني الحداثةِ لا يعني إبعادَ خصومِها؛ بل إن مفهوم "التَّجاوز" الذي كنَّا نقصده، ودافعنا عنه منذ الاجتماع التَّأسيسي للجماعة بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح، وضمَّناه في بيانٍ منشور، هو النَّظرُ في القديمِ واستصحابُ السَّائد، وفقَ منظورٍ لا يدعو لتَّخطِّيه، وإنما يسمح بقراءته بكيفيةٍ تؤدِّي إلى تجاوزه، أي إحضاره، وليس تغييبه، بغرضِ رفدِه بدلالاتٍ معاصرة.

وكان ينبغي أن أشرح ذلك أو أحترس في عبارتي بعض الشَّيء عندما قلت إن "دين الحقِّ لا يكتفي بتجاوز أديان السِّجل الأنثروبولوجي"، فالتَّجاوز هنا لا يعني إلغاء التَّعبيرات الدِّينية المغايرة أو تهديم أضرحتها أو الانخراط مجدَّداً في إعادة اختراع العجلة بتحطيم تماثيلها أو تدمير معابدها، كما يعكف "داعش" الآن في تنفيذه، ولا يلقى تأييداً مِمَّن فُطِر على المحبة أو وطَّن النَّفسَ على أن يلقى ربَّه بقلبٍ سليم؛ فما قام به إبراهيمُ عليه السَّلام، وما اقتفى أثره محمَّدٌ صلوات الله وسلامه عليه، عملٌ مُفعمٌ بدلالاتٍ رمزية أملتها لحظاتٌ نموذجية متفرِّدة؛ وما يقوم به "داعش" عملٌ أخرق لا يكترث لدلالة الوقت أو يلتفت إلى قيمة التَّاريخ.

وينبغي القول أيضاً إن التَّجاوز بهذا المعنى المذكور لا يكفي أساساً للتَّعامل مع أديان السِّجل الأنثروبولوجي أو غيرها من الأديان الكتابية، بل إن دين الحق يصلُح أساساً لتفسيرها جميعاً؛ وما نعنيه بالتَّفسير لا يطالُ معنى الشَّرح، بل ينفذُ إلى معنى التَّعليل المُستخدم في مجال العلوم الطَّبيعية، ويقتربُ منه اقتراباً، ولا يتطابقُ معه. فعندما قلنا في حلقاتٍ سابقاتٍ إن الفيزياء تصلُح أساساً لتفسير الكيمياء والأحياء معاً، وأشرنا في ذلك الصَّدد إلى مفهوم "السُّوبرفينيس"، لم نكن نعني أنها تشرحهما أو تقومُ بديلاً عنهما، وإنما تصلُح إطاراً واسعاً لاستيعابهما في داخلها، أي أنها بما لها من قدرةٍ تفسيرية عالية مؤهَّلةٌ -عند درجةٍ ما من التَّعميم- لتفسيرِ ما ينشأُ عنها من كيمياء وأحياء. وكذلك، فإن الإسلام، دين الحق، الذي أُرسل به محمَّدٌ، "ليظهره على الدِّين كله"، أي يُعليه على غيره من أديان، هو دينٌ شامل، قادرٌ على تفسيرِ ما جاء قبله من أديان.

وأوَّلُ سمات هذا التَّفسير هو تعاملُه، بصفته دين التَّوحيد، مع الكثرة؛ وهي التي يُشارُ إليها في المُصطلح الحديث بالتَّعدُّد؛ فهناك التَّعدُّد الثَّقافي، واللُّغوي؛ وفي مجال العلوم الطَّبيعية، هناك التَّعدُّد المعرفي، وهو الذي يُشارُ إليه بالتَّخصُّص؛ وفي مجال الدِّين، هناك التَّعدُّد الدِّيني، وهو غيرُ تعدُّد الآلهة، الذي جاء دين التَّوحيد لإبطاله. فلنبدأ بالتَّعدُّد الثَّقافي، لِنرى كيف تعاملتِ المجتمعاتُ الحديثة معه، قبل أن نقِفَ على كيفية تناول دين الحق، الدِّين الشَّامل، لهذه الظَّاهرة العامَّة، التي تستوعب داخلها ما اصطلحنا على تسميته بأديان السِّجل الأنثروبولوجي، ومقارنة ذلك مع الممارسات التي تتضارب مع هذا التَّناول.

عندما استولى الغزاةُ الكونكيستدور على الأراضي المُكتشفة حديثاً في أعقاب رحلة كولومبس عبر الأطلسي في أواخر القرن الخامس عشر، تفاجأ الفاتحون بثقافةٍ أو ثقافاتٍ مغايرة لِما عُهِد النَّاسُ عليه في الأراضي القديمة. فعِوضاً عن الاحتفاء بهذا التَّعدُّد، لجأت غريزةُ الفاتحين إلى تخفيضِ قيمة السُّكان الأصليين وتشبيههم بالوحوش والبهائم، ممَّا سهَّل مهمَّة إبادتهم من غير إحساسٍ بالإثم. صحيح أن المذكِّرات والتَّقارير التي كتبها الرَّحالةُ والمُستكشفون قد كشفت للرأي العام الأوروبي الفظائعَ التي ارتكبها الجنودُ الأسبان والبرتغاليين، إلا أن صاحب المقالات الفرنسي الشَّهير، ميشيل دو مونتين، كان هو الصَّوتُ المتميِّز والأوضحُ تفنيداً لِما انطوت عليه حملاتُ الكونكيستدور، فقد اقترح بديلاً إجرائياً للنَّظرة الاستعلائية التي سوَّغت جرائم الفاتحين- وهو ما يمكن أن نصفه (أي هذا البديل المُقترح) بوضعِ كلٍّ من الثُّقافات المعروفة والمُكتشفة حديثاً في سلَّةٍ إنسانيةٍ واحدة. وهو نهجٌ للتَّسوية مُقدَّرٌ ولا خلافَ عليه، لكن مونتينَ يُعمِّمه على شتَّى المعارف البشرية، مما يقوِّض مشروع تطوُّر المعرفة، بتمهيده لسيادة النَّظرة النِّسبوية، الذي لم تهدف مقالاته أصلاً إليها.

ففي مقالاته الشَّهيرة، يقرُّ مونتين بأنه ليس لديه أيُّ فكرةٍ بشأنِ ماذا يمكنُ أن يقبله أساساً وأصلاً للأشياء: "أأفكارُ" أفلاطون، أم ذرَّاتُ أبيقور؛ امتلاءُ ليوكيبوس، أم فراغُ ديموقريطوس؛ ماءُ طاليس، لامحدوديةُ الطَّبيعة عند أناكسيماندر، أثيرُ ديوجينس، أرقامُ وتماثلُ فيثاغورس، أم مالانهايةُ بارمنيديس؟ هل يقبلُ نارَ وماءَ أبولودورس، انسجامَ الجُسيماتِ عند أناكساغورس، أمِ الخلافَ والوفاقَ عند إيمبيدوكليس؟ وما يريدُ أن ينبِّهَ عليه مونتين هو تفشِّي الأخطاء الجسيمة وصدورُها عن العباقرة الذين ساهموا في إثراءِ الفكرِ الإنساني. إلا أن وضعَ هذه الأخطاء في سلَّةٍ واحدة هو الذي يشكِّك في قيمة الحكمة المُودعة لدى البشر؛ والنَّهج الأفضل، في نظري، هو ترتيبُ تلك الأخطاء في سَمْتٍ تطوُّريٍّ يسمحُ بتفاضُلِها والتَّعلُّمِ منها، توطئةً إلى الاقترابِ حثيثاً من موقع الحقيقة، من غير الاستيقانِ التَّامِّ من بلوغها. ومن أجل ذلك، حاولنا في حلقاتٍ سابقاتٍ الانتقالَ من المربَّع إلى المكعَّب؛ ففي المربَّع، يمكن وضعُ الألوانِ والأرقام "في سلَّةٍ واحدة، بحيث يمكن مشاهدتُها مجتمعةً، غير أن المكعَّب يسمح بمتابعتها عبر الزَّمن، والتَّنقيب عمَّا تحتها أو ورائها.

أمَّا بخصوص التَّطوير، فقد أشرنا في حلقاتٍ سابقاتٍ أيضاً إلى تميُّزِه عن التَّدورن أو الدَّورنه (وهما مفردتانِ يرتبط جذرُهما -في اشتقاقِه الكبير، الذي فطِن إليه أبو علي الفارسي- باسم دارون (نسبةً إلى تشارلز دارون الذي يرتبط اسمه في التَّرجمة السَّائدة بنظرية النُّشوء و"التَّطور"). وسبق أن قلنا إن نظرية دارون في أصلها العلمي لا تنطوي على فكرة التَّطور (أو الارتقاء)، بل إنها جاءت لنفيها، واستبدالها بآلية التَّكيُّف عن طريق الانتخاب الطَّبيعي، الذي لا يلزم أن يصحبَه تطوُّر، إذ قد ينشأ نكوصٌ أو انقراضٌ لكائنات. ومع ذلك، فإن المُشاهدَ هو خطٌّ ينزعُ في مسارِه العام نحو التَّطوُّر، وهو المعنى الذي نقصده في هذا المقام؛ وسيتَّضحُ هذا أكثر عندما نتناول التَّعدُّد اللُّغوي في الفقرة التَّالية.

انبثق في أوائل القرن الماضي اتِّجاهٌ ينزعُ إلى وضعِ اللُّغاتِ الطَّبيعية البشرية في سلَّةٍ واحدة، وقد أنشأ هذا الاتِّجاه عالِمُ اللِّسانيات السُّويسري فيردناند دو سوسير؛ وسرعان ما نشأت في أعقابه واعتماداً عليه حركةٌ فكرية لم ينحصر نشاطُها في مجال اللُّغة، بل تعدَّاها إلى سائرِ العلومِ الإنسانية، وهي ما صار يُعرفُ بالحركةِ البنيوية، التي وصل مداها إلى السُّودان؛ وكان أولُ من نبَّه إلى وجودها الأستاذ العبقري ذو الأفق الواسع محمد عوض كبلو، الذي شرع في تقديمِ محاضراتٍ عامَّة عنها في جامعة الخرطوم منذ أوائل السَّبعينيات؛ وذلك، قبل أن يستقرَّ المصطلح على واحدٍ من ترجماته المُقترحة، فقد كان يَطلِقُ على الحركة اسم الهيكلية، وأحياناً البنائية، ولم يكن يغيبُ عن باله مصطلح البنيوية، الذي استقرَّ مع مُضيِّ الوقتِ عَلَمَاً راسخاً لا لبسَ حوله ودليلاً مؤكَّداً عليها.

إلَّا أن من أوائل المبشِّرين بالمنهج البنيوي، والدَّاعين له لاحقاً في العاصمة السُّودانية، هما الأستاذان عبد اللَّطيف علي الفكي وأسامة الخوَّاض؛ وكنت بحُكمِ تخصُّصي في مجال الفلسفة وتلقِيَّ دروساً منتظمة بشعبة الفلسفة بجامعة الخرطوم حول المناهج الأوروبية الحديثة، مُلِمَّاً بالبنيوية، ومشجِّعاً على استخدامها - باعتبارها واحدةً من مكتسبات الحداثة - في مجال تحليلِ الظَّواهر الإنسانية التي تستعصي على المناهج التَّقليدية. وقد وَقَفنا جمعية تجاوز للثقافة والإبداع للتَّعريفِ بها ضمن غيرها من المناهج، بغرض المساهمة في تحقيق الهدف الأساسي للجماعة، وهو وفقَ ما تمَّ التَّعبيرُ عنه في بيانِها التَّأسيسي الإحاطةُ بالثَّقافة السُّودانية من جميع أقطارها ودفعها معرفياً في طريق الحداثة.

وكان الأمرُ الذي سهَّل على البنيوية اللِّسانية التي بعجها دو سوسير مهمَّةَ وضعِ اللُّغاتِ في سلَّةٍ واحدة، هو اجتباؤها للتَّزامن (المنظور السِّنكروني) على حساب التَّعاقب (المنظور الدِّياكروني)، واعتباره أساساً للاقتراب من الظَّواهر التي تتبدَّى على خلفية الزَّمن. وهو المقابل للنَّهج الذي نعتمده هنا في تلمُّس التَّطور الذي لَحِق باللُّغات البشرية، خصوصاً انتقالُ بعضٍ منها من واقع الشَّفاهة المُهيمن إلى تبنِّي تقنية الكتابة، وهو التَّطور الضَّروري اللَّاحق الذي مهَّد في نهاية المطاف إلى مرحلة الأديان الكتابية وهيمنتها على المشهد الدَّيني في العالم. وفي هذا الصَّدد، لم يكن غريباً أن جاءت رسالةُ الإسلام مع إرهاصاتِ انتقالِ جزيرة العرب إلى عهد الكتابة؛ وما اصطفاءُ رسولٍ أُميٍّ للاطِّلاع بأمرِ توصيلِ رسالةٍ – أصلُها كتابٌ في الأعالي- إلى مجتمعٍ شبه أمِّيٍّ أو داخلاً لتوِّه في عصر الكتابة إلا دليلٌ ساطع على الأهمية المحورية لذلك الاختيار. أمَّا تفضيلُنا هنا لاستخدام المنظور الدِّياكروني، فقد أملته الحاجة إلى وضع اللُّغات في نَسَقٍ تطوُّري، من غيرِ انتقاصٍ من هيكلها الذي يكشف عنه النَّهجُ البنيوي؛ فاللُّغاتُ كما التَّكويناتُ الإثنية سواسيةٌ في تزامنها، ولكنها تنتظمُ على التَّعاقبِ في أسرٍ يخرجُ كلُّ واحدةٍ منها من رَحِمِ أخرى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"؛ (سورة "الحُجُرات"، الآية رقم 13).

أمَّا التَّتويج، فقد ربطناه بالأديان الكتابية فقط، لأن القرآن الذي نعتمده أساساً للاقترابِ من الحقِّ قد أشار إليه، من غير أن يُورِدَ نصَّاً عليه. فالرِّسالة المحمَّدية لم تكن رسالةً مُنبَتَّةً (أي منقطعةً) عمَّا سبقها من رسالاتٍ سماوية، بل إن محمَّداً قد جاء في أعقابِ سلسلةٍ من الرِّسالات؛ وقد طُولب بصفته آخرَ الرُّسلِ أن يقتفي أثرَها جميعاً، فما هي في واقع الأمر إلا رسالةٌ توحيديةٌ واحدة، تباينت شرائعُها ومناهجُ عملها بتباين الحقب واختلافِ حاجاتِ المجتمعات البشرية: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنَاً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعَاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ"؛ (سورة "المائدة"، الآية رقم 48). كما جاء في سورةِ "الأنعام" على لسانِ رسولِنا الكريم نصَّاً بالتزامه الاقتداءَ بما جاء به عددٌ من الرُّسل الذين سبقوه: "وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلَّاً هَدَيْنَا وَنُوحَاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطَاً وَ كُلَّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) – إلى أن يقول في الآية رقم 90 من السُّورة الكريمة: "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ".

وما نُريدُ قولَه في معنى التَّتويج، هو أمرٌ يشبه علاقة الفيزياء بكلٍّ من الكيمياء والأحياء، ولا يتطابقُ معها تطابقاً تامَّاً؛ فالفيزياء بوصفها أولَ العلومِ (أو مليكَها في التَّعبير الدَّارج) هي مناطٌ للقوى الرَّئيسية (كهرومغنطيسية، وجاذبية، ونووية بنوعيها) التي يُمكن أن تُفسِّرَ ما يصدُر عنها لاحقاً من تركيباتٍ كيميائية أو كائناتٍ حيَّة؛ وكذلك فإن الإسلام، آخرَ الرِّسالاتِ، تتويجٌ لدينِ الحقِّ، ومفسِّرٌ لما قبله، لانطوائه على منحًى جوهريٍّ لم يظهر فيما قبله، وهو صفة الشُّمول؛ فقد تلقَّى موسى، على كونه كليمَ الله، من ربِّه "ألواحاً"، وكان عيسى "كلمة" الله في الأرض؛ أمَّا ما نُزِّل على محمَّدٍ تنزيلاً، فهو في الأصل "لوحٌ محفوظٌ" في الأعالي (الكتاب)، و"كلامٌ" محفوظٌ في صدور المؤمنين (القرآن)؛ وقد كان بهذه الصِّفة الأخيرة قابلاً للتَّدوينِ من قبل كَتَبَةِ الوحي في عهد الرَّسول، وللتَّسجيلِ لاحقاً في شكلِ صحف (المُصحف). بمعنَّى آخر، أن ما نَزَلَ على محمَّدٍ شاملٌ لجانبي العملية اللُّغوية (الكلام والكتابة)، وهو بهذه الصِّفةِ تتويجٌ لما قبله. علاوةً على ذلك، فإن التَّنزيلَ في جانبيه الأساسيين (كتابٌ في السَّماء، وكلامٌ في صدرِ مؤمنٍ في الأرض) تعبيرٌ عن الحق؛ أمَّا صيرورتُه مُصحفاً، فقد فتحته على احتمالين، كان يخشى أبو بكرٍ ثانيهما: الأول، تمسُّكٌ بالحقِّ، وتفسيرٌ لآياتِه على ضوئِه؛ والثَّاني، انحرافٌ عن الحقِّ، وتحريفٌ لدلالاتِ الآيات؛ أمَّا المُنزَلُ نفسُه، سواءً كان في الصُّدورِ أو في السُّطور، فقد تعهَّد اللهُ بحفظِه (وهو ما نشهده الآن عياناً بياناً)، مثلما تعهَّد بحفظِ نسختِه الأصلية في السَّماء: "وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسَاً شَدِيداً وَشُهُبَاً؛ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابَاً رَصَدَاً"؛ (سورة "الجن"، الآيتان رقم 8 و9).

سنُسدي في حلقةٍ مُكمِّلة شُكراً يستحقُّه ياسر عبيدي، لطرحِه استفساراتٍ محرِّضةً على التَّفكير العميق؛ موصولاً كذلك للصَّادق إسماعيل، لمواصلته في تقديم التَّعليقات الشَّيِّقة والإضاءات المفيدة؛ كما سنُوردُ تعليقاً على أسطر علي العجب المُضيئة. هذا غيرُ عَودةٍ إلى إسبانيا، مروراً بجنوبِ مصرَ، وأخرى إلى سنَّار؛ كما سنُشيرُ إلى هفوةِ سامرائيٍّ (أو سامورايٍّ) أخرى، نشأ عنها خلطٌ بين علمٍ وعلم، دون التَّنبيه إلى أن أحدَهما يشيرُ إلى الحق (العلم اللَّدني)، وأن الآخرَ يشيرُ إلى الحقيقة (العلوم الطَّبيعية)؛ ممَّا قد يؤدِّي لاحقاً إلى لبسٍ في استخلاصِ النَّتائج أو تعسُّرٍ في توضيحِ الدَّلالات.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد مايو 08, 2016 10:01 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه وردةُ عِرفانٍ من محمد خلف:



حلقةٌ مُكمِّلةٌ لِما قبلها ومخصَّصة في غالبها إلى إسداء الشُّكر لثلاثِ مجموعاتٍ مُنتِجة لهذا الرُّكن



ما كان يمكن لهذا الرُّكن، الذي يُسمِّيه عادل القصَّاص (متصرِّفاً في التَّرجمةِ) خيطاً وعثمان حامد (متوخِّياً للتَّعريبِ) بوستاً، أن ينجحَ في توصيلِ رسالته، لولا جهودٌ متَّصِلة لثلاثِ مجموعاتٍ نخصُّها هنا بالشُّكر، وربما غَفَلنا عن غيرها؛ فيُرجى التَّنبيهُ، قبل فواتِ الأوان. وما كان يُمكنُ، من جانبي، أن أصرَّ على تسميته بالرُّكن، لولا اعتقادٌ راسخٌ بأنه في الأساسِ مكانٌ افتراضيٌّ لحوارٍ جماعيٍّ مُطَّرد؛ وكان لهذه المجموعاتِ الثَّلاثةِ دورُها الرَّائدُ في تحبيرِ أسطرٍ مضيئة أو كتابةِ أخرى بمِدادِ صمتٍ عاليِّ الضَّجيج (في إشارةٍ مزدوجة إلى ديوانٍ بعنوان "مِداد الصَّمت"، وقصَّةٍ قصيرة بعنوان "عالياً كان ضجيجُ صمتِها"؛ فشُكراً لعبد اللَّطيف علي الفكي، صاحب الدِّيوان، مهنئين له بصدور "اللُّغة الخفية في السَّرد"، وليتَه يُتحِفُ هذا الرُّكنَ بطائفةٍ من معارفه السَّردية؛ وأسفاً دائماً ومُوجِعاً على رحيلِ عبد السَّلام حسن عبد السَّلام، صاحب القصَّة القصيرة، فلو كان يسعي بيننا في هذه السَّاعاتِ المباركةِ بإذنِ الله، لملأ ركنَ هذا الحوارِ بضجيجِه المُحبَّب، قبل أن يُضمِّخَ أجواءه باستبصاراتِه الفكريةِ العميقة).

أولُ هذه المجموعات هي مجموعةٌ مُنتِجةٌ بامتياز، يقف على رأسِها الصَّديق القاص عادل القصَّاص، فهو صاحب الرُّكن، وهو الذي هيَّأ لنا في الأساس هذا الفضاء السَّرديَّ العامر بقصصِه الشَّيِّقة، وردودِه القوية، وسياستِه التَّحريرية الصَّارمة، وتعاونِه النُّموذجي في تصحيح المعلومات، وتنقيحِه للمشاركات، وتقييمه للمواد، وتعليقه عليها -شفاهةً أو كتابةً- قبل أو بعد نشرها؛ وهذه سمةٌ أخرى من جماعيةِ هذا الحوار، فقد كان القصَّاصُ يترك أحياناً لعثمانَ (الشَّخصِ الثَّاني في هذه المجموعة) مهمةَ نشرِ المواد، لانشغالِه بجهدٍ أكاديميٍّ -أثمر بنَيلِه شهادة الدُّكتوراة- ولاختلافِ التَّوقيتِ على جانبي الكرةِ الأرضية (فهو إنْ كان نائماً في ميلبورن، فعثمانُ صاحٍ في وولفرهامبتون لإنزالِ المشاركات)، إلا أنه يقوم بمراجعتها في اليوم التَّالي بأدبٍ جمٍّ وهمَّةٍ لا تعرفُ التَّراخي. وقد ذكرنا من قبل في أولِ الرِّسالةِ أن وكزَ عثمان حامد المستمر هو الذي عجَّل في المقام الأول بكتابتِها، كما ذكرنا في ذيلِها أنه "منذ بدءِ كتابتها، راجع معي عثمانُ فقراتِها، فقرةً على إثرِ فقرة؛ يصحِّحُ معلوماتٍ بها تارَّةً، أو يُقيِّمُ محتوياتِها تارَّةً أخرى. فقد كنَّا نعتبرها رسالةً تهمُّ كلَّ الأصدقاء، إنْ لم نقل كلَّ القراء".

وقد حرصنا منذ البدء على أن نحافظ في هذه الرِّسالة على روحِ غرفةِ الحارةِ السَّابعة، التي يمكن تلخيصُها في احتدامِ الخلافِ الأخويِّ الدَّاخلي بيننا ومواجهة العالم الخارجي بالحدِّ الأدنى من الاتِّفاقاتِ التي نصلُ إليها بعد جهدٍ جهيد، من غير التَّمسُّك بشكلٍ دوغمائي (أي عقائديٍّ) بما نصِلُ إليه من نتائجَ أو خلاصات. فكنا نسلِّط الضُّوء على المكتوب ونُلهِبُ ظهره بسياطِ النَّقد حتى يصِلَ إلى القارئ في أفضلِ شكلٍ ممكن. وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي، أُسعفنا وسَعِدنا بوجودِ منصور المفتاح في كالجري، وكنا نُطلعه بما يجري، فيُلهِبُ القارئَ حماساً بمقدِّماته النَّارية للمشاركات، ومحاوراته الذَّكية، ولغته الأدبية الرَّفيعة، والمتميِّزة في ذاتِ الوقت (فأرجو أن يُعطيناً قليلاً من السِّياسةِ، كثيراً من الأدب؛ فقد لحِظنا جُمهورَ "تجاوزَ"، في منتصف الثَّمانينات، وعلى اختلافِ مشاربهم السِّياسية، يتحدَّثون، قُبيل الانتفاضةِ، بلغةٍ مشتركة؛ وعند نجاحِها، تفرَّقت بهمُ السُّبلُ، فكان الوطنُ هو الخاسرُ الأكبر: إذ يحتاجُ المشتغلون بقضايا الفكرِ والثَّقافةِ وقتاً أكبرَ للاتِّفاقِ على شيءٍ بينهم، فيما ينشغلُ السَّاسةُ باليوميِّ، ويتخطَّفون في استعجالِهم المُبرَّرِ –بصِدقٍ أو بمزاعمَ كاذبةٍ- ما هو جاهزٌ، وإنْ لم يستوِ عودُه أو ينضجْ ثمارُه).

وكنا نُرسِلُ في نفسِ الوقت، أي قُبيل إنزالِ المشاركاتِ، إيميلاً مُشترَكاً لصديقينِ عزيزين، هما الصَّحفيُّ التَّشكيلي عبد الواحد ورَّاق والشَّاعر الرَّقيقُ الطَّبعِ سيد أحمد علي بلال؛ وإيميلاً آخرَ لأخوين عزيزين، هما النَّاقد والنَّاشط الثَّقافي السِّر السَّيِّد والشَّاعر العميقُ الغورِ بابكر الوسيلة سر الختم. وكانت تصِلُنا ملاحظاتِهم بشكلٍ فوري؛ وأحياناً، حين يتعذَّر وجودُ عثمانَ لانشغالِه بقضايا أسرتِه الصَّغيرة أو الممتدَّة، مما يستوجبُ أحياناً قيامُه بجولاتٍ ماكوكية ما بين وولفرهامبتون وأم تريبات، ينبري بلالٌ أو ورَّاقٌ لسدِّ خانته، فيما يقفُ ضَعفُ خدماتِ الإنترنت عائقاً أمام تلقِّي نجدةٍ فوريةٍ من السِّر أو بابكر، وإنْ كانت تعليقاتُهما تصِلُ إلينا عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني.

تلك هي مجموعةُ السَّبعة المُنتجة بامتياز؛ وقد حرصنا، استجابةً لمقتضياتٍ سردية، على وَصفِ مساهماتِ أفرادِها بصيغةِ الماضي، عِلماً بأن إنتاجَها لم ينقطع، كما نرجو له أن يستمرَّ، كما كان، في سلاسةٍ ويُسر. أمَّا المجموعة الثَّانية، فإنها تنقسمُ إلى فرعين رئيسيين: الأول، يُبدي مساهماتِه القوية عبر الرَّسائل الهاتفية المباشرة التي تتَّصف بالفرحةِ تارةً، وبالاندهاش تارةً أخرى، وبالتَّشجيع الذي لم ينقطع، حتى كتابةِ هذه السُّطور؛ والثَّاني، يتململُ في جلسته، ويعِدُ بمغالبةِ المشافهة، ويتحرَّقُ للإمساكِ بالقلم، ثم يُرحِّلُ في نهايةِ الجلسةِ تأمُّلَ يومِه ليومِ عملٍ آخرَ أكثرَ نَماءً وخصوبة. ولهؤلاء، وهمُ الأغلبيةُ الغالبة من قراءِ هذا الرُّكن، أقولُ لهم إنني أكادُ أسمعُ سريانَ الأفكارِ في خلاياهم العصبية، هذا إنْ لم أقلْ حفيفَ مِدادِ الصَّمت في جلساتِهم اليومية؛ فلأجلهم، قد خُصِّص هذا الرُّكن؛ ولتوقُّعِ مساهماتِهم والرَّدِ على مداخلاتِهم المُحتملة واعتراضاتِهم المُتخيَّلة، قد أُنجزت معظمُ الأفكارِ المبثوثةِ في ثنايا هذا الفضاءِ الافتراضي.

استنكفنا عنوةً عن التَّصريحِ بأسماءِ الأشخاصِ المنضوين تحت لواءِ الفرعين الرَّئيسين للممجموعة الثَّانية، فهُمُ كُثرُ (وشكراً للنَّصري على إرسالِ أغنية "لو تصدِّق"، من كلمات عبد العزيز جمال الدِّين؛ فقد ذكَّرتني الكلمةُ الأخيرة بأغنية "شذى زهرٍ" للكابلي أيضاً، وهي من كلمات عبَّاس محمود العقَّاد، التي يقول في آخرِها: "خذوا دنياكم هذي فدنياواتنا كُثرُ)، وإغفالُ شخصٍ منهم أو السَّهوُ عن ذكره قد يُسبِّبُ حرجاً نحن في غنًى عنه، هذا غيرُ أننا ما زلنا نأملُ في أن ترى كلماتِهم النُّورَ قريباً، "فمهما هم تأخَّروا فإنهم يأتون". وهذا ما لا يمكن أن نقوله عن المجموعة الثَّالثة، التي استحضرنا من أجلها كلَّ ما جاء ذكره فيما سبق من فقرات؛ فهي أولاً مجموعةٌ صغيرة، وهي ثانياً تتميِّز بإنتاجٍ فوريٍّ وقوي، ثم هي أيضاً مجموعةٌ قد تابعتِ الرُّكنَ منذ إنشائه. إلا أننا نودُّ أن نتحدَّث هنا عن ثلاثةِ أشخاصٍ منهم فقط، لقُربِ عهدِ مشاركاتهم، ولصلتِها اللَّصيقة بموضوع الحلقةِ السَّابقة، وهم: ياسر عبيدي، والصَّادق إسماعيل، وعلي العجب.

لم أكن عند خروجي من عُزلتِي الطَّوعيَّةِ قادراً على التَّمييزِ الواضحِ بين الياسرين (ياسر عبيدي وياسر زمراوي؛ ولو كان للأخيرِ صلةٌ بفاطمة زمراوي، فإنَّ ذلك سيُعدُّ مكسباً ولا شكَّ كبيراً؛ وإنْ لم يكن، فيكفيه أنه يتقاسمُ اسماً مع الأول، الذي تقرَّبتُ إليه من خلال عادل، فلمِستُ فيه تقارباً مع ما يصِفُه الشَّاعرُ والمفكِّرُ المغربي عبد اللَّطيف اللُّعبي بأنه "نوعٌ بشريٌّ جديد"؛ ومن سماتِه، من منظورِي الخاص، قبولُ رأيِّ الآخرِ في كتاباته، واحتفاؤه بكتاباتِ الآخرين، وتقديره لآراءِ المختلفين معه، وتهذيبه في طرح آرائه؛ ونحن ما زلنا نتحرَّك في مجال الفكرِ والإنتاجِ الكتابي، وإني لأجزمُ بأنني إنْ لقيته وجهاً لوجه، لألقينَّ منه لطافةً ورهافةً وعذوبةً ورقَّةَ روح. فيكفيه لاستحقاقِ ما ذكرت أنه بدأ مداخلته بمخاطبتي بما لم نعهده منذ زمنٍ طويلٍ، قائلاً: "لك جزيلُ الشُّكرِ على هذا الدَّفقِ المعرفيِّ العميق والشَّيِّق الذى أفادني وأمتعني أيُّما إفادة وإمتاع. أتداخل هنا لا لأنحرِفَ بخطِّ استرسالك المُحكم الحَـذِق، وإنما ليأتي توضيحك على استفساريَّ التَّاليين" (وقد تعمَّدتُ في هذا الاقتباس تصحيحَ اللَّام الشَّمسية، وياءِ المفرد الغائب، وهمزةِ الوصل، وياءِ النَّسب، لقناعتي التَّامَّة بأنه سيقبلُ تدخُّلي بصدرٍ رحب؛ وهذا عينُ ما أقصده حينما أشرتُ -جرياً على قولِ اللُّعبي- إلى بزوغِ إنسانٍ حديث، أو بتعبيرِ الشَّاعرِ المغربي: انبثاقِ "نوعٍ بشريٍّ جديد")؛ فأرجو أن أكون قد شرعتُ في الحلقةِ السَّابقةِ في بعضٍ من التَّوضيح.

تحدَّثنا ضمن مشاركاتٍ عديدة عن الصَّادق إسماعيل، وقلنا إن هذا الرُّكنَ يتنفسُ برئتِه؛ ولو توقَّف عن أسئلته الفورية ومشاركاته التِّلقائية، لأُصيب هذا الرُّكن بالسَّكتةِ القلبية. وما نعنيه بهذا القول إننا لا نأتي إلى الحوارِ بصياغاتٍ فكرية مكتملة أو أجندةٍ مخبأةٍ عن المتحاورين، وإنما نطرحُ آراءَ، إنْ لم تلقَ أُذُناً صاغية، أو تفاعلاً تلقائياً، أو ردوداً مُحكمة، لماتتْ موتاً سريرياً. ومن أجل ذلك كله، يأتي تقريظُنا لجهودِ ابنِ إسماعيلَ، وتثمينُنا لمشاركاته. صحيحٌ أننا نطلب منه الإبطاءَ أحياناً، لكنه لو توقَّف تماماً، أو آثر انضماماً للمجموعة الثَّاثية، لتوقَّفَ الرَّكنُ تماماً، إلى أن ينهضَ، كما العنقاءُ، حينما تأتي مساهماتُ مَنْ طال انتظارهم، ومَنْ نسمعُ منذ الآن وقعَ أقدامهم في الفلواتِ، وعبر الجسرِ، وتحت النَّوافذ.

وثالثُ ثلاثةٍ من هذه المجموعةِ الثَّالثة لم يعطنا سوى ثلاثةِ أسطرٍ، ولكنها كافيةٌ لانضمامه لهذه المجموعة المُنتِجة. فقد كنا نقول منذ تأسيس اتِّحاد الكتاب إن الكتابة ليست كَمَّاً فقط، وإنْ كان ذلك يكفي أحياناً، ولكنها في المقامِ الأول تميُّزٌ نوعي؛ فماذا يقول علي العجب في هذه الثَّلاثةِ أسطر. في السَّطرِ الأول، يقولُ العجبُ إن صديقاً أخطره بالبحثِ عن هذا البوست (متوخِّياً مثل عثمانَ للتَّعريب، ومحتفياً مثله، وربما دوماً مثله كذلك، بالأصدقاء)؛ وهل يتبقَّى لنا شيءٌ يُذكر، إذا أسقطنا من تكويننا الفكري كلَّ ما أضافه لنا عبر مسيرتنا الطَّويلة رهطٌ من الأصدقاء؟ في السَّطرِ الثَّاني، يصفُ العجبُ هذا الرُّكنَ بأنه "سياحةٌ تستحقُّ الاحتفاء"، فهذا إطراءٌ يُثلجُ الصَّدرَ ويدفع المرءَ نحو مزيدٍ من الإسهامِ الكتابي؛ فهل يتبقَّى لنا شيءٌ يُذكر، إذا أسقطنا من مزاجنا النَّفسي كلَّ كلماتِ الإطراءِ التي حفَّزت تدافعَنا عبر الحقب؟ وفي السَّطرِ الثَّالث، يُغدقُ العجبُ "التَّحيَّةَ والاحترامَ لكلِّ من ساهم في هذه الحوارات". أجل، قد جاء العجبُ أخيراً، ولكنه فطِنَ بذكائِه الفطريِّ إلى أن هذا الرُّكنَ في حقيقته سلسلةٌ من حواراتٍ، ساهم فيها عددٌ قسَّمناه إلى ثلاثِ مجموعات، إلا أننا نُدرِكُ أن الرَّقم الحقيقي يتجاوزُ ذلك العددَ بكثير؛ فمنهم من ساق حُجَّته إلى حجراتِ الدَّرس، وقاعاتِ المؤتمرات، وصفحاتِ الجرائد، والإذاعةِ المسموعة، وأركانِ النِّقاش، والحواراتِ اليوميةِ التِّلقائية؛ فالتَّحيَّةُ والاحترامُ لهم جميعاً، وشكراً عليٌّ على هذه الأسطرِ المضيئة؛ فهل يتبقَّى من نسيجِنا الأخلاقيِّ خيطٌ يُذكر، إذا أسقطنا منه ما تبادلناه من تحايا، وما تواضعنا عليه من احترامٍ متبادل؟



انتهينا من إسداءِ شكرٍ مؤقَّت، وما زال في الحلقِ بقيةٌ من قول؛ غير أنه لطولِ المشاركةِ لا بدَّ من تأجيل السَّفر، وكنا قد أعددنا للقرَّاءِ رحلةً إلى إسبانيا وأخرى إلى جنوبِ مصرَ، مع وعدٍ باستئنافِ القولِ حول خلطٍ بين علمٍ وعلم؛ فإلى لقاءٍ في حلقةٍ قادمة، نرجو أن تكونَ بالفعلِ مُكمِّلةً لما تمَّ استهلالُه من قولٍ بشأنِ التَّعدُّدِ وتعاملِ دينِ الحقِّ مع هذه الظَّاهرة العامَّة.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

أود أن أستهل هذه المداخله بالآتى إن هذه الكتابه إذا عُرضت على دون معرفة كاتبها لحسبت كاتبها مالك بن نبى كتاب ألمّ
صاحبها بعلوم الشرق والغرب وألم بوحدانية الرساله وإتساعها لمستجدات الواقع الكونى وقدرة كل رسولٍ بتنزيل ما يناله من إبتلاء بصبرٍ وجلد. نعم إنها كتابة
معجزه لتناولها للعادى بقدرات غير عاديه وأسلوب المتمكن الراسخ الواقف على الآداب والفنون والعلوم واللاهوت والناسوت كتناول آيات الله للأشياء من كل الجوانب
لتتراقص تفاصيل كلياته لعين خيال الفنان عبدالواحد وراق ليجسدها لعينى أذنى عرائس من جمال خرافىٍ هلامى، فبقدر ما أستوقفتنى فقد إستوقفت محمد عبدالرحمن
شقل وطواها صحائفاً من إبداع يطوف بها فى المجالس الأدبيه والمنابر المعرفيه يظن متلقيها إنها من خفايا حميد فيجدها من يماثله فى الصدق والإلتزام والحس
الإنسانى الكبير والفتح الرحمانى الذى يخص به الله أهل السعة والقدره على توصيله للناس وكيف لا وهذا الفتح المعرفى المتسلسل أى عقادٍ قعده كما ينبغى كما
ظل يقدمه خلف للقراء كوجبةٍ كاملة الأركان لتشبع قو متلقيها وتسنده حتى موعد الأخرى التى تتشابى أرجل غرائز الشوق المعرفى إليها وتطول الأعناق لذا يبين
التطواف فى توصيف مذاقاتها والأسئله الجريئه عن أنواع البهار فيها وعن طرائق تحضيرها وبإندهاش لا يغيب عن فطنة المتابع، أقول وقد أخذتنى ثلاثة أشهر عن
حوضها ولكن لم تأخذها عن الذاكره بل ظلت حاضرة فى كل مرفق وقفت عنده وتزداد وهجاً عندما ألتقى ببعض من إرتبط بها كلقائى بشقل وبابكر الوسيله
والسر السيد والجندريه وبعض الأماكن وبعض الأجواء والأحوال وبعض الناس فكان لقائى بطاهره الخليفه تطواف أبان عمق العباره التى بذلها مسعود والثوره وبكار
والأهليه ومحمد حسين لا بل البكرى وشرفى جميعها أشعلت وهج تلك الكتابه ورسختها فى الذات الوثابه، فيا خلف يا ذلك المخلص الوفى فإنك عند تقديمك للثناء
تقدم المعرفه والجمال والأدب وتقدم الفكر والعلوم ويا بخت من يتابع هذه الكتابه التى يزداد وهجها كلما إزدادت وازداد وقوفنا عليها فيا خلف والقراء أتمنى أن
تجدوا لنا العذر فى الغياب القسرى وأتمنى أن يثمر حضورنا فى ايراقها ويناعتها.


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كان محمد خلف قد وعد بسردية تنقلنا إلى الأندلس كما إلى جنوب مصر. ها هو الآن ينفِّذ وعده بالتهيئة لتلك الانتقالة، وهي انتقالة يمكن وصفها بأنها زيارة مختلفة إلى التاريخ، من أجل "التاريخ" نفسه، كما، أو أيْ، من أجل الحاضر بالدرجة الأولى:




تشابُكٌ كمِّي: سبعةُ قرونٍ من التَّفاعل أم سبعمائةُ عامٍ من العزلة؟



قلنا في متنِ "الرِّسالة" إن الأستاذ جمال محمد أحمد -أولَ رئيسٍ لاتِّحادِ الكتَّاب السُّودانيين- كان يُدركُ الفروقَ الجوهرية بين الرِّوايةِ والتَّاريخ، وكان يميلُ ميلاً نحو الأولى، من غيرِ أن ينفرَ عن الأخيرِ نفوراً. سنُحاولُ في هذه المشاركة أن نترسَّمَ خُطى الأستاذ الجليل بتناولِ حدثينِ تاريخيين، نميلُ بهما بِدَورِنا ميلاً نحو السَّرد، من غيرِ أن نُعرِضَ تماماً عن حُكمِ التَّاريخ. الحدثُ الأول، موضوعُ الحلقةِ القادمة، يتعلَّقُ بسياسة بسمارك، بشقيها الدَّاخلي والخارجي، كما كنَّا ندرسهما، ونحفظهما حفظاً إبان المرحلة الثَّانوية، عِلماً بأننا سنميلُ بهما نحو سردياتِ الحداثة، لنرى كيف كان نيتشة وفاغنر وشيلر وماركس ورهطٌ من الهيغيليين الصِّغار يجترحون حلولاً لأزمةِ بلادهم إبان الحرب البروسية-الفرنسية في عام ١٨٧٠-١٨٧١ (في أعقاب فشل ثورتي عام ١٨٣٠ وعام ١٨٤٨).

أمَّا الحدثُ الثَّاني، موضوعُ هذه الحلقة، فهو الرِّحلةُ التي وعدنا بإعدادِها للقارئ الكريم، عِلماً بأننا سنقومُ بها لمكانينِ، في نفسِ الوقت معاً، مع إنهما يبعدانِ عن بعضِهما البعض آلافَ الأميال، فالإقليمُ الأول يُوجد في بلاد الأندلس، بينما تمتدُّ المنطقة الأخرى فيما وراء بلاد ’المريس‘. بالطَّبع، فإنَّ عِلْمَ الميكانيكا الكلاسيكي لا يسمِحُ بإقامةِ مثل هذه الرِّحلةِ المستحيلة، ويُصِرُّ على إيجادِ صلةٍ ’فيزيائيةٍ‘ ملموسة بين أيِّ جسمينِ متباعدين؛ غير أن ظاهرة التَّشابك، في إطار ميكانيكا الكم، تُشيرُ إلى إمكانيةِ قيامِ علاقةٍ بين جسمينِ تفصِلُ بينهما مسافةٌ بعيدة، إلَّا أنَّهما، مع ذلك، يرتبطانِ فيما بينهما بالتَّعاكس، بحيث يقومُ كلُّ واحدٍ منهما بتحريكٍ متناسقٍ للآخر، فلا يُمكِنُ لذلك دراسةُ أيٍّ منهما بمعزلٍ عن الآخر؛ هذا إضافةً إلى أنَّ كلَّ واحدٍ منهما، برغم البونِ الشَّاسعِ بينهما، "يُدركُ" ما يلمُّ بالآخر، فيتصرَّفُ على الفورِ بمقتضى ذلك "الإدراك"!

بعد بضعةِ عقودٍ من الهجرة النَّبوية، تحرَّك جيشانِ متشابكانِ كمِّياً بأمرٍ من قائدٍ إسلاميٍّ في القاهرة. تحرَّك الجيشُ الأوَّلُ غرباً، قاصداً بلاد المغرب؛ وتحرَّك الثَّاني جنوباً، قاصداً جنوبَ مصرَ، أو صعيدَها، الذي كان يُعرف ببلادِ ’المريس‘. وقد كان تحرُّكهما في وقتٍ واحد، بل في لحظةٍ واحدة؛ وقد وصلا كذلك إلى غايتِهما المقصودة في لحظةٍ واحدة. وجد الجيشُ الأولُ عائقاً مائياً شكَّل أمامه حدَّاً طبيعياً، ووجد الثَّاني امتداداً أرضياً شكَّل أمامه تُخوماً مفتوحة، أو صعيداً شاسعاً بلا حدود؛ فتشاورَ القائدانِ عن ’بُعدٍ‘ (ليس عبر مجالٍ كهرومغنطيسيٍّ، أو بتواردٍ لخواطرَ شاردةٍ، أو تخاطرٍ ذهنيٍّ على طريقةِ "يا ساريةُ الجبلَ"، وإنَّما لأنهما في الأساسِ جِسمانِ متشابكانِ تشابكاً كميَّاً، يسمِحُ لكليهما بتلمُّسِ مشاعرِ الآخر، والتَّنبؤِ بخطواتِه، والعملِ بمقتضى ذلك التَّنبؤ، الذي تتحكَّم فيه آليةُ التَّعاكُسِ المُشارُ إليها).

كان الأحرى بالأول أن يتوقَّف، لكنه آسَرَ ركوبَ الموجِ ومواجهةَ الصِّعاب؛ وكان الأحرى بالثَّاني أن يتقدَّم، لكنه واجَهَ موجةً من أعمالِ المقاومة التي يقودُها أُناسٌ شديدو المِراس، وصفتهم مَرَاجِعُ رائجةٌ بـ"رُماةِ الحدق". غزا الأولُ بلادَ الأندلس، وقضى فيها سبعمائة عام؛ واستقرَّ الثَّاني في بلادِ ’المريس‘، بعد أن أخذ عهداً مع النوبة المسيحيين (في نوباتيا أو المقرَّة، وفقَ مَرَاجِعَ لم يقِر لها قرارٌ بشأنِ أيِّ المملكتين المسيحيتين هي أقربُ لأن تكونَ هي الطَّرفُ الثَّاني في المعاهدة، أو "البقط"، نسبةً إلى مفردة "باكتوم" اللَّاتينية، التي اشتُقَّت منها كلمة "باكت" الإنجليزية)، وقضى فيها أيضاً سبعمائة عامٍ في منطقة التُّخوم، الممتدَّة من بلاد ’المريس‘ إلى مشارفِ دنقلا التي دُمِّرت في وقتٍ لاحق بالمنجنيق.

(بالطَّبع، يُمكِنُ لمؤرِّخينَ نابهينَ أن ينجزوا صياغاتٍ مختلفة، تتحرَّى دِقَّةً مطلوبة، وتقتربُ بهم بشكلٍ مطَّرد نحو حقيقةٍ منشودة؛ فيُمكِنُ لهم، على سبيل المثال، أن يقولوا إن الهدنة مع النوبة حدثت بعد ٣١ عاماً من الهجرة النَّبوية، بينما تمَّ فتحُ الأندلس بعد ٩٢ عاماً من حدوثِها؛ أو أنَّ العهدَ مع النُّوبة استغرقَ نحو ٧٠٠ عام، بينما استمرَّ حكمُ العربِ لإقليم الأندلس نحو ٨٠٠ عام. كما يُمكِنُ لناشطينَ ثقافيينَ أن ينتقدوا الإجحافَ الذي انطوت عليه شروطُ المعاهدة، بينما يُمكِنُ لآخرينَ غيرِهم أن يُركِّزوا على فكرةِ التَّحاورِ بين الأديان. إلا أننا ننشِدُ هنا إطاراً سردياً يسمحُ لناشطينَ ’حضاريينَ‘ –إنْ جازَ التَّعبير- باستحضارِ الماضي لإجراءِ حوارٍ متحضِّرٍ، وفي خدمةِ الحاضرِ كذلك، بين حدثينِ بعُدت بينهما الشُّقَّة، وتباعدت أزمنتُهما بعضَ التَّباعدِ، إلا أن هدفَهما متقارِبٌ، إنْ لم يكن متطابقاً تماماً.)

صحيحٌ أن كلمة "بقط" مشتقَّةٌ من أصلٍ لاتيني هو "باكتوم"، كما ذكرنا في فقرةٍ سابقة، ولكن اشتقاقَها الكبير، بالمعنى الذي قصده أبو علي الفارسي، الذي أشرنا إليه في متنِ "الرسالة"، وفي عددٍ من المشاركات، يُشيرُ إلى استخدامِ أربعةٍ من تقلُّباتِها، وهي: بقط، قبط، طبق، قطب. تُشيرُ الأولى إلى المعاهدة الشَّهيرة بين أميرٍ إسلامي، هو عبدالله بن أبي السَّرح، وآخرُ نوبي، يُشارُ إليه بـ"عظيمِ النُوبة" في العهدِ المبثوثِ في نصِّ المعاهدة؛ وتُشيرُ الثَّانية، خصوصاً في المراجع العربية القديمة، إلى عمومِ أهلِ مصر، فهي مشتقَّةٌ من كلمة "إيجيبتوس" الإغريقية؛ أمَّا في الاستخدامات المعاصرة، فإن دلالتها تنحصرُ في الإشارةِ إلى المسيحيينَ منهم فقط. إلا أن ما يهمُّنا في هذه التَّقاليب الأربعة هو دلالة الكلمتين الأخيرتين (طبقٍ وقطب) في تقاطعِهما مع التَّحليلِ ’الحضاري‘ الذي نسعى إلى التَّنبيه إلى أهميته، في مقابل الطرح الثَّقافي المتداول في تحليلِ المعاهدةِ التاريخيةِ المعروفة.

يستخدمُ الكاتبُ الأمريكي ريتشارد رايت في كتابه الموسوم بـ"اللاصفر: منطق مصير الإنسان" كلمة طبق أو "طبق بِترِي" (نسبةً إلى عالِمِ البكتيريا الألماني يوليوس ريتشارد بتري)، أو زوجٍ منهما، لاختبارِ دورنةِ الشعوبِ التي استقرَّت في الأراضي الجديدة، بعد أن تقطَّعت بهمُ السبلُ المؤدِّية إلى الأراضي القديمة، بعد ذوبانِ معبرِ بيرنج الجليديِّ الافتراضي الذي كان يربط قارة آسيا بأمريكا؛ فينظرُ إلى كلتيهما باعتبارِهما طبقينِ مختبريَيْن: طبقٌ قديم نعرفُ مراحلَ دورنةِ شعوبِه، وطبقٌ جديد شرعت شعوبُه المنعزلة عن بقيةِ العالمِ في التَّدورن، في استقلالٍ تام، بحيث يُمكِنُ القولُ إن حضاراتِها تتميِّزُ بتنوِّعٍ واضحٍ في ثقافاتِها؛ وكان يُمكِنُ لهذه الثَّقافاتِ أن تمضي في دورنتِها المستقلة، وتُنشئُ لنفسِها مساراً خاصاً بها، متميِّزاً بعضَ التّميُّزِ، ولا يختلفُ كثيراً عن النَّمط البشريِّ العام، لولا بشاعةُ الكونكيستادور التي دمَّرت جحافلُها حضارتي المايا والإنكا، إضافةً إلى التَّدخُّلِ الأوروبيِّ اللَّاحق الذي أدَّى إلى تراجعِ الشعوبِ الأصلية واحتمائها بمناطقِ التُّخوم.

أمَّا نَحْنُ، فنستخدمُ في وصف الرِّحلة "المستحيلة" المُشار إليها مصطلح ’قطب‘، أحدَ تقاليب الاشتقاق الأكبر، للإشارةِ إلى التَّشابكِ الكميِّ المتعاكس (ويُوصف هذا التَّشابكُ بالكميِّ، نسبةً إلى ’كُوانتَم‘، وكان الأفضلُ استخدامَ لفظة ’كُوانتيِّ‘ المُعرَّبة، إذ إن الكلمة المترجمة في الاصطلاحِ العلميِّ العربيِّ الدَّارج تتقابلُ مع لفظةِ ’نوعي‘، فربما تُربِكُ القارئ، فتُثيرُ أمامه بعضاً من الخلطِ غيرِ المقصود؛ ويُوصفُ أيضاً بالمتعاكس، لأنه يتضمَّن فكرة التَّقابلِ الفوري؛ فإذا كان هناك طرفٌ مُوجِبٌ، فإنه يستلزمُ أن يكونَ الآخرُ سلبياً، وبالعكس؛ فلذلك، فضَّلنا استخدام كلمة ’قطب‘ في وصفِ هذا التَّشابك). وكما سيتَّضحُ، فإن هذا التَّشابكَ الكوانتيَّ المتعاكس يُناسبُ تماماً حالاتِ اتِّخاذِ القرارات والنتائجَ المُستحصلةَ منها في كلٍّ من حدودِ إقليمِ الأندلس وتُخومِ بلادِ ’المريس‘.




ما زلنا نتحرَّكُ داخل الفضاءِ السَّرديِّ الذي افتتحه لنا باقتدارٍ مدهش الصَّديقُ القاص عادل القصَّاص، إلَّا أننا نتلمَّسُ بدءاً من هذه المشاركة ملامحَ رؤيةٍ سَردِيَّةٍ قابلةً -إضافةً إلى تكشُّفِها رويداً رويداً فيما يأتي من مشاركات - إلى استيعابِ مساهماتٍ ثرَّةٍ من العديدِ من الكُتَّابِ والمفكِّرين، هذا غيرُ احتمالِ تمكُّنها من إعادةِ تفسيرِ عدَّةِ مساهماتٍ أدبية وفكرية سابقة في السَّاحة (بما فيها مساهماتٌ لي، خصوصاً دراسةٌ منشورة باللُّغة الإنجليزية تحت عنوان: "رحلة مصطفى من الصَّعيد – أوديسا لبحثٍ عن هوية"، كان الأستاذ الصَّحفيُّ الصَّديقُ محمد عبد الحميد عبد الرَّحمن قد وعد بترجمتها، غير أن مشاغلَ شغلته بالبيتِ في هولندا، وبالعملِ مع إذاعتها الوطنية – كيف حالُ حواءَ وداليا ومظفَّر ولطفي؛ وأيُّ أخبارٍ ترِدُ إليك من صلاح إدريس الطَّويل، ومحمد عبد المنعم فوكس، وريَّا عبد السَّلام، بعد رحيلٍ فاجعٍ لعبد السَّلام حسن عبد السَّلام)؛ فريثما نستكملُ جوانبَ أساسيةً لهذه الرؤية الجديدة، سنتركُ الفلاسفةَ والمفكرين الألمان الذين أشرنا إليهم في البداية لفترةٍ على مقاعدِ الانتظار، مثلما علَّقنا من قبلُ حديثاً مُهِمَّاً عن أربعةٍ من أبناءِ جلدتِهم، على رأسِهم إدموند هوسرل. ومع ذلك، فإننا ندعو كلَّ مَنِ التقطَ جانباً من جوانبِ هذه الفكرة وأراد أن يَشرعَ في تطويرِها أو يُبادرَ في المساهمة في إطارِها على الفور، ألَّا يتردَّد لحظةً في اعتلاءِ مِنَصَّةِ هذا الرُّكن وتملُّكِ ما يَشَاءُ من نواحيه التي بذلها لنا الصَّديقُ القاص بكرمِه الأُسطوريِّ المعهود.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد يونيو 12, 2016 2:56 am، تم التعديل مرة واحدة.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »


ول ابا منصور..حبابك يا صديقي
والتحية من عبرك لأستاذنا محمد خلف..
واذكر جيدا اني كتبت تخاطرات منذ سنة وتزيد ..وتاهت مني في جخانين الكمبيوتر..!!
وهي مطايبات لأستاذنا الجميل محمد خلف.. وهو رجل سمعنا عنه في فيافي قد لا تخطر له ببال قط..في الضاحية الشرقية من مدينة الدلنج ، والتي منها ، ايام الشباب ، نجرنا اسم تجربتنا الخاصة في الشعر والفلسفة والطنقعة ، واسميناها (غرفة شرق المدينة)..وقتها كانت مثل هذه الأسماء..محمد خلف ومحمد خلف ومحمد المهدي ومحمد المهدي ..وغيرهم من الأسماء كانت تناوش اسماعنا بالمحبة والفضول..و نحن نشيل ونكتب في مذكراتنا الصغيرة المجوبكة: هذا مثقف يجب أن نقرأ له ونعرفه اكثر..!
والسبة التي جمعتنا بهم ، هي احد خريجي معهد الموسيقى والمسرح ، استاذنا الجميل دكتور فرح حمد من اهالي تمبول.. وكان وقتها يعمل بمعهد التربية الدلنج ، وكان يعرف فضولنا المعرفي المتحيز: يا استاذ دايرين نعرف عن ناس امسودان يااااااخ.. وفرح يشيل ويشرح لينا ويقدم الأسماء.. ويا سبحان الله بنفس وفائية محمد خلف هنا.. يذكرون الأسماء ويحقون الحقوق دون من أو اذى..!!
بيد ان الأمر لم يتوقف عند فرح حمد ، وانما صديقنا وعمنا حامد جاجا ، هو الآخر كان يذكر تلك الأسامي المضيئة ونحن في قعر الجبل في مدينة الدلنج..!!
بسبب هذا الخيط يا منصور ، مشيت مكتبة..
Chapter
واشتريت لي نسخة ، رخيصة طبعا بتاعة ام سبع دولار وكده..من كتاب..
عمنا روبرت..
( الزين وتصليح العجلات)..واعفي لينا يا استاذنا محمد.. نحن شعوب بتحب تسودن الحاجات للأخر يااااااااااااااخ.. عشان تعرف كيف تتواصل معاها..!!
نحن من نقتل المثقف وبتشفي كمان..!!
هذا المنبر ، حام فيهو مسعود محمد علي ، عبد اللطيف علي الفكي ، اسامة الخواض ، مصطفى ادم ، عبد الله بولا..ايمان شقاق ، احمد المرضي.. والنصري امين..!!
وما وريتك بدع النصري يا منصور..ياخي حايم ليهو في غرفة واتساب ، بتاعة ولاد وبنات حلتهم..والغريبة طلعوا بنعرفهم بطريقة او باخرى..!!
غايتو النصري لو عرف ..ح يقع من طولو..!!
اخر فيديو تبعنا ، نشرناه هنا ، وكتر خير بعض المناتلين فحطوا بيهو زي السلام عليكم ، فيديو ضائع مننا لسنوات ، وقام النصري (وهو من سجله ، وقد وثق لنا اشياء جميلة ، كلما نشوفها نقول كتر خير النصري ياااااخ) ، يدري أو لا يدري ، نشروا في غرفة الواتساب الخاصة بعيال حلتهم ، فيذهب الفيديو الى الخرطوم عشان يرجعوهو لينا هنا في كندا ، ونقوم ننشروا تاني..!!
ياخي دنيا ضيقة بشكل..!!
عطاشى يا صاحب ، ويا صبايا دولوني على السبيل يااااااااااااااخ..!
ليت عادل القصاص ، او بقية الميامين ، يبرونا بنص (زنكوغرافيا)..!!
فلقد تقطعت سفنجانتنا ونحن نختبر المعنى والمقاربة في زنك الجزارة بالسوق الشعبي امدرمان ، لأن الزنك الأصلي لم نستطع اليه سبيلا..!!


عييييييييييييييك يا منصور..!
ده حالتو لسع ما جات سيرة جعفر اسماعين ، العظيم عاصم حنفي ..ازهري شرشاب..يوسف الحبوب ، محمد علي نجيب..!!
ياخي نحن جابونا من وين يا عمك..!!!!

نشعر اننا الأجمل ، والأجمل كثيرا ، حينما نقرأ لمحمد خلف..!!

التحية لأستاذنا محمد خلف..

كبر
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

الأخ كبر لك من السلام الكثير الوافر، وتلك المحطات التى إستوقفتك باكراً بالدلنج وغرست فيك ذلك الشوق إلى خلف وصحبه الميامين تلكم المنارات التى فتح لكم أساتذتكم نوافذا إليها وبتم تناغون الوصول إلى أعماقهم كفاحاً أو عبر أى وسيط، وحتماً كانت الجامعه وحراكها المعرفى والأدبى قد قدم لكم ما تيسر عنهم وكذا نادى الكتاب والكتابات الصحفيه والندوات العامه وبعض الأصدقاء كمحمد النعمان وآخرون بعد أن أخذت الغربة خلف عن المكان الذى كان يصول فيه ويجول حتى سخر الله لنا نوق السايبر العصافير لتأتينا من سبائه بتلك الأنباء الساره والنبؤات المعرفيه الباهره كما فى آخر مداخلة له عن التشابك وما أثاره عنه بمثالى بلاد الأندلس وبلاد مريس ومرس لنا فنون المعرفة مرساَ وسقانا لها فكراً قراح يريح روح العقل ويطرب عقل الروح. أما من جاء ذكرهم من الصحاب سادات المنتدى الأدبى فى عصره الذهبى ونقدم محمد نجيب محمد على ونضعه فى الصداره لأنه سبقنا وما زال يفعل بفراسخ ضوئيه وهنالك رباط بينى وبينه وخلف وكذلك التجانى سعيد إبن عمه هو دراسة الفلسفه إلا أن خلف قد قرح فيها وكذا التجانى الميال للتصوف والزهد، ولمحمد نجيب قصيدة فيها من تشابك خلف ما ما فيها وفيها يقول (أكاد لا أعى من الأمور غير ظاهر خفى) أما إبن الأبيض عاصم ومطولاته وفكاهيته وصوتهوبريق عينيه وكأنه يلقى أمامى الآن إحدى روائعه وجعفر إسماعيل وصوته الجهور وشقيقه حسن ومجدى حسبو وعبدالرحمن ومن معهم من الرائعات كسميره الغالى وسميه جيلانى وبنت منصور والسلسله تمتد وتمتد، فيا عزيزى كبر هذه السانحه كما المائدة من السماء زاداً أبدياَ وفرته لنا مطايا النت المطيعه وأتمنى أن نراك هنا دوماَ حتى تضع لمساتك المعرفيه وبصمتك الأدبيه لعطاشى المعرفه والأدب.

ولك الشكر والسلام

منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الآن إلى هذا "التمهيد الثاني" لرحلتيْ محمد خلف اللتين ستقوداننا معه إلى بلاد المغرب والأندلس وجنوب مصر أو بلاد النوبة:



القبسُ السَّاطعُ من جبلِ النُّور والطَّبيعةُ المزدوجة للضُّوء



كان حتماً مقضِيَّاً على النُّورِ الذي سَطَعَ على غار حراء أن يسري، بعونِ الله، في الأرض؛ إلَّا أنه عند اصطدامِه بعقباتٍ مكتوبةٍ في الطَّريق، تتكشَّفُ للعيانِ الطَّبيعةُ المزدوجة للضُّوء؛ فما تنزَّلَ على محمَّدٍ خلال نَيفٍ وعشرين عاماً هو الحق؛ أمَّا ما اتَّخذه أصحابُه من قراراتٍ، فهي تخضعُ لمنطقِ الحقيقة وتشظِّيها في هذه الدَّارِ الآدميةِ الدُّنيا. وإنَّ أسطَعَ دليلٍ على ذلك هو نشوبُ معاركَ حول قضايا بعينها انقسمَ فيها الصَّحابةُ الخيِّرون إلى معسكرَيْنِ مُتناحِرَيْن، يعتقدُ كلُّ معسكرٍ منهما صادقاً أنه حاملٌ للحق، مما دفع آخرون لا يقلُّون عنهم في ميزانِ الخير والعدل إلى التزامِ جانبِ الحياد، ولا نقولُ الإرجاء، خشيةً من تضميناتٍ سلبية، وإعادةِ تدويرٍ لمفاهيمَ أكلَ عليها الدَّهرُ وشرِب.

اعتقد القائدُ الذي قاد الفرقة التي اتَّجهت غرباً نحو بلاد المغرب أن الحدود الطَّبيعية التي انتصبت أمامَه بحراً متلاطمَ الأمواجِ لم تكن في واقعِ الأمرِ عائقاً يُثنيه عن إكمالِ مهمته التَّبشيرية، فحَمَلَ مع جُندِه مشاعلَ النُّورِ إلى "أندلسٍ خِصب"، وإلى مشارفِ حدودٍ جبلية، تقبع خلفها تخومٌ تقودُ مباشرةً إلى أرجاءِ أوروبا "المُظلِمة". وتكثيفاً لاستعارةِ "إظلامِها" المعرفيِّ، سبق أن أشرنا في أحدِ المشاركاتِ إلى قولِ عالِمِ الفيزياء الأمريكي إستيفن واينبرج، نقلاً عن كتاب فيليب خوري هيتي "تاريخ العرب"، بأنه "بينما كان هارون الرَّشيد والمأمون في الشَّرق يعكفون على دراسةِ الفلسفتين الإغريقية والفارسية"، فيستقبلونَ في بلاطِ بغدادَ رَهطَاً من الفلاسفة والعلماء ويُنشئون لهم داراً للحكمة، "كان معاصروهم في الغرب، شارلمان -ملك الفرنجة- وبطانته، هواةً ينشغلون بحِرفةِ كتابةِ أسمائهم".

أمَّا القائدُ الذي اتَّجه جنوباً صوبَ بلادِ 'المريس'، فقد اعتقد أنه وجد عائقاً انتصب أمامَه كالطَّود، متمثِّلاً في مقاتلي النُّوبة شديدي المِراس، حتى لكأنَّ بلادَهم سُمِّيت ببلادِ 'المريسِ' لهذه الخاصِّية بالذَّات، وليس لارتباطها الفعليِّ بكلمتَيْ "مُوْر" الإنجليزية ذاتِ الأصلِ الإغريقي، و"مُوريسي" اليونانية؛ وتُطلقانِ على سكانِ موريتانيا، والمغرب والجزائر، والعرب الذين اختلطوا بالبربر. وقد حرصنا منذ البداية بتنبيهٍ حاذقٍ ولبِقٍ من الصَّديق الشَّاعر سيدأحمد علي بلال، ولمعرفتِه اللَّصيقةِ والحميمة باللُّغةِ اليونانية، على استخدامِ علامتَيْ الاقتباس التَّخويفيتين عند الإشارة إلى كلمة 'مريس'، خصوصاً وأن آراءَ غيرَ مستنيرةٍ تُحَمِّلُ الكَلِمَةَ بِدَلالاتٍ ازدرائية، فتصِفُ النُّوبة بالبرابرة، مثلما يصِفُ الأوروبيون العربَ بعد خروجهم من غَرناطة بالبربر.

من الخواص التي أصبحت معروفةً لدينا عن الضُّوء أنه ذو طبيعةٍ مزدوجة، فهو من جانبٍ جُسيمٌ، وهو من جانبٍ آخرَ موجة؛ فمن ناحيةٍ يُمكِنُ النَّظرُ إليه باعتباره جُسيماً، كما يُمكِنُ من ناحيةٍ أخرى النَّظرُ إليه باعتباره موجة؛ كما يُمكِنُ أيضاً، وهو الأمرُ المحيِّرُ بالفعل، اعتبارُه جُسيماً وموجةً في نفسِ الاَن. وقد أثبتتِ التَّجاربُ منذ القرن التَّاسع عشر أن الضُّوء عبارة عن موجة، إذ إنه يُحدِثُ تداخلاً عندما يعترض طريقه عائق (حاجزٌ أو طود، كما في استخدامِنا الاستعاري، وهو الجبلُ العالي المرتفع). إلَّا أن تجربة الثُّقب المزدوج قد أثبتت أن الضُّوء عبارة عن جُسيم، إذ إنه يدخل في الثُّقبين كلٍّ على حدة، فوتوناً على إثرِ آخر (والفوتون هو أصغرُ جُسيمٍ للضُّوء)، ولا يدخلُ إلى الثُّقبينِ معاً، كما يُتوقَّعُ لو كان الضُّوءُ موجة؛ غير أنَّ التَّجربة أثبتت أيضاً، وهذا هو مربطُ الفرسِ الذي سنستخدمه في توغُّلِنا عبر التُّخوم، أن الفوتوناتِ التي تمرُّ عبر الثُّقبين، تُشكِّلُ إذا ما اصطدمت بحاجزٍ خلفهما تداخُلاً (إنترفيرنس)، لا يستبينُ من أولِ وهلة؛ ولكن، عندما تتراكمُ الجُسيماتُ عبر الثُّقبين، فوتوناً على إثرِ آخر، يبدو التَّداخلُ واضحاً على سطحِ الحاجزِ الخلفي.

لا نُريدُ أن ندخلَ في تفاصيلِ التَّفسيراتِ المتعدِّدةِ ضمن الميكانيكا الكُوانتية، التي تنظرُ للضُّوءِ تارَةً كُجسيم، وتارَةً كموجة، وتارَةً أخرى بوصفِه الاثنين معاً في ذاتِ الآن؛ لكننا ننشدُ استخداماً سَردِيَّاً، نُشبِّهُ فيه الحاجزَ النُّوبيَّ الذي أُقيمَ في أعقابِ معاهدة البقط بالسَّدِ أو الطَّودِ أو الجبلِ الشَّامخ، كِنايةً عن كفاحٍ باسلٍ "لأهلِ مَدَرَةٍ سوداءَ سُحمٍ جِعاد"؛ ونُشبِّهُ التَّواضعَ على اتِّفاقٍ بين قائدٍ إسلاميٍّ وعظيمٍ مسيحيٍّ لمملكةٍ نوبيَّةٍ بالثُّقبين؛ ثم نُشبِّهُ أخيراً، كما فطِن الأستاذ النَّابه محمد المكي إبراهيم، في كتابه الموسوم "الفكر السُّوداني - أُصُوله وتطوُّره"، دخولَ الإسلامِ إلى السُّودان، أو على حدِّ تعبيره الموفَّق تسرُّب الثَّقافة الإسلامية "مع قوافل الحجيج؛ وفي أخراجِ التِّجار، وحقائب الدُّعاة والمسافرين" – نُشبِّهُ كلَّ ذلك بتراكمِ الفوتونات المُنسربة من خلال الثُّقبين (اتِّفاق القائدين)، فوتوناً واحداً على إثرِ آخرَ، خلف الحواجزِ القائمة فيما وراء التُّخوم المتراجعة دوماً في اتِّجاه الصَّعيد (أعلى النَّهر - جنوباً في حالة نهر النِّيل).

إلا أننا نرغبُ الآنَ في إجراءِ رحلةٍ سريعةٍ إلى ألمانيا؛ لا لنشهدَ محمد المكي والنُّور عثمان أبَّكر في صباهما الباكرِ وهُما "يتسلَّقانِ في ظُلمةِ التَّابو نُحاسَ البوق"، وإنما لنصحبَ صديقاً من جبلِ النُّورِ إلى قمَّةِ تسوغشبيتسه، أعلى قمَّةٍ في ألمانيا على جبال الألب البافارية؛ ولنُطَمئِنَ ثانيةً مفكرينَ ألماناً، تركناهم في حلقاتٍ سابقاتٍ على مقاعدِ الانتظار، بأننا سنعودُ إليهم بعد أن نقضي هُنَيهَةً بوطنٍ نحلمُ مع غيرنا ببنائه وهُنيهةً أخرى بـ"أندلسٍ مفقودٍ" لا أملَ في استعادته، إلا ببناءِ عالمٍ تذوبُ فيه إلى الأبد هذه الفوارقُ القائمة رَدَحَاً من الدَّهرِ بين الأنا والغير. ووفقاً لما أشرنا إليه في متن "الرِّسالة"، فإن للدِّبلوماسيَّةِ سحرَها الذي لا تُخطئه العينُ الفاحِصة؛ فربما نسِيَ محمد المكي أو تناسَى تحت أضواءِ المهنة وبريقِها الآسرِ أصواتَ بوقٍ خافتةٍ قادمةً من قبوٍ قريب، غير أن النُّورَ في مهنةِ المتاعبِ بمدرسة وادي سيدنا الثَّانوية، قبل ترحيلِها لتُصبحَ قاعدةً جوية، كان يصدحُ بالبوقِ النُّحاسيِّ (السَّكسفون) - والعُهدةُ في هذه الرِّواية على أنور محمد علي، الذي كان يعمل فنيَّاً بمعامل الكيمياء بالمدرسة – في هدأةِ اللَّيلِ البهيم، فيُحدِثُ بعزفِه المنفردِ تمازجاً و"تداخلاً" مُدهِشاً لأصواتٍ وأضواءٍ بعيدة، فيما تتهادى أمواجٌ من النِّيلِ القريبِ أسفلَ النَّهرِ، صوبَ الصَّعيد.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في السبت يوليو 09, 2016 11:21 am، تم التعديل مرة واحدة.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

الأخ خلف

عندما تحمل هواتف الرحمن لعباد الرحمن قولاَ ثقيلاَ يكون هنالك الرهق للتهيؤ والإستقبال، ويكون ذلك عند الأنبياء أقوى وأشد فقد كان سيد الأولين والآخرين يتزمل ويتدثر وذلك هو السقف الأعلى المفارق، وإن قول الله فى الحديث القدسى( أقول للشئ كن فيكون ويقول عبدى للشئ كن فيكون) أو كما قال فتلك الخاصيه باقية ما بقى الإنسان وسوف لا ولن تنقطع الفتوحات الربانية أبداَ بل لا تزداد كلما إزداد الظلام المعرفى لتضئ دروباَ فيه نافذة ناقله إلى الخيرات أو خير الإنسان، وما نحسبه من باب الصدف إذا ما تمعنا فيه أدركنا معنى قوله تعالى " وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى " فالرهق خير يا خلف ودعاء المولى لقيام الليل يحققه ويحقق جلوته فأبشر به وأحمد ولك السلام.


منصور
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

عزيزي منصور

شكراً على تشجيعك وتنبيهك حول قيام اللَّيل. أعكف حالياً، ولا أعتكف، على إكمالِ مشاركةٍ تحت عنوان: شرق الدَّلنج (امسودان)؛ غرب النِّيل (أُمدرمان)؛ وأسفل النَّهر، صوب الصَّعيد (أسوان) إلا أن الجزء الأول منها (شرق الدَّلنج) قد طال واستطال؛ وأتوقَّع كذلك أن يطول الجزء الخاص بأمدرمان وضواحيها (غرب النيل)؛ كما لن ينجو موضوع الصَّعيد من نفس المصير. لذلك، ربما لجأت إلى تقسيم المشاركة إلى ثلاثِ مشاركاتٍ منفصلة تحت عنوانٍ واحد؛ وربما أرسلت لكم الجزء الأول غداً صباحاً أو نهاراً بتوقيت لندن.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

شاءت رسالة الأخ كَبَّر إلى منصور المفتاح ومحمد خلف أن تحُثَّ الأخير - لحسن حظنا جميعاً - على دعوتنا إلى مصاحبته في رحلة أخرى (وهي، في ظني، ذات علاقة أيضاً بالرحلتين المُعلَنتَيْن قبلاً) إلى شرق الدَّلنَج وغرب أمدرمان:



شرق الدَّلنج (امسودان)؛ غرب النِّيل (أُمدرمان)؛ وأسفل النَّهر، صوب الصَّعيد (أسوان)



1. شرق الدَّلنج

الأخ كبَّر
شكراً لإشارتِكَ إلى اسمي ووضعِه جنباً إلى جنبٍ مع اسمِ توأمي الرُّوحيِّ وأناي الأخرى، أخي وصديقي الأستاذ محمد خلف الله سليمان؛ أمَّا ’أبناءُ المهديِّ‘، فإن سلالتهم الكريمة يزدانُ بها دوماً ركبُ الأدبِ العربيِّ في (امسودان)، ويتقدَّمه بلا منازع الشَّاعرُ الرَّاحلُ المُقيم محمد المهدي المجذوب، ثم يأتي من بعدِه رِفاقُ الدَّربِ بالمراحلِ الدِّراسية، والمنتدياتِ الثَّقافية، واتِّحادِ الكُتَّاب: محمد المهدي بشرى ومحمد المهدي عبد الوهاب. ويا ليتك يا كبَّر قد شرعتَ منذ ذلك الوقت أو بعدِه بقليل، ومن "قعرِ الجبل"، في كتابةِ روايةٍ أو خواطرَ أدبيَّةٍ تحت عنوان "شرقي الدَّلنج"؛ فلأجلِكَ أيضاً قد ذهبتُ لمكتبة "ووترستون"، في هاي إستريت كينزينجتون، عندما تعذَّر الحصولُ على نُسخةٍ رخيصة -من متجرِ "أوكسفام" المُجاوِر- لرواية "شرقي عدن"، التي شرع الرِّوائي الأمريكي جون إشتاينبيك في كتابتها خلالِ عامِ (١٩٥١) –عام مولدي– وتمَّ نشرُها بعد عامٍ من ذلك التَّاريخ.
تدور أحداثُ رواية إشتاينبيك هي كذلك فوق سفوحِ الجبال، التي يقولُ الكاتبُ عنها إن المرءَ ليرتمي في أحضانِها مثلما يرتمي في حضنِ أُمٍّ رؤوم؛ ويتخلَّلها أيضاً نهرُ ساليناس الذي يصبُّ في خليج مونتري، حيث يُوجدُ رهطٌ من الأصدقاء الذين تفضَّلتَ مشكوراً بذكرِ أسمائهم: عبد اللَّطيف علي الفكي، أسامة الخوَّاص؛ ومسعود محمد علي، الذي انتقل منها إلى تكساس، ثم فرجينيا؛ فأرجو أن تَعجِنَ من أفضلِ سماتِهم طِينةً طيِّبةً وطيِّعة، لتُشكِلَ بها شخصيةً فاضلة، لتكونَ هي المقابلُ الأخلاقيُّ الإيجابي -في رواية "شرقي الدَّلنج" المرجُوَّة- لشخصية كاثي تراسك في رواية "شرقي عدن". كما نرجو من معشرِ السُّودانيينَ ساكني وادي ساليناس أو خليج مونتري أن يقرأوا معنا أو يُعيدوا قراءة الرِّواية، التي يعتمدُ فيها الكاتبُ على حبكةٍ مزدوجة، يقدِّم من خلالها شخصياتِه الرِّوائية، إضافةً إلى سيرةٍ ذاتية وتاريخٍ اجتماعي للمنطقة، ربما تُعينُ في مراجعاتِنا خلال تسرُّبِنا السَّرديِّ الثَّاني عبر بلاد ’المريس‘.
أمَّا مصطفى آدم، فَهُوَ من (أُم روابة)، وقد رافقني منذ أولِ يومٍ لي بالجامعة، وقد أقمنا قبلك بسنواتٍ في نفسِ داخليتك الأثيرة "أربعات"، التي أقام فيها معي، كما سبقتِ الإشارةُ في متنِ "الرِّسالة"، بشرى الفاضل بخيت من (ود البُر)، إضافةً إلى المرحوم عمر علي فتيحابي من (تنقاسي)، ومصطفى رجب نصر من (النُّهود)، وحمدان إبراهيم العاقب (ود عشانا)، ومحمد عبد الله العطا (مروي)، ومحمد عبد الحليم (كورتي)، وفتح العليم عبد الله (مروي)، وعبد الدَّافع الخطيب (مدني) وأمين حسن عمر (عطبرة)، وعبد الله إسماعيل "سخانة" (الدَّلنج)؛ وتطولُ القائمة حتى تفوقَ المئتين، لكِنَّا رأينا أن نتوقَّف بها عند (الدَّلنج)، حتى تشحذَ خيالَك الرِّوائيَّ عند الشُّروعِ في كتابةِ "شرقي الدَّلنج" المُقترحة. وإذا أرَدتَ التَّعرُّفَ على جانبٍ من نمطِ حياتِنا بالدَّاخلية، فعليكَ بالرجوعِ إلى مادَّة "تحليق انسيابي فوق حرمِ الجامعة"، فقد خصَّصتُ ضمنها ’خرزةً‘ كاملة لداخلية "أربعات".
عادةً ما أقِفُ بنقلِ اللُّغةِ الثَّانية عند التَّرجمة والتَّعريب، ولكنَّ نقلَتكَ الثَّالثة بسودَنةِ عنوان كتاب روبرت إم بيرسيج السَّبعينيِّ المُدهش "زِنْ وفن صيانة الدَّراجات النَّارية" إلى "الزِّين وتصليح العجلات" قد ذكَّرتني بالزِّين الميكانيكي، خريجِ المعهد الفني سابقاً، وصديقِ خالي ووالدي حسن مكي حسن؛ وليت أخي بابكر الوسيلة يسعى بأيِّ وسيلةٍ لتزويدِنا باسمِه كاملاً، فقد كان ميكانيكياً نظيفَ الهندامِ والدَّواخل، ويُلخِّصُ بمسلكِه هذا جانباً من الفكرة الرَّئيسية للكتاب، وهي أن الأنظمة الحركية والكهربائية والحرارية لمحرِّك الدَّراجة النَّارية (أو غيرها من المحرِّكات) يُمكِنُ الاقترابُ منها بأنظمةٍ عقلية، منطقية ورياضية؛ أي عن طريق السَّبر والتَّقسيم إلى مكوِّناتٍ ووظائفَ في مستوياتٍ توافقية وتراتبية، وذلك توطئةً لتحديد الأدوات والمعدات اللَّازمة قبل الشُّروع في تفكيكها، مما ينتفي معه الحاجة إلى اتِّساخ الملابس الخارجية للعامل الفني بالجَرَاجاتِ الميكانيكية. أمَّا خُلاصاتُه المرتبطة بميتافيزيقيا الجودة، فإنني لا أقِرُّ بها، علاوةً على أنِّي لستُ بمُستعدٍ للخوضِ في تفاصيلها.
ذكَّرتني سودَنتُك أيضاً بدراساتٍ أنجزتُها منذ مدَّة حول "عرس الزِّين" للطَّيِّب صالح، كنتُ قد ظننتُ أنِّي أدَرتُ لها ظهري تماماً، فها أنتَ تنبشُ تاريخي من غيرِ قصد! وربما جاء ذلك بسببٍ من الرُّؤيةِ السَّرديةِ الجديدة، التي قد تُمكِنُنا جميعاً، عند توغلنا عبر بلاد ’المريس‘ من مراجعةِ ما كتبناه من قبل بصددِ مسألة (امسودان). نُشِرتِ الدِّراسةُ الأولى بمجلة "مواقف" البيروتية وعددٍ من المجلات والصُّحف السُّودانية تحت عنوان: "’عرس الزِّين‘ نموذجاً للحوارية النَّصِّية". ونُشرتِ الثَّانية تحت عنوان: "خطاب الدِّرويش"؛ أمَّا الثَّالثة والأخيرة، فقد نُشرت تحت عنوان: "في تجسيرِ الهُوَّة بين الصَّخب والشَّوق". وقد نُشرتِ الثَّلاثةُ مجتمعةً تحت عنوان: "في صُحبةِ ’الزِّين‘ – قراءاتٌ نقدية لرواية ’عرس الزِّين‘ للطَّيِّب صالح". وما زال في الحلقِ حديثٌ لم يكتمل عنه، لكن صوتاً آخرَ أكثر إلحاحاً قد جذبني إلى مدارِ القرآن، للاستنارةِ بهديِه، والتَّعلُّمِ المستمرِّ من أحسنِ قصصِه.
كما ذكَّرتني سودَنتُك بيومِ ميلادي! وكان صديقك، صديقي، منصور المفتاح يُذكِّرني دائماً بالقِبالة السُّقراطية، وهو منهجٌ للتَّوليد عن طريق الجدل، سنقوم لاحقاً بمقارنةِ استخدامِه عند فيلسوفٍ ومفكِّرٍ ألمانيَيْنِ تركناهما مع آخرين لفترةٍ على مقاعدِ الانتظار؛ فهُو بالفعل، أي ذلك المنهج، مِفتاحٌ لتحليل المفهوم الشَّائك عند كليهما. أمَّا الآن، فإننا نقول بأن سودنة "زِنْ" -وهي ضربٌ من البُوذِيَّة- إلى "الزِّين" قد ذكَّرتني بالقابلة، أي ’الدَّاية‘ البلدية، التي استقبلتني، مثلما استقبلتِ العديدَ مِمَنْ شبُّوا وترعرعوا معي في حي بيت المال القديم؛ وكان اسمُها "الزَّينَ"، في تشويشٍ جندريٍّ مبكِّر؛ وأرجو أيضاً من أخي بابكر أن يبتدعَ وسيلةً لمعرفةِ اسمها بالكامل. وقد كانت هي المسئولةُ كذلك عن إخطارِ مصلحة الإحصاء بتفاصيلِ المولود. ولسببٍ ما، أعطتهم الثَّالثَ من مايو تاريخاً لميلادي، ولكن جَدِّي بدوي سليمان كركساوي، الذي أثِقُ في دِقَّته، قد قيَّدَ الثَّاني عشر في دفترِ يومياته، وهُو ما تأكَّدتُ لاحقاً من صِحَّته عبر وسائلَ أكثر انضباطاً، سيطولُ شرحُها هنا؛ لذلك، أكتفي بالقول إن ابنتي ماريا لم تُرسِل لي تهنئةً من تايلند، إلا قبل يومين؛ بينما أرسلت لي مصلحة المعاشات خطاباً تُخيُّرني فيه بالتَّقاعدِ إن أرَدتُ، بدءاً من الثَّالثِ من مايو؛ إلا أنني مستمرٌ في العمل، وأمشي إليه يومياً على الأقدام، وأنصحُ صديقي مسعود بفعلِ نفسِ الشَّيء، عِلماً بأن المِشوارَ يستغرقُ منِّي ما بين 45 إلى 50 دقيقةً، في كلِّ الأجواء.
كيف يُمكِنُ لنا يا عزيزي كبَّر أن نفتتحَ الكلامَ المُرتَّبَ والمُحقَّقَ عن عبد الله بولا؟ ستحتاجُ حركتُنا الثَّقافية لسنواتٍ وسنوات لسبرِ غورِ كتاباته والاستضاءةِ بحكمته، فأرجو أن تنجحَ الأختُ نجاة محمد علي في توفيرِ نَتَاجِه الفكريِّ لكلِّ القرَّاء؛ فنحنُ نفتقدُه وهو يسعى بيننا، مثلما نفتقدُ أحمد الطَّيِّب عبد المكرَّم الذي رحل باكراً عنَّا. كما يهفو قلبي ويرنو إلى إيمان شقَّاق، مثلما يهفو إلى أحمد المرضي ويرنو إليه؛ وليتني ألتقيهما سوياً، مثلما التقيتهما ذات يومٍ رائعٍ بفيلاديلفيا، بصُحبة أسامة وعبد اللَّطيف. وكيف حال ياسر المرضي وهُوَ (من الخُرطوم)، مثلما أنِّيَ (من أمدرمان)؛ كان أجملَ روحٍ وثَّابةٍ في داخلية "أربعات"، لكنه رحل عنَّا باكراً إلى ألمانيا، مُقتفياً خُطى الشَّاعرَيْنِ الرَّائعَيْنِ محمد المكي إبراهيم والنُّور عثمان أبَّكر؛ وكان يحفظُ أشعارهما، ويعرَفُهما كما يعرَفُ ظاهرَ يديه. أمَّا النَّصري أمين، ابن أمي الثَّانية صفية بنت البدوي سليمان كركساوي، آخرُ الأسماءِ الزَّاهيةِ في عِقدِ مشاركتِك المُهِمَّة، فسنترُكُه بعونِ الله في صُحبةِ منصورٍ وصُحبتِك في كندا؛ وسنصحبُ بدلاً عنه في مشاركةٍ قادمة أخاه الأصغر، مُحمَّداً، آخِرَ العُنقودِ، في رحلةٍ تسلَّقنا فيها معاً جبلَ النُّورِ في مكَّة؛ ومن قِمَّتِه البهيَّةِ التي شهدت مَهبِطِ الوحيِ، نزلنا درجاتٍ على انفراد، في زيارةٍ خاصَّة إلى غار حراء، حيث كان المُصطفى قبيل وأثناء هبوطِ الوحيِ يعكفُ مُنفرِداً في تعبُّدِه.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يونيو 13, 2016 2:29 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

هنا - عبر هذا القسم الأوَّل من الجزء الثاني لرسالته إلى أو تعقيبه على كّبَّر ومنصور - يواصل محمد خلف تدفقه أو اصطحابنا معه إلى شرق الدَّلنج وغرب النِّيل:



شرق الدَّلنج (امسودان)؛ غرب النِّيل (أُمدرمان)؛ أسفل النَّهر، صوب الصَّعيد (أسوان)


2. غرب النيل (أ)

الأخ كبَّر والأخ منصور

قلنا في متنِ "الرِّسالة" إنه بينما كان الأستاذ جمال محمد أحمد يمزِجُ بين الرِّوايةِ والتَّاريخ، مُستهدِياً برأيِّ فيكو (غيامباتيستا فيكو)، كان شبابُ الكُتَّابِ ينشدون فكاكاً منه، بتبنِّيهم بنيويةً مرَّةً ثم تفكيكاً، فيحفرون عميقاً في تربةِ الثَّقافة، مستهدين بفوكو (ميشيل فوكو)؛ إلَّا أن أولَ رئيسٍ لاتِّحاد الكُتَّاب السُّودانيين كان له أيضاً حفرياتُه في جسدِ اللُّغةِ العربيةِ السُّودانية، فأوجد لها وشائجَ بالفصحى، مما أكسَبَ لغتَه نكهةً جماليَّةً لا تُخطئُها العين؛ ولكن إذا أرَدنا أن نتعرَّفَ على منطقة غرب النِّيل بسردِ مآثرِها منذُ ساعةِ "حفرِ البحر"، فإن العينَ وحدَها لا تكفي؛ فثمَّة فارقٌ واضحٌ بين الجغرافيا والتَّاريخ، مثلما أن هناك فرقاً جليَّاً بين مسحِ الأراضي وعلمِ الآثار.

على امتدادِ الأفق، تتجاورُ المظاهرُ الجغرافية ذاتِ السِّماتِ البارزة؛ فهنا حقلٌ، وهناك واد؛ وهنا نهرٌ، وهناك تل؛ وبالطَّبع، هناك غابةٌ، وهنا صحراءُ، كما أدرك رهطٌ من شعراءِ السِّتينات. إلا أنه عند الحفرِ عميقاً، قد تتجاورُ كلُّ تلك الموجودات داخل حيِّزٍ جغرافيٍّ، أو بالأحرى موقعٍ آركيولوجيٍّ واحد، مثلما أدرك جون إشتاينبيك في رواية "شرقيِّ عدن"، التي طلبنا من معشرِ السُّودانيينَ، ساكني وادي ساليناس وخليج مونتري بكاليفورنيا، مراجعتها أو إعادة قراءتها معنا؛ فقد ذَكَرَ الرِّوائيُّ الأمريكي، الحائزُ على جائزة نوبل للآداب في عام 1962، أن والدَه حَفَرَ ذات يومٍ بئراً على بُعدِ 50 ميلاً أسفل وادي ساليناس؛ فبَعدُ التُّربةِ السَّطحيةِ مباشرةً، جاء الحصى، ثم رمالُ بحرٍ بيضاءَ ملأى بالأصداف وقِطَعٍ من عظامِ الحوت؛ ثم قطعةٌ من الصَّنوبرِ الأحمر، في أعقابِ رمالٍ وتربةٍ سوداء؛ فقبلُ مجئِ البحرِ إلى بطنِ الوادي، لا بدَّ أن المنطقة كانت تزدانُ بغابةٍ صنوبريةٍ زاهية.

لا نُريدُ الحديثَ في هذه المشاركة عن كلِّ المناطقِ الواقعةِ غرب النِّيل، وإنما تخيَّرنا من بينها تُحفةً أثرية، وهي منطقة أمدرمان وضواحيها؛ وهي البقعةُ التي تُحيطُ بها قبائلُ الجمُّوعيَّة كما يُحيطُ السُّوارُ بالمِعصَم، عِلماً بأنهم ينتشرون في منطقة شرق النِّيل وغربها، على حدٍّ سَواء؛ كما أن ذلك السُّوارَ (أو القوسَ لذوي الذِّهنِ الرِّياضيِّ) يتَّسعُ بعضَ الاتِّساع، فيشملُ المنطقة بأسرِها من جبل أولياء إلى السَّقاي؛ أو يضيقُ قليلاً، فيشملُ المنطقة من الفتيحاب والشِّقلة إلى الشِّيخ الطَّيِّب، طيَّب اللهُ ثراه (وشُكراً لخالتي فوزية محمود سليمان كركساوي، التي أنقذتني باكِراً من موتٍ محقَّق، حينما حَبَوتُ خِلسةً نحو شَفَا هاويةٍ سحيقةٍ جنوبيِّ جبل الشِّيخ الطَّيِّب، في غفلةٍ عن أمِّي، التي تجمَّدت من الرُّعب عندما أدركت هولَ الموقف؛ إلا أن خالتي، التي حباها اللهُ بعقلٍ يقظ وفطرةٍ سليمة، مشت نحوي بِجَنَانٍ ثابت، وبُطءِ فهدٍ يتحيَّنُ الانقضاضَ على فريسته، فحارَ نِسوةٌ يَفتَرِشنَ سَجَّادَةً عَجَمِيَّةً على مقربةٍ من الهاوية ماذا يفعلن وقد أعجَمَ الخوفُ ألسنتهنَ، فإذا هي تخطِفُني، وتنتشِلُني بغتةً -قُبيلَ انزلاقٍ وشيكٍ- من براثنِ الموت)؛ فظلَّتْ أُمِّي طيلةَ حياتِها تعزو أُعجوبةَ هذه النَّجاةِ إلى نفحةٍ مباركةٍ، قادِمةً من ضريحِ شيخٍ عابدٍ أسفلَ الجبل.

تمتدُّ منطقة الجمُّوعيَّة شمالاً حتى حجر العسل؛ وفيما وراؤها، تترامى منطقة حضارتي مروي وكرمة، وآثار جبل البركل والكرو عند منحنى النهر قرب كريمة؛ إلا أننا نُريدُ التَّوقُّفَ قليلاً عند حضارة الشِّهيناب، وآثارها الواقعة بين كرري والسُّروراب. ففي نهايةِ السَّبعينات، تحرَّكَت بنا عربةُ لاندروفرَ شهباءُ، تابعةً لشُعبةِ الآثار بجامعة الخرطوم، نحو رَوَابٍ واقعةً شمال مدينة أمدرمان القديمة، التي كانت تُحَدُّ -قبل تداخلِها مع ضواحيها- بِخَورِ عُمَر. لم أكُن طالباً بالشُّعبة، إذ كُنتُ مُقيَّداً بقسمِ الفلسفة، ولكنَّ صديقي وزميلي عبَّاس أحمد الشِّيخ كان يُدركُ وَلَعِيَ بالتَّاريخِ القديم وتداخلِ الأجناسِ البشريةِ والأدبية، إضافةً إلى قناعتِه بأهميةِ تداخُلِ العملِ الذِّهنيِّ واليدوي، حيث لا ينفصلُ في نظرِه علمُ الآثارِ عن علمِ المِساحة، ناهيك عن انفصالِه عن الأنثروبولوجيا أو فنِّ التَّصوير؛ فأصرَّ على أن أصحبَه في رحلةِ تنقيبٍ ضمن حضارة الشِّهيناب. وعند موافقتي، استأذَن عبَّاسٌ رئيسَ الشُّعبة؛ وعندما جاءت موافقته، صَحِبتُه برِفقةِ أحمد أبي القاسم ونَفَرٍ من طلاب الفصول المتأخِّرة.

وكانت دهشتي لا حدودَ لها، عندما توقَّفَتْ بنا العربةُ الشَّهباء عند بابِ جَدِّي بابكر عبد القادر بالجزيرة إسلانج. لم أكُن أعرَفُ أن هذا هو مُقامُهُمُ الدَّائم في رِحلاتِهُمُ المتكرِّرة للمنطقة؛ وما كنتُ أدركُ أنَّهم يَعرَفونَ أبناءَ جَدِّي بابكر: حسن والصَّادق والبُشرى وبشير؛ أو أنَّهم على صِلَةٍ حميمةٍ بأبناءِ الصَّادق: محمد والمكي؛ بل أكثر من ذلك إنَّهم يَعرَفونَ خالاتي: سعاد، ونفيسة وحليمة وليلى وسعدية. وبسرعةٍ فائقة لم أكن أتوقَّعها، تشابكَ انتمائي للأُسرةِ الجامعية مع انتمائي للأُسرةِ الحقيقية، وتداخلَ حُبِّي للمؤسَّسةِ الجامعية التي علَّمتني التَّفكيرَ الموضوعي، مع حُبِّيَ الحقيقيِّ للمؤسَّسةِ الأُسَرية التي ظلَّت تقِفُ معي في السَّراءِ والضَّراء، وتُسنِدُ ظهريَ في المُلِمَّاتِ، ظالماً كنتُ أو مظلوماً. فاهتديتُ مُبكِّراً إلى طريقٍ ذهبيٍّ لا يُضحِّي بالأُسرةِ من أجل موضوعيَّةٍ مُتوهَّمة، كما لا يَعصِفُ بالتَّفكيرِ السَّليمِ تزلُّفاً لرغباتٍ أُسَرِيَّةٍ جامحة. والأُسرةُ الكبيرةُ المُمتدة، بالتَّوازي مع هذا الوطنِ المُمتدِّ، تحتاجُ إلى هذا الحبِّ الجارف، بقدرِما تحتاجُ إلى عقلانيَّةٍ راشِدة. ومن هنا جاء اختيارُنا للإطارِ السَّرديِّ الذي يَسمَحُ بفضحٍ مؤلمٍ للحقائق، فيما يعتملُ القلبُ بحبٍّ جارفٍ لساكني هذا الوادي الطَّيِّب؛ ومن هنا كان ذلك اللَّمعانُ الذَّهبيُّ الفاتر لمقبضِ سكينٍ مغروسةً في صدرِ جِيدٍ سكسوني، فيما كان برايان (في إشارةٍ إلى برايان هيكوك، أستاذ التَّاريخ القديم بكلية الآداب) يَهتِفُ من أحشاءِ "الرَّابيةِ الشَّمالية": "ما أحزنَ هذا الأمرَ؛ أصدقائي، ما أحزنَ هذه الأمر" (من قصَّةٍ قصيرة، كُتِبَتْ في أعقابِ تلك الرِّحلة، ونُشرت لي بمجلَّةِ "المحتوى" -التي كان يُشرِفُ عليها الصَّديقُ القاص بشرى الفاضل بخيت- تحت عنوان: "مُخلَّفاتُ الرَّابيةِ الشَّمالية").

تقعُ الرَّوابي التي قصدها فريقُ التَّنقيب داخل منطقةٍ مُحاطة بالأسلاك الشَّائكة؛ فهي منطقةٌ تابعة لمصلحةِ الآثار، ولا يتمُّ العملُ بداخلِها إلَّا بإذنٍ منها، وهو ما تحرصُ الشُّعبة على استصدارِه قبل بدءِ التَّنقيب. يقوم الفريقُ أولاً بتصويرِ المنطقة، ومسحِ الرَّابية المُراد العمل بها، توطئةً لبدءِ الحفر. وعند بدئه، يتمُّ استخدامُ الأدواتِ الغليظة، مثل المِجرفة والمِعزقة والمِعول؛ وفي مرحلةٍ تالية، يبدأ استخدام الأدوات المتوسطة، مثل المِطرقة و’المِسطرين‘؛ وعندما يلوحُ مع الحفرِ المتَّصل بوادرُ مُكتشفٍ ما، يبدأُ العملُ بالأدواتِ النَّاعمة، مثل فرش الرَّسم بأنواعها وأحجامها المختلفة؛ وذلك حتى يُضمنَ استخراج الموجوداتِ سالمةً من غير عيب.

وهنا لا بُدَّ من إعطاءِ فكرةٍ مبسَّطة عن ذرَّة الكربون، حتى يُمكِنَ لنا معرفة تحديد عمر المُكتشفات الأثرية. فهي مثل أيِّ ذرَّة من الذرَّات المُشكِّلة للجدول الدَّوري للعناصر مكوَّنةٌ من نواةٍ بها عددٌ من البروتونات والنِّيوترونات، ويدور حولها عددٌ من الإلكترونات مساوٍ لعدد البروتونات؛ وبناءً على ذلك العدد، يتحدَّد الرَّقم الذَّري للعنصر، وليس وزنه الذَّري. على سبيل المثال، الرَّقم الذَّري للهايدروجين هو ١؛ والهيليوم ٢؛ أمَّا الكربون، فرقمه ٦. إلَّا أن عدد النِّيوترونات داخل النَّواة يُمكن أن يزيد قليلاً عن عدد البروتونات، فيُشكِّل بذلك نظيراً أو آيسوتوباً لذلك العنصر.

عليه، فإن خصائص الكربون تتحدَّد وفقاً لبنيته (أي طريقة تشكُّل واصطفاف ذرَّاته، وتُعرف اصطلاحياً بالتآصُل) أو وفقاً لتركيبه (أي عدد النيوترونات المشكِّلة لآيسوتوباته). فمن اصطفافٍ محدَّد، يصبح الكربونُ ماساً (ألماظاً)؛ ومن اصطفافٍ آخر، يُصبحُ فحماً نباتياً أو غرافيتاً يُصنعُ منه أقلام الرُّصاص. ومن عدد نيوتروناته، يصبح الكربونُ آيسوتوباً ذا خصائصَ محدَّدةٍ، ويُعرَّفُ الآيسوتوبُ برقمه؛ فهناك، على سبيل المثال، كاربون-١٢، وكاربون-١٣، وهي نظائرُ (أي آيسوتوباتٌ) مستقِرَّة؛ وهناك كاربون-١٤، وهو نظيرٌ مشعٌّ وغيرُ مستقِر؛ ويتكوَّن بتفاعل الأشعة الكونية مع غاز النيتروجين داخل الغلاف الجوي؛ وبما أن عملية اضمحلاله النَّووي تؤدِّي إلى انخفاض كميته إلى النِّصف كلَّ ٥٧٣٠ عاماً، فإنه يُستخدم لتحديد عمر المُكتشفات الأثرية.

لا نمضي مع السَّيِّد يحي عبد الله المك، في كلمةٍ موسوعيَّةٍ ضافية ألقاها في حفلِ وداعِ المستشار بالسَّفارة السُّودانية بالرِّياض السَّيِّد جلال الشِّيخ الطَّيِّب، بالقول إن منطقة الجمُّوعيَّة الممتدة على شريط النِّيل الغربي هي "من أوائل البُقعِ التي ظهر فيها ابنُ آدمَ"، ولكننا نَقِرُّ معه بأنَّها من الرَّاجِحِ -خصوصاً منطقة الشِّهيناب- قد "عُتِّقت بسَبقٍ [ما لِـ] النَّشاطِ البشري"؛ فقد وُجدت فيها صناعةُ الفَخَّار وأدواتُ الصَّيدِ الحجرية، مثلما وُجدت إلى الشَّمالِ منها في مروي صناعةُ الحديد. فنحنُ إذاً في خضمِ منطقةٍ حضارية، نشأ في أحضانها الأستاذ السيِّد محمد شريف، حفيدُ الشَّيخ أحمد الطَّيِّب بن البشير، الذي نشر الطَّريقة السَّمانية في السُّودان؛ وهو الحفيدُ الذي تلقَّى الإمامُ محمد أحمد المهدي على يديه قدراً من العِلم. فكيف تفاعلتِ الفوتوناتُ المُتسرِّبةُ "في أخراجِ التِّجار، وحقائب الدُّعاة والمسافرين"، وتلاقحتْ مع الحضاراتِ الوطنية القديمة؟ قد لا نستطيعُ وحدُنا الإجابةَ على هذا السُّؤال، لكنَّ الإطارَ السَّردِيَّ الذي اقترحناه ربما يُسهِمُ عند مرورِنا عبر بلادِ المريس في إضاءةِ بعضٍ من عَتَمَتِه.

إلَّا أننا الآن قد هبطنا -بتداعٍ تسبَّبت فيه مشاركةُ كبَّر- هبوطاً اضطرارياً في شريط النِّيل الغربي، مما يستوجبُ زيارةَ البُقعةِ التي اختارها الإمامُ المهديُّ عاصمةً لدعوتِه. ومثلما تحدَّثنا في تمهيدِنا لمشاركة "شرق الدَّلنج" عن أبناءِ المهديِّ عبر مسيرةِ الأدبِ العربيِّ في (امسودان)، فإننا سنتحدَّثُ في حلقةٍ مُكمِّلة لمشاركة "غرب النِّيل" عن أحفادِ المهديِّ الحقيقيين في (أُمدرمان)، وأحواشٍ للميرغنيِّ على الطَّريق الذي ينتهي عند ’صينية‘ الأزهري، وثلاثةِ أحواشٍ شهيرةٍ على نهرِ النِّيل؛ وسنتحدَّثُ –سيداتي، آنساتي، سادتي- عن "مدينةٍ من تراب"، وعن طريقٍ كان يخترقه ’التُّرام‘؛ وعن حيِّ المسالمة وفريق المريخ، وعن حي العرب وفريق الهلال؛ وعن بيتٍ بالقرب من نادي "الزَّهرة"؛ وسنتحدَّث عن أبي روفَ والهاشماب، وعن ندوة "الفتيحاب"، وجماعة "تجاوز"، ومنتدى "الجندول"؛ فإلى لقاءٍ في حلقةٍ مكمِّلة، قُبيلَ الرُّجوعِ أسفلَ النَّهرِ، صوبَ الصَّعيد (أسوان).

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

سلام للجميع
رجعنا لمتابعة الخيط بعد رحلة للسودان الذي استقبلنا
(بحرارة) شديدة. الرحلة كانت لإنجاز مهام متعلقة بالأسرة وتداعيات وفاة الوالد عليه الرحمة
ورغم ذلك قابلت بعض الأصدقاء وعلى رأسهم شقل بالطبع.

صديقنا كبر مشكور شديد على المداخلة الثرة والتي انتجت هذا الحكي.
ما دام الكلام دخل (الحيشان) فنحن موعودين بمتعة ما عادية.
وأهو خاتين طوبتنا وقاعدين ومستمتعين.
أضف رد جديد