ايام فى أثيوبيا....عبدالله على أبراهيم

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
حاتم الياس
مشاركات: 803
اشترك في: الأربعاء أغسطس 23, 2006 9:33 pm
مكان: أمدرمان

ايام فى أثيوبيا....عبدالله على أبراهيم

مشاركة بواسطة حاتم الياس »

أيام في أثيوبيا

الاشتراكية: زملوني الحلم الهشيم

عبد لله على إبراهيم

عضني الجوع بنابه الأزرق لما فرغت من تحديد مطلوبي من الكتب والمقالات من سدنة مكتبة معهد الدراسات الأثيوبية، التابع لجامعة أديس أبابا، التي زرتها لأمر خاص في منتصف الشهر الماضي. وسألتهم عن كافتيريا قريبة أتناول فيها "أنجيرا فرفر" ريثما يتوافر هؤلاء السدنة على استخراج ما طلبته منهم من أضابير المكتبة. ولما بلغت الكافتيريا وجدتها قد شَطّبت حصيلتها من طعام الغداء ولم يبق سوى الشراب والكيك. ورضخت للأمر وطلبت قدراً منهما حين اقترحت علي صبيتان مليحتان من الجامعة، مارثا وبتلهايم، أن يدلاني على مطعم قريب أرادتا تناول الغداء به. وصحبتهما إلى المطعم خارج الجامعة وأمام بوابتها الفارعة. واندلقت محفوفاً بالصبيتين بين جموع صبايا وصبيان آخرين من الطلاب. وكنت لاحظت باكراً أن صبايا المدبنة مثل نخل السيد خضر على مصطفى بقرية عتمور بدار الرباطاب. فنخله المشرق وودلقاي يثمر ولم يكد يبارح جذعه بشيء كثير. وهكذا فتيات أديس: لم يشببن عن الطوق وقد اثمرت منهن النهود والأرداف . . . كثيرا.

وما كدت أدخل المطعم حتي اصطدمت بوجه لكارل ماركس على مسطح بلاطي لا مهرب للداخل من المرور به. وعجبت للتمثال بقى بعد نحو 15 عاماًمن سقوط نظام منقستو هايلي مريم في 1991. وهو نظام للرعب الشيوعي الأحمر أصبح فيه العساكر وحدهم هم سدنة الماركسية الليننية واصبح الدرق (وتعني الكلمة "اللجنة" في الأمهرية وهو لجنة قيادة انقلاب 1974 الذي وقع في سياق مد شعبي هائل ضد حكم الإمبراطور هيلاسلاسي "1930-1974") هو الحزب الطليعي في قول باهرو زودي، المؤرخ الأثيوبي المميز. وشغلني التمثال عن ثمار بنات أديس المعلقة. وطلبت انجيرا فرفر بينما طلبت البنتان انجيرا نباتية لأن اليوم كان يوم صيام مسيحي عن اللحوم. وتأملت قفا التمثال وأنا آكل فوجدت الأيادي المتماسكة القابضة على العزيمة والهتاف وبعض عبارت تحتها. وهي أيد وخطوط لا تغباني. رأيتها أول مرة على دعاية للرفيق قاسم أمين في مدينة عطبرة في أول انتخابات سودانية جرت في 1954. وقد علمت لا حقاً أنها كانت من صنع زميلنا وصديقنا جرجس نصيف سلامة الذي كان بثانوية مدرسة الأقباط وقتها. ولم أرد أن أعلن شغفي بالتمثال للبنتين المثقلتين بثمار أديس لما بدا لي من براءتهما من شاغلي بالرجل المجلل بدقنه والتاريخ. ولكنني انتهزت أول فرصة ما لأسالهما أن يترجما لي معنى العبارة التي على قفا نصب ماركس. فقالتا: "الاشتراكية" هكذا بإهمال.

إن انطواء صفحة الاشتراكية في أثيوبيا هي من فصول حزن التقدميين الغراء. وحين يقف مسهد مثلي بحلم العدالة الاجتماعية، الذي تشربناه في ستينات القرن الماضي، على لوحات قبور الماركسية في أثيوبيا وغير أثيوبيا أتذكر كلمة رشيقة للشاعر الباحث أبوذكرى قال فيها "زملوني الحلم الهشيم". فلم يكن بوسع أياً منا ونحن في نشوة الحلم بتلك العدالة وغمرتها أن نتصور أن سيأتي علينا حين من الدهر "نتمحن" فيه مثل هذه المحنة وتنعقد عقدة لساننا بعد طلاقة.

أثيوبيا بلد الرموز المسنودة بالحيوان. قد كان الأسد رمز سبط يهوذا هيلاسلاسي وإمبراطوريته. ولم تعدم الماركسية اسناداً بالحيوان. فقد ترعرعت في الستينات بين طلاب جامعة الإمبراطور هيلاسلاسي الأول وفي رحاب قصوره "صورة السماء" و"الجنة الأميرية" وغيرها التي أهداها للجامعة التي تصدق بها بعد انقلاب 1960 عليه. واتخذت الطليعة الماركسية في الجامعة اسم "التمساح". وهم فتية قال المؤرخ بهرو زيودي شعراً محضاً في رومانسيتهم وسوء منقلبهم. فقد وصف مثالية طلاب أثيوبيا في الستينات بأنها منزهة عن المماثلة. فقد حملوا لواء معارضة الإمبراطور ببطولة وكبرياء. ولم يكن يسندهم في هذا الشوق الصعب للتغيير تقليد سياسي ديمقراطي متوارث يلقى النقد بالسماحة. ونتج من ذلك أن تجهموا في وجه الرأي المعارض وأوسعوه عنفاً وانطبعت نقاشاتهم بما انطبعت به نقاشات سلفهم في أزمان النبلاء الأثيوبيين (1769-1855). لقد اعتنقوا الماركسية كعقيدة جديدة للخلاص لا كنظام للفكر يستعينون به لتحليل الحقيقة الأثيوبية. لقد نَزّلوا مخطئين الشعار منزلة النظرية. وجعلوا من اتخاذ الموقف الجذري أياً كان هو الغاية تبرر ذاتها بذاتها. وبعبارة أخرى فكلما أوغلت يساراً في مواقفك كلما حالفك الصواب. ولم تشفع للطلاب معارضتهم الصميمة للإمبراطور أن الثورة الأثيوبية في 1974 قد أخذتهم على حين غرة. فلم يكونوا قد بلوروا بديلاً واضحاً وميسراً للنظام القديم.

وترتب على غياب هذه الرؤية أن اصبحت التماسيح الماركسية الأثيوبية ترتجل ثورتها ارتجالاً. وتعاركت حول فقهها عراكاً مضرجاً بالدم لأن الفيصل كان القوة لا الرؤية. وأصبح الدرق العسكري من جراء نزاع فتفشلوا هذا هو الحزب الطليعي الليننيني كما تقدم واستوى على عرشه منقستو الذي هو واحد من أبشع ستالينات المناطق الحارة. ومع ذلك لم يضع هذا النضال الضرير كله سدى. فقد توقف بهرو المؤرخ عند محصلة الدرق والاشتراكية بنظر نافذ إلى الجوهر مخترقاً حتى ويلات الرعب الماركسي الأحمر. وهذا شغل المؤرخ في حين يكتفى الآخرون من الخطاب بعنوانه. فقد قال إن أثيوبيا لم تعد بعد الدرق كما كانت قبله. فقد تهاوى الإقطاع الأثيوبي "الله لا عادو" كجذوع نخل خاوية. فقد أدهش الناس كيف أن هذا النظام الذي لم تعرف اثيوبيا غيره قد تبخر ما بين ليلة وأخرى. كما انشغل حكم الدرق كما لم تنشغل نظم أخرى بمحو الأمية عملاً بقول لينين غير الدقيق إن الأمي يقع خارج محيط السياسة. وشدد بهرو على ترويج الدرق للسياسة بين غمار الناس بعد أن كانت حكراً للصفوة الإقطاعية. فقد أحسن الدرق في التعبئة الجماهيرية إحساناً جعل السياسة مادة في حياة الكادحين وإن أخذ على هذه التعبئة بروقراطية منشأها وانحراف أهدافها أحياناً. ومن أميز ما قام به الدرق أنه بث العلمانية في الوطنية الأثيوبية العريقة. وهي وطنية انعقد بها الأمر في أثيوبيا على محجة المسيحية الأرثوذوكسية متحاملة حتى على العقيدة الكاثوليكية ناهيك عن الإسلام. فقد فصل الدرق الكنيسة عن هذه الوطنية ومددها لتسع جنوب أثيوبيا الفقير المسلم إلى حد كبير. صفوة القول أنه وقع على ماركسية أثيوبيا ما حذرنا منه هنا ابن خلدون في مقال له بالراي العام الأسبوعي نحو عام 1968 حين عرب لنا عبارة: "من يهز الشجر ومن يلتقط الثمار". لقد هزت الماركسية شجرة أثيوبيا ولم تحفل بمن التقط الثمر.

عدت في اليوم التالي ليوم مارتا وبتلهايم لإلتقاط بعض الصور عن مواقع في الجامعة وحولها هي شواهد لأحلام هشيمة مثل نصب الشيخ ماركس. وحين بلغت تمثال الشيخ وجدت على منصته طالبين استرعى انتباهي أسنان أحدهم الضاربة للصدأ. سألتهم أن يترجموا لي العبارة المكتوبة بقفا النصب. فقالا: "يا عمال العالم اتحدوا". وحَسّنا بذلك من ترجمة مارثا وتلهايم كثيراً. وابتسمت وقلت:

- هذا كلام فات ومات مغنيه.

وقال الشابان: لماذا تعتقد هكذا؟

-بعد الدرق وكل حاجة. هذا كلام لا معنى له؟

قالا: لا يهم. لم يكن الدرق يطبق فكر الشيخ ماركس. ما يزال فكر الشيخ صالحاً.

كنت أطرب لعبارتهما بالطبع. وخطرت لي فجاءة صورة ضرائح الأولياء عندنا. وتمثلت الشابين وكأنهما حفاظ لبركة الشيخ. فقلت معابثاُ: بدا لى أنكما من سدنة نصب الشيخ.

فضحكنا جميعاً. قلت لهم إني من السودان وتركتهما. وبدا لي في خاطري إنني اتعثر في تاريخ الحلم الهشيم بينما ربما بدا لهؤلاء الشابين جواز تصويب الخطأ برومانسية أدق في الرؤية وأحنى في الخلاف وأراف بالشعب. ربما كان هؤلاء طليعة التماسيح الجديدة التي ستقاتل للشعب الأثيوبي لا بعضها البعض. سررت للمعنى في خاطرى. فما الذي يسعد مثلي من المسهدين بغمار الناس أكثر من أن يرث عنه التبعة جيل من التماسيح الذكية.



العتبات الفاشية

لو اتخذت طريقك عبر بوابة جامعة أديس أبابا نحو مركز الدراسات الأثيوبية لوجدت في باحتها المشجرة المخضرة بناء حلزونياً صخرياً مكوناً من 26 درج. ويتطاول عليه من أسفله صاري يرفرف العلم الأثيوبي على رأسه. ومررت علي هذا الهيكل بغير التفات وظننه تزويقاً مجرداً حف بالعلم. ولم أكد أبلغ بهو معهد الدراسات الأثيوبية حتى وقفت على سر هذا الكيان الصخري الحلزوني.

يحتل مبني معهد الدراسات الأثيوبية قصراً للإمبراطور هيلاسلاسي (1930 -1974) اسمه "الجنة الأميرية" كان هيلاسلاسي قد بناه عام 1934 ليستقبل فيه ولي عهد دولة السويد في 1935. وقد بناه في أرض ورثها عن أبيه ماكونين والدا ابن عم الامبراطور منليك ومن أبرز قادة معركة أدوا في 1896 التي هزم الأثيوبيون فيهاإيطاليا شر هزيمة. وقد أقطع منليك الأرض لابن عمه حين استقر رأيه أن تكون أديس أبابا عاصمة لإمبراطوريته الموحدة في 1886. وجدد تفاري، وهو اسم هيلاسلاسي قبل تتويجه امبراطوراًً، قصر أبيه وبني فيه قصراً جديداً سماه "صورة السماء". ثم بنى الجنة الأميرية وفيه مصنع ألبان وقفص للأسود الإمبراطورية وخندق للتحصين وداخلية للقسس الزائرين وسجن مؤقت.

ثم وقعت الحرب الأثيوبية الإيطالية التي احتلت الأخيرة الأولي من 1936 إلى 1941. وقد جرى تحريرها بجهد بريطانيا وقواها العسكرية في أفريقيا وكان مركز دائرة إددارة الحرب هو السودان. ولقد ابطرنا أنفسنا بدورنا في حرب تحرير أثيوبيا تحت إمرة المستعمر البريطاني عام 1941 حتى لم نعد نذكر من أمرها سوى المباهاة ب "يجو عايدين ضباط مركز تعيين". لم يخطر لنا أننا ربما كان وقود حرب تسبب فيها بالتواطؤ من عبأنا لخوضها لاحقاً وألهانا بالغناء لمأثرتنا المزعومة فيها. ويقول أهلنا أن بهجتنا بنصرنا في كرن وغيرها هو مثل فرح الخادم بعرس ود سيدها.

اثيوبيا استثناء عظيم الدلالة لمجمل التطور أو التخلف السياسي لأفريقيا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. فقد ظلت البلد الأفريقي الوحيد المستقل حين جثم الاستعمار الأوربي على القارة بعد أن هدم ممالك ودق أعناق وذلت له رقاب لم تسجد لغير الواحد من قبل. وقد نزه اثيوبا عن هذا الدنس أنها لاقت من تحزم لاستعمارها عارية. وهزمت الإيطاليين في موقعة أدوا عام 1896. ولعل أخطر عاقبة هذا الظفر يإيطاليا أن أثيوبيا اتجهت لبناء دولتها الوطنية على يد الإمبراطور منليك ( ) بثمن باهظ بالطبع بينما اخترع المستعمرون "أوطاناً" للأفريقيين ناسبت المطامع الأوربية وشققوا أهلها شيعاً وطوائف وقبائلاً لا ليتعارفوا بل ليسود عليه الحاكم المستبد الغريب.

لم يكن بوسع أثيوبيا أن تنعم باستقلال كصحن الصيني، لا شق ولا طق، وهي جزيرة مستقلة في خضم بحر استعماري. ولعل أفدح ما وقع عليها هو عودة الإيطاليين بعد عاماً من هزيمتهم في أدوا لاستعمارها من مواقعهم في ارتريا والصومال الإيطالي. وكان هذا تدبير موسوليني الذي جاء إلى حكم ايطاليا في 1922. وأراد لبلده أن "يتسدى" من هؤلاء الأثيوبيين الأفارقة الخرق الذسن جعلوا إيطاليا هزؤة في أوربا. وجاء في مذكراته أن جيله من الحالمين بمجد الإمبراطورية الرومانية لم يغمض له جفن حتى اسهدته خيبة أدوا.

في 1923 أصبحت أثيوبيا عضواً بعصبة الأمم، التي سبقت الأمم المتحدة الحاضرة في وظائفهاو تكونت بعد الحرب العالمية الأولي (1914-1919). ولم تجد أثيوبيا غير التخذيل من هذه العصبة والقوى النافذة فيها.

لعل من أعيب ما يأخذه الأوربيون على أنفسهم متى عادوا لسيرة الحرب العالمية الثانية أنهم استرضوا هتلر طويلاً أملاً في كبح جماح طموحه التوسعي في أوربا. ولم يفطمه ذلك عن هذا الطموح. واضطروا لحربهم بعد أن يئسوا من مراضاته. ولا تسمع كثيراً عن مراضاة أوربا لإيطاليا خلال طموحها الاستعماري في أثيوبيا. فموسليني جاء أصلاً إلى غزو أثيوبيا بعد مواجهة مع هتلر في النمسا عام 1934 خرج منها مهاناً ذليلاً. وكما قيل أن الرجل يبرد حر زوجته العربية في أمته فقد برد موسوليني حر أوربا في أفريقيا. وقد سبقته فرنسا إلى رد الاعتبار للذات في أفريقيا بعد تجريح أوربي. فقد خسرت فرنسا حربهها مع ألمانيا في 1877. وشجعها بسمارك، رئيس الدولة الألمانية، للتوسع في أفريقيا لتنشغل عن الثأر منه.

كانت المواجهة الأولي بين إيطاليا و إثيوبيا عام 1934. وقد أعطت كل من فرنسا وبريطانيا موسليني الضوء الخضر ليفعل بأثيوبيا ما شاء لأنهما أرادا إغراءه لكي لا يتحالف مع هتلر. ففي غمرة إعتداءات غيطاليا هذه تناصرت بريطانيا وفرنسا لحماية إيطاليا من قرار من عصبة الأمم بحظر تصدير البترول لها. واعترفت بحق الفتح لإيطاليا وأمنت لها بحق ضم كل ما سقط في يدها من أثيوبيا حتى تاريخه. ولم تكف عن مراضاة موسليني إلا في 1939 حين اختار ان يدخل الحرب العالمة الثانية في صف هتلر. وحشدت بريطانيا قوى أفريقية في الشتاء لتحرير أثيوبيا حتى تم ذلك في 1941. وهذا التحرير ما ظللنا نلوكه ونذيع بطولات لنا مستحقة فيه ناسين عبث بطولتنا هذه متي استقام لنا أن حرب أثيوبيا ربما لم تقع لو أن بريطانيا وفرنسا كفتا عن مراضاة موسلويني وانتصرتا للسيادة الوطنية لعضو بعصبة الأمم. وكانت مدينة أدوا، التي شهدت ذلة إيطاليا في القرن التاسع عشر، هي هدف واحدة من ثلاث حملات للغزو وقد أمطرها الإيطاليون ناراً تلظى من الجو بصورة إنتقامية فاضحة حتى احتلوها. وقد استخدم الإيطاليون غاز الماسترد المحرم لتركيع القوات الأثيوبية التي دافعت عن بلده بالظفر والناب. وقد اشتهر قائد إيطاليا قال إنه سيهب أثيوبيا لموسليني بسكانها كيفما أراد هو.وما أن سقطت أثيوبيا، البقع الأفريقية الوحيدة التي لم تتسخ بالاستعمار، في يد إيطاليا في 1936 حتى وقف موسوليني على منصته الشهيرة في البيازا فينيزيا في روما يعلن للعالم أن أثيوبيا إيطالية".

كفي في تصوير قلة حيلة أثيوبيا في وجه قوة إيطاليا وجبروتها قول أحدهم إنها ستلقى من الأوربيين خمسة مستويات من جهنم: القنابل من الجو والقصف من المدافع طويلة المدى والرشق المميت من والدبابات و"العساكر" وهم المجندين في القوات الإيطالية من الصوماليين والإريتريين. وهؤلاء المجندون جعل إيطاليا تتفوق بمقدار 4 من الجند مقابل جني واحد لأثيويبا.

نعود لسيرة الدرج الحلزوني في قصر الجنة الأميرية. فقد غادره الإمبراطور هيلاسلاسي في 1936 بعد أن بدا له أن إيطاليا قد كسرت ظهر مقاومة قواته. وتسلل إلى السودان. وظلت الفروسية الأثيوبية تستنكر عليه هذا الشراد عن الوطن الذي لم يسبقه إليه زعيم أثيوبي آخر على قدر ما لقوا من شدة وحصر. وتدفقت العامة على القصر تنهبه وتحرقه. واحتله من بعد ذلك العسكر الإيطالي ورموا الأسود الأميرية بالرصاص. ثم سكن القصر النائب الإيطالي الحاكم للبلد. وورصف هذه العتبات الحلزونية وعددها في مناسبة . ولما تم تحرير أديس أبابا في 6 أبريل 1941 جرى رفع العلم الأثيوبي فوق سارية القصر الأميري وبقيت لعتبات الفاشتية حسيرة كظيمة. ولما وقع انقلاب 1960، الذي قاده الأخوان جرماي ومنقستو نيووي خلال زيارة الإمبراطور للبرازيل، جرى حصر قادة الدولة في الصالون الأخضر بالقصر أميري. وما فشل الانقلاب حتى تخلص المنقلبون من هؤلاء القادة بالقتل. ولم يطب القصر للإمبراطور فانتقل إلى قصر آخر وجعل القصر وملحقاته مقراً لكلية جامعية باسمه. كان نصيب معهد الدراسات الأثيوبية القصر ذاته. وكانت الكلية بعض ما افاق له الإمبراطور من نواقص حكمه ونواقضه. وكان صوت الطلاب بالإصلاح والتوسع التعليمي قد بدأ يشتد عوده بعد ذلك الانقلاب.

أيام في أثيوبيا

يجو عائدين ضباط مركز تعليم

عبدالله على إبراهيم



لو اتخذت طريقك عبر بوابة جامعة أديس أبابا نحو مركز الدراسات الأثيوبية لوجدت في باحتها المشجرة المخضرة بناء حلزونياً صخرياً مكوناً من 14 دَرَجاً. وتتطاول عليه من أسفله سارية يرفرف العلم الأثيوبي على رأسها. مررت علي هذا الهيكل بغير التفات وظننه تزويقاً مجرداً حف بالعلم في نزوة بروقراطية ما. ولم أكد أبلغ بهو معهد الدراسات الأثيوبية حتى وقفت على سر هذا الكيان الصخري الحلزوني. فهو نزوة بروقراطية ايضاً ولكنها أكثر شراً وقتلا.

يحتل مبني معهد الدراسات الأثيوبية قصراً للإمبراطور هيلاسلاسي (1930 -1974) اسمه "الجنة الأميرية" كان هيلاسلاسي قد بناه عام 1934 ليستقبل فيه ولي عهد دولة السويد في 1935. وقد بناه في أرض ورثها عن أبيه ماكونين والدا، ابن عم الامبراطور منليك ومن أبرز قادة معركة أدوا في 1896 التي هزم الأثيوبيون فيها إيطاليا شر هزيمة. وقد أقطع منليك الأرض لابن عمه حين استقر رأيه أن تكون أديس أبابا عاصمة لإمبراطوريته الموحدة في 1886. وجدد تفاري، وهو اسم هيلاسلاسي قبل تتويجه امبراطوراًً، قصر أبيه وبني فيه قصراً جديداً سماه "صورة السماء". ثم بنى قصر الجنة الأميرية وفيه مصنع ألبان وقفص للأسود الإمبراطورية وخندق للتحصين وداخلية للقسس الزائرين وسجن مؤقت.

ثم وقعت الحرب الأثيوبية الإيطالية التي احتلت إيطاليا فيها أثيوبيا من 1936 إلى 1941. وقد جرى تحرير الأخيرة بجهد بريطانيا وقواها العسكرية في أفريقيا وكان مركز دائرة إدارة الحرب هو السودان. ولقد ابطرنا أنفسنا بدورنا في حرب تحرير أثيوبيا تحت إمرة المستعمر البريطاني عام 1941 حتى لم نعد نذكر من أمرها سوى المباهاة ب "يجو عايدين ضباط مركز تعيين". لم يخطر لنا أننا ربما كان وقود حرب تسبب فيها بالتواطؤ من عبأنا لخوضها لاحقاً وألهانا بالغناء لمأثرتنا المزعومة فيها. وبهجتنا بنصرنا في كرن وغيرها هو مثل فرح الخادم بعرس ود سيدها.

أثيوبيا استثناء عظيم الدلالة لمجمل التطور أو التخلف السياسي لأفريقيا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. فقد ظلت البلد الأفريقي الوحيد المستقل حين جثم الاستعمار الأوربي على القارة جمعاء بعد أن هدم ممالك ودق أعناقاً وذلت له رقاب لم تسجد لغير الواحد من قبل. وقد نزه أثيوبا عن هذا الدنس أنها لاقت من تحزم لاستعمارها عارية. وهزمت الإيطاليين في موقعة أدوا عام 1896. ولعل أخطر عاقبة هذا الظفر يإيطاليا أن أثيوبيا اتجهت لبناء دولتها الوطنية على يد الإمبراطور منليك ( 1889-1913) بثمن باهظ بالطبع بينما اخترع المستعمرون "أوطاناً" للأفريقيين ناسبت المطامع الأوربية وشققوا أهلها شيعاً وطوائف وقبائلاً لا ليتعارفوا بل ليسود عليهم الحاكم المستبد الغريب.

لم يكن بوسع أثيوبيا أن تنعم باستقلال كصحن الصيني، لا شق ولا طق، وهي جزيرة مستقلة في خضم بحر استعماري. ولعل أفدح ما وقع عليها هو عودة الإيطاليين بعد أربعين عاماً من هزيمتهم في أدوا لاستعمارها منطلقين من مواقعهم في أرتريا والصومال الإيطالي. وكان هذا تدبير موسوليني الذي جاء إلى حكم ايطاليا في 1922. وأراد لبلده أن "يتسدى" من هؤلاء الأثيوبيين الأفارقة الجفاة ممن جعلوا إيطاليا هزؤة في أوربا. وجاء في مذكراته أن جيله من الحالمين بمجد الإمبراطورية الرومانية لم يغمض له جفن منذ اسهدته خيبة أدوا.

في 1923 أصبحت أثيوبيا المستقلة عضواً بعصبة الأمم، التي تكونت بعد الحرب العالمية الأولي (1914-1919) وسبقت الأمم المتحدة الحاضرة في وظائفها. ولم تجد أثيوبيا غير التخذيل من هذه العصبة والقوى النافذة فيها. وهذه صفة تشترك فيها العصبة والأمم المتحدة لدي كتابة هذه السطور. فلم تنهض أوربا تدفع الأذى عنه بل انتهزت فرصة العدوان لتصفي حسابات عقيمة لها في الشرق الأوسط.

لعل من أعيب ما يأخذه الأوربيون على أنفسهم متى عادوا لسيرة الحرب العالمية الثانية أنهم استرضوا هتلر طويلاً أملاً في كبح جماح طموحه التوسعي في أوربا. ولم يفطمه ذلك عن هذا الطموح. واضطروا لحربه بعد أن يئسوا من مراضاته. ولا تسمع كثيراً عن مراضاة أوربا لإيطاليا خلال طموحها الاستعماري في أثيوبيا. فموسليني جاء أصلاً إلى غزو أثيوبيا بعد مواجهة مع هتلر في النمسا عام 1934 خرج منها مهاناً ذليلاً. وكما قيل عن تبريد الرجل حر زوجته العربية في زوجته السرية فقد برد موسوليني حر أوربا في أفريقيا. وقد سبقته فرنسا إلى رد الاعتبار للذات في أفريقيا بعد تجريح أوربي. فقد خسرت فرنسا حربهها مع ألمانيا في 1877. وشجعها بسمارك، رئيس الدولة الألمانية، للتوسع في أفريقيا لتنشغل عن الثأر منه.

كانت المواجهة الأولي بين إيطاليا و إثيوبيا عام 1934. وقد أعطت كل من فرنسا وبريطانيا موسليني الضوء الأخضر ليفعل بأثيوبيا ما شاء لأنهما أرادا إغراءه لكي لا يتحالف مع هتلر. ففي غمرة إعتداءات إيطاليا هذه تناصرت بريطانيا وفرنسا لحماية إيطاليا من قرار من عصبة الأمم بحظر تصدير البترول لها. واعترفتا لها بحق الفتح وضم كل ما سقط في يدها من أثيوبيا حتى تاريخه. ولم تكف عن مراضاة موسليني إلا في 1939 حين اختار ان يدخل الحرب العالمية الثانية في صف هتلر. وحشدت بريطانيا قوى أفريقية شتى لتحرير أثيوبيا حتى تم ذلك في 1941. وهذا التحرير ما ظللنا نلوكه ونذيع بطولات لنا مستحقة فيه. رغم أننا لم نفق بعد لعبث بطولتنا لأنه لم يستقم لنا أن حرب أثيوبيا ربما لم تقع لو أن بريطانيا وفرنسا كفتا عن مراضاة موسليني وانتصرتا للسيادة الوطنية لعضو بعصبة الأمم.

كانت مدينة أدوا، التي شهدت ذلة إيطاليا في القرن التاسع عشر، هي هدف واحدة من ثلاث حملات للغزوة الإيطالية. أمطر الإيطاليون المدينة الرمز ناراً تلظى من الجو بصورة إنتقامية فاضحة حتى احتلوها. وقد استخدم الإيطاليون غاز الماسترد المحرم لتركيع القوات الأثيوبية التي دافعت عن بلدها بالظفر والناب. وقد اشتهر القائد الإيطالي الذي قال إنه سيهب أثيوبيا لموسليني بسكانها وبغيرهم كيفما أراد هو. وكانت الكفة راجحة لإيطاليا من جهة العتاد والذخيرة. وكفي في تصوير قلة حيلة أثيوبيا في وجه قوة إيطاليا وجبروتها قول أحدهم إنها ستلقى من الأوربيين خمسة مستويات من جهنم: القنابل من الجو والقصف من الراجمات والرشق المميت من المدافع ناهيك عن الدبابات و"العساكر" وهم المجندون في القوات الإيطالية من الصوماليين والإريتريين. وجعل المجندون إيطاليا تتفوق بمقدار 4 من الجند مقابل جندي واحد لأثيويبا. وما أن سقطت أثيوبيا، البقعة الأفريقية الوحيدة التي لم تتسخ بالاستعمار، في يد إيطاليا في 1936 حتى وقف موسوليني على منصته الشهيرة في البيازا فينيزيا في روما يعلن للعالم "أن أثيوبيا إيطالية".

نعود لسيرة الدرج الحلزوني في قصر الجنة الأميرية. فقد غادر الإمبراطور هيلاسلاسي قصره في أوائل مايو 1936 بعد أن بدا له أن إيطاليا قد كسرت ظهر مقاومة قواته. وتسلل إلى السودان. وظلت الفروسية الأثيوبية تستنكر عليه هذا الشراد عن الوطن الذي لم يسبقه إليه زعيم أثيوبي آخر على قدر ما لقوا من شدة وحصر. وتدفقت العامة على القصر تنهبه وتحرقه. واحتله من بعد ذلك العسكر الإيطالي ورموا الأسود الأميرية بالرصاص. ثم سكن القصر النائب الإيطالي الحاكم للبلد. ورصف هذه العتبات الحلزونية وعددها 14 عتبة تنويها بسني حكم موسلويني في إيطاليا. ولما تم تحرير أديس أبابا في 6 أبريل 1941 جرى رفع العلم الأثيوبي فوق سارية القصر الأميري وبقيت العتبات الفاشستية حسيرة كظيمة. ولما وقع انقلاب 1960، الذي قاده الأخوان جرماي ومنقستو نيووي خلال زيارة الإمبراطور للبرازيل، جرى حصر قادة الدولة في الصالون الأخضر بالقصر الأميري. وما أن فشل الانقلاب حتى تخلص المنقلبون من هؤلاء القادة بالقتل. ولم يطب القصر للإمبراطور بعد هذه المذبحة فانتقل إلى قصر آخر وجعل القصر الأميري وملحقاته مقراً لكلية جامعية باسمه. وكان نصيب معهد الدراسات الأثيوبية القصر ذاته. وكانت هذه الكلية بعض ما أفاق له الإمبراطور من نواقص حكمه ونواقضه بعد فشل الانقلاب. وكان صوت الطلاب بالإصلاح والتوسع التعليمي قد بدأ يشتد عوده بعد ذلك الانقلاب.



عتبات موسليني الفاشستية هي بعض شواهد قبور التاريخ الأثيوبي. وكنت كتبت بالأمس عن شاهد قبر آخر في اثيوبيا هو تمثال ماركس، الذي ساد على عهد منقستو هايلي مريم (1974-1991) ثم باد، في المطعم الطلابي المقابل لجامعة أديس أبابا. وسيبقى على أثيوبيا أن تميز الخبيث والطيب من بين هذه الوافدات إليها. وربما كان المثقف الأثيوبي هو أكثر مثقفي أفريقيا قدرة على مثل هذا الشغل المر. فهو وحده الذي لم يستول المستعمر الأوربي على شغاف نفسه وجماع خياله كما فعل في بقية القارة. لقد ظلت اثيوبيا تتخيل أنفسها من قماشتها ذاتها ما وسعها وبثمن فادح بينما يتعثر مثقفو أفريقيا (إلا من رحم) في خيال حداثي أوربي . . . تسليماً وتسلماً.



عرفان: استعنت في هذه الكلمة بكتاب جيد عن تاريخ أثيوبيا هو "تاريخ أثيوبيا الحديثة، 1855-1991" بقلم المؤرخ الأثيوبي المجيد باهرو زودي.

أيام في أثيوبيا



عبدالله على إبراهيم

صدر في 1876 فرمان عن المجلس الكنسي في الحبشة يقضى بأن البلاد مسيحية أرثوذكسية وعلى المسلم فيها إما أن يرتد عن دينه ويتنصر إما أن يهرب بدينه إلى بلد يأويه. وكان قد دعا إلى هذا المجلس الإمبراطور يوحنا المشهور في السودان ب "ملك الحبوش" والذي مات إثر جراح اصابته في معركة المتمة الحبشية ضد المهدية في 1889 . وتأذي المسلمون، الذي يبلغ تعدادهم ثلث السكان بتقدير متواضع، من هذا الفرمان كثيراً.

صدر هذا الفرمان في سياق مساع عدد من قادة الصفوة الإقطاعية المسيحية لتوحيد الحبشة في كيان إمبراطوري معلوم ورثنا عنه أثيوبيا الحديثة كدولة ووطن. ولم يكن هذا أول فرمان مسيحي يٌخَير المسلمين بين التنصير والهروب بدينهم في الآفاق. فقد سبق إلى ذلك الإمبراطور فرديناند وزوجته إيسابيلا عام 1499. فبعد سقوط الأندلس في أيديهما سعيا إلى بناء دولة أسبانيا على سنة العقيدة الكاثوليكية لا غير. فصدر فرمان في 1492 جَبر اليهود على التنصر أو إعطاء قفاهم لأسبانيا. ثم جاء دور المسلمين للانتحار الديني أو ترك الوطن بعد سبع سنوات من محنة اليهود.

لم تدخل محنة المسلمين في الحبشة واعية المسلمين كما دخلت محنة الأندلس. وهذا مبحث لا نريد له أن يعطلنا دون ما اردنا الحديث عنه اليوم. ومع أن محنة المسلمين سواء في الحبشة أو الأندلس مما يحز في نفسي كمسلم إلا أننا لم نأت للنظر فيهما من زاوية هذه العاطفة وحدها. فالجامع بينهما هو القهر الثقافي الذي كان وما يزال سمة بناء الدولة-الأمة الحديثة. وإذا قلبنا وقائع بناء هذه الدولة-الأمة في كيان الغلبة فيه للمسلمين فلربما أسفرت هذه السمة عن نفسها. وقد نبهنا إلى سداد زواية النظر هذه كاتب أكاديمي مسلم يوغندي من أصول هندية هو محمود محمداني (وتكتب ممداني) في كتابه: "مسلمون جيدون ومسلمون أشقياء". فقد قال إن عام 1492، عام سقوط دولة المسلمين في الأندلس واكتشاف أمريكا، هو عام كتب نفسه في التاريخ بمداد القحاحة والدم والظلم. فهو عام بدء عصر النهضة والحداثة الأوربيتين. وبينما يجري تصوير هذين الحادثتين كقمم في التنوير ومحطات متقدمة جداً في مسيرة البشرية إلا أن محمداني يرى فيهما بدء الاستبداد الحديث في العالم. وقد أفرخ هذا الاستبداد في مؤسستين أولهما الأمة-الدولة الموحدة القائمة على الصفاء الثقافي. فهذه المؤسسة لا تعمل بمقتضى لكم دينكم ولي دين بل دينها واحد وهو خير دين يحب. وسخر محمداني من قول القائل إن هذه الأمة-الدولة قد إنبنت على الديمقراطية. فالديمقراطية ليست أصلاً في تأسيسها بل هى لاحقة له ووقعت للأمة-الدولة بسبب مقاومة المستضعفين فيها لإجراءات تهميشهم ونبذهم عن منافعها. أما المؤسسة الأخرى فهي الاستعمار الذي بدأ باكتشاف أمريكا وما ذاق منه أهلها الأصليين (المسميون بالهنود الحمر) من الويلات: نقصاً في الأنفس والثمرات.

يقصر تصوير محنة المسلمين في الحبشة بمصطلح "الصليبية والجهاد" عن الذكاء الذي نستمده من النظر إليها كمحصلة لبناء الأمة-الدولة. ولست أريد بهذا نفي الذاكرة التاريخية الصليبية الجهادية التي ربما غذت هذه المحنة. ولكني أريد التشديد على فظاظة مؤسسة الأمة-الدولة على نحو يقربنا من فهم عبارة ماركس من أن العنف هو داية التاريخ. وسيجد مثل هذا التصوير قبولاً من المرء مسلماً كان أو غير مسلم لأنه سيعمق من فهمنا جميعاً لمؤسسة تأذت منها الأقليات العرقية والثقافية قاطبة وغمار الناس والنساء بلا استثناء.

كان مرسوم يوحنا "ملك الحبوش" في 1876 هو الذروة المأساوية لإجراءات إمبراطورية صممت على توحيد أثيوبيا كبلد مسيحي لا مكان فيه لغير أهل تلك العقيدة. وقد بدأت هذه الإجراءات واشتد عودها على عهد الإمبراطور تيودرس (1855- 1868). فقد كانت عزيمة الرجل، الذي سمى نفسه "عبد المسيح"، في أول عهده أن يٌنَصِر المسلمين في دولته. وقد طلب السيادة السياسية للحبشة كوسيلة لتنصير وإعادة تنصير السكان وتنمية المنعة الروحية والخلقية بين المسيحيين حتى لا تنتكس بلاده فيسودها شعب الأرومو الغالب فيه الإسلام. وقد أوسع تيودروس مسلمي والو، التي تقع في قلب بلاده، نقصاً في الأنفس والثمرات وترويعاً للأفئدة في محاولاته لتوحيد الحبشة. وقد لا قت منه أقاليم أخرى منه هذا البطش. ولكن بعامة مازج عسفه حيال المسلمين حزازة مسيحية تراهم نشازاً ثقافياً في أثيوبيا. والمسيحية عنده في أصل تعريف تلك البلاد. ويذكرنا هذا بالمناقشات التي جرت من قريب حول دستور الاتحاد الأوربي والمادة التي نصت بأن أوربا مسيحية الهوى والهوية. وهذه النظرة الغالبة عن هوية أوربا هي ما حال طويلاً (وإلى تاريخه) دون دخول تركيا إلى هذا الاتحاد. وهذا الاتحاد هو نفسه الذي "يفتش" الدول الأخري ليري خلوها من مواد دستورية تفخر بما عندها من ثقافة. فكيف تحكمون!

ولم تمر إجراءات تيودور لتوحيد اثيوبيا وكأن المسلمين نشازاً مرور الكرام. فقد قاومه مسلمو مقاطعة ولو لكي يطبعوا هويتهم على الأمة التي استنثنتهم بفظاظة. وقد كتب الباحث الأثيوبي حسين أحمد كتاباً جيداً عن هذه الإجراءات ورد فعل المسلمين عليها ونظرنا فيه لكتابة كلمتنا هذه.

لم يرث يوحنا "ملك الحبوش" عن تيودرس طموحه في توحيد الحبشة وتحديثها فحسب بل الإزراء بالإسلام أيضاً. فقد عاد ليمكن للكنيسة، التي تأذت من إجراءات تيودروس في تحديث الحبشة، ويقصي الإسلام ليبني دولة موحدة على سنة المسيحية. وهي مسيحية استبعدت حتي مللها التي انشقت عن الكنيسة الرسمية. وهي ملل موصوفة ب"المهرطقين". فقد دعا مرسومه في 1878 السابق ذكره المهرطقين للعودة إلى كنف الكنيسة كما دعا المسلمين إلى إعتناق المسيحية لأنه لا مكان للإسلام في جغرافيا إيدلوجية يوحنا. وقد استرجع المجلس الكنسي ذكرى من القرن الخامس عشر كاد فيها الأمير المسلم أحمد قران أن يفتك بالعرش الأثيوبي ويقضي على دولة الحبشة المسيحية لولا نجدة البرتغاليين لهما. وهكذا شاب المرسوم إحن الماضي. وقد وعد المرسوم الملكي بتأمين المرتدين عن الإسلام في مالهم وأنفسهم. وطلب من العصاة أن يتركوا الحبشة لأنها ليست من أوطان المسلمين كما تقدم. فهم أمة لوحدها في قلب البلد المسيحي. ومن أغرب ما جاء في المرسوم هو إلزام المسلمين ببناء الكنائس ودفع الأتاوة للقسس. ومنع من أن يرفع الآذان أو تتحجب نساء المسلمين. وقد صب يوحنا جام غضبه على مدينة قالو التي كانت مركزاً ثقافياً حياً. وأنشأ كنائس جديدة في 1880 وأمر مسلمي مقاطعة ولو وغيرهم بتعميد جماعي في المسيحية. وأحرق نواب يوحنا الكتب الإسلامية في إقليم شوا كما ذبحوا 20 ألف مسلم تعالوا بإسلامهم وما بدلوا تبديلا.

كتب المؤرخ حسين احمد كتاباً طيباً عن مقاومة مسلمو مقاطعة ولو لمرسوم يوحنا. فقد قاوموه بقلبهم ولسانهم ويدهم. أما مقاومة القلب فقد تمثلت في إظهار الكفر واخفاء الإيمان. فهم مسيحيو النهار مسلمو الليل سجوداً وقياما وتهجداً. ًواعتنى حسين بصورة خاصة بذكر جهاد الشيخ طلحة. وكان عالماً ضليعاً كتب نصوصاً دينية بالأمهرية أيضا.ً وقد عبأ الشيخ المسلمين فحرقوا الكنائس التي أٌمروا ببنائها وطرد القسس الذين ابتعثوهم لتنصيرهم. وقد انتصر الشيخ على قوى يوحنا بقيادة البنجراوند ناوطي نصراً حفظته قصيدة نظمها في الأمهرية شاعر بلاط مسيحي قال فيها:

على ما يبدو من أنني أمدح عدواً

غير أنه ليس من يفوق الحاج طلحة

فأنفاسه تخيب ظن الرصاص في السداد

بينما تسوي جبهته الجبال

فهو بغير مثيل بين الرجال

وحين احتاج البجرواند ناوطي مٌطَهراً من شجرة كوسو (لعلاج الديدان):

انتظره طلحة بخلطة شافية

وعَرَّى ضعفه عند نهر كيكلو

ووقف الناس جميعاً على كيف تهافت البجروند وانغلب

وكان هذا هو طلحة الذي وصفه قائد من قواد يوحنا يوماً بأنه "فكي" أطاش القات لبه فجمع المسلمين من حول ينوي شراً ويرتكب عنفاً. وقد وبخ يوحنا هذا القائد الذي لا يحسن تقدير سعة حيلة خصمه. ومما يذكر أنه كانت للشيخ مكاتبات مع المهدي غير أن الخليفة عبد الله هو الذي وجهه للثورة على يوحنا. وقد التقى بالخليفة في السودان وانضم لحملة الأمير ابو عنجة الذي دمر قندار في 1881. غير أن الشيخ طلحة ساءه سوء الإدارة في دولة المهدية وعاد أدراجه لبلده ليقاوم منليك الذي جاء بعد يوحنا في 1889.

ولم تمنع سماحة منليك الدينية (الذي ألغى فرمان يوحنا لعام 1878) من أن يقول لزعماء مقاطعة ولو المسلمة، وهو ما يزال ملكاً علي إقليم شوا الأ مهري ولم يصبح إمبراطوراً بعد، إنه إنما جاء إليهم رسول رحمة يدعوهم إلى تعميد انفسهم مسيحيين ليرتعوا في مباهج الدنيا وينعموا ببركة السيد المسيح. وفي رأي حسين أحمد المؤرخ أن منليك لم يلغ فرمان يوحنا سماحة منه أو تقدمية. فقد رأى بأم عينه مقاومة المسلمين للمرسوم التي لو استمرت لأفسدت عليه حتى مشروعه لتوحيد الحبشة. كما كان منليك قد طوى تحت جناح دولته في آخر الثمانينات من القرن التاسع عشر أقاليم إسلامية في الجنوب والجنوب الشرقي مثل هرر وهو يخشى أن يتسع خرق هذه المقاومة على الرتق. ومع أن منليك قد رفع عن المسلمين الفظاظة الرعناء التي جاء بها فرمان يوحنا فأمِنوا إلا إنه كان أمناً لبعض الدين لا كله. فقد ظلت حزازة الدولة ضد المسلمين بغير تغيير كبير حتى قال مؤرخ "وهكذا فإن لطف منليك البادي تجاه المسلمين منذ اصبح إمبراطوراً في 1889 لا ينبغي أن يؤخذ كفتح جديد قبل به الإمبراطور المسلمين على علاتهم".

لسنا نثير هذا التاريخ الثقيل طلباً لغير الحكمة. فلسنا نشدد على صليبية منشأ هذه البغضاء للمسلمين وإن لم نعدها لجاجة من جهاد. وقد هدانا إلى حكمة بعض هذا التاريخ الأثيوبي الجريح المؤرخ حسين أحمد فقد قال إننا لا ينبغي أن نركز في مباحثنا التاريخية على أوقات البغضاء بين المسيحيين و المسلمين في اثيوبيا. فهذ تمييز لتلك الفترات السوداء يخلى يدنا من بهاء تلك الفترات الطويلة التي تعايش فيها المسلمون والمسيحيون كمواطنيين أحباش بالدرجة الأولى: لكم دينكم ولي دين. فقد باءت بالفشل محاولات أحمد قران لتوحيد أثيوبيا على محجة الإسلام كما باءت بالفشل محاولات الأباطرة المسحيين توحيد اثيوبيا على محجة المسيحية. وقال إن هذا الفشل المزدوج في بناء الدولة على المواطنة لا غير ينبغي أن يكون عظة لا سبباً لنفخ النار في جمره حين نكتب التاريخ. ولله دره.

وفي كلمتنا القادمة نعرف القارئ بالسيد عبد الله الشريف المثقف والوراق الهرري الذي جعل همه حفظ وصون الآثار الإسلامية التي كادت أن تذروها رياح هذا التاريخ الصعب للمسلمين في الحبشة.

أيام في أثيوبيا

وكان لإرادة المولى رأياً آخر

عبدالله على إبراهيم

هٌزمت الأتراك العثمانية في أقصى البحر في القرن التاسع عشر بواسطة أسطول أوربي مسيحي. وكان مذاق الهزيمة مراً لأنها الأولي من هزائم سيتجرعها العثمانيون حتى زوال خلافتهم في عشرينات القرن الماضي. وأرسل قائد الحملة البحرية المنكسرة رسالة إلى سلطان المسلمين يقول إنهم قاتلوا قتال الأسود وأوسعوا الكفر الأذى ولكن إرادة المولي كان لها رأياً آخر. وهذه غصص إسلامية تلاحقت والمسلمون يفقدون سيادتهم أو استقلالهم الوطني لأوربا وغير أوربا منذ صعود أوربا في القرن الخامس عشر. ومن هذه الغصص ما تولد عن هزيمة المدافعين عن مدينة هرر، التي تبعد نحو 500 كيلومتراً غربي أديس أبابا، على يد الإمبراطور منليك في يناير1887. فقال مقاتل جريح الكرامة أنهم كانوا حتى يوم الهزيمة كالأسود خيلاء أما الآن فنحن ليسوا سوي شياه مذعورة.

لم تسعفني مراشد السياحة عن أثيوبيا في تبويب زيارتي للآثار الإسلامية لمدينة هرر. فمتى ذَكرت هذه المراشد المدينة مَنّت السائحين بمتعة الرعب قرباً من الضباع الطليقة في ناحية من هرر القديمة تأكل أمام أقدامك من اللحم العبيط وهو النئ يلقيه لها مروضها. وأبلغ ما تقوله مراشد السياحة عن ثقافة هرر هو زيارة متحف يحي ذكرى إقامة الشاعر الفرنسي الرومانسي آرثر راميو في المدينة. وشَهِدتٌ الضباع المروعة ليلة قدومي للمدينة. ثم جاءني المرشد في الصباح ليأخذني إلى حديقة حيوان المدينة. فقلت له كفاني من حيوان هرر أريد أن أقف عند عتباتها الإسلامية. فأخذت طريقي لمسجد المدينة القديم. وكان للمدينة مسجداً أقدم جعله الراس ماكونين، والد الإمبراطور هيلاسلاسي وابن عم الإمبراطور منليك وحاكم هرر بعد فتحها،كنيسة وما يزال. وهذا أمر فاش في المستضعفين أو الشياه المذعورة تٌستباح رموزهم الثقافية وتتحور بواسطة الغالب. وبعد صلاة الظهر بالمسجد دلوني على مدرس بالمدرسة الإسلامية هو الأستاذ شريف كان شديد الإعتزاز أن أخته وزوجها درسا بالسودان وحصلا على إجازات جامعية صميمة من جامعة أم درمان الإسلامية. وأخذنا إلى المدرسة الإسلامية وهي مدرسة جديدة ايضاً بعد استيلاء الحكومة على مدرسة المسلمين الأولى التي جاورت المسجد االبديل. وقد كان حريصاً أن يريني معامل الكيمياء وغيرها للتدليل على حداثة المدرسة وجمعها بين العقل والنقل. ثم أخذني في طواف حول سور مدينة هرر وبوابتها العديدة. ومنها بوابة السلام وبوابة بدر. ثم توقفنا هنيهة لزيارة وريث الشيخ ابادر القادري وهو ولي صالح عتيق في المدينة. وقد وجدت الوريث شاباً مليحاً ما طر شاربه بعد تتحدث إليه عن طريق جليس نديم له يكبره في العمر كثيراً . فزرنا ضريح أجداده وآبائه "الغر الميامين" في قول العباسي. ودعا لنا وانصرفنا. ثم زرنا خلوة قرآنية. وقد شاقني من حيرانها أنهم انخرطوا في دعاء برئ منغوم لشفاء مريضة جاءت إلى الخلوة. وقد وقفت رفيقتها بين الحيران وأشرت لهم لبدء الدعاء ففعلوا ذلك مرات ومرات. ثم مررنا بأول مسجد بني بهرر وهو من الصغر بمكان ولافتته تقول "ديني قوبانا" إي أنه أول مسجد بني للناس في هرر. ويقع بيت مال المدينة القديم على نفس الشارع.

إلا إن أميز معالم هرر الإسلامية قاطبة كان هو الأستاذ عبد الله الشريف. ولن تجد له ذكراً في اياً من مرشدات السياحة. والرجل في الأصل مراجع أٌغرم بثقافة أهله الإسلامية فهجر دفاتر الحسابات ليصبح وراقاً شاغله الحفاظ على إرث الإسلام في هرر. لم نجد عبدالله الشريف بمنزله في مرتنا الأولي ولكن أهل البيت أذنوا لنا أن نطل على غرفته المتحف. وهي غرفة واسعة نسبياً تحتوي على 19 صنفاً من إرث الإسلام وهرر كما علمنا منه لاحقاً. ففيها مخطوطات وعملات وأسلحة وأدوات للعلم مثل ألواح الخلاوي وملابس هررية وطوابع بريد وكتب مطبوعة قديمة. وله من العملات مثلاً نحو 2900 قطعة.

وصف عبد الله الشريف غرفته المتحف بأنها "ورشة" أكبر همها استعادة المخطوطات الإسلامية التي انتابها الصدأ من طول الهجر وغائلات التخفي. فقد قال عبد الله الشريف نفسه إنه مرت علي المسلمين أزمنة كانت صحبة الكتاب العربي الإسلامي مما يوقع صاحبه تحت طائلة القانون. وأضاف أن حالنا افضل من ذي قبل. ويكفي أن رئيس جمهورية أثيوبيا توقف يوماً قريباً خلال زيارة له لهرر عند منزله ليشهد متحفه. وقد فوجئت بعبد الله الشريف يذكر أيام إضطهاد المسلمين وثقافتهم بغير "استركاب" (وهو التهافت في الشكوي والتظلم المفضي إلى العجز) مشاهد في من ذاقوا مرارة الذل. فقد تحدث إلى مرافقنا، الذي هو من الأمهرا من جهة أبيه، عن تلك الأيام قائلاً: "كنا مع ذلك أسعد حالاً من الأمهرا الذين جرى اضطهادنا باسمهم بواسطة الأباطرة الأمهرا وباسم ثقافتهم المسيحية. فلقد رأيت الأمهرا حفايا وكنا منتعلين وقد لبس الأمهرا الشمارات وأرتدينا الملابس ولم يعرفوا الصابون وقد عرفناه. كنا برغم اضطهادنا أرقى من الشعب الذي اضطهدنا. ياللمفارقة". وهذا عقل جميل. وهو العقل الذي ينبغي أن يزين المستضعفين حتى لا تحترق قضيتهم الصحيحة في أزقة الغضب وردة الفعل والمسارعة الفطيرة للهدف.

ونختم في مرتنا القادمة كلمتنا عن عبد الله الشريف الهرري وكذلك أحاديثنا عن اثيوبيا.





أيام في أثيوبيا

عبد الله الشريف: المثقف والباشون

عبدالله على إبراهيم

لن تجد اسم الأستاذ عبد الله الشريف ضمن ما يثير حب استطلاع زائر مدينة هرر الأثيوبية التي تقع على مسافة نحو 500 كيلومتر غربي أديس أبابا. إلا أنه من أميز معالمها قاطبة. والرجل مراجع بالوظيفة الأصل أٌغرم بثقافة أهله الإسلامية فهجر دفاتر الحسابات ليصبح وراقاً شاغله الحفاظ على إرث الإسلام في هرر. وله بمنزله غرفة تحتوي على 19 صنفاً من تلك الثقافة. ففيها مخطوطات وعملات وأسلحة وأدوات للعلم مثل ألواح الخلاوي وملابس هررية وطوابع بريد وكتب مطبوعة قديمة.

وصف عبد الله الشريف غرفته المتحف بأنها "ورشة" أكبر همها استعادة المخطوطات الإسلامية التي انتابها الصدأ من طول الهجر وغائلات التخفي. فقد قال عبد الله الشريف نفسه إنه مرت علي المسلمين أزمنة كانت صحبة الكتاب العربي الإسلامي مما يوقع صاحبه تحت طائلة القانون. وأضاف أن حالنا أفضل من ذي قبل. ويكفي أن رئيس جمهورية أثيوبيا توقف يوماً قريباً خلال زيارة له لهرر عند منزله ليشهد متحفه.

فمتي حصل عبد الله على مخطوط (وأكثره مما يتطوع أصحابه به) تفرغ له يعالج داء بِلاه بما في ذلك استخدام الليزر ليزيل فساد الدهر من صحائفه ويجليه فيخرج كعروس القيلة من بين يديه المباركتين.

لقد بدا لي عبد الله الشريف مثقفاً من طراز فريد. فهو مشوب الخيال باسترداد ثقافة ظنوا أن اقلامها كسرت وطويت صحائفها. وهذا شاغل لا تجده بين صفوة من استعمرتهم أوربا وأدخلت في روعهم أن أرثهم ثقافة كتب صفراء أو ترهات بدائية وأن الثقافة الحقة هي ما تلقوه عن الغرب في مدرجات المدارس الحديثة. وقد خَصّب شاغل استرداد ثقافة هرر خيال عبد الله الشريف في حين انطبعت الصفوة من المستعمرين السابقين بفساد الخيال وتهافت المطلب والعقم في الفعل في ثقافتهم. فمن أميز فصول دراسة الصفوة في المستعمرات السابقة هو الفصل المتعلق بفقر خيالها. فقد وطأ الاستعمار مخيلتها وصمم لها النماذج التي عليها أن تحتذيها متى استقلت بحكم بلادها. ولذا وصفها المفكر الثوري فراتز فانون بأنها مجرد "ديدبان" سيحرس إرث الغرب باستماتة لأن الغرب عند هذه الصفوة هو الحكمة وفصل الخطاب وهو ما ينبغي أن يٌتَبع حذوك النعل بالنعل. وستترسم الصفوة مشروع الغرب الحداثي حتى لو انحشر بها في جحر ضب. وهو ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. وحتى الصفوة اليسارية، التي حسبت أنها نجت من بؤس الخيال بسبب ثورتها على الغرب الاستعماري الرأسمالي، صفدت نفسها بنفسها بالنقل الحرفي من النموذج الاشتراكي الذي ساد في في الاتحاد السوفيتي العظيم والعظيم رب العالمين.

ومما أفقر خيال هذه الصفوة تجردها من "الباشون" passion. ولم أوفق إلى تعريب سائغ لهذه الكلمة الإنجليزية الزخارة بالمعاني. ربما قلنا "الحماسة " كترجمة لها ولكنها تقصر عن جمر "الباشون" وحرائقه في وجدان حامله. ولتقريب المعني اضرب مثلاً بسيرة الدكتور التجاني الماحي. فلم يكن مجرد طبيب بل كان حكيماً طلب الخيال البديل لما طبعه عليه الإنجليز. فاشتهر عنه التعلق بالكتاب والوثيقة والرحلة لآثار الأقدمين طلباً للحكمة. ولم يكل أو يمل يتخيل طباً نفسياً، وهو تخصصه، يأخذ من خصائص الأهالي المستعمَرين وخارطة نفوسهم وتاريخها الآخر. فالباشون أن يتعلق عقلك وفؤادك بمعن من المعاني فتتجرد له وتطلبه بجماع نفسك ويمازج النفس والدم وتٌوقِف عليه حياتك تسترخص له كل غال ترصده في الآفاق وتركب له الصعب وتحتازه أو تموت دونه. وكانت العرب تقول في باشون العلم إن العالم المخصوص قد شق أكباد الإبل إي أنه ارتحل بمثابرة يطلب المعرفة في مظانها.

وعبد الله الشريف كان محض باشون خلال لقائي الطويل معه. ولذا كانت غرفته حدثاً في الغرف. فهي الغرفة المضادة لغرفة مصطفي سعيد من رواية "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح التي بناها في القرية السودانية في سياق انسحابه الاستراتيجي من الثقافة الغربية إلى ثقافة "بدائية" تأويه. فبينما تنتسب كتب غرفة الشريف لثقافة محيطها من حولها في بأسائها وهزائمها وإشراقتها تنفصم كتب غرفة مصطفى سعيد عن ما حولها من ثقافة وتجدها مترعة بكل كتاب مشهور من الغرب. فحتى القرآن فيها مترجمة معانيه إلى الإنجليزية. فغرفة مصطفى سعيد هي بنت "وافدة البحار" كما قال الشاعر. كتبها مصنوعة بالخارج ومصدرة إلى الداخل. وظلت هي زاد المتعلم والمهني والصفوي من الأهالي لم يقطع بها أرضاً ولا ظهراً أبقى. وقد حاكمها الطيب صالح باعتقالها في تلك الغرفة الأجنبية بتهمة تسبييب الأذى الجسيم لخيال أمة. على خلاف من ذلك فغرفة عبد الله الشريف بعث لإرث أمة من المسلمين تخطفه الخصوم في مشروعهم الإداري لوحدة الأمة الأثيوبية. وهو مشروع استقل الإرث الإسلامي وانصرف عنه كأن لم يكن. بل شملت غرفة عبد الله الشريف أثراً من هذا المشروع الظالم. فبين البنادق التي أرانا كانت واحدة منها منسوبة إلى الإمبراطور منليك الذي فتح هرر وضمها لإمبراطوريته في 1877. وقد أشار لنا عبد الله الشريف إلى نقش عليها هو "نِفتِنجَا" وهو في العربية "القاهر". وقد قهر منليك بالفعل ولكن إلى حين. فانبعاث غرفة مثل غرفة عبد الله الشريف شاهد عدل أن دولة القهر ساعة.

ولا تشبه غرفة مصطفي سعيد في القرية السودانية في هرائها وقلة عقلها سوى متحف آرثر راميو بمدينة هرر نفسها. فسبب وجود هذا المتحف بالمدينة هو أن الشاعر زار هرر وأقام بها حيناً من الدهر. وقد حملته لهرر نزوة رومانسية كره بها الرومانسيون من قبيله جفاء مجتمعاتهم الأوربية الرأسمالية فساحوا في آفاق العالم ينشدون العالم الفطري الذي هجرته أوربا إلى الثورة الصناعية. فمتحف راميو حدث أوربي محض يخلد حَجَة أوربية صرف لهرر. وكان يمكن لهذة الحجة والتجرة ان تكون لبلد آخر. اي أن هرر لم تكن مقصودة لذاتها وإنما هي واحدة من مواطن "البدائي النبيل" الذي تلاشى في أوربا أو كاد. ووفود الأوربيين واجتماعهم عند المتحف كما رأينا هو فرح بشهوة رجل أوربي مثلهم لعالم بكر ولكنه ساذج لم يعصمه نبله المزعوم من الوقوع فريسة للاستعمار الغربي. فمتحف الشاعر ليس بشئ كما قال عبد الله الطيب في مقام الثقافة. بينما غرفة عبد الله الشريف هي الثقافة. فالهرريون يأتون إليه طواعية الآن بذخائرهم المخبأة من أرث العربية والإسلام ليستروده من الصدأ إلى العافية. وقال عبد الله الهرري لقد وثقوا بي. وهذا كل شيء. والثقة أصل في حسن الثقافة.



ولعل اكثر ما سر بالي أن يأتي ذكر حسن لمواطن سوداني في معرض هذا الجهد المبارك. فقد عبر عبد الله الشريف عن عرفانه لجهد السيد عوض محمد حسن، من خبراء الأمم المتحدة بأديس أبابا، في استخلاص مبلغ 14 الف دولار من اليونسكو لصالح بناء متحف المخطوطات الإسلامية بهرر. وقد عرفت عوضاً بالاسم طبعاً غير أن عبد الله الشريف سارع ليصفه ب "أب شلخ". وتأكد لي أن الزول زولي. فهو ذو شلخ على هيئة "تي" يزين وجهاً غاية في الوسامة. وهو دبلوماسي سوداني "طهرته" دولة الإنقاذ في باكر أيامها. فتعين بالأمم المتحدة فأحسن وتميز. ولا أذكر أين وجدت صورته بالزي السوداني بصحيفة ما. بل لا أذكر المناسبة سوى أنه أحسن صنعاً ما فنوهت به الصحيفة. وأكثر ما "كلب شعرة جلدي" أن عوضاً، الذي استغنت عنه حكومة تسمت بالإسلام، لم يحقن على الإسلام فعل طائفة كبيرة من مرافيد الإنقاذ. بل انتهز سانحة متحف عبد الله الشريف ليؤازر من موقعه بالأمم المتحدة ديناً مستضعفاً كاد الملأ أن يخرجوا أهله من ديارهم. وقد مكن عوض لعبد الله الشريف وورثاءه من المادة المعروضة في عقد ذي أطراف ثلاثة هي عبد الله الشريف والحكومة الأثيوبية واليونسكو لكل ما عليه وله ما له. واصبح من حق عبدالله أو وريثه أن يستقل بمادته المعروضة بالمتحف متى شاء بعد إنذار سنة لبقية الأطراف.
غرفة عبد الله الشريف المتحف هي رد هرر الإسلامية بعد طول ترويع على دولة الإتباع التي نزعت المواطنة عن المسلمين. لقد تأخر الرد قرناً بأكمله. والخير. يا للصبر الجميل المستحق. فبقيام متحف الحضارة الإسلامية بهرر عن قريب تصبح أثيوبيا بلداً عذباً في مقاس أهله ج
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

شكرا يا حاتم إلياس على هذه المناولة.. إذ يليق فيها القول، بشكل شخصي، إنها "وقعت لي في جرح"؛ وما أكثر جراح الخاصرة!
وشكرًا للبروف الذي أضاء ما عتم علينا من ماركسية التماسيح وفردوس اشتراكيتهم التي هي "من فصول حزن التقدميين الغراء" كما جرت عبارته؛ والشكر له، أيضًا، لكونه دلّنا بملاحظته الباكرة "أن صبايا المدينة (أديس) مثل نخل السيد خضر علي مصطفى"!
شكرً لك يا حاتم إلياس، ومدد يا بروف مدد(!)
أضف رد جديد