مقالاتي في صحيفة التيار

Forum Démocratique
- Democratic Forum
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مقالاتي في صحيفة التيار

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

الإخوة والأخوات الأعزاء
سأثبت في هذا الخيط مقالاتي التي تنشر (أولا تنشر بسبب الرقيب) في صحيفة التيار السودانية
مع كثير المودة

حكّام يطردون وآخرون يوطِّنون


عندما قدمت إلى ولاية فيرجينا، لأول مرة، عام 1992، سكنت وأسرتي في مدينة أليكساندريا (الإسكندرية)، التي تطل مباشرة على العاصمة واشنطن دي سي من الضفة الغربية لنهر البوتاماك. حينها كنا قلة من السودانيين مبعثرين في أرجاء منطقة واشنطن الكبرى التي تشمل إضافة إلى واشنطن العاصمة، أجزاء من ولايتي فرجينيا وميريلاند. كنا حينها، لقلتنا، نعرف بعضنا. بعد عامين ويزيد قليلا غادرت منطقة واشنطن وتنقلت في عدد من الولايات الأمريكية الأخرى، وانتهى بي التطواف في دولة قطر لأمكث فيها عقدا كاملا من الزمان. وقبل شهر ونصف، وبعد غياب استمر لأكثر من عقدين، عدت إلى فرجينيا لأسكن مدينة ألكساندريا مرة أخرى، ولكن، لأجدها قد تغيرت، ديموغرافيا، بصورة لا تصدق.

قبل بضعة أيام تنادى السودانيون لحفل أقاموه لدعم جهود علاج الدكتور حيدر ابراهيم، أبلغه الله تمام العافية. اختار المنظمون للحفل قاعة في ضاحية سبرينغفيلد جنوبي ألكاسندريا. أذهلتني في هذا الحفل أعداد السودانيين، وتعدد أجيالهم. فعلى سبيل المثال، كان هناك مربي الأجيال الأستاذ الطيب السلاوي، وكان هناك الفنان عبد الكريم الكابلي، ومن هم في مثل سنهم. وكان هناك من هم في مثل سني ومن هم دوني بجيلينـ، أو نحو ذلك. كما كان هناك من هم أقل عمرا، ابتداء بطلاب الجامعات والثانويات ومن دون ذلك، وانتهاء بالأطفال. لم أعرف في هذا الحضور الضخم سوى قليلين ممن بقوا في منطقة واشنطن الكبرى منذ بداية التسعينات. لقد رأيت حيوات سودانية، متعددة الفئات العمرية، تتشكل في هذه البوتقة الجديدة التي تبعد قرابة العشرة آلاف كليومترا عن الوطن الأم. واستحضرت في ذهني، أن هذا الشي نفسه يحدث للسودانيين؛ في كندا، وفي أوروبا الغربية، وفي استراليا، وفي العديد من دول العالم الأخرى. هذا، بخلاف الهجرة المؤقتة الطويلة للسودانيين، في الجزيرة العربية والخليج، التي تنتهي بالبعض إلى نفس هذه المهاجر الغربية، بعد وقت، قد يطول وقد يقصر. إنه نزف للطاقات وللعقول لم يعرفه السودان شبيها له منذ أن خُلق الله الأرض ومن عليها.

يتكون مكان الاحتفال من عدد من القاعات المتجاورة. وكان في أحد القاعات المجاورة حفل عرس، أظنه باكستاني، أو أفغاني، لا أستطيع أن أجزم. اكتظت ردهات مجمع القاعات بهذا الخليط من السودانيين وغير السودانيين. وحزرت مما شاهدته من تغير ديموغرافي في مدينة أليكساندريا، أن هذه القاعات نادرا ما تشهد فعاليات للبيض أو للسود من المواطنين الأصليين. فقد تحولت مدينة ألكساندريا وضاحية سبرينغفيلد، في أقل من ربع قرن من الزمان، إلى مناطق تتزايد فيها أعداد المهاجرين، باستمرار، حتى أصبح وجود المهاجرين هو السمة الغالبة عليها.

وعلى سبيل المثال، فإنني نادرا ما يصادفني البيض في البناية التي أسكن فيها. سوق المتاجر الصغير الواقع في تقاطع شارعي جورج ميسون وسيميناري، تحول من سوق (بلازا) يغلب عليه الطابع الأمريكي، إلى سوق تسيطر عليه الأعمال التجارية لأهل الثقافات الوافدة. هذه (البلازا) يحتل معظمها الآن الإثيوبيون، بمتاجرهم ومطاعمهم، تشاركهم قلة قليلة جدا من العرب، إضافة إلى متجر أو متجرين للسودانيين. العاملون في مختلف المولات الواقعة في هذه الناحية، إما إثيوبيين وإما من مهاجري أمريكا اللاتينية، أو غير ذلك من بلاد الله. يقول المشهد الجديد إن أمريكا تتحول. إنها تخلع قميصا قديما طالما لبسته، وتكسو نفسها قميصا جديدا، تماما مثلما تفعل الحية. فأمريكا تملك مراكز أبحاث مسموعة الكلمة، تفكر وتعمل باستمرار لسد الثغرات. إنها تقرأ مؤشرات التراجع بعقل علمي محايد، وتعمل على وضع الحلول، وتوصي بتنفيذها كمن يقدم وصفة طبية لا مناص من اتباعها. فأمريكا تشيخ، من عدة وجوه، وهم، بسبب ذلك، يعملون الآن، بكل طاقتهم لتجديد شبابها، عن طريق فتح الباب على مصراعيه، للمهاجرين.

بدأ برنامج استقدام المهاجرين المسمى "اللوتري"، منذ أكثر من عقدين من الزمان، بغرض دعم التنوع في الحياة الأمريكية. وأخذ الاستقدام يتخذ نمطًا ثابتًا، منذ أن أجاز الكونغرس في عام 1990 مرسوما باستقدام 50 ألف مهاجر سنويا من الأقطار الأقل تمثيلا في النسيج الديموغرافي الأمريكي، ومن بين هذه الأقطار السودان. وقد ظل هذا العدد من المهاجرين من هذه الدول الأقل تمثيلا في النسيج الديموغرافي الأمريكي يدخل أمريكا سنويًا منذ ذلك التاريخ.

ظل البيض، منذ نهاية الفصل العنصري، يهربون إلى الضواحي، كلما تكاثرت أعداد الملونين من حولهم في المناطق التي يقطنون فيها؛ سواء كان هؤلاء القادمون للسكنى في مناطقهم من الأمريكيين الأفارقة، أو من المهاجرين الجدد. وتدل هذه الظاهرة على تفشي فوبيا الملونين وسطهم. وما لا يعرفه، هؤلاء البيض، أو يعرفونه، ولكنهم ينكرونه، أو يتجاهلونه، أن أمريكا مرشحة لأن تصبح قطرا قوامه الملونون. فكل القراءات تقول إن هذا الانقلاب الديموغرافي ربما يحدث قبل أن ينتصف هذا القرن. فالجنس الأبيض يتناقص بسبب تراجع مؤسسة الزواج وسطه، وبسبب تراجع الرغبة في الانجاب، وكذلك، بسبب العقلية الحسابية التي غرستها الرأسمالية، ما جعل التعامل مع عدد المواليد في الأسرة، يُنظر إليه من زاوية يغلب عليها حساب التكلفة. هذا، في حين تزادا أعداد المهاجرين الذين يرغبون في الانجاب. وهؤلاء، بسبب خلفياتهم الثقافية، يتصفون بكونهم الأكثر قدرة على الحفاظ على تماسك النسيج الأسرى. وعلاوة على هذا وذاك، يزداد الزوج المختلط بوتيرة متسارعة أدهشت الكبار من البيض ومن الملونين سواء بسواء.

تتميز السياسات الأمريكية بالاستناد على نتائج الأبحاث وتوصيات مراكز التفكير، وعلى الرؤية طويلة المدى. وتتميز سياساتنا نحن بالارتجال واحتقار العلم والعلماء، وبالعجز المفرط في القدرة على النظر إلى الأمور بموضوعية. تجدد أمريكا الآن دماءها بالعقول وبالطاقات من جميع أرجاء العالم، وبالصغار الذين يأتون مع ذويهم، أو يولدون في أمريكا، فيشبون في أسر لا تزال تحمل خصائص الثقافات التقليدية، ما يجعل هؤلاء الصغار متمتعين بقدر معتبر من ثقافة وأخلاق العالم القديم. ولقد أصبح، أبناء الوافدين هؤلاء الطاقة الجديدة التي سوف ترفد الحياة الأمريكية بروح جديد، وبكثير من منظومات القيم الجوهرية للبناء الحضاري وللمحافظة عليه، مما بدأت أمريكا تفقده بوتيرة متسارعة. فالأمريكيون يتعاملون مع الهجرة بوصفها استثمارا في نوعية العنصر البشري الذي ينتظر منه أن يردم الفجوة التي أخذت تتبدى، عاكسة ما اعترى طاقة الدفع الحضاري الأمريكية من وهن، وما جرى لمنظومات القيم الايجابية فيها من تآكل.

في نفس هذا الوقت الذي شخصت فيه أمريكا مشكلتها منذ ثمانينات القرن الماضي، وبدأت في التنفيذ الممنهج في التسعينات، بدأ السودان نزفا سكانيا لم يعرفه في كل تاريخه الطويل. شهد العقدان ونيف الأخيران هجرات سودانية ملحمية إلى خارج القطر. أوردت "الجزيرة نت"، مرارا، نقلا عن السلطات السودانية، أن عدد السودانيين الذي هاجروا بصورة شرعية في الآونة الأخيرة يصل إلى أربعة ملايين نسمة. ولو أضفنا إلى هؤلاء من هاجروا بصورة غير شرعية، فإن الرقم يصبح مخيفا بحق. يطرد حكامنا مواطنيهم ويفتحون الأبواب لهجرة متدنية النوع؛ تعليما وتمدنا، تتدفق علينا بلا ضوابط من دول الجوار. هذا حين تفتح بلدان مثل أمريكا، على سبيل المثال، أبوابها لهجرة منتقاة، محسوبة حسابًا دقيقًا ابتداء؛ من منافذها التي يجتاز منها المهاجر عتبة الدخول الأولى، وانتهاء بآفاق مآلاتها المستقبلية المفتوحة.

لو سارت الأمور في السودان، لا قدر الله، على هذه الوتيرة الجارية الآن، وبقي حكامنا والجوقة المحيطة بهم، متشبثين بكراسي الحكم، على النحو الذي ظللنا نشاهده منذ سبعة وعشرين عاما؛ حيث الامساك بالكرسي مقدمٌ على أي اعتبار آخر، فإنهم سيجدون أنفسهم، في القريب العاجل جدا، يحكمون كتلة بشرية ضخمة جدا، هي خليط عجيب من الأجانب، الذين إما هم أميون أو بتعليم أولي ضعيف، ما يجعلهم لا يستطيعون بناء شيء، بل سيكونون، بحكم أحوالهم، التي لا يد لهم فيها، معول هدم لكل ما يجري بناؤه. هذه الكتلة الضخمة من الأعراق والثقافات المختلفة، تتكون من النازحين من الأطراف الأكثر تخلفا، وأمية، والأشد فقرًا في دول الجوار. هؤلاء سوف يحلون، كما هو جارٍ الآن، على قدم وساق، محلَّ زبدة السكان من الشباب والكهول المتعلمين المؤهلين، الذين هاجروا من البلاد، ولا ينفكون يهاجرون.

يدفع حكامنا بزبدة السودانيين إلى المهاجر بلا مبالاة تبعث على الحيرة. ويتركون ثغور البلاد مفتوحة لعملية إحلال وأبدال، يقول كل شيء فيها إنها وصفة لمزيد من التراجع. هذه الهجرة الملحمية الضخمة للسودانيين نحو الخارج تقول كل شيء عن فشل تجربة الانقاذ برمتها؛ ما ذهب منها وراء الكواليس، وما لا يزال منها باقيا على المسرح. هذه الهجرة الملحمية هي الدليل الأسطع، الذي لا يعادله دليل، على فشل جميع سياسات الانقاذ، الداخلية والخارجية. فما نراه اليوم، باختصار شديد، هو حصاد الهشيم لتجربة تحالف المهووسين دينيًا والمغامرين التي امتدت لسبعةٍ وعشرين عاما. فهل تستغربون؟! لا غرابة أبدا!! فأهل هذا الحلف لم يكونوا أصلا يملكون قدرة على أن يروا أبعد من أنوفهم.

آخر تعديل بواسطة Elnour Hamad في الخميس أغسطس 18, 2016 8:18 pm، تم التعديل مرة واحدة.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

بالتثمين أو - ولو - بالإدانة أمريكا فايزة فايزة ..!

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »




- أمريكا تملك مراكز أبحاث مسموعة الكلمة، تفكر وتعمل باستمرار لسد الثغرات.
- إنها تقرأ مؤشرات التراجع بعقلٍ عِمليٍّ محايد.
- تعمل على وضع الحلول، وتوصي بتنفيذها كمن يقدم وصفة طبية لا مناص من اتباعها.
- تتميز السياسات الأمريكية بالاستناد على نتائج الأبحاث وتوصيات مراكز التفكير.




• أمريكا تشيخ، من عدة وجوه، وهم، بسبب ذلك، يعملون الآن، بكل طاقتهم لتجديد شبابها، عن طريق فتح الباب على مصراعيه، للمهاجرين.
• أمريكا مرشحة لأن تصبح قطرا قوامه الملونون.
• كل القراءات تقول إن هذا الانقلاب الديموغرافي ربما يحدث قبل أن ينتصف هذا القرن.
• فالجنس الأبيض يتناقص بسبب تراجع مؤسسة الزواج وسطه، وبسبب تراجع الرغبة في الانجاب، وكذلك، بسبب العقلية الحسابية التي غرستها الرأسمالية،
• الأمريكيون يتعاملون مع الهجرة بوصفها استثمارا في نوعية العنصر البشري، الذي يُنتــَظر منه أن يردم الفجوة التي أخذت تتبدى، عاكسة ما اعترى طاقة الدفع الحضاري الأمريكية من وهن، وما جرى لمنظومات القيم الايجابية فيها من تآكل.




..........


بالتثمين أو - ولو - بالإدانة أمريكا فايزة فايزة ..!


عزيزي د. النور، سلام وتحايا وترحاب

ومرحى بمقالاتك يجمعها، أو ستجمعها لنا في هذا الخيط، ومصطلح ال(خيط) ده، عندي، هو "هولك"، حيث قرأتُه لأوّل مرة في بوستٍ رياديٍّ لك بـSOL في الزمان الأول :)

أعلاه، مُقتبسات بشوية تصرّف! ربما خدش السياق الفردي نوعاً ما..! بيد أن الجوهر الفردي للـ "مُعطى" في حالو؛ وإنني لأراك في الأربع الأول من المُعطيات، كأنما تقول: أمريكا هي البرنجي (فايزة فايزة .. وَ قندولها شنقل الرّيكات من طَرَف)، بينَا أراك في المعطيات الخمس التي أعقبت، كأنما تقول The same (سِيْم سِيْم صديق!) أي: أمريكا هي البرنجي (فايزة فايزة وَ إلخ,,,)! ولئن كان "التثمين" قد رشَح باتعاً في المعطيات الأولى، فإن الإدانة ال مُتَضَمَّنَة في الخمس العاقبات، قد استُصحِبَتْ، لم تُزعزع في "المقالة" - ولو - حَبَّةٍ من خردل! من قيزان مودةٍ باذخة وحُبٍّ (from their saying: Love is blind) جميم لأمريكا بمراكز Her Think-tanks..!

فماذا تقول يا عزيزي؟

وإن شئتَ "هوادة" فقد قرأتُ قبل قليل على الـــNewsletter of NYTime.com
ما يلي:
Donald Trump’s casinos owed a tax bill of almost $30 million to New Jersey. Then his friend Chris Christie became governor.

وها هنا، شبه السحالي! بين هذا الكاردينال، أو لعله الوالي الأمريكي! مع التِّرامباتs من آل بِشرٍ كال غوش، وفلان الذين أصبحوا بعد " كم وعشرين" لا يقلون رأسمالية (ومعولمة كمان!!ها) عن ناس Donald & Christie

وإذن، أين الفرق..؟!:lol: مع الوضع في الحسبان أن "أمريكا" مهوى أفئدة يجي أكثر من 300 مليون نسمة! بينما
كلنا هنا، لا نكمل ال10 مليون _بخلاف الملوِّنين لنا على تلاويننا الكثيرات! و99,7 من هذا الجمع الممحوق يسكن الخرطوم عموم يا عينيا.





.............
مع عظيم المودّات
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


فرص الثورة والانقسام المصلحي


لا تستطيع الأنظمة الاستبدادية العيش بمفردها أبدًا؛ أي، أنها لا تستطيع البقاء والاستمرار الطويل في الحكم، إلا استنادًا على دعمٍ كافٍ تتلقاه من شريحةٍ، أو من عدة شرائحَ مجتمعيةٍ معتبرة، تتماهي مصالحها مع مصالح النظام الاستبدادي القائم، فتصبح سندًا له يمده بأسباب البقاء والاستمرارية. فالمعادلة، في حقيقتها، أكثر تركيبًا مما يظن كثيرون. فهي ليست منحصرةً دومًا في: الشعب ضد السلطة الاستبدادية، وإنما هي معادلةٌ بالغة التركيب والتعقيد، تحتمل، في غالب صورها، أن تكون صيغتها: الشعب ضد السلطة الاستبدادية، وفي ذات الوقت، "الشعب ضد الشعب"؛ بمعني وقوف الشعب، صراحةً أو إضمارًا، ضد شريحةٍ، أو عدة شرائح منه، ظلت تقف، بحكم مصالحها، مع تلك السلطة الاستبدادية. ولا يمكن لنظامٍ مهما بلغ من قوة البطش أن يبقى يومًا واحدًا في الحكم، إن هو فقد السند من كل شرائح الشعب مجتمعةً.

لا يأتي النظام الاستبدادي من الفراغ، وإنما يخرج من البنياتِ المجتمعيةِ المتشكلةِ أصلا التي يصبح شقٌّ منها دعامةً له. فكل مغامرٍ من العسكريين، الذين لا ينفكون ينقضون على الأنظمة الديمقراطية، يُجري حساباتٍ أوليةٍ حول مدى الانقسام المجتمعي، الذي يضمن له شرائح داعمةً، تسند استيلاءه على السلطة وتثبت أركان نظامه. ولا يثب العسكريون، أو من يقفون وراءهم، كالحركة الإسلامية السودانية، التي دبرت انقلاب العميد، عمر حسن أحمد البشير، على الديمقراطية الثالثة، إلا بعد أن يكونوا قد أحسوا، خطأً أو صوابًا، أن الانقسام المجتمعي قد بلغ أشده. كما أن الانقسام المجتمعي يمكن أن يُصنع صناعةً. وهذا هو عين ما فعله الإسلاميون عن طريق مؤسساتهم المالية التي أتاح لها جعفر نميري، عقب المصالحة الوطنية التي جرت عام 1977، كل فرص التمدد إلى الجذور عبر فرية ما سمي "الاقتصاد الإسلامي". أيضًا، صنع الإسلاميون الانقسام، وعمّقوه، عن طريق الآلة الإعلامية التي امتلكوها، وأعملوها في تمزيق جسد الديمقراطية الثالثة، عقب سقوط نظام نميري في أبريل 1985.

إن أخطر انقسامٍ مجتمعيٍّ أحدثه الإسلاميون في السودان، وضمن لهم البقاء في السلطة لما يقارب الثلاثة عقودٍ من الزمان، حتى الآن، هو استهدافهم المؤسسة العسكرية في فترة الديمقراطية الثالثة. بدأ الاسلاميون يتغلغلون في المؤسسة العسكرية السودانية، التي ظلت، حتى تلك اللحظة، مؤسسةً قوميةً غير مسيسة، على الرغم من الانقلابيْن اللذيْن نفذتهما علي يدي كل من الفريق إبراهيم عبود في نوفمبر 1958، والعقيد جعفر نميري في مايو 1969. وأكبر دليل عندي على بقاء المؤسسة العسكرية مؤسسة قومية غير مسيسة، رغم هذين الانقلابين، هو وقوفها، (ربما مضطرة)، إلى جانب الشعب في ثورتي أكتوبر 1964، وأبريل 1985.

استهدف الإسلاميون الجيش بالإغراءات المالية المتمثلة في القروض وغيرها من التسهيلات منذ حقبة الديمقراطية الثالثة 1985-1989. كما استهدفوا شريحةً معتبرةً من ضباطه، بالتجنيد الإيديولوجي بعقده لهم دوراتٍ تجنيدية متصلة، في المركز الإسلامي الإفريقي، (جامعة إفريقيا العالمية حاليا). وكما يقول المثل الشائع: "اطعم الفم، تستحِ العين". أيضا استغل الإسلاميون ضعف حكومة السيد الصادق المهدي وحالة التدابر التاريخية، التي لا تني، بين حزبي الأمة والاتحادي، وما تسببت فيه من ضعفٍ شديدٍ للجيش في مواجهة الحركة الشعبية، فجعلوا من أنفسهم نصراء للجيش الذي أضحى مؤسسة مهيضة الجناح.

استغل الاسلاميون كل تلك الثغرات، بفعالية، فنصّبوا من أنفسهم مدافعين عن الجيش؛ يسيِّرون المسيرات الهادرة في دعمه ونصرته. وكان غرضهم، الأول والأخير، هو استمالة الجيش نحوهم، كي يمتطوا ظهره من أجل الوصول إلى كرسي الحكم. وقد تحقق بالفعل ما خططوا له. فعلى الرغم من أن انقلابهم نفذته شرذمة تعد بالمئات تضم مدنيين، مستخدمةً سيارات نصف نقل؛ أي "بكاسي"، إلا أن الانقلاب نجح، ولم تنطلق رصاصة واحدة في مواجهته. فقد بلغ الانقسام المجتمعي حدًا جعل الجميع مهيئين للانقلاب على الديمقراطية، التي بان للجميع أنها باتت مجرد ملهاةٍ مملة. وعلينا أن نتأمل الانقسام المجتمعي الذي أحدثه الإخوان المسلمون في مصر وكيف مكّن للفريق عبد الفتاح السيسي أن يتولى زمام الأمور في البلاد. وهكذا، انتهت تلك الثورة العظيمة إلى قبول نصف المواطنين المصريين، بما فيهم من مثقفين وكتاب وفنانين، بأن يكون نتاج تلك الثورة العظيمة، نادرة الشبيه، مجرد نظامٍ عسكريٍّ جديد!

بوصول الإسلاميين إلى السلطة في السودان، أصبحت كل أدوات تعميق الانقسام المجتمعي الفعالة في أيديهم. وهكذا جاء مد التمكين العارم، الذي فرّغ كل مؤسسات الدولة من العاملين من غير الإسلامين، وأحل الإسلاميين ومناصريهم محلهم. ثم مكن الإسلاميون لأنفسهم في الجيش وفي الشرطة وفي الأمن وربطوا كل هذه المؤسسات بحبائل المصالح الشخصية. ولو نظرنا إلى منظومة أهل المصالح المالية الذين ارتبطت بالإسلاميين وببنوكهم وشركاتهم المالية، ومؤسساتهم الإعلامية، ومنظماتهم الخيرية، وسائر تنظيماتهم التي تجل عن الحصر، وما انفتح من آفاقٍ جديدةٍ للمصالح لكل هذه الفئات، إضافةً إلى تحويل كل القوات النظامية من جيشٍ وشرطةٍ وأمن، إلى فئاتٍ اجتماعيةٍ مميّزةٍ جدًا، وإلى منتفعين عضويين من وجود النظام، يمكنك أن تدرك مدى الانقسام المجتمعي الذي حدث في السودان. فهذا انقسامٌ غير مسبوق، وقد أبطل، حتى الآن، مفعولَ كلِّ فعلٍ مضادّ استهدف تغيير الأوضاع، ولسوف يظل الأمر كذلك، حتى حين.

لكن، هل يقف الانقسام عند هذا الحد؟ لا أظن. فرغم الإغداق المسرف على الجيش، وعلى الأمن، وعلى الشرطة، لم تهدأ مخاوف مركز السلطة على بقاء سلطته. أبعد النظام، أول ما أبعد، عراب الانقسام المجتمعي، وعقله المدبر، الدكتور حسن الترابي، فذهب ضحيةً لما صنعته يداه، وذهب معه ضحيةً أيضا، قبيله من مشايعيه الذين وقفوا إلى جانبه. وهؤلاء الآن غرقى إلى ذقونهم، يأملون العودة للحياة السياسية عن طريق التشبث بزبد بحر "الحوار الوطني"، وهيهات. ثم جاء، بعد ذلك، الدور على الجيش والأمن. فقد وضح للدائرة الداخلية الأصغر للنظام، أن كلاً من الجيش والأمن ليس موثوقًا فيهما تمامًا، وقد وجاء انقلابا ود إبراهيم وصلاح قوش ليؤكدا ذلك. ومن هذا الشق الكبير تسرب إلى واجهة المشهد محمد حمدان حميدتي وقوات الدعم السريع، ليصل الانقسام المجتمعي والتردي المؤسسي، إلى مداه الأقصى.
لا أشك أبدًا، أن النظام يدرك خطر حميدتي ومليشياته. فمتحالف اليوم، الذي يعمل من أجل المال وحده، يمكن أن يكون الطامع في السلطة غدا. ولابد أن الدائرة الداخلية المصغرة لنظام الفريق عمر البشير، تعد العدة الآن، لإبقاء طموحات حميدتي ومليشياته عند السقف المحدد لها، أو التخلص من هذه المليشيات، بطريقة ما، حين يحين الوقت، وحين تبين ملامح المنعطف المناسب. ولربما يكون الزج بهذه القوة الجديدة في المستنقع الليبي، أحد هذه الخيارات. وعموما، ليس بالضرورة، في كل مرّةٍ تسلم جرة نظام الانقاذ.

من يحلمون منا بالثورة ويستبطئون مقدمها، ويعجبون لتأخرها، عليهم أن يتأملوا مشهد الانقسامات المجتمعية القائمة، التي ظلت تتناسل على مدىً طويل، وآخرها وأعتاها، ما جرى في ربع القرن الأخير الذي سيطرت فيه الانقاذ على المشهد السياسي السوداني. عليهم، أيضًا، أن يتذكروا أن كل البرلمانات في فترات الديمقراطية، وفي فترات الحكم العسكري، سواءً بسواء، قد ظلت تأتي بنفس الوجوه. فبرلمان أزهري، وبرلمان المحجوب، وبرلمانات الصادق المهدي، ومجلس عبود المركزي، ومجلس شعب نميري، ومجلس البشير الوطني، ظلت، كلها، تأتي، إلى حدٍّ كبير، بنفس الوجوه الممثِلة للقوى القبلية، أو الطائفية، أو الحزبية، أو بخليطٍ منها، بناءً على التشابك العضوي لهذا النسيج المتداخل.

هناك منظومةٌ للمصالح تربط قطاعًا مجتمعيًا كبيرًا بالنظام القائم، بغض النظر عن صفته. لقد ظل التعاون بين منظومة المصالح والحكومة القائمة، أيًا كانت، مستمرًا منذ سلطنة الفونج، مرورًا بالحكم التركي المصري الخديوي، وبالاستعمار البريطاني. أما حاليًا، فعلينا أن نتأمل بعناية، حال السيد الصادق المهدي المنخرط بهمة مع قوى المعارضة في الخارج، في حين يعمل ابنه مساعدًا لرئيس الجمهورية من داخل القصر الرئاسي. وعلينا أن نتأمل أيضًا، مولانا السيد محمد عثمان الميرغني في منفاه الاختياري في لندن، وابنه الذي يعمل مساعدًا لرئيس الجمهورية (من منازلهم). وكما نعلم جميعا، فإن لهذين البيتين جماهير عريضة. ولذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: من يثور على من، يا ترى؟

إلى جانب التجار، وأصحاب الشركات والتراخيص التجارية، ورجال المؤسسة الدينية الرسمية، وبعض أهل الطرق الصوفية، وسائر من يعرفون كيف يحفظون مصالحهم مع كل نظام، فهناك أهل الفن وأهل الأدب وأهل الرياضة. فكل فنانٍ إنما يمثل، وفق سعة قاعدة معجبيه، قبيلةً بحالها، وكذلك أهل الرياضة. ظلت سلطة الانقاذ عبر مختلف مراحلها تخطب وُدَّ الفنانين، والرياضيين، ويجهد إعلامها نفسه في تلميعهم ووضعهم في أعين الجمهور، على مدار الساعة. لقد استخدمت السلطة عنصر الدين بذكاء شديد، فجعلت منه مظلةً يستظل بظلها كل صاحب مصلحة. لقد ربطت الانقاذ بعض كبار الفنانين بموجة التدين المظهري السائدة، وبغير ذلك من الذرائع. كما قادت جهود السلطة إلى خلق حالةٍ مستحكمةٍ من خلط أوراق اللعب كان لها تأثيرها على قطاع عريض من الشباب. فالشباب هم وقود كل ثورة، ولكنهم يمكن إلهاؤهم واستتباعهم بطرق غير مباشرة. وقد أثبت بعض الانقاذيين كفاءةً كبيرةً في هذا النشاط التدجيني للفن وللفنانين، حتى وصلوا مراتب الوزارة، لكنهم سرعان ما أُبعدوا، مثل غيرهم من بطاقات الانقاذ، التي يعرف مركز الانقاذ القابض، متى يستخدمها، وكيف يحرقها.

خلاصة القول، إن مشكلة السودان لا تنحصر في الإطار السياسي كما ظللنا نتوهم منذ فجر الاستقلال، وإنما هي مشكلة ذات بعد فكري، ثقافي، وأخلاقي. فلن يكون هناك تغيير ما دامت المعارضة تشبه الحكومة، والحكومة تشبه المعارضة. هذا عراكٌ بلا رؤية، يتمركز حول حماية المصالح الشخصية والأسرية، والجهوية. وقد ظل محتدمًا منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، ولم تكن للشعب فيه أي مصلحة. ولن يبلغ الشعب درجة أن يكون فاعلاً مؤثرًا في خدمة قضاياه الرئيسة، بغير ثورةٍ فكريةٍ وثورة ثقافية، تنتظمان النخب وتتنزلان لتصلا إلى القواعد. إن اخراج السودان من حفرته الحالية أمر لم يعد يصلح معه سلوك الطرق المطروقة.

هناك عللٌ بنيوية في التركيبة المجتمعية السودانية، لا يصلحها الحراك السياسي وحده. بل إن مثل هذا الحراك السياسي أُحادي البعد، يمكن أن يتسبب في فقدان البلاد كلها، عن طريق جرِّها، في نهاية المطاف، لتصبح مجرد كانتونات متشرذمة تسودها الفوضى. ولقد ذقنا الثمار المرة، لهذا المسار العقيم، الذي بدأ مع الاستقلال، متمثلا في انفصال الجنوب، بعد خمسة وخمسين عامًا من الاستقلال، أمضيناها في نزاع عقيم، وأهدرنا خلالها ما لا يقدر بثمن، من الدم والعرق والدموع والمال والوقت. وفي تقديري، أن مسلسل المفاوضات، المعقد والممل، الجاري اليوم، لا يملك أن يأتينا بغير الحصاد المر السابق، الذي تمثل في انفصال الجنوب، بل وبأسوأ منه. لقد سقطنا حكومةً ومعارضةً ونخبًا فكرية وسياسية في فخ القوى الإقليمية والدولية، وأحابيل مسلسل المفاوضات غير المنتجة التي استمرت لعقود، وتوشك البوصلة أن تضيع من أيدينا، إلى الأبد.


((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

سلام يا أبا جودة، و"منك طولنا طول"، جريًا على عبارة المغني، أحمد عمر الرباطابي، الذي قال:
يا ام جمالاً سلب العقول
البغنِّي عليها وأقول:
وين يا الرايق؟ منك طولنا طول!
أو كما قال.

المهم يا زول:
أمريكا "فائز فائزة" في كل الأحوال، كما استخلصت أنت مما كتبته أنا. فأمريكا قوى مختلفة يدور بينها صراع أشد من ذلك الذي يدور بين أمريكا الامبريالية وأرياف العالم، ولكنه صراع لا يزال كتيما. حملة بيرني ساندرز الأخيرة التي أوشكت أن تقسم الحزب الديمقراطي قالت الكثير. في هذه الحملة جرؤ، ولأول مرة، هذا الفريق من الديمقراطيين أن ينطق بكلمة "اشتراكية" في حملة انتخابية عامة. أمسك الارهاب الفكري وفوبيا الشيوعية اللتين أعلت شأنهما المكارثية في خمسينات القرن الماضي بتلابيب أمريكا. ولم ينكسر ذلك الارهاب الفكري إلا في حملة ساندرز الأخيرة هذي.

بالأمس شاهدت حلقة نظمتها "سي إن إن" في برنامجها الذي تعرض فيه لجمهور منتقى المرشحين للرئاسة، يُسمَّى Town Hall، استضافت فيها مرشحيْ حزب الخضر، ستين وبراكا، وكان لقاء منعشا أكد لي أن أمريكا لا تزال بخير "وحيجي منها".

هناك صراع لا يزال كتيما إلى حد كبير بين أمريكا المبصرة المهتمة بالكوكب بوصفه وحدة واحدة إذا مرض فيها عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وبين أمريكا الرأسمالية المتوحشة التي تضع نفسها "مصلحيا" في كفة، والعالم كله في كفة أخرى. اجتذاب المهاجرين تقوم به هذه المؤسسة القابضة باستراتيجييها ومراكز تفكيرها، وقضها وقضيضها، ومؤسستها البيروقراطية المقتدرة الباتعة. ففي جانب، هناك محاولة لتجديد شباب أمريكا باستنبات عيال المهاجرين القادمين من العالم القديم في هذا السياق الأمريكي المتراجع، لرفد الكيان الأمريكي بقيم الأسرة الممتدة التقليدية، التي جرفتها التجربة الرأسمالية. يمثل المهاجرون قوة للعمل، ودافعية للعمل وعزيمة كبيرة يملكونها بحكم ثقافاتهم لاتي وفدوا منها وبحكم أوضاعهم الانتقالية كقبيل استطاع أن يجترح مغامرة الهجرة. كما أن بيض المؤسسة القابضة ومعاونيهم، يريدون أن يغرقوا خطاياهم التاريخية التي جعلت من قطاع كبير من الملونين الأصليين، خطرًا ماحقًا على الأمن الاجتماعي، باستجلاب ملونين من نوعٍ آخر.

لا يعلم الحرس القديم الأمريكي، في تقديري، أنه بهذا الفعل إنما يحفرون قبر رأسماليتهم المتوحشة بأيديهم. فهؤلاء الوافدون الجدد سيكونون عضدًا للتيارات الجديدة، وليس للمؤسسة القديمة القابضة. فغالبية عيال هؤلاء المهاجرين الذي تعلموا في المدارس والجامعات الأمريكية، كما شاهدنا وخبرنا عن كثب، يساريون مدركين لمأزق المؤسسة القديمة. كما أنهم ايجابيون في ما يتعلق بالانخراط في الناشطية السياسية.

الشاهد يا صديقي، في ما أرى، أن أمريكا سوف تشهد أول ثورة حقيقية في التاريخ، تأتي حصرًا، عن طريق صندوق الاقتراع، وقد يحدث هذا على المدى القريب أو المتوسط. المهم أن منعطفا كبيرا يتشكل الآن. ستحدث هذه الثورة الهادئة عن طريق صندوق الاقتراع رغم حتميات مولانا كارل ماركس التي ابتلعها عثير الزمن. هذا هو حدسي الذي ربما يكون خاطئًا، ولربما أكون غارقا في "أحلام زلوط"، فأعذرني.

تستجلب أمريكا المهاجرين في قاعدة الهرم، كما تستجلبهم في قمة الهرم أيضا. فالسيليكون فالي في كاليفورنيا أصبحت تعج الآن بالهنود والصينيين، وغيرهم من صفوة شعوب الأرض التي أمسكت بأعنة التقنيات الرقمية. ولسوف تبقى أمريكا رأس حربة اقتصاد المعلومات لوقت طويل مقبل. أما سبب المقال "حكام يطردون وآخرون يوطنون" فغرضه الإشارة إلى الضحالة الانقاذية التي تطرد زبدة مجتمعها وتحل محلهم "جنجويدا" من الصحراء الكبرى، ولاجئين اقتصاديين أميين أو شبه أميين من دول الجوار. والهدف هو تجفيف كل منابع الثورة، وخلق جمهور سوداني، معادة صناعته من جديد، يكون على مقاس من يحكمون الآن، ليدوم لهم الحكم، وهيهات.
وهكذا كلامك جاب كلام، وهذا مجرد طرف منه.
مع المودة التي تعرف
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

من سيرة ما تسمى "المعارضة"

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

من سيرة ما تُسمى "المعارضة"
1 - 2


لا توجد في السودان، إلى اليوم، معارضة تستحق اسمها. ومن يحلمون بأن تقف المعارضة على رجليها فجأة، لتصبح عملاقًا يُعوَّل عليه في احداث التغيير، واستدامة حراكه، إنما هم واهمون. فالتغيير الجذري لا يأتي فجأةً، وإنما يُبنى لبنةً، لبنة، عبر ثورةٍ فكريةٍ حقيقية، تنخرط فيها النخب في عمليةٍ نقديةٍ شفافةٍ كبرى، تضع التاريخ السياسي السوداني على الطاولة، وتشبعه تشريحا. وكذلك، عبر ثورةٍ ثقافية تسير على خطى الثورة الفكرية، تعيد موازين القيم التي اختلت، من جديد، إلى حيث ينبغي. ولو أننا نظرنا إلى تاريخ العمل المعارض لدينا في السودان، لوجدنا أن المعارضة ترعرعت، منذ أن وُلدت، في ذات المهد الذي ترعرعت فيه الحكومات. فكلاهما، في حقيقة الأمر، من معدنٍ واحد. فهما شقِّان متشابهان من كيانٍ واحٍد يتبادلان الأدوار، وتمثل المصالح الخاصة المحور الرئيس لعراكهما. والأمثلة في هذا الباب، من التاريخ السياسي لحقبة ما بعد الاستقلال، كثيرةٌ جدا.

ظهرت أمراض العمل السياسي السوداني، أول ما ظهرت، مع شروق شمس الاستقلال مباشرة. فقد اتضح أن النواب المُنتخبين يمكن شراؤهم. فقد ظهر منهم قبيلٌ مستعدٌّ أن يصوِّتَ لمصلحةِ الحزبِ الآخر، نظير المال، إن اقتضى الحال. وفي تجلٍّ آخر، ذكر الراحل محمد خير البدوي، في كتابه القيّم "قطار العمر"، أن الصاغ صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة المصرية الناصرية، كان يهبط ومعه حقائب مليئة بالأوراق المالية في مطار وادي سيدنا، فيتجه نحو حي العرضة بأم درمان للعب القمار مع أصدقائه السودانيين، ثم ينصرف إلى مهمته التي أتى من أجلها، وهي شراء ذمم السياسيين السودانيين.

من الأمثلة الغريبة في لعبة الحكومة والمعارضة في السودان، ما جرى من السيدين إسماعيل الأزهري وعلي عبد الرحمن. كانت الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا، قبل انقلاب الفريق عبود في نوفمبر 1958، حكومةً ائتلافيةً مكونة من حزب الأمة، الذي يمثل الواجهة السياسية لطائفة الأنصار، وحزب الشعب الديمقراطي الذي يمثل الواجهة السياسية لطائفة الختمية. وكان الوطني الاتحادي، بزعامة إسماعيل الأزهري، يقف حينها في المعارضة. فرأت مصر الناصرية أن تجمع الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي في تحالفٍ تخرج به غريمها التقليدي، حزب الأمة، من دست الحكم. وترى مصر، بطبيعة الحال، أن هذا الإجراء سوف يسهِّل عليها خدمة مصالحها في السودان، بعد أن فشلت مساعيها في ابقاء السودان في قبضتها تحت خدعة وحدة وادي النيل. ولقد استغلت مصر في تلك المناورة السياسية القبيحة، قلِّة صبر الزعيم إسماعيل الأزهري على البقاء بعيدًا عن كرسي الحكم.

استدعى المصريون السيد إسماعيل الأزهري، زعيم الحزب الوطني الاتحادي، والسيد علي عبد الرحمن، زعيم حزب الشعب الديمقراطي، إلى القاهرة، لإتمام تلك الصفقة. ولكي يقدم السيد اسماعيل الأزهري للمصريين ما يغريهم كي يدعموه ليعود إلى دست الحكم، تسرَّب حينها أنه بادر، فاعترف للمصريين، وهو في القاهرة، باتفاقية 1929، التي سبق أن رفضتها حكومة السودان بسبب منحها السودان نصيبًا مجحفًا في مياه النيل. وقد كان السودان، غائبًا عن اتخاذ القرار، حين إبرام تلك الاتفاقية. فهو قد كان في قبضة الاستعمار. ومن ثمَّ، فقد جرى التقرير في مصير مياهه، نيابةً عنه، بواسطة السلطتين الاستعماريتين؛ البريطانية والمصرية.

أيضًا، أعلن السيد علي عبد الرحمن، في القاهرة، في نفس تلك الزيارة، أن حزبه (حرب الشعب الديمقراطي) يقف في المعارضة! ولكي ندرك مدى المفارقة وفداحتها، علينا أن نعرف أن السيد علي عبد الرحمن كان يشغل، حينها، منصب نائب رئيس الوزراء، ووزير الداخلية في حكومة السيدين الائتلافية، التي كانت لا تزال ممسكةً بمقاليد الحكم في الخرطوم. بل، وكان السيد علي عبد الرحمن حاملاً لمسمياتها الوظيفية. ومع ذلك، جرؤ السيد علي عبد الرحمن، رغم ذلك، على أن يقول للمصريين إن حزبه يقف في معارضة تلك الحكومة التي هو نائب رئيس وزرائها، ووزير داخليتها! فإلى هذا الحد وصلت اللا مسؤولية، والفجاجة، والعبث، لدى الآباء المؤسسين للدولة السودانية المستقلة.

ليس من الممكن، بطبيعة الحال، أن نسرد كامل سيرة المعارضة السودانية المتسمة بالفجاجة، واللا مبدئية. فهي كثيرة وقد ظلت فصولها تتابع منذ الاستقلال. لكننا، سوف نعرض منها لطرفٍ يسيرٍ، يفي بالغرض من كتابة هذه المقالة. ومن ذلك، نمط المعارضة الذي واجهت به ما سميت بـ "الجبهة الوطنية"، نظام الرئيس السوداني الأسبق، جعفر نميري.

تكونت الجبهة الوطنية من أحزاب الأمة، والاتحادي، والإسلاميين. وبدأت تلك الجبهة معارضتها لنظام جعفر نميري في الجزيرة أبا، حيث حشدت السلاح الذي تدفق من جهة إثيوبيا، وأشرف قياديو الإخوان المسلمين على تدريب الانصار الموجودين بها، (راجع إفادات القيادي الإخواني، مهدي إبراهيم في برنامج "مراجعات"). غير أن الإمام الهادي رفض، فجأةً، إدخال مزيد من السلاح وأبدى رغبةً في التفاهم مع جعفر نميري. لكن سلسلة من الأخطاء، وربما عدم ايصال رسالة من الإمام الهادي إلى نميري، والاساءات التي تعرض لها الوفد العسكري المفاوض بقيادة أبو الدهب، قادت، مجتمعةً، إلى المواجهة المسلحة في الجزيرة أبا، وخسران المعارضين معركتهم المسلحة الأولى مع نظام مايو، ومن ثم، خسران الإمام الهادي حياته في نهاية تداعيات تلك الحوادث المؤسفة.

ما يسم تجربة هذا التحالف المعارض لنميري، الذي بدأ في بداية السبعينات واستمر حتى المصالحة الوطنية في يوليو 1977، أنه كان واقعًا، في كل مراحله، في يد القوى الإقليمية. فقد هرع أهل الجبهة الوطنية، منذ الوهلة الأولى، إلى النظامين، الملكي السعودي، والإمبراطوري الإثيوبي، بدعوى خطر نظام نميري، شيوعي التوجه، على استقرار المنطقة. لكن ما لبث أن انقلب نميري على الشيوعيين، عقب انقلاب الرائد هاشم العطا، في يوليو 1971. وقد جرى ذلك بعد عامٍ وبضعة شهور من أحداث الجزيرة أبا.

تحولت السعودية من كارهةٍ لنظام نميري إلى داعمةٍ له. كما دخل نظام الامبراطور هيلاسلاسي في أزمات حكمٍ طاحنة في سنواته الأخيرة، انتهت بإطاحته في عام 1974. بذلك فقدت المعارضة السودانية لنظام جعفر نميري، الدعم السعودي والدعم الإثيوبي معًا، فطفقت تبحث عن حليفٍ خارجيٍ جديد. (راجع وقائع حوادث الجزيرة أبا وملابساتها، وقصة لجوء المعارضة السودانية إلى الملك فيصل والامبراطور هيلاسلاسي في إفادات القيادي الإخواني، أحمد عبد الرحمن، التي نشرتها صحيفة "الانتباهة"، في يوم الأربعاء، 19 مارس 2014 م – حوار أمينة الفضل. وراجع أيضًا، إفادات قيادي حزب الأمة، عبد الرسول النور لصحيفة "الصيحة"، في 6/4/2015).

من أكبر محطات العمل المعارض لهذا التحالف، ما سمي عام 1976، بالغزو الليبي. فقد انتقل العمل المعارض، عقب فشل تمرد الجزيرة أبا، من الدعم السعودي والإثيوبي إلى الدعم الليبي. أنشأ العقيد القذافي المعسكرات في الصحراء الليبية، لما سمي بـ "الجبهة الوطنية"، ومدها بالسلاح، والمال. وجرى، بعد فترةٍ قصيرةٍ من الحشد والتدريب ما سُمِّي في السودان بـ "الغزو الليبي". فشلت تلك المحاولة لانتزاع الحكم من جعفر نميري بسبب تآمر بعض أطراف هذا الحلف، على بعضها، وتبييت بعض أطرافها؛ السياسية والعسكرية، نية الغدر بالأطراف الأخرى، كما ورد في شهادات صانعي تلك الأحداث. وقد سرد قياديو الإخوان المسلمين بتفصيلٍ وقائع التهميش الذي حاق بهم في مجريات تلك المحاولة. فالجبهة الوطنية التي بدت للناس متحدة، كانت تحفل، في حقيقة أمرها، بتناقضاتٍ داخليةٍ حادة. وقد وصف القيادي الإخواني، أحمد عبد الرحمن حال أهلها، الذين لا ينفكون يتآمرون على بعضهم، بأن: "بأسهم بينهم شديد".

جاءت المصالحة الوطنية بعد سنةٍ واحدة من فشل الغزو الليبي. باع الإخوان المسلمون، في رمش العين، حلفاء الأمس في "الجبهة الوطنية"، وانخرطوا، بمفردهم، في العمل لتقويض نظام مايو، من داخل بنيته. ولقد تمثّلت بداية نهاية نظام نميري في إصداره، تحت تأثير الترابي، الذي أصبح نائبًا عامًا، قوانين سبتمبر 1983، ومن ثم مبايعته له، إمامًا للمسلمين. وقد قرّظ القيادي الإخواني الراحل، يس عمر الإمام، الذي كان وقتها رئيسًا لتحرير صحيفة الأيام، تلك البيعة، أيما تقريظ، فألحقها ببيعة الأصحاب للرسول صلى الله عليه وسلم، (صحيفة الأيام 24/8/1984). وانتهى الأمر بالسيد الصادق المهدي، الذي أصبح في بداية المصالحة الوطنية، مجرد مبعوثٍ للرئيس نميري، إلى سجينٍ في كوبر، من سبتمبر 1983، حتى ديسمبر 1984، بسبب خطبة في صلاة عيد الأضحى، ألقاها في معارضة قوانين سبتمبر.

أفضى تربص قوى المعارضة ببعضها، في حقبة الديموقراطية الثالثة، إلى تسلم الإسلاميين، في يونيو 1989، السلطة بمفردهم. وهكذا أصبح طرفٌ من أطراف "الجبهة الوطنية"، حاكمًا مطلقًا، عن طريق الانقلاب العسكري، وأصبح الطرفان الآخران "الأمة" و"الاتحادي" في "المعارضة"، وإلى الحالة القائمة اليوم، من الانهاك السياسي، وضياع البوصلة. وقد أصبح من العسير جدًا أن نصفهما بأنهما طرفٌ في الحكم، أو طرفٌ في المعارضة.

في عام 1996 تسلل السيد الصادق المهدي، بحكم موقعه كمعارضٍ للإسلامين، إلى إرتيريا، في ما سُمِّي بعملية "تهتدون. وقال القيادي في حزب الأمة عبد الرسول النور، إن حزب الأمة رأى أن يخرج السيد الصادق المهدي من السودان، حتى لا يستخدمه النظام رهينةً. وأضاف، أن الهدف الآخر من خروجه، هو أن "يلجم ناس التجمع في الخارج"، حتى لا يقوموا بحركة غير محسوبة، وكذلك، لتأسيس جيش الأمة بالخارج، ولإعادة الحلفاء الإقليميين والدوليين للحزب. (موقع النيلين، 17/5/2015، على الرابط: goo.gl/qeJLWr).

لكن، في واحٍد من منعطفات التراشق الكلامي الحادة، بين الاتحاديين وحزب الأمة، قال القيادي الاتحادي، علي السيد إن خروج الصادق المهدي إلى أسمرا كان بترتيب من نظام الإسلاميين الحاكم، نفسه، ولم يكن تسللا كما أشيع عنه. (الراكوبة 11/3/2013، على الرابط: goo.gl/xOE0v). خلاصة الأمر، أن السيد الصادق المهدي لم ينجح في أيٍّ من مهامه التي قيل أنه خرج لينجزها. فهو لم ينجح في تأسيس جيش الأمة، كما لم ينجح في لجم المعارضة وفقًا لمنظوره. بل انتهت المعارضة المنطلقة من أسمرا، هذه المرة، في نهاية تداعياتها، إلى موت ما سُمي وقتها بـ "التجمع الوطني"، وولادة مسلسل مشاكوس/نيفاشا، ومن ثم، بروز الشراكة الثنائية الحصرية، بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني. وهي شراكةٌ، كما نعلم جميعا، انتهت، بعد ست سنواتٍ من التدابر الممض، بمأساة فصل جنوب السودان عن بقية القطر. وهذا ما سنعرض له من سيرة ما يسمى بـ "المعارضة" في الجزء الثاني من هذا المقال.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

الجزء الثاني من مقال "ما تسمى بالمعارضة"

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

من سيرة ما يُسمى "المعارضة"
2 - 2


لقد تميزت مسيرة الثورات الشعبية في السودان بالسلمية. فثورة أكتوبر 1964، وثورة أبريل، 1985، كانتا ثورتين بيضاوين. غير أن البنية التي انتجت تلكما الثورتين تغيّرت جذريًا عبر العقود الثلاثة الماضية. ويستلزم هذا التغيير الجذري تفكيرًا جديدا. غير أن المعارضة الحزبية السودانية للأنظمة العسكرية الشمولية ظلت تراهن على ذلك الميراث من الثورات السلمية، ظانّةً أنه سيبقى كما هو، يد الدهر. بقيت المعارضة على تصورها الخاطئ بأن الثورات السلمية، تنجح، في كل مرة. وفات عليها أن الوعي الذي أسقط الحكومات العسكرية، من قبل، لم يكن وعيًا راسخًا. فهذه الجماهير التي أسقطت الأنظمة العسكرية مرتين، هي نفسها الجماهير التي هللت لمجيء العسكر ثلاث مرات، بما في ذلك مجيء نظام الانقاذ الحالي. وكلنا يذكر ميثاق الدفاع عن الديمقراطية الذي وقعته الأحزاب في مدينة ود مدني في فترة الديمقراطية الثالثة، وكيف أن هذا الميثاق الهلامي، سقط عند أول امتحان له، حين جاء انقلاب الإسلامين. فبين ما نسميه المعارضة، والأنظمة العسكرية صلةُ رحمٍ، وخيوط اتصال لا تنقطع. والشعب ظل مطيّةً للعساكر وللمعارضة معًا، وقد وعى الشعب هذا الدرس، أو كاد.

في المصالحة الوطنية التي أطلقها نظام نميري، عام 1977، أدار الإخوان المسلمون ظهرهم لأهل الحزبين الكبيرين الذين كانوا متحالفين معهم في ليبيا، ونفذوا معهم محاولة قلب نظام نميري بالقوة في عام 1976. فقد وعى الإسلاميون الدرس عندما جرى تهميشهم في مرحلة تنفيذ تلك المحاولة المدعومة من ليبيا. لذلك، اختار الإخوان المسلمون أن ينخرطوا، بكل قوتهم، بقيادة الدكتور حسن الترابي، في بنية نظام نميري، مفعلين أجندتهم من داخله. وبقي السيد الصادق المهدي، والسيد محمد عثمان الميرغني خارج الحلبة، حتى انتفاضة أبريل. ولم يكن نميري محتاجًا لأكثر من حليفٍ من قوى المعارضة، وقد وجد ذلك الحليف في الترابي وقبيله، فاستغنى عن البقية. وحين جاءت انتفاضة أبريل، مال السيد الصادق المهدي إلى معسكر الترابي، وأسهم معه في اجهاض شعاراتها.

كما أشرت في المقالة السابقة، أن السيدين الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني فشلا في خلق أي قوةٍ عسكريةٍ ذات شأن في إرتيريا، واكتفيا، بأن راهنا، في سذاجةٍ سياسيةٍ بالغة، على بندقية قرنق. غير أن قرنق كان أذكى من أن ينخدع، بمناورات السياسيين الشماليين. فهو مُلمٌّ بمسلسل نقضِ العهودِ المستمر، الذي مارسه السياسيون الشماليون على إخوانهم الجنوبيين. وهو مسلسلٌ وثّقه الكُتّاب الجنوبيون السابقون له، بصورة مستفيضة، (راجع كتاب أبيل ألير: "جنوب السودان: التمادي في نقض المواثيق والعهود"). وقد رأى قرنق نقض العهود بنفسه في حقبة الديمقراطية الثالثة. فبعد أن جرى توقيع اتفاق الميرغني/قرنق، وأوشك أن يعيد قرنق إلى العمل المدني من الداخل، قام السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء، حينها، بإجهاضه، بسبب تغليبه الكسب السياسي الضيق، على الكسب القومي الواسع. فالخير، في ما يبدو، إما أن يأتي على يديه، أو لا يأتي أبدا.

أما قوات التحالف التي أسسها العميد عبد العزيز خالد، وقد كانت قلية العدد، وغير مؤثرة، فقد دخلت في دوامةٍ من التناقضات الداخلية، والتجاوزات الرهيبة مع المنخرطين فيها، أنفسهم. وانتهى أمرها تمامًا، في نهاية المطاف. فعاد قائدها إلى الخرطوم، في ما يشبه المسرحية، لينشئ حزبًا ديكوريًا برعاية المؤتمر الوطني. وانتهى العراك العسكري في الشرق، عبر وساطةٍ إرتيرية، بكلٍّ من موسى محمد أحمد، وآمنة ضرار، ومبروك مبارك سليم، ليصبحوا جزءًا لا يتجزأ من بنية نظام الانقاذ، ومنظومة توازناته المتذبذبة التي دائمًا ما تنتهي بالمعارضين إلى الرفوف، أو ما يشبهها. وحدث مثل ذلك مع العديد من الفصائل الدارفورية، ولا يزال يحدث كل صبحٍ جديد.

كان قرنق موقنًا من أن السياسيين الشماليين سوف يقلبون له ظهر المجن، إن هو أوصلهم ببندقيته إلى الحكم في الخرطوم. ولذلك، استغل قرنق فترة وجود المعارضة الشمالية معه في الخارج، لخدمة أجندته الجنوبية، بمنأى عن أجندة القطر. وقّع قرنق مع قوى المعارضة الشمالية عددًا من الاتفاقيات، وافقت فيها قوى المعارضة على تقرير المصير، (راجع: سلمان محمد أحمد سلمان، "انفصال جنوب السودان: مسؤولية القوى السياسية الشمالية"، (الصفحات من 317 إلى 387). وعمومًا، انتهى مسلسل المناورات السياسية بين قرنق والأحزاب الشمالية المعارضة لنظام الانقاذ، من جهة، وبينه وبين نظام الإنقاذ، من الجهة أخرى، عبر مسار شائكٍ معقد، ومتعرج، إلى محصلةٍ عمليةٍ، نهائيةٍ، واحدةٍ، مدمرة، هي انفصال الجنوب.

لاحت لقرنق فرصة المشاركة في الحكم مع المؤتمر الوطني لمدة ست سنوات، يعقبها استفتاءٌ مرعيٌّ دوليًا، على انفصال الجنوب، فأدار ظهره نهائيًا لما سمي بالتحالف الوطني. تحول قرنق، إلى شراكةٍ سياسيةٍ ثنائيةٍ حصريةٍ مع نظام الانقاذ. وهكذا وجدت المعارضة الشمالية، نفسها في العراء، فطفقت تستجدي الشريكين قرنق والحكومة، الشراكة الموسعة. ولمّا لم يكن للمعارضة من الشوكة ما تضغط به، فقد بقيت تؤذن في مالطا. فبندقية قرنق أصبحت إلى جانب بندقية الانقاذ، وبقيت المعارضة بلا بندقية، بل انخرط قسمٌ معتبرٌ من هذه المعارضة الزئبقية في أحبولة ما سُمِّي "أحزاب الوحدة الوطنية".

كما تقدم، وجدت الإنقاذ بقبولها الشراكة الانتقالية مع قرنق، اعترافًا دوليًا، ضمن لها سلامتها، لست سنواتٍ مقبلةٍ، على الأقل. وقد كانت الانقاذ في أمس الحاجة إلى تلك السنوات من السلم، لتعيد ترتيب أمورها، خاصة وأن جبهة دارفور كانت قد اشتعلت، وقتها. كما كانت الانقاذ في فورة طفرتها النفطية، قصيرة الأجل، فأسكرتها الأماني الخُلّب، وعميت عن رؤية ما يختبئ لها وراء المنعطف من انهياراتٍ محتملة. وقد قال قرنق للبشير مازحًا، عقب توقيع اتفاق الشراكة: "لقد منحناكم ست سنوات جديدة في الحكم"، وكان قرنق يعرف حقيقة ما تضمنته تلك المزحة الحامضة.

بقيت المعارضة، طيلة الفترة الانتقالية، تهفو إلى الشراكة في الحكم، وتفكيك نظام الانقاذ، رغم أنها لم تكن تملك في يدها أي ورقة للضغط، سوى انتفاضةٍ شعبيةٍ متخيَّلةٍ، لم تكن تملك أزرار إطلاقها. شقّقت الانقاذ في تلك الفترة، جسد حزب الأمة، وجرّت شظاياه العديدة إلى شراكاتٍ سياسيةٍ معها، انتهت بوضعهم، جميعًا، على الرف. وانطبق نفس الشيء على فصيل الهندي من الاتحاديين. ولا غرابة، أن بقيت المعارضة الشمالية، في الفترة الانتقالية (2005-2011)، جالسةً في مقاعد المتفرجين، تنعي على الحكومة تغولها على الحريات، وعدم جديتها في جعل خيار الوحدة جاذبًا. هذا، في حين طفقت صحيفة "الانتباهة"، التي استُولدت عملاقةً، تسمم الأجواء بكيل الإساءات للجنوبيين، والتغني بمحاسن الانفصال، إلى أن انفصل الجنوب، ووقعت الفأس، أخيرًا، في الرأس.

فككت الانقاذ كل البنى والهياكل والقوى التي كانت، في الماضي، تجعل قيام ثورةٍ شعبيةٍ ناجحةٍ، أمرًا ممكنا. ولو حدثت ثورةٌ شعبيةٌ، تمكنت فعلاً من اسقاط نظام الانقاذ، وهو احتمالٌ ضعيفٌ جدًا، فإن مقاليد الأمور لن تصبح تلقائيًا في يد الشعب. فالاعتقاد بأن الشعب قبيلٌ واحدٌ وكتلةٌ صماءُ متجانسةٌ، تعرف ما تريد، اعتقادٌ تنقصه المعرفة بتركيبة المجتمعات، خاصة المجتمع السوداني، في هذا المنعطف التاريخي الحرج. يقول تاريخنا القريب، إن ثورتي أكتوبر 1964، وأبريل 1985 لم تنجزا ما قامتا لأجله. ومؤخرًا، أعطت مصر مثالا لهذا النوع من الثورات الشعبية المُجهضة. أسقطت الثورة المصرية، نظام مبارك رغم جبروته وتغلغله في البنى السياسية والاجتماعية المصرية. غير أنها انتهت، في نهاية تداعياتها، عبر انقسامٍ رأسي في المجتمع المصري، إلى تسليم الأمور، من جديدٍ، إلى يد جنرالٍ أقل قدرة وحنكة من سابقه.

إن أقرب الاحتمالات، في حالة حدوث ثورةٍ شعبيةٍ في السودان، الآن، هو أن تنزلق البلاد، من جميع أطرافها، في دوامة عنفٍ دائريةٍ، متعددةِ المحاور، وبلا وجهة. وكما شهدنا، فلقد بدأت الثورة السورية بصورةٍ سلمية، وقد وقف وراءها دفقٌ جماهيريٌّ كبير، انتظم سائر المدن السورية. غير أن تلك الثورة سرعان ما جرى تحويلها، بعملٍ ممنهج، أستخدم النظام السوري فيه عنفًا فالتًا، عن كل قيد، إلى حربٍ أهليةٍ، ثم إلى فوضى شاملة، يقتل فيها الثوار بعضهم، بلا رحمة. فالتحدي ليس هو اسقاط النظام، وحسب، وإنما هو تثبيت الأحوال عقب سقوطه.

للحكومة السودانية الآن ميليشياتها المسلحة المتمثلة في "قوات الدعم السريع"، التي استبدلت بها الجيش الوطني. بل إن الجيش الوطني، وقوات الشرطة، وجهاز الأمن جرى تسيسيها تمامًا، وأضحت ذات مصلحةٍ حقيقيةٍ في بقاءِ النظام. والحديث عن جيشٍ وطني، بعد ما يقارب الثلاثين عامًا من عبث الانقاذ به، هو في تقديري، مجرد توهُّمٍ، يدخل في نطاق التفكير الرغبوي. يضاف إلى ذلك، أن جهاز الأمن تحوّل، على يد هذا النظام، إلى قوةٍ مقاتلةٍ، على النسق الإيراني. كما ينبغي ألا ننسى طلاب المؤتمر الوطني المسلحين، المغرّر بهم، بإغراءات الوظائف وغيرها من منظومة المصالح الشخصية، التي طالما أتقنت الإنقاذ استخدامها. كل ذلك، يجعل انزلاق البلاد في صراعٍ مسلحٍ متعدد المحاور أمرًا حتميا.

كان موت طالبين، أو يزيد قيلا، كافيًا في أكتوبر 1964 لأسقاط حكومة الفريق عبود. وسقط نظام نميري في 1985، من غير أن يموت أحد. لكن، لم يفلح موت المئات من الشباب، في سبتمبر 2013، في إحداث ثورة. فلقد تغيرت الخارطة السياسية، وتغيرت بنيات الوعي السياسي، وتهدمت كل البنى القديمة التي منحت الشعب، في مضى سلاحا ماضيا، هو الاضطراب السياسي. كما ولّى، في ما أحسب، زمان تعاطف الجيش الوطني مع الثوار. فقد جرى اجتثاث كل تلك العناصر المؤثرة من جذورها. كما حدثت في البلاد انقسامات مجتمعية؛ أفقية ورأسية، جعلت الحراك الموحد المنتج حقيقةً، أمرًا غايةً في الصعوبة.

من الجانب الآخر، هناك الحركات المسلحة وميليشياتها في دارفور وكردفان والنيل الأزرق وتخوم الجنوب. وهناك سلاح الشرق، وقبائل الغرب التي أضحت تعادل الجيوش النظامية في تسليحها. وأخطر من كل ذلك، هناك الدواعش الذين أصبح لهم موطئ قدمٍ في ليبيا، وانتشارٌ عبر الصحراء الكبرى وحواشيها. كما أنّ لهم خلايا "صاحية" داخل السودان نفسه. فزعماء الدواعش، الآن، جزءٌ من المؤسسة الدينية الإنقاذية الرسمية. وهم يعلنون عن توجههم هذا بلا مواربة، ومن غير خشية. ويمكن للدواعش أن يزحفوا على السودان، من الخارج، ومن الداخل، لحظة انفراط عقد حكومته المركزية وحدوث فراغٍ سياسي فيه.

أيضًا هناك القوى العربية، المقتدرة ماليًا، المرتبطة بحراك الإسلاميين المعولم. وهؤلاء ضالعون مع الدواعش من طرف خفي، مما لا يحتاج إلى شواهد، إذ تقدم أحوال سوريا والعراق مثالاً حيًّا له. يمكن لهذه القوى أن تخلق حلفًا بين النظام السوداني وبين الدواعش، في اللحظات الحرجة، من أجل إبقاء السودان موطئ قدمٍ، ومعملٍ مفتوحٍ لمشروع الإسلاميين الدولي، الأخطبوطي، متعدد الأذرع، طويل النَّفَس. وما قامت به إيران، عسكريًا وسياسيًا، في دعم النظام السوري ضد الثوار، يمكن أن تقوم به بعض القوى العربية الإسلامية، في إبقاء النظام السوداني في سدة الحكم.

تشير كل الشواهد إلى أن الحكومة السودانية الحالية قد أضحت بلا أجندة وطنية. فهي قد قضت على كل القوى السودانية الحية، وحاربت كل صنوف المعارضة لها، بجهالةٍ شديدة. قضت الانقاذ، بعملٍ ممنهج، على كل ما يمكن أن يجعل أيَّ دولةٍ كيانًا متماسكًا، قضاءً مبرما. وهكذا، حكمت الانقاذ على نفسها، بنفسها، بعزلةٍ مهلكة، فأصبحت غريبة على شعبها. وهكذا، عرفت، بعد فوات الأوان، أن مصيرًا أسودًا ينتظرها، فلم تجد أمامها، سوى أن تصبح مطيةً للقوى الإقليمية.

قضت الانقاذ على المعارضة الحزبية، وقضت على المؤتمر الشعبي. ثم ما لبثت أن قضت على الإسلاميين الذين أقصوا معها الترابي. أصبحت الانقاذ الآن نظام أفرادٍ مكشوفٍ فاقدٍ للسند الداخلي المستدام. فهي لا تملك الآن سوى سلاح مليشياتها وأجهزتها الأمنية. كما أنها أضحت، في نفس الوقت، خاويةَ الوفاض من المال الذي يكفل لها حتى تصريف الشؤون اليومية للدولة. ولذلك لم تجد سوى أن تعرض خدماتها على القوى الإقليمية، في انبطاحٍ مهينٍ، وتخلٍ عن الأجندة الوطنية، منعدمِ الشبيه.

ليس من أهداف هذا المقال التخويف من اسقاط نظام الانقاذ. فنظام الانقاذ لا يملك إلا أن يسقط، بحكم تفاقم وطأة ثقله الذاتي، الذي لم يعد في وسع بنيته، التي تكاثرت فيها الشقوق، احتمال المزيد. الحديث هنا، تحديدًا، عن ضرورة العمل وفق رؤىً جديدة، ومناهجَ جديدة، في تثبيت الدولة عقب سقوطه، أو اضمحلال قواه الممسكة بنية الدولة. وليس هذا، في نظري، بالأمر الهيِّن، الذي يأتي عن طريق الأمنيات وحدها.

كتب وجدي كامل، في صحيفة الخرطوم، قبل سنواتٍ، منبِّهًا إلى ضرورة أن تتعارض الرافعة الثقافية للوعي المعارض، نقديًا، مع محصلة ما راكمه التاريخ الرسمي والمدرسي. إذ بغير ذلك، لا يمكن بناء وعيٍ سياسيٍّ نافذٍ، يستحق أن يسمى وعيًا معارضًا. فالبنية الوعيوية للقوى التي تبادلت مقاعد الحكم ومقاعد المعارضة، عبر تاريخنا السياسي هي، في حقيقة أمرها، بنيةٌ واحدة. فهي لا تناقض بعضها بسب الرؤية، وإنما بتفاعلات الصراع على المصالح الجهوية الآنية.

يوجد خارج السودان الآن ما يقارب السبعة ملايين سوداني. من بين هؤلاء كوادر عالية التأهيل والقدرات في كل المجالات التي تحتاجها الدولة. وأهم من ذلك فإن من بينهم طاقاتٌ شبابيةٌ جبارة. وتوجد كتلة شبابية مدركة وحية داخل السودان أيضا. ولقد اتسع نطاق المعارضة المدركة داخل السودان، حتى أصبح كثيرٌ من الإسلاميين جزءًا منها، رغم أن بعضهم لا زال يناور، ويتخذ المعارضة رافعةً لكي يعود إلى السلطة. هناك مجالٌ للعمل في بناء وعي جديد، وتأسيس تقاليد سياسية جديدة، لتتشكل كتلةٌ جديدة، وفق وعيٍ متحرّرٍ من عقابيل الانتماءات الحزبية الضيقة الماضية، ومن بقايا المرارات التي تعمي عن الرؤية الجلية.

هذه الكتلة الجديدة هي ما يُنتظر له أن ينمو، ويصبح له ثقلٌ ضاغط. غير أن ذلك لن يتحقق بين يومٍ وليلة. هذه الكتلة الجديدة تتشكل الآن تحت السطح، ولكنها تحتاج عملاً تنظيميًا ممنهجًا، يجعلها فاعلة في الخارج ومرتبطة عضويًا بكل الحراك الآني العريض الجاري في الداخل. بالعمل الممنهج في التشبيك، تتخلق الكتلة الحرجة التي تقلب كفة الميزان، وتعيد النظام الديمقراطي سلميًا، وتصبح، من ثم، الحارسة له، باقتدار. ولعل الجهود الجارية الآن لإنشاء قناة سودانية تبث من الخارج تمثل امتحانًا حقيقيًا لقدرتنا في خلق هذه الكتلة. وهي، أيضًا، امتحانٌ لقدرتنا على أن نعمل متحدين. ومن علل ثقافتنا المزمنة، أننا لا نعرف كيف نعمل كفريق، ولا نعرف كيف نقدم التنازلات لبعضنا من أجل انجاح الهدف الأعلى قيمة. وعمومًا، لن يكون بث الوعي الجديد ممكنًا، بغير ذراعٌ إعلامية فضائية تلفزيونية.

وجود كتلةٍ تأسيسية متماسكة ليست سوى وضعٍ مرحلي، ولكنه، وضعٌ مرحليٌّ لا يمكن القفز فوقه. فبعد أن تُستعاد الدولة المسروقة منذ الاستقلال، عن طريق كتلةٍ ضاغطة، متماسكة، وبعد أن تستقر الأمور، تشرع الأحزاب، حينها، في التنافس الديمقراطي النظيف. السودان بحاجة إلى مرحلة انتقالية طويلة، عبرها تعود الأمور إلى نصابها. هذا، إن نجحنا في أن نوحد هدفنا المرحلي وجهودنا، وتمكنا، من استعادة دولتنا المسروقة، واستعادة حكم القانون فيها. وكل من يدعو إلى فترة انتقالية قصيرة فهو مغرضٌ، منشغلٌ بمجرد الوصول إلى كرسي السلطة. كما أننا لو بقينا نتربص ببعضنا، ونتآمر على بعضنا، ونزكي أنفسنا على بعضنا، وندعي الفرادة عمّن سوانا، كما ظللنا نمارس منذ الاستقلال، فعلينا أن ننسى بلادًا اسمها السودان، والى الأبد.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

الدكتور النّور حمد.. سلام واحترام
تابعت المقالة (من سيرة ما تُسمى "المعارضة").. واتفق مع رؤيتها الواضحة الفصيحة.. وإن كان ثمة تعليق مني عليها لن يكون إلا محاولة لشرح كيفية فهمي لها؛ من ثم، كيف اتفقتُ مع رؤيتها.
وبادئ ذي بدء، يصعب على المرء الاقتناع بالتّسويغ الذي تقدمه المعارضة بشأن الثورة المندلعة على طريقة الستينيات والثمانينيات، لذلك فإن أوّل ما يدل على فصاحة مقالتّك هو تشخيصها الموفّق للتغيير المركب الذي طرأ على المشهد السّياسي، في الأعوام الخمسين التّي تصرَّمت، منذ مأثرة ثورة أكتوبر، وفي الأعوام الثلاثين، التّي تلت مأثرة الشعب السّوداني في أبريل.. والشاهد أن للتغيير السّياسي الأخير جذره المتصل بسياسات النّظام الاقتصادي الجديد، وما تبعه من خوصصة للمشاريع العامة، من قبيل النقل والمستشفيات والمدارس والجامعات والموانئ البحرية والسكك الحديد وشركات الطّيران الوطنية، وما سوى ذلك من مرافق إنتاجية وخدمية عامة، كان من وراء خوصصتها هذه المصيبة المسماة صندوق النّقد الدولي (IMF)؛ فقضت هذه الخوصصة على أي لحمة يمكن أن تنشأ بين القطاعات العمالية في البلاد؛ ففي السّنوات من عقد الثمانينيات، وما قبل ذلك، كانت الحكومة هي أكبر مخدِّم، مما أتاح تكوين النّقابات الواعية بدورها العام وحقوقها الخاصة، سواء كانت حقوقًا سياسية أو غير ذلك، وسبق لشعبنا أن نال ثمار وعيها عبر الاضرابات والاعتصامات المدنية، قبل ثلاثين سنة، أما في ظل هذه الخوصصة، فإن الحكومة ليست هي المخدِّم، بل ليست لديها وظائف لغير (ناس حميدتي)، وبالتّالي، لا توجد مثل هذه الأجسام النّقابية الواعية والفاعلة والمنحازة للقضايا العامة، ولا مجال لها في عمل الاضرابات إن وجدت، إذ لا مصلحة لعمال شركة دال، مثلًا وليس حصرًا، في تنفيذ اضراب ضد سياسات الحكومة، ولا تسمح لهم علاقة العمل بذلك، وبالتّالي، لا يمكن تعبئتهم بالطّريقة القديمة التّي تتوسلها المعارضة حاليًا، (لا أدري أيهما أوفق، قولي "تتوسلها" أم "تنتظرها").. ففي آخر انتفاضة، كانت معادلة نجاح الثورة تعمل كالآتي: شرارة يوقدها الطّلاب في الشارع، وهذه بمثابة التّرس الأول، لا يتحرك هذا التّرس سوى عدة أيّام حتى يحرك ترس النّقابات والاتحاد ويبدأ في تنفيذ اضرابه وعصيانه السياسي المدني، ولا يدور هذا التّرس إلا قليلًا حتى يأتي الجيش والأحزاب... إلخ. والشاهد الآن، أن الطّلاب خرجوا عدة مرات إلى الشوارع، ولعدة أيام، وقدموا مئات الشهداء، فماذا حدث؟ لا شيء، ولم يناصرهم أحد، لأن التّرس الثاني غير موجود، وذلك لاعتبارات الخوصصة التي سقتها. والأمر كهذا، لا أجد ما يمنعني من القول إن رموز المعارضة اصبحوا، هم أنفسهم، ضمن النخبة السياسية المستفيدة (أقلية أوليغاركية). لذلك فإن كل تنبؤات من المعارضة باندلاع ثورة على الطّراز القديم، هو الهذر عينه، ولا يشط المرء أبدًا إذا قال إن عفطة العنزة أقيم من هذا الهذر!
صحيح تمامًا قولك: "وكل من يدعو إلى فترة انتقالية قصيرة فهو مغرضٌ، منشغلٌ بمجرد الوصول إلى كرسي السلطة..." لأن ثمة انتقال طويل، كطريق المتنبئ وهو يسأل بنجد، ينتظر المعارضة لتفكيك مفعول الانقاذ الضار: انتقال للاقتصاد، وانتقال للأوضاع الأمنية، وانتقال للعلاقات الخارجية، الإقليمية منها والدولية، وانتقال في العلاقات الاجتماعية، وانتقال في الإعلام والصحافة، وانتقال للبنى التّحتية المنهارة، وانتقال لمعاش النّاس اليومي...إلخ! وليس هذا مما تنجزه الفترة الانتقالية على طريقة سر الختم الخليفة والجزولي دفع الله.
شكرًا على المقالة الرائعة
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

شكرا يا يوسف على هذا التعليق المبصر
ولابد لي من العودة للاستطراد حول ما ذهبت إليه، فهو شديد الأهمية
مع عالي التقدير
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عزيزي النور،

لقد اِغتبطتُ حين رأيت – أخيراً – مقالاتك الصحفية الراتبة وهي تطلُّ علينا عبر "منبر الحوار الديموقراطي". وستتضاعف غبطتي إن رأيت هذا الخيط يتَّسع – أو يُحَوَّرُ – ليضمَّ مقالاتك الراتبة الأخرى – إن كنت ما تزال تواصل كتابتها – في صحيفة "العربي الجديد". إن هذه المقالات، عزيزي النور، تتَّسم، فيما تتَّسم، ببصيرة نافذة، بحمولة معرفية، بدقة منهجية، وبنضارة أسلوبية.

وكما تعلم، فقد سبق لي أن عبَّرت لك عن حماسي لهذه المقالات أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة.

على أنني أقرُّ أيضاً بأنني قد فوجئت بجُملة وردت في الجزء الأوَّل من مقالتك <من سيرة ما تُسمى "المعارضة"> بدت لي كـ"نشاز معرفي" جاء خصماً على التماسك الذي وَسَم المقالة. تقول هذه الجُملة: "ظهرت أمراض العمل السياسي السوداني، أول ما ظهرت، مع شروق شمس الاستقلال مباشرة". اللافت في هذه الجُملة يتمثَّل في قطعيَّتها التي تؤكِّد عليها العبارة الحاسمة أول ما ظهرت، كما في ظرف الزمان مباشرةً، مما يترك القارئ/القارئة مع خيار وحيد أوحد هو أنه: قبل شروق شمس الاستقلال لم تكن هناك أمراض للعمل السياسي السوداني. وهذه "مُقدِّمة (ومُحصِّلة)" ليس لا تجافي الحقيقة فقط، وإنما تناقض الدِّقَّة المنهجية المعهودة التي ألفتُها في معالجتك لهذا النوع من المقالات. فمثلما أن "التغيير الجذري لا يأتي فجأةً، وإنما يُبنى لبنةً، لبنة"، ومثلما أن "الثقل الضاغط للكتلة الجديدة [المعوَّل عليها]" لن يتحقق بين يوم وليلة"، فإن "أمراض العمل السياسي السوداني" لم تظهر فجأة، أو بين يوم وليلة، غداة الاستقلال. لقد ظلَّت تُبنى لبنة لبنة منذ وقت بعيد. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، مثلما أظهرت ثورة 1924 نماذج مُشرِّفة من العمل السياسي السوداني، فإنها أيضاً كشفت عن، أو أثبتت، نماذج مخزية من أمراض العمل السياسي السوداني. ولعل نموذج موقف سليمان كشة "ومن هم على شاكلته" من ثورة قادها علي عبد اللطيف "ومن هم على شاكلته" ضد الاستعمار في ذلك الوقت تقف شاهداً على بعض أمراض العمل السياسي السوداني قبل شروق شمس الاستقلال. والوثيقة المرفقة تعبر عن موقف سياسي، اجتماعي وثقافي واضح ما تزال ملامح رئيسة منه تشكَّل أساساً (بدأ قبل ذلك طبعاً) لبعض الأمراض السائدة للعمل السياسي السوداني.



صورة


قال الشهيد جون قرنق مرةً: "السودان الجديد بُرُسِّسْ (عملية) وليس حَدَثاً". ففيما تؤكِّد هذه الرؤية النافذة على أن "التغيير الجذري لا يأتي فجأةً، وإنما يُبنى لبنةً، لبنة"، وفيما هي تراهن على تخلُّق ونمو وثِقَل ضغط "الكتلة الجديدة"، فإنها تؤكِّد كذلك على أن النقيض، أي السودان القديم (بما في ذلك أمراض عمله السياسي)، لم يظهر فجأة؛ وإنما عبر بُرُسِّسْ.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

عزيزي عادل
عاطر التحايا وشكرا على اشادتك بالمقالات وأذكر كل المرات التي حدثتني فيها عنها وأنا في ذلك لك من الشاكرين.
صحيح أن أمراض العمل السياسي كانت سابقة للاستقلال ويبدو أن تعبيري لم يكن دقيقا بالفعل. فأنا لم أقصد اطلاقا أن أمراض السياسة السودانية ظهرت بعد الاستقلال، بقدر ما عنيت أن الاستقلال قد جعلها تظهر من مقام الكمون النسبي إلى مقام الجلاء البيّن بحكم انتقال السلطة من يد المستعمر إلى يد الحكام الوطنيين. ولقد أشرت في جزء من هذه المقالات أشرت إلى مؤتمر جوبا 1947 وخداع القوى السياسية التقليدية الشمالية للإخوة الجنوبيين. كما أنني تعرضت، من قبل، لإشكالات الخريجين في بعض من أوراقي العلمية المنشورة.
إثارتك لثورة 24 وموقف القوى الطائفية والمؤسسة الدينية الرسمية ورجال الطرق الصوفية والبرجوازية الممثلة في فئة التجار والموظفين وأبناء الأسر الكبيرة منها، تفتح بابا للنقاش حول ثورة 24 نفسها، وهل كانت بالفعل ثورة وطنية سودانية صميمة، أم كانت انحيازا لطرف من أطراف الاستعمار الثنائي، وهو الطرف المصري. أعتقد أن كتاب "الأفندية" لخالد الكد قد شرح تلك الفترة تشريحا مفيدا. أكتفي بهذا وأرجو أن أعود قريبا بشيء من التوسع.
مع المودة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

التغيير وقيد العقل الرعوي

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


االتغيير وقيد العقل الرعوي

يقول المفكر البريطاني، جون غراي إن مسار التاريخ ليس خطيًا، أي؛ أنه لا يسير، في جملته، في خط صاعد، من الأدنى إلى الأعلى، أو من الحالة "المتخلفة" إلى الحالة "المتقدمة"، وفق ما هو سائد في فهوم الناس، منذ قرون طويلة. يرى غراي أن حركة التاريخ حركة دائرية، كحركة الفصول؛ صيفٌ، فخريفٌ، فشتاءٌ، فربيع، وهكذا دواليك. وقد أوضح غراي هذا المفهوم في كتابه الممتع، المثير للجدل، "صمت الحيوانات: حول التقدم وغيره من الخرافات الحداثية"، The Silence of Animals: On Progress and other Modern Myths. وفقًا لغراي، فإن التاريخ هو عبارة عن أحوال تتقدم، ثم لا تلبث أن تعود القهقري.

يفتح مفهوم غراي هذا، الباب واسعًا لمراجعة بعضٍ من المفاهيم الحالمة التي رسخها فكر الحداثة. فعلى سبيل المثال، حين انهارت الشيوعية ارتدت يوغسلافيا عن مفاهيم الشيوعية وأمميتها. أكثر من ذلك، ارتدت يوغسلافيا حتى عن ما يجعل الدولة القطرية دولةً متماسكة، فتحولت، عبر حروب طاحنة، إلى دويلاتٍ صغيرةٍ، أساسها الأصل العرقي. هذا يعني، ضمن ما يعني، أن تجاوز القبلية، وتجاوز الطائفية عبر ممسكات الحداثة، لا يتم، وبالضرورة، في كل سياقٍ على نسقٍ واحد. كما يعني أن القبلية لا تزال حية، رغم الايديولوجيات ورغم مفاهيم الحداثة ورغم تغير علاقات الانتاج وتقدم البنى التحتية.

يستطيع أي قائدٍ شعبويٍّ مفوّه أن يشحن الجماهير، ويقود أمةً بكاملها إلى حتفها، كما فعل هتلر. أو أن يقودها إلى قبلية عنصرية بدائية بالغة الشراسة والبربرية، كما فعل ميلوسوفيتش، أو إرجاع كل أحوال البلاد إلى قبليةٍ فجةٍ كما فعلت الانقاذ. أو إلى تعظيمٍ وتهليلٍ للتجزئة، رغم مخاطرها البيِّنة، كما طبلّت وهلّلت صحيفة "الانتباهة" للانفصال، فتبعها جمهورٌ غفير،ٌ من ضمنه رجال الحكومة أنفسهم.
سبب هذه المقدمة القصيرة المبتسرة، هو محاولتي تقديم إضاءةٍ لجدلية العقل الرعوي، والعقل الحضري المديني، وهي جدلية ذات تجلياتٍ واضحةٍ في مسار التاريخ الإنساني. وهي أوضح ما تكون في التجربة السودانية عبر القرنين المنصرمين.

جلبت الخديوية نظاما حداثيًا للسودان، ولكنه كان نظامًا غاشمًا باطشًا، ما لبث أن اقتلعته الهبة المهدوية الرعوية، التي ما لبثت، أن استحالت إلى فوضى عارمة. ثم جاء البريطانيون وأعادوا تأسيس التحديث من جديد ودفعوا به، من حيث البنى القانونية، والسياسية، والاقتصادية، إلى أفقٍ أعلى من سابقه. ولكن الاستقلال جاء بهبةٍ رعويةٍ جديدةٍ، تمحورت منذ بدايتها حول كتابة "دستور إسلامي"، لا يعرف الداعون له عنه أكثر من اسمه وصفته "الاسلامية" المزعومة. وأستهلك الجدل العقيم حول ذلك الدستور المبهم، طاقات الجميع، على مدى تجاوز الثلاث عقود من الزمان. ثم جاء الرئيس جعفر نميري، ليقفز بهذا الموضوع الذي لا علاقة له بالتنمية أو بترفيع حياة الناس، قفزةً أخرى في الظلام، أكبر من سابقاتها، فكانت قوانين سبتمبر التي أعادت حراك التحديث عقودًا إلى الوراء. بل، هيأت قوانين سبتمبر الملعب للدكتور حسن الترابي وقبيله ليأتوا بأكبر هبةٍ رعويةٍ في تاريخ السودان الحديث، من حيث تعقيد تركيبها، وأخطبوطية أذرعها، وحجم إطفائها لنور العقل والمعرفة، وإماتتها للوجدان الجمعي، فأوصلت البلاد إلى ما نراه ظاهرًا أمام أعيننا، اليوم، في كل شيءٍ.

أما من أمثلة الماضي البعيد، فيمكننا أن نذكر، أن القبائل الجرمانية الرعوية تمكنت من القضاء على الإمبراطورية الرومانية. كما قضت قبائل المغول الرعوية على الإمبراطورية الإسلامية في حقبتها العباسية. وأرهق "النوبا" السود، وفق تعريف أحمد الياس حسين، حضارة "النوبة" السمر في وادي النيل الأوسط في السودان. كما تسببوا في مشاكل لدولة أكسوم الفتية الناشئة حينها، ما جعل امبراطورها القوي، عيزانا، ينزل من هضبته، ويكتسح السهل النيلي، بـ "نوباه" السود و"نوبته" السمر، ويدق آخر مسمار في نعش تلك الحضارة الانسانية الرائدة. أيضًا، أدى تدفق الرعاة العرب، بعد ذلك بقرون، إلى تحويل السودان من بيئةٍ حضرية، مقتدرة في الفعل الحضاري، إلى بيئة رعوية. فارتدت البيئات السودانية المختلفة من بناء الحجر ذي النسق الهندسي الراقي، إلى أبنية الطين والقش. وبقيت الآثار المعمارية الباهرة للفترة الكوشية، غريبة وسط هؤلاء الذين فشا فيهم العقل الرعوي، فظلوا يظنونها، حتى وقتٍ قريبٍ جدًا، صروحًا من صنع الجن.

بنهايات القرن الخامس عشر الميلادي وبداية القرن السادس عشر، انضم الرعاة العرب الوافدون إلى السودان إلى السكان المحليين الذين فشت فيهم الرعوية، وطفقوا يناوشون الممالك المسيحية الإسلامية المستقرة حتى أضعفوها. ونجح تحالف منهم مكوّنٌ من عرب القواسمة والفونج، في تدمير مملكة علوة المسيحية، ومحو بقايا التحضر التي كانت قد استُنقذت، هونًا ما، من الغزو الأكسومي. جرت تسوية سوبا، عاصمة دولة علوة، بالأرض، وأصبح "خراب سوبا" حادثةً تاريخية يُضرب بها المثل. ولم تستفق الحضارة الكوشية السودانية العريقة، عالية النسق، من حالة فقدان الوعي، إلى يومنا هذا. وهي استفاقةٌ نأمل أن تحدث في المستقبل القريب.

أيضًا، قضى الرعاة، الذين جيشتهم الوهابية في إقليم نجد، بشعاراتٍ بالغةِ البساطةِ والسطحية، حول مفهوم التوحيد، ضد حكم الأشراف في الحجاز، وضد سلطان العثمانيين والخديويين التابعين لهم. فسيطر التدين الرعوي، حتى يومنا هذا، على الجزيرة العربية من أقصاها إلى أدناها، إلا قليلا. بل وأنتج هذا التدين الرعوي الممتزج بالسلطة الزمنية وبأموال البترول، ولا ويزال ينتج، من المهددات، من شاكلة "القاعدة" و"داعش" و"طالبان"، ما أصبح يرعب ويزلزل كيان كل إنسانٍ مشفقٍ على مستقبل الحضارة الإنسانية.

يقول المؤرخون إن التصدع الداخلي هو ما ساعد القبائل الجرمانية في القرن الخامس الميلادي على الاستيلاء على روما العاصمة، بعد قرون طويلة من الصراع المتقطع. فبنية العقل الرعوي، إنما تتسلل من ثقوب بنية الحضارة القائمة، حين تهزل الأخيرة، وتنحل قواها، فتسيطر بنية العقل الرعوي على مركزها. ويضيف المؤرخون أن من بين أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، الفساد الذي استشرى وسط المسؤولين، وحالة اللامبالاة التي اعترت السكان، إضافةً إلى ما صاحب ذلك من تفككٍ اجتماعيٍّ كبير. ويضيف المؤرخون أيضًا، أن سنوات الإمبراطورية الرومانية الغربية الأخيرة، شهدت عزوفًا كبيرًا وسط المواطنين في الالتحاق بالجيش، ما أضطر الحكام إلى استئجار أجانب لمهام الدفاع عنها. غير أن هؤلاء الأجانب الذين جرى استئجارهم للعمل في الجيش الروماني، كانوا ضعيفي الولاء لمخدِّميهم، فهم لم يكونوا يخدمون بسبب دوافع وطنية، وإنما بسبب المال. وحين توقف تدفق المال إلى جيبوهم، تباطأوا في واجبات الدفاع عن الإمبراطورية، فسقطت. وهكذا ترتد الأمور، في منعطفاتٍ بعينها، من التقدم إلى التأخر، ومن النظام إلى اللانظام.

استخدمت الإنقاذ، مؤخرًا، مليشياتٍ قبلية، لكي تبقي على نظام حكمها. بعض هذه المليشيات محليّ، وبعضها الآخر، مستجلبٌ من أقطار الجوار. بهذه المليشيات تمكنت الإنقاذ، أو كادت، أن تقضي على حركات دارفور المسلحة. كما أخذت هذه الميلشيات تمثِّل ضغطا متزايدًا على الحركة الشعبية قطاع الشمال. لكن ما لا تعلمه الإنقاذ، هو أن هؤلاء الذين استخدمتهم في إضعاف الحركات الدارفورية، وتحاول بهم دحر الحركات المسلحة في جبال النوبة والنيل الأزرق، أخطر عليها، وعلى مستقبل وحدة القطر، من الحركات المسلحة العاملة في كل هذه المناطق.

ويمكن أن نأتي بمثالٍ شبيه للاستخدام الخطأ، للقبيل الخطأ. فقد ظن الأمريكيون، نتيجة لقصور دراساتهم المتعلقة بأحوال الشعوب، وعدم احتكاكهم بهم، أن بإمكانهم طرد الشيوعية الروسية التي زحفت على أفغانستان، عن طريق ايقاظ النزعة الدينية الجهادية وسط الشعب الأفغاني. تعاون الأمريكيون مع السعوديين، وهكذا وجد التفكير الديني الرعوي الوهابي، موطئ قدمٍ له في أفغانستان. خرج الروس من أفغانستان بسبب المقاومة الشرسة للمتدينين السلفيين من أفغان، ومما سُمي بـ "الأفغانٍ العرب". بعثت تلك الخطة الأمريكية، غير الحصيفة، غولاً رعويًا نائمًا من ثباته، وملكته آلةً عسكرية، وخبرةً عسكرية، وكثيرًا من الأموال. فلم تستقر أفغانستان، منذ سبعينات القرن الماضي. بل أخذت هذه البنية الدينية السلفية الرعوية، تفرخ من صور الإرهاب، عبر العالم، ما جعل كلا من أمريكا وأوروبا واقفتين على أمشاط الأصابع، حتى يومنا هذا.

يمكن القول الآن، أن ما جرى للإمبراطورية الرومانية، في غابر العصور، يجري الآن في السودان، على ذات النسق، رغم الفوارق الكبيرة بين الحالتين. فأهل الانقاذ، الذين تفرقوا، مؤخرًا، شذر مذر، أضحوا بلا قدرة على التفكير السوي، أو التحليل الموضوعي. فحالة الانقاذ، وعموم الدولة السودانية الآن، أشبه ما تكون بحالة سنار، عشية الغزو الخديوي لها. فالتفكك الداخلي الذيو أصاب الدولة السنارية من الداخل، جعلها لقمةً سائغةً للقوة الأجنبية. وهكذا، كان احتلال اسماعيل بن محمد علي باشا لها، عام 1821، أشبه ما يكون بنزهةٍ عند الأصيل، على شاطئ النيل الأزرق. فقد خرج سلطان سنار في كامل قيافته وأبهته مستقبلاً الغازي الأجنبي خارج أسوار المدينة، وسلمه مفاتيح المدينة مقاليد حكم سلطنته المنخورة من الداخل، وهو مطأطئٌ رأسه.

صوّر جاي أسبولدينق حالة سنار في سنواتها الأخيرة في كتابه "عصر البطولة في سنار" فقال: "تقمصت الطبقة الوسطى الجديدة، على سبيل المثال، شخصيةً عربيةً، ومارست النظام الأبوي، وتعاملت بالنقود، ومارست في معاملاتها التجارية قوانين الشريعة الإسلامية، واستأثرت بالصدقات، واشترت العبيد، وحددت علاقات التبادل، وقيدت الرعايا الأحرار بالديون، وفرضت مفاهيمها القانونية والأيديولوجية على الحكومة، ثم طالبت بالإعفاء من كل الالتزامات تجاه الدولة، وخصّت نفسها بمجموعة متنوعة من المهام التي كانت، إلى حينها، تقوم بها الدولة أو طبقة النبلاء، وأهمها إدارة القضاء والضرائب". (انتهى نص سبولدينق). ومن ينظر إلى هذا التوصيف الحاذق لهذا الأكاديمي الضليع، يرى، وبوضوح شديد، أن هذا هو ما جرى وظل يجري منذ أن وضع الدكتور حسن الترابي وقبيله الدولة السودانية في قبضة المنظومة الرعوية الفالتة والعقل الرعوي الذي بعثوه.

بنية العقل الرعوي التي رعاها الإسلاميون، هي التي أخرجتهم من الحكم واحدًا تلو الآخر. وهكذا أصبحت مقاليد الأمور في يد قلّةٍ قليلة تدير البلاد أمنيًا، ساندةً ظهرها إلى أخطبوطٍ رعويٍّ نفعي، سبق أن ناصر كل الأنظمة، على اختلافها منذ الاستقلال، وحال بينها جميعًا، وبين أن تعمل عملاً نافعا. الآن، تحولت الدولة السودانية، إلى مجرد دولة جبايات. فأرهقت كاهل الرعايا بالأتاوات، وأسرفت في تقييدهم بالديون. بل سلبتهم أهمَّ مقومات حياتهم، التي عاشوا عليها منذ الأزل، وهي الأرض. فما يسمى "المجلس الوطني"، وما تسمى "الجمعيات الخيرية"، وأعني هنا تحديدًا، من تحمل منها صفة "الإسلامية"، وما يسمى "المحليات"، وما تعج به الحواري والدساكر مما يسمى "لجان شعبية"، وما تعج به المكاتب الحكومية من امبراطوريات صغيرة للرشوة والفساد، ليست، في مجموعها، سوى "تمددات انقاذية" لبنية العقل الرعوي الذي نخر بنية الدولة الحديثة وحولها إلى حيازاتٍ خاصة، فأضحت الدولة مجرد قوقعةٍ فارغة. يأكل هذا الأخطبوط الرعوي أموال الدولة، وأموال الناس في آنٍ معا. وما الحديث الكثير الذي دار، قبل فترةٍ، حول "أورنيك 15"، سوى محاولة بائسةٍ يائسةٍ، لا نفع منها، لضبط هذا الأخطبوط الرعوي الذي لبس جسد الدولة بأكمله وأحاله إلى قوقعة فارغة، مثلما فعل بسابقتها دولة سنار. يأكل العقل الرعوي الدولة، والنظام، وحكم القانون، ويقضي على الرؤية والهدف، كما يأكل السوس الجذوع. ودونكم مقدمة أبن خلدون في أحوال الغابرين المماثلة، من خلق الله.

مثلما سقطت سنار تحت ضغط ثقلها الذاتي، سيسقط حكم الإنقاذيين، تحت ضغط ثقله الذاتي، أيضًا. والسؤال الذي يشغلني، كما سبق أن أبنت، لا يتعلق بكيفية اسقاطه، فسقوطه، في نظري، حتمي. السؤال المهم في نظري: في أيدي من سيسقط؟ وهل سيعقب سقوطه استقرار، أم فوضى ما لها من قرار؟ من يفكرون في أن كل العلة إنما تكمن في الحكومة، لا غير، لا يعرفون شيئا؛ لا في علم السياسة، ولا في علم الاجتماع. فهم مندفعون، ولا يختلفون في اندفاعهم، من هؤلاء الرعاة الذين حكمونا منذ ما يقارب الثلاثين عامًا، فـأحالوا كل شيءٍ إلى رماد.

إن الثورة الحقيقية هي الثورة التي تقف ضد الحاكم، كما تقف ضد الثائر الذي يجهل العلل البنيوية التي تعاني منها ذاته، وثقافته. فالثائر الجاهل يندفع منطلقًا من مجرد الاحساس بالظلم، مكتسبًا من هذا الإحساس، أحقيةً وسلطة أخلاقية زائفة، تجعله يطالب بالتغيير، حتى لو لم يعرف ما هو التغيير في حقيقته، ولا كيف يكون. هذا الاحساس العاطفي غير الناضج، يمنع الثائر من رؤية اشكالاته، واشكالات ثقافته، ومجتمعه، لينشغل بفعل الثورة أو الانتفاض، أو الانقلاب العسكري، ظانًا أن في ذلك كل الخلاص. لكن، بمثل هذه العقلية المتعجلة، يعيد العقل الرعوي انتاج ذاته، على نحو أسوأ. ويتمخض فعل التغيير لديه عن مجرد هباءٍ تذروه الرياح.

إعادة العقل الرعوي انتاج نفسه عبر فعل الثورة، هو بالضبط ما قام به الإخوان المسلمون، حين قاموا بانقلابهم في يونيو 1989. سموا انقلابهم "ثورة"، بل وسموها، "ثورة انقاذ". لم ينتبهوا إلى أنهم التصقوا في دوافع فعلتهم تلك، بالدين التصاقًا رعويًا فجًا، أخفوا به عن أنفسهم العلل البنيوية التي تحيط بفكرهم وبممارساتهم. مطوا قاماتهم الأخلاقية القزمة، استنادًا على تعاليم الدين، وعلى التماهي الوهمي مع نماذج الممجدين من السلف الصالح، وليس اعتمادًا على معرفةٍ عميقةٍ راسخةٍ، أو كسبٍ أخلاقي حقيقي. هذا الادعاء الأجوف، هو ما فضحته تجربتهم العملية لاحقًا، فأخذوا يشيرون إلى بعضهم حين ينتقدون تجربتهم، بـ "الجماعة ديل". لا غرابة أن انصرف الإخوان المسلمون، لحظة امساكهم بالسلطة، إلى محاولة "تربية الناس" وصبهم في ما يرونه قالبا للفضيلة. هذا على الرغم من أنهم لم يكونوا يملكون من محصول المعرفة ومحصول التربية شروى نقير.

خلاصة القول، إن الرعوية يمكن أن تكون دينية، كما يمكن، أيضًا، أن تكون علمانية. فمن يدعون إلى الثورة، من العلمانيين، ضيقًا برعوية الإسلاميين، يمطون قاماتهم بغير حق، ويلبسون أنفسهم، زيفًا، لبوس النقاء والتجرد، ويركبون صهوات خيل عالية، متقمصين السلطة الأخلاقية بلا تأهيل حقيقي. هؤلاء لا يدرون أنهم يقومون بذات الفعل الرعوي، الذي قام به الإسلاميون حين قاموا بانقلابهم. فالواجب المباشر لديهم هو اشعال الثورة، وشعارهم: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". من يرفع عقيرته بالأسئلة وبضرورة المدارسة، وفحص السياق القائم فحصًا دقيقًا، والتريث، يجري اتهامه بافتعال الحيرة، بل ربما يجري تخوينه، ودمغه بأرذل الصفات. وهكذا يشترك بعض العلمانيين مع بعض المتدينين في إعادة انتاج العقل الرعوي، بالإعلاء من شأن الشحن العاطفي، والتبسيط البئيس، و"الكلفتة".

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

ويمكن أن نأتي بمثالٍ شبيه للاستخدام الخطأ، للقبيل الخطأ. فقد ظن الأمريكيون، نتيجة لقصور دراساتهم المتعلقة بأحوال الشعوب، وعدم احتكاكهم بهم، أن بإمكانهم طرد الشيوعية الروسية التي زحفت على أفغانستان، عن طريق ايقاظ النزعة الدينية الجهادية وسط الشعب الأفغاني. تعاون الأمريكيون مع السعوديين، وهكذا وجد التفكير الديني الرعوي الوهابي، موطئ قدمٍ له في أفغانستان. خرج الروس من أفغانستان بسبب المقاومة الشرسة للمتدينين السلفيين من أفغان، ومما سُمي بـ "الأفغانٍ العرب". بعثت تلك الخطة الأمريكية، غير الحصيفة، غولاً رعويًا نائمًا من ثباته، وملكته آلةً عسكرية، وخبرةً عسكرية، وكثيرًا من الأموال. فلم تستقر أفغانستان، منذ سبعينات القرن الماضي. بل أخذت هذه البنية الدينية السلفية الرعوية، تفرخ من صور الإرهاب، عبر العالم، ما جعل كلا من أمريكا وأوروبا واقفتين على أمشاط الأصابع، حتى يومنا هذا.


دكتور النور
تحياتي
حسب قراءة قديمة لي لكتاب (لا أذكره الآن) عن التورط الأمريكي في افغانستان
أن الأمركان استغلوا فقط النزعة الجهادية التى قامت ضد حكم الشيوعيين والتدخل السوفييتي
بمعنى أن أمريكا والسعودية استغلوا وضعاً وجدوه على الأرض، ولم ييقظوه هم
.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

الأخ الصادق
شكرا على المداخلة
قولك، استنادا على الكتاب الذي أشرت إليه، إن الامريكيين استغلوا وضعا كان قائما بالفعل، قول صحيح. غير أن ذلك الوضع القائم كان قائما في جانب مهم منه بسبب التأثيرات السعودية الوهابية، التي دعمت ما يسمى "المدرسة"، بعد الطفرة النفطية السعودية، واندياح المذهب الوهابي الذي أخذ يستخدم أموال النفط، للانتشار في سائر أرجاء الفضاء العربسلامي. و"المدرسة" مؤسسة دينية تقليدية قديمة في كل من باكستان وأفغانستان. وكلمة "طالبان" نفسها تعود إلى "طلب العلم" في هذا النوع من المدارس، وهي تعادل الخلوة عندنا. دخول المال السعودي أدخل في هذا المجال الديني التقليدي، التطرف الوهابي. الشيء الآخر، عبارتي القائلة إن الأمريكيين والسعوديين "أيقظوا"، تدل، من حيث اللغة، أنهم وجدوا شيئا نائما أيقظوه. فالإيقاظ لا يكون للا شيء. الأمر الآخر، أن هذا "الايقاظ" بالمال وبالتسليح وبالشحن الديني ضد "الإلحاد الشيوعي" هو الذي دفع بحركة المقاومة الأفغانية، وأعني هنا جانب المتطرفين الدينيين منها، دفعة ما كان لها أن تجدها، لولا مال البترول السعودي، والسلاح والتدريب الذي قدمه الأمريكيون، وارسال أسامة بن لادن إلى هناك. بهذا الأمور وجدت طالبان، ومن بعدها القاعدة، الحجم والقوة التي بهما انقلبتا، عقب خروج الروس، على السعودية وأمريكا وعلى الغرب برمته. بل دخلت القاعدة في أطوار جديدة فأخذت تزعزع العراق وسوريا، وكذلك في ليبيا. كما أصبح للقاعدة وجود في اليمن وفي المغرب العربي الكبير عبر الصحراء الكبرى.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

هذا تعقيب على مقالتي عن العقل الرعوي المثبتة عاليه
كتبه الدكتور عبد الله علي إبراهيم ونشره على الراكوبة

كتب الدكتور النور حمد مقالة بعنوان " التغيير وقيد العقل الرعوي" (جريدة التيار، منبر سودانفورأول) في تشخيص أزمتنا السياسية التاريخية بما يشبه نظرية ابن خلدون في التعاقب الدوري. فمن رأيه أن كل طائف من الحداثة هَلّ علينا أطاحت به هبة رعوية. فالحداثة التي جاءت بها التركية اقتلعتها الهبة المهدوية الرعوية. ولما جاء الإنجليز بالحداثة من جديد في 1898، و"بأفق أعلى"، زلزلتها هبة رعوية جديدة هي الحركة الوطنية بالاستقلال. وتمحورت هبة الاستقلال الرعوية حول الدعوة إلى الدستور الإسلامي وتجسدت بصورة بليغة في قوانين الرئيس نميري الإسلامية في سبتمبر 1983. ثم كانت الطامة الرعوية الشاملة التي دولة الإنقاذ. وعاد النور في آخر مقاله ليكشف أن دراما نور الحداثة وظلام الرعوية قديمة فينا. فأصلها في تدفق الرعاة العرب منذ القرن الثامن الميلادي إلى السودان وتحويله من بيئته الحضرية إلى بيئة رعوية. وتجسدت هذه الطامة الرعوية خاصة في تحالف الفونج والعبدلاب-القواسمة الذي هدم الممالك المسيحية المتحضرة.

يعيب أطروحة النور أنه لم يستأن لتعريف الرعوية. فلا يعرف المرء من توظيف النور للمصطلح الرعوي إن كان قصد به وصف المظاهر التي انطبق عليها وصفاً محيطاً دقيقاً أم أنه عبارة استهجن بها النور ما تأذت نفسه به من سياسية السودان وساسته. والدليل على قلقلة المصطلح أن الرعوية لا تقتصر عند النور على "البدو" إذا تتعداهم إلى قوى حضرية. فتجده أطلق المصطلح على بدو أقحاح هم جماعات العرب التي هدمت بيئة السودان المسيحية الحضرية ببينة الخبر الذي ذاع عن ابن خلدون وتناوشته المطاعن مصداقيته مؤخراً كما بينت في ورقتي "ابن خلدون في خطاب الهوية السودانية". وقد نتجاوز عن توصيف النور لدولة الفونج والمهدية بالهبات الرعوية لشبهة الحضور البدوي فيها ولكن سيصعب بالطبع إدخال كامل الحركة الوطنية التي أجلت الإنجليز عن البلاد في عداد الرعويات. فواحدة من نواقص هذه الحركة أنها لم تجد سبيلاً إلى غمار الناس من الرعاة، بل لم تحالو ذلك. من جهة أخرى يكاد النور فرغ من مطابقة الرعوية بالدين في مثل اقتلاع المهدية للتركية. ولكنه سرعان ما يقول إن العلمانية ذاتها قد تكون رعوية إذا اقتصرت همتها على اسقاط حكومة قائمة كالإنقاذ ولم تنفذ إلى بنياتها المؤثلة في الثقافة والمجتمع. فالرعوية كما هي عند النور حالة "لبس تكسب" أكثر منها مصطلحاً منضبط سائغ.

وبدا لي من شمول النور قوى البندر السياسية في الرعوية أنه مال إلى مذهب "العقل الرعوي" الذي تجده في كتابات كمال الجزولي ومصطفى البطل ومنى ابوزيد ومنصور خالد وغيرهما. وهو عند هؤلاء النفر عقل متبق في صفوة البندر من أصول ثقافة الأجداد الرعوية لم يقض عليه التعليم الحداثي الذي نالوه في مدارس الغرب. وقد كتبت مراراً عن فساد فكرة القائلين بإن مرد محنة السودان العاولة هذه إلى العقل البدوي الناشب في الصفوة لاتكاد تخطو خطوة واحدة في طريق الحداثة حتى ترجع القهقري خطوتين. وقلت إن هذه حيلة بائخة تنملص بها البرجوازية الصغيرة من جريرة خرابها للوطن لترميها على عقل بدوي مزعوم. وسبق لي القول إن هذه البرجوازية الصغيرة لو عرفت عن البداوة ما عرف الأنثروبولجيون ممن درسوها عن كثب مثل طلال أسد (الكبابيش) لعرفوا زينة العقل البدوي. فقد بين طلال أسد كيف يستثمر البدوي في أرض بلقع ضحضح فينتج محصولاً من السعية يراكم للدولة عملة صعبة يتصرف فيها العقل البرجوازي الصغير في الدولة بسفه معروف. ومن فساد فكرة العقل البدوي المزعوم له أنه في أصل محنتنا السياسة التاريخية أن الشيخ حسن الترابي، الذي نسبه النور إلى الهبات الرعوية، قال مرة إن مصيبتنا الحق هي في عقلنا الرعوي. وهو عنده عقل رعوي صرف لم تطلفه الزراعة. فنحن عنده "ولا مزارعين". ومتى تعذر شيخ "رعوي" ب"الرعوية" انفضح الأمر.

وساق اضطراب المصطلح النور إلى تناقضات لا تصح متى كان استحكم من زمامه. فقال عن دولة الإنقاذ إنها هبة رعوية شاملة. وهذا مفهوم ومقبول في سياق أطروحة النور. ولكنه عاد ونسبها إلى حالة من التحضر دنت نهايتها مثل ما وقع للدولة الرومانية. ووجه الشبه أن كليهما استنفد عمره الافتراضي. فبلغا من الظلم و"الراحات" مبلغاً لم يعد لمواطنيهما أدنى الرغبة في الدفاع عنهما. وأضطرهم ذلك لإستئجار الأجانب والمرتزقة للعمل في جيوشهما. وهذا باب كبير في الرعوية بالطبع. وواضح أن واقعة استئجار الإنقاذ لقوى الدعم السريع وغيرها ساقت النور للمماثلة بين امبراطورية روما والإنقاذ. ولكنه نسي في الأثناء أن الإنقاذ عنده رعوية أصلاً استعانت بالمرتزقة أو لم تستعن. بينما بدأت روما متحضرة وساقتها علل الاستبداد وفساد مترفيها إلى الاستعانة بالأجانب المرتزقة. وهكذا نرى أن الإنقاذ استحقت التحضر جزافاً.

بدت الحداثة والرعوية عند النور فضاءين منقطعين واحدهما عن الآخر يدور بينهما صراع أزلى شبه وصف الفقية الفارسي مان لصراع الخير والشر في الدنيا. وهو الصراع المعروف بالدراما المانوية التي ذكرها المتنبى في بيت له. ولما لم يكن بين هذين الفضاءين جامع أو رابط سيصعب فهم تولد واحدهما عن الآخر، أو جدلهما. فقال النور مثلاً إن الرئيس نميري كان هبة رعوية علماً بأنه اتبع خطة الحداثة أكثر عصره ثم ارتد إلى الرعوية، في وصف النور، في مغرب أيامه. وغير خاف أن بين الفضاءين كما في تجربة نميري واشجة واشجة يلج بها الفضاء الفضاء الآخر بصورة لا تجد لها تفسيراً في مفهوم النور.

أكثر ما حزّ في نفسي أن النور لم يرع للوطنية ولا ثقافتنا حرمة في تعلقه بالوارد الحداثي والحضاري. فقال صادر مشروعية الثورة عن المهدية ضد نظام، التركية، وصفه هو نفسه ب"الغاشم الباطش" طالما كان ينشر الحداثة في ربوعنا. ولم يذكر النور للمهدية هذه المرة ما ذكرها لها في مقاله "الستينات والسبعينات: ازدهار خارج السياق". فقد نسب لها تحولات فكرية اقتلعت، ضمن ما اقتلعت، "الفقهَ المدرسيَّ الرسميَّ الذي استجلبته الخديوية معها لتستخدمَه ذراعًا لتثبيتِ سلطانها". أما الحركة الوطنية عند النور فأضل سبيلا. فقد اقتلعت نظاماً سعيداً للاستعمار انتقل بنا إلى مراق أعلى في الحداثة مما فعلت التركية. فكان على السودانيين، في ما يقول النور صراحة، أن يكفوا عن طلب الحرية الوطنية لأن الله ولى من يصلحهم ويحدثهم. ولم يرع النور لثقافة بعضنا في السودان حرمة. فالإسلام عنده، وفي كل صوره، من لدن وفوده لبلدنا وهدمه للدول المسيحية إلى دولة الأنقاذ الحاضرة، لم يسفر إلا عن رعوية ضارة بالحداثة. والذي أسقمني من النور أنه من انتمى إلى حركة لها أخذ عجيب للوطنية والإسلام معاً. فقد انشق زعيمها الأستاذ محمود محمد طه عن حركة مؤتمر الخريجين لأنها "عديمة منهجية" تتطنع بلغو الغرب. وافترع مختاراً طريقاً إلى "الرعوية". فدخل "خلوة" كما فعل صوفيو السودان الرعويون أبدا. وخرج من الخلوة بجلوة مستفتحاً طريقاً إسلامياً مخاطراً إلى الحداثة. وتأسست له من وطنيته في طلب الحرية الندية التي أصلى بها الحداثة الاستعمارية ناراً بقيادته ثورة رفاعة في 1946 ضد "حداثة" متأمِّرة أحسن وصفها بابكر بدري حين قال عن برامبل مفتش مدينة أم درمان إنه "صَلّح البلد وخصى الرجال". وقد وجدت نفسي أكتب مقالاً نشر بالإنجليزية (يُعّرب حالياً) عن ثورة رفاعة تلك أدفع عن الأستاذ من استنكروا منه هذه "الهبة الرعوية" في وجه حداثة الإنجليز من مثل الدكتور خالد المبارك والدكتور محمد محمود. وكانوا ثَمَّنوا "تطفل" الإنجليز على ثقافتنا بإرادتهم الخير لنا بصون جسد المرأة من شغب مشارط "التقاليد".

ينتظر النور في مقاله استفاقة حضارة كوش الشهيدة لإستنقاذ السودان من براثن دراما نور التحضر والحداثة وظلام هبوب الرعويات. ومن فرط استخدام كوش في دوائر معارضي "الإسلاموعربية" صارت عندي محض استنكار لوفود لعروبة والإسلام أصلاً للسودان. فلم يصمد الترويج الحماسي للكوشية في جنوب السودان. فما أن استقل حتى أزال كل إشارة لكوش في مسودة نشيده الوطني. فالكوشية بالطبع مفردة من مفردات التنوع التاريخي للسودان في وصف حون قرنق. ولكن تعويل النور على فض نطاح الحداثة والرعوية على استرجاع كوش التاريخية مما لم يقع لي.
[email protected]

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشريح بنية العقل الرعوي
(1)

وجدت أطروحتي حول ما أسميته "قيد الثقافة الرعوية" الذي يحول دون اكتساب قيم الحداثة، ويصبح، من ثم، طاقةً معيقةً لجهود التغيير، الكثير من ردود الفعل الإيجابية من جانب من قرأوه. وقد وصلتني عشرات الرسائل ممن أثق في سعة معرفتهم، مشيدين بالطرح، منوّهين إلى أهميته، خاصةً في هذا المنعطف العاصف من حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية. وقد أثار الدكتور عبد الله علي إبراهيم بعضًا من الملاحظات على مقالتي تلك، التي بدأت بها هذا الطرح. وهي مقالة قمت بنشرها في صحيفة التيار، وبعضٍ من مواقع النشر الإلكتروني.

نشر الدكتور عبدالله تعقيبه على مقالتي بموقع "الراكوبة"، حيث نشرت مقالتي. وظهرت مقالته على موقع "الراكوبة" في يوم 15/9/2016. وأود هنا أن أتخذ ملاحظات الدكتور عبد الله علي إبراهيم متكأً لتقديم مزيدٍ من الايضاحات حول هذه الأطروحة التي لا تزال في مبتدئها. وسأحاول، جهد الطاقة، ألا أنحو في إشاراتي إلى ملاحظات الدكتور عبد الله علي ابراهيم، منحى المساجلة، أو المناظرة، بقدر ما أتّجه إلى توسيع الأطروحة وتعميقها، وتقديم مزيد من الايضاحات حولها. ولسوف يجري مني ذلك في حلقات، لا أود تحديد عددها الآن، وإنما أتركها رهينةً لشعوري، بأن ما أود إيضاحه، قد وضح بما يُرضي. فغرضي ليس الرد على الدكتور عبد الله على إبراهيم، وإنما توسيع الأطروحة وتقعيدها أكثر. وأتقدم بالشكر للدكتور عبد الله على ملاحظاته. فربما تكون هذه الحلقات حلقتين، وربما تكون ثلاثًا، وربما أكثر. وإضافة إلى ما أسعى إليه من تبيين المفهوم، سوف أحاول، أيضًا، تقديم بعضٍ من تجليات "الرعوية" في حياتنا اليومية، وفي بعضٍ من جوانب ممارساتنا الفكرية والثقافية حتى تبيّن الظاهرة، ويقوم الدليل على وجودها وعلى تأثيراتها السالبة على جهود التحديث، وعلى بنية الدولة.

أثار الدكتور عبد الله علي إبراهيم ملاحظةً منهجيةً، أوليّة، حول مصطلح "الرعوية"، ودعاني إلى تعريفه، وضبطه، والتحقق من انسجام استخدامه في السياقات المختلفة. غير أنني وددت أن لو اهتم الدكتور عبد الله علي إبراهيم، بالظاهرة نفسها، بدل أن يهتم بما رآه اضطرابًا في استخدام المصطلح. فالمصطلح ليس هو المهم في هذا الطرح، وإنما الظاهرة التي يشير إليها. فإن اتفقنا على وجود الظاهرة، وضرورة البحث فيها، لا يهم أي مصطلحٍ نطلقه عليها. ولا زلت لا أرى أن هناك اضطرابًا في استخدام المصطلح، وسآتي لبيان ذلك لاحقًا عبر الحديث عن الظاهرة، ومحاولة تبيين تجلياتها. والظاهرة المعنية، وهي القضية الجوهرية في ما طرحته في المقالة السابقة، وفي ما سوف ألمسه في هذه المقالات، تمثل في جملتها، وفي تفاصيلها، المسلك المناهض، أو المعاكس، للحداثة ولقيمها، ولاحترام القوانين والنظام. وأبدأ فأقول إن منشأ هذا المسلك هو حالة البداوة وبنية المجتمعات التي تشكلت حول نشاط الرعي. وهذا المسلك يقل هنا، ويزيد هناك. ولكن، قد يزيد هذا المسلك المعادي للتغيير وللانسجام مع مؤسسة الدولة، حتى يصل درجةً تبلغ إفساد بنية الدولة نفسها. وقد أوردت في مقالتي السابقة ما حكاه سبولدينق عن سنار في أيامها الأخيرة.

يبدو لي أن عدم استساغة الدكتور عبد الله للحديث عن ما أسميته أنا، وأسماه من قبلي آخرون: ظاهرة "العقل الرعوي"، مرده إلى بقاء أقدام الدكتور عبد الله علي إبراهيم منغرسةً، إلى الآن، في تربة التحليل الماركسي للظواهر. والتحليل الماركسي الاقتصادي للظواهر رغم أهميته التاريخية، لم يعد صالحًا تماما. فقد انقصم عظم ظهره منذ وقت طويل. فمقولة الوعي التابع للمادة، ومقولة إن منظومة علاقات الانتاج هي التي تصنع القيم، وأن البنى الفوقية تتولد، بالضرورة، من البنى التحتية، مقولات سقطت جلُّ دعاماتها الإيديولوجية. وأعني هنا، أنها لم تسقط على الصعيد النظري، وحسب، وإنما سقطت على صعيد التجربة الفعلية في التطبيق الاشتراكي في الدول الشيوعية. لقد ظهرت "الرعوية"؛ وسمِّها "القبلية"، إن شئت، كأشرس وأعنف ما تكون، عندما تفككت يوغسلافيا الشيوعية إلى دويلات، كما أشرت في مقالتي السابقة. كما تفرقت الجمهوريات السوفيتية، عقب سقوط الشيوعية، على أساسٍ غلبت عليه العنصرية والعقيدة الدينية. لقد اتضح عبر عقود طويلة من التطبيق الاشتراكي، أن البنى التاريخية القديمة، التي ظُنَّ أنها قد مُحيت، لأن كل شيءٍ رهينٌ بمجريات الصراع الطبقي وأيلولة المِلْكِيّة للدولة، كانت لا تزال راقدةً تحت البُنى الجديدة، منتظرةً انحلال القبضة الحديدية، لتظهر مثلما كانت في القديم.

لقد لاحظ الدكتور عبد الله أنني وسعت من المصطلح وأدخلت فيه بعضًا من التجليات الحضرية. وقد جعله ذلك، في ما فهمت منه، يشعر بأن استخدام المصطلح ليس متسقًا. غير أنني كنت واعيًا بأنني أستخدم ذات المصطلح في سياقين مختلفين؛ أحدهما قبل حداثي، والآخر حداثي. ففي حين شملتُ بالمصلح سياقيْ البداوة، أو ما قبل الحداثة، والحداثة، كنت أقصد ذلك. فأنا لست منشغلاً، في نظرتي للظاهرة بجهتها الجغرافية، أو وضعيتها في "كرونولوجيا" التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. انشغالي بالظاهرة يتجه إلى تجليات ما يمكن أن أطلق عليه ثنائية "الإنسية" و"الوحشية"، أو النظام واللانظام، أو صراع "الجلافة" مع "الصقل والتهذيب والنبل وعالي القيم". أو في تجليات أخرى تشمل مختلف جوانب صراع الكيانات قبل الحداثية مع مؤسسات الدولة الحديثة.

بناء على ما تقدم، يمكن القول إن الفاشية والنازية، رغم أنهما حدثتا في إطار الحداثة الغربية، تظلان، هبتين رعويتين. فما أنجزته النازية في ألمانيا، من انجازات مبهرة في مجالات التصنيع، وبناء دولة حديثة مقتدرة، لم يمنعها من أن تقيم كل دعاويها واحتلالها لديار الغير، على نزعة عنصرية بالغة التطرف. فقد أشعلت النازية حربًا مجنونة كان بها خراب ألمانيا وكثيرًا من أجزاء أوروبا، إضافةً إلى إزهاق خمسة وأربعين مليونًا من البشر. والعنصرية النازية ليست سوى حالة قبلية، عنصرية، انبثقت من داخل بنية الحداثة.

وفي سياقٍ آخر مختلف، يمكن أن ينطبق هذا الوصف على الدولة السعودية، وغيرها من الدول الخليجية، التي أنشأت بنىً حديثة المظهر، وحياة مرفهةً استندت على ريع النفط، لكنها بقيت، رغم المظهر الحديث البراق، مقيمةً على نظامٍ قبليٍّ رعوي، وعلى عقلية لا تحب التقيد بالنظم، وعلى عقيدة الوهابية الرعوية ومفهومها بالغ البساطة للتوحيد، ما جعل كل هذا الثراء ومظاهر الحداثة غارقةً في تخلّف حقوقي وقانوني استثنائي، خاصةً في المملكة العربية السعودية. وهذا هو ما جعلها، تحصر، إلى حدٍّ كبيرٍ جًدًا، مجمل الطاقة الانسانية الخلاقة في أطر الاستجابة لدواعي المعدة والجسد والمظهر الحداثي. من هذه البنية العقلية الرعوية الوهابية ودولتها الريعية، نشأت القاعدة، ونشأت الرعوية الداعشية الأنكى، التي جعلت العالم كله يقف على أمشاط قدميه خائفًا على مصير أمنه واستقراره، بل وعلى مصير الحضارة الإنسانية برمته. ولأحوال الجزيرة العربية الراهنة والتي تمددت لتصبح بعضًا من أحوالنا نحن السودانيين، جذور تاريخية، في ما ساد الجزيرة العربية، قبل الاسلام.

أورد محمد أحمد محمود، في مجلة "العقلاني"، نقلا عن جواد علي، من كتابه "المفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام"، ج5، ص 605، أن الاستيلاء على مال الغير عنوةً لا يعد سرقةً، وإنما يعد اغتصابًا وانتهابًا، إن هو جرى داخل القبيلة. أما إذا كان الاغتصاب لمال شخصٍ من قبيلة أخرى، ليس لها حلفٌ، ولا جوارٌ، ولا عقدٌ مع قبيلة المغتصِب، فيعد مغنمًا حلالا. ولا يرى المغتصِب فيه عيبًا، بل مفخرةً لدلالته على الشجاعة. فهو أخذٌ عن قوةٍ وجدارة. ويتعين على صاحب الحق أخذ حقه بنفسه، أو بمساعدة أهله وبني عشيرته. فتعريف الحق والعدل هنا مرتبط حصرًا بالقبيلة والعشيرة، وهذه بنية قيمية مناقضةٌ تمامًا لبنية الدولة الحديثة التي تتسع فيها مظلة الحق والعدل لتشمل الجميع بمختلف أصولهم وارتباطاتهم العرقية وجهاتهم. ولا غرابة أن يكون هناك نطاح بين الدولة والقبيلة، صريحًا كان أم كتيمًا، مواجهةً كان أم لواذا. وإذا لم يجر تدخّلٌ لتغيير هذه البنية العقلية فإنها سوف توصل الدولة وبنيتها إلى عدم الفعالية، ثم إلى الانهيار، كما هو جارٍ لدينا في السودان.

أيضًا، من ظواهر الرعوية التي يمكن أن تخرج من تلافيف الحداثة، ظاهرة المرشح الرئاسي الأمريكي دونالد ترمب، الذي أيقظ بخطابه العنصري البسيط، المباشر، والصادم، بقايا بنية العقل الرعوي في الحياة الأمريكية التي لا تزال مختبئة تحت قشرة الحداثة الأمريكية. لقد ظل العقل الرعوي، أو "عقلية الكاوبوي"، مختبئةً منذ قرون تحت هذه البنية الحداثية الأضخم في العالم. فبسبب التطبيق الأعرج للديمقراطية، وانفصال النخب في أبراجها العاجية عن قواعدها، فشلت الحداثة الأمريكية في أن تخلق شعبًا مؤمنًا حقًا بقيم الديمقراطية والعدالة. واتضح مع هبة ترمب أن الشعب لا يزال يستجيب للخطب النارية، ولفرد العضلات، وللتبسيط، وكل ما تعرضه عقلية رعاة البقر من صور "العنترية"، وهي تعود لتقتحم مسرح السياسة على حين غرة. اكتسح دونالد ترمب بخطابه البسيط، وبرعونته، وبقدرته على قول ما يتجنب الآخرون قوله، كل الحواجز التي ظنت الانتلجنسيا الأمريكية أنها قد حصنت بها حضارتها من الارتداد. فخطاب ترمب المعادي للأقليات وللمهاجرين، والذي لا يرى في الدولة سوى شركة تجارية كبيرة، كانت له قوة جذبٍ كبيرة جدًا لبسطاء العقول، ومحدودي الثقافة، ممن أخرست رعويتهم قوة نظم الحداثة وقوانينها. غير أن الأحوال تبدلت، ووجدوا، فجأةً، أمامهم، شخصًا قادرًا على التفوه بما لم يكونوا يقوون على التفوه به. ومثلما خرجت النازية والفاشية من بنية ديمقراطيات أوروبا، يمكن جدًا، أن تخرج، في وقت قريبٍ جدًا، ظاهرة مشابهة لهما من البنية الأمريكية الحديثة.

ليس في الأمر "مانوية"، كما أشار د عبد الله علي إبراهيم، أو قولا بثنائيات متوازية. فالرعوية تختفي بسبب الضغوط وتكمن في داخل بنية الحداثة، كمون النار في الحجر. ومع ذلك، يمكن القول إن ثنائية "البدو" و"الحضر"، ثنائية قديمة، وهي ليست ثنائية عبثية، أو أنها ثنائية متوهمة، تكشف فقط، عن عجزٍ إداركيٍّ، وعن عدم قدرةٍ على الحفر العميق، وعلى تبيُّن مناطق التشابك والالتباس والتداخل. ثنائية "البدو" و"الحضر" ثنائيةٌ متداخلةٌ وملتبسة، فعلاً، شأنها شأن كل ثنائية، مثلما صور ذلك محمد المهدي المجذوب في رائعته "ليلة المولد"، حيث قال: "أيكون الخير في الشر انطوى، والقوى، قد خرجت من نقطةٍ هي حبلى بالعدم؟".

لا ينبغي أن يعمينا تداخل أي ثنائية عن رؤية طرفيها وتمايزهما. فثنائية "البدو" و"الحضر"، ثنائية تسببت في فرز شقيها أسبابٌ تاريخيةٌ موضوعية. والتعريض بالثنائيات، واعتبارها من تخاريف الماضي، على نحو ما يجري في بعض دوائر الأكاديميا الغربية، في بعضٍ من حذلقاتها العقلية البهلوانية، يمثل في كثيرٍ من تطبيقاته، تعريضًا في غير محله. وما أكثر ما انشغلت الأكاديميا بالقشور، وتركت اللباب. فالسودان ظل يجلس على بنية "عقل رعوي"، يكره الحداثة، ويسخر منها ومن أهلها، ويعرِّض بها، كلما وجد إلى ذلك سبيلا. هذه البنية المستهزئة بالقانون وبالنظم وبالتمدن، قمعتها الحداثة قمعًا، فاختبأت تحت السطح، تتحين الفرص. ولذلك، فهي تخرج علينا، في كل آن جديد، بصورةٍ جديدة، كلما واتتها الفرصة. لم تناقش الحداثة في السودان، بنية العقل الرعوي، ولم تنتبه له أصلا. فقد اكتفت بفرض ما تراه. لم تفعل ذلك حداثة الخديوية التي كانت المبتدأ، ولا حداثة البريطانيين الأعلى منها نسبيًا، ولا حداثة طلائع المتعلمين من آباء الاستقلال. أخافت الخديوية والاستعمار البريطاني، وكذلك المهدية، العقل الرعوي والقبلية، بقوة السلاح الناري والقدرة على القمع. وما كان للمهدية أن تفعل شيئًا، هي الأخرى، لأنها هي نفسها هبة رعوية إقليمية، قليلة المحصول من المعرفة، استهدفت عقلاً مركزيا رعويًا يعيش في الحواضر. أما حداثة الخريجين التي لبست أسمال حداثة المستعمر، فقد اكتفت ببقايا المظهر الحداثي فقط، وأعادت انتاج الرعوية والقبلية من جديد في كل ما فعلت. والشواهد على ذلك كثيرة. (راجع، يوسف محمد علي، "السودان والوحدة الوطنية الغائبة"، الفصل الثالث صفحات 32-42). ويكفي أن نذكر في هذا الصدد، أن الجنوبيين قد ُمنحوا أربع وظائف فقط، من أصل ثمانمائة وظيفة شغرت بسبب مغادرة البريطانيين والمصرين. لم تحاور الحداثة الاستعمارية، ولا حداثة الخريجين بنية العقل الرعوي السودانية، ولم تصنع لها ما يقف بينها والارتداد إلى الخلف. بل لبست حداثة الخريجين بنية العقل الرعوي، رغم البدلة وربطة العنق والغليون والطربوش، وسارت في إدارة القطر وتقسيم مغانم المال العام، سيرة الرعاة، إلى يومنا هذا.

نشرت بصحيفة التيار السودانية - الأربعاء 28 سبتمبر 2016



((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


الإخوة والأخوات الأعزاء

هذه مقالة صدرت لي في العدد الثالث من مجلة "الحداثة السودانية" التي يشرف على تحريرها شمس الدين ضو البيت ومحفوظ بشرى.
أردت أن أعرضها هنا ضمن ما أعرض مما أنشره في صحيفة التيار كل أسبوع تقريبا.

وهم الصعود إلى الحداثة بغير رافعة


قضية الحداثة في السودان، وما أجرؤ أن أزعم أنه فشلٌ متصلُ الحلقات في اكتساب قيمها، واحدٌ من أهم الأمور التي تقتضي بحثًا متمهلاً معمقًا. ولقد سبق لي أن تعرضت، في بعض بحوثي المنشورة لهذه القضية، زاعمًا أن الحداثة لا تزال غريبة عن السياق السوداني الراهن. فالقدر السطحي، الذي تحقق لنا من قيمها لم يكن سوى مسحة ظاهرية، سرعان ما انطفأ بريقها، عقب خروج المستعمر، لنعود مرتدين إلى حيث كنا. ولقد سبق أن جعل الأستاذ محمود محمد طه من حالة العجز عن النهضة الحضارية، حالة عامة، ليست حصرًا على السودان وحده، وإنما حالة يعاني منها سائر المسلمين. وفي هذا الصدد، وصف الأستاذ محمود المسلمين بأنهم يعيشون على قشورٍ من الحضارة الغربية، وعلى قشورٍ من الإسلام.

تمثل الحداثة التي أصبنا طرفا منها، خاصة في الفترة ما بين عشرينات وخمسينات القرن الماضي هذه الحالة التي وصفها الأستاذ محمود؛ أي ما يمكن أن نصفه بأنه: حداثة المظهر لدى قطاعٍ محدودٍ تَمَثَّلَ في الأفندي لابس البدلة وربطة العنق والطربوش، منفوش الريش، الذي يعض على غليونه في زهوٍ. أما رأس ووجدان ذلك الأفندي فلا يختلفان كثيرًا عن رأس ووجدان أي فقيهٍ حشوي متزمت. وتبلغ هذه الحالة أوج صور الكوميديا السوداء، حين يرتد من أمضى عمره علمانيًا، وربما ملحدًا، فيصبح في خريف عمره حوارًا لشيخِ طريقةٍ ما. بعبارات أخر، يمكن القول إن الحداثة التي علت راياتها في الحياة السودانية المدينية بين عشرينات وخمسينات القرن الماضي، كانت حالةً عارضةً، تسببت فيها القوة الأجنبية، التي جلبتها وفرضتها على أهل البلاد، وحرستها بقوة الحديد والنار. وحين غادرت تلك القوة، أخذت معها حداثتها المجلوبة تلك. ومن ثم بدأ التراجع المتنامي عن قيم الحداثة إلى أن بلغنا الحالة التي نحن عليها الآن. فالحداثة تحتاج بنية محلية تسند عليها لتبقى.

أبلغ دليلٍ عندي، على خروج الحداثة من البلاد مع من جلبوها، الانهيار المتوالي الذي أصاب أجهزة الدولة ومؤسساتها وأصاب عقل ووجدان الإنسان السوداني، وكل ما يعكسه هذا المسلسل المتصل من الارتداد إلى ما يشبه أحوال الرعاة البدائيين. ولا شك عندي أن ما حدث، ولا يزال يحدث في السودان، من تنصل من قيم الحداثة أمر لا شبيه له في أي مكان آخر في عالم اليوم. وقد بلغ هذا التراجع في عهد الإنقاذ الحالي مدىً يفوق الوصف. والسبب في وصولنا إلى هذا الدرك السحيق، هو اجتماع العقل الفقهي والسلطة السياسية في يدٍ واحدة. فهذا الخراب المريع الذي نشهده اليوم ليس سوى الثمار المرة للبذرة التي بذرتها الخديوية في السودان، منذ بداية القرن التاسع عشر، ولم تأت أكلها كاملا إلا على يد الإنقاذيين الحاليين.

دخل السودان نطاق التحديث في فترة الحكم الخديوي المصري التركي، أيام محمد علي باشا. غير أن التحديث في تلك الفترة لم يمس الأفراد كثيرًا، وإنما مس بنية الدولة التي تطورت، من حيث النظام الإداري الديواني، من الحالة السنارية، إلى حالة أقرب إلى الحداثة. وما يجعل تلك الحقبة أدخل في نطاق الحداثة، رغم استبدادها وبطشها، قضاؤها على البنيات القبلية، وعلى الجهوية، وإدارة الدولة مركزيًا عبر مؤسسات ديوانية. يضاف إلى ذلك تحديثها للبنى التحتية، بما تسمح به امكانات تلك الفترة، وبما تسمح به الأغراض الاستعمارية التي، بطبيعتها، تجعل للتطوير سقفًا محدودًا. فَغرض المستعمر؛ أي مستعمر، هو استدامة استعماره. وقد انطبق هذا الوضع على الاستعمار البريطاني أيضا، إذ حصر أغراض التعليم في تخريج موظفين صغار. غير أن الاستعمار البريطاني دفع بعملية التحديث في السودان في ما يتعلق بالبنى التحتية والنظام القانوني والإداري دفعة كبيرة، لا تقارن بما فعله الاستعمار التركي، وبطبيعة الحال، فإن لحكم الوقت في ذلك يد.

رغم دعاوى المؤرخين المصرين بأن الحكم الخديوي إنما جاء لينهض بالسودانيين، إلا أنه كان نظامًا استغلاليًا صرفًا، حصر أهدافه في استنزاف موارد البلاد، ولم يُعْنَ بتطوير الإنسان السوداني إلا في إطار ما يخدم مصالحه. ومن ذلك، حصره التعليم في نطاق التعليم الديني الأزهري من أجل استتباع السودانيين عقليًا، بإيهامهم أنهم إنما يتبعون لمركزيةٍ إسلاميةٍ، تجب عليهم طاعتها. وهذا ما من أجله أرسل محمد علي باشا ثلاثة فقهاء مع حملة فتح السودان.

نجح الحكم الخديوي في استتباع العقل السوداني للعقل الخديوي المصري، نجاحًا كبيرًا. فإنكارنا لجذرنا الكوشي، وروحنا الإفريقية، بل ولتصوفنا، والحاقنا أنفسنا طواعيةً بمنظومة المشرق العربي، سواء باعتناق طروحات القومية العربية، أو طروحات الإخوان المسلمين، أو الوهابية، إنما يعود إلى تلك البذرة التي ألقتها الخديوية في أرض السودان عن طري الفقه الأزهري التابع للسلطة، قبل ما يقارب القرنين من الزمان. فأخطر ما قامت به الخديوية في السودان، وأصبح له سود العواقب على مستقبله، هو طمسها الوعي بالذات السودانية الكوشية المتميزة وسط السودانيين، وقضاؤها على مواريث التصوف السوداني المنفتحة على التحديث والتطور، والحاق التصوف والمتصوفة بمنظومة الفقه المنغلقة التابعة له، الداعمة لاستبداده.

لو بقي التصوف على ما كان عليه لدى أكابر المتصوفة في الحقبة السنارية، لربما تطور ليصبح أرضية أكثر صلاحًا لاستنبات الحداثة. غير أن إقصاء التصوف واستتباع بقاعه وشيوخه للدولة بمغريات الأراضي والأموال، من جهة، (راجع: أبو سليم: بحوث في تاريخ السودان)، ومنح المؤسسة الفقهية الرسمية، الكلمة العليا، من الجهة الأخرى، هيأ المناخ لاستدامة الاستبداد، وهيأ التربة السودانية لقبول ظاهرة الإخوان المسلمين، في ما بعد، تحت ظل الشعار الخادع المخاتل المتمثل في "الحاكمية الإلهية". ولا حاجة بي إلى القول إن هذا الفقه السني المدرسي الحشوي، هو السبب الذي أقعد الامبراطورية العثمانية نفسها التي حضنت كل أطواره ورعتها، فجعل من تركيا رجل أوروبا المريض، حتى لفظت الخلافة فيها أنفاسها الأخيرة. وهكذا جاءت الكمالية لتتجه بتركيا وجهةً غربيةً خالصةً، إلا قليلا.

لقد خرجت الثورة المهدية في السودان من عباءة التصوف، وحاربت الاستعمار الخديوي المصري التركي وانتصرت عليه نصرًا مؤزرا. غير أنها انتهت إلى حالةٍ قبليةٍ استبداديةٍ، ثم ما لبثت أن تحولت إلى فوضى عارمة. وهكذا كانت الخلاصة ارتدادًا عن ما كسبته البلاد من قيم الحداثة المحدودة التي تحققت لها في ظل الحكم الخديوي. فالإمام المهدي لم يكن مصلحًا دينيًا حقيقيًا، ولذلك ارتد بادعائه المهدية، وزعمه أنه صاحب الكلمة الخاتمة، من سعة التصوف، إلى تزمت الفقه، ولكن في قالب آخر. لم يدرك الإمام المهدي امتزاج التصوف بسمات البلاد السودانية الكوشية الإفريقية الإسلامية، وقبولها اللامحدود للتنوع، فسعى إلى إلباس البلاد، قسرًا، جبَّةً حسيةً ومعنويةً واحدةً.

كره السودانيون المهدية، أكثر مما كرهوا الحكم الخديوي، على شدة بطشه وتعنته. بل وبلغوا في نهايات الحكم المهدوي أن تعاونوا مع الغازي الأجنبي ليلخصهم منه، بعد أن استحال إلى نظامٍ بالغ الفظاعة. وقد مثّل ذلك التعاون السوداني، من جانب نخب الشمال والوسط، مع المستعمر ليغزو البلاد، ضربة البداية في مسلسل التنصل من "الثوابت الوطنية". فمنذ تلك اللحظة أصبحت منظومة القيم الوطنية غارقةً في رمالٍ متحركةٍ. وهذا هو ما جعل قوى المعارضة في قطرنا منذ حقبة جعفر نميري، وإلى اليوم، ضيفةً دائمةً لدى دول الجوار الإقليمي.

الحداثة في جوهرها منظومةٌ من القيم المتكاملة، وليست مجرد بنىً تحتيةٍ حديثة. فالسعودية، وغيرها من دول الخليج تملك بنىً تحتيةً متقدمةً نسبيًا، ولكنها ليست دولاً حديثة. فالحداثة حالة من التمازج المتبادل بين الفكر والعمل في الواقع. فهي ارتفاع بمعيشة الفرد وبعقله ووجدانه، أيضا. أيضًا، الحداثة فكرٌ نقدي يتفاعل في بيئة غير مقيدة، كما أنها أدبٌ وفنٌ رفيعان، وبنى تحتية متقدمة، ونظام سياسي وإداري وقضائي ديمقراطي. فالبنى التحتية المتقدمة والنظام الإداري المنضبط، والنظام الديمقراطي الذي يكفل المبادرة والتعبير الحر، والنظام القضائي الذي يحفظ حقوق الجميع، تعمل مجتمعةً، في تضافر، على دفع الفكر وسائر ضروب التعبير الأدبي والفني، وسائر سمات الرقي الوجداني، وسائر صور البنى التحتية، من سمتٍ رفيع إلى سمتٍ أعلى، باستمرار. وكلما تعثرت الحداثة، أو حدث تراجع عنها، فإن مرد ذلك يعود إلى خللٍ في البنية العقلية وفي مقومات الثقافة الحية في البيئة الحاضنة.

كان الظن في السودان أن تخرج المدينة من جحرها، عقب خروج المستعمر، لتقوم بواجبها في تمدين الريف. غير أن العكس حدث، بسبب رعوية عقلية الحاكمين، وسياساتهم الخاطئة، وتناحرهم على المناصب والوجاهة والمغانم الشخصية. فقد زحف الريف على مدن السودان وأفقدها القليل الذي اكتسبته من مظاهر الحداثة. فالمشكلة السودانية، في ما أرى، تكمن في العقل السوداني، وفي الثقافة السودانية السائدة. فتغيير هذا العقل وهذه الثقافة هو الرافعة التي من دونها لن يدخل القطر السوداني دائرة الحداثة، مهما حاولنا. بل على العكس من ذلك تمامًا، فلسوف يتراجع السودان، باستمرار، إلى أن يتحول، في نهاية المطاف، إلى كانتوناتٍ قبليةٍ متشرذمةٍ متناحرة. وهذه نهاية حزينة بدأت ملامحها تبدو جلية، غاية الجلاء، في ما يجري الآن.

لقد ظللنا نتراجع من التدين المديني الممعنن (من كلمة معنى)، إلى التدين الرعوي المظهري الشكلاني. والتدين المديني الممعنن هو الروحانية. وليس هناك تطابق بين الروحانية وما تؤديه المؤسسات الدينية الرسمية، أو المستتبعة للحاكم. بل هما ظلا نقيض الروحانية في كل مراحل تطور الحياة البشرية. فالذين وقفوا وراء دعوة عيسى المسيح هم الفريسيوين، فقهاء الشريعة الموسوية. والذين قتلوا علماء العلوم الطبيعية وأحرقوهم بسبب اكتشافاتهم، هم رجال الكنيسة. وعلة التدين المظهري، الذي تمثل الوهابية، اليوم، أعلى تجلياته، تديُّنٌ لا يُعنى بالمعاني ولا بالقيم، وإنما يُعنى بالمظهر. فهو تديّنٌ ضحل، لا يهتم بالقيم الانسانية المتميدنة المتحققة في ذات الفرد، وإنما يهتم بالمظهر الذي يمنح هذا النمط من المتدينين، سلطةً ووصايةً على الآخرين، في الوقت الذي تكون فيه داوخلهم مجرد خرائب تنعب فيها البوم والغربان.

أيضا يمثل التدين الشكلاني انصرافًا عن التفكير في عمليات البناء المجتمعي الحديثة، وفق نهج السياسات المحكمة والضوابط المؤسسية، وحكم القانون، والافساح للعقول لتعبر عن رؤاها وتتجادل، ديمقراطيًا، حول أفضل طرق البناء الاقتصادي والاجتماعي. يصرف التدين الشكلاني الناس من جوهر عمليات البناء ويستعيض عن ذلك بتمليك الفرد، عبر المواعظ الفجة، قائمةً Check List، بالممنوعات والمباحات، لا أكثر، فيغرق فيها. بل، ويسعى، بكل حماس، إلى إغراق الآخرين فيها بهمةٍ ونشاطٍ يُحسد عليهما. وهكذا يصبح التدين الشكلاني، لدى من يصاب بدائه العضال، عصابًا لا شفاء منه، وانحباسا في قمقمٍ ليس لنور العقل والعقلانية إليه من سبيل. يغيب كل شيءٍ ذو معنى عن المشهد لدى هؤلاء، ويصبح هدم القباب والأضرحة، وتسوية القبور بالأرض، وإلباس النساء البراقع، قضايا مركزية بالغة الإلحاح والأولوية.

تمثل الانقاذ واحدة من تجليات هذا العصاب الذي انتهى بالدعاة إلى مجرد تجارٍ جشعين، بل ومرابين، وسارقين من الطراز الأول، للمال العام. ومع هذه المفارقة الفادحة، يبقى التدين الشكلاني قادرًا على أن يمنح صاحبه قدرةً عجيبةً على انكار مثل هذه المفارقات، وعلى التصالح مع الذات، رغم كل هذا الحصاد المر. فمجرد ترديد المُصاب بهذا الداء العضال لشعاراتٍ دينيةٍ جوفاء، وأدائه الفروض، وتمظهره بمظهر الدين، وتشدقه بالحرص عليه وعلى حمايته، تمنحه إحساسًا زائفا بأنه على السراط المستقيم، وبأن كل من عداه على ضلال مبين. وحين تصل مثل هذه الفئة إلى السلطة وتمسك بمفاصل الدولة وبأذرعها التعليمية والإعلامية يستشرى داء التدين الشكلاني كما يستشري الفطر في البرية. وهذا هو ما عليه حال السودان اليوم. تتراجع العقول والفهوم، ويتراجع الوجدان الجمعي، ويتراجع الذوق العام السليم، وتتراجع الثقافة، وينحدر التعبير الفني، في سائر شكوله، ويتدنى الحس المتمدين، وتطفح الجلافة، ويهوِي كل شيءٍ إلى مهوىً سحيقٍ ليس له من قرار.

قال المفكر العراقي الراحل، هادي العلوي، إنه أيقن، بعد تجربة طويلة في العمل الثوري الماركسي، أن الجماهير في دولٍ مثل العراق ومثيلاتها، لا يمكن أن تتحرك بالفكر المترجم. وتلك عبارةٌ جامعةٌ مانعة، يمكن أن نرفعها في وجه من يظنون أن الطريق إلى التحديث يمكن ألا يمر بمحطة الإصلاح الديني. فهؤلاء يتجاهلون حقيقة أن الرافعة الحقيقية، في المجتمعات التقليدية، لجهود الصعود نحو الحداثة، هي الإصلاح الديني. وهذا ما جرى بالفعل في أوروبا، في فجر نهضتها، ولن تكون مجتمعاتنا بدعًا من الأمر في هذه السيرورة. فلا بد أن نمر بمحطة الإصلاح الديني، لنخرج من أطر الفكر الديني المنغلق، ونصعد، من ثم، إلى رحاب الحداثة. فلو لا مارتن لوثر وجون كالڤن، ما انفتح الطريق أمام أوروبا لتنهض. فالعقل المكبل بالدين لن يتم تحريره إلا عن طريق الدين نفسه، ولكن بعد إخراج التدين من حالة الجمود إلى حالة السيولة، ومن حيِّز الدوغما إلى حيِّز الجدل. فالتحدي الي يواجهنا ليس إخراج الدين من حياة الناس، كما يظن البعض، وإنما هو إعادة الروحانية إلى التدين بعد أن جرى فصلها عنه بواسطة الإكليروس اليهودي والمسيحي والإسلامي. وهذا حديثٌ يطول شرحه ولا يتسع له هذا المقام.

أمضى الأستاذ محمود محمد طه ما يقارب الأربعة عقود من الزمان يدعو إلى الاصلاح الديني، وانتهى به الأمر إلى الوقوف على منصة الإعدام في عام 1985. وما جرى للأستاذ محمود هو عين ما جرى لمن نهضوا في مواجهة الجمود الديني في كل العصور. إلى جانب طرحه فكرته العبقرية، المتمثلة في التفريق بين أصول القرآن وفروعه، ودعوته إلى تطوير التشريع الاسلامي، اهتم الأستاذ محمود بتربية تلاميذه وترشيدهم، وتمليكهم ميزانا أخلاقيا صارمًا، يزنون به أفعالهم. ولقد هدف الأستاذ محمود بذلك إلى خلق طليعة قادرة على تستولد غيرها في مجتمعها، فيتشكل قطاعٌ كبيرٌ من الرواد والقادة، قادرٌ على النهوض بأعباء التغيير دون انحراف. وهذا هو عين ما فشل فيه حسن الترابي، فشلا ذريعًا، بتغليبه الحركية على الروحانية الحقيقية والتربية، وبالعجلة على احراز السلطة، متجاهلا الحكمة القديمة التي تقول إن السلطة هي أكبر مُفسدٍ للأفراد.

كتب الأستاذ محمود في بداية سبعينات القرن الماضي، كتابًا أسماه "الثورة الثقافية"، دعا فيه إلى الثورة الفكرية، والثورة الثقافية. في ذلك الكتاب عرَّف الثورة الثقافية بأنها التقاء الفكر الثائر بالواقع. وقال إن الثورة الفكرية في السودان لا تزال متخلفةً تخلفًا مزريا. وما من شك، أن الثورة الفكرية في السودان، اليوم، أكثر تخلُّفًا مما كانت عليه في بداية سبعينات القرن الماضي، حين أخرج كتابه "الثورة الثقافية". فالحالة السودانية، التي تعاني من الانغلاق المستحكم الذي نشهده اليوم، حيث لا فرق بين الحكومة وبين من يعارضونها، حالة لا يخرجنا منها الفعل السياسي وحده، وإنما يخرجنا منها الفعل الفكري والثقافي اللذين يهديان الفعل السياسي بقبسٍ روحانيّ أخلاقي مشع. وبوابة هذين الفعلين، تتمثل في تكثيف جهود الاصلاح الديني، ومواجهة حالة الجمود الديني.

لقد كان الأستاذ محمود محمد طه أعمق رواد الحداثة السودانية طرحًا، وأجلاهم بصرا. وأهم ما قدمه في هذا الباب هو نموذج المثقف الصارم، غير القابل للإغراء ولا للتخويف. غير أن ملابسات كثيرة اكتنفت دعوته في الأربعين عامًا التي أمضاها وهو يدعو لها. وفي تقديري أن على تلاميذه ومحبيه وسائر المثقفين أن يخلِّصوا جوهر دعوته ورؤيته من الملابسات الظريفة التي اكتنفتها، وينفذوا إلى جوهرها، لا لتكون رصاصةً فضيةً منوطٌ بها حسم كل إشكال، وإنما لتكون أساسًا لجدلٍ دينيٍّ منتج به ينفك العقل السوداني من ربقة النقل والجمود والشكلانية الدينية المظهرية، فينفتح الباب أمام الثورة الفكرية، ثم الثورة الثقافية. فحالة التحلل التي أصابت الذات السودانية، والنكوص المستمر عن قيم الحداثة، وأوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن، حالةٌ لا مخرج منها الثورة الفكرية العارمة التي تعيد تشكيل الرؤية والأخلاق معا. وهذه ثورة بوابتها الإصلاح الديني.

في السنوات الأخيرة من عمر حركته كان الأستاذ محمود محمد طه يردد، بكثرة، بيتي ابن الفارض القائلين:
وعن مذهبي، لما استحبّوا العمى على الهدى، حسدًا من عند أنفسهم، ضلّوا
فهم في السُّرى، لم يبرحوا من مكانهم، وما ظعنوا في السير عنه، وقد كلّوا

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »



في تشريح العقل الرعوي
(2)

يرى بعض الأكاديميين المعاصرين أن آراء بن خلدون في ما يتعلق بـ "البدو" و"الحضر"، قد عفا عليها الدهر، وهذا ليس صحيحًا، تمامًا. فابن خلدون لا يزال نافعًا في ما نحن بصدده، من صراع القيم القبلية الرعوية مع العقل والعقلانية، ومع بنية الدولة الحديثة، ونظمها، وقيمها. كان ابن خلدون، رائدًا فذًا في تشريح الأحوال الاجتماعية العربية. وهو لا يزال صالحًا حتى اليوم، لأن البيئات العربية لم تتغير كثيرًا، منذ عصره، رغم مظاهر الحداثة المظهرية التي لحقت بها. فقد فهم ابن خلدون طبيعة هذه البيئات العربية، أكثر مما فهمها الباحثون الغربيون الذين يجعلون من القوالب التي يعالجون بها مجتمعاتهم الغربية معيارَا عامًا لكل المجتمعات البشرية. ومن كبرى إشكالات بعض الأكاديميين والمثقفين العرب، أنهم لم ينفكوا منذ ما سمي بفجر النهضة العربية، ينظرون إلى واقعهم العربي بمنظارٍ غربي. قال هادي العلوي، إن الواقع العربي لن يُفهم، ولن يتغير بالفكر المترجم.

ليس المطلوب، في نظري، نفي، أو محو، ابن خلدون، ودمغ رؤيته بأنها من مخلفات التاريخ، وإنما المطلوب هو إعادة انتاج طروحاته، بعد تعميقها، وتوسيعها، واستلال دلالاتها الجديدة التي لا تزال، واضحة جدًا، في سياق الحاضر. فالواقع العربي المعاصر لا يزال واقعًا قبليًا، لم تغيّر الحداثة المظهرية بناه العقلية. ومن ينظر إلى الأحوال السياسية العربية الراهنة، والاضطرابات التي تكتنف كثيرًا من الأقطار العربية، ومن يتأمل سيطرة عقلية القبيلة على مجريات السياسة، واختطاف العقل الرعوي منظومة الدين، برمتها، وتحويلها إلى عكسها تمامًا، تظهر له الاشكالية. ومن ينظر إلى تعثر انجاز التحول الديمقراطي، وبناء الدولة الحديثة، يعرف أن هذا الفضاء الجغرافي العربي، لا يزال يحمل من قيود التاريخ وأثقاله، أكثر مما يحمل من سمات الحاضر. ويجعل كل ذلك ابن خلدون صالحًا لزماننا، إلى حدٍّ كبير.

الرعي نشاط سابق للاستقرار وللزراعة. فالراعي يتجه حيث يوجد المرعى، وحيث تهطل الأمطار. هذه الحياة المتنقلة، بحثًا عن تأمينٍ ضروريات الحياة، اقتضت قوةً البأس، وشكَّ السلاح. كما اقتضت ثقافةً قتاليةً، وقدرةً عمليةً على وضع اليد على حيازات الأرض، والدفاع عنها، كلما اقتضى الأمر. ومع تنقل الرعاة تصبح هذه الحيازات غير واضحة المعالم. وقد يتعدى تنقل الرعاة لتأمين ضروريات حياتهم، مجرد السبق إلى المرعي الأفضل، ووضع اليد عليه، ليبلغ درجة سلبِ ما لدى الغير، أصلا، من مرعى، أو فرض المشاركة فيه، بقوة البأس. ولا نزال في السودان نرى، إلى يومنا هذا، كيف أن المراعي والتنقل طلبًا للمرعي هي السبب الرئيس في الصدامات العنيفة التي لا تنفك تنشب بين القبائل. كما شاهدنا على مدى العقودٍ القليلة الماضية، انتقال القبائل من استخدام الحصان، والسيف، والحربة، وبندقيات جيم 3، والكلاشنكوف، إلى اقتناء سيارات "التاتشر" ذات الدفع الرباعي، ومدافع آر بي جي، ومدافع "الدوشكا" المثبتة على رؤوس هذا النوع من السيارات. يقتضي نمط الحياة الرعوية، منظومةً قيميةً قتالية، تتمحور حول العصبية. كما يقتضي ثقافةً مرتكزها تأمين متطلبات البقاء، بالقوة الباطشة. ومثل هذه الثقافة لا تمثل العدالة وحكم القانون ومراعاة النظم سماتٍ رئيسية فيها.

لو راجعنا ثقافة القبيلة في الأدب العربي لتبينت لنا، بجلاء، هذه السمات التي أتحدث عنها، وهي ذات السمات التي أشبعها ابن خلدون حديثًا. لقد عارضت الثقافة الرعوية العربية ومنظومتها القيمية، الدعوة الإسلامية في مبتدئها، أشد المعارضة. رأت الثقافة الرعوية في الدين الجديد تقويضًا لها من أساسها. وبالفعل، فقد جاء الإسلام بما يناقض قيمها، كما عمل بالفعل على إبدال قيمها، وثقافتها، بمنظومةٍ قيميةٍ، وثقافيةٍ أرقى، وأعلى، منها في سلم التطور. وقد أنجز الإسلام ذلك بالفعل، ولكن بعد جهدٍ جهيد، إذ حمل السيف في وجوههم، وكسر شوكتهم. بل، إن قيم القبيلة ما لبثت، مع اندلاع الفتنة الكبرى، أن التفّت، من جديد، على جوهر الدعوة الإسلامية، وأفرغتها من محتواها الحقيقي، وحولت دولة الحق والعدل، في وقتٍ وجيزٍ، إلى ملك عضوض.

يروي طه حسين قصة قريش والتفافها على الدين الجديد، في كتابه، "الفتنة الكبرى"، الذي، لم يُقرأ بعد، بما يستحقه من التمعُّن الفاحص. يقول طه حسين، إن قريشًا لم تكن قبيلةً محاربةً، ولم تكن أقوى قبائل العرب. لكنها، استفادت من سدانة البيت، ما منحها ارستقراطية على بقية العرب. كما منحتها التجارة، وهو الأهم، التجربة والخبرة والدربة، والمكر وسعة الحيلة. يرى طه حسين، أن وضعية قريش المتميزة التي منحتها لها سدانة البيت، مخضت فيها بُعد الهمة، وامتداد أسباب الطمع، إلى غير حد، والصبر على المكروه، حتى تظهر عليه. كما دفعتها هذه الوضعية، إلى ما هو أشد من ذلك خطراً؛ وهو ازدراء القيم المقررة، والاستهزاء بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، واستباحة كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة. كما منحتها، أيضًا، سعة الحيلة التي أتاحت لها أن تظهر أمينةً على الدين، في حين أنها ليست من الدين في شيء. (طه حسين، الفتنة الكبرى، (ط9)، دار المعارف بمصر، 1976، ص 81).

يرى طه حسين، أن قريشًا كانت تنظر إلى الدين وسدانة البيت كوسيلةٍ، وليس كغاية. وتنظر إلى الأوثان، التي تحرسها، كوسيلةٍ إلى كسب الرزق، وبسط السلطان، لا أكثر. ويصف طه حسين السيِّدَ من قريش بأنه: "شديد الطمع، بعيد الهم، عظيم المكر، داهية". ويرى طه حسين أن عمرًا بن الخطاب عرف كل هذا في قريش، فلم تستطع أن تخدعه عن حقيقة أمرها، حتى بعد أن أسلمت. فإذعانها للإسلام كان دهاءً منها، لا أكثر. فهي قد أحنت رأسها لعاصفة الإسلام، حتى تستطيع أن تستجمع قواها، بعد أن خسرت معه مواجهاتها العسكرية. لذلك، لم يغير عمر بن الخطاب رأيه فيها، إذ: "لم يلن لها، ولم يرفق بها، ولم يخل بينها وبين طمعها الشديد، وهمها البعيد، واعتدادها بنفسها، وازدرائها لغيرها من الناس". (المصدر السابق، نفسه).

سيطرت قريش على حركة القوافل بين الهند والإمبراطورية الرومانية، وبين الشام واليمن، وبين الجزيرة العربية والهضبة الحبشية. غير أن قريشًا التي سكنت الحاضرة، ظلت تعيش بعقلية القبيلة الرعوية، وبقيمها. ويجعلنا هذا، نقول بأن نمط الاقتصاد الأجد، لا يغير وحده، بالضرورة، ما ينسرب من قيم الاقتصاد الأقدم إلى البنية الاقتصادية الأحدث. فالتغيير ربما اقتضى عملاً من نوع آخر. وهذا هو ما حاوله الإسلام مع قريش؛ بالموعظة الحسنة حينًا، وبالشدة الشديدة، حينًا آخر.

لقد هجا الإسلام البنية العقلية الرعوية لأعراب الجزيرة العربية، أشد الهجاء. جاء في القرآن الكريم: "الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم". (الآية 100، سورة التوبة). المدهش، أن سورة التوبة كانت آخر سور القرآن نزولاً، فقد نزلت في العام التاسع الهجري؛ أي قبل سنتين من وفاة النبي. وفي هذا دلالةٌ على أن الأعراب، بعد كل المعارك والهزائم، وبعد كل ما رأوه من مزايا القيم الإسلامية، وبعد مرور ما يقارب ربع القرن على بداية الدعوة، ظلوا على الكفر والنفاق، كما وصفهم القرآن. وبطبيعة الحال، استثنى القرآن أعرابًا آخرين من هذا الهجاء، حيث ورد: "وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ"، (الآية 99، سورة التوبة).

جاء الإسلام نقيضًا للبنية العقلية والوجدانية، التي كانت سائدة في الجزيرة العربية. وغالب ما كان سائدًا في جزيرة العرب هو ثقافة البغي والقهر والغلبة. ومعلومٌ أن من سمات العقل الرعوي وثقافته، تمجيد القوة، والفتون بها بلا حدود، والفخر بالمنعة، بل والسطو على ما في يد الآخرين. وقد سبق أن أوردت في المقالة السابقة ما أورده المؤرخ جواد علي، حيث قال: في كتابه "المفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام"، أن الاغتصاب لمال شخصٍ من قبيلة أخرى، ليس لها حلفٌ، ولا جوارٌ، ولا عقدٌ مع قبيلة المغتصِب، يعد مغنمًا حلالا. (ج5، ص 605). وربما ينبغي القول هنا، إن هذه البنية العقلية والوجدانية، ليست حصرًا على العرب. فهناك ما يماثلها في تاريخ مختلف المجتمعات. إنها بنية صنعتها غريزة البقاء في ظل مرحلة تاريخية بعينها، وهي ليست معيبة في ذاتها، شأن كل مرحلةٍ من مراحل التاريخ. غير أن هذه العقلية تصبح معيبةً، حين تمسك بخناق الطور الأعلى منها في سلم التطور، فتستميت في جره إلى الأرض. وهذا ما يجري لدينا الآن في السودان، على قدمٍ وساق. وهو ما يقف تحديدًا وراء كتابة هذه المقالات.

يقول العرب" حين لا يجدون من يغزونه، أو يختلقون سببًا لغزوه: "وأحيانًا على بكرٍ أخينا، إذا ما لم نجد إلا أخانا". ويقولون: "قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا، لا يسألون أخاهَم حين يندبهم في النائباتِ على ما قال برهانا". ومن حِكَمِهم التي جرت على لسان زهير: "ومن لم يَذُدْ عن حوضه بسلاحه يُهدَّم، ومن لا يظلم الناسَ يُظلم". هذه البنية العقلية هي التي وقفت وراء حروب داحس والغبراء الطويلة في الجزيرة العربية، وقفت وراء حرب البسوس، وغيرهما مما لم يذكره التاريخ من حروب العرب المتصلة. وفي أدبنا الشعبي السوداني، ما هو متجذرٌ في تاريخ الجزيرة العربية، وهو شبيهٌ جدًا بما لدى قبائل الجزيرة العربية الرعوية.

تقول شاعرة القبيلة عندنا: "صارِّي عينو بلا وقيعة، وشايلْ حقُّو بلا شريعة، أخُويْ روحو مسبِّلا". وتقول أمٌ في هجاء ابنها، الذي انشغل بدراسة القرآن، عن الحرب والقتال: "لمتين يا حسين سيفك معلَّقْ، لا حسين كَتَلْ، لا حسين مفلّقْ". وفي تاريخنا السوداني القريب، وقفت هذه البنية العقلية وراء حرب الكبابيش من جهة، وبني جرار والمسبعات، من الجهة الأخرى. كما وقفت وراء حرب الشكرية مع البطاحين، وحرب الشكرية مع الحلاوين، وحرب الحلاوين مع الدباسيين، والجموعية والكواهلة مع الخوالدة، وغير ذلك من الحروب الكثيرة المماثلة. ولقد كان القرن الأخير من حقبة الحكم السناري، سلسلة متواصلة من الحروب القبلية.

في مثل هذه البيئات، قد تنشأ الحرب، بالإضافة إلى النزاع حول المرعى، بسبب أمورٍ تافهة، كسرقةِ بهيمةٍ، مثلاً، أو بسبب ثأر لمقتل فرد واحدٍ، يموت في محاولة أخذا ثأره العشرات، وربما المئات، والآلاف. أما في وقتنا الحالي فإن حروب القبائل في دارفور لا تكاد تتوقف أبدا. ولم تخلُ باديةٌ من البوادي العربية من احترافٍ لقطع الطريق و"الهمبتة". ولا تزال "الهمبتة" لدينا نشاطًا محمودًا يُعتد ويُفخر به. نحن، في تقديري، لسنا منتبهين، بما يكفي إلى بقاء هذه القيم السالبة في بنية وعينا، وانتقالها من مرحلة البداوة والقبلية، إلى مرحلة الدولة الحديثة، وامساكها بخناقها، حتى عطلت حركتها، أو كادت.
الذين يضرسون، من تسمية "العقل الرعوي"، ربما احتاجوا أن يتريثوا، فلا يندفعوا إلى الدفاع بحمِيَّة القبلية. فهذا النوع من الاندفاع يمثل واحدًة من تجليات العقل الرعوي، المتحفز، الذي لا يفكر صاحبه مرتين، قبل أن يَخِفَّ إلى سلاحه ليشهره في وجه الآخر. فتعبير "العقل الرعوي" ليس "للتريقة"، على الرعاة، أو التقليل من شأنهم، أو النظر إليهم من علٍ، أو دمغهم بالنقائص، وإنما هو إشارة إلى منظومةٍ قيميةٍ ارتبطت بنشاطٍ اقتصادي بعينه، وأسلوب حياةٍ بعينها. فالمصطلح لا يشير إلى قبيلةٍ بعينها، ولا إلى مجموعةٍ بشريةٍ بعينها، وإنما يشير إلى منظومةٍ قيميةٍ شكلتها ظروف تاريخية. وهذه الظروف التاريخية، لم تكن لتسمح لها بأن تتشكل على غير تلك الصورة. فمنظومة القيم الرعوية تشكَّلت، وفق الظرف التاريخي، والمعطيات، والسياق الذي أحاط بها.

ما من شك، أن غريزة البقاء تأتي قبل كل قيمةٍ أخرى. وكل قيمة أخرى تتناقض مع هَمِّ البقاء تسقط تلقائيًا، فغريزة البقاء هي المحرك القاعدي لأفعال الناس، ولأفعال القبائل. العائلة، والعشيرة، والقبيلة، تمثّل مظلة الحماية الرئيسة للأفراد. ونظير تقديم العائلة والعشيرة والقبيلة الحماية للفرد، ينبغي على الفرد أن يتماهى، كليًا، مع منظومة القيم التي ترعاها هذه الكيانات. فعقل الأسرة والعشيرة والقبيلة، في الاقتصادات قبل الحداثية، عقلٌ جمعيِّ مسيطر، لا يقبل نشوز الأفراد، ولا استقلالهم بالرأي، ولا تمتعهم بحرية الفعل، ولا يتسامح مع ذلك اطلاقًا. فانسجام الفرد مع منظومة القيم التي ترعاها القبيلة، حتى لو كانت قيم سلب ونهب وتعدي على ما في أيدي الغير، تمثل، لدى كيان القبيلة، القيمة التي ينبغي أن يرعاها الفرد، وألا يناقشها. ومن يتجرأ ليناقشها، يجري اتهامه بمختلف التهم، ويجري تخوينه، ولفظه والتبرؤ منه. وأرجو أن نلاحظ وجود هذه العقلية الرعوية في تنظيماتنا، حتى الحديثة منها؛ كالحزب الشيوعي، ومجموعتنا نحن الجمهوريين. فمن يخرج على قبضة العقل الجمعي، تنهال عليه السهام من كل حدبٍ وصوب. الشاهد، أننا أين ما نظرنا، وجدنا أن "العقل الرعوي" ممسكٌ بخناق عقولنا وحياتنا.

يتحور "العقل الرعوي" ويتخذ صورًا مختلفة، يمكن أن نجدها حتى في الدول الصناعية. ولقد سبق أن أشرت إلى "رعوية"، ظاهرة مرشح الرئاسة الأمريكية، دونالد ترمب. كما يمكن أن أشير إلى منظمة كوكولاس كلان الأمريكية العنصرية، وجماعات الشباب النازي في ألمانيا، وإلى تنظيم داعش. كما يمكن أن تتمثل القبيلة، في السياقات الحديثة، في الحزب. كما يمكن أن تكون متمثلةً في فريق كرة القدم الذي نشجعه، أو في الالتقاء في الفتون بمغني بعينه، وتشكيل رابطة معجبين تحت اسمه، أو في طريقة صوفية، بعينها، وغير ذلك من التجمعات التي تقف وراءها العصبية، أو العاطفة. ويبدو أن الانسان يحتاج القبيلة، في كل الأحوال، إذ تصبح للأكثرية، مكملةً لوجودهم. المهم، أن نفرق بين سلطة العقل، وسلطة العاطفة، فلا نخلط بينهما، خاصة في ما يتعلق بقضايا البناء والتنمية والتغيير. وسيرد التوسع في هذا لاحقًا، في ما هو مقبل من حلقات.

هناك من الأمثلة، ما يمكن أن نسوقه هنا، حول ما تعترض به بنية العقل الرعوي قيم الحداثة، داخل سياقات الحداثة المظهرية. فمثلا، لا تزال كثيرٌ من الأسر السودانية تحرص على أن تتزاوج في داخل صلات القرابة الخاصة بها، وترفض تزويج الغريب؛ أيًّا كان. كما لا تزال بعض الأسر عندنا، تحرص على التنقيب الدقيق في نسب الصهر المرتقب. فإن هم اشتموا في المتقدم إلى ابنتهم، أي صلة دمٍ بمن سبق أن استُرِقُّوا، أو أن شبهة رقٍّ قديمٍ حامت حول هذا الصهر المرتقب، رفضوه، بقوة. ولا يهم رأي الفتاة في هذا الباب، ولا يهم مستوى تعليم أولياء الأمور، ولا تهم قيم الحداثة، بل ولا تهم قيم الدين نفسها، التي قالت: "كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم". تكسح بنية العقل الرعوي قيم الدين والعقل والحداثة وتحيلها جميعها إلى ركام. فالذين يتحدثون، لدينا، عن الحرية وعن الديمقراطية، وعن المساواة الاجتماعية، في السودان، اليوم، تقدم أكثريتهم حديثًا معلّقًا في الهواء، لا مساس له بأرض الواقع.

لربما تعيَّن علينا أن ننظر إلى ضيقنا بالرأي الآخر، وانتشاء كل قبيلٍ منا، بما يراه في نفسه، امتلاكًا للحكمة وفصل الخطاب، أو ما يراه في نفسه، فرادةً، وامتيازًا على الآخرين. الملفت في هذا الباب، أننا نتحدث عن التحديث، وعن التقدم، في حين تنصاع أكثريتنا، على المستوى الفكري، لسلطة العقل الجمعي، فتبدي حماسًا مستمرًا، لترديد المقولات الدارجة الساذجة الرائجة، دون فحص. فنزعة إرضاء القبيلة، بكل صورها التي ذكرناها، تبقى هي القوة المسيطرة، التي تسلب عقل الفرد، الحيدة والموضوعية. ويظهر هذا، في ما نحن بصدده هنا، في تصدي، من لا يعرفون الكتابة، ومن لا يقرأون ما يكفي، لكل صاحب رأيٍ جديد، بآراء فجة، فطيرة. يجري ذلك ممن لم يدرسوا الظواهر، وليس لهم أصلا اهتمامٌ بدراستها، وليس لهم تدريب في دراستها. يخوّل العقل الرعوي لصاحبه حق الخوض في كل شيء، بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

عمومًا، تحصر بنية العقل الرعوي، في غالب أحوالها، الفرد في خندق الدفاع عن العقل الجمعي. وليس أسهل على الفرد من تملق العقل الجمعي، وترديد ما هو مردّدٌ، أصلاً، مما يجلب الاستحسان السريع، والهتاف. يضع عقل القبيلة، أو قل "العقل الرعوي"، الفرد تحت ابطه، ويكيّف حركاته وسكناته، فيصبح أسيرًا، دائم الأسر، لسلطة السائد. بل، يصبح غير واعٍ بأنه مأسور. لذلك، لا يتردد في شهر السلاح في وجه كل من يحاول تحريك الراكد. تنفي سلطة "العقل الرعوي"، بحكم تكوينها التاريخي، وآلياتها، والظروف التي انوجدت فيها، سلطة العقل والمنطق والحجة. كما يحبسها الزهو الأجوف، والشعور الدائم بالاكتمال والاكتفاء، في إطار الترديد الببغاوي، للمقولات المحفوظة. بهذه الأوصاف، تقف بنية العقل الرعوي، بحكم تكوينها، في وجه نور العقل، وفي وجه الحداثة، وفي وجع التطور والتجديد، وفي وجه سائر القيم الرفيعة، بل، وفي وجه العدالة وحكم القانون، معيقةً، بذلك، تحقيق كل أولئك على الوجه الصحيح. ولسوف أعرض في ما هو مقبلٌ من حلقات، لمزيدٍ من تمثُّلات بنية العقل الرعوي المنحدرة من تاريخنا، مشتبكةً مع بُنى المصالح الضيقة، وامساكها بتلابيب ما نحسبه، خطأً، حياةً سودانيةً حديثة.
صحيفة التيار 6 أكتوبر 2016
(يتواصل)

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
الفاضل البشير
مشاركات: 435
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:56 pm

مشاركة بواسطة الفاضل البشير »

د. النور محمد حمد
لك تحيتي وسلامي وتقديري لهذا الجهد المتواصل.
وأتمنى حقا ان تنشط الأقلام في النظر في العلاقة بين الحداثيين والمحليين. فهي خطرة بل خطرها تحقق.
وارى من جانبي ان انفصال الجنوب ونشوب الحروب الحالية يرجع لفشل النخبة الحداثية في تدبر
الفارق بين الحداثة والبداوة
وبعد
فقط اشير لهذا الكتاب لكاتبه ميشيل مافيسولي, ولا تعليق عنوان الكتاب يكفي:
MAFFESOLI: THE TIME OF THE TRIBES : THE DECLINE OFINDIVIDUALISM IN MASS SOCIETIES:
The Decline of Individualism in Mass Society
وهو الان في امازون.
Michel Maffesoli
لصلته ببعض ما أوردت تحديدا قولك:
( كما يمكن أن تكون متمثلةً في فريق كرة القدم الذي نشجعه، أو في الالتقاء في الفتون بمغني
بعينه، وتشكيل رابطة معجبين تحت اسمه، أو في طريقة صوفية، بعينها، وغير ذلك من
التجمعات التي تقف وراءها العصبية، أو العاطفة. ويبدو أن الانسان يحتاج
القبيلة، في كل الأحوال، إذ تصبح للأكثرية، مكملةً لوجودهم)
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

سلام يا الفاضل
أشكرك على لفت انتباهي لهذا الكتاب فهو يخدم قضيتي
يقول المتصوفة "ما من شيء كان أو يكون إلا وهو كائن الآن". فالقبلية تتحور ولا تنتهي، والله أعلم، كما يختم حسن مكي مقالاته كثيرا.
وقد قمت قبل قليل بطلبه من أمازون
شكري ومودتي
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

هذه مداخلة ماخوذة من. مدونة (احمد الشريف) امادو

الأحد، 2 أكتوبر، 2016
العقل الرعوي أم الفساد السياسي؟
هذا تعليق على مقالين للنور حمد الأول هو مقال " التغيير وقيد العقل الرعوي " المنشور بموقع الراكوبة ، ومقال " وهم الصعود للحداثة. بغير رافعة " المنشور بالعدد الثالث من مجلة الحداثة السودانية .
أستطاع النور حمد ببراعة أن يعيد قضية التحديث
في السودان للواجهة مرة أخرى ، بعد عاصفة التعليقات على مقاله " التغيير وقيد العقل الرعوي " ، وأود التنبيه إلى أن نشر حمد لهذا المقال جاء متزامنا أو مقاربا لنشر مقال له في العدد الثالث من مجلة الحداثة السودانية أسماه " وهم الصعود للحداثة بغير رافعة " وقراءة المقالين معاً ، تعطي إضاءة أفضل لفكرة حمد .
نقطة قوة مقال النور حمد هي نفسها نقطة الضعف التي هوجم من خلالها ؛ اي ميوعة مفهوم " العقل الرعوي " وعدم انضباطه كما أشار لذلك عبد الله علي إبراهيم ، في تعقيبه على مقال النور حمد المعنون " النور حمد : نطاح الحداثة والرعوية " والبروفيسور عبد الله علي إبراهيم أكاديمي ضليع واعتراضه مؤسس على احترام التقاليد الأكاديمية ، لكن الإيجابي في لا أكاديمية طرح النور حمد هو أن الانضباط الأكاديمي المهووس بالكمال المرعوب من الخطأ ، يجعل الفكر بارداًً وربما مملاً ، وما كان لمقال النور حمد ان يثير كل هذا النقاش لو جاء أكاديمياً متوسلاً للكمال. ولا شك أن النور من صفوة الانتلجنسيا السودانيين ولا يُعقل الإعتقاد ان هذه المآخذ قد تفوت عليه ، ولكن وهنا ما يعجبني في طرحه أنه غامر بكل الرصانة الأكاديمية مقابل إعادة إنعاش النقاشات العامة وتلقيحها لتثمر ، هذه هي الفضيلة النتشوية ، إذ قدم النور نفسه كمثقف مشغول ومتورط للنخاع في ازمتنا الوطنية وليس مجرد مراقب خارجي بارد . أظن أن النور اكتسب هذه الفضيلة من تتلمذه النجيب على محمود محمد طه ، واستمد منه هذه الروح المغامرة الشجاعة ، إذ أن جوهر الفكرة الجمهورية افتراض يصعب إثباته لا بالطرق الأكاديمية ولا بالطرق الفقهية التقليدية . وفي أوقات الانسداد الشامل فإن مثل هذه الطريقة فعالة في إعادة طرح الأسئلة ، كما تحدث كارل بوبر عن الانطلاق من افتراض بدلا عن ملاحظة ، في مشروعه لنقد وتطوير المنهج العلمي .
فكرة مقالي النور حمد - كما فهمتها - هي التقدم التحديثي ثم التراجع إلى أوضاع قبل حديثة بسبب تأثير " العقل الرعوي " الذي يتخلل ثغرات الحداثة ويكمن تحت قشرتها في انتظار ضعف مناعتها . وهذه الفكرة ليست غريبة على الفضاء الثقافي السوداني ، وقد سبق وتحدث حيدر إبراهيم علي وعبد العزيز حسين الصاوي عن ما أسموه " الارتداد التحديثي " و " الانكفاء الحداثي " ، وقد ذهب كل منهم مذهبه في تشخيص أصلها ، أما النور حمد فقد ارجعها ل " العقل الرعوي " ذي الطبيعة الهيغلية ، بما هو جوهري لا يتأثر بالتغييرات الموضوعية ، وهذه فكرة لا أتفق إطلاقا معها . أحس أن فكرة النور حمد - مرة أخرى كما فهمتها - تطبيق ل"فلسفة تاريخ " مع أنه استهل مقالة " التغيير وقيد العقل الرعوي " بإقتباس من جون غراي ضد فكرة التقدم في التاريخ الهيغلية الماركسية واعتبرها من خرافات الحداثة ، وأنا اشتبه ان هذا يجافي فكرة النور حمد ويناقضها ، فمشكلة " العقل الرعوي " أنه يقطع طريق التقدم (لكن نحو ماذا ؟ ) ، إذا اقتبسنا فكرة كانط عن المفاهيم الثلاثة المنطبعة السابقة على الوعي ؛ الزمان ، المكان والسببية ، فأنا أزعم أن فكرة التقدم أيضا أصبحت منطبعة في أذهاننا لدرجة كبيرة ، حتى ونحن ننتقدها .
في نفس العدد الثالث من مجلة الحداثة الذي اثراه النور حمد بنشر مقالة "وهم الصعود للحداثة بغير رافعة " نُشرت حوارية شاركت فيها مع عدد من الشباب ، كان موضوعها مفهوم الحداثة من وجهة نظر جيل جديد ، تطرق فيها المشاركون أيضاً لقضية الارتداد الحداثي ، كنت حريصا في مداخلتي ان لا أقع تحت إغراء تكوين نظرية تاريخ سواء خلدونية أو هيغلية ، أنا احس ان تواتر ظاهرة محددة في التاريخ ظل يغري المنظرين بالسعي لإيجاد خيط سحري ينظم كل هذه الفوضى ، وأن العقل الرعوي هو خيط النور حمد الناظم لتناثر هباتنا وكبواتنا . فيما يتعلق بالتاريخ فإن السقوط المدوي لسرديات التقدم الكبرى اورث الأجيال اللاحقة من المنظرين حذرا من تكرار ذات التجارب ، وسادت النظرة التي تنكر خطية التاريخ وغائيته مثل نظرة التي استهل باقتباسها النور حمد مقاله. بالنسبة لي أجدني أميل إلى قول سيوران " لا يمكننا تعلم شئ من التاريخ فهو يحتوي على كل شئ " وتشخيص مؤرخ الأفكار البولندي ليشك كولاكفسكي للغرض من دراسة التاريخ بأنه أن نعرف من نحن لا أن نعرف كيف يسير العالم وإلى أين .
بالعودة إلى نظرية النور حمد ، فسابدأ من الفترة التركية ، إذ أن المعلومات عن فترة الممالك المسيحية أقل من أن تصلح لاستنتاج شئ منها ، يصف النور التركية بأنها نفحة حداثية مست الدولة لا الأفراد ، أطاحت بها هبة رعوية هي المهدية . هنا أود أن أشير إلى تعجبي من الطريقة التي يستعمل بها حمد كلمة عقل ففي مقال مجلة الحداثة يقول " نجح الحكم الخديوي في استتباع العقل السوداني للعقل الخديوي المصري " حسبما فهمت فإن المفترض وجود عقلين بينهما صراع أبدى في اي مكان من يوغسلافيا السابقة حتى أميركا دونالد ترمب ، هما العقل الرعوي والعقل الحديث ، إلا أن هذا الجزء يشي بوجود تفاوتات داخل الرعوية بين رعوية الخديوي ورعوية السودانيين . أية استتباع العقل الخديوي للعقل السوداني حسب حمد هي اعتناق السودانيين لاطروحات القومية العربية والاستعراب وتنكرهم للجذور الأفريقية الكوشية وهذا يعود للبذرة التي القتها الخديوية . بالنسبة لي هنا الخلاف خلاف وقائع تاريخية فحركة الاستعراب وانتحال الأنساب العربية في السودان سابقة للغزو التركي حتى أن الفونج أنفسهم وحتى بعض سلاطين الفور قد انتحلوا انسابا عربية . بل إن التصوف الإسلامي الذي تحسر النور حمد عليه في جزء آخر من مقاله لحمته وسداه انتحال نسب عربي قرشي هاشمي . يقول النور حمد ان الخديوية جاءت بالفقه المدرسي و قضت على " مواريث التصوف السوداني المنفتحة على التحديث والتطور " والحقته بمنظومة الفقة المنغلقة التابعة لها ، الداعمة لاستبدادها ، وكل هذه الأفكار خلافية وفيها نظر . لا يسعني هنا إلا أن أذكر بخلفية النور حمد الجمهورية وخلاف مؤسسها مع مدارس الفقه التقليدية ومع مصر .
ينتقل النور الى المهدية ويقول أنها " خرجت من عباءة التصوف " ضد بطش واستبداد التركية ، وأنها بانتصارها على التركية. كانت ارتدادا عن المحدود الذي كسبته البلاد من قيم الحداثة . ثم ينكر كون المهدي مصلحا حقيقاً ؛ لأنه ادعى المهدية و" زعم أنه صاحب الكلمة الخاتمة " ثم يزعم أن " السودانيين " كرهوا المهدية أكثر مما كرهوا التركية وقد وضعتها بين الأقواس حتى لا تختلط دلالة اللفظ في ذلك السياق مع المعنى الحالي ، الزعم ان السودانيين - كلهم - كرهوا المهدية أكثر من التركية أيضا زعم مرسل رغبوي يكذبه واقع الشعبية الكبيرة التي يحظى بها حزب الأمة القومي لدرجة الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان في آخر انتخابات ديمقراطية في السودان . لكن بعض أصحاب الإمتيازات في العهد التركي عارضوا المهدية نعم واستعانوا ضدها بالاجنبي ، قال النور ان هذا " ضربة البداية في التنصل من الثوابت الوطنية " مع تحفظي على إدخال مفهوم وطنية في ذلك السياق واعتباري إياه مغالطة تاريخية ؛ ففكرة الوطن والانتماء الوطني لم تكن واردة في ذلك السياق التاريخي إطلاقا . ثم ما المشكلة في ادعاء المهدي أنه صاحب الكلمة الخاتمة ؟ وهل ادعاء شخص ما أنه صاحب الكلمة الخاتمة يلغي كونه مصلحا دينيا ؟
ينتقل بعدها النور حمد لفترة الحكم الاستعماري البريطاني ، ويقول إنه جاء بافق حداثي أعلى ، شكل العهد الوطني ارتدادا رعوياً عنه ، مرة أخرى أعيد التذكير بأسس السردية الجمهورية التي تناصب الافندية أو طلائع المتعلمين عداءا واحزابهم عداءا لا حدود له ، لدرجة إرجاء ركن وأصل من أصول الإسلام الثاني الذين يدعون له ، هو الديمقراطية في سبيل محاربتهم . واكبر ما دليل على الردة الرعوية هو استئثار الشماليين بالمناصب العليا بعد السودنة دون الجنوبيين ثم الدعوة للدستور الإسلامي ، التي بلغت أوجها في الأعوام الأخيرة لنظام نميري مع قوانين سبتمبر التي أعدم بموجبها محمود محمد طه ، ثم الإنقاذ التي هي من ناحية أعلى تمظهر الرعوية ، ومن ناحية أخرى تمثل أيامها الأخيرة واستعانتها بالمليشيات القبلية هبة رعوية أخرى حسب النور حمد .
وبعد أن يعدد مظاهر الرعوية والتدين الرعوي ، يقتبس النور حمد من العراقي هادي العلوي " ان الجماهير في العراق ومثيلاتها لا يمكن أن تتحرك بفكر مترجم " ويستنتج من ذلك أن التحديث لا يمكن أن يتم دون المرور ب ( محطة ) الإصلاح الديني ، تماما كما حدث في أوروبا . بالنسبة لاقتباس العلوي على ما فيه من شعبوية ، فإن المطلوب ليس ما يحرك الجماهير ، بل العكس ، يتحدث أركون عن أن العقل غائب عن المجتمعات الإسلامية ومستبدل بخيال جماعي عاطفي ذي قدرة عالية على التعبئة والتحريك ، ومهمة الإصلاح الديني حسب أركون هي تحجيم هذا الخيال العاطفي . لم استسغ هذه النزعة الشعبوية التي تتمظهر في دمغ الفتوحات المعرفية الكبرى التي انجزتها البشرية ب " فكر مترجم " ، واظن ان حماس النور حمد للفكر الجمهوري هو ما دفعه لهذا الموقف باعتبار ان الإصلاح الجمهوري غير مترجم ( هل هو فعلا ليس كذلك ؟ ) مع انني أتفق مع النور حمد في أهمية الإصلاح الديني ، إلا انني أرى ان الديمقراطية هي المفتاح للخروج من وهدتنا التاريخية ، وأن الاصلاح الديني نفسه يحتاج الديمقراطية ، وكفى بمحكمة الردة الأولى في العهد الديمقراطي لمحمود محمد طه ، ثم في نقض الحكم ضده في الديمقراطية الثالثة ، كفى بهذين على ما اقول دليلا ، والملاحظ أن النور قد تجاهل تماما دور الفرد أو الأفراد مثل كل أصحاب الحتميات التاريخية ، مقابل التركيز على دور العقل الرعوي . بالنسبة لي العامل الأساسي في ما آل إليه السودان - وهنا اتفق مع عبد الله علي إبراهيم - هو مجموعة أخطاء ارتكبتها النخب السياسية ، ومن ضمنهم محمود محمد طه بتأييده لديكتاتورية نميري مثلا ، ومن ضمنها فرض الهوية العربية والمحافظة على مظاهر التنمية الاستعمارية ، حل الحزب الشيوعي ، دعوى الدستور الإسلامي ، ..الخ كل هذه أخطاء سياسية تم ارتكابها وفرضها بقرارات سياسية ولا يمكن اعتبارها تمظهرا نقيا الروح السودانية الرعوية ، إلى إي مدى نستطيع تحميل كل السودانيين أو العقل السوداني مسؤولية هذه الأخطاء ، وأحيل هنا إلى مرافعة الخاتم عدلان التاريخية ضد مسعى عبد الله علي إبراهيم لتحميل الثقافة الإسلامية العربية في السودان وبالتالي حامليها مسؤولية التهميش والظلم الذي حاق بالسودانيبن غير العرب .
يميز الجمهوريون بين الحضارة والمدنية ، على أسس أخلاقية ، وفي مقالي النور حمد أحس برغبته بالزامنا بهذا التمييز ، فكأنما الحداثة بالنسبة له قيمة أخلاقية أو جمالية مرتبطة بأسلوب حياة وطرق سلوك محددة ، هنا يوجد خلط لا داعي له ، فالإنسان الحديث قد يكون أقل إيمانا ، أكثر قلقا ، لكن لا يمكن اعتباره ارفع اخلاقا من الإنسان قبل الحداثة ، والخلط هو قياس سلوك الناس في مجتمعات حديثة يسودها النظام ويحكمها القانون ويحترم فيها الفرد ، بسلوك الناس في مجتمع استطاعت فيه البنى الاجتماعية التقليدية امتصاص الدولة. وتحجيم وتجيير القانون .
يضرب النور حمد بدول الخليج مثلا على امتلاك مقومات الحداثة المادية دون أن تكون دولا حديثة . بالنسبة لي ما ينقص هذه الدول لتكون حديثة هو الديمقراطية ، والديمقراطية هي ما يحتاجه السودان ليندرج في مسار الحداثة ، الديمقراطية هي التكنولوجيا السياسية اللازمة لخلق جو صالح لعرض المشكلات واقتراح الحلول لها ، الشعوب في الدول غير الحديثة تحتاج الديمقراطية ل"ترتقي" وتصبح مؤهلة ، وليس العكس .
أضف رد جديد