Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في رسالةٍ خاصة، قلتُ لمحمد خلف ما معناه أن تعقيبه على كُلٍّ من كبَّر ومنصور المفتاح قد جاء كـ"جُمْلة اعتراضية جميلة"؛ بمعنى أن ذلك التعقيب جاء لـ"يستأذننا"، بالشفافية والحميمية التي تُميِّزُ إنساناً كمحمد خلف، أن يأخذ السرد - مؤقتاً - إتجاهاً آخر - غير بعيد، مع ذلك، كما أزعم - من الذي وعدنا بأن يقِلِّنا - عبر رحلتين - إلى كل من جنوب أسوان وإسبانيا. فكان أن رافقناه إلى شرق الدَّلنج وغرب النِّيل. واليوم، تتَّسعُ "الجُمْلة الاعتراضية الجميلة" باتِّساع رقعة ومدة إقامتنا الحميمة معه في غرب النِّيل، فيما نرافقه في رحلةٍ مُتَبَصِّرةٍ تتملَّى في موقفٍ فرنسي وآخر إنجليزي:



على خُطى عمدة لندن السَّابق، وليس عمدتها المُسلم الحالي

-الحلقة الأولى-

في مساءِ كلِّ خميسٍ بعدَ آخرَ تقريباً، كنَّا أنا وصديقي عادل القصَّاص نذهبُ في صُحبةِ الصَّديق المُشترك محمد عبَّاس محمد نور لقضاءِ العطلة الأسبوعية بمنزله الكائن بحي بيت المال القديم؛ ولأنه هو الحيُّ الذي نشأتُ وترعرعتُ في كَنَفِه إبان صباي الباكر، فقد كنتُ أمشي معهما في أزقَّتِه الضَّيِّقة، من محطَّة عبدالله خليل، وعلى طولِ شارع السَّيِّد علي، وعبر طرقٍ جانبيةٍ ملتوية إلى منزلٍ قديم، بالقرب من سوق الشَّجرة، فينتابُني بغتةً إحساسٌ بدنوِّ ارتفاعِ الأمكنة وانكماشِ أبعادِها الرَّاسخة في الذَّاكرة منذ نعومةِ خلاياها العصبية، وكأنني غاليفرُ أفريقيٌّ أو عملاقٌ في بلدٍ تقزَّمَ سُكَّانُه فجأةً تحت وطأةِ العابرين المُسرِعين.

وكنتُ دائماً ما أستغربُ من جرَّاءِ التَّغييراتِ المُدهِشة التي تطرأ على سلوكِ زملائي بكلية الآداب، الذين يختارون تعلُّم اللُّغةِ الفرنسية؛ فبعدَ قضاءِ عطلةٍ صيفيةٍ في فرنسا (بمدينة بيزانسو أو غرينوبل على وجه التَّحديد) لدراسةِ لغتها ذاتِ الوقعِ الحَسَنِ على آذانِ غيرِ النَّاطقين بها، سرعان ما يتبدَّلُ سلوكُهم نحو الأرقى، والأجمل، والأكثر لباقةً وتهذيباً، وذلك في غضونِ فترةٍ لا تتعدَّى عشرة أسابيع؛ فماذا بحقِّ السَّماء يفعلُ أولئك المدرسون بهؤلاء الدَّارسين، وأيُّ سحرٍ معهم يستخدمون، عِلمَاً بأن كثيراً من زملائي بالجامعة قد تعثَّرَ زمناً في تلقِّيه للُّغةِ الإنجليزية، التي سعى البعضُ في طِلابِها قرابة العشرةِ أعوام.

لم نكن نعبأُ كثيراً بإيجادِ إجابةٍ شافية على ذلك السُّؤال، بقدرِ ما كنَّا نسرحُ ونمرحُ أنا وصديقي عمر علي فتيحابي بانتهاكنا لخزانة الأقمصة الزَّاهية التي يوفِّرها لنا حمدان إبراهيم العاقب بمحبَّةٍ وبقليلٍ من الغضب، علاوةً على استمتاعنا بحكاوٍ لا نملُّ سماعها منه عن بيزانسو، إضافةً إلى استماعنا واستمتاعنا بالأغاني الفرنسية التي تمَّ تسجيلها على شرائط كاسيت، اكتظَّت بها حقيبتُه وخزانةُ ملابسِه المُحتشِدة بشتَّى ألوان التَّقليعات الفرنسية؛ ولم يكن وحدَه في حرفة تكديس المقتنيات الباريسية، ولكنه كان نسيجَ وحدِه في كرمه وسخائه، وإغداقه على مَنْ حوله من غير حساب؛ وهو القادمُ من ود عشانا، كما نوَّهنا على ذلك في حديثنا عن داخلية أربعات، والأكثرُ معرفةً بغِبطةِ اقتسامِ عشاءِ الفقراء.

وكنَّا نجدُ عند محمد عبَّاس، الذي يُقيمُ في ذلك البيت اللَّطيف في الحيِّ الأمدرمانيِّ العتيق، بصحبة عصام الخوَّاض، ما يُقيمُ الأودَ، ويُنعشُ الرُّوحَ، وما يُعزِّزُ أقوالاً باهرةً قد استمعنا إليها من قبلُ من أفواهِ حمدانَ وحسن علي عيسى وآخرين من مُبتعثي شعبة اللُّغة الفرنسية إلى بيزانسو وغرينوبل؛ إلا أن محمد عباس، الذي التقيتُ به في زيارةٍ لاحقة للندن لصديقنا المُشترك الرِّوائي الرَّصين محمد سليمان الشَّاذلي، قد اشتكى مُرَّ الشَّكوى من إجحافِ سوقِ العمل وسوءِ أوضاع المهاجرين، حيث رأى بأمِّ عينيه فرقاً هائلاً بين المجهوداتِ التي بُذلت في جامعةِ بلادِه لإعدادِ الدَّارسين، والاجتهاداتِ التي حُظي بها استقبالُهم كمهاجرينَ حالمينَ بحياةٍ هانئةٍ على ضفافِ نهرِ السِّين الشَّهير.

وهذا ما يقودنا إلى الحديث مباشرةً عن شخصية محمد عبَّاس في رواية "تسليم" (أو "استسلام"، في إشارةٍ للدَّلالة الحرفية لكلمة "إسلام")؛ فهو بخلافِ صديقنا محمد عبَّاس، شقيقِ الشَّاعر عالم عبَّاس محمد نور، الذي استنرنا برأيه في ندوة العلَّامة عبدالله الطَّيِّب، لم يكن من المهاجرين الجُدد إلى فرنسا، وليس لديه ما يشكو منه بصددِ شظفِ العيش وسوءِ المعاملة، بل كان من الجيلِ الثَّاني من المهاجرين، مما أكسب شخصيته مرونةً وقدرةً فائقةً على التَّأثير في كافَّة قطاعات الشَّعب الفرنسي، حسب المنطق السَّردي المُقنِع للرِّواية، التي كتبها الرِّوائيُّ الفرنسي المثيرُ للجدل ميشيل ويلبِك (كُتبت الكلمة وفقاً لطريقة نطق الاسم الفرنسي باللُّغة الإنجليزية).

تُعتبرُ الرِّوايةُ في حدِّ ذاتها جيِّدة السَّبك، وتستجيبُ إلى حدٍّ كبير لشروطِ السَّردِ المقبولة عالمياً، من حيث بناءِ شخصياتها، وتتابعِ أحداثها، وتناسقِ مواقفها، واتِّساقِ منطقِها الدَّاخلي، ورشاقةِ لغتها، وحداثةِ تراكيبها؛ إلَّا أنَّها، مع ذلك، محتشدةٌ بالمواقف المثيرة للضَّجر، والإيحاءاتِ العدمية، والعباراتِ التًّجديفية، والممارساتِ الجنسية الفاضحة؛ وكلُّ ذلك على خلفية التَّحذير من صعود الإسلام في أوروبا، مما يعزِّز حالة الذُّعر والخوف من الإسلام، علاوةً على تدنيسِ معتقداتِه بتناولها جنباً لجنب مع الأفعالِ التي تُخالفُ تعاليمَه بزاويةٍ لا تقلُّ بأيِّ حالٍ عن ١٨٠ درجة.

تدورُ أحداث الرِّواية في عام ٢٠٢٢، أي بعد سبعةِ أعوامٍ من تاريخ صدورها، مما يُعزِّزُ الخوفَ من وقوعِ خطرٍ وشيك، وهو صعودُ الإسلاميين إلى سُدَّة الحكم في فرنسا، هذا إضافةً إلى ازديادِ المخاوف من أنْ تحذو دولٌ أوروبية أخرى حذوَ فرنسا. ففي استطلاعاتِ الرَّأيِّ الأخيرة قُبيل الانتخاباتِ التي جرت في ذلك العام، كان حزبُ مارين لوبان في المقدِّمة بنسبة ٣٤٪‏، تلاه بفارقٍ كبير كلٌّ من الاشتراكيين (٢٢٪‏) والإخوان المسلمين (٢١٪). وفي الجولةِ الأولى من الانتخابات، استطاع الإخوان المسلمون بطريقةٍ ما زحزحة الاشتراكيين، حيث‏ فازوا بالمقعد الثَّاني، الذي يؤهِّلهم خوض الانتخابات النِّهائية ضد اليمين المتطرف، المتمثِّل في حزب الجبهة الوطنية، الذي تقوده لوبان.

لم يكنِ الاشتراكيون يرغبون في فوزِ اليمين المتطرف، بل كانوا يسعون بكلِّ ما يملكون من قوةٍ انتخابية لزحزحته عن كرسي الحكم. وما سهَّل عليهم الأمرَ بعضَ التَّسهيل أن محمد عبَّاس الذي يتزعم حزب الإخوان المسلمين، الذي برز لتوِّه من البونليو (ضواحي المدن)، معتدلٌ في مواقفه، وراغبٌ في إجراءِ تنازلاتٍ كبيرة للاشتراكيين، بما فيها الدِّفاع والمالية والخارجية، إلَّا أنه مُصِرٌّ بأن لا يتزحزح لهم قيد أنملة عن التَّعليم. وفي اتِّفاقٍ سلس مع الاشتراكيين، صعد الإخوان المسلمون إلى كرسي الرِّئاسة الفرنسية. وبسرعةٍ فائقة بسط الإخوانُ نفوذَهم على الجامعات، وفرضوا الزَّي الإسلامي على الطَّالبات، ومُنع تداولُ الخمور، وتمَّ فصلُ الأساتذة، وتعيينُ مُوالينَ، أُغدقت عليهم أموالٌ طائلة، قادمةً من السِّعودية، وتزويجُهم لعددٍ من النِّساء الحرائر. ومن ضمن مَنْ طالتهم هذه الإجراءات من أساتذة السُّوربون فرانسوا، بطل الرِّواية البالغ من العمر ٤٤ عاماً، حيث تمَّ فصلُه، إلا أنه قد تمَّ استدعاؤه لاحقاً، بعد قبولِه عبر وساطةٍ حاذقة بالشُّروط الجديدة التي فرضها الإخوان.

ومن غرائبِ الصُّدف، أن ما لفتني إلى هذه الرِّواية المثيرة للجدل هو عمدة لندن السَّابق بوريس جونسون، الذي كتب مقالاً بصحيفة "الدِّيلي تلجراف" في يوم ٣ يناير ٢٠١٦، ندَّد فيه بالرِّواية التي تُعزِّز الذُّعرَ من الإسلام، وأشار فيه إلى أهمية إقامةِ فارقٍ ضروريٍّ بين قلَّةٍ من المتطرفين الإسلاميين، والدِّيانةِ الإسلامية التي يعتنقها أكثرُ من بليون شخصٍ على نطاقِ العالمِ أجمع. وقال جونسون إننا لا نحتاجُ إلى اختراعِ سيناريو غير مرجَّحٍ يَحدُثُ بعد ستةِ أعوامٍ في فرنسا لنرى ما يؤولُ إليه الحالُ في البلاد بعد تسلُّم الإسلاميين مقاليد الحكم، إذ إنَّ كل ما نحتاجُ إليه هو السَّفرُ إلى غرناطة، لمشاهدةِ الإرث الرَّائع الذي خلَّفه حكمُ المسلمين لإقليمٍ أوروبي، بدءاً من أوائل القرن الثَّامن وحتى نهاية القرن الخامس عشر.



عُدتُ في بداية هذا الأسبوع من رحلةٍ شاحذةٍ للفكر، وممتعةٍ في ذاتِ الوقت، إلى كلٍّ من مالاغا، وغرناطة وقرطبة بإقليم الأندلس (أندلسيا) بجنوب إسبانيا؛ وسنقوم معاً بعونِ الله في حلقةٍ قادمة بجولةٍ مُستفيضة -على خُطى عمدة لندن السَّابق- عبر أروقة الحمراء، التي تشمل قصر الحمراء وقلعتها الشَّهيرة في غرناطة، إضافةً إلى زيارةٍ لاحقة إلى المسجد الأموي الجامع في قرطبة الذي تحوَّل بمشيئةِ قادرٍ إلى كاتدرائية سانتا ماريا بدءاً من عام ١١٤٦.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس أغسطس 11, 2016 4:31 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »


العزيز محمد خلف لك ألف سلام ودعاء فى هذا الموسم الروحانى العرفانى الملهم فالصوم والقيام من أسس ودعائم الفتح الربانى الكبير فقد تثنى إلىّ ثانية معاودة سفرك عن غرب
النيل وأهل البرش فى رمضان ناس ود جنقل يقولون عودوا طعامكم تعودوا الجنه وذلك دفعا للناس بعد صلاة المغرب وما أحيلى الآبرى وقتذاك وسحاب الثلج على سطحه الهادئ
يتسرب ذلك المذاق الفريد والبلايل فريكاً ولوبه من ذلك الوادى الذى تحتضنه تلك الهضبه المكنوزه بالعجائب من أثار السلف وأهلنا حينما يرغبون فى الردة للأصل الفارع المتجذر
يقولون بأننا عنجٌ من عنج وكيف لا وتلك أرضهم أرض الحضارة والمجد فكما ذكرت مبتدئاً لجمال محمد خالط التاريخ بالأدب فى سرده بلغةٍ تمور بلهجات أثرتها لغة الخلف وأختلفت
عن لغات الغير فمن يغالطنى فاليأتنى بمن يعرف معنى كديسه أوكوديك أو سباليق وكاويق فحتماَ لا يستطع وجمال نزاعٌ للجميل من ذاك وفصيح العرب أما أحمد أبوالقاسم خفيف
الصمم فقد عملت وأترابى معه بالكروة لحفر تلك الآثار بأقل من شلن فى اليوم ومعه البروف حاكم والبروف على عثمان محمد صالح ودكتور عبدالرحيم الخبير ودكتور أنور ودكتور
إنتصار صغيرون وكثرٌ غيرهم كالمرحوم جمال بدر وهاديه إدريس ومنازل الهندى وأحياناَ كان يزورهم السلطان على بحرالدين على دينار. نعم هى حاضرة الجموعيه شمال وقلبها
النابض ومسيدها الضجاج بالذكر والوجاج بنيران القرآن وحلق النوبات والإنشاد والصيحه، نعم أقام أهلك بذات الربع فى إسلانج ونميزهم بالدناقله علما بأنهم خنادقة بديريه جاءوا فى
ذات زمان مجئ المهدى وذهب البعض الآخر منهم للبقعة بعد المهديه فكان الكركساويه ببيت المال وكذا الخنادقه، ونرى إن شحذت فيك تلك الهضبة نفس القص وبذلته للناس فذاك
دوما يمها وخراج أهلها من ذلك مبذول للناس أدباً ومعرفةً وعلم ولأنها عين حضارة راسخه فقد كانت مكانا للتركية وللدواليب من بعد علوة وما قبلها حتى أصبحت اليوم قلب السودان
أجمع وقبلته الجامعه بإحسان لأطياف أهله بالتساوى بلا منٍ ولا أذىً فيا عزيز أصعد وأهبط فأنت سالم فيها كما سلمت من أذى من على الجبل الذى يطل على النهر فدوماَ هى كذلك
ولأمثالك الأوفياء الذين خبروا قدرها من جوانب عده ستبقى دوماً وأبداَ كذلك ولك الشكر أجزله ولك السلام.


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

ومن غرب النِّيل، ها هو خلف ينتقل بنا إلى إسبانيا - محتفياً بالحضور البهي المديد لمُجَمَّع الحمراء في غرناطة، التي زارها مؤخراً، مستصحباً - في نفس الوقت - جانباً خافتاً من بريطانيا (والغرب بصورة عامة) وجانباً غير خافتٍ من فرنسا (والغرب بصورة عامة):


على خُطى عمدة لندن السَّابق، وليس عمدتها المُسلم الحالي


-الحلقة الثَّانية-



سافرتُ الأسبوعَ الماضي بصحبةِ الأسرة إلى قرطبة، ولم يصحبنا هذه المرَّة ابننا محجوبٌ لارتباطه بالعمل، إلا أن محجوباً آخرَ قد سبقنا إليها منذ عهدٍ بعيد (فشُكراً لصديقي مسعود محمد علي على تنبيهي لزيارة محمد أحمد محجوب للمدينة الأندلسية الشَّهيرة، التي كان من نتاجها قصيدته المعروفة: "الفردوس المفقود"، في إشارةٍ إلى 'ضياع' الأندلس، وتفلُّتِه من أيدي المسلمين، إضافةً إلى تشبيهه لضياعه بسقوط القدس في العصر الحديث، ووقوعها تحت قبضة الدولة اليهودية الحديدية). وربما يكون هذا التَّركيز الدَّائم من قبل الشُّعراء العرب على الجانب السياسي، الذي يستدعي مخاطبة المشاعر القومية المتدفقة، على حساب غيرها من القيم المحتبسة في الأغوار، هو واحدٌ من الأسباب القوية التي تدفعني دفعاً إلى المناداة بتنحية الشَّاعر، وإحلال النَّحوي محلَّه، باعتباره بديلاً إستراتيجياً ورائداً معرفياً أكثر ملائمةً لقيادة مسيرة الحداثة في منطقتنا.

لا نلومُ المحجوبَ كلَّ اللَّوم، فرؤيةُ مسجدٍ في قرطبة يُحالُ إلى محفلٍ كنسي، يُثير أسًى في القلب، وغُصَّةً في الحلق، هذا إنْ لم يُرسلْ دمعةً حرَّى إلى العين؛ إلَّا أنه بدلاً من تعليَّةِ الحاجب وتقطيبِ الجبين، فإن من الممكن استقطاب المُوجِبِ في قرطبة؛ ولا يتأتَّى ذلك إلا بسبيلين: نبشُ الماضي وفحصُ ما تبقَّى في الحاضر من آثار، ومقارنةُ ما حدثَ في قرطبةَ بما يجري الآن في غرناطة (فلأجلِ ذلك، قد جئنا إليها، سائرينَ على خُطى عمدة لندن السَّابق، وليس الحالي يا بابكر أخي؛ فاتِّباعُه لا يُفيدُ كثيراً، لأنه سيكونُ بمثابةِ عِظةٍ لمُهتدينَ أصلاً؛ ولكنها جاءت على خُطى مَنْ لم نكن نتوقَّع منه مردوداً إيجابياً، لمحافظته ويمينيته، علاوةً على قيادته لحملةِ الخروجِ من الاتِّحادِ الأوروبي، الذي من شأنِه أن يُحدِثَ أثراً سلبياً على المهاجرين).

كما لا نُشدِّدُ اللَّومَ على المحجوب، لاستعانته بصنوه أبي الوليد ("أبا الوليدِ أعِنِّي ضاع تالدُنا")، المعروف بابن زيدون، الذي اشتُهر بولعه بولَّادة بنت المُستكفي، لكننا نستدعي أبا الوليدِ الآخرَ، المعروف بابن رشد، ونستنجدُ بِمَنْ يُعيننا عليه، فالتُّراث التَّليد الذي خلَّفه قاضي القضاةِ قي قرطبة، لا يكفي عقلٌ واحد لاستكناهِ جوانبه أو الإلمامِ بكلِّ أقطاره. ولأن أبا الوليدِ الآخرَ كان مثل رأسِ الدَّبوس (وشكراً للمهندس أحمد الفكي، الضَّليع في شئون الحاسوب، على تزويدي بهذا التَّعبير المُدهِش، الذي ربما ارتبط لديه بإعادة تشغيل الأجهزة الإلكترونية؛ وشكراً لتغريداته على الهاتف، عِلماً بأننا كنَّا نلقِّبه بأحمد عصفور) الذي اخترق غشاء العقل الأوروبي، ولقَّحه بجيناتِ الفكر الإسلامي الجديد، فمكَّنه من فكِّ مغاليق التُّراث الإغريفي العريق وإعادة تشغيله على أفضلِ وجه. وعندما نُشيرُ إلى الدَّبوس، فإننا لا نحتفي برأسِه فقط، وإنْ كان وحده رائداً في هذا الشَّأن، وإنما نُشيرُ أيضاً، وفي ذاتِ الوقت، إلى بقية الجسم المعدني، الذي لولاه ما كان للرَّأسِ قدرةٌ على الاختراق؛ وهو اختصاراً ذلك المتنُ الفلسفيُّ العربي، الذي يبدأ بمؤلَّفات الكندي والفارابي وابن سينا في المشرق العربي، ومؤلَّفات ابن باجة وابن طفيل وابن رشد نفسِه في مغربِه.

لم يضِعِ التُّراثُ الإسلاميُّ في قرطبةَ تماماً، حتى يشتدُّ بكاؤنا عليه؛ فلا زال الصَّرحُ الإسلاميُّ العتيق في الحاضرة الأندلسية الشَّهيرة، يُشارُ إليه بـ"ميثكيتا" (يُقلبُ حرفُ الزَّاي المجهور ثاءاً مهموسةً في لهجاتِ الإسبان)، وتعني المسجد باللُّغةِ الإسبانية (كما توجد بلديةٌ باسم "لا ميثكيتا" في منطقة غاليسيا بشمال غرب إسبانيا)؛ واسمُه المُشار إليه رسمياً في الوريقات التَّعريفية هو "مسجد-كاتدرائية قرطبة"؛ وما زالتِ الآياتُ القرآنية تُغطِّي جانباً من الجدران الدَّاخلية، وإنْ تعرَّضت أعمدتُه للمَحوِ المتعمَّد؛ فمن ناحيةٍ معمارية، ينتمي المبنى إلى الفنِّ الإسلامي، بتميُّزه بالخطِّ والزَّخرَفةِ العربية والمُنمنمات وديكورات الجدران، هذا إضافةً إلى الأقواسِ المزدوجة المُرتكزة على أعمدةٍ رُخامية متقاربة؛ أمَّا من ناحيةٍ إعمارية، فمن المتعذَّر بمكان، إنْ لم يكن من المستحيل، أن يعمُرَه مُصَلُّونَ مسلمون، فقد تمَّ تحويلُ ما بين الأعمدةِ التي تتوسَّط المسجد إلى كاتدرائيةٍ كاثوليكية، شُرِعَ في تكريسِها بدءاً من عام 1146؛ وبصورةٍ قاطعة، حسب ما جاء في كُتيبٍ تعريفي، في عام 1236. وعلى ضوءِ ذلك التَّكريس، يُمكننا أن نفهمَ قول المحجوب ونتعاطفَ مع رِثائيته الشَّهيرة ("ولا المساجدُ يسعى في مآذنها مع العشيِّاتِ صوتُ الله رَيَّانا" – هل وصلت ابنتُك "ريَّانُ" يا مسعودُ، لتقضي معك طرفاً من رمضانَ في فرجينيا؟).

هذا ما كان في شأنِ السَّبيل الأول، وهو نبشُ الماضي وتأمُّلُ آثارِ الحاضر؛ وإذا كان السَّبيلُ الأولُ في مجمله تعاقبياً (دياكرونياً)، فإن السَّبيل الثَّاني في جوهره تزامنياً (سنكرونياً)، إذ إنه يختصُّ بما يجري الآن في غرناطة، على خلفية ما حدث في قرطبة، التي أثارت شجون المحجوب، فأهدانا قصيدته الرَّائعة "الفردوس المفقود"، التي تستجيبُ بشكلٍ كلاسيكي لواحدٍ من أغراض الشِّعر المعروفة، وهو الرِّثاء. فكلُّ ما يمَسُّ حياةَ النَّاسِ العاديين في غرناطة، يدورُ اليومَ بصورةٍ أو بأخرى حول الحمراء؛ وهو مجمَّعٌ معماريٌّ ضخم، شِيدَ على سفح جبل الثَّلج الأندلسي (سلسلة "سييرا نيفادا" الإسبانية)؛ ويحتوي المجمَّع على قصر الحمراء، وقلعة الحمراء الشَّهيرة، وجنَّة العَريف (جنراليف، بالإسبانية؛ وينبغي ألا تُخلط مع عبارة "جنرال لايف" الإنجليزية، التي تعني الحياة العامة؛ وجنراليف، أو خنرليفي بلهجة أهلها، كانت مُكرَّسةً للحياة الخاصة للأمراء المسلمين في غرناطة، فهي لهم بمثابةِ قصرٍ صيفي، مكتظٍّ بالحدائق الغنَّاء، التي يستخدمونها كمنتجعٍ ومنتزهٍ للرَّاحةِ والاستجمام؛ بل إن أحد الأمراء استخدمها مكاناً للالتقاء السِّري بعشيقته، بعيداً عن زوجاته الأربعة، ونيفٍ وعشرين محظيَّةً من محظيَّاتِه، اللائي يقمن في قصر الحمراء الشَّتوي).

لا يمكن رؤية مجمَّع الحمراء من فرطِ ضخامته، إلا من شُرفةِ المراقبة (ميرادور) بكنيسة القديس نقولا (نيكولاس)، التي تقع في حي البيازين (أو ألبيثين، حسبما يُنطقُ الاسمُ باللَّهجة المحلية) الشَّهير، الذي يحتفظ إلى الآن بطابَعِه الإسلاميِّ القديم؛ وهو مَحَلُّ حفاوةٍ من قبل السِّياح الذين يتقاطرون عليه لرؤية الحمراء من جانبه، كما هو أيضاً مَحَلُّ تقديرٍ من قبل منظمة اليونسكو التي اعتبرته موقعاً تديره ضمن برنامجها الخاص بمواقع التُّراث الدُّولي (إلى جانب خنرليفي وقلعة الحمراء)، إضافةً إلى أنه مَحَطٌّ لاهتمامِ الرِّوائيين، حيث وصفه الرِّوائيُّ اللَّبناني أمين معلوف في روايةٍ له باللُّغة الفرنسية، تمَّت ترجمتها تحت عنوان "ليون الأفريقي"؛ هذا علاوةً على أن الحيَّ نفسَه كان موقعاً روائياً من المواقع الأربعة للرِّواية (غرناطة، فاس، القاهرة، وروما)، ومسقطاً لرأسِ بطلِها الرَّئيسي حسن بن محمد الوزَّان، المُلقَّب بـ"ليون الأفريقي".

ولا يُعدُّ أمراً مستغرباً أن يُعجبَ زوَّارُ غرناطة الذين يُحسبون بالملايين سنوياً بمعمار الحمراء البهي، بإضاءته الطَّبيعية الباهرة، وبحدائقه الغنَّاء، وأشجاره الباسقة، وأزهاره العطرة، ونوافيره التي يصلُها الماء المتدفق من جبل الثَّلج، وأحواضه التى تُسقى عبر جداولَ طبيعيةٍ وقنواتٍ صناعية متفرِّعة عنها؛ ولا عجبَ أن ينبهِرَ الزُّوارُ برَدهاتِ القصرِ الواسعة، وسقوفه المزخرفة، وخزفه المُنمنم؛ أو أن يستغرِبَ معظمُهم من كثرةِ الآياتِ المنقوشة على الجدران، ولا سيما "لا غالبَ إلا الله" التي صارت شعاراً للقائد العربي، حاكم غرناطة في ذلك الزَّمان، محمد بن نصر، الملقَّب بالأحمر. كما لن يتعجَّبَ أحدُنا من بعدِ ذلك كثيراً من قولِ عمدة لندن السَّابق، بأنْ ليس لأوروبا ما تخشاه من حُكمٍ غيرِ مرجَّحٍ للمسلمين، إذا كان ما سيخلِّفونه من تراثٍ هو في روعةِ الحمراء وبهائها الآسرِ للألباب.

قدِمَ جونسون إلى غرناطة مُشبَّعاً بأجواءِ وإيحاءاتِ رواية "تسليم"، إلا أنه حرَصَ مع ذلك على إكمال قراءة الرِّواية التي كتبها الرِّوائي الفرنسي المثير للجدل، ميشيل ويلبك، قبل أن يهبِطَ من طائرة "إيزي جيت" التي أقلَّته إلى المدينة الأندلسية العتيقة، وذلك حتى يُديرَ لها ظهرَه، ويضعَ تأثيراتِها السَّلبية خلفَه تماماً؛ وقد حَرَصنا، من جانبنا، أن نسيرَ على خُطى عمدة لندن، فبدأنا تصفُّحَ الرِّواية على متنِ طائرة "لوفتهانزا"؛ ولأن السَّفرية لم تكن مباشِرةً، فقد أخذتنا إلى مطار فرانكفورت، مما اضطرنا إلى أن نركضَ عبر صالاتِ التَّرانزيت حتى نلحقَ بالطَّائرة التي ستقلُّنا إلى مالاغا؛ إلا أننا لم ننسَ مع ضيقِ الوقت أن نتذكَّرَ رهطاً من المفكِّرين الألمان الذين تركناهم رَدَحَاً على مقاعد الانتظار. خلاصة الأمر، أنني لم أستطِع إكمالَ قراءةِ الرِّواية إلا بعد يومٍ من عودتنا إلى لندن؛ ولكنني نجوتُ من تأثيراتِها السَّلبية بإعمالِ الخيالِ المُضاد، وبما أحتفظُ به في قرارةِ نفسي من تحيُّزاتٍ تعصمني من الوقوع في الأحابيل الرِّوائية التي صنعها الكاتبُ باقتدارٍ شديد. ومع ذلك، فقد تركتُ له حبلاً طويلاً ليُقنِعَني بحُجَّتِه، إلا أنني توصَّلت في نهاية المطاف إلى ما توصَّل إليه عمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون.

اعتمد الكاتب على لعبة التَّصوُّرات المتضاربة لدى كلٍّ من المسلمين في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها والأوربيين على وجه العموم، والفرنسيين منهم على وجه الخصوص. فما يبدو لدى طرفٍ قريبَ المنال، يبدو لدى طرفٍ آخرَ بعيدَ المنال أو قريباً من المستحيل. والحيلة الأساسية التي اتَّبعها المؤلِّف، هي تصويرُ ما هو بعيدُ المنال وكأنَّه على مرمى حجرٍ أو هو أقربُ إلى التَّحقيق، لتغذيةِ الأوهام وتعزيزِ المخاوف من صعود الإسلام. وما يُستفادُ من درسِ الحمراء، هو أنْ ليس هناك ما يخشاه الفرنسيون أو تخشاه أوروبا من حُكمِ المسلمين (الذي يتمثَّلُ تمثيلاً رمزياً خافتاً في عمدة لندن المسلم الحالي)؛ ما يخشاه العالمُ أجمع –بالفعلِ- هو صعودُ التَّطرُّف، من أيِّ طرفٍ أتى، مسلمين كانوا أم مسيحيين أو يهودا؛ وما ينبغي تذكُّره من تاريخ الحمراء، أن المسلمين، إلى جانب اليهودِ كذلك، همُ الذين تمَّ طردُهم من غرناطةَ وإجلاؤهم من بلادِ الأندلس قاطبةً، بعد أن حكموا بلاداً تعايشَ فيها نوعاً من التَّعايشِ كافَّةُ الدِّيانات والثَّقافات، لمدَّةِ نحوِ ثمانيةِ قرون.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد يونيو 12, 2016 2:46 am، تم التعديل مرة واحدة.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »


الأخ خلف الحمد لله الذى سخر عمدة لندن ذلك لتُخْرِج لنا من صخر الأندلس بمبضع صاحب القانون وعارف أسرار أرسطو الوليد إبن رشد صوراً نرى عبرها حركة غزالة إبن طفيل ونستمع لموسيقى موشحات إبن زيدون وبنت المستكفى ونطالع فى وهجها خطاب الشرق للغرب ورد الغرب للشرق ونختم حينذاك تهافت الفلاسفه وتهافت التهافت وفى بالنا فن التوليد الذى جاء بالمحجوب فى غياب محجوب وجاء بريان المسعود حضورا مع الريان فى الفردوس المفقود للمحجوب كذلك والدهشة تلجمنا من دس الكتدرائية فى المسجد بقرطبة مكراَ وزوراً لا يخفى الحق ولا يطفئ أنواره وتمتشق الحمراء التى نحتها لنا بذات إزميل من نحتها فى زمانها لتبقى أسطورةَ من أساطير العصر الذى أبقى لنا فقه المغرب وفكره وفلسفاته وآدابه فماج إبن ماجه وأجاد إبن طفيل وأفاض إبن رشد والذى أشبه بقنال السويس وقناته التى جرى عبره بحر القديم فى بحر الحديث، فمن غيره فك شفرة أرسطو ووضع أساساَ للطب والفلك والفلسفه والقانون فيا لك يا أبو المحجوب، ودعنى أرفعها عنيةً لأنى أعنيك من محجوبٍ عن الناس رفع الحجاب لنا عن ذلك الفردوس المفقود لنرى ما صوره المحجوب لنا لنسافر مع ذلك العقد الظمآن ونحن أكثر ظمأَ منه الآن وأكثر واقعية فى النظر إليه من ما مضى عندما كانت تتملكنا المراهقه فى فصول درسها ومرسها بعاطفة جياشه يلهبها أساتذتنا الدكتور المعز الدسوقى والأستاذ جعفر سعد وننزغم ونندغم فى كل الفصول والأنهر لكى نستمتع بالإصتنات إليها ثانية وثالثة وإلى ما لا نهايه، شكرا خلف فقد أعدت الأمل من غرناطه بعد أن تأسينا عليه فى قرطبه والشكر لك والسلام.


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يتوقَّفُ محمد خلف هنا ليبدأ في تأمُّلِ نتيجة استفتاء المملكة المُتَّحدة التي جاءت لصالح خروج الأخيرة من الاتِّحاد الأوروبِّي:



لندن بين عُمدتين ومملكةٌ مُتَّحدةً بالاسم إلى حين إشعارٍ آخر



قُبيلَ استفتاءِ الخميسِ (الأسودِ بحَسَبِ معسكرٍ والأبيضِ بحَسَبِ آخر)، قال لي ابني محجوب: "علينا أن نبحثَ عن بلدٍ ثان، إذا فازَ معسكرُ 'الخروج' من الاتِّحاد الأوروبي"؛ وبُعيدَ فوزِه، أرسلتْ لي ابنتي ماريا رسالة واتساب من تايلند تُحِثُّنا على الرَّحيلِ إلى برلين؛ ومن فرجينيا، أرسلَ لي مسعودٌ رسالةً أخرى مستفسراً فيها عن "شعوري" إزاء نتيجة الاستفتاء، بعد أنْ قال لي إن خروج 'المملكة المُتَّحدة' من الاتِّحاد الأوروبي قد "شَطَرَه" (أي حزَّ في نفسِه وأعياه أمرُه على مستوًى أنطولوجيٍّ عميق، بحسب تفسيري لعبارته المكثَّفة، التي اعتَدناها منه في مواقفَ شَّبيهة من غيرِ أنْ تكونَ مُطابِقةً).

لا أُريدُ أن أبدأ بمشاطرةِ المهزومين تأسُّفَهم على تبدُّدِ حُلمٍ إلى هباء أو التَّحسُّرِ على وضعٍ مثاليٍّ ضاع سُدًى، بلِ الأوجبُ أن نبدأ بتهنئةِ المُنتصِرين على فوزِهمُ المؤكَّدِ بفارقِ ما يربو على مليون ومئتي ألف صوت، وإنْ كانتِ النِّسبةُ المئوية لا تتجاوزُ الاثنين بعد الخمسين؛ خصوصاً وأن فوزهم، على علَّاته، قد جاء تعبيراً عن إحساسٍ صادقٍ بانتصارِ الكُتَلِ الشَّعبية المُقصاةِ من اتِّخاذِ القرار على النُّخبِ التي تتحكَّمُ في اتِّخاذِه؛ هذا لا يعني أنهم كانوا بمَنجاةٍ في خياراتهم الفردية من التَّغريرِ بهم من قبل قلَّةٍ مُهرِّجة تستغلُّ غرائزَهمُ الفِطرِية، ولكن من نحنُ حتى نغمِطهم حقَّهم في فرحٍ زائف؟ كلُّ ما نستطيعُ تسجيلَه في مصاحبةِ هذه التَّهنئة الواجبة هو أن السماءَ في لندنَ في صباحِ الجمعة ٢٤ يونيو الموافق ١٩ رمضان (وشكراً لمنصور عبد الله المفتاح على دعواتِه التي تصلني كلَّ جمعةٍ بنفحةٍ من فضلِ هذا الشَّهرِ الكريم)، كانت صافيةً والطقسُ صَحوٌ، في أعقابِ ليلةٍ مُمطِرة وفيضاناتٍ جارِفة؛ وهي خلفيةٌ قد تساعدُ، ورُبَّما ساعدتْ بالفعل، بعضَنا على تأمُّلِ قوله تعالى "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"؛ (سورة "البقرة"، الآية رقم 216).

وفي ذاتِ يوم ٢٤ يونيو (وهو يومُ المِهرجان، المقابل في العصرِ الحديث في إنجلترا لاحتفالاتِ غلاستونبري؛ التي تغنَّت فيها المُغنِّية الأمريكية بيونسيه العام الماضي، وأديل البريطانية يوم أمس لمدَّة ٩٠ دقيقة) من عام ١٤٩٣، وهو العامُ التَّالي لسقوط غرناطة، كان المسلمون في الأندلس حتى ذلك الوقت (وشكراً للرِّوائي اللُّبناني أمين معلوف الذي وفَّر لنا بعضاً من المعلوماتِ في كتاب غرناطة، وهو الجزءُ الأول من روايته الشَّهيرة "ليون الأفريقي") يحتفلونَ، بطوائفِهمُ المُختلِفة، جنباً إلى جنب مع ذوي الأديان الأخرى، بمناسبةٍ ترتبط في ظاهرها بالانقلاب الصَّيفي (وإنْ كانت في الأصلِ تعني الاعتدالَ الخريفي)، بينما يمور باطنُها بأُوارِ نارٍ وثنيةٍ قديمة. وربما يكون هذا التَّداخلُ الثَّقافي، الذي يتمُّ التَّعبيرُ عنه، في جانبٍ منه، بالتَّواصلِ بين الأديان وحريةِ الانتقالِ بينها، خاصَّةًَ في أواخرِ أعوامِ حُكمِ المسلمينَ في الأندلس، هو الذي سهَّل مَهَمَّةِ تسليمِ مفاتيحِ غرناطةَ من غيرِ وقوعِ حربٍ داميةٍ بين فيردناند الثَّاني ملك قشتالة وإيزابيلا الأولى ملكة أراغون من جانب، والأمير محمد الثَّاني عشر، الشَّهير بأبي عبدالله أو "بوعبدل"، من جانبٍ آخر.

وفي لندن، هذه المدينة الشَّهيرة دولياً بتداخلِها الثَّقافي، انتقلت مفاتيحُ المدينة فيها بسهولةٍ ويُسر من عُمدةٍ سابقٍ، تتبَّعنا خُطاهُ إلى غرناطةَ، إلى عُمدةٍ مُسلِمٍ حاليٍّ يقبِضُ الآن بعُرى التَّماسُكِ بكلتا يديه، في بلدٍ بدأتْ تعصِف به، من جرَّاء تبعاتِ الخروجِ من الاتِّحادِ الأوروبي، رياحُ التَّغييرِ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب؛ وهي وضعيةٌ يُمكِنُ لخيالٍ سرديٍّ جامح، مثلما هو الحالُ لدى الرِّوائيِّ الفرنسيِّ ميشيل ويلبيك، أن يستغلَّها في توظيفٍ آيديولوجي غيرِ أخلاقي. إلا أنه من ناحيةٍ واقعية، فإن عُمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون، لحُسنِ الطَّالعِ، هو الذي يقود مسيرة الخروجِ من الاتِّحادِ الأوروبي، وليس مايكل فاراج، ذلك السِّياسيُّ الذي صِيغ، لسوءِ الطَّالعِ، على شاكِلَةِ دونالد ترامب.

صحيحٌ أن عُمدة لندن السَّابق قد عُرِفَ بالتَّهريجِ، ولجوئه إلى التَّهكُّمِ، وتقديمِ الحُججِ الواهية، واستخدامِ الخُطَبِ النَّاريةِ المُضلِّلة؛ إلا أنه في واقعِ الأمرِ سياسيٌ بارع، وخطيبٌ مفوَّه، وأكاديميٌّ لا يُشَقُّ له غُبار، فهو من خريجي جامعة أكسفورد ومدارسِ إيتون الإنجليزية الشَّهيرة؛ وهو فوق ذلك منافِسٌّ قديم لرئيسِ الوزراء البريطاني المُستقيل، ديفيد كاميرون، ووزيرٌ بلا وزارة في حكومته، وشخصيةٌ محبوبةٌ في أوساطِ المحافظين، إضافةً إلى قدرتِه على تأليبِ أعدادٍ كبيرة من المُعجبين بشخصيَّتِه من خارج دائرته الحزبية المحدودة، على اتِّساعِها الجماهيري. وهي كلُّها ميزاتٌ تؤهِّله –إنْ أرادَ اللهُ خيراً- للتَّعلُّم، وحشدِ القدراتِ لتجميعِ الشَّتات؛ وفوق ذلك كلِّه، يمكنه التَّعاونَ مع عُمدة لندنَ الحالي: صادق خان (إلا أن جونسون يحتاجُ أولاً أن يكسبَ المحافظين إلى صفوفِه، قبل تطلُّعِه إلى خَطبِ وِدِّ الآخرين).



سنحاول في حلقةٍ قادمة التَّركيز على مآلِ المملكة المُتَّحدة، في أعقابِ تصويتِ إنجلترا وويلز للخروجِ من الاتِّحاد الأوروبي، فيما صوَّتت إسكتلندا وإيرلندا الشَّمالية، إلى جانب لندن، للبقاءِ ضمنه. هذا إضافةً إلى المعارك المُحتدِمة داخل الحزبين الرَّئيسيين، في أعقابِ استقالة كاميرون، واشتدادِ الضُّغوط لاستقالة جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال؛ فيما تُشيرُ صحيفة "الديلي تلجراف" في تغريدةٍ إلى قطعِ توم واطسون، نائب رئيس الحزب، لإجازته وعودته من احتفالات غلاستونبري، بعد أن استقالَ نصفُ طاقم القيادة في حكومةِ الظِّل.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

السطور التالية، القليلة كمَّاً، العظيمة شأناً، بعث بها عبد الواحد ورَّاق إلى محمد خلف مكثِّفاً فيها حفاوته بالمساهمات البارزة للأخير في هذا الخيط. وأنا على يقين من أن لا أحد سوف يشكُّ في صدق هذه السطور – بالذات إذا كان هذا الأحد على معرفة بكاتبها. أما لمن لم يعرف عبد الواحد ورَّاق أو لم يلتقهِ من قبل، أي لم ينعم بقلبه الورَّاق، لسانه المبتسم، ورفقته الظليلة، أقول له أو لها قول أهلنا الحميمين: "نصف عمرك ضائع".

ليست قليلة هي المرَّات التي التقيت فيها بعبد الواحد ورَّاق. لكن أغلبها كانت – للأسف الشديد – فترات قصيرة. بيد أن القدر شاء أن يوفِّر لنا سانحة لقاء أرحب – ولكن عبر واقعٍ ومكانٍ غير رحيبين: بيت الأشباح الأشهر الكائن قرب تقاطع شارع البلدية مع شارع المك نمر، أي ذلك الواقع قرب عمارة سيتي بانك سابقاً ولجنة الاختيار. فقد كان قد تم اعتقال عبد الواحد، علي الأمين، صلاح سليمان، محمود جاه الله، المرضي مُعلَّم وشرف ياسين في ظهيرة نفس اليوم الذي تم فيه اعتقالي؛ والتقينا جميعاً بدايةً في سطح أحد مباني القوات المسلحة السودانية (التي – ولسخرية القدر – كان ورَّاق، الفنان التشكيلي والناشط الثقافي، يعمل محرِّراً للصفحة الثقافية لجريدتها) حيث تعرَّضنا لصنوف عديدة من التعذيب لمدَّةٍ تقارب العشرة أيام. ثم تمَّ نقلنا للإقامة الأطول في بيت الأشباح ذاك.

أتذكَّر أن ورَّاقاً كان يتميَّز بصبر، تماسك ودعمٍ معنويٍّ لنا، نحن رفاقه في ذلك المعتقل المُخترَع بواسطة عقلٍ مريض وشرير. كانت تلك الميزات الملهمة من أهم مصادر مقاومتي للبشاعة التي كنا نتعرَّض لها هناك.

فإلى سطور ورَّاق:


ذكروا أنَّ في الصحراء واحةً لا يعثر عليها إلا المُوشِك على الهلاك. في كلِّ مرَّة يا خلف تأتي مقالتك بمثابة الواحة الظليلة والتي يتوفَّر فيها الماء العذب والتمر المُشْبِع والفاكهة الدانية والظلال الرحيبة الممتدة...ونحن في هذا العالم نسير في أكثر من صحراء؛ وقبل أن يتلقَّفنا الهلاك، نظفر بإبداعك. ..الذروة، ثم القلب.

آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يوليو 11, 2016 2:52 am، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »


فى مهاتفه مع الكاتب الرصين والراصد لدقائق الدقائق فى المعارف والأدب الاستاذ محمد خلف عن إنفعاله بخروج بريطانيا أو المملكه المتحده عن الإجماع الأوربى ذلك الخروج الداوى والعاصف لكل العقول حتى تلك التى أحدثته أو عملت على تحقيقه فقد ماثل ذلك الخروج الآخر أوالإخراج الذى كان صاعقة كذلك من قبل خمسة قرون سالفه تاركاَ العمارة والعلوم والمكتبات والفلسفه وأسس النهضة الحديثه عبوراَ للمتوسط ولا أدرى باى سفن وأى مراكب بعد أن أشعل فيها إبن زياد النيران ليكون طريق العبور الأول إتجاه واحد ولكن إجتمعت الأسباب وحدث ما لا تقدر العقول على إستيعابه حتى يدج بعض الخارجين لاحقاَ لحلم الدوله الإسلاميه الوليدة بسنار مقر السلطنة الزرقاء ليتشكل بهم واقع السودان الآن، وفى إجابه فوريه لخلف عن المقارنه وببلدية مطلقه قلت له شده بالعضل فقد إستطعت أن تحقن عقولنا والقلوب بحقنه خمسه سيسى بالعضل تحمل المقاربه بين الحدثيين الفارقين عن سواهما!!



منصور
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

ذكروا أنَّ في الصحراء واحةً لا يعثر عليها إلا المُوشِك على الهلاك. في كلِّ مرَّة يا خلف تأتي مقالتك بمثابة الواحة الظليلة والتي يتوفَّر فيها الماء العذب
والتمر المُشْبِع والفاكهة الدانية والظلال الرحيبة الممتدة...ونحن في هذا العالم نسير في أكثر من صحراء؛ وقبل أن يتلقَّفنا الهلاك، نظفر بإبداعك. ..
الذروة، ثم القلب.


عبد الواحد وراق



يا لك من فنان يرى ما يراه أهل الخطو والحظوة والكشف والإلهام، يا وراق الحديث والفعل ويا ساقى الخير بقواديس
من صندل للعطشى، فى الصحارِى والعتامير، ويا عراف لحوجة الناس للماء والظل فى تلك الصحارَى ويا لك من نزاع للحقائق من ماهيتها فى ذهنك
وتشكيلها فى صورٍ راقصةٍ، كتلك التى لم تسهب فيها بل أطنبت، ولم يستطع شراح قولك بأن يقووا على نقلها فى لغة شارحةٍ للناس حتى وإن تمادوا
فى الإسهاب يا وراق فقولك ببذل خلف كما الواحة والظل فى الصحراء توظيف لامس الحقيقة ومسك بخصرها حتى ماحت ومالت ودنت وصارت
(قاب قوسين أو أدنى) الشكر لك يا وراق والذى له مع الظلال ودادٌ راسخ، ثابتةٌ كانت أو متحركه فما بالنا بها فى الصحراء والماء الفرات!!



منصور
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

عفارم عليك وبرافو أيضاً يا منصور؛ نصرك اللهُ على نفسك، وقوَّاك على غيرك، وحفظ لك أولادك وأهلك، وأنعم عليك بفضلٍ دفَّاقٍ من عنده؛ فقد أحسنت القول،
وافتتحتَ فضاءً واسعاً للحديثِ عن رجلٍ يستحقُّ كلَّ خير. حفظ الله ورَّاقاً لأهله ووطنه، ولأهل الخير في جميع بقاع الأرض.


محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

أما وقد دلفنا إلى حضرة الانسان الشفيف والفنَّان الرهيف عبد الواحد ورَّاق، فلنواصل حفاوتنا به مع انسان لا يقِلُّ شفافيةً، وفنَّان لا يقِلُّ رهافةً، سيد أحمد بلال:



العودة إلى أولِ السَّطر
(إلى الورَّاقين السُّودانيين جميعاً، وإلى عبد الواحد ورَّاق بصورةٍ خاصة)



يتراجعُ الوَحْشُ إلى خارجِ الحرف
يواجهُ قوَّةَ الرُّوحِ بقوَّةِ الصَّوْلَجان
يعودُ ورَّاقٌ إلى أولِ السَّطر
رَشْفَةُ شايٍ بالهبَّهان
خيطُ حرير
من النَّسيجِ الأخير
لقلبِ الإنسان
نحيلٌ، أليفٌ
خالٍ من العنفِ والادِّعاء
أُعانقه
يذوبُ هجيرُ الخُرطومِ في ظِلِّه
* * * *
يعودُ ورَّاقٌ إلى أولِ السَّطر
أو إلى فضاءِ لوحتِه
لأداءِ الصَّلواتِ الجميلة
والسُّجود فوقَ الغَمامة
وارتداءِ العِمامة
وإنقاذِ لحنٍ من النِّسيان
نتبادلُ روايةَ أحلامِنا:
"لم يسقطْ قَوْسُ قُزَحٍ على الطَّريقِ الزِّراعي
وإنما رأى نجمة
تُرسِلُ إشارةً واضحة
ثم تَهْوِي على الأفق
بعد كَلِمةٍ جارحة"
* * * *
يعودُ ورَّاقٌ من باطنِ النَّصِّ
يَعْبُرُ الجِسرَ إلى أولِ السَّطر
رغم المصاعب
يعودُ
حزيناً على ما جرى
حزيناً على صغارِ الوحوش
وهم يتجاهلونَ تحَلُّلاً لضمائرِهم خارجِ المَقْبَرة
فهم يتغافلونَ بأنَّ "اللهَ يرى"



[align=right] إدنبره نوفمبر 1991
سيد أحمد علي بلال
من ديوان "والماء إذا تنفَّس"
الطَّبعة الأولى 2007
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في السبت يوليو 23, 2016 11:16 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وإلى هذه المساهمة من صديقة لصيقة بعبد الواحد ورَّاق، سكينة كمبال:



عبد الواحد ورَّاق الصديق الزاهد القادم من السقَّاي (نوري)




ذلكم الانسان الهادئ الذي تشرَّب الهدوء من جريان مياه النيل وهدوئه في مناطق الشمال، يتهادى وكأنه يتلطَّف على سوامق النخيل وجذورها الممتدة! واتخذ منه كرم سقيه الدافق الذي أزهر فاكهة ورطباً وخضرة.
وبالإضافة لصلة الدم والقرابة التي تربطنا فقد جمعت بيننا صداقة متينة.
يحادثك بصوت هادئ وهو المستمع الجيِّد والذي صار لنبْله حائط مبكي لكثيرين وكثيرات.
وعبد الواحد ورَّاق يختزن الكثير من الأسرار في أمانة لم نعهدها في انسان! فهو يعلم الكثير ولا يتفوَّه بشئ منه.
لم أقابل انساناً أميناً، صادقاً، نقياً، ونبيلاً مثله قط! فهو نعم الصديق والأخ والرفيق!
كم تسكَّعتُ معه في شوارع الخرطوم التي أفتقدها ونعمت بحكاوى لطيفة بريئة معه. حين أكون في قاع حزن أو أسى، تأتي كلمات مثل (ناس حليمي سوَّن الربيت عيللي حرَّقنْو)!! ( فاطني جات زعلاني، قالتلو: إنت آآ حومد إِحمد وينها الفرطاقة اللت الْمِي جايي اِسْقِيبَا العمبلوك عشطان من اصْبَحَتْ)!! حكي مرة فقال: (مشيت البلد وكنت ماشي أزور ناس أهلنا أبوهم جزار وأنا نسيت بيتهم بس بقيت أعاين في الواطة أفتش للعضام! لقيت بيت قداموا عضام كتيرة، والله عرفت البيت بالعضام!!). هذه كلها ارتجالات يحيكها من الذاكرة تستدعي سنوات قضيناها في مناطق الشايقية ويبدل بها دفة لحظة طافت حاملة مسحة حزن طرأت فيبعث بها البهجة في النفس! ونعاود الضحك من جديد.
ف مرة من المرات وجدنا مبلغاً من المال ونحن لا نملك شيئاً حينها فكان يترفع من أن نأخذه بحجة أن أصحابه قد يعودون من أجله! ما أجمله من نُبلٍ!
لم أر انساناً عفيفاً مثله أبداً!
كان ينوي السفر إلى السقَّاي لقضاء اجازته السنوية وكان السُّكَّر شحيحاً في السودان في ذلك الوقت. وقد أهداه صديق جوَّالاً من السُّكَّر. وكان ورَّاق يعمل مصمماً بصحيفة القوات المسلحة وكنت قد أتيت لزيارته في مكان اقامته فإذا برجل طاعن في السن تبدو عليه الفاقة جاء خارجاً من المكان نفسه حاملاً جوَّال السُّكَّر! وحين استفسرت من وارَّق علمت أنه قد وهب جوَّال السُّكَّر للرجل الذي قابله لأول مرة لأنه اشتكى له الفاقة والظرف المالي العصيب الذي يمر به.
لله درُّكَ يا ورَّاق فقد تعلمنا منك الكثير من القيم والدروس الإنسانية!
صديقي عبد الواحد ورَّاق رجل متأمِّل لا تفوته شاردة! حكى لي مرة أنه ذهب لزيارة قريب مؤسر يسكن أحد أحياء الخرطوم الراقية، فوجده بالرغم من كل سبل الراحة المتاحة بداره والسفرة العامرة بكل ما طاب من طعام إلا أن الصداع حال بينه وبينها. وفي المقابل ذهب لزيارة أسرة من الأقارب في أحد أحياء الغبش، ففتحت له صاحبة الدار الباب وحكي فقال (جات إيديها مليانات خُدْرة (ملوخية) ورقبتها وشعرها مجلبطات بالعجين! وهي تضحك وتنظف فيهن وقالت: مرحب يا ورَّاق جيدن جيت بس تتغدى معانا! دابي فركت الخُدْرة ورميت حرف القراصة.
ودخلت. لقيت زوجها نائم تحت شجرة فوق عنقريب بلا لحاف، وفي سخيلة حائمة تحت الكرَّاب تندعك فيهو تحت العنقريب وهو قام صحصح ينهر فيها (تك السخلة بالمرض اليخمك)! وهو يجبِّد في العراقي يغطي في عوارة في كراعو وينهر في سوسيوة تنقد في العوارة ويقول: كر شوف السوسيوة الفقُر دي! هي والسخيلة قطعت لي نومة سمحي خلاس!! وفي شُفَّع من أولادو وبناتو قاعدين جنب راسو يدقدقوا في علب صلصة ويكوركو ويلعبوا!!!
هذه مفارقة بين نقيضين ووضعين متباينين لأُسرتين!
مقارنة وملاحظة وتأمل لا يأتيان إلا من إنسان مفعم بالفن والشفافية! إنسان فَكِه ونقي السريرة مثل ورَّاق!
هاجر ورَّاق إلى أمريكا ولم يتغيَّر بل ظل ورَّاق الأصيل النقي!
حكى مرة: كنت صائم وبس جاتني رغبة أفطر بي بطيخ! لكن ما كان موسم البطيخ بس قلت أفتش كل الأسواق يمكن ألقى، نزلت من العربية بلا جاتني سيدة كبيرة شايلة قروش كتيرة وتقول لي: شيل القروش دي ! قلت ليها شكرا أنا بخير. الزولة دي بقت ماشية وراي تحنس فوقي قلت ليها لا، شكراً. دخلت السوق فتَّشت البطيخ وهي وراي تحاول تقنعني. الزولة دي والله يمكن حاولت معاي أكتر من عشرة مرات وكل مرة أقول ليها شكراً وهي تقيف محتارة. في الآخر مشيت ركبت العربية عاوز أمشي بلا أحس بزول مراقبني! التفت لقيتها نفس السيدة أتاريها عربيتها واقفة جنب عربيتي! عاينت لي وبابتسامة عريضة قالت: ما غيرت رايك؟؟ شكرتها ومشيت!!!
هذا هو عبد الواحد ورَّاق!
هنالك أُناس أصيلون لا يغيرهم الزمن ولا الغربة ولا الظروف!!
لله دَرُّكَ يا ورَّاق!

سكينة كمبال - ملبورن - أُستراليا.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذا تعليق من محمد خلف على ما جادت به سكينة كمبال:



من امرأةٍ رائعةٍ من ملبورن (فيكتوريا) إلى رجلٍ نادرٍ من كولمبس (أوهايو)



نزلت سُكَينةُ إلى أرضِ الكتابة، فأقامت عوداً من أعوادها اليابسة وسقته بماءِ الوردِ والذِّكرياتِ النَّدية؛ فهي تأملاتُ امرأةٍ رائعةٍ من ملبورن حول رجلٍ نادرٍ من كولمبس. وكان هذا الرُّكن، رغم إدارته من قبل قصَّاصٍ ماهر، قد شكا لطوبِ الأرضِ من نقصِ الكتاباتِ النِّسائية، إلى أن هيَّأ اللهُ له سُكَينة، فنزلت عليه برداً وسلاماً، إذ لم تكتفِ بدفعِ الأبوابِ المفتوحةِ أصلاً، بل طرقت باباً ظنَّه ضيقُ أفقٍ مُقيمٍ بأنه غيرُ قابلٍ للفتحِ أو الاختراقِ عنوةً واقتدارا.
وما أجملَ أن تتوجَّه هذه الكتابة إلى رجلٍ لا عيبَ فيه سوى أنه بلا عيب، وما أروعَ أن تصدُرَ عن امرأةٍ تعرفُ كيف تنفُذ إلى صميمِ العذوبةِ واللَّهو البريء؛ لسانُها العفيفُ يلهجُ بجزالةٍ مُحبَّبة، ولغتُها المحلية تنضحُ بفصاحةٍ لا تُخطئها الأذن؛ وذاكرتُها، يا لنقاءها وفوتوغرافيتها، كيف تسنَّى لها، مع تقادمِ العهدِ وجورِ أيَّامه، الاحتفاظَ بكلِّ هذه الدُّررِ والنَّفائس؛ لا غروَ، فإنَّها قد تلقَّت دروساً على يدِ شيخٍ خبيرٍ بترويضِ الرُّوحِ وتنميتها، وتخرَّجتْ بامتيازٍ من مدرسة ورَّاق، بينما خرجتُ أنا من معطفِه بغيرِ أوراقٍ ثبوتية.
نزلت سُكينةُ إلى أرضِ الكتابة، فنثرت عليها رِقَّةً وصبابة، مثلما غطَّتها برهبةٍ ومهابة؛ وكان عبد الواحد صديقها نسيجَ وحده في العفَّةِ والشَّهامة، مثلما كان عبد الواحد شقيقها نسيجَ وحده في الحنان والكرم؛ فكما أسبغ الثَّاني بِرَّاً وحناناً على شقيقاته (زكية وأم الخير ومريم وسُكينة)، أسبغ الأوَّلُ عليهن محبةً جارفةً وعطفاً أخوياً لا حدَّ له. وكنتُ شاهداً على بعضٍ من ذلك؛ وما توحي به كتابةُ سُكينةَ يشيرُ إلى ما هو أجلُّ وأجمل.
ليس بوسعِ النَّملِ (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً) أن يرشدَ إلى مكانِ إقامته؛ فالسُّكَّرُ، كما جاء في سردِ سُكينةَ عن ورَّاق، لا يبقى طويلاً في مهجعه؛ فكما دخلَ سالماً بالباب، يخرجُ مُسرِعاً منهُ في تمامِ هيئته، مثلما دخلَ عبره كاملاً في المرَّةِ الأولى. إلا أن فوحَ الذِّكرى، وأريجَ أيامٍ خوالٍ، ورائحةَ الكلمات التي نثرتها سُكينةُ في سياق عباراتٍ صادقةٍ عن ورَّاق، ستنير بعونِ اللَّهِ طريقاً إلى أعماقِ روحِهِ القصيَّة.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

وكان هذا الرُّكن، رغم إدارته من قبل قصَّاصٍ ماهر، قد شكا لطوبِ الأرضِ من نقصِ الكتاباتِ النِّسائية، إلى أن هيَّأ اللهُ له سُكَينة،

كتب خلف، محقاً، عن فقد الخيط لصوت المرأة.


والعمرابي كان داير ليهو "إمرأة نبية":
"لو فى النساء رسل كنت النبية"


كيفك يا قصّاص وكيفك يا خلف

هيلاري كلنتون تستعد لتفوز بالرئاسة الامريكية
كأول إمرأة تصل لهذا المنصب، وفي السودان القديم
كان في ملكات وكنداكات وكدا، ولكن المرأة الوحيدة التي تجرأت وأعلنت النبوءة
هي سجاح التي تزوجت بمسليمة وتخلت عن نبوءتها (وخبرها مشهور كما يقول البروف عبد الله الطيب).

بصورة ما يبدو أن الله لم يشاء أن يختار لهذه المهمة إمرأة، وهو سؤال وقفت أنا عنده طويلاً، وتذكرته،
وأنا أقرأ ما كتب خلف عن "سَكِينة"، وبالمناسبة ليه كتبتها "سُكَينةُ"؟
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

شكراً لسكينة كمبال مرةً أخرى إذن؛ فـ"مساهمتها الرائدة" في هذا الخيط أدَّت إلى أربعة نتائج خصيبة - حتى الآن على الأقل: فهي، من جهة أولى، "قَدَّت عين الشيطان"، حيث ظلَّ هذا الخيط يفتقر - كما أشار أو أكَّد محمد خلف - إلى الحضور الأسمى لـ"تاء التأنيث". وهي، من جهة ثانية، كتبت كتابةً صميمة، حميمة وعطِرة عن إنسانٍ يستحق كل ذلك وأكثر، عبد الواحد ورَّاق. وهي، من جهة ثالثة، جلبت تعقيباً - ذكياً ومُحرِّكاً كما هي العادة - من الصادق إسماعيل. وهي، من جهة رابعة، أعادت محمد خلف إلى "الكتابة عن الكتابة" (وأبعاد أخرى دون ريب). للصادق إسماعيل امتناني المُركَّب. ولعبد الواحد ورَّاق تمثالنا جميعاً:



نزلت سُكينة إلى أرض الكتابة، فلنُحيي بنزولِها صُورةً من صُورِها الغابرة



كانتِ الكتابة منذ تجسيدها المِسماري على ألواح الطِّين، أو تصويرها الهيروغلوفي على جدران المعابد، تمثيلاً لصورٍ في الذِّهن؛ ثم صارت عند نشأتِها الحديثة تصويراً لمكنوناتِ الذِّهن، وتعبيراً تقريبياً عمَّا يلهجُ به اللِّسان. وعندما نزل القرآنُ على النَّاسِ بلسانٍ عربيٍّ مبين، لم تكنِ الكتابة العربية بخطِّها المعروف لدينا الآن قادرةً على تسجيل المحتوى الصَّوتي للكلام الإلهي على قدرٍ من الدِّقةِ الكافية؛ وهذا ما لا يُمكِنُ أن يُقالَ على اللِّسانِ العربيِّ نفسِه، فقد كان مؤهَّلاً تماماً لترديدِ الكلامِ الإلهيِّ وترتيلِه. ولم يكن هذا التَّخلُّفُ في الكتابة العربية عيباً جوهرياً، فالقرآنُ في شكلِه المُنزل على الأرض، في جوهره، ذكرٌ وتذكيرٌ صوتيٌّ محفوظٌ في صدورِ المؤمنين. ولمَّا كان الذِّكرُ تنزيلاً من عَلٍ لا مناصَ من توصيلِه إلى النَّاس، فقد سهُل جريانُه على لسانِ النَّبي، وجمهرةِ القرَّاء، وحفظةِ القرآن من عامَّة المسلمين أو ما تيسَّر منه لبعضٍ من أتقيائهم.
وعندما نشأتِ الحاجة إلى تسجيل الوحي مع بدءِ نزوله، أشار الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بعضِ أصحابه، مِمَّن صاروا يُسمَونَ بكتبةِ الوحي (وهمُ الخلفاء الرَّاشدون الأربعة وعددٌ من الصَّحابة الأجِلَّاء رضوان الله عليهم؛ ومن بينهم، أُبَّي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل)، بالبدءِ في هذه المَهمَّة، لا ليُعمِّموا ناتجَ عملِهم على النَّاس في ذلك الوقت الباكر، فقد كان ذلك مطلبُ عُتاةِ الكفَّارِ في مكَّة "وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ" (سورة "الإسراء"؛ الآية رقم 93)، وإنما لِحَفظِه إنْ دعتِ الحاجةُ مستقبلاً -وهو عينُ ما حدث لاحقاً- إلى الرِّجوع إلى نسخةٍ أرضيةٍ نموذجية منه لا يعتورها تحويرٌ (مثلما حدث مع التَّوراةِ على يدِ الكتبة الذين أخذ عليهم المسيحُ عليه السَّلام تشدُّدَهم وتشبُّثَهم بظاهرِ اللَّفظ) ولا يرقى إليها أدنى شك؛ فنُسختُه الأصلية مُودعةٌ في الأعالي في لوحٍ محفوظ، ومنها صَدَرَ هذا التَّنزيلُ الحكيم بلسانٍ عربيٍّ مبين.
كانتِ المصاحفُ المُنتجة من قِبَلِ كتبةِ الوحيِّ خاليةً من حركاتِ الإعجام (وضعُ النِّقاطِ على الحروف) والإعراب (تشكيلُ الحروفِ بعلاماتِ الحركة والسُّكون والتَّنوين)؛ وتلك هي المَهَمَّة التي تصدَّى لها لاحقاً أبو الأسود الدُّؤلي. ولم يعُدِ الآنَ من الممكن التَّمثيل الواضح عن هذا الوضع عبر لوحة المفاتيح المتداولة، إذ إنَّ حروف الإعجام أصبحت مُدمجةً في صورةِ الحرف المطبوع عليها وبواسطتها، ولا يمكن فصلُها منها؛ هذا بخلاف حروف الإعراب، التي صارت خياراً مُتاحاً على اللَّوحة، ويُمكن وضعُه -حسب مقتضى الحال- فوق أو تحت الحروف الأساسية. وسعياً للتَّمثيل، على الرَّغم من صعوبته، فإن حرفاً بعينِه يمكن أن يُنطقَ باءً أو تاءً أو ثاءً أو ياءً أو نوناً؛ وآخرَ جيماً أو حاءً أو خاءً؛ وغيره دالاً أو ذالاً؛ سيناً أو شيناً؛ صاداً أو ضاداً؛ طاءً أو ظاءً؛ عيناً أو غيناً؛ وأخيراً، فاءً أو قافا؛ بينما تُعزِّزُ الخياراتُ التي تأتي مع حركاتِ الإعرابِ من التَّباديل التي تُحدِّدُ احتمالَ نُطقِ الحروف.
بعد مجهوداتٍ متلاحقة للنَّحويين واللُّغويين عبر القرون، أصبح المُصحف العثماني الذي نتلقَّى عنه آيِّ الذِّكرِ الحكيم حافلاً بجميعِ العلامات الضَّرورية التي تساعد على نُطقِ الآيات، من حروفِ إعجامٍ وإعرابٍ، واصطلاحاتِ ضبطٍ، وعلاماتِ وقف. بل أصبح المُصحف، إلى جانبِ بعضِ القصائد العربية الكلاسيكية النَّادرة (المعلَّقات، والمفضَّليات، والأصمعيات)، هو المثالُ النُّموذجي لإمكانية نُطقِ الكلام في تمثُّلِه الخطِّي والغراماطولوجي؛ فيما أصبحتِ الصُّحفُ السَّيَّارةُ المعاصرة عاريةً تماماً، أو تكادُ، من علاماتِ الإعراب التي تعِينُ على النُّطقِ المفهوم -ولا أقولُ الصَّحيح، فالصِّحَّةُ أمرٌ نسبي- للحروف العربية والكلام العربي وغير العربي (أي المُعرَّب أو المكتوب بحروفٍ عربية). ولا نستطيعُ الآنَ أن نقرأ ما بالصُّحفِ المتداولة، إلا بما نستعينُ به من الذَّاكرة (وقد يكونُ ما نستذكِرُهُ أبعدَ من واقعِ الحال إزاء النُّطقِ المفهومِ للكلمات) أو السِّياق (الذي لا يمكنُ بدونه، مثلاً، التَّفريق بين "سُكَينة" -وهي اسمُ علم- و"سَكِينة" -وهي اسمٌ عام- و"سِكِّينة" -وهي اسمُ آلة- أي مِدية أو سِكِّين).
قد تغيَّرَ الوضعُ قليلاً مع انتشارِ لوحاتِ المفاتيح الحديثة، وانحسار ِالآلات الكاتبة القديمة ذات الخيارات المحدودة، والتي كانت تتطلَّبُ جهداً كبيراً في تعلُّمها وتشغيلها، حتى صارت حِكراً على النِّساءِ الصَّبورات والمغلوبِ على أمرهن، واللَّائي امتلأت بهنَّ، على قِلَّتهن، مكاتبُ الدَّولة والشَّركاتُ الخاصَّة. إلَّا أنَّ عاداتِ النَّاسِ لم تتغيَّر، فعلى الرَّغمِ من ثراءِ لوحاتِ المفاتيح الحديثة واشتمالها على فائضٍ من الرُّموز والعلامات، ما زال النَّاسُ يكتبون ويقرأون بذاكرةِ الآلة الكاتبة القديمة، التي تضرِبُ صَفحَاً عن جُلِّ علاماتِ الإعراب المعروفة. وما يزيد الطِّينُ بِلَّةً أنَّ الهواتف المحمولة -بما تتيحُه من إرسالِ بريدٍ إلكتروني ورسائلَ نصِّيَّة مُستعجلة، علاوةً على عدم مواكبة التَّطبيقات العربية لهذه المُستحدثات- تضطرُ المُستخدمَ لاتِّباعِ طُرُقٍ مُختصرة وأساليبَ ملتويةٍ أحياناً لتوصيلِ رسائلِه على جناحِ السُّرعة، مما يعصفُ بالدِّقَّة، ويضربُ عُرضَ الحائط بثراءِ الخياراتِ المُتاحة.
فيا صديقي الصَّادق إسماعيل (ومرحباً بإطلالتكَ المُنعشة)، فإن "سُكَينة" (على وزنِ "فُعيل"، مع زيادة تاء التَّأنيث) من صِيغِ التَّصغير، التي تُستخدم أحياناً للتَّحبيب؛ ومن أمثلتها الأخرى، "أُميمة" (أين أنتِ يا بنتَ أبي صالح، وأيُّ ريحٍ هوجاءَ قد عصفت بكِ عن مرمى بصري ومسارِ رادارِيَ الإلكتروني)؛ و"هُويدا" ("بحبها، وهي حبيبة أمها، ياخواتي، ياخواتي"، كما كنَّا نردِّد أغنية "صباح" الشَّهيرة)؛ و"رُفيدة" (هل لا زالت تلك المركبات السَّريعة تحملُ مسافرينَ إلى مشاريعِ الزِّراعةِ المطريةِ في القضارف، وعبر القاشِ إلى التَّاكا وتوتيل و"سيدي الحسن راجل كسلا"؟)؛ هذا بالطَّبع، إضافةً إلى "زُبيدة"، و"مُهيرة"، و"فُطيمة"، و"سُليمة" و"نُسيبة"؛ وإلى ما لا يُحصى من الأسماءِ الأنثويةِ المُحبَّبة.
وعلى نفسِ صيغة هذا التَّصغير للثُّلاثي، يأتي اسمُ "حُميراء" ( على وزن "فُعيل"، مع زياءة الألف الممدودة للتَّأنيث)، وهي للتَّحبيب؛ أمَّا "مُسيلمة"، فهي على نفس الوزن مع زيادة التَّاء المربوطة للتَّأنيث اللَّفظي، إلَّا أنها للتَّحقير، وليس التَّحبيب، تقبيحاً لادِّعاءِ النُّبوة. أمَّا لماذا لم يكن هناك من بين النِّساءِ نبيَّة، فيُمكنُ الإجابة على السُّؤال بتبصُّرنا لمعنى الآيتين الكريمتين: "قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكَاً رَسُولاً" (سورة "الإسراء"، الآية رقم 95)؛ وقوله تعالى في نفس السُّورة، "أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً" (سورة "الإسراء"، الآية رقم 95). فالتَّنزيل أتى مُتناسباً مع مُقتضى الأحوال والأعراف البشرية السَّائدة في الزَّمان والمكان المُحدَّدين؛ فلو كان في الأرض ملائكة، لكان الرَّسولُ مَلَكَاً؛ ولو كان ذلك المجتمعُ أقلَّ صلفاً وذكوريةً، لما كان أمراً مُستكرهاً في الخيالِ أن يبعثَ اللهُ له امرأةً رسولاً. وفي الفكرِ العلميِّ والمنطفيِّ الحديث، يُسمَّى هذا الضَّربُ من التَّدليل الذي تضمَّنته الآيتان بالتَّفكيرِ المُخالفِ للوقائع؛ وقد أشرنا إليهِ عَرَضَاً في مَتنِ الرِّسالة، وربما تطرَّقنا إليه في شيءٍ من التَّفصيل في سانحةٍ أخرى يأتي بها سياقٌ ملائم.
يكفي هنا أن نركِّزَ على أمرٍ هام، وهو أن الحاكمَ الأكبر في أمرِ الدَّلالة هو السِّياق؛ إلَّا أنه ليس هو العنصرُ الأوحد في تحديدِها. ولا يُدركُ من صيغة التَّصغير وحدها إلى ماذا تُشيرُ: أهي للتَّحقير أم للتَّحبيب؟ ولكننا نعرف بقرينة السِّياق أن "مُسيلمة" للتَّحقير، بينما تشيرُ "الحُميراء" إلى السَّيدة عائشة بنوعٍ من التَّحبُّب؛ وكذلك إشارتُنا المُتكرِّرة إلى بنتِ كمبالَ، يا ابنَ إسماعيلَ، بـ"سُكَينة". ولا نريد أن نخوضَ مع الخائضين حول صِحَّة حديث "الحُميراء" المرفوع بالسَّندِ الضَّعيفِ إلى رسولِنا الكريم، ولكننا نقولُ في تسليكٍ للتَّفكيرِ المُخالفِ للوقائع (كاونترفاكشوال ثينكينغ) إنه لو كان ذلك المجتمعُ المكيُّ مجتمعاً أمومياً، أو أبوياً معتدلاً، لما تمادى ابنُ القيِّمِ في تأكيدِه بأن كلَّ حديثٍ فيه ذكرُ "الحُميراء"، فهو حديثٌ مُختلق؛ ومن ضِمنِه ما تناهى إلينا عن قولِ النَّبي عن عائشة: "خُذوا شطرَ دينكِم عن هذه الحُميراء".

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

عادل
حقيقة انا شاعر اني اتلقى ثناء لا أستحقه
الخيط دا ماشي بكتابة خلف النوعية التى تحفز التفكير
فتنتج نوعية هذه المداخلات او ان شئت التساؤلات
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر هذه الحلقة (الثانية) يواصل محمد خلف تأمُّلاته في تداعيات استفتاء بريطانيا الذي أدَّت نتيجته إلى خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي. وكنا قد أجَّلنا نشر هذه الحلقة وحلقة ثالثة، لنفسح المجال لتحيَّة صديقنا الحميم عبد الواحد ورَّاق. ونرجو أن ننبِّه إلى أن تحيَّتنا للأخير ستتواصل بعد نشر الحلقة الثالثة من تأمُّلات خلف في ذلك الحدث السياسي البارز في الساحة البريطانية:





عُمدة لندن السَّابق يتلقَّى صفعةً مزدوجة ربَّما تُمهِّدُ الطَّريقَ لبروزِ "امرأةٍ حديديةٍ" ثانية




كان جَدِّي محمود سليمان كركساوي لا يَمَلُّ من ترديدِ الحديثِ القدسي: "أنتَ تُريد، وأنا أُريد، واللهُ يفعلُ ما يُريد"، في أعقابِ كلِّ جدلٍ عقيم يجري بيننا بعدَ صلاةِ العصرِ أو قُبيلَ العشاء؛ وكان هو الذي يقومُ إلى الصَّلاة ويرفعُ يديه بالدُّعاء، وكنتُ أنا الذي ينزلقُ إلى المناكفة ويرفعُ حِدَّة النِّقاش؛ وفي صدري غيظٌ مكتوم، ورغبةٌ عارمة في إحداثِ تغييرٍ تطِلُّ ملامحُه باهتداءِ جَدِّي بما أهتدي به، وبمباركتِه لما أفعل، مهما اشتطَّ الفعلُ وطفحَ كيلُه. وها أنذا أقتربُ الآنَ حثيثاً من سِنِّ جَدِّي في ذلك الوقت، فلا أجِدُ إرثاً أجملَ من ذلك الحديث القدسي؛ غير أنِّي، خِلافاً لجَدي، أضعُ الإرادة البشرية ضمن مجال "الحقيقة" (وهو مجالٌ، لأنه يشتمل على الأخبار التي تحتمل التَّصديق والتَّكذيب، إضافةً للعبارات الإنشائية والصِّياغات التي تتضمَّنُ مقاصدَ أو وقائعَ شرطية لا تحتملهما، لكنها تستند بشكلٍ ما إليهما)، بينما تبقى إرادته تعالى هي الغالبة، فهي "الحقُّ" الأبلج من قبلُ ومن بعدُ.
كنتُ أُريد أولاً أن أضمَّ الرِّوائي السُّوداني جمال محجوب إلى التَّشكيلة المحجوبية للرِّسالة، التي ضمَّت حتى الآن محجوباً أخي، ومحجوباً ابني، وهاشم محجوب، ومحجوب كبلو، ومحمد أحمد محجوب؛ هذا غير أنَّه سُمِّي على عمِّه جمال محمد أحمد، أولِ رئيسٍ لاتِّحاد الكُتَّاب السُّودانيين، الذي تحدَّثنا عنه في متنِ الرِّسالة، وفي كثيرٍ من المشاركات. إلا أن طاهرة عبد الحميد، حفيدة الخليفة عبد الله التَّعايشي، زوجة صديقي مسعود، قد زارتنا في منزلنا بلندن في يوم 17 رمضان؛ فتعزَّزت لديَّ الرَّغبةُ مجدَّداً في الحديث عن البُقعة وأحفاد المهدي وخليفته، بعد أن لقِيَ المُقترحُ ترحيباً من كثيرٍ من الأصدقاء المقرَّبين. ولكن أحداثاً عاصفة في لندن في يوم 18 رمضان غيَّرت، بإرادةِ قادرٍ، مسارَ الحديث.
قلنا في الحلقةِ الماضية إن عُمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون، شخصيةٌ محبوبةٌ في أوساطِ المحافظين، وإن له قدرةً على تأليبِ أعدادٍ كبيرة من المُعجبين بشخصيَّتِه من خارج دائرته الحزبية المحدودة (وكلمة "الضَّيقة" أفضل، كما ترى مُنى ابنة أخي بابكر، إذ إنَّ كلَّ دائرةٍ هي محدودةٌ بالضَّرورة) على اتِّساعِها الجماهيري. وهي كلُّها ميزاتٌ تؤهِّله –إنْ أرادَ اللهُ خيراً- للتَّعلُّم، وحشدِ القدراتِ لتجميعِ الشَّتات؛ وفوق ذلك كلِّه، يمكنه التَّعاونَ مع عُمدة لندنَ الحالي: صادق خان (إلا أن جونسون يحتاجُ أولاً أن يكسبَ المحافظين إلى صفوفِه، قبل تطلُّعِه إلى خَطبِ وِدِّ الآخرين). وبدلاً عن ذلك، تلقَّى صفعةً مزدوجة عجَّلت بانسحابه من سباق التَّرشُّح لزعامة حزب المحافظين، والتَّراجع مؤقَّتاً عن تحقيقِ حُلمِه الباكر بأن يصبِحَ ذات يومٍ أبلجَ من أيامِ اللهِ رئيساً للوزراء في بريطانيا.
جاءت الصَّفعة الأولى من مايكل هيزلتاين، نائب رئيس الوزراء البريطاني السَّابق، الذي قاد حملةً استهدفت جونسون شخصياً، وذلك بالتَّنبيه الحاذق إلى أثر "الإجهاد" أثناء حملة الاستفتاء على سلوكِ عُمدة لندن السَّابق، وجنوحِه إلى إصدارِ "تصريحاتٍ سياسية فاحشة وسخيفة"، مشيراً إلى تهوُّرِه وخَشيته من أن "عقله بدأ يفارقه"، مما يشكِّك في قدرته على الحكم. ليس غريباً على كبارِ أعيانِ حزب المحافظين المناصرينَ لبقاءِ بريطانيا ضمن الاتِّحادِ الأوروبي، مثل جون ميجر وكين كلارك، أن يوجِّهوا انتقاداتِهم لحملةِ "الخروج"، ولأبرزِ ممثليها، إلا أنَّ انتقاداتِ هيزلتاين، الملقَّب بـ"طرزان" (لإمساكه في عام 1976 بصولجان البرلمان وتلويحه نحو نوَّاب حزب العمال اليساريين، في أعقابِ فوزِ مقترحٍ لهم بتأميمِ صناعاتِ بناءِ السُّفنِ والطَّيران) كان لها وزنٌ وتأثيرٌ كبير، لأنه كان في عام 1990 وراء إقصاءِ مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا السَّابقة، المشهورة بـ"المرأة الحديدية"؛ وربما تمهِّد انتقاداتُه هذه المرَّة بطريقٍ غير مباشر إلى بروزِ "امرأةٍ حديدية" ثانية (خصوصاً وأنَّ رئيس حزب المحافظين الجديد سيكون هذه المرَّة امرأةً، هي إمَّا تيريزا ماي، وزيرة الدَّاخلية الحالية أو أندريا ليدسَم، وزيرة الدولة للطَّاقة؛ وذلك بعد انسحاب مايكل غوف من قائمة المرشَّحين).
أمَّا الصَّفعة الثَّانية المباشرة، فقد تلقَّاها العُمدة السَّابق عندما أعلن غوف، وزيرُ العدلِ، وساعدُه الأيمن في حملة الاستفتاء، ترشُّحَه -في آخرِ لحظةٍ- لرئاسة حزب المحافظين، من دون أن يتركَ له وقتاً كافياً للاستفاقة من الصَّدمة وإعادة ترتيب حساباته، فلم يبقَ له خيارٌ سوى الانسحاب، على أملِ أن يتهيَّأ ظرفٌ آخر -يتشكَّك الكثيرون في إمكانية حدوثه- يتسنَّى له فيه أن يلعبَ دورَ البطل المُنقِذ للحزب، إنْ لم يكن لبريطانيا بأسرها. وحتى بعد انسحابه، لم يُخلِ هيزلتاين سبيلَه، بل شنَّ عليه هجوماً لاذعاً، متَّهماً إياه بأنه تسبَّب في "أكبرِ أزمةٍ دستورية في العصر الحديث". وقال هيزلتاين إن عُمدة لندن السَّابق قد "مزَّقَ حزبَ المحافظينَ إرباً إربا"، واصفاً جونسون بأنه "مثل جنرالٍ قاد جيشَه وسط قعقعةِ السِّلاح؛ إلَّا أنه على مرأًى من ساحةِ المعركة، انسحب وتخلَّى عن القتال". فهل سيتخلَّى جونسون تماماً عن حُلمِه القديم، أم أنه سينتظر سانحةً أخرى، ربَّما تحدُث قريباً جداً؟ لن نستطيع الإجابة على هذا السُّؤال، لكننا سنراقب هذا الملف في سُباته الحالم؛ ولن نُفَعِّلَه، إلا إذا انبثقَ سياقٌ جديد يستدعي إيقاظه.
في هذه الأثناء، ما زال زعيم حزب العمال البريطاني، جيريمي كوربن، مُصِرَّاً على موقفه بألا يتزحزح قيد أنملة عن رئاسة الحزب، رغم تصويت نوَّاب الحزب في البرلمان سحبَ الثِّقة منه؛ إلا أن مصادرَ تتحدَّث عن "خطَّةٍ" تضمن "خروجاً مشرِّفاً" له، بينما يوافق الحزبُ على استمرارِ بعضِ السِّياسات التي أقرَّها كوربن. وسواءً استمرَّ كوربن أو قبِل "خطَّة" التَّنحي المُشَرِّف أو واجه تحدِّياً من قبل أنجيلا إيغل، وزيرة الأعمال المُستقيلة من حكومة الظِّل، ستظلُّ مشكلة حزب العمال قائمةً؛ وهي كيف يتسنَّى للحزب البريطاني العريق أن يعملَ بكفاءةٍ وسرعةٍ وسلاسة في ظلِّ ديمقراطيةٍ نيابية، إذا كان صُنعُ القرارِ بداخلِه تتحكَّم فيه بنيةٌ ثلاثية سلحفائية، هي القاعدةُ الشَّعبية للحزب، والنِّقابات، ونواب البرلمان؟
ستهون تداعياتُ نتائجِ الاستفتاء، إذا انحصر أثرُها السِّياسي على الحزبين الكبيرين، رغم فداحته؛ ولكنه طفح وطال المملكة المتَّحدة برُمَّتِها. وتلوحُ الآن في الأفقِ بوادرُ أزمةٍ دستورية، سنفردُ لها حلقةً منفصلة، إذا استفحلَ أمرُها. إلا أننا نريدُ أن نختِمَ هذه المشاركة بالتَّنبيهِ إلى أمرٍ هام جاء في ثنايا ترشُّح مايكل غوف لزعامة حزب المحافظين، وهو أن سارة فاين، زوجة مايكل غوف، قد سرَّبت رسالةً بالبريد الإليكتروني بطريق الخطأ، أشارت فيها إلى زوجِها بوجودِ مخاوفَ بشأنِ جونسون لدى عضوية حزب المحافظين، وزعماء وسائل الإعلام، مثل روبرت ميردوخ وبول داكر، رئيس تحرير صحيفة "الدِّيلي ميل" التي تعمل بها فاين كصحفية. ما يلفتُ الانتباه في هذا التَّسريب، هو أن ميردوخ، إمبراطور الصَّحافة والمالك لعدَّةِ صحفٍ وقنواتٍ تلفزيونية، والذي يقابله بعضُ رؤساء الوزراء في بريطانيا بالبابِ الأماميِّ (وبعضُهم بالبابِ الخلفيِّ) لرقم 10 داوننغ إستريت، قد لعِبَ -مرَّةً أخرى- بكيفيَّةٍ ما دوراً في دراما حيَّة، ما زالت تداعياتُها تعصِفُ بالبيتِ البريطانيِّ الكبير؛ فتهزُّ قوةَ اقتصادِه أولاً، ثمَّ تُهدِّدُ لاحقاً تماسُكَه السِّياسي، هذا إنْ لم يتم تلافي الأزمة بالحكمة، وتناسي الخلافاتِ الضَّيِّقة (وليست المحدودة يا مُنى)، والعملِ يداً واحدةً من أجل الكيانِ الواسع.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأربعاء أغسطس 17, 2016 11:11 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه هي الحلقة الثالثة والأخيرة من تأمُّلات محمد خلف في تداعيَّات استفتاء بريطانيا:



يَوْمَ عُيِّنَ عُمدة لندن السَّابق وزيراً للخارجية البريطانية




ما كِدنا نُغلِقُ ملف عُمدة لندن السَّابق حتى نهضَ مُجدَّداً كما العنقاء، وبسرعةٍ فاقت تصوُّرَ أكثرِ المحلِّلينَ تفاؤلاً بشأنِ عودتِه إلى مسرحِ السِّياسةِ البريطانية، ولكنه عاد لا ليملأ السَّاحة المحلية مرحاً وتهريجاً، وإنَّما ليغطي السَّاحة الدولية الواسعة، التي لا يتساهلُ البعضُ فيها مع هذرِه ومزاحِه أو ينفُذُ من خلال عَبَطِه وحُمقِه إلى حِدَّةِ ذكائه وعُمقِ استبصاراتِه؛ فهو كما تبيَّنَ لرئيسةِ الوزراء البريطانية الجديدة، أو "المرأة الحديدية" الثَّانية، رقمٌ لا يسهُل اقتلاعُه من السَّاحةِ السِّياسية، ولو استُعملَ معه قبضةٌ من فولاذ؛ فهو "قيصرٌ" بريطانيٌّ من أصلٍ تركي، تلقَّى طعنةً غادرة من "بروتس"، فلم تُؤدِ بحياته، بل ألقت مُسدِّدَها (مايكل غوف) خارج حلبة السِّياسة البريطانية الفاعلة.
على أنه ينبغي لنا -قبل أن نشرعَ في سردِ تفاصيلِ هذا الموضوع- أن نعتذرَ لأحدِ القرَّاء، راجينَ منه أن يتحمَّلَ معنا مسؤولية سوء الفهم، لأننا لم نُنبِّه بشكلٍ كافٍ بأننا بصددِ شأنٍ ليس للإحيمرِ ناقةٌ فيه ولا جمل؛ إلَّا أنه بدورِه لم يُدرك دلالة الحديث القدسي: "أنتَ تُريد، وأنا أُريد، وَاللَّهُ يفعلُ ما يُريد" في ارتباطِه بموضوعِ حديثِنا في الحلقةِ السَّابقة عن عُمدة لندن؛ فقد جاء بإرادتِه الغالبة، وكانت إرادتُنا القاصرة تهيؤ نفسَها لحديثٍ عن صعيدٍ باستدعاءِ ملكاتِ الرِّوائيِّ السُّوداني جمال محجوب، وافتتاحِ كلامٍ عن بُقعةٍ باستدعاءِ ذكرى عطرةٍ لأحفادِ المهدي وخليفته. إلَّا أننا نُنبِّه الإحيمرَ منذ الآن بأننا سنتحدَّث -إنْ تهيَّأ ظرفٌ ملائم- لا عن أحبابٍ (أو "حبايب") وإنَّما عن زملاءَ بالمدرسةِ المتوسطة (وكان زميلي محمد النَّذير الإحيمر شاهداً، فأرجو إنْ كان حيَّاً، ولم يكن اسماً على اسم، أو كان واحداً من أقاربِك، أن تستيقنَ منه حقيقة ما أقول) والمرحلة الثَّانوية والدِّراسة الجامعية ومكاتب الخدمة المدنية؛ فقد كانوا دائماً بيننا، يسيرونَ معنا كتفاً بكتف؛ ولا يفترقونَ عنَّا إلَّا لينصرفوا إلى أهليهِم ليسمعوا منهم نصائحَ تُعينُهم على تدبيرِ شؤونِنا، إنْ تسنَّى لهم ظرفٌ مُؤاتٍ للحُكم.
عِوَضَاً عن أن نُسهبَ في سرد تفاصيلِ اليومِ المشهود لتعيين بوريس جونسون وزيراً للخارجية البريطانية في يوم الأربعاء 13 يوليو 2016 والانتقادات التي انهمرت من كلِّ حَدَبٍ وصَوب، علينا أن نُشيرَ إلى ثلاثِ نقاطٍ رئيسية، لعلها تصلُحُ مجتمعةً كخلفيةٍ لقراءةِ سيلٍ من التَّعليقاتِ التي صدرت من جهاتٍ متعدِّدة حول العالم بشأنِ تعيينِ عُمدة لندن السَّابق في واحدٍ من أعلى أربعةِ مناصبَ في المملكة المتحدة. وهذه النقاطُ الثلاث هي: وظيفة العُمدة والتَّوقُّعات المُحتملة لسلوكِ شاغليها؛ والكتابة على أعمدةِ الصُحفِ اليومية والحرية النِّسبية المُتاحة ضمنها لأقلامِ الكُتَّاب المعروفين؛ وأخيراً، التَّوظيفات المُتضاربة لمفهومِ "الاستقامة السِّياسية" (وهو مفهومٌ سائد في الأدبياتِ البريطانية والغربية على وجهِ العموم، إلا أنه غيرُ معروفٍ بشكلٍ كافٍ في الكتابات العربية والمحلية، على وجه الخصوص؛ لذلك، فإن ترجمته غير مُستقِرَّة لقلَّةِ تداولها وعدم الاتِّفاق العام على أيٍّ من الصِّيغ المطروحة، ومنها: "اللَّباقة السِّياسية" و"الحصافة السِّياسية" "والصَّواب السِّياسي").
أمَّا بشأنِ وظيفة العُمدة والتَّوقُّعات المُحتملة لسلوكِ شاغليها، فإن أولَ ما يتبادرُ إلى الذِّهن أنها وظيفةٌ إدارية محلية، ويُتوقَّعُ من شاغلِها معرفةٌ بالمنطقة وثقافتها المحلية، وأن يعكسَ سلوكُه ومأكلُه وملبسُه تقديراً لبيئته وأسلوبِ المعيشةِ فيها؛ على أن يتحلَّى في كلِّ ذلك بقدرٍ من الظُّرف والمرح وأن ينثُرَ على مَن حولِه أجواءً من المُتعة والتَّسلية؛ وتتناقص كلُّ تلك الصِّفات نسبياً بقدرِما تتَّسعُ الدَّائرةُ الإدارية التي يشرف عليها العُمدة، وتتنوَّعُ ثقافاتُها، ويصبحُ من المستحيل، كما هو الحال في المُدنِ الكبرى، الدِّفاعُ عن ثقافةٍ بعينِها أو تبنِّي أيٍّ من تعبيراتِها الأكثر سطوعاً، بل الأنسب هو التَّرويج للتَّعدُّد ذاته والاحتفاء بالتنوُّع وإظهار كلِّ أنواعه القابلة للاستحسان من قبل أكبر قطاعٍ من المواطنين.
وفي ما يختصُّ بكتابة الأعمدة في الصُّحف، فإنها بخلافِ التَّقاريرِ الخبرية التي تتطلَّبُ دقَّةً في محتواها، وثقةً قي مصادرِها، وفحصاً وتمحيصاً لصدقيَّتِها في كلِّ حالةٍ منفردة - خلافاً لكلِّ ذلك، نجد أن الكتابة في الأعمدة الصَّحفية تتطلَّبُ قدراً من الحرية، التي تسمحُ للكاتب بإضفاءِ طَابَعِه الشَّخصيِّ على ما يكتُب؛ فإنْ تميَّز بالعُمق، جاءت تحليلاتُه عميقةً ورصينة، واكتسب جمهوراً من القرَّاء الباحثين عن الكتابات الجادَّة؛ وإنْ تميَّز بالفكاهة والمرح، جاءت كتاباتُه سلِسةً وجَزلة، واكتسب جمهوراً من القرَّاء الباحثين عن التَّسلية والمرح؛ وخيرُ الكتاباتِ ما اختطَّ طريقاً ذهبياً بين الإفراط في الجديَّة والتَّفريط في أن يأخذه القرَّاء على محملٍ من الجد.
أمَّا النُّقطة الثَّالثة والأخيرة، فهي مفهوم "الاستقامة السِّياسية" وارتباطها بالنُّقطتين السَّابقتين. فإلى أي مدًى يمكن لشاغلِ وظيفةِ عُمدةٍ أن يضفي أجواءً من المُتعة والتَّسلية من غير أن يجرحَ مشاعرَ مُمثِّلي أيٍّ من الثَّقافاتِ التي تقعُ تحت إدارتِه المحلية؟ وكيف يتسنَّى لكاتبِ عمودٍ في صحيفةٍ سياسيةٍ يومية أن يتحلَّى بالفكاهة والمرح من غير أن يتسبَّبَ في إحداثِ تجريحٍ لأيٍّ من قرَّائه العديدين؟
بدأ مفهوم "الاستقامة السِّياسية" أولَ الأمرِ في أوساطِ الأحزاب اليسارية التي عادةً ما تفرض على عضويتها التَّقيُّدَ بلوائحَ سلوكيةٍ صارمة، من ضمنِها الالتزامُ التَّام بعدم خدشِ مشاعرِ الآخرين أو تعمُّدُ السُّخرية على أيٍّ من الأفراد الممثلين للأجناس والثَّقافات المُتعدِّدة أو الخياراتِ المتنوِّعة أو أصحابِ الإعاقةِ بشتَّى أنواعِها. ولفترةٍ طويلة ظلَّ ممثلو اليمين حائرينَ بصددِ تبنِّي إستراتيجيةٍ ملائمة إزاء هذا المفهوم الذي أصبح، على بداهتِه، حِكراً على ممثلي اليسار؛ إلا أن الفرصة قد سنحت لهم عندما لمِسوا تطرُّفاً واشتطاطاً لدى البعضِ في فرضِ المفهوم على كافَّةِ التَّعبيرات، ومن ضمنها مجال الكوميديا؛ فأصبح المفهوم عند استخدامِهم له نزقاً يسارياً مسعوراً، بعد أن كان عند خصومهم نوعاً من التَّلطُّف في القول.
في البدء، كان بوريس جونسون عُمدةً للندن المِتروبولية، كما كان كاتباً لأحدِ الأعمدةِ الثَّابتة بصحيفة "الدِّيلي تلجراف" اليومية؛ وفي كلتا الوظيفتين، اختبر وزيرُ الخارجية الجديد مفهوم "الاستقامة السِّياسية" ببُعديه المتعارضين؛ فبصفتِه عُمدةً لحاضرةٍ متعدِّدةِ الثَّقافات، كان مُلتزماً بالدِّفاع عن هذه التَّشكيلة المِتربولية البالغةِ التَّنوُّع؛ إلَّا أنه من هذه القلعةِ الحصينة على جانبَيْ نهر التِّيمز، لم يتورَّع في إبداءِ السُّخرية اللَّاذعة على كلِّ زعماء العالم: من باراك أوباما إلى أنجيلا ميركل وحتى رجب طيِّب أردوغان، كما لم تسلم الجارة فرنسا من لسانِه، الذي اتَّسع مداه حتى وصل إلى أرضِ الصِّين. وبصفتِه كاتبَ عمودٍ بصحيفةٍ محسوبةٍ على حزبِ المحافظين، كان عليه الالتزام بسياسةِ الحزب إزاء عضويتِه المُختلفةِ المشارب؛ إلا أنه قد وظَّف العمود، بما يتيحه له من حريةٍ نسبية، في توصيلِ السَّباب والتَّعليقات الجارحة إلى أقصى مدًى لها ببكين.
إلا أن جونسون لم يعُد عمدةً للندن، منذ أن تولَّى صادق خان هذا المنصب في 9 مايو 2016؛ كما توقَّف نهار اليوم الاثنين عن كتابة العمود الذي كان يدرُّ عليه مبلغاً قدره 247 ألف جنيه في العام، ليتفرَّغ إلى وظيفة وزير الخارجية التي تمَّ تعيينه بها في 13 يوليو 2016. وبهذا يكونُ قد تجفَّف كلُّ المصادرِ التي كانت تُتيحُ له قدراً من الحرية النِّسبية؛ فإذا كانت وظيفة العُمدة تسمحُ له بقدرٍ من المناورة في التَّعبير، وأن الكتابة في العمود كانت تُفسِحُ له مجالاً واسعاً للتَّصرُّف بالكلمات؛ فإن منصب وزير الخارجية، تحت سمع وبصر دهاقنة الدِّبلوماسية العالمية ودُهاتها الذين لا يُشقُّ لهم غبار، سيعلِّمه الحكمة، والعبارة المُقتضبة، والحِنكة الدِّبلوماسية؛ هذا غير تلقينه بملاعقَ من فِضَّةٍ لمفهوم "الاستقامة السِّياسية".
هذا بالطَّبع، إنْ أراد التَّعلُّم؛ وإلا تعلَّمنا نحن، فيما ستُبدي لنا الأيامُ مما نجهل، أو يأتينا بوريس بطرفٍ من إبداعاتٍ وقفشاتٍ لم تكن تخطُر على بال. وفي كلِّ الأحوال، سنفتقد، مع عمقِ اختلافنا معه، جزالة عبارتِه، ورشاقة كَلِمَتِه، وعُمقَ فكرتِه، وحسِّه الكوميديِّ العالي. وشكراً له، فقد زوَّدنا في آخرِ مقالٍ له بصحيفة "الدِّيلي تلجراف" بتاريخ اليوم الاثنين 18 يوليو بتبصُّرٍ عميق لأداءِ وزارة الخارجية البريطانية في يومِ كريهةٍ أو ما اصطُلح على تسميته في الدَّوائر الدِّبلوماسية بـ"وضع أزمة" (كرايسِس مُوْد)، في إشارةٍ إلى تتبُّع أحوال العالقين البريطانيين في صالةِ الجمارك بمطار إسطنبول أتاتورك، إبَّان المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأربعاء أغسطس 17, 2016 11:12 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عانق الفنان التشكيلي أحمد عامر قصيدة سيد أحمد بلال، الموسومة : "العودة إلى أوَّلِ السَّطر"، والتي أهداها شاعرنا "إلى الورَّاقين السُّودانيين جميعاً، وإلى عبد الواحد ورَّاق بصورةٍ خاصة"، فكانت هذه اللوحة نتيجة ذلك العناق:



صورة
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في المساحة التالية يبذل محمد خلف استدراكاً شفيفاً وصميماً لعله - أو نأمل أن - "يبيِّضُ وجهنا جميعاً" أمام قامة تشكيلية ونقدية تتمثَّلُ في محمد عبد الرحمن حسن:



"صَفُّونا صفَّاً صفَّا.. الأجهرُ صوتاً والأطول وضعوه في الصَّفِّ الأول"


يتحرَّك كلُّ شخصٍ مِنَّا ضمن شبكةٍ من التَّرابطات الاجتماعية؛ لذلك، لا يأتي أيٌّ منَّا إلى ذاكرةِ الآخر فردا، بل يتداعى إليها معه في ذاتِ الوقتِ نَفَرٌ ذوو صلةٍ بالدَّائرة المشتركة. على أن الأمرَ لا يخلو من تدافعٍ وتزاحمٍ جائرٍ على مدخل الذَّاكرة. وما يدخلُ إليها أولاً، ليس هو دائماً ما يستحقُّ احتلالَ المقاعد الأمامية منها. فهناك اعتباراتٌ تخرج عن سيطرة التَّقييم الموضوعي؛ منها، بسطةُ الجسم، وضخامةُ الجثَّة، وسماحةُ المُحَيَّا، وعُلُوُ الصَّوت، وكثرةُ الضَّجيج، وتميُّزُ المسكن، وأناقةُ الهندام (وكلُّنا يذكرُ مقولة الشِّيخ فرح الشَّهيرة: "أُكُلْ ياكُمِّي قُبَّالْ فمِّي" أو عدم تعرُّف حارس البوَّابة على البروفيسور عبدالله الطَّيِّب، ومنعه من الدُّخول، مع أنَّ صوته كان يأتي إلينا يومياً عبر المذياعِ في شرحِه المُيسَّرِ لما تيسَّرَ من الذِّكر الحكيم، بصُحبة الشِّيخ صدِّيق أحمد حمدون).
تعرَّضنا في متن الرِّسالة، والمشاركاتِ التي جاءت في أعقابِها، إلى عددٍ من مشاهير المبدعين، على رأسهم الصَّديق عادل القصَّاص، إلَّا أننا قد حرصنا، إلى جانب ذلك، أن نفسَحَ المجالَ لعددٍ من المنسيينَ، على عِظَمِ مساهماتهم؛ والمهمَّشينَ، على مركزيةِ نتاجهم الفكري؛ والأخفضِ صوتاً، على ارتفاع هامتهم المعرفية؛ والأبعدِ عن دائرة الضُّوء، لأنهم قابعون خلف البؤر والكواليس التي تُحَدِّدُ في الأصل مساره وانكساره قبل سقوطه على الشُّخوص المتحرِّكة على الخشبة. وعندما تحدَّثنا عن الحركة البنيوية في السُّودان، حرصنا على أن نُلقيَ مزيداً من الضُّوء على مجهودات الأستاذ المفكِّر محمد عوض كبلو، قبل رسوخ المصطلح على كتفيْ الأستاذين الصَّديقين عبداللَّطيف علي الفكي وأسامة الخوَّاض؛ ولم يخطُر ببالنا قط -إلَّا بعد مشاهدة عمل الفنَّان التَّشكيلي أحمد عامر حول قصيدة سيدأحمد بلال عن المبدع عبدالواحد ورَّاق- أننا أغفلنا شخصاً لا يُمكِنُ فهمُ دورِ الضُّوء نفسِه دون الاستعانة باستبصاراته الحاذقة؛ وذلكم هو الشَّخصُ المهذَّب، الأخفضُ صوتاً، والأرفعُ مقاماً، والأَحَدُّ بصراً، والأنفذُ بصيرةً: الأستاذ الفنَّان التَّشكيلي محمد عبدالرَّحمن حسن.
كان من روَّاد الحركة البنيوية في السُّودان، في مجالٍ فرَّ فيه النَّقدُ عن موضوعاته؛ فدعانا الأخ محمَّد في وقتٍ باكر، عبر محاضراتٍ عامَّة ألقاها في كلية الفنون الجميلة، إلى تأمُّلِ الأعمال الفنية ذاتِها، والنَّظرِ إلى اللَّوحة، على سبيل المثال، بوصفها نصَّاً تتشابكُ فيه علاقاتٌ متداخلة للشكلِ واللَّون، تشكِّل فيما بينها بنيةً قادرةً على استكناه الدَّلالات العميقة للعمل الفني، عوضاً عن الاكتفاء بالسِّيرة الذَّاتية للفنَّانين التَّشكيليين أو سرد مآثرهم أو التَّرويج لمذاهبهم الفكرية أو نسج أقاصيصَ لا تمِتُّ لأعمالهم الأصلية (أي "نصوصِهم" التَّشكيلية) بأدني صلة. وكان محمَّدٌ يجري تحليلاتِه العميقة بيُسرٍ مدهش، فلا تستعصي عليه حتى ابتسامة "الموناليزا" لدافنشي، أو "عبَّاد الشَّمس" لفان جوخ، أو أيٍّ من "تجريدات" موندريان، أو كلٍّ من "زنابق المياه" (أو "النِّيلوفر") لمونيه؛ ناهيك عن الفنَّانين التَّشكيليين الذين أنتجتهم بيئته المحلية، ومن ضمنهم أحمد عامر، صاحب اللَّوحة التي أمامنا، التي رسمها في توضيحٍ موازٍ لقصيدة سيدأحمد عن ورَّاق.

محمد خلف

منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

أن تتوفر الظروف لك وتلتقى بأناس يمتلكون طاقاتٍ من الإنسانيه وقدراتٍ فى تنزيلها على واقعهم الحياتى الذاتى والمنفعل مع الآخر وبأريحية ساحره كالتى تلمستها فى شخوصٍ
شتى وفرتهم هذه الكتابة الرصينة العميقه والتى أكرم الله بها عزيزنا محمد خلف فدلقها خيراً للناس فى هذا الخيط الأوحد المتفرد والذى جمعنا بمسعودٍ فى صياصيه وبسيد أحمد ووراق
وعبدالرحمن والسر السيد والقصاص وآخرون أكثر بذلاَ لله درهم جميعاَ ولكنى عايشت بعقلى وروحى حجم الوفاء والرباط الروحى بين هولاء البشر النوادر وكيف لا فقد سطر سيد أحمد
قصيدة معبرةَ عن وراق قاله فيها بتفاصيلٍ كثيفة لطيفه تخطفها الفنان التشكيلى أحمد عامر ليقوله فى لوحةٍ تشكيلية معبره أضافت لتلك اللوحه التى طرزتها سكينه كمبال بخامة من لغة الشايقية القحة
العكاسة للأشياء كما هى فأخرج كل ذلك لنا ما يخفيه وراق عنا من ذاته تلك الجميلة الناصعه بصوفيته وزهده وإنتمائه الفطرى للبساطة والعفوية الصادقه فيا وراق يا من أورقت دواخله
وخصاله تلك الشتول النواضر اليانعات للناس، فمالك تخفى عنا كل ذلك يا ملك الأخفياء الأقوياء من أهل الصدق والإلتزام وصحو الضمير أو ليس بأولى لك أن تمنح من هم أولى ذلك
الجمال الروحى النادر والذى حباك به الله فحبب فيك خلقه يا وراق فعبرك يا عزيز أشكر الإخوة عبدالرحمن وسيد أحمد وخلف وأشكر الأخت سكينه التى جلبت لنا السكينه بقراريص
حكوها الطاعم عنك فلك وللكل الحب والسلام.


منصور
أضف رد جديد