مقالاتي في صحيفة التيار

Forum Démocratique
- Democratic Forum
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مدونة آمادو

مشاركة بواسطة حسن موسى »

شكرا يا الصادق على المناولة العامرة
بس كمّل جميلك أدينا رابط لمدونة أحمد الشريف حتى نستزيد من تفاكيره.
غايتو يا النور الله أكرمك بقراءة عبد الله و قراءة الشاب الإسمو "اماديوس " بينما أنحنا بهناك ما زلنا "نلكلكو في أم صميمة"..
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


شكرا يا الصادق على إيراد هذا النقد الدقيق المبصر
نعم يحتاج طرحي إلى ايضاحات وشروحات اضافية، والى معالجة المناطق غير المتسقة، وهو مشروع لا يزال في بدايتاته.
أنا استخدم الصحف والأسافير للعصف الذهني، ولأخذ ردود الأفعال النقدية الإيجابية، كالتي أوردتها هنا.
وما أقوم به الآن مجرد مخطط أو نموذج أولي:"بروتوتايب prototype
لقد قمت بتغطية الممالك المسيحية واجهاض الرعوية لها، في الحلقة الثالثة التي سوف تنشر بعد غد.
وستشمل الحلقة الرابعة الحقبة السنارية والمهدية.
تحياتي للكاتب ولك
مع المودة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

حسن والنور
تحياتي
هذا هو رابط المدونة

https://amadudekosti.blogspot.com/2016/1 ... t.html?m=1
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


شكرا يا الصادق

وهاكم مناولة جديدة من الصديق الشيخ محمد الشيخ
وصلني تعليق الشيخ عن طريق الصديق وجدي كامل، ولا أدري أين نشر الشيخ مداخلته القيمة، ربما في حساب أو في مجموعة على وسائط التواصل الإجتماعي.
المهم، ملاحظات الأخ الشيخ، موضع احتفائي واعتباري.
سأواصل كتابة الحلقات، وحين أفرغ أعود للترقيع. و"الرقاعة" مصطلح زراعي. يلقي المزارعون البذور في الحقل فينبت بعضها ويخفق بعضها في أن ينبت، فيعيد المزارعون الكرّة ويرقعون الحفر التي لم تنبت ببذور جديدة.

إلى ملاحظات الأخ الشيخ:

حول اطروحة العقل الرعوي:

لا شك أن الدكتور النور حمد من الكتاب السودانيين المتميزين ، لذا كا طبيعياً أن تجد اطروحته حول”العقل الرعوي” اهتماما كبيراً من بعض القراء ومن الأكاديميين من هم في قامة الدكتور عبد الله علي إبراهيم. اتفق مع الدكتور علي في أن على النور أن يعرف ماذا يقصد بالعقل الرعوي حتى تقف اطروحته على رجليها، هذه مسألة بديهية عجبت كيف لم يعرها النور انتباهاً. لا أحد يطلب من النور أن يقدم بحثاً مكتملاً، لأن لا أحد في مقدوره أن يقدم بحثاً مكتملاً، لأن العمل الإبداعي دائما مفتوح على الاطلاق قادر على تجاوز ذاته. لذا يكون الكاتب محظوظاً إذ يجد من يهتم بما يكتب ويشير إلى نقاط الضعف إن وجدت. لأن العمل العظيم هو الذي يفتح المجال ويستوعب مساهمات الآخرين. لذا أود أن أشير إلى النقاط التالية في أطروحة العقل الرعوي علاوة على ما تفضل به الدكتور عبد الله:

1 – منح النور العقل الرعوي كماً من الأدوار والوظائف دون أن يحدد التركيب الذي يسمح بهذه الوظائف، مع علمنا أن لا وظيفة بلا تركيب. على سبيل المثال ما هي الخصائص التكوينية للعقل الرعوي التي تسمح له بتوليد نظامه المعرفي، ونظامه القيمي ومفهومه للذات الرعوية.

2 – تحدث النور عن ظواهر للعقل الرعوي تتعلق بالطبيعة الإنسانية دون التأسيس لنظرية في الطبيعة الإنسانية. هل الطبائع الرعوية انعكاس للبيئة ،كيف؟ والعقل الرعوي كما قدمه النور يتجلى في كل البيئات. هل هي نتاج لمراحل التاريخ، كيف؟ وهي تتجلى في كل المراحل. هل هي نتاج للبيولوجيا، كيف أبدعت البيولوجيا هذا الشيطان؟

3 – موضع النور العقل الرعوي في التاريخ، أيضا دون تأسيس نظرية في حركة التاريخ. اختار نظرية التطور الدوري التي قال بها ابن خلدزن واسوولد اشبنقلر وارنولد توينبي، لكن أيضاً بالمقابل توجد نظرية التطور الخطي التي قال بها ماركس وانجلز ونظرية التوازن والاستقرار البنيوية التي قال بها ليفي اشتراوس. يجد كل من هذه النظريات سنده في حركة التريخ. لذا فإن المشكل الراهن في حركة التاريخ لا يتطلب قبول طرف والغاء الأطراف الأخرى بقدر ما يتمثل في علاج مشكلة البنية والتاريخ، بمعنى كيف تيسر للبناء الاجتماعي توليد مسارات متنوعة لحركة التاريخ؟!.

لا أخفي سروري بالطريقة الأكاديمية الثرة التي أدار بها كل من عبد الله والنور الحوار لهما كل الاحترام والتقدير.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ÇáäæÑ ÃÍãÏ Úáí
مشاركات: 552
اشترك في: الأربعاء يناير 27, 2010 11:06 am

مساهمة الشيخ محمد الشيخ

مشاركة بواسطة ÇáäæÑ ÃÍãÏ Úáí »

الصديق النور حمد
والاخوة المتداخلون علي هذا البوست المشاء
سلاما: اداه رابط مساهمة الصديق الشيخ محمد الشيخ. والتي اذاعها اول امس علي صفحته علي (الفيسبوك)


https://www.facebook.com/elsheikhmohame ... 1957652977
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »


أدنا مساهمة الدكتور الشيخ محمد الشيخ التي نشرها على صفحته في (الفيسبوك)، ونوّه لها الصديق، النور أحمد علي في المداخلة أعلاه
حول أطروحة العقل الرعوي:

لا شك أن الدكتور النور حمد من الكتاب السودانيين المتميزين، لذا كان طبيعياً أن تجد أطروحته حول”العقل الرعوي” اهتماما كبيراً من بعض القراء، ومن الأكاديميين من هم في قامة الدكتور عبد الله علي إبراهيم. اتفق مع الدكتور علي في أن على النور أن يعرِّف ماذا يقصد بالعقل الرعوي، حتى تقف اطروحته على رجليها، هذه مسألة بديهية، عجبت كيف لم يعرها النور انتباهاً. لا أحد يطلب من النور أن يقدم بحثاً مكتملاً، لأن لا أحد في مقدوره أن يقدم بحثاً مكتملاً، لأن العمل الإبداعي دائما مفتوح على الاطلاق، قادر على تجاوز ذاته. لذا يكون الكاتب محظوظاً إذ يجد من يهتم بما يكتب ويشير إلى نقاط الضعف إن وجدت. لأن العمل العظيم هو الذي يفتح المجال ويستوعب مساهمات الآخرين. لذا أود أن أشير إلى النقاط التالية في أطروحة العقل الرعوي، علاوة على ما تفضل به الدكتور عبد الله:
1 – منح النور العقل الرعوي كماً من الأدوار والوظائف دون أن يحدد التركيب الذي يسمح بهذه الوظائف، مع علمنا أن لا وظيفة بلا تركيب. على سبيل المثال ما هي الخصائص التكوينية للعقل الرعوي التي تسمح له بتوليد نظامه المعرفي، ونظامه القيمي ومفهومه للذات الرعوية.
2 – تحدث النور عن ظواهر للعقل الرعوي تتعلق بالطبيعة الإنسانية دون التأسيس لنظرية في الطبيعة الإنسانية. هل الطبائع الرعوية انعكاس للبيئة، كيف؟ والعقل الرعوي كما قدمه النور يتجلى في كل البيئات. هل هي نتاج لمراحل التاريخ، كيف؟ وهي تتجلى في كل المراحل. هل هي نتاج للبيولوجيا، كيف أبدعت البيولوجيا هذا الشيطان؟
3 – موضع النور العقل الرعوي في التاريخ، أيضا دون تأسيس نظرية في حركة التاريخ. اختار نظرية التطور الدوري التي قال بها ابن خلدون واسوولد اشبنقلر وارنولد توينبي، لكن أيضاً بالمقابل توجد نظرية التطور الخطي التي قال بها ماركس وانجلز ونظرية التوازن والاستقرار البنيوية التي قال بها ليفي اشتراوس. يجد كل من هذه النظريات سنده في حركة التاريخ. لذا فإن المشكل الراهن في حركة التاريخ لا يتطلب قبول طرف والغاء الأطراف الأخرى بقدر ما يتمثل في علاج مشكلة البنية والتاريخ، بمعنى كيف تيسر للبناء الاجتماعي توليد مسارات متنوعة لحركة التاريخ؟!.

لا أخفي سروري بالطريقة الأكاديمية الثرة التي أدار بها كل من عبد الله والنور الحوار، لهما كل الاحترام والتقدير.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


شكرا يا النور الأحمر
ويا يوسف حمد
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشريح بنية العقل الرعوي
(3)

بنية العقل الرعوي ليست بنيةً عقليةً خاصة بالسودان، وإنما بنية وفدت إليه منذ بداية تماهيه مع الفضاء العربي، منذ القرن الرابع عشر الميلادي. وهو تماهٍ اكتملت أركانه على أيدي الخديوية حين غزت البلاد، في نهايات الربع الأول من القرن التاسع عشر. بدخول الثقافة الرعوية التي حولت القرى النوبية الممتدة على طول مجرى النيل إلى ما يشبه البادية، انقطعت التواصلية الحضارية السودانية، واعتلّ، من جراء ذلك، البناء العقلي والوجداني السوداني. فقد تكاثرت هجرات البدو في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، فأصبحوا يمثلون فيه الأكثرية الغالبة، ذات البأس. ومع بداية القرن السادس عشر لم تبق من الممالك النوبية مملكة قائمة سوى سوبا. حينها قام تحالف بين عرب العبدلاب والفونج فهوجمت سوبا وسوِّيت بالأرض. ودخل السودان منذ تلك اللحظة في موجة من الصراعات العنيفة المتواصلة، استمرت لثلاثة قرون.

من ينظر إلى خريطة العالم السياسية والاقتصادية اليوم، يجد أن الفضاء العربي، قد أخذ يتحول، منذ عقودٍ خلت، إلى بؤرةٍ للاضطرابات، وإلى حالةٍ مستعصيةٍ من العجز عن الإمساك بجوهر الحداثة ومضمونها. ولا يغيِّر في هذه الصورة العامة السالبة، التي أخذت تطبع الفضاء العربي بطابعها، شيئًا، كون أن بعض دوله تمظهرت بمظاهر الحداثة. فمع الحداثة المظهرية التي طبعت الصورة الخارجية لمجتمعاته، ظلت سلطة العقل الرعوي، الذي اختطف سلطة الدين، تضغط بوتيرة مضطردة، في كثيرٍ من انحائه، على منجزات الحداثة التي تحققت له في الحقبة الاستعمارية. أكثر من ذلك، تحوَّل الفضاء العربي إلى معملٍ لتفريخ الحركات الإرهابية ذات المسوح الديني الكاذب، وقويت هذه الحركات بدعم من الأنظمة الحاكمة، التي تسود فيها بنية العقل الرعوي، حتى أصبحت هذه الحركات المتطرفة مهددًا حقيقيًا للأمن والسلام الدوْليَّيْن. كما وضعت عددًا من الدول العربية فوق السندان، فأضحت تتلقى ضربات مطرقة التشظي.

ما ظل يصدر، في العقدين الأخيرين، مما تنشره مؤشرات التنمية المختلفة، يدل على أن الفضاء العربي، في مجمله، يعاني من عللٍ مركزية، ربما لا يشاركه فيها فضاءٌ آخر، في عالم اليوم. هذه المؤشرات التي تنشرها المؤسسات الدولية، هي مما يكره كثيرٌ من المتحكمين في هذا الفضاء سماعه، وينصرفون، من ثم، عن التعامل معه، بالجدية التي ينبغي أن يجري التعامل بها معه. فكل مؤشرات التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، إضافةً إلى مؤشرات التعليم، والتنمية البشرية، ومؤشرات معدلات البطالة، والتحول الديمقراطي، والشفافية، وحقوق الإنسان، وغيرها من المؤشرات، لا تنفك تقول، إن هذا الفضاء من أقل أقاليم العالم إنجازًا في عالم اليوم، خاصةً إذا ما قورن بفضائي شرق آسيا، وأمريكا الجنوبية. كما أنه أصبح موبوءً بعنفٍ فظيع، وحالةٍ من عدم الاستقرار، لا تنفك تتعمق، كل صبحٍ جديد. ولو غضننا النظر عن القفزات الجبارة التي أحدثتها الدول الآسيوية، مقارنةً بالفضاء العربي، الذي قعدت به ثقافته عن الانطلاق، فإننا نجد أن البلدان الإفريقية، التي لا تملك ثرواتٍ، مثل ما تملكها كثيرٌ من الدول العربية، قد أخذت، هي الأخرى، تضع أرجلها في الطريق الصاعد، وأخذت تحتل مواقع متقدمة في المؤشرات الدولية المختلفة. ولسوف تشهد العقود القريبة المقبلة تحولا كبيرًا تصبح به إفريقيا في دائرة الضوء، وفي قلب الاهتمام الدولي. وسينصرف العالم، في نفس الوقت، عن الفضاء العربي، وهو أمر بدأت بداياته تلوح بالفعل، ليسقط في دوامات من الاضطرابات والفوضى.

التجاهل المستمر لإشكالية بنية العقل الرعوي، جعل الإشكال الثقافي العربي الإسلامي، بلا لمسٍ جديٍّ يذكر. وهذا، في نظري، هو ما جعل هذا الفضاء يسقط في مستنقع الهوس الديني، والعنف، والحروب الأهلية التي سوف تنتهي إلى تفكك كثير من دوله، وتحوُّلِها إلى قوىً صغيرةٍ متنازعةٍ، تسيطر عليها أجندة لوردات الحرب من الجماعات الهوس الديني. ورغم هذه المستقبل المظلم الذي أخذت سحبه تتكاثف، حتى سدت الأفق، نجد أن المثقفين العرب والإعلام العربي غارقيْن في الإنكار، مشغوليْن بالسياسي، عن الفكري والثقافي. أما الأكاديميا العربية، فإنها ظلت، في مجملها، ترى هذا الواقع بعدسة كلفةٍ بالجزئيات، مستغرقة في مداهنة الأنظمة، ومداهِنةً بنية الثقافة القائمة، وغارقةً في رطانةٍ لا يعيها الجمهور العربي. كما نجدها منصرفة عن الداخل ومستغرقةً في التنديد بالمؤامرات الخارجية. وما من شك أن هناك مؤامرات، غير أن هذه المؤامرات لم تجد طريقها لتصبح مؤثرةً ومتحكمةً في خيوط اللعبة في هذا الفضاء، إلا من خلال ثغرات البناء الفكري والثقافي، التي ينكر المثقفون العرب وجودها، ولا ينفكون.

لسنا، مسؤولين، نحن السودانيين، عن ما أصاب جسد الفضاء العربي من علل. فتلك قضية هذا الفضاء الذي أُلحقنا به إلحاقا. تلك أزمتهم، التي ينبغي عليهم مواجهتها بأنفسهم، كما علينا نحن أن نواجه ما أصابنا من تمدد العلل العربية، بأنفسنا، من داخل بنية تاريخنا، وبنية ثقافتنا اللتين غُيِّبتا. بل نحن لا نملك، بإزاء هذا التحدي الضخم الذي يواجه بنية العقل العربي، (وهو لا يزال عقلاً رعويًّا)، قدرةً تذكر. وغني عن القول أننا أضحينا اليوم أعجز من أن نتدبر أمر أنفسنا، دع عنك أمور غيرنا. لقد أدغمنا همومنا في ما ظللنا نظنه همًا واحدًا للعرب، ولم يكن ذلك إلا نتاجًا للاستعمار الثقافي المصري، الذي أبتلينا به. فما ينبغي علينا، فعله منذ الآن، وفق تقديري، هو ألا ندغم همومنا في الهم العربي الذي ألبسنا المصريون خوذته، قسرًا ومخادعة. ففي حقيقة الأمر، لا يوجد هم عربي مشترك، وإن ادعى المدعون. بل، إن بأس الدول العربية بينها، أكثر بكثيرٍ من بأسها مع أعدائها.

من سمات الرعوية التي ابتلينا بها، سقوط المؤدلجين منا في مستنقع الدعاوى العريضة، كدعاوى "القومية العربية" التي غرق فيها الناصريون والبعثيون، ودعاوى "الأممية الإسلامية"، التي غرق فيها إسلاميونا، منذ عقود، ظانين أن استنقاذ العالم رهينٌ بهم، وأنهم سيجعلون من السودان رأس الرمح في هذا التغيير الشامل العابر للأقطار. وقد يقول قائلٌ، إن دعاوى "القومية" و"الأممية" دعاوى حديثة، فهي تتعدى الهم القطري، إلى الهم الكوكبي. غير أن حقيقة هذا الدعاوى، بعد أن نأخذ في الاعتبار، حالة الضعة العربية الراهنة، والتاريخ العربي الذي ظل في تراجع، ومجمل حالة هلهلة البنى العربية، وفقدان الرؤية، وفقدان المبادرة الحضارية، والاقتيات المستمر من موائد السلف، تجعل من هذا النوع من التفكير مجرد سذاجة، يستنجد أهلها بالكثرة العددية، وحدها، لمواجهة التحديات. وهذا فعلٌ يدخل في إطار الاستقواء بغزارة العدد التي يوفرها القطيع، لا أكثر. وهذا بلا شكٍّ، نهجٌ رعويٌّ، مغرقٌ في الرعوية. ما يجب أن ننصرف إليه، نحن السودانيين، هو السعي إلى معرفة الكيفية التي تسرب بها إلينا هذا الداء، إضافة إلى معرفة الكيفية التي يمكن أن نخرج بها من قبضته. وكما سلفت الإشارة، فإن علة العقل الرعوي، علةٌ وفدت إلى السودان من خارج حدوده الجغرافية، وإلى حدٍّ كبير، من خارج بنية تاريخه الممتد منذ آلاف السنين.

بمراجعةٍ متأنيةٍ للتاريخ السوداني، يمكننا أن نصل إلى المنعرج الذي حدث فيه التغيُّر الجوهري في بنية الحضارة السودانية، فارتدت، عبر ملابساتٍ معقدةٍ، من قيم الاستقرار والتمدن، إلى قيم البداوة والرعي، وأخلاقيات السلب والنهب، وفرض الإرادة، على الغير بقوة السلاح. وأهم من ذلك، في ما نحن مبتلون به اليوم، علينا تأمل ظاهرة ضمور الاهتمام المزمن بالمشترك العام، والعمل المستمر على تحطيم البنيات التعاقدية، التشاركية، التي تمثل كيان الدولة.

لقد حدثت هذه الردة في تاريخنا على مرحلتين: كانت أولاهما حرب عبد الله بن أبي سرح، الذي وَلِيَ أمر مصر، عقب عمرو بن العاص، وما تمخض عن حربه مع النوبة من اتفاقية، سميِّت "اتفاقية البقط"، في القرن السابع الميلادي. وقد كان التأثير السالب لغزوة ابن أبي سرح محدودًا. فقد عاد ابن أبي سرح بجنو\ه، وبقيت النوبة على ما هي عليه، إلا قليلا. أما ثانيتهما، وهي الأكثر فداحةً، فهي نزوح الأعراب من مصر، بمواشيهم، في القرن الرابع عشر، إلى سهول السودان، بعد أن ضغط عليهم المماليك. ولقد حدثت المرحلتان بفارقٍ زمنيٍّ بلغ سبعة قرون. في المرحلة الأولى، لم يكن تأثير حملة ابن أبي سرح كبيرًا على حضارة النوبة، وحياة الاستقرار الطويلة التي عاشوها، كما سلفت الإشارة. فقد بقي النوبة يدفعون "البقط"، بعد تلك الحرب، لستةِ قرون. وقد عاشت أقلية المسلمين وسط النوبة كل تلك القرون، ولم يحدث بوجودهم تغيير جوهري يذكر في الطبائع المدينية القديمة للنوبة. ويبدو أن من أسلموا داخل النوبة قبل غزوة ابن أبي سرح، اعتنقوا نسخة اسلاميةً متمدينةً من الإسلام، مغايرةً لنسخة الإسلام البدوي المظهري، الذي أتى به الأعراب النازحون لاحقًا.

يحتفل "الإسلاميون"، ومن لف لفهم من معتنقي رؤية السلف، باتفاقية البقط، ويرون فيها المعبر الذي منه أشرق نور الإسلام على بلاد السودان، وهذا غير صحيح. فقد جاءت اتفاقية البقط نتيجة لعجز جيش بن أبي سرح عن هزيمة النوبة، هزيمة ساحقة. وفي الأصل، جاء ابن أبي سرح وجيشه غزاةً فاتحين، ولم يجيئوا دعاةً كما يظن الكثيرون منا. لقد كان هدفهم الأساس هو توسيع الملك، وجلب الغنائم، وزيادة الخراج. غير أن النوبة واجهوهم بالنبال التي يتقنون تصويبها، وطفقوا يفقؤون عيون جنود القوة الغازية. فقال المهاجمون، على لسان شيخٍ حميري، كان قد صحب الحملة، معلقًا على ما جرى وسط الجيش الغازي من ثملٍ للأعين: والله إن بأسهم لشديد، وإن سلبهم لقليل؛ أي أن منطقتهم فقيرة، ولا ينبغي أن نخسر من أجلها عيون جيشنا. ومن الجهة المقابلة، فقد أصاب الرهق النوبة، من تواصل الكر والفر، كما رأوا خطر المنجنيق الذي قذفهم به ابن أبي سرح، فهدم كنيستهم. وعلينا أن نستحضر في أذهاننا، أن الشعب النوبي، قد أصبح، منذ سقوط نبتة ومروي، شعبًا قليل العدد. خلاصة الأمر، أن المواجهة بين الطرفين انتهت بما يشبه الاتفاقية التجارية للتبادل السلعي؛ بين إمبراطورية تسعى وراء المغانم الدنيوية، وبين مملكةٍ صغيرةٍ مرهقة، أرادت أن تشتري لنفسها هدنةً، بمقابلٍ مالي. وانتهت الاتفاقية بالسماح للطرفين أن يمروا ببلاد بعضهم، عابرين غير مقيمين، من أجل الاتجار.

لا مجال البتة، إلى القول، إن غزوة ابن أبي سرح التي لم تبلغ هدفها، وما سبقها من غزوات، منذ غزوة عقبة بن نافع الفهري، لبلاد النوبة، في ولاية عمرو بن العاص لمصر، هي التي بعثت نور الإسلام إلى داخل بلاد النوبة. فحقيقة الأمر، أن الإسلام كان موجودًا في بلاد النوبة، قبل قدوم الغازين، وقبل اتفاقية البقط. ولكن وجوده كان محدودًا جدًا. والدليل على ذلك أن الاتفاقية نفسها نصت على أن يرعى النوبة المسجد الموجود أصلاً في دنقلا، فيقومون على نظافته وإسراجه والعناية به. ولم يكن النوبة بحاجة إلى هذا الشرط، فهم قد كانوا يقومون بذلك العمل، على أي حال، لأنهم، وهم المسيحيون، سمحوا ببناء ذلك المسجد. وهذه هي طبيعة الحياة النوبية، منذ سوالف الحقب، في قبول الآخر المختلف. أما بقية شروط اتفاقية البقط، فهي شروط دنيوية، أهمها إرسال 360 رأسًا من العبيد إلى مصر، مقابل إرسال مصر العدس والقمح وغيره من الحبوب، مما تنتجه مصر إلى ملك النوبة. ولقد سبق أن تناولتُ اتفاقية البقط قبل سنوات عديدة، في مسلسلة نشرتها لي صحيفة الأضواء، تحت عنوان: "العصر الأموي وفجر البراغماتية الإسلامية". ما أراه، وهو ما تؤيده كثيرٌ من الشواهد، أن نور الإسلام لم يصل إلى السودان، نتيجة لحملة ابن أبي سرح، وإنما عن طريق المتصوفة، الذين بدأوا يفدون إلى السودان ابتداءً من القرن الرابع عشر وحتى الخامس عشر، وتوطدت أركان منظومتهم ورسخت عبر قرون السلطة الزرقاء (1504-1821). ولم تكن العلاقة بين المتصوفة، وحكام سنار الذين تغلب عليهم قيم الرعاة، علاقة سلسلة. يقول سبولدينق: "لم تكن العلاقة بين رجال الدين وطبقة النبلاء مريحةً، ويحوي السجل التاريخي فواصل كثيرة من حوادث الوحشية الرسمية ضد رجال الدين، والتي بادلها هؤلاء باللعنات المرعبة، والانذارات بحلول الكوارث ... أنجز رجال الدين بعض الانتصارات الأساسية على منافسيهم وعلى السلطات المحلية". (سبولدينق، عصر البطولة في سنار، (ترجمة: أحمد المعتصم الشيخ، هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، الخرطوم السودان، 2011، ص 145).

عمومًا، لم يكن هؤلاء المتصوفة ضمن الأعراب الرعاة الذين وفدوا إلى السودان، فقد جاء المتصوفة من جهاتٍ أخرى ولأغراضٍ أخرى، وهذا هو الأهم. وعمومًا، لم يفد إلى السودان المتحضرون من العرب والمسلمين، وإنما وفد إليه الرعاة البدويون، الذين عاشوا، قبل مجيئهم، على مبعدةٍ من مراكز الحضارة الاسلامية، ما جعلهم لا يتأثرون كثيرًا بقيمها. بل يمكن القول، دون أدنى تردد، إن ما جلبته نوعية العرب الذين وفدوا إلى السودان، كان قيمًا تمت بالصلة للحقبة الجاهلية، أكثر من كونها تمت بالصلة للإسلام. وقد كان تكاثر هؤلاء الرعاة، واستشراء نزعتهم للقهر والغلبة، وانتزاع الحيازات، هو ما قضى على ما تبقى من نمط الحياة النوبية المتحضرة، التي عرفها هذا الإقليم منذ آلاف السنين. لقد أحل الرعاة القادمون القيم الرعوية، التي لا زالت ممسكة بتلابيبنا، حتى اليوم. أما اسلام المتصوفة فقد شكل جيوبًا صغيرة انتشرت في بقاعٍ متناثرة هذا الفضاء الرعوي الشاسع. وقد اتسمت العلاقة بينهم وبين الحكام بالمد والجزر، كما سلفت الإشارة.

تدفقت القبائل الرعوية على سهول السودان، أثر تضييق المماليك عليهم في مصر، في القرن الثالث عشر الميلادي. وقد أخذت هذه القبائل الوافدة تناوش المستقرين على ضفاف النيل، حتى هدمت حضارتهم وأبدلت عقلهم المديني بعقلٍ رعويٍّ، به اضمحل العمران النوبي المستقر منذ آلاف السنين، إلا قليلا. وما قام به الأعراب البدوان، من نهبٍ وسلبٍ وتخريبٍ، وقطع للطرق، ما عوق التجارة، هو ما أزال ملك النوبة. وهذا هو ما أكده ابن خلدون. يقول ابن خلدون، إن إفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم، في المئة الخامسة، وبقوا فيها ثلاثمائة وخمسين من السنين، عادت بسائطها كلها خرابًا، بعد أن كان ما بين السودان، والبحر الرومي، كله عمارًا. ويقول ابن خلدون، إن ما يشهد على ما كان من عمرانٍ في هذه المناطق، ما بقي قائمًا من بقايا الآثار، ومن معالم وتماثيل، وأيضًا، ما بقي من شواهد على ما كان فيها من قرى ومن مدر. (راجع: عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة بن خلدون، دار الفجر للتراث، القاهرة، ج م ع، 2004، ص 196).
(يتواصل)
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشريح العقل الرعوي
(4)


يسير وليامز آدمز على خطى ابن خلدون في تسبُّب الأعراب الوافدين في انهيار الممالك النوبية، خاصة ما كتبه بتفصيل عن سقوط المقرة المملكة النوبية، في الشمال السوداني في منطقة دنقلا. ذكر آدمز، أن وفدًا أتى إلى السلطان المملوكي، في عام 1365 من ملك نوبي يريد العون ضد قبائل بني جعد، وبني عكرمة، التي كانت تهجم على المملكة وتوسعها، نهبًا وتخريبا، (وليام آدمز، النوبة رواق إفريقيا، (ترجمة محجوب التجاني)، (ط3)، (بلا ذكر لدار النشر)، القاهرة. 2004، ص 468). ويرى آدمز أن ما ساعد الأعراب على نشر الفوضى، هو اضمحلال البلاط النوبي، وكثرة المؤامرات بين المتنافسين على الملك فيه.

يروي آدمز، أن ملكًا نوبيًا استعان ببني جعد لخلع خاله، الذي كان ملكًا، غير أنه، ما لبث أن انقلب على حلفائه هؤلاء، فذبح معظم قادتهم. وجد الملك عقب ذلك، أنه أضحى مكشوفًا، وليس في مقدوره الدفاع عن ملكه، فنزح، هو وأفراد بلاطه، شمالاً، مخلفًا عاصمته بلا حراسة. كما أنه وجد بعد نزوحه، أن وضعه الجديد لم يكن أفضل كثيرًا من سابقه، إذ وضعه في مواجهة مباشرة مع بني كنز وحلفائهم، بني عكرمة. وهنا وجد أعراب بني جعد الفرصة سانحة للانتقام من ذلك الملك، فهاجموا المدينة ونهبوها وخربوها.

يقول آدمز، إن الملك لم يحاول استرجاع عاصمته المخربة، فتركها، والمقاطعة المجاورة لها لمن أسماهم وليامز، "العرب المشاكسين". وهكذا انهارت مملكة المقرة، في منطقة دنقلا الحالية، بوصفها كيانًا سياسيًا. ويؤكد انهيار السلطة ودخول المنطقة في أتون الفوضى، مار وراه وايام آدمز، نقلا عن رحالة أوروبي، مر بالمنطقة بعد قرن من انهيار المقرة. إذ قال ذلك الرحالة، إن على الطريق الذي يؤدي إلى ديار النوبة، من الجانب الغربي من النيل، أناسٌ سيئون، نهّابون، قتلة. (نفس المصدر السابق).

أما مملكة علوة في منطقة نهر النيل ابتداء من كبوشية الحالية جنوباً إلى منطقة الخرطوم الحالية، والتي تقع إلى الشرق منها أغنى الأراضي الرعوية في السودان، في سهل البطانة، فقد جرى اختراقها بواسطة الأعراب، بكثافة أكبر، مما جرى للمقرة. وقد أضحت مملكة علوة مهددةً أكثر من جانب القبائل الرعوية الراحلة التي قدمت من مصر إلى السودان. وكانت أكبر القبائل التي استقرت في سهول السودان الأوسط ابتداءً من القرن الحادي عشر وحتى القرن الخامس عشر، هما قبيلتا جهينة وقريش، اللتين تعود أصولهما إلى الحجاز، وقد هاجرتا، إلى مصر العليا، في زمن الفاطميين. وحين ضغط عليهما المماليك، انتقلتا إلى سهول السودان سعيًا وراء المرعى.

يرى يوسف فضل، أن الصراع بين العرب وبين السكان الأصليين المستقرين كان حتميًا، بحكم سعي العرب للسيطرة على المرعي. ويرى يوسف فضل أن العرب ربما دفعوا السكان الأصليين إلى خارج مناطقهم، وربما سعوا إلى السيطرة على المناطق الغنية على مجرى النيل. ولقد كانت دولة علوة قادرةً على الدفاع عن نفسها، وعلى إبقاء الأعراب تحت سيطرتها، في بداية الأمر. غير أن الميزان سرعان ما اختل جذريًا في صالح العرب. (Yousif Fadul, The Arabs and the Sudan, Edinburgh, UK, 1967, pp. 50-60). ويسير ماكمايكل في ذات الاتجاه فيقول إن سقوط دنقلا في القرن الرابع عشر، مكن العرب من الاندفاع جنوبًا نحو مراعي كردفان وكسلا، أي غرب وشرق النيل، فأبعدوا النوبة، سكان المنطقة الأصليين، جنوبًا، وحصروا البجا على سواحل البحر الأحمر. وقد صمدت مملكة سوبا بين النيلين الأزرق والأبيض لمئتي عام أخرى، عقب ذلك الانتشار العربي الكبير في بواديها، حتى سقطت نتيجة لتحالف العرب مع الفونج في بداية القرن السادس عشر.

انتشر العرب في مراعي السودان، بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، في مساحات شاسعة جدا شملت منطقة كسلا، وكل سهل البطانة، تقريبا. كما شملت سهل الجزيرة الواقع بين النيلين. كما شمل انتشار العرب كل المنطقة الواقعة غرب مجرى النيل الرئيس، من منحنى النيل، إلى المنطقة الواقعة غرب النيل الأبيض حتى منطقة الجبلين الحالية، جنوبي كوستي، بامتدادٍ نحو العمق في الغرب، شمل شمال كردفان وشمال دارفور. حصر هذا التحول ما تبقى من الحضارة النوبية على مجرى نهر النيل الرئيس، وضفتي النيل الأزرق جنوبي الخرطوم. وبعد أن انهارت المقرة، وانهارت علوة، جرى القضاء على على الإرث الحضاري النوبي الذي بقي متواصلاً، رغم ما أصابه من اضمحلال. ويرى آدمز أن مجيء العرب وضع وللأبد المكانة الشامخة التي تمتع بها النوبيون بين جيرانهم الأفارقة. فقد امتلك العرب روحًا قتالية ودرجة عالية من الحراك افتقدها النوبيون. وبالتالي اختل ميزان القوة العسكرية، لأول مرة في تاريخ المنطقة. فخرجت القوة من قبضة الشعوب النهرية لتصبح في يد قبائل السهل والصحراء، (وليام آدمز، مصدر سابق، ص 481).

منذ سقوط مملكتي المقرة وعلوة، دخل السودان في مرحلة جديدة، سمتها الرئيسة، الحروب القبلية، والصراع ضد سلطة الدولة. وعلى الرغم من أن دولة مركزية جديدة في سنار، عقب اسقاط علوة، إلا أنها كانت دولة مضطربة. توسعت دولة الفونج بسرعة كبيرة لكنها أخذت تأكل نفسها، في نفس الوقت، وهي تتوسع، حتى انهارت بسبب الصراعات. فأطماع القبائل، وتمردها المستمر على السلطة المركزية، سببا رئيسًا في الاضطرابات والحروب المستمرة التي انهكتها، فسقطت مثل التفاحة الناضجة في فم الخديوية التي زحفت عليها من الشمال في عام 1821.

لقد وُلد الواقع السوداني الحاضر من رحم مخاض الحروب الكبيرة والصغيرة، التي زخرت بها فترة السلطنة الزرقاء. وهي حروب بالغة الكثرة، حتى ليمكن القول أن العهد السناري لم يكن سوى مسلسلٍ من الحروب المتصلة، المدمرة، خاصة في حقبته الأخيرة. لقد تسرب العقل البدوي الرعوي، بسبب المصاهرات التي أضطر إليها النوبيون لدرء شر الأعراب، إلى أماكن الاستقرار على الشريط النيلي.

أخذت الحروب تنشأ وسط الأسر النيلية نفسها. وعلى سبيل المثال، استغل ملكا الجعليين، نمر ومساعد، غياب ملك بربر، فهجما عليها ونهباها، ونصبا موالً لهما عليها. (E. A. Robinson, Nimir, the Last King of Shendi, Sudan Notes and Records, 1926, ، ترجمة بدر الدين الهاشمي(. وقد تنازع فرعا الجعليين هذان على السلطة، أيضا. فقد تحالف البطاحين مع فرع النمراب من الجعليين، الذين ربطتهم بهم صلة مصاهرة، فهجم الفريقان على جيش الملك مساعد، الذي جروه إلى منطقة تسمى دهاسير بوادي الهواد، فهزموه ثم ذهبوا واحتلوا شندي. ولكن شيوخ المجاذيب تدخلوا ونزعوا فتيل النزاع، وانتهى الأمر بأن أصبح للجعليين مملكتان؛ إحداهما بغرب النيل في "المتمة"، والأخرى في شرق النيل، في "شندي"، يفصل بين عاصمتيهما النهر. (سبولدينق، عصر البطولة في سنار، 331). ولم يكن سكان شندي، حينها، يتعدون الستة آلاف نسمة.

أما في منحنى النيل، فقد دفع تسلط الشايقية، بعضًا من البديرية والركابية إلى ترك المنطقة والاتجاه إلى كردفان ودارفور. وفي البطانة أضطر الشكرية كلا من الحلاوين والركابية والبديرية والخوالدة إلى ترك المنطقة والهجرة إلى غرب النيل الأزرق، ووصلت مجموعات منهم إلى كردفان. وقد أدت معركة المندرة إلى أن يتوجه الركابية إلى الغرب، ورافقتهم في لجوئهم إلى الغرب، شراذم من البديرية، والكواهلة، ورفاعة، والشنابلة، والضباينة والبطاحين، وممن لجأوا إلى الغرب أسرة النوراب التي التفت حول قبيلة الكبابيش، وأحتلت مركز القيادة أثناء حقبة الكيرا، (سبولدينق، المصدر السابق، 345).

أيضًا، يروي كاتب الشونة، أن الصراع الذي نشب بين الهمج والشكرية، قاد الشكرية للهجوم على أربجي وتسويتها بالأرض. وفي البطانة نفسها سال دم غزير بن الشكرية والبطاحين، نتيجة للحروب المتواصلة، التي أصبحت من القصص الشعبي الذي ترويه الأجيال. وقد جرت حرب مركبة في شمال كردفان قبيل الغزو التركي كان طرفاها الرئيسان الكبابيش وبني جرار. كما جرت حرب بين الجعليين السعداب والجميعاب. وهذه نماذج فقط لما جرى من حروبٍ في وسط السودان، مما حفظه لنا التاريخ. ولو حاولنا احصاء النزاعات العنيفة المسلحة، التي جرت في العصر السناري، لبلغت مئات الحروب. ولذلك، فإن الحديث عن سلمية السودانيين، ليس سوى اعتناقٍ لفكرةٍ متخيلةٍ، لا تقف وراءها شواهد القرون الخمسة المنصرمة. وعلى من يرد الاستزادة من شؤون العنف القبلي في السلطنة الزرقاء، مراجعة كتاب سبولدينق، "عصر البطولة في سنار"، الصفحات من 291 إلى 357.

في منطقة البطانة مثلت قبيلة الشكرية مركز القوة في السودان الأوسط. فقد كانت قبيلةً قوية، لم تخضع خضوعًا مطلقًا للسلطة المركزية. كما أنها كانت تتقن انشاء التحالفات وفق موازين مراكز القوة، بما يحفظ لها مكانتها، ومصالحها، واستقلاليتها. كانت هذه القبائل تحتاج الحبوب، وكانت تتعرض أحيانا للمجاعات. وقد دفعت بها أنفتها وترفعها عن العمل الزراعي، وحاجتها إلى الحبوب، إلى الهجوم، باستمرار، على مناطق الزراعة حول مجرى النيل وأفرعه. وهكذا تعرض النشاط الزراعي المستقر على ضفاف النيل، وما حولها، إلى الاعتداءات المتكررة. (سبولدينق، 335). قادت تلك الأوضاع إلى إضعاف البنية الحضرية المتوارثة، وإلى تبني المستقرين لقيم البدو. فقد أضطر صراع البقاء المتسم بالعنف الجميع إلى تبني القيم الرعوية. وأصبحت شدة البأس، والقدرة على الاعتداء، ونزع الحيازات عنوة، وفرض قبول الظلم بحد السيف، هي الوسائل المنجية في هذا الصراع الشرس.

ساد الاضطراب والعنف منطقة السودان الأوسط منذ سقوط علوة والمقرة، واستمر هذا الحال طيلة الحقبة السنارية،و تواصل، فمشل حقبتي الخديوية والمهدية. كل ما في الأمر، أن الخديوية أرهبت الجميع بالسلاح الناري، وفرضت، سلطة الدولة المركزية. وقد أسهمت حملات الدفتردار البشعة، عقب مقتل اسماعيل باشا، في شندي، في فرض السلم لستين عامًا (1821-1881). أما المهدية، فقد امتلكت جيشا ضخمًا، ما كان لأي من القبائل قدرة على مواجهته. خاصة أن هزائم هذا الجيش للحكم التركي جعلته يمتلك السلاح الناري، والقدرة على استخدامه.

لقد واصلت النزعة الكارهة للدولة المركزية تجلياتها، عبر سنوات الدولة المهدوية. كان الشكرية حلفاء للحكم التركي، وعندما هاجم المهدويون، بقيادة عامر المكاشفي سنار، تمكن الخيدويون من إخراج المهدويين منها، بمعاونة ألفين من المقاتلين من حلفائهم الشكرية.(أ. ب. ثيوبولد، المهدية: تاريخ السودان الإنجليزي المصري، (ترجمة: محمد المصطفى حسن)، مركز عبد الكريم ميرغني، أمدرمان، السودان، 2010، ص 66-67).

أيضًا، قاومت قبيلة الكبابيش الحكم التركي في بدايته. كما قاومت، لاحقًا، الثورة المهدية، والدولة المهدية. فحين احتلت الخديوية السودان، دخل الكبابيش في خلافاتٍ وصراعاتٍ معها، حسمها محمد علي باشا أثناء زيارته للسودان في عام 1838، انخرط الكبابيش في النظام السياسي والاقتصادي للحكم الخديوي. وتولى الكبابيش، من ثم، ترحيل الصمغ المُصدَّر إلى مصر، وسيطروا على الطريق التجاري عبر الصحراء، وتحصلوا على النقود التي أدخلتهم في دائرة التعامل السلعي. (محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث، (ط2، 2000، ص 291).

أيضًا، عندما ظهرت الدعوة المهدية، تحفظ الكبابيش في تأييدهم لها، خشية أن يفقدوا استقلاليتهم، والوضعية التي تحققت لهم في ظل الحكم الخديوي. ورغم أن الشيخ التوم فضل الله، زار المهدي أثناء حصار الأخير لمدينة الأبيض، وقدم له هديةً تمثلت في مجموعة من الجمال. إلا أن مكاتباتٍ بين الشيخ التوم فضل الله، وغردون باشا، وقعت في يد المهدويين، فقادت إلى إعدام الشيخ، التوم فضل الله، في عام 1883.

تكرر الصدام بين زعيم الكبابيش، صالح فضل الله، الذي خلف أخاه التوم على الزعامة، والدولة المهدية، أيام الخليفة عبد الله. تلكأ الشيخ، صالح فضل الله، في الاستجابة لدعوة الخليفة عبد الله له، للحضور إلى أمدرمان. فحوصر الكبابيش في ديارهم ومنع المهدويون القبائل من أن تبيعهم الحبوب، حتى تعضهم المجاعة فيرضخوا. في تلك الفترة، أوقفت قوات عبد الرحمن النجومي، التي كانت تراقب الطريق الصحراوي الرابط بمصر، قافلةً وجدتها تحمل أسلحةً وأموالاً مرسلةً من الخديوي في مصر إلى الكبابيش. قاد ذلك إلى أن يجرد المهدويون على الكبابيش حملةً عسكريةً شرسة، نكلت بهم وأعدمت زعيمهم صالح فضل الله في عام 1887. وفصلت بين إعدام صالح، وإعدام أخيه الأكبر التوم، خمس سنوات فقط. (نفس المصدر السابق).

أيضا ظل زعيم قبائل رفاعة الهوي، المتفرعة من قبائل جهينة، يوسف المرضي أبوروف، ساخطًا على سلطة الخليفة عبد الله، وظل يتصرف كزعيم اقطاعي في الشريط الممتد بمحاذاة النيل الأزرق، من جهة الغرب، في منطقة سنار. ولقد كانت هذه المنطقة وافرة الانتاج من الحبوب، التي يعتمد عليها غذاء أهل أمدرمان. وكان أبوروف يفرض ضرائب على القوارب المحملة بالحبوب المتجهة شمالا. تلكأ أبوروف في القدوم إلى أمدرمان لمبايعة الخليفة، كما قتل بعضًا من رجال الخليفة المشتتين في إقليمه. فما كان من الخليفة إلا أن جرّد عليه حملة عسكرية هزمته ودمرت قبيلته، (ثيوبولد، مصدر سابق، ص 211).
لم تسلم أمدرمان العاصمة المهدوية نفسها من الصراع الجهوي. فثورة الأشراف التي اندلعت عقب وفاة المهدي، كانت اعتراضًا على تولية المهدي الخلافة لعبد الله بن محمد تورشين، القادم من أقصى غرب البلاد. وكان الأشراف، يرون أنهم الأولى بالخلافة بحكم رابطة الدم. فلا الدعوة المهدية، كدعوة دينية، ولا الدولة المركزية التي أنشأتها، استطاعتا أن تقضيا على القبلية. يقول ثيوبولد، أن الأشراف لم يكونوا راضين بخلافة الخليفة عبد الله. فأخذ كل خليفة يظهر استقلاله عن البقية. وكان كل منهم يتجول في أمدرمان في موكب عظيم باهر، وكأنه ملك، آمرًا بضرب نحاس حربه الخاص. (ثيوبولد، مصدر سابق، ص 209). وكان يفعل نفس الشي القائد المهدوي الزاكي طمل، بسبب ما أصاب من ثراء أثناء توليه إدارة منطقة القضارف. فكان حين يأتي إلى أمدرمان يخرج في موكب عظيم يحيد به خمسون حارسًا مسلحًا، (محمد سعيد القدال، المهدية والحبشة). ويواصل ثيوبولد قائلا: أما الخليفة عبد الله فقد أخذ يعتمد كليًا على رجال قبيلته، وكانوا مقاتلين شرسين، يكنون احتقارًا لأهالي النهر، ويبادلهم أهالي النهر نفس النظرة، (ثيوبولد، مصدر سابق، ص 207).

من غير إسهاب في التفاصيل، يمكن القول إن معظم زعماء كبرى القبائل السودانية، عارضوا المهدية. وقد أعدمت السلطات المهدوية، تقريبًا، كل زعماء القبائل الذين عارضوها، وحزّت رؤوسهم وجاءت بها إلى أمدرمان، وعلقتها على الأعواد، للعبرة. فكما سبق ذكره، أعدمت المهدية زعيمين من زعماء الكبابيش. وكانت قد أعدمت من قبلهم الفكي، المنا اسماعيل من قبيلة الجوامعة الذي ناصر المهدية، وأسقط حامية التيارة. كما أعدمت مادبو علي، زعيم الرزيقات، الذي ناصر المهدية في دارفور. وأعدمت المرضي أبوروف زعيم قبيلة رفاعة، الذي شارك المهدويين في حصار سنار. وأعدمت سبعة وستين من قيادات قبيلة البطاحين، بعد حربين طاحنتين معهم. كما قضت على عبدالله ود سعد زعيم الجعليين وخربت دياره في المتمة، وساقت نساء قبيلته سبايا، إلى أمدرمان. وقد أخذ سبي نساء المسلمين بواسطة المسلمين، يتواتر منذ الحقبة السنارية. وهذه واحدة من سمات العقل الرعوي الذي تبع قيم القبيلة وتجاهل قيم الإسلام.

أما زعيم الشكرية عوض الكريم أبو سن، سجنه المهدويين مع بعض قيادات فبيلته، بسبب هروب قسم من القبيلة إلى الحبشة، مبتعدين عن القبضة المهدوية. وقد بقي عوض الكريم أبو سن في سجن الخليفة حتى مات. أما زعيم الضباينة، محمود ود زايد، فقد جرى سجنه في أمدرمان، وأُطلق سراحه فيما بعد. غير أن قبيلته تضعضعت وضعفت كثيرًا بسبب الصدام المسلح مع المهدويين. أما قبيلة العبابدة التي كانت تعمل في الترحيل بين مصر والسودان، فقد عارضت الدعوة المهدية، لكنها، بقيت بمنأى من سلطة الدولة المهدية. إذ كانت كلما أحست بالخطر المهدوي، انسحبت إلى داخل الأراضي المصرية.

اتجه المهدي بدعوته إلى الرعاة، بعد أن عارضه شيوخ التصوف في السودان الأوسط، وعارضته المؤسسة الدينية السودانية، التي أنشأتها الخديوية. وقد قاد تجييش الرعاة، في نهاية المطاف، إلى قلب مركز الدولة، رأسًا على عقب. فالخليفة عبد الله، لم يعتمد في حكمه للبلاد، على السلطة الروحية للدعوة المهدية، وإنما على العصبية القبلية، التي أثارت عصبياتٍ قبليةٍ مضادة.

عمومًا، يمكن القول، إن القبيلة في السودان، لم تقبل سلطة الدولة المركزية، سواءً كانت حكما أجنبيًا، أو حكمًا وطنيًا، إلا على مضض. فعلاقة القبيلة بالدولة قامت، إما على المقاومة، أو على المراوغة والمخاتلة. كما يمكن القول إن تجارب الصدام المريرة والمدمرة للقبائل السودانية، مع الدولة المركزية، خاصة في فترة الحكم التركي والحكم المهدوي، قد علَّمتها كيف تحني رأسها لسلطة الدولة المركزية، وبأسها، اتقاءً لشرها. ولقد اهتدت القبائل، عبر التجارب، إلى أن في وسعهم أن يخدموا مصالحهم من خلال مداهنة الدولة والانخراط في بنيتها. نقل هذا التكتيك الجديد، الصراع من المجابهات المسلحة والعصيان الصريح، لسلطة الدولة المركزية، إلى التغلغل في بنيتها ونخرها من الداخل، من أجل الابقاء، ما أمكن، على الأوضاع القائمة.

ينبغي ألا ننخدع بالدولة المركزية التي أقامها الإنجليز وبسطوا سلطتها في كل ربوع السودان في الفترة الممتدة من 1898 و1956. هذه الدولة كانت نبتًا أجنبيًا جرى فرضه بقوة السلاح. وقد خرجت هذه الدولة المنضبطة مع مؤسسيها، يوم أن غادروا السودان. كمنت القبيلة طيلة فترة الحكم الثنائي (1898-1956)، وظهرت مع هبوب نسائم الاستقلال. فالسودان لا يزال في مرحلة القبلية تتحكم في مجريات أموره بنية العقل الرعوي. فالدولة الحديثة في السودان، لم تقم بعد. وهي لن تقوم إلا بعد أن ننجح في تفكيك وإزالة بنية العقل الرعوي التي لا تزال ممسكة لدينا بخناق كل شيء.
(يتواصل)

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشريح العقل الرعوي
(5)


سوف أعالج في هذه الحلقة بعض الجوانب التي سبق أن أشرت إليها في الحلقة السابقة. تتعلق هذه الجوانب بملاحظة مركزية، سبق أن أشرت إليها في الحلقة السابقة، وهي أن الأعراب الذين وفدوا إلى السودان لم يأتوا من مراكز الحضارة الإسلامية وحواضرها، وإنما أتوا من البرية. ولذلك، لا غرابة أن تصبح السلطنة الزرقاء سلطنةً قليلة الانجاز في مضمار التحضر، وألا تصبح حقبتها حقبة عالمة يمكن أن تقارن بمستوى العلم في الحواضر الإسلامية المشارقية والمغاربية. لقد أمضى القوم ثلاثة قرون في الصراع على السلطة، وحين زحف عليهم الغزو الخديوي وقوض حكمهم الذي استمر لثلاثمائة عام، ذهبوا دون أن يخلفوا وراءهم شيئًا يذكر. فالأعراب الذين تحالفوا مع الفونج، وكلاهما رعاة، لم يكونوا، أهل علم وحضارة. يقول وليام آدمز أن من قهروا النوبة وأخذوا ملكهم لم يكونوا مبشرين ولا أهل علم، وإنما كانوا بدويين أميين. (ويليام آدمز، النوبة رواق إفريقيا، ص 483). لم يكن القادمون الجدد، مدفوعين بغير الحصول على السلطة، من أجل الامتلاك والثراء، كعادة الرعاة، عبر التاريخ، في الغزو والاستحواذ، حين يجاورون بنية حضارية متقدمة، يلمحون فيها علامات ضعف عسكرية.

ذكر ابن خلدون مرارًا في ما كتب، أن العرب، "أبعد الأمم عن سياسة الملك". ولعل ابن خلدون يعني "الأعراب"، وليس العرب على إطلاق العبارة. وبطبيعة الحال، يصبح ما قاله ابن خلدون عن بعد العرب عن السياسة الملك صحيحًا، إذا نظرنا للعرب في القرون السابقة للإسلام. فعرب، وسط وشمال الجزيرة العربية، لم يعرفوا حينها الملك، فقد عاشوا قبائل من الرعاة المتحاربين، المتجولين عبر الصحراء في التخوم المهملة، الفاصلة بين الإمبراطورية الفارسية، والإمبراطورية الرومانية. غير أن حالهم تغير بتمدد الإمبراطورية الإسلامية وباختلاطهم بأهل الحضارات القديمة كالفرس والمصريين. ولذلك، لا تشمل كلمة "أعراب"، في ما أرى، كل العرب، خاصةً بعد أن نشأت الدعوة الإسلامية، وتحولت الدعوة إلى حضارة عربية اسلامية، حولت كثيرًا من أعراب البادية إلى أقوامٍ متحضرين. فالإسلام هذب كثيرًا من البدو، وأخمد جذوة توحشهم. فكلمة "أعراب" تعني، من وجهة نظري، "الرعاة"، من العرب، كما تعني الرعاة من حيث هم. بعبارة أخرى، لا تشمل كلمة "أعراب" كل العرب، كجنس. ودعونا نتأمل، مرةً أخرى، هذه الآية القرآنية الغريبة في هجاء الأعراب: "الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ورسوله". إنها آيةٌ غايةٌ في الدلالة على بُعد "الأعراب" من الله، ومن نبيل القيم. فهم، وفق النص القرآني، من السوء بحيث أصبح من الخير لهم، ألا يعرفوا تعاليم الإسلام، وأن يبقوا على ما هم عليه.

يقول ابن خلدون عن "العرب"، وتعني عندي "الأعراب"، إنهم إذا ملكوا أمةً من الأمم، جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في الأيدي. (عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار الفجر للتراث، ص 197). عاش ابن خلدون، (3321-1406م، بعد قرابة الثمانية قرون من بداية الحضارة العربية الإسلامية. ولقد مكنه ذلك من رصد حوادث تاريخها وتحليل تحولاتها، ما جعله يصف العرب بما وصفهم به، من كونهم "أبعد الأمم عن سياسة الملك"، بحسب تعبيره. ويبدو أن العرب بعد أن تحضروا وتهذبوا، نوعًا ما، بالإسلام، وصاروا ملوكًا، في ما بعد، لم يسلموا من تسرُّب عقلية الرعاة الموروثة إلى ممارساتهم كحكُّام. يقول ابن خلدون، في هذا المعنى، أدرك العرب وقتٌ فصلت فيه بينهم وبين الدولة أجيال. فنبذوا الدين، ونسوا السياسة ورجعوا إلى قفرهم وتوحشوا كما كانوا، وعادوا إلى حالهم الأول من البداوة. ويضيف ابن خلدون: "وقد يحصل لهم، في بعض الأحيان، غلبٌ على الدولة المستضعفة، فلا يكون مآل ما يستولون عليه من عمران سوى التخريب". (المصدر السابق، ص 197-198). وتنطبق كل أقوال ابن خلدون، التي أوردتها هنا، تمام الانطباق على تحالف القواسمة والفونج، الذين هاجموا سوبا، عاصمة دولة علوة، وخربوها، حتى أصبح تخريبها مضربًا للأمثال.

كان نشوء دولة الفونج، إلى حدٍّ كبير، ارتدادًا حضاريًا، قياسًا بما كان عليه حال المملكتين النوبيتين، علوة والمقرة. ويبدو أن القيمة الوحيدة التي يراها من يرون أن سنار هي العلامة الأكبر في تحول القطر السوداني إلى الإسلام، قيمةٌ منحولة، لا تسندها أيٌّ من شواهد البحث العلمي المحايد في التاريخ المكتوب. فقد غلبت على كثير من كتابات السودانيين عن تاريخ السودان، العاطفة، ورهاب مفارقة القطيع، والمجاملة، بأكثر مما غلب عليها الحياد العلمي الأكاديمي، والنظرة الموضوعية. إسلام سنار، كنظام حكم، وإدارة دولة، ومنظومة قيم سلطانية، واجتماعية، وطقوس، ضعيف الصلة بتعاليم الإسلام. وهذه الهالة الإسلامية المفخمة التي ترى بها أكثريتنا سنار، ليست سوى جبة جديدة، جرى نسجها مؤخرًا، ثم أُلبست، استعاديًّا، لتلك الحقبة الغاربة.

كانت "سوبا"، عاصمة دولة علوة، مدينةً باذخةً، بمقاييس زمانها. فقد رُوي أنها كانت جميلة المباني، تتجلى هندسة العمارة في كنائسها، المزينة بالرسوم المسيحية، وبالزخارف والنقوش. وقد عُرفت مملكة علوة بالصناعات، التي تمثل واحدةً من أبرز علامات التحضر. يقول أحمد محمد علي الحاكم، إن الخزافين السودانيين بلغوا في مملكة علوة، قمةً رفيعةً في فن الخزف. ويقول، إن التحليل الدقيق للأنماط الزخرفية التي زينوا بها انتاجهم الخزفي، يعكس أنهم استوحوها من نماذج زخارف العهود الإسلامية (الفارسية، أو الفاطمية، أو المملوكية). (أحمد محمد علي الحاكم، هوية السودان الثقافية: منظور تاريخي، درا جامعة الخرطوم للنشر، 1990، ص 95). كما أن هناك ميراث صناعي تحدر من مملكة مروي التي عرفت بالخزف الرائع، وبصناعة المجوهرات، وصهر الحديد. وقد أورد أحمد إلياس حسين، نقلاً عن ابن سليم الأسواني وابن حوقل، إشاراتهم إلى أنهار علوة الخمسة، وأراضيها الزراعية الواسعة، ومواردها، ومدنها، وسكانها. فقد وصفوها بأنها كانت مملكةً واسعة الثراء، غنية بالزراعة، وفيها مزارع للكروم، كما أنها غنية بالثروة الحيوانية، وبصناعة المعادن، وبالعديد من الأنشطة التجارية. (أحمد إلياس حسين: السودان: الوعي بالذات، وتأصيل الهوية، (ج 2)، شركة مطابع العملة، 2012، ص 242). هذا الثراء العريض والرغد والمعادن النفيسة، هو ما جعل عرب القواسمة والفونج يتحالفون على نهبها. وعلى التحقيق، لم يكن إنهاء المسيحية وتمكين الإسلام هو الهدف الرئيس من تلك الهجمة.

وللتدليل على ما تقدم، دعونا ننظر في عادات وتقاليد سنار، وكيف أنها بعيدة، كل البعد، عن تعاليم الإسلام. وأرجو أن يكون هذا الاستعراض للطبيعة الحقيقية لسلطنة الفونج، حافزًا لكي تعيد أكثريتنا النظر في ما ظلت تظن. يربط كثيرون منا، ربطًا عضويًا، بين خراب سوبا وتحول السودان إلى دولة "اسلامية". وهذا غير صحيح. فالإسلام أدخله ورسخه المتصوفة، في وقت متأخر نسبيًا من عمر السلطنة الزرقاء. فهم من أخرجوا قطاعًا معتبرًا من الشعب السناري من التوحش إلى الإنسية، بعد أن شكّلوا نطاقًا قيميًا داخل الدولة، مغايرٌ في طيسعته لنطاق الحكام، وكسبوا له مساحة معتبرة. ومع ذلك كان الشد والجذب بينهم وبين حكام سنار مستمرًا بلا انقطاع، ولكن، على تفاوت في موقف كل فريق منهم من السلطة. وسوف أتوسع قليلا في هذه النقطة في حلقات قادمة.

ربما، لو لم يهجم الفونج والعبدلاب على سوبا، ويسووها بالأرض، لساد فيها الاسلام بهدوء، ولتمازج مع ثقافتها، ولواصلت بنيتها الحضارية نموها الطبيعي التدريجي. ما أحدثه عرب القواسمة والفونج كان تخريبا. ينقل ويليام آدمز عن رحالة، كان عائدًا من الحبشة، متجهًا إلى مصر، أنه مرّ بسوبا عام 1523؛ أي بعد حوالي العشرين عامًا من الهجوم عليها، فوجدها خرابًا. يقول هذا الرحالة، ويدعى ديفيد ربوني، أنه وجد من بقوا أحياءً من سكان سوباً، يعيشون في "رواكيب". (وليام آدمز، النوبة رواق إفريقيا، ص 475). الشاهد أن تحالف الفونج والعبدلاب أرجع عقارب الساعة إلى الوراء، في ما يتعلق بنمو السودان الحضاري. ونفس تلك الخصائص التي أبقت السلطنة الزرقاء بلا انجاز حضاري يذكر، هي ذات القيم، ونفس البناء العقلي والنفسي، الذي يقعدنا اليوم عن التطور. كانت سلطنة الفونج أقل، بكثير، من حيث البنية الحضارية الكلية، عن المملكتين النوبيتين اللتين سبقتاها؛ "المقرة" و"علوة". يقول آدمز، أيضًا، إن النوبيين لم يكونوا وثنيين مثلهم مثل المصريين والسوريين. فهم نتاج لإرث حضاري قديم، وهو إرثٌ أكثر تقدمًا مما أتي به إليهم الذين أصبحوا يحكمونهم، (آدمز، ص 483).

أقدم، ما يلي، عرضًا لبعض الممارسات والعادات والطقوس التي سادت في سلطنة الفونج، التي تدل على أن الإسلام لم يمثل فيها سوى قشرة خارجية رقيقة. يقول سبولدينق نقلا عن أحد زائري سنار ذكر في نهاية القرن السابع عشر، أي بعد أكثر من مائة عام من قيام سلطنة سنار، إن السلطان يوصف: "بأنه مسلم، ولكن ليس لديه قوانين وشرائع المسلمين". ويضيف سبولدينق، أن سياسة سنار اتسمت بالتسامح الديني والاعتراف بحقائق التنوع الثقافي لرعايا الدولة، وأن ذلك يخالف، من وجهة النظر الموضوعية، الكثير من قيم وتعاليم الإسلام الرسمية. وأن تلك السمات بقيت دون أن يطالها تغيير، بسبب أن التعاليم الإسلامية لم تكن تشكل واقعًا داخليًا لتلك المجتمعات. (جي اسبولدينق، عصر البطولة في سنار، ]ترجمة: أحمد المعتصم الشيخ[ هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، الخرطوم، السودان (2011) ص 20.

هناك الكثير من العادات والتقاليد والطقوس والممارسات التي تؤكد شخصية سنار الثقافية الإفريقية، التي لا تعكس التعاليم الإسلامية، بقدر ما تعكس طقوس الديانات الأرواحية الإفريقية. وتتضح مفارقة تعاليم الشريعة الإسلامية أكثر ما تضح في زي النساء. فنساء العوام، خاصة الفتيات، لم يكن يحق لهن أن يسترن لما يزيد عن ما بين الخصر والركبة، (المصدر السابق، ص 85.). وقد ظلت هذه الممارسة، جاريةً في السودان في المناطق الريفية، حتى منتصف القرن العشرين، وربما بعد ذلك بقليل، خاصةً في بعض الأماكن الرعوية النائية. فقد بقيت الفتيات غير المتزوجات على ذلك التقليد، حتى وقتٍ قريب. إذ ظللن يتمنطقن في وسطهن بسيور من الجلد، تتدلى من حزام يلف الوسط. وتسمى تلك التنورة المكونة من السيور الجلدية، "الرّحط". ولا حاجة بي إلى القول إن هذا الزي مخالفٌ، تمام المخالفة، لتعاليم الشريعة الإسلامية.

لم يستثن من فرض عري الصدر والساقين، إلا نساء البيوت السنارية المالكة والطبقة الحاكمة. فهن الوحيدات اللواتي يُسمح لهن بالاستتار. ولمس هذا العري المفروض من أجل فرز الطبقات الاجتماعية، الرجال، أيضًا. فقد كان عليهم تعرية الجزء العلوي من أجسادهم، لدى مقابلة النبلاء. وعمومًا، فإن أي شخصٍ يحاول العلو والخروج من وضعيته كأحد العوام، بأن يمتلك ملابس مخيطة، أو يقتني أشياء ثمينة، يُعد مرتكبًا لجريمة تُسمى "السِّبْلة"، وتوقع عليه، من ثم، أشد العقوبات. ويروي سبولدينق أن النبيل، المانجل، إدريس ود رجب وجد بعض رعاياه يلبسون ملابس مخيطة، تشبه ملابس العرب، فصادرها منهم ومزقها. (نفسه، 85 - 86). وغالبًا ما يكون ما شاهدناه حتى وقتٍ قريب، من لف الثوب الرجالي على الجسد، بلا سروال، أو "عرّاقي"، لدى الرجال من رعاة وسط السودان، بعضًا من بقايا الامتثال اللاواعي للمنع السناري المشدد، لارتداء العامة المخيط من الثياب.

أيضًا، من التقاليد التي تخالف الشريعة الإسلامية مخالفة شنيعة، "القتل الطقسي" للملوك وأقربائهم. فعندما يتوفى السلطان يتم اختيار أحد أبنائه خلفًا له، ويجب، حينئذٍ، إعدام اخوته كلهم. ويقول الرحالة كرمب إن السبب وراء ذلك الإجراء هو ألا يظهر منافسٌ للسلطان، يهدد السلام والأمن والاستقرار. ولقد مارس القتل "العبدلّاب"، الذين يُنظر إليهم بأنهم عربًا مسلمين. يقول ماكمايكل، إن من عادات العبدلّاب أن يظل مَلِكُهم عرضةً للموت، في أي وقتٍ، وتحت أي ظرف. فإذا رغب واحدٌ من أبناء عم الملك في قتل الملك، يتقدم إلى الملك بإشعارٍ يحدد فيه الموعد الذي يأتي فيه لتنفيذ القتل. وعلى الملك ألا يرفض الطلب، إذ يُعدُّ ذلك جبنًا وجزعًا، (ماكمايكل، تاريخ العرب في السودان، (ج2)، مركز عبد الكريم ميرغني، أمدرمان، 2012، ص 270). هذه الممارسات الوثنية الأرواحية، التي كانت تمارس على مستوى قيادات الدولة، كافية جدًا لتجعلنا نعيد النظر في "إسلامية" سنار، وفي "عروبة" ساكنيها، على النحو الشائع في أوساطنا اليوم. فقتل الملك الطاعن في السن، أو المريض، الذي كان يمارسه العبدلاب، يطابق، حرفيًا، طقوس قتل "الرَّث"، لدى قبيلة الشلك، وهو مما لا يمت إلى الإسلام، بأي صلة.

الغريب أن الملك العبدلابي الذي يكون في انتظار القتل، يصلي ركعتين، استعدادًا للقتل. يقول ماكمايكل، يستعد ملك العبدلاب لحادثة القتل المعلنة، بأن يحلق رأسه، ويصلي ركعتين، ويجلس وسيفه في حِجْره. فيأتي ابن العم، ويطلب الإذن من الملك بالدخول، فيؤذن له، فيقف ابن العم خلف الملك ويضرب عنقه. ولا يتفوه الملك عبر إجراءات ذلك القتل الطقسي بأي كلمة. بعد ذلك يأتي زعماء القبيلة ليضعوا قلنسوة المُلك على رأس ابن العم، الذي نفّذ القتل. وهذا الطقس مخالفٌ للقرآن الذي يقول: "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" )سورة الإسراء، أية 33). ويعلق ماكمايكل على تلك الممارسة، قائلا إنها ممارسة إفريقية، مستندة إلى الحق الإلهي في الحكم. فالزعيم يجسد الروح الإلهية، فإن بدت عليه علامات الشيخوخة، أو العجز البدني، أو المرض، وجب قتله، ليحل محله من لم تضعف قواه البدنية، أو العقلية، بعد. ويقول ماكمايكل، نقلا عن الرحالة بروس، إن الفونج ينحدرون أصلا من قبيلة الشُلُك، بقرينة هذه الممارسة لدى كليهما، وغيرها من الممارسات، الأخرى، (نفسه، ص 270).

بناءً على ما تقدم يمكن القول، وبوثوقٍ كبير، إن سلطنة الفونج في سنار (1504-1821) والتي يُنظر إليها بوصفها جذرًا لـ "عروبة السودان واسلاميته"، بحاجة إلى الكثير من إعادة النظر في أوضاعها عبر تدقيقٍ علمي جدّي، ومساءلة للنظرة الرومانسية العروبية الحالمة، التي ظل كثيرون منا يرونها سلطنة "عربية إسلامية"، وكأنها واحدةً من سلطنات وممالك المشرق والمغرب العربي. تلك النظرة يشوبها، الغرض السياسي الخارجي في استتباع شعوب السودان لمركزية أجنبية خارجية. فتاريخ السودان تعرض للتزييف، من أجل إلحاق أهل القطر بالفضاء المشرقي العربي المسلم. (راجع أحمد إلياس حسين، السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية، (ج 1) ص، 46-47). لقد جرى تزييفٌ كثيرٌ لحقائق تاريخ السودان. وهي تجاوزات لا تخطئها عين باحثٍ جاد. فالتاريخ الحقيقي هو ما يجري تأسيسه على بحوث الأنثروبولوجيا، والأثنوجرافيا، وليس على السرديات الكتابية والشفاهية، وحدها. فالسرديات كثيرًا ما تتحيز، وتجنح، نحو إعطاء صورة مشرقة، بل ربما تفوت على الساردين، لمختلف الأسباب، أمورٌ جوهرية.

لم تكن دولة الفونج رغم استعرابها وإسلامها شبيهةً بدول النطاق العربي المشرقي. بل إن تسويقها الشكلي لنفسها كدولةٍ عربيةٍ إسلامية كان في الأساس لأسباب سياسية محضة. ومن ذلك خوفها من الغزو الذي هددها به السلطان سليم، (سبولدينق، ص 120). في تلك اللحظة أعلن الفونج أنهم عرب، بل ومن بني أمية. ومن وقتها شاعت، كتابة أشجار النسب، التي تعيد أصل الجميع إلى الجزيرة العربية. وفي نهاية الأمر، لم يعصم دولة الفونج تسويق نفسها كدولة عربية إسلامية، من أن تصبح، في نهايات حقبتها، التي امتدت أكثر من ثلاثة قرون، هدفًا للغزو الخديوي الإسلامي المشرقي، الذي وضع نهاية لها، وألحق شعبها وممتلكاتها قسرًا بالدولة الخديوية.

لم يكن "إسلام السلطنة الزرقاء وحده الذي مثل قشرة خارجية. فاللغة العربية المكتوبة التي سادت في الحقبة السنارية، كانت لغةً ضعيفةً متعثرة. وتمثل حالة اللغة العربية في العصر السناري واحدًا من الشواهد على أن الذين اجتاحوا السودان كانوا رعاة أميين، لا يعرفون كتابة الفصحى. ويبدو جليًا من الآثار السنارية المكتوبة، أن اللغة التي وصلت مع العرب الوافدين، كانت لغةً بدويةً شفاهية، اختلطت بالمفردات النوبية وغيرها من مفردات اللغات السودانية. فضعف ما وصلنا من الكتابة في السلطنة الزرقاء، واضح جدا. وسوف أورد مثالا شعريًا واحدا ورد في الطبقات يتسم بعدم معرفة العروض، وبضعف البناء الشعري وبأخطاء النحو. وهو نصٌّ عدّد فيه شاعر كان تلميذًا للشيخ أبو إدريس، مناقب شيخه أبي إدريس، عقب وفاته. يقول الشاعر:

صوفي الصفات فذاك شيخي، أبو إدريس الورع العجول
لأخراه سريعًا مستعدٌّ، أو عن أعمال دنياه عطول
لا يشتاق للَّذات فيها من مأكولٍ ومشروب العسول
لمرضات ربه سهر الليالي، أحب الجوع واكتسب النحول.

وقد أورد ود ضيف الله في كتاب الطبقات، الكثير مما يشابهها في الركاكة وعدم المعرفة بعروض الشعر العربي وبحوره وأوزانه، بل وعدم المعرفة بقواعد النحو، كما سلفت الإشارة. ومبعث إيراد ود ضيف الله لتلك الأشعار ظنُّه، أنها مما يعتد به من الشعر، لعدم معرفته هو، أيضًا، بقواعد الشعر. وقد سبق أن ناقش محمد المكي إبراهيم الشعر السناري، وبين ضعفه في كتابه، (الفكر السوداني: أصوله وتطوره)، فليراجعه من شاء. لم تتحسن اللغة العربية المكتوبة في السودان، إلا بعد الغزو الخديوي، نتيجة للإلحاق الكلي، للقطر السوداني بالقطر المصري. ما ذكرته هنا ليس بغرض الزراية بشعراء الحقبة السنارية، وإنما بغرض التدليل على أن الإسلام واللغة العربية، رغم شيوعهما في سنار، كانتا في طورٍ بدائي. فإسلام سنار أُخذ معظمه من الرعاة، ولغتها العربية أُخذت، هي الأخرى، من رعاةٍ أميين، أو شبه أميين. لم تعكس سنار حضارة عالمة، حتى بمقاييس وقتها، بقدر ما عكست بطولاتٍ داميةٍ لمحاربين أشاوس.
(يتواصل)
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

النور
سلام
في ونسة عابرة مع محمد جلال هاشم ذكر معلومة، لا أدري مدى صحتها،
أن الأعراب الذين تمردوا على الخليفة ابوبكر وحاربهم، فيما بات يعرف
بحروب الردة، هم غالبية الجيش الذي أُرسل مع عمرو بن العاص لغزو
مصر. وأنهم عاشوا بعد الغزو في اطراف المدن، وحينما تم تنظيم الجيش
كمؤسسة ايام المماليك اصبحوا ينهبون ويعيشون على قطع الطريق بعد
الاستغناء عن خدماتهم. ونتيجة لتلك الحروب ضدهم نزحوا جنوباً نحو
السودان واستقروا هناك.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


شكرا يا الصادق
تواصلت مع الصديق الدكتور محمد جلال هاشم قبل أسبوعين تقريبا وقد أشار لي إلى ذلك وأثق أن محمد وجد المعلومة في مصدر معتمد.
عموما سوف أبحث في ذلك أكثر لأنه مفيد جدا لطرحي، خاصة انني أرى أن الأعراب الذين دخلوا السودان لم يأتونا من مراكز الحضارة ولم يكونوا أهل علم.
مع المودة
آخر تعديل بواسطة Elnour Hamad في الأربعاء نوفمبر 02, 2016 5:07 pm، تم التعديل مرة واحدة.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشريح العقل الرعوي
(6)

انطلق هذا الطرح من ملاحظة مركزية، لم أبدأ بها هذا الطرح، رغم أنها وقفت وراءه، وكانت مبتدأه. وآثرت أن أسبق عرضها بمراجعات لتاريخنا، ومحاولة تلمس جذور البدوية والرعوية في وعينا، التي لا تنفك تمسك بنا وتقعدنا عن اكتساب الحداثة، وتعيق قدرتنا على النهوض بحياتنا، ودفعها إلى الأمام. لقد كمنت القيم البدوية والرعوية طيلة فترة التحديث الاستعمارية، التي فُرضت علينا، من علٍ، فرضا. وما أن خرج المستعمر انسربت تلك القيم البدوية والرعوية التي كانت كامنة تحت السطح، إلى مركز إرث التحديث القليل الذي ورثناه من الحقبة الاستعمارية، وفجرته من الداخل.

تتعلق تلك الملاحظة المركزية بحالتيْ السودان والصومال، بوصفهما أكثر الدول تعثرًا في إفريقيا، بل وفي العالم بأسره، في ما يتعلق بالأخذ بأسباب الحداثة. فالأحوال الداخلية المتردية في هذين القطرين، تدعم زعمي هذا، بما لا مزيد عليه. كما تعضده أكثر، كل التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية، في العقود الأخيرة. وهي تقارير سنوية تصدرها هذه المنظمات تكشف فيها مستوى أداء الدول في جوانب عديدة. ولقد بقيت هذه التقارير تضع كلاً من السودان والصومال، في ذيل القائمة. هناك مشترك ما في بنية الوعي في هذين القطرين. فلو قارنّا السودان والصومال بكل من إثيوبيا، وكينيا، ويوغندا، لاتضح لنا أن سببًا ما قد جعل هذه الأقطار الثلاثة تنعم بمقادير أكبر من الاستقرار النسبي، ومن القدرة على الحفاظ على مكتسبات الحداثة، وتحقيق نمو لا بأس به، في جهود التحديث والتمدين. وفي تقديري أن القبلية، وبنية العقل الرعوي، وتبنّي نسخة فجة من الإسلام، اشتُهِر بها الرعاة في التاريخ الإسلامي، هي التي أقعدت كلا من السودان والصومال عن النهوض. فطبيعة الحياة البدوية، وبنية العقل الرعوي التي تتحكم فيها، تقفان، بطبيعتهما، ضد المؤسسية، وضد المساواة أمام القانون. فكل بدوي يرى أن قبيلته هي خلاصة، خلاصة البشر. وهذه خاصية تاريخية ضرورية حمت بها القبيلة نفسها. فأفراد القبيلة يجري تسلحيهم معنويًا، منذ نعومة أظافرهم، بأنهم الأفضل، والأعلى، والأحق. ولا مجال للمقارنة بينهم وبين غيرهم. فغيرهم لا يستحقون مثلما يستحقون هم. بل إن العشائر التي تنتمي إلى قبيلة واحدة يضع كل قبيل منها نفسه في مرتبة أعلى.

بنية العقل الرعوي هي التي وقفت وراء سيادة العلّة الأساسية المجهضة للمؤسسية في الدولة الحديثة، وهي المحسوبية. فما يسمى "الواسطة"، أو"الضّهر"؛ أي وجود أقارب في مراكز اتخاذ القرار، كانت، ولا زالت، تمثل ميزة يتباهى بها من يمتلكها. وعلى سبيل المثال، هناك قناعة رسخت منذ فترة طويلة، وهي أن من لا يملك "واسطة"، لا يستطيع أن يدخل الكلية الحربية، أو كلية الشرطة. فهاتان الكليتان، كما هو معلوم، تمنحان مدخلا على مركز السلطة، وعلى دوائر النفوذ، ومن ثم تأمين المصالح. ولا ينحصر ذلك في مجرد أن الزي الرسمي يفتح كثيرًا من الأبواب المغلقة، وإنما يتعدى ذلك إلى اتاحة الفرصة للاشتراك في أي انقلابات عسكرية مستقبلية محتملة. (راجع شريف حرير، إعادة تدوير الماضي في السودان: نظرة عامة للتحلل السياسي، (ترجمة مبارك علي عثمان، ومدي النعيم)، في: شريف حرير وتيرجي تفيدت، السودان: الانهيار أو النهضة، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، ج م ع، 1997، ص 56). وقد ظل سودانيو الهوامش المختلفة يعتقدون، وهم محقون، أن مجالات معينة في الخدمة العامة ظلت حكرًا على أبناء السودان النهري، كضباط الجيش، والعمل في وزارة الخارجية، أو الخدمات التي ارتبطت بالسكك الحديدة والنقل النهري، ومشروع الجزيرة. وقد برزت هذه الاحتكارية العرقية لوظائف الدولة، بصورةٍ صارخة، جدًا، في عملية السودنة. فمن بين 800 وظيفة كبيرة جرت سودنتها قبل الاستقلال، بقليل، حصل كل الجنوبيين على ستّ وظائف فقط؛ أربعة جرى تعيينهم مفتّشي مراكز، إضافة إلى اثنين جرى تعيينهم، في وظيفة مأمور. (يوسف محمد علي، الوحدة الوطنية الغائبة، مركز عبد الكريم ميرغني، أم درمان، السودان، 2012، ص 33). وما من شك أن ضغوط أهل الهامش المستمرة على المركز، أثمرت، لاحقًا، بعض التغيير في هذه الصورة. غير أن التغير لم يكن جوهريًا، بقدر ما كان رضوخًا لمحاصصاتٍ مؤقتة، فرضتها ضرورات توازن القوى، واللعب على عنصر الزمن. وهي تبدلات سطحية تسير في ذات الوجهة القديمة، مع تعديلات طفيفة لا تغير من جوهر الموضوع، ولا تسير في وجهة استعادة المؤسسية والجدارة. ويظهر هذا جليًا جدًا في كوتات الوظائف التي تمنحها الحكومات، عقب كل اتفاق سلام، مع فصيل من الفصائل المحاربة.

يرى شريف حرير وتيرجي تفيدت، أن المحاباة يجري استخدامها بوصفها وفاءً أخلاقيًا للأقارب، فتتحول المحاباة من علة هادمة للمؤسسية وللشفافية، إلى فضيلة اجتماعية مقدرة وسط متنفذي القبائل المسيطرة. وهكذا، يجري الالتفاف على القوانين والضوابط، ليتحقق ما يراه كبار شاغلي الوظائف العامة وفاءً وواجبًا أخلاقيًا، تجاه أهلهم. فالخضوع للتبعية، ولأنظمة الحماية القاعدية في المجتمعات، وسطوة القيم القبلية، هي التي تفرض المحاباة. وهي التي تجعل الأحزاب السياسية، والخدمة المدنية، لا تقفان عند حد انتقاء الأفراد للوظائف العامة، بسبب صلة القربى، وحسب، وإنما تتجاوزان ذلك، إلى حماية الفساد، ومأسسته، وغضّ النظر، كليًا، عن سوء الإدارة. (شريف حرير وتيرجي تفيدت، مصدر سابق، ص 56). لقد سيطرت هذه القيم الجهوية الرعوية على مسارات العمل الإداري في السودان سيطرة شبه كاملة، لأن سلطة العقل الجمعي المتشكل على هذه الصورة، تصعب مقاومتها، إلا لدى قليلين. فإذا وقف الموظف العام أمام رغبات ذويه، في فتح الأبواب لذويه لمجرد صلة القربى، فغالبًا ما يسمع من أهله وأقاربه عبارة: "الزول ده ما فيهو فايدة". وقليلون من يقوون على الوقوف أمام هذا التيار التخريبي الجارف.

لا يقف هذا النمط من القيم المعتلة وراء التوظيف فحسب، وإنما يمتد إلى منح ملكية الأراضي، ومنح تراخيص المشاريع الزراعية، ومنح الرخص والتصديقات، وخلق مسارات جانبية تلتف على النظم واللوائح والقوانين، لتتمكن فئات بعينها من الإثراء على حساب الآخرين. ففي المستبطن من قناعات بنية العقل الرعوي، ليس هناك دولة ومواطنون، وإنما هناك؛ نحن، وهم. ولقد تشابه السودان والصومال، في هذا المنحى، تشابهًا يصل حد التطابق. وتمثل حقبة سياد بري المثال الأوضح في هذا النهج الجهوي الاستحواذي. فعلى الرغم من أن الصومال قطر متجانس عرقيًا ودينيًا ولغويًا، إلا أن سياد برى منح عشيرته "الدارود" كل شيء في الدولة، وحرم العشائر الأخرى من أي شيء فيها. فالموارد العامة في الصومال جرى تحويلها في فترة حكم سياد بري إلى جيوب النخب التي ترعى شؤون العشيرة. وبهذا تحولت المؤسسات القديمة، التي هي ليست جزءًا من نظام سياد بري القمعي، إلى قواقع فارغة. ( راجع: Lidwien Kapteijns, Clan Cleansing in Somalia: The Ruinous Legacy of 1991, University of Pennsylvania Press, 2013, p2) .

حين لا تكون في مواجهة القبيلة، قبيلة أخرى، تنازعها على الحيازات، تنقسم القبيلة على نفسها، ويتحول الصراع، من صراع مع "الآخر" المغاير، إلى صراع بين العشائر في القبيلة الواحدة. فمنظومة الانتماء الرعوية لا تنسى التراتبية التي هي أصل كل شيء فيها. فالهرمية التي تتعامل بها القبلية مع الخارج، واضعة نفسها على قمتها، موجودة أيضًا في الداخل، حيث تضع عشيرة نفسها على القمة، بإزاء بقية العشائر. عمومًا، تناقض بنية العقل الرعوي، جوهريًا بنية الدولة الحديثة. فهي لا تعرف الصالح العام، ولا تعرف المؤسسية، أو الشفافية، أو أي شيء من هذه المصلحات المرتبطة بالفكر السياسي الحداثي. إنها تعرف القبيلة والعشيرة، والفخذ، وأحقيّتها المطلقة في الحيازة. ومثلما كانت الحيازة تتحقق في الماضي، ولا تزال، عن طريق السيف والرمح، أصبحت تتحقق، لبنية العقل الرعوي المتغلغلة في بنية الدولة الحديثة، بالقرطاس والقلم، عن طريق المتنفذين الذين لا يزالون خاضعين لعقل القبيلة ومنظومة قيمها. فالدولة الحديثة لا تقوم بغير تخليق بنية وعي حداثيٍّ، وبغير إخراجٍ كليٍّ لبنية العقل الرعوي، التي تسربت إلى جسد الدولة الحديثة، كما هو الحال في السودان والصومال، حيث بلغ تغلغلها حد الوصول إلى نواة الدولة، وتفجيرها من الداخل.

كما سبق أن أشرت، هذه المقالات ليست سوى مساحة للعصف الذهني. ولا يدعي كاتبها أنه ممسك بكل خيوط هذه القضية المعقدة. ما يملكه كاتبها، ويمكنه قوله بثقة كبيرة، أن هناك أجندة بحثية جمة، لا تزال تنتظرنا. وأن الحلول لا تأتي إلا عن طريق البحث العملي، وسيادة عقلية البحث العلمي، بعد القضاء على نزعات "الكلفتة" والابتسار في تناول القضايا. فنحن لسنا بحاجة إلى اختراع شيء جديد. فهناك منظومة من العلوم الإنسانية التي يمكن عن طريقها ملاحظة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، وتحليلها، بحيدة وموضوعية. ولابد من الإشارة هنا، إلى أن بنية العقل الرعوي تتسم بالميل الشديد إلى التبسيط، والاختزال، واستسهال الأمور. يصيب بنية العقل الرعوي الإعياء السريع من التفكير، والتأمل، لأنهما ليسا من طبيعتها. وهو إعياء يصيب حكوماتنا، كما يصيب قوى المعارضة لدينا، أيضا. فالخطاب السياسي لدينا لا يزال خطابا مشغولا بالكسب السريع، ويتسم بقصر النظر، وبالعجلة، والنزق، وضمور المعارف، والكسل العقلي، الذي يقود إلى انصرافٍ تلقائيٍّ عن التأمل في أصل الظواهر، والانحصار، من ثَمَّ، في الانشغال بـ "المجابدات" السياسية اليومية، التي ما أنجبت، عبر تاريخ حقبة ما بعد الاستقلال، لدينا، سوى مواليد مشوهين.

بعبارة أخرى، مهمة الأكاديمي والباحث، ليست الانضمام إلى صفوف الراكضين إلى السلطة، بلا عدة أو عتاد، وإنما البحث في أصل الظواهر، بروية، وبعمق، بغية تحليلها وتفسيرها. ولا أعني هنا أن يبقى الباحث أو الأكاديمي في برج عاجي، أو أن يمتنع كليًا عن الناشطية السياسية، أو أي ناشطية أخرى، تسعى إلى التغيير. فالمثقف العضوي، كما عرّفه غرامشي، وإداورد سعيد، وغيرهم من المفكرين، مثقف فاعل مناضل. غير أن الفاعلية والنضال كثيرًا ما تُبتذل وتتحول إلى أعمال شعبوية دارجة. مهمة المثقف والأكاديمي الباحث هو تلمس العلل المركزية، وسبر أغوارها، والتعريف بها، من أجل أن تقف وراء إرادة التغيير رؤية واضحة. وليصبح، من الممكن، رسم سياسات محكمة، لا تهتم بالتجميل الفوقي لسلطة النخب الطافحة فوق ركام الفوضى السائدة، وإنما تنصرف عن هذا الطريق المطروق، الذي خبرنا مغبّاته، مع مختلف الأنظمة، ديكاتوريِّها وديمقراطِّيها، لتصل إلى جذور الأزمات وإلى القواعد الشعبية، لتغير البنية العقلية، وإعادة تعريف الذات الجمعية، وحشد العقول وحفزها إلى السير في وجهة المؤسسيّة والشفافية وحكم القانون، واحترام القانون. بغير ذلك، لن تنجح أي جهود في إعادة المؤسسية للحياة، بعد أن شبعت موتًا، عبر ستّ عقود من النزاعات الدامية المريرة، التي لم تخرج من إطار نزاعات "الإيقو"، Ego disputes، بين الأشخاص. وهي نزاعات تخفي نفسها وراء مختلف المزاعم المضللة.

لقد ظل التنافس، عبر سنوات الاستقلال، منصبًا على الوصول إلى حيث توجد مفاتيح خزائن المال العام، وتحويله، من ثم، عبر مختلف الحيل، إلى الجيب الشخصي للعائلة، وإلى الأسرة الممتدة، ومن بعدهم إلى سائر المحاسيب الداعمين. كما يجري تحويل المال العام في وجهة منظومة القوى الأمنية، بمختلف مسمياتها، من أجل ضمان البقاء في السلطة. فحين تتحول القُوى الأمنية إلى طبقة جديدة ملحقة بمركز السلطة، وتصبح ذات مصالح اقتصادية واجتماعية نابعة من مركز السلطة، تستميت هذه القوى الأمنية في الدفاع عن الأوضاع القائمة. كما تندفع بشراسة لقمع أي بادرة معارضة تشتم فيها تهديدا لمصالحها الاقتصادية، أو للمزايا الاجتماعية التي اكتسبتها.

بغير لمس جذور العلل المزمنة، لا تتخلق الدافعية للإصلاح: لا لدى النخب ولا لدى العامة. هذه الدافعية والرغبة الصادقة في تحسس أصل العلل تمثل ركنا شديد الأهمية في مسار تبديل الذهنية، ومن ثم في مجريات عملية التغيير. مرة أخرى، من يعمل للتغيير وهو منصرف عن مناقشة علل الثقافة السائدة، لن ينجز أكثر مما ينجزه حاطب الليل. هذا إن قُدر له أن ينجز شيئًا، أصلا. فما ظللنا نشهده، منذ الاستقلال، ليس سوى مسلسلٍ متِّصلٍ من التراجعات، بلغ أن وضع الدولة ذاتها، التي نتقاتل، من منطلقات جهوية، على تملك مفاصلها، في مهب الريح. وبطبيعة الحال، فإن الأنظمة العسكرية تعبر عن هذا المنحى الذي أتحدث عنه، أكثر مما تعبر عنه الأنظمة الديمقراطية. غير أن الأنظمة الديمقراطية لم تسلم من الاسهام في هذا التخريب، بل هي التي كانت تتيح، باستمرار، للعسكريين ذرائع الوصول إلى السلطة.

ما وددت التركيز عليه في هذه الحلقة، أن الواجب المباشر، الذي ينبغي أن يكون أكثر الزامًا للمثقف وللأكاديمي الباحث، هو البحث عن أصول الظواهر، خاصة حين تقع البلدان، كما هو حال بلادنا، في دوامات العجز والركود، وتراجع الأخلاق، وتفشي التدين المظهري، وانهيار منظومة القيم النبيلة، واضمحلال التمدن، وتراجع العقول والفهوم، وتسارع وتيرة "بَدْوَنَة" الوجدان، التي انخرطت فيها قنواتنا الفضائية. كل أولئك يجري لدينا في السودان، الآن، على قدم وساق، وبوتائر بالغة السرعة. ورغم ميلِ الحالِ الذي لا يحتاج إلى دليل، فالويل والثبور، لمن يجرؤ، ويمد إصبعه، ليشير إلى أيٍّ من ذلك. فللركود والتراجع حراسٌ لا يترددون في تصويب فوهات بنادقهم لكل من يحاول لمس صنمهم الذي يحرسون به مصالحهم، كحال قريش قبل الاسلام.

في ظروف المنعطفات التاريخية الحادة، والانهيارات الاستثنائية، ينبغي أن يقف الأكاديمي على مسافة، من الجوقة التي لا تحب أن ترى أو تفكر في شيءٍ، سوى تغيير قمة هرم السلطة المتمثل في الحكومة. وعلى مسافة، أيضًا، من الملتفين حول مركز السلطة الذي لا يرون أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. هذه المسافة الفاصلة جد ضرورية للباحث لكي يمسك بعنان عقله ووجدانه، ومعرفته، ويحبسهما من الانزلاق في مجرى الاندفاعات الغوغائية، العمومية، الدارجة، التي تحركها غالبية القوى المعارضة، وكذلك الخطاب السلطوي التخديري المُقْعِد للقوى المسيطرة. بغير ذلك، لن يتمكن الباحث من رؤية المشهد برمته، ومن جميع زواياه، ولن يصل إلى اكتشاف الظواهر، وبلورة فهم متكامل لأصلها وأسبابها، ولن يتمكن، من ثم، من تحليلها، والدعوة إلى مناقشتها بشفافية، من أجل الوصول إلى طرق لمعالجتها.
كما سلفت الإشارة، يمثل كل من السودان والصومال نموذجين استثنائيين في التراجع والفشل. وتمثل الصومال، بخاصة، حالة غريبة، منعدمة النظير في صعوبة تحقيق الوحدة الوطنية، وفي قدرة وإصرار الفاعلين فيها على تخريب بنية الدولة، وكلك، في الاستعصاء الشديد على التحديث. وتأتي الغرابة، كما سلفت الإشارة، من أن الصومال بلدٌ متجانسٌ، من حيث الأصل العرقي، واللغة، والدين، ولكن، مع ذلك، بقيت مضطربة لعقود، ولا تزال مضطربة، إلى اليوم. والذين يرون في التنوع السب الرئيس للتناحر، ويدعون إلى التجانس، عن طريق بتر أطراف البلدان، عليهم أن ينظروا إلى الصومال، الذي لا يوجد بلد في العالم يماثله في التجانس. يقدم الصومال أسطع الأمثلة على أن التجانس العرقي والديني واللغوي، لا يمثل، وحده، صمامًا للأمن والاستقرار.

أنشأ سياد بري نظام حكم فاسد، واتخذ سياسة عشائرية، ليحكم قبضته على السلطة. اتجه برَّي إلى النظام الوراثي، وصعّد عشيرته (الدارود)، إلى قمة هرم السلطة، فسيطرت على جميع ركائز الاقتصاد. انصرف سياد بري عن العمل الجاد لتطوير الصومال وتحديثه، وبناء اقتصاد حديث نامٍ، وتحقيق للوحدة الوطنية فيه. اعتمد بري في الاقتصاد على المعونات التي وفرتها له تحالفاته في حقبة الحرب الباردة. غير أن المعونات ظلت تذهب في وجهة تقوية الأجهزة الأمنية، وشراء الذّمم طلبًا للدعم والمساندة، حتى سميت الوجهة التي تنتهي إليها تلك المعونات، بـ "مقبرة المعونات"، (راجع: سولومون ديرسو، وبيروك مسفين، الصراع في أقاليم الصومال، مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية، أبوظبي، 2010، ص 17). وبانهيار نظام سياد بري، دخلت العشائر الصومالية، المنتمية إلى أصل عرقي واحد، وتدين بدين واحد، وتتكلم لغة واحدة، في دوامة متطاولة من التناحر. وقد اشتد الصراع العشائري في السيطرة على مقديشو، بين محمد فارح عديد وعلي مهدي، عقب هروب سياد بري، حتى انقسمت العاصمة إلى شطرين. (المصدر السابق، ص 20). وهكذا بدأت حقبة لوردات الحرب، وتناسلت الانقسامات على مختلف الصعد، واستمرت حالة الاضطراب، إلى يومنا هذا.

من يرون أن تفكك الدولة في الصومال تسببت فيه سياسات سياد بري الداخلية، ومحاولته إعادة احتلال إقليم أوغادين، الذي جره إلى الحرب مع إثيوبيا، وخسارته تلك الحرب، وغير ذلك من الأسباب، لا يذهبون بالتحليل إلى نهاية الشوط. فالمشكلة تكمن أصلا في البداوة، وفي العقلية الرعوية، وفي الاعتماد، في إدارة الدولة الحديثة، على البنيات الاجتماعية الأولية، المتمثلة في العشيرة، وما تنطوي عليه من تعصب أعمى، وأنفة، وحرص لا يني في النظر إلى الآخرين من علٍ، زراية بهم، واستحقارا لهم. وقد فاقم انهيار الدولة في الصومال، الذي تسببت فيه العشائرية، النزعة العشائرية أكثر، فأكثر. فلقد أدى انهيار الدولة إلى احتماء الأفراد بقبائلهم وعشائرهم طلبًا للأمن والحماية. ولما لم تعد هناك مؤسسات وسلطة مركزية تفرض القانون والنظام، لجأت القبائل والعشائر، بل والمؤسسات إلى تسليح نفسها لضمان أمنها وفرض قوانينها. وهكذا اختفت المؤسساتية من الوجود تمامًا، أو كادت. وانفتحت أبواب البلاد، من ثم، لتجار السلاح لعدم وجود سلطة مركزية تراقب الحدود، (المصدر السابق، ص 26). وتفاقمت الأوضاع، حتى أضحى الحال في مجمله، باعثًا على اليأس.

لا تملك بنية العقل الرعوي صبرًا على المؤسساتية وعلى حكم القانون، والتقيد بالنظم، رغم أنها تهتم بتلك الأمور في سياق حفاظها على بنيتها كمؤسسة منفصلة، لا تخضع إلا لذاتها، ولا تتبع سوى منطقها التاريخي في السيطرة، واحتكار موقع اليد العليا، الذي ورثته صاغرًا عن كابر. أيضًا، لا تملك بينة العقل الرعوي، بحكم تضخم "الإيقو"، والغلو في الأنفة، والعُجْبِ المطلقِ بالذات، قدرةً على المساومة، أو استعدادًا للوصول إلى الحلول الوسط. ولذلك غالبًا ما تقودها هذه الخصائص إلى نسف مؤسسة الدولة، حين تطالها يدها. ولسوف أجري مقارنة في الحلقة القادمة بين أحوال السودان والصومال، بإزاء كل من إثيوبيا وكينيا ويوغندا، طمعًا في أن ينشأ في أذهاننا جميعًا السؤال الشهير، شديد الأهمية: لماذا هم كذلك، ونحن هكذا؟ ففرضيتي المبدئية، في مجمل هذا الطرح، أن السودان والصومال غلبت في تاريخهما القريب، قيم البدو الرعاة. فغلبة قيم البداوة ظاهرة جديدة، خاصةً في تاريخ السودان القريب. فعمر "البَدْوَنَة" وقيمها، التي جلبها الأعراب إلى السودان، لا يتعدى السبعمائة عام. وهذا مسار قصير تسهل مراجعته، كما تسهل إعادة الأمور فيه إلى مسارها القديم، الذي اعترضته عوارض البداوة، وقيم الرعاة، وحرفته عن مساره.
(يتواصل)

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشرح العقل الرعوي
(7)

لا تحتاج ظاهرة غلبة الثقافة الرعوية على بنيتي الوعي في السودان والصومال، في تقديري، إلى جهدٍ في إقامة الشواهد. فحال البلدين الآن، يحكي عن تجسيدهما لهذه الظاهرة، بأفضل مما يمكن أن يحكيه أي باحثٌ أو محللٌ، أو حتى مجرد واصف. فظاهرة العجز عن الامساك بالحداثة وتثبيتها في واقع القطرين، تعلن عن نفسها بوضوح، لا مجال للمراء فيه. ويتمثل طرفٌ من تجليات هذه الأزمة في السودان، بخاصة، في ظاهرة الانكار، وعدم القدرة على رؤية النقائص. وليس هذا بغريب، ففي مثل هذه البيئات، التي تسيطر عليها القيم الرعوية يتعذر النظر الموضوعي للأمور. ويصعب فصل ما هو ذاتي، عما هو موضوعي؛ إذ يختلطان اختلاطًا يجعل النظرة الموضوعية للأمور معتذرةً تماما. وبما أن بنية العقل الرعوي مؤسسة، بصورة عامة، على إنكار النقائص، فإن الإقرار بالخطأ، والاعتراف بالنقص أو القصور، من حيث هما، أمور غير مرغوبة. فهما يمثلان لدى العقل البدوي الرعوي، إقرارًا بالضعف، وإعلانًا للهزيمة. ويفسر هذا، في تقديري، تفشي ظاهرة عدم القدرة على الاعتراف بالخطأ، بيننا؛ نحن السودانيين، وضيقنا الشديد بالنقد، الذي غالبًا ما نَعُدُّه استهدافًا شخصيًا، وننطلق في التعاطي معه من هذه الزاوية. ولا غرابة إذن، أن بقيت مساجلات المثقفين السودانيين، منذ أن نشطوا في الكتابة، بُعيد الربع الأول من القرن العشرين، حافلةً، إلى اليوم، بالقسوة والمرارة، والميل الذي لا يني للانتصار للذات، والتقليل من شأن الخصم، بل والعمد إلى إهانته، والزراية به، بكل سبيلٍ ممكن.

يستخدم "المتحاورون"، أو "المتبارزون"، على الأصح، في مجادلاتهم الفكرية مع خصومهم في الرأي، على صفحات الجرائد، والمواقع الإلكترونية، جميع الأسلحة المتوفرة لديهم لسحق الخصم الفكري، سحقًا لا قيامة بعده. فالعقلية الرعوية، بطبيعتها المرتبطة ارتباطًا عضويًا بالقيم المتجذرة في محيطها البيئي، الجغراثقافي، الرعوي، لا تملك إلا أن تحول الحوار الفكري إلى مبارزة. وبصورة تلقائية، يجري تعليق شرف الفرد، وشرف القبيلة، وشرف الطائفة، وشرف الحزب الذي ننتمي إليه، وشرف الشريحة الاجتماعية التي تضمنا، وتحرس منظومة مصالحنا، على هذه المبارزة، التي لابد من الانتصار فيها، بكل سبيل ممكن. يجري تعليق الشرف الفردي والجماعي، على الحوار الفكري، مثلما كان يجري تعليقهما، في الماضي، على المبارزة بالسيف، بين فرسان القبائل المتحاربة. ولا أراني بحاجةٍ إلى عرض نماذج، مما ظل يجري بين مثقفينا، من "مبارزات"، من هذا النمط المتسم بالعنترية، مما ساد بيننا، عبر أكثر من ثمانية عقود. فالنماذج، كما يقولون، "على قفا من يشيل".

ظاهرة مقاربة الحوار من زاويتي النصر أو الهزيمة، ليست حصرًا على أشخاص بعينهم من مثقفينا، ممن لا تنفك تجري بينهم هذه "المشاجرات" الفكرية، التي تُسمى حوارًا، وإنما هي ظاهرة عامة، تعود جذورها إلى قيم القبيلة ومنظومتها الأخلاقية، المبنية على؛ إما النصر، وإما الموت، وإما عار الأبد. ترى هذه البنية العقلية الرعوية، في التنازل للآخر، والإقرار بصواب رأي الخصم، حين يكون مصيبًا، والاعتراف بالخطأ، أو بالنقص، أو القصور، هزيمة، لا غير. والهزيمة لدى العقل البدوي الرعوي، من حيث هي، وبغض النظر عن ملابساتها، مخلة بالشرف، ولا ينبغي أن تحدث أبدًا، فإن هي حدثت، فلا شرف بعدها، ولا نهوض من كبوتها. فهي مثل عود الكبريت الذي لا يشتعل سوى مرة واحدة. ولا غرابة أن أصبح هذا المجاز هو المجاز الذي انتقته هذه االعقلية الرعوية، لتشبه به "شرف البنت".

كل المكابرات، التي تزخر بها حياتنا، مما نراه لدى المسؤولين الحكوميين، وقادة الأحزاب السياسية، وصفوة المثقفين، وعامة الناس، وغيرها من الخلال السيئة، يقف وراءها ما يمكن أن نطلق عليه "رهاب فقدان الشرف"، الذي ليس هو بشرفٍ، أصلا. بل، على العكس من ذلك تمامًا، فكثير مما تواضعنا عليه بوصفه شرفًا، هو، في حقيقة الأمر، وحشيةٌ، وغرورٌ لا يعرف الحدود، بل وأحيانًا وضاعةٌ ونذالةٌ، ومفارقة للقيم النبيلة، لا تنفك تلتحف بأغطية الشرف والكرامة. فالشرف والكرامة هما التزام الأمانة، والصدق والموضوعية، وقولة الحق ولو على نفسك، والامساك بلجام النفس الجامحة، الميالة إلى الاستعلاء والزهو، والانتباه الشديد إلى تلفتاتها المنبثقة أصلا من الغرور ومن "الإيقو" المنتفخ.

تزعج التحليلات، والمراجعات، والنقد، بنية العقل الرعوي، أيما ازعاج. فهي تمثل نقيضًا للأسس التي قامت عليها في المبتدأ. فالتفكير المتأمل الناقد، والنزوع للاعتدال والتوسط والمصالحة أمور مكروهة في البيئات الرعوية. فهي تسير في اتجاهٍ معاكسٍ تمامًا لمنظومتها القيمية المتمحورة حول "النصر أو الموت، أو عار الأبد"، كما سلفت الإشارة. فمنظومة القيم الرعوية مخضتها ومحصتها الحروب والصراعات الدامية، وتأسست حول الحرص على القهر والغلبة، والإقلال من شأن الآخر. وهذا طبيعي، لأن الحفاظ على كيان القبيلة، وتحصينها ضد غارات المغيرين، وحفظ ممتلكاتها، بل وزيادتها، وبأي سبيل، أمورٌ تقوم على إظهار القوة، والفخر بها، وعلى الإعلاء من شأن الذات، وتأكيد الشعور لدى كل فرد في المجموعة بالتفوق على الآخرين. يقول نوردنستام إن احترام الأعرابي السوداني لنفسه يعتمد، بصورة كلية، على احترام الآخرين له. ولذلك فإن نظام الفضائل لديهم، لا ينبع من داخلهم، بقدر ما ينبع من تصور الآخرين لهم. راجع:Raphael Patal, The Arab Mind, Charles Scribner’s Son, New York, 1983m p 101. . لذلك تجدنا، نحن السودانيين، مشغولين، إلى حد كبير، بصورتنا في أذهان الآخرين، بأكثر من انشغالنا بحقيقة أنفسنا. وهذه، في تقديري، تجعل النظر إلى الداخل متعذرًا تمامًا. هذه البنية العقلية نقيضة تماماً للبنية العقلية التي حاول الإسلام غرسها في الناس، وهي التي عبر عنها ابن عطاء الله السكندري بقوله: "ما ترك من الجهل شيئًا من ترك يقين ما عنده إلى ظنِّ ما عند الناس". أي، من الجهل الشنيع أن تترك ما تعرفه يقينًا عن نقائصك، وتتطلع إلى ما يظنه الناس عنك؛ أي، أن تتطلع وتحتفي بظن الناس فيك، أنك شخصٌ خيِّر، رغم أنك تعلم يقينًا، أن ظنهم هذا غير صحيح.

يمكن القول إن العقيدة المركزية التي تتمحور حولها قيم القبيلة، منسوجة على النول الذي نسج عليه عمرو بن كلثوم هذه الأبيات، التي تقول:

بغاةٌ ظالمينَ وما ظُلمنا، ولكنَّا سنبدأُ ظالمينا
ملأنا البرَّ حتى ضاقَ عنّا، ونحنُ البحر نملأُه سفينا
إذا بلغ الصبيُّ لنا فطامًا، تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
وكُنَّا الأيْمَنِينَ إذا الْتَقَيْنا، وكانَ الأيْسَرِينَ بنُو أَبِينا
فَصَالُوا صَوْلَةً فِيمَنْ يَلِيهِمْ، وصُلْنا صَوْلَةً فِي مَنْ يَلِينا
فَآبُوا بِالنِّهَابِ وبِالسَّبايا، وأُبْنَا بِالمُلُوكِ مَصَفَّدِينا

هذه هي ثقافة الرعاة؛ رأسمالها القوة، والفخر، إضافة إلى فرضها على الآخرين بقوة البأس. وكذلك ارهاب الآخرين استباقيًا، عن طريق إخافتهم بقصائد الفخر التي يبثها شعراء القبيلة في أسواق العرب الموسمية، للتجارة وللشعر، كسوق عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، وغيرها. فغريزة البقاء والحفاظ على الكيان القبلي في بيئة سمتها الرئيسة، شك السلاح، لا يمكن أن تسمح، إطلاقًا، بإبداء الضعف. فالتواضع، والانكسار، والامساك بلجام النفس، التي تمثل أعلى الفضائل الإسلامية، لا تمثل فضائل في مثل هذه البيئات، وإنما ضعة ومنقصة. فالتواضع والميل للاعتراف، وللإقرار بحق الآخر، والنزول عند رأي الآخر، تهدد مقومات البقاء، ولذلك، فلا تسامح معها البتة. فالحفاظ على البقاء بالقوة، وبكل توابعها، في بيئة لا تعرف غير منطق القوة، خط أحمر قاعدي، لا يُسمح لأي فردٍ من الجماعة بالنزول إلى ما تحته.

يرى براين تيرنر أن نظام الحماية الي كان سائدًا في الجزيرة العربية هو الذي شكل منظومة القيم البدوية. فالقبيلة الضعيفة كانت تحتمي بالقبيلة القوية لقاء إتاوة تدفعها القبيلة الضعيفة. فإذا بقيت القبيلة الضعيفة لوحدها، استهدفتها المغيرون فسلبوا أموالها وسبوا نساءها، وانتهكوا شرفها. وينطبق ذلك على الأفراد. فالفرد البدوي المتجول في الصحراء مع أغنامه، والمسافر لوحده، أو في رفقة قليلة، يكون محميًا ببأس قبيلته، وقدرتها على أخذ الثأر ممن يجرؤ على الاعتداء عليه من القبائل الأخرى. نظام الحماية القبلية هذا يجعل الفرد متماهيًا، بصورة مطلقة مع سلطة القبيلة، ومع بناها القيمية، وعقلها الجمعي، (Bryan S Turner, Weber and Islam, Routlege & Kegan Paul, London, 1974, p 82). . ومن هنا جاء غياب الصوت الشخصي، وطغيان نزعة التعبير عن ذاتٍ جمعية، هي فوق النقد وفوق المراجعة.

هناك نقطة جوهرية جرى لمسها لمسًا خفيفًا في هذا الطرح، ولسوف أتوسع فيها مستقبلا، حين تتحول هذه المقالات إلى كتاب. هذه النقطة الجوهرية هي أن الإسلام جاء بقيم أنسوية، وحاول غرسها في بيئةٍ وحشية، هي بيئة الجزيرة العربية. فالقيم التي جاء بها الإسلام كانت نقيضًا للقيم البدوية الرعوية، التي كانت سائدة في معظم أرجاء جزيرة العرب. ولم تخل من سيادة تلك القيم الرعوية حتى الحواضر؛ مثل مكة والمدينة. غير أن المدينة كانت أكثر حضرية، وأقل تأثرا بقيم البيئة الرعوية المحيطة بها، من مكة. وهذا هو السر، في تقديري، في اختيار النبي الكريم لها مكانًا للهجرة، ما جعلها عاصمةً للمدنية الإسلامية الناشئة حينها.

دعا الإسلام تلك العقلية الرعوية ومنظومتها القيمية بالحسنى، ثم ما لبث أن أضطر إلى قهرها بمنطقها، وهو منطق السيف والقهر والغلبة. بظهوره، وجّه الإسلام، ضربة قوية لعصبية القبلية استطاعت أن تفككها، إلى حد ما، وتعطل حدتها القديمة، لمدد غير يسيرة. وقد قاد ذلك إلى اطفاء نيران الحروب الداخلية. فقد تخلت القبائل عن حروبها مع بعضها، وتوحدت في وجهة الجهاد. (ابراهيم اسحق ابراهيم، هجرات الهلاليين، هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، الخرطوم، 2011، ص 32). ولقد كانت الغنائم، التي أقرها الإسلام، نقلا لها كحافز للقتال وقف وراء تحفيز أفراد القبائل لمقاتلة بعضها، لتصبح حافزًا في الوضع الجديد، لكن، بالحصول عليها من غير المسلم المهزوم. ومع ذلك، تربصت القبلية ومنظومتها القيمية بالإسلام، فهادنته في مبتدأ أمره، بعد أن عرفت قوة شكوته عبر معاركها الحربية معه التي انهزمت فيها. ولكن، ما أن التحق النبي بالرفيق الأعلى، وضعف دفق الإسلام، وتراجعت حرارته في النفوس، انقلبت عليه القبيلة، وأفرغته من محتواه، وأحلت قيمها الموروثة، التي جاء الإسلام أصلا لمحوها، ولكن بعد أن أسمتها "إسلاما"، هذه المرة، بحكم تبدل الظروف، وتعذر الرجوع إلى الوضع القديم، كما هو. وقد عبر عن ذلك سادة بني أمية، عقب تولي عثمان الخلافة، حين قال أبو سفيان للخليفة عثمان بن عفان، حين صارت الخلافة إليه، "قد صارت إليك بعد تيم وعدي"، إشارة إلى قبائل أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب". ثم قال: "فأجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك، وما أدري ما جنة ولا نار"، (المقريزي، كتاب التخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، (تحقيق حسين مؤنس، دار المعارف، مصر 1984، ص 56). وبالفعل، تحول الإسلام عقب الفتنة الكبرى إلى ملك قائم على العصبية القبلية الموروثة من الجاهلية. وهكذا أعادت بنية العقل الرعوي انتاج الإسلام بما يناسب هواها. هذا الإسلام المعاد إنتاجه "رعويًا"، هو ما يظنه المسلمون اليوم، الإسلام الذي نزل من السماء.

لربما تكون نزعة الانكار، ومقت التفكير النقدي، والانصراف عن الملاحظة، وعدم القدرة على استنطاقها، إضافة إلى تضخم الذات والرضا عن النفس بلا انجاز، هو ما يجعلنا، نحن السودانيين، لا نبدي اهتمامًا جديًّا بصعود اثيوبيا الصاروخي، مؤخرا، وبتراجع أحوال السودان والصومال. أعني، أن نهتم بذلك، بالقدر الذي يجعلنا نتنبه للعلة المُقعدة، التي حبست كلّاً من السودان والصومال عن النهوض. فسر انطلاق إثيوبيا أخيرًا، وهو انطلاق طال انتظار الإثيوبيين له، إنما يعود، في تقديري، لكون إثيوبيا ظلت بيئة حضرية، احتفظت رغم الاضطرابات، والفقر المدقع، بحضريتها. لم يتعرض التاريخ الإثيوبي لانقطاعات، ولا للتدخلات الأجنبية، إلا لخمس سنوات فقط أثناء الحرب العالمية الثانية. ولم يكن لتلك السنوات الخمس تأثيرٌ معيق. فتواصلية التاريخ مكّن لنمو القيم المتمدينة فيها، ولثبات بنية الحكم ومؤسساته. هذا في حين غلبت في السودان والصومال القيم الرعوية، واستشرى، من ثم، نهج تقوية القوى الجهوية المختلفة، لنفسها، على حساب بنية الدولة.

لو نحن نظرنا بعقول صاحية، صافية، إلى جوارنا الإقليمي، رغم قلة كسبه من التحديث، وقارنّا أحوالنا بأحواله، لاتضح لنا أننا مصابين بداءٍ عضال لا تخطئه العين. لقد مرت كل الدول التي نالت استقلالها، حوالي عقديْ الخمسينات والستينات، من القرن الماضي، بفترة من الاضطراب، وبحالةٍ من الضياع، أعقبت خروج المستعمر، ولقد استمرت تلك الحالة عقودًا، وكان ذلك أمرًا طبيعيًا. غير أن ثلاثًا من دول الجوار القريب، هي إثيوبيا، وكينيا، وإلى حد ما يوغندا، أخذت تنعم بشيءٍ من الاستقرار النسبي، وشرعت تحث الخطى في مسارات التحديث، والتنمية، في حين تخلف كل من السودان والصومال. يطرح هذا الوضع سؤالاً جوهريًا لا معدي عن الإجابة عليه، وهو: لماذا كان كلٌّ من السودان والصومال استثناءً في عدم الحفاظ على مكتسبات التحديث، والوقوع في براثن التراجع المضطرد الذي لامس، حواف الفوضى؟ لابد أن هناك علةً مركزيةً في الثقافة السائدة، تحول، وباضطراد، دون الإمساك بأسباب الحداثة، وتجعل الدولة أضعف من القوى المجتمعية، وأعني، بصورة خاصة هنا، القوى المتمثلة في سلطة النخب المعادية للصالح العام، المنشغلة بالوجاهة وبإثراء الذات والعشيرة، وشفط المال العام، من حيث ينبغي أن يعمل، وتحويله للدوران خارج فلك الدولة، والعمل المستمر في الفتك الذريع ببنية الدولة.

احتفظت إثيوبيا بتحضرها، إذ حصنتها المرتفعات الشاهقة من زحف الرعاة. لقد ظلت أقاليم أثيوبيا متمحورةً، طوعًا أو كرهًا، حول دولتها المركزية، في كل أحوالها؛ هبوطًا وصعودا. احتفظت إثيوبيا بتواصلية تاريخها، والاحتفاظ بسماتها الثقافية عبر العصور. وأهم ما احتفظت به إثيوبيا هو شخصية الإثيوبي، التي ظلت إطارًا جامعًا للإثيوبيين، رغم اختلاف الإثنيات، واللغات، والديانات. أيضًا، حافظت إثيوبيا على استقلالها، وعلى ما يقتضيه استقرار الدولة من انصياع المواطن للسلطة، واحترامه لها، سواء كانت سلطةً دينيةً أو دنيوية. ويرى إبراهيم اسحق ابراهيم، أن من ضمن أسباب هجرة القبائل العربية من الجزيرة العربية إلى إفريقيا الابتعاد من سلطة الدولة. وأن هذه القبائل وجدت صعوبة في الخضوع لسلطان الدولة المركزية، أينما حلت، (إبراهيم اسحق، مصدر سابق، ص 32).

من الضروري جدًا، الإشارة هنا، إلى أن الانصياع لنظم الدولة، ولحكم القانون، ضروري جدًا للتحضر واستدامته. وليس بغائب عني، من الجهة الأخرى، أن الشعوب التي لا تعرف كيف تتمرد وتعصي، حين يقتضي الأمر التمرد والعصيان، تبقى، يد الدهر، في أسر القهر والاستغلال. ومع ذلك، فإن الشعوب التي لا تعرف كيف تنصاع لنظم الدولة، ولحكم القانون، تضر بقيومية الدولة، بل وتهدد بقاءها. فهناك حاجة لكل من الانصياع والعصيان، ولكن بحسابٍ محسوبٍ في كل حالة.

يمكن القول أن التطور يحتاج الانصياع،conformity ، ولكن بعلم، كما يحتاج للتمرد والعصيان، ولكن بعلم أيضًا. تمرد السودانيون وعصوا مرتين؛ في أكتوبر 1964، وفي أبريل 1985، ولكنهم تمردوا من غير علم، فلم يجنوا شيئًا، وظلت الأمور بعد كل تمرد، تسير نحو الأسوأ. والغريب أن التساؤل حول نتائج هذين التمردين لم تجر بما يكفى، لا من حيث السعة، ولا من حيث العمق. بل إن ذات الحداة الأقدمون، لا يزالون يحثون الناس على تمرد جديد، شبيه، يجري من غير علم، على ذات النسق السابق. غلب على الإثيوبيين في عموم تاريخهم الانصياع، ولكنهم حين تمردوا على نظام الدرك والرعب الأحمر، الذي ساد فترة حكم منغستو هيلا مريام الشيوعية، تمردوا بانضباط، ولم تهتز الدولة عقب سقوط أديس أبابا، ولم ينفلت عقد النظام. وأرجو أن نقارن استقرار الأحوال في إثيوبيا عقب هروب منغستو، وانهيار قوات الدرك، وسقوط أديس أبابا في أيدي الثوار، بما جرى في جنوب السودان، الذي انفصل بهدوء تام، نتيجة لاستفتاء شعبي. فقد انتهت حال جنوب السودان، في وقت بالغ القصر، إلى فوضى ما لها من قرار. ولا غرابة، فثقافة الرعاة لا تستطيع، بطبعها، التعاطي مع إدارة الدولة، لأنها، تمثل، بطبيعتها، نقيضًا للمؤسسية. وهذا ما فات على جون قرنق، منذ البداية، حين ظن أن بوسع حركته أن تقفز، جملةً واحدة، على هذا الواقع المتخلف.

على خلاف السودان والصومال، حفظت مزية احترام الدولة والانصياع لسلطتها وقوانينها، لأثيوبيا تواصلية الاستقرار الإداري البيروقراطي، رغم ما جرى من تغيُّرات جوهرية في نظام الحكم، منذ انهيار النظام الإمبراطوري. وعلي سبيل المثال، وهو مثال مدهش حقًا، استمرت الخطوط الجوية الإثيوبية تنمو باضطراد، رغم مرور البلاد في بحر القرن العشرين، بثلاث حقب سياسية، متباينة أشد التباين. فقد ظلت الخطوط الجوية الإثيوبية تنمو في حقبة الإمبراطور هيلاسلاسي، وفي حقبة منغستو الشيوعية، وفي ظل النظام الحاكم اليوم، ولم يؤثر أيٌّ من هذه الأنظمة، سلبًا، على تطورها. بل أصبحت الناقل الجوي الأول، في إفريقيا كلها.

يدل كل ما تقدم ذكره، على أن في إثيوبيا بنية مؤسسية، متماسكة سلمت من إلى حد كبير من تلاعب النخب. كما يدل على وجود ضوابط وكوابح بنيوية، ترسخت، وأضحت مانعةً للتراجع، ولانهيار البنى القانونية، والإدارية، والمحاسبية، وسائر منظومة أخلاق العمل الضرورية لتماسك الدولة. هذه الانهيارات هي ما اتسم بها السودان طيلة حقبة ما بعد الاستقلال، بسبب أن الكوابح التي تحول دونها لم تكن متوفرة أصلا في بنية الثقافة السائدة، وفي التقاليد، وفي الموروث التاريخي القريب الذي شكله الرعاة. وتعطينا الدولة المهدية نموذجًا واضحًا للكيفية التي ينسف بها العقل الرعوي بنية الدولة. ولأن إثيوبيا حافظت، رغم كل الاضطرابات على التواصلية الحضارية، وسلمت بحكم طبيعتها الجغرافية، من وصول الرعاة إلى قلب حضارتها، استطاعت أن تحافظ على الثابت الوطني الرئيس، وهو تماسك جهاز الدولة، واحتفاظه، في كل الأحوال، بقدر معقول من الفاعلية.
(يتواصل)

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشريح العقل الرعوي
(8)

تحدثت في الحلقة الماضية عن ظاهرة الإنكار المستشرية وسطنا، نحن السودانيين. وأبدأ بمثال يعكس بقية واقع الحال، رغم ما يتسم به من شطط، وهو انكار الإسلاميين، ومكابرتهم في الاعتراف بفشل تجربتهم التي بلغ عمرها الآن سبعة وعشرين عامًا، ونيف. لم يبدر منهم طيلة هذه المدة ما ينبئ بأنهم يمكن أن يقرِّوا بالفشل، على الاطلاق. وفي هذا دلالة على نسخة الإسلام التي رفعها هؤلاء القوم، هي نسخة رعوية. بعبارة أخرى، هي نتاج للمسخ الذي قام عقل الرعاة لقيم الإسلام. وتلك ظاهرة لم تخل منها حقبةٌ، من حقب التاريخ الإسلامي. الشاهد، أن الإنكار والمكابرة، سمتان من سمات بنية العقل الرعوي، لا يسهل عليه هجرهما. فهما، كما سبق القول، جزء من البنية النفسية، التي تُنشِّئ عليها القبيلة أفرادها، من أجل حراسة أمنها، في بيئة اجتماعية لا تقبل الإقرار لأي نقص، على قاعدة: "لنا الصدر دون العالمين، أو القبرُ"، غلا توسط، ولا اعتدال.

رغم كل صور الفشل المدوية التي شهدنا حلقاتها، حلقة، حلقة، على مدى سبعة وعشرين عامًا، لا يبدو أن هناك شيئًا يمكن أن يجعل أهل الانقاذ يقرون أنهم أداروا تجربة غلب عليها الفاشل. فلا هجرة الريف الملحمية، التي جعلت الأرياف خاويةً على عروشها، وجعلت العاصمة تتضخم، حتى تعذرت أدارة شؤونها، ولا اتساخ هذه العاصمة بصورة لا شبيه لها في مدن العالم، ولا تراجع سعر الجنيه السوداني، بمتوالية هندسية، لا تنفك تتواصل، ولا تدهور التعليم، الذي بلغ بطلاب الجامعات درجة عدم معرفة الإملاء، دع عنك النحو والصرف، ولا احتلال السودان ذيل القائمة في كل مؤشرات النمو التي تصدرها المؤسسات الدولية، ولا ديونه التي قاربت، أو جاوزت، الخمسين مليارًا من الدولارات، ولا أي شيء من هذا القبيل، يمكن أن يجعلهم يقرون بالفشل.

لقد ظل الاسلاميون السودانيين، يديرون مسيرةً متصلة من التخريب الممنهج، الذي طال بنية الدولة، وقوانينها، وضوابط خدمتها المدنية، وحرمة مالها العام، ونزاهة قضائها، ومعيشة أهلها، بل وحتى أمنهم الشخصي، ومع ذلك لا يزالون يحاولون أن يهتفوا، ويهللوا ويكبروا، بنفس الحماسة التي كانوا عليها عام 1989. وحتى كارثة انفصال الجنوب لم تحدث لهم ذكرا. وبطبيعة الحال، هناك من بين الانقاذيين، ممن لهم علمٌ، وبهم حياءٌ، جعلاهم يباعدون بين أنفسهم، وبين هذه الحالة المستعصية من الانكار الممتد. ولكن هؤلاء قليلون يُعدون على الأصابع. وجماعة الانقاذ هنا، مجرد مثال فقط، فكل السياسيين السودانيين كانوا على ذات الشاكلة. كل الفرق أن أهل الانقاذ وجدوا في تجربة الحكم زمنًا طويلاً لم يجده غيرهم. ومع ذلك، لم يسعفهم طول الزمن هذا في التدبر والمراجعة، والاعتراف بالفشل، ومن ثم اليد لمواطنيهم المختلفين معهم، طلبا للعون، أو فتحًا لأبواب المشاركة في القرار السياسي، وفي إدارة شؤون. بل، أغرتهم القدرة على البقاء في السلطة طويلا، بفتلِ مزيدٍ من حبال الانكار والمكابرة، والغلو في العزة بالإثم.

ظللنا، لعقودٍ، نرى قادة الانقاذ يقفون، كل يوم، أمام أجهزة الإعلام، مؤكدين أننا نتطور وننمو. بل إن بعضهم يجنحون إلى إغاظة معارضيهم، بكل سبيل ممكن، وبكل منكرٍ، من القول، والفعل. وحين ينكسر كبرياء بعضهم قليلاً، بسبب ضخامة الفشل وصعوبة انكاره، يحيلون أسبابه إلى الاستهداف الدولي! ويا لها من حيلةٍ رخيصةٍ، مكشوفة! فالاستهداف، إن صح أن هناك استهدافًا، غرضه الأساس الإعاقة، فلماذا لم يعق هذا الاستهداف دولا أخرى؟ فها هي الدولة في إيران لم تنشطر، ولم تتفكك، ولم تتراجع، مثلما حدث لدولتنا السودانية؟ لقد أضعفت العقوبات إيران، هونًا ما، ولكن إيران بقيت متماسكةً، وفاعلةً في محيطها الإقليمي، بل ومسببة قلقًا حقيقيًا لكل المنطقة.

الفارق بيننا وبين إيران، في تقديري، هو أن في إيران دولة بقيت حاضرة، مدًا وجذرًا، على مدى الأزمان، منذ حقب الامبراطورية الفارسية، ومرورا بحقب الإسلام المختلفة. بقيت إيران بسبب عراقة تقاليد الدولة فيها، وبسبب أن أهلها يتشاركون شعورًا قوميًا إيرانيا موحدًا. أما نحن، فلم نعرف أصلاً ما الدولة. وأعني هنا، أننا لم نعرفها في تاريخنا القريب المؤثر على حاضرنا، وهو تاريخ لا يتعدى مداه الزمني الخمسمائة عامًا الأخيرة. ولا يُستثني من ضعف الدولة عندنا، واضطرابها، في الخمسمائة عام الماضية، سوى فترة الاستعمار البريطاني (1898-1956). وهي فترة قصيرة العمر، حرسها البريطانيون من التخريب، وما أن رحلوا انهارت عقب خروجهم مباشرة، كما سبق أن أشرت في الحلقات السابقات.

لقد ظلت تلك التي نسميها، مجازًا، "دولة"، مجرد ساحةً للنهب، وتحويل المال العام للحيازة الخاصة، دون أي شعور بالذنب. فالعقل الرعوي طبيعته السلب، وليس من طبيعته البناء. فهو يمثل مرحلة من مراحل التطور البشري، ونمطًا من أنماط عيش البشر. فالبدو متنقلون، ولهم مفهومهم للزمن، والتطور والتغير ليس وجود لهم في نمط عيشهم. فالزمن لديهم اقرب ما يكون للدائري. ولذلك تظل حياة البدو، كما هي تقريبًا، ولآلاف السنين. وحين يعلو البدو على الحضر بالغلبة، ويجلسوا في مقاعد القيادة، بدلا منهم، يحبسون الحياة، بإخضاعهم لها لطبيعتهم. وهذا ما حدث حين جرى في تخريب سوبا. فقد هُدمت تقاليد الدولة السودانية القديمة الراسخة، وقامت على أنقاضها سلطنة الفونج، وهي سلطة رعاة.

تلك، في تقديري، هي النقطة التي جرى فيها القضاء على بقايا الدولة الكوشية النوبية العظيمة، وإرثها وتقاليدها الدولتية العريقة، واستبدالها بكيانٍ مهلهلٍ، أصبح أداةً للنهب، وموضوعًا له، في ذات الوقت. مرة أخرى، الفارق بيننا وبين إيران، بل بيننا وبين إثيوبيا، أننا انقطعنا عن جذرنا الحضاري، الكوشي القديم، الذي عرف الدولة منذ آلاف السنين، وحافظ على تقاليدها، حتى نهاية العصر المسيحي. مع اعتبار الفارق الكبير من حيث الرسوخ والانجاز الحضاري، الذي تتفوق فيه دولة مروي، التي استمرت من القرن الثالث قبل الميلاد، إلى القرن الرابع الميلادي، على الممالك المسيحة التي قامت على أثرها. تمثل المنعطف الخطير، الذي أربك مسيرة التاريخ السوداني، في الصورة التي قامت بها سلطنة الفونج، التي حولت الدولة إلى مجرد كرسيِّ للمجد القبلي، والشخصي، وللوجاهة الاجتماعية، وللحيازة، عن طريق آلة الحرب. كانت حقبة سنار سلسلة متصلة من الحروب على الحطام. والميزة الوحيدة لسنار، هي انتشار التصوف، الذي كثيرا ما أطفأ من نيران القتال المرير، في تلك الحقبة المشتعلة.

البحث في الظواهر يمكن أن تجري جمع مادته، عبر مناهج كثيرة، منها طريقة "ملاحظة المشارك"؛ أي أن يراقب الباحث المنخرط في مجال بعينه، انخراطًا يمنحه صفة المشارك، حدوثًا متكررًا لظاهرة ما، بما يصل إلى تشكُّل ما يمكن أن نعدُّه نمطًا. يسمي أهل مناهج البحث العلمي الكيفي، هذا النوع من طرق جمع المعلومات، بـ "ملاحظات المشارك" participant observation. ويُستخدم هذا النوع من طرق جمع المعلومات، في البحوث المتعلقة بالأنثروبولوجيا الثقافية، وغيرها من فروع علم الإنسانيات.

العقل الرعوي منحبس، دائمًا، في الهم الشخصي، ومنحجبٌ دائمًا عن الهم العام. ولهذه الظاهرة في حياتنا السودانية تجليات جمة. غير أن الاعتياد، من جهة، والانكار، من جهة أخرى، إضافةً إلى عدم القدرة على الملاحظة، تجعل الكثيرين لا يلتفتون إلى الظواهر السالبة، دع عنك أن يقروا بوجودها. وأحب، في ما يلي، في هذه المقالة، أن أورد أمثلة لهذه الحالة. وتتعلق الأمثلة بتحويل الملكية العامة، إلى ملكية خاصة. أي؛ تحويل ما هو للدولة، وما هو ملك عام، إلى الحيازة الشخصية.

أول تلك الأمثلة، تعكسها ظاهرةٌ متواترةٌ الحدوث، في قرى الجزيرة. فقد لاحظت عبر عقودٍ من المعايشة اللصيقة، أن كل فردٍ يعيد بناء حوش منزله، لأي سبب من الأسباب، يسعى، وبصورة تلقائية، إلى ضم جزء من مساحة الشارع، إلى بيته. ولقد لاحظت، في عدد من القرى، كيف أن الشوارع التي كانت في ما مضى فسيحةً، تحوّلت بفعل هذه الاعتداءات المتكررة، إلى أزقة بالغة الضيق. فما كان منها يمرر شاحنةً، أصبح لا يمرر عربةً صغيرة. بل إن بعض الشوارع تحولت إلى أزقة لا يستطيع صاحب حمارٍ يحمل على جنبتي حماره، حزمتي قصب، أن يمر من خلالها.

ولا تنفك هذه النزعة المتجذرة في نوع من الطمع، يبلغ درجة العصاب، تثير الشجاراتِ بين الناس. ويفشل شيخ القرية في ايقاف هذه الاعتداءات، ويأتي الناس للوساطة لإيقاف الشجار. فشيخ القرية أصلاً بلا سلطات تنفيذية وعقابية. والناس مصابون بانتفاخ الأنا، وبقلة الحياء في ابداء الطمع والدفاع عنه إلى أقصى الحدود، ما يجعلهم لا ينصاعون للسلطة، ولا للقانون. والمسؤولون الإداريون الذين ظلوا يعملون منذ الاستقلال في إدارة الشؤون البلدية في المدن، وفي الأرياف، ينتمون إلى ذات العقلية التي لا تسعى لتعديل سلوك الناس، ومنع التعديات بقوة القانون. تحققتُ من عموم هذه الظاهرة المتكررة، بسؤال بعض الأصدقاء الذين من يعيشون في قرى مختلفة، من قرى الجزيرة، لم أعش فيها، ولم أزرها بصورة متكررة، وأكد لي جميعهم حدوثها، وبذات الصورة.

أخذت هذه الظاهرة صورة أخرى، في العاصمة الخرطوم. وقد بدأت صورها الأولى تظهر في سبعينات القرن الماضي. أخذ سكان الامتدادات السكنية المختلفة، يبنون مصاطب خارج بيوتهم، ثم يقومون بتسويرها؛ إما بسياجٍ شجري أو حديدي، أو بكليهما. فضاقت الشوارع وأصبحت لا تتسع لمرور سيارتين، تسيران متعاكستين. يقضم جارٌ جزءًا من الشارع، ولا يعترض، عليه جاره، وإنما يتخذ من ذلك ذريعة، ليقضم هو جزءًا من الشارع مثله، وفي صمتٍ تام. وهكذا تستمر هذه المؤامرة الصامتة لقضم الشارع ليتحول إلى مجرد زقاق. ومن يقومون بهذا النوع من نهب الملكية العامة، والحاقها بالملكية الخاصة، في القرية، وفي المدينة، يعدونه، "فلاحة" و"نجاضة" و"شطارة". بعبارة أخرى، يصبح الاعتداء على الحيز العام فضيلة ومأثرة. ولهذا النمط من الأخلاق السيئة جذور تاريخية. فما يهم الفرد أو الأسرة، هو منزلهم، وحسب. ولا شأن لهم بالشارع؛ اتسع، أو ضاق، أو انغلق كليا. فهذه العقلية تقف على النقيض تمامًا من نظم الدولة، ومن أسس التخطيط الحضري، ومن جملة ما نسميه، المصلحة العامة المشتركة. هذا مع أن أساس فكرة الدولة، بغض النظر عن صورتها التي تكون عليها، من صلاحٍ أو طلاحٍ، هو إقامة الوزن بالقسط؛ بين الحيز الخاص، والحيز العام. فالتمدن كله قام على القوانين التي تحافظ على هذه المعادلة البسيطة. لكن العقل الرعوي، بطبيعته، يضيق بهذه المعادلة، ويظل يعمل على تكسيرها، ما وسعته الحيلة.

من الأمثلة الأحدث نسبيًا، في التعدي على الشارع العام، ظاهرة تمدد أصحاب الدكاكين خارج دكاكينهم. أصبح كل صاحب دكان، يبني أمام دكانه مظلةً من الحديد، ويحميها بشبكة معدنية، ليجعل منها امتدادًا لدكانه ووضع جزءٍ منبضائعه في الشارع العام. ويبدو أن بعض، أو كل، "العقول الرعوية" الجالسة في إدارة المحليات، وجدت في هذه التعديات فرصةً جديدة لزيادة الأتاوات، أو فرصة لتلقي الرشاوى، فغضت عنها الطرف، ولربما شجعتها. ولم يكن الأمر كذلك، لما أصبحت هذه التعديات أمرًا طبيعيًا، ولما بقيت هذه التحديات، دون أن يطال أصحابها القانون. بعض هذه المظلات المعدنية وتوابعها، يمتد في الشارع العام من ثلاثة إلى خمس أمتار، الأمر الذي يخلق، مع توقف المواطنين، بسياراتهم، أمام هذه الدكاكين للشراء، اختناقات مرورية مزعجة. وبما أن التمدن يعني تكامل المنظومة الحضرية، فإن أي انكسار في جزء من هذه المنظومة، يؤدي إلى تأثر بقية الحلقات الأخرى، فتنهار في تتابع يشبه تتابع انهيار قطع الدومينو. وهكذا تتآكل مكاسب التحديث في حياتنا ونترد باستمرار إلى الفوضى و "الإيدية". وكما تقدم، لا يقف هذا النمط من السلوك، المعاكس للتحضر ولقيم الحداثة، عند الأفراد في الحواري، وإنما يتعداهم إلى رجال الدولة أنفسهم. فالعقلية هي، هي، في الحالين. وكما ورد في الأثر، "كيفما تكونوا يُولَّى عليكم".

تتجلى رعوية عقول المسؤولين، في الاعتداءات المتزايدة على الساحات العامة، التي شغلت الصحف السودانية في العقود الأخيرة، خاصة في ظل نظام الانقاذ الحالي، الذي ترك للعقل الرعوي الحبل على الغارب، ودعمه بسلطة باطشة، وبضرب المحاسبية، ما شجَّع على التجاوزات. المهندسون الذين رسموا الخرائط في البداية، وجعلوا للشوارع مساحات معلومة، تختلف من شارع لآخر، وتركوا فضاءات خالية لمنشآتٍ يُتوقع أن تتولد لها الحاجة مستقبلاً، رسموا خرائطهم وفق ما درسوه في علوم التخطيط الحضري. غير أن العقل الرعوي الذي يتشاطره الجمهور، مع النخب الحاكمة، لا يؤمن بالصالح العام ولا بالملك العام. فهو لا ينفك يضع عينه على الملك العام ليحوله، بمختلف الحيل، إلى ملكٍ خاص. فالبداوة قامت على الشعور بالأحقية المطلقة: "ونشرب إن وردنا الماء صفوًا، ويشرب غيرنا كدرًا وطينا". فهي ترى أن من حقها أن تضع كل ما يمكن أن تطاله يدها، عن طريق القهر والغلبة، تحت يدها. ولذلك، فإن الرعاة حين اجتاحوا بنية القرية السودانية، وبنية المدينة السودانية، اجتاحوها بنفس العقلية. وهي عقلية يتع1ر عليها أن تفهم أن هناك معادلة ينبغي حفظها، بين الملكية الخاصة، والملكية العامة.

أيضًا، سبق أن ذكرت، أن سودنة الوظائف، التي جرت قبل الاستقلال بقليل منحت أكثر من 98% من الوظائف للسودانيين الشماليين، حتى في الجنوب. وهذا تصرف جرى على ذات الأنساق التي ذكرنا. فقد أصبحت الوظيفة الحكومية عقب الاستقلال جزءًا من أسلاب الفترة الاستعمارية، التي كانت الأعين مصوبة عليهاوما أن ذهب المستعمر، ذهبت الوظيفة الحكومية للأسرة، وللأقارب، وللقبيلة، ولسائر المحاسيب. تبعت ذلك أيضا، استغلال الحق في المنازل الحكومية. فقد ظل الموظفون الحكوميون يسكنون في المنازل الحكومية، تأسيًا بالبريطانيين، الذين كانوا أغرابًا، عابري سبيل. وبما أن القلم أصبح في يد الأفندية، الذين خلفوا البريطانيين على الكراسي، جاد هؤلاء الأفندية على أنفسهم، بالسلفيات الميسرة من البنوك، لبناء المنازل الفاخرة، في امتدادات الدرجة الأولى الجديدة، ثم قاموا بتأجيرها للسفارات ولأعمال التجارية وللأجانب، وظلوا يسكنون في بيوت الحكومة، وهي بيوت مدعومة الخدمات. بل إن بعضهم ظل مستمرا في السكن في البيت الحكومي بعد سنواتٍ، وسنواتٍ، من تركه العمل. وتبعت ذلك تصاريح السفر على الطائرات والقطارات والبواخر. وتبع ذلك الحصول على المشاريع الزراعية الشاسعة وغيرها من الأراضي الحكومية، بأسعار بخسة. وراجت في فترة من الفترات ظاهرة منح مساحات لقطع الأخشاب، ولإنتاج الفحم، ما وضع ضغطا مستمرًا على الموارد الطبيعية، أوصلها حد النفاد، وما تسبب في تدهور مريع في البيئة.

ورث الوطنيون تدليل البريطانيين لأنفسهم. غير أن البريطانيين كانوا يعيشون في دولة غريبة، لا يعنيهم مستقبل أهلها كثيرا، ولذلك لم يجدوا بأسًا في تدليل أنفسهم من مالها العام، خاصة أنهم جاءوها من بيئة متقدمة وحياة رغدة، مرفهة. غير أن الوطنيين لم يروا قدرة البريطانيين على البناء، وقدرتهم على حراسة ما بنوه، وإنما رأوا الريع الذي ظنوه لا ينضب، فأخذوا يخمشون منه بلا ضوابط، أو روادع. تفتحت، عقب الاستقلال، شهية العقل الرعوي للحيازة وللتملك، ولتحقيق المجد الشخصي، والوجاهة الاجتماعية، واندفع إلى الغرف من المال العام، بما يشبه الجنون. دلل الوطنيون أنفسهم من المال العام، تأسيًا بالبريطانيين، وجاء من بعدهم خلفٌ ساروا على ذات الدرب، لأن البنية العقلية ظلت كما هي، ولم تتغير. والآن صحونا جميعًا، لنجد أن الدولة قد ذهبت. كما وجد هؤلاء الذين بنوا العمائر من المرمر والرخام، أنهم لا يستطيعون الوصول إليها في الخريف، إلا بعد أن يخوضوا في الأوحال؛ راجلين، أم راكبين. وأنهم، لحظة خروجهم من أبوابهم، ومن أسوارهم الأنيقة، وسياراتهم الفارهة، يغرقون في الفوضى، والأوساخ، وفوضى الشارع العام، وكآبة المنظر، التي تعوذ منها النبي الكريم.

تجلس كل هذه الأحياء الراقية فوق بنية تحتية غاية في البؤس. فهي بلا نظام صرف صحي، إضافة إلى معاناتها، مثل بيوت الفقراء من انقطاعات الماء والكهرباء، ومن ضعف خدمات النظافة. غير أن أهل هذه العمائر أقدر من غيرهم على اجتراح الحلول الفردية. وتقود كل هذه الظواهر إلى وضع الأصبع على ظاهرة عدم قدرة على تنسيق الجهود، وعلى العمل المؤسسي الرسمي السليم؛ يستوي في ذلك الأفراد والدولة. وعلى سبيل المثال، يوجد في كل بيت من هذه البيوت، وفي غيرها في من الأحياء الأقل فخامة، بئر سيفون وسيبتك تانك. والسبب أن الدولة لا تملك من المال، ولا من سداد الرؤية، ولا من القدرة على تنسيق الجهود، ما يمكنها من إنشاء نظامٍ عام للصرف الصحي. ولذلك يحل كل بيت مشكلة الصرف الصحي بمفرده، هذا مع العلم أن سيبتك تانك واحدًا، وبئرًا واحدًا، يمكن أن يستوعبا الصرف الصحي لعدد من البيوت. تمامًا، مثلما يحدث في العمارات متعددة الطوابق التي يسكنها عدد من الأسر. فلو جمع المال الذي يصرفه الأفراد على منشآتهم هذه، لربما كفى نصفه لعمل نظام صرف صحي عام. ولكن، لا وجود للدولة في حياتنا، ولا وجود لمفهومها أصلا. كما أننا لا نملك العقل الذي يمكن أن يدير الدولة، ويضمن ديمومة فعاليتها.

لا شك في ضرر نظام الآبار الفردية، ضحلة العمق، بالبيئة، خاصة في مدينة تشقها ثلاثة أنهر. الشاهد أن العقل الرعوي جعل من الدولة في السودان عبئًا على المواطن، بدل أن تكون عونًا له. فهي أقرب ما تكون إلى الشيء الزائد الضار. ذكر الدكتور خالد التجاني، مرة، أن عدم وجود الدولة في الصومال، جعل الشيلينغ الصومالي أكثر قدرة في الحفاظ على قيمته، في حين أدى وجود الدولة غير الرشيدة، ذات السياسات الخاطئة، في السودان، إلى فقدانٍ متواصلٍ في قيمة الجنيه السوداني.
يتواصل


((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ÅÓãÇÚíá Øå
مشاركات: 453
اشترك في: السبت سبتمبر 10, 2005 7:13 am

مشاركة بواسطة ÅÓãÇÚíá Øå »

سلام استاذ النور حمد
اظن انك لم تاخذ بكلام الاستاذ كحديث باحت ومؤرخ جيد مثل الاستاذ عبد الله علي ابراهيم, بل سجنت رائه في اطار التحليل الماركسي للاشياء وذلك لاسباب كثيرة يمكن ان نشير اليها في هذه السلسلة التي تبذلها لنا هنا في موقع سودانفوراول وصحيفة التيار.
اول هذه الملاحظات ان كلام ابن خلدون يجانبه الصواب فيما يتعليق بالاعراب البدو,
وإقتباسا من حديثك فيما يخص غياب الممالك في تاريخ سكان وسط وشمال الجزيرة العربية اي ما يسمى بصحراء النفوذ , هذا الحديث يفنده وجود مملكة كندة والتي ينحدر منهم المناذرة الذين حكموا منطقة البحرين الحالية في الشمال من جزيرة العرب اي ما يسمى جغراقيا بمنطقة نجد وازدهرت هذه المملكة ما بين القرنين الرابع الى الاول قبل الميلاد وانتقلت من الوثنية الى اليهودية ثم المسيحية كما انه يشار اليها من قبل المؤرخين الشعر ان الشاعر العربي امرؤ القيس الذي لقب بالملك الضليل ينتمى اليها , استمرت المملكة رغم الحروب حتى ظهور الاسلام في القرن السابع إذ قام الخليفة الناي عمر بن الخظاب بارسال جيش الفتوحات الى شمال الجزيرة كما هو مدون في كتب التاريخ الطبقات لابن سعد , الطبري المبتدا والخبر في اخبار العرب , على سبيل المثال, وطرد عمر سكان المملكة واجبرهم الى الرحيل الى بادية الشام والعراق . صحيح ان العرب البدو الذين سكنوا في بقية الارجاء الواسعة بعيدا عن الاماكن الحضرية مثل مكة والمدينة الواقعة في الجزء الشمالي هم الذين قصدهم القران بالوصف الشائع الذي يقال عنهم بإن الاعراب اشد كفرا ونفاقا وذلك لبعدهم عن الدين الذي جاء يهدي نفس هؤلاء البدو الاعراب ويعلمهم الحكمة والموعظة, كما يقول القران , لكننا اذا القينا نظرة تاريخية على ما وقع من بعد موت محمد وعهد الفتوحات سنجد حينها ان قرارات الخليفة عمر والحديث الذي ينسب عليه موضوعية واكثرا قبولا من الناحية الاكاديمية العلمية وهو قوله ان لولا البدو الاعراب لما كان الاسلام قد انتشر وعم ارجاء واسعة من المعمورة في زمن وجيز, سيكون هذا تحصيل حاصل بالطبع اذا نظرنا الى رسالة محمد بعين الفاحص المؤرخ كيف بدات دينا ثم دولة ذات باس وشدة وانتهت بانتاج حضارة هي الحضارة العربية الاسلامية, كما سيكون تحصيل حاصل ان نقول اليوم بانه لولا كنور الطاقة السائلة التي تتلاطم امواجها في باطن جزيرة العرب بقدر كبير عن ما هو الحال في بقية ارجاء المعمورة لما كان البنزين والجازولين والعظور والمستحضرات البترولية الاخرى ولا يحزنون.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

شكرا يا اسماعيل على التعقيب ولسوف أنظر في ما قلت حين أحول هذه المقالات إلى كتاب. حينها يصبح لدي متسع من الحيز لتغطية الفجوات. ولا أزعم أن ما كتبته خال من الفجوات، ففيه فجوات كثيرة.ومع ذلك، فإن ما يهمني تثبيته هو أن الأعراب الذي وفدوا إلى السودان لم يفدوا من مراكز الحضارة العربية الإسلامية، وإنما كانوا رعاة وفدوا سعيا وراء المراعي الأوسع والأكثر عشبا، وماء، وهذا ثابت. فهم حين وفدوا لم يكونوا إضافة لحضارة وادي النيل الكوشية النوبية العتيدة، التي عرفت الدولة منذ آلاف السنين، وسكنت أبنية الححر ونحتت ورسمت النقوش الملونة على الجدران، ومارست التقاليد الزراعية المنتظمة الراسخة. لقد كان وفود الأعراب عبئا على التراث الحضاري الكوشي. فهم الذين جروا التقاليد الحضارية النوبية إلى الوراء، ولا يزالون يجرونها، منذ أن سلبوا ملك النوبة وخربوا تقاليد الدولة لديهم وسطحوا ارثها الحضاري، وارتدوا بوادي النيل إلى القبلية وقيمها، في شك السلاح والسلب والنهب والعمل باستمرار ضد اي سلطة مركزية. فلقد ظل الابتعاد عن ارث الدولة لدى النوبة يزداد منذ اسقاط الأعراب لدولة المقرة في القرن الرابع عشر، ومملكة علوة بتخريب عاصمتها سوبا في القرن السادس عشر، إلى يومنا هذا. وسلب الأعراب لملك النوبة حقيقية تاريخية ثابتة. تجده عند يوسف فضل، وعند وليام آدمز، وعند سبولدينق، وعند ماكمايكل، وغيرهم، بالاضافة إلى ابن خلدون.

نعم هناك ممالك عربية كملك كندة وملك الغساسنة، ولكنها ممالك صغيرة، هي أقرب إلى ملك القبيلة. ولهذا النوع من الممالك ما يشبهه في السودان؛ مثال، ملك الشايقية وملك الجعليين، ومملكة تقلي. ولقد أشرت في هذه المقالات أن ملك الجعليين انقسم إلى ملكين أحدهما للسعداب بغرب النيل في المتمة، والآخر للنمراب بشندي. وشندى العاصمة الكبرى للجعليين لم يتجاوز سكانها حتى القرن التاسع عشر ستة آلاف نسمة. ويمكننا أن نقيس على هذا أن المملكة كلها كانت لا تضم سوى عشرات الآلاف من السكان. فهذه ممالك لقبائل، أو لعشائر من قبلئل اتسمت بكونها محاربة، وليست من نوع الممالك التي خلفت أثرا حضاريا. وحتى اسم مملكة لا يطلق عليها إلا تجوزا. فالممالك الحقيقية هي ما قامت على ضفاف الأنهار كما هو معروف، في وادي الرافدين، ووادي النيل، في مصر والسودان، ووادي السند وغيرها من الأنهر الكبيرة التي شهدت ميلاد كبريات الحضارات الانسانية. فالقضاء على الدول النوبية هو ما ولد ما نطلق عليه بصعوبة شديدة اسم ممالك، كملك الشايقية وملك الميرفاب، وملك الجعليين، وملك العبدلاب. ولو نظرت إلى هذه الممالك من الناحية الجغرافية فهي لا تشغل أكثر من خمسمائة كيلومتر، بمعدل مائة كيلومتر طولية لكل مملكة. أما من حيث العرض، فهو عرض السهل الفيضي لوادي النيل الذي لا يتجاوز على الضفتين بضع كيلومترات. فذا قلت إن وادي النيل، في السودان، من منحناه إلى الخرطوم لم تكن فيه في القرن التاسع عشر ممالك تستحق الاسم، فهل أكون مخطئا؟

نعم فتح الإسلام البلدان بالأعراب، وما كان له أن يحقق كل هذه الانجازات بغيرهم. غير أن الأعراب، بطبيعتهم البدوية، اجتذبتهم الحرب والغنائم بأكثر مما اجتذبتهم العقيدة. ففي حياة النبي جاء عنهم في القرآن : "قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" وبعد موت النبي ارتدوا، فأكرهتهم الدولة الناشئة بما فيها من مؤمنين حقيقيين على العودة، وفتحت بهم البلدان، فخرجوا ورأوا الحضارة وذاقوا حلاوة الغنائم فاندمجوا في البنية الجديدة، وصار بعضهم من ساكني الحضر، وتمددوا حتى وصلوا الهند والسند شرقا والاندلس غربا، وجاءوا إلى السودان بقيادة بن أبي سرح وحاربهم النوبة وقاوموهم بشدة، فكانت اتفاقية البقط، التي هي اتفاقية غنائم بالتراضي بين الطرفين. ولما ضعف ملك النوبة اجتاح مملكتهم عرب جهينة وربيعة وأحاطو بوادي النيل شرقا وغربا، وأخذوا يناوشون ممالكه المتراجعة حتى قوضوها، وأحالوا البلاد كلها إلى بادية مفتوحة للسلب والنهب.

تفضلت وقلت أن ما أورده بن خلدون غير صحيح، ولكنك لم تقل لماذا هو غير صحيح.
رأي بن خلدون في أن العرب ليسوا أهل حضارة، وليسوا أهل صناعة صحيح تماما. وهو ليس صحيحا في وقت بن خلدون وحسب، وإنما هو صحيح حتى يومنا هذا. في كل دول الخليج وفي السعودية لا يوجد من يشتغلون بالحرف. ليس هناك حداد، ولا نجار، ولا سباك، ولا براد، ولا بناء، ولا ميكانيكي خليجي. ولو وُجد فهو نادر جدا، وربما تجده فقط في البحرين مثلا، وإلى حد ما في سلطنة عمان، أما اليمن والعراق وسائر بلاد الشام ومصر فوضعها مختلف، لأن لها تاريخيا حضاريا طويلا، ولا حضارة بلا صناعة. وقد شهد السودان صناعة متقدمة جدا في صهر الحديد في مملكة مروي، حتى سميت مروي "بيرمنغهام إفريقيا". فأين ذهبت هذه الصناعة الرائدة في العصور اللاحقة؟ في تقديري أن هذا مما قضت عليه الهجمة الرعوية الضخمة التي أنهت حضارة النوبي وغيبت الإرث الكوشي العظيم في وعينا، وجعلتنا ننظر إلى اهراماتنا وكأنها من فعائل جن سليمان.

عموما شكرا على الملاحظات فقد منحتني نقاطا أناقشها في الكتاب بشيء من التوسع.
مع التقدير
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشريح العقل الرعوي
(9)


كنت قد بدأت في الحلقة الماضية تقديم بعض الأمثلة من حياتنا، التي تعكس سيطرة بنية العقل الرعوي على مسلكنا. وسأمضي في هذه الحلقة لتقديم المزيد منها. والغرض من الأمثلة هو تسليط الضوء على بعض العلل المُقْعِدة، على مستوى المسلك الشخصي، التي، حين يجري تجميعها، يتكون منها نمط عام. وتصبح لهذا النمط العام تأثيراته السلبية على مختلف أوجه حياتنا. وحين تتحكم علل الثقافة الرعوية التي تعمل بطبيعتها في وجهة التحلل من الالتزامات تجاه الدولة، ومن الالتزام بقواعد المؤسسية، يصبح بناء الدولة، والاحتفاظ بفعاليتها، واستقامتها، أمورًا متعثرةً، إن لم نقل مستحيلة.

فطن حكامنا الديكتاتوريون، ومن يعملون تحت إمرتهم، أننا نحصر فكرة التغيير، في تبديل الحكومات، فأخذوا يغيرون الوزراء، وغيرهم من المسؤولين، متى ما أحسوا بدنو انفجارٍ شعبي. ففي عهد الرئيس السابق جعفر نميري، وفي عهد الرئيس الحالي عمر البشير، جرى تغيير الوزراء، وغيرهم من الدستوريين، ومن القيادات السياسية، مرات كثيرة. وليراجع منا من يشاء، عدد المرات التي غيَّر فيها نميري والبشير الوزراء، ورؤساء البرلمان، والقيادات السياسية، وبقيت الأمور على ما هي عليه.

إهمال علل ثقافة الشعب، والتركيز على علل الحكومة، نهجٌ مضلل، لا ينتج منه سوى الاستمرار في الأزمة، وإعادة انتاجها، مراتٍ، ومراتٍ، في مسارٍ دائريٍّ، يلف حول نفسه. وبطبيعة الحال، لا تفعل الحكومات الفاسدة سوى نشر الفساد، ولو تُركت مكانها، تفاقم الفساد واستشرى. ولا أحب أن يُفهم أنني أقول إن علينا أن نترك الحكومة الحالية وحالها، وننصرف لمعالجة العلل الكلية، فما أعنيه هو العمل على الجبهتين، في آن معًا. فالعمل على تتغير الحكومة طرفٌ واحدٌ في معادلة التغيير. فغض الطرف عن عيوب الجماهير، يلغي، وبالضرورة، مكوِّنًا رئيسًا في معادلة التغيير. فهناك سياقاتٌ ومنعطفات تاريخية بعينها، لا يؤتي فيها التغيير أُكله، إلا إذ رُوعي وزن طرفي هذه المعادلة.

من تلك السياقات والمنعطفات، التي تقتضي النظر في الجهتين، ما نمر به حاليًا، في السودان. ففي الوضع المعقد المستفحل القائم الآن في السودان، ينبغي، منذ البداية، اصطحابٌ طرف قصور الحكومة، من جهة، وطرف قصور ثقافة الجمهور، من الجهة الأخرى. وبطبيعة الحال، هناك يرون أن الوصول السلطة، ضروري لامتلاك الأداة التي تغير وعي الجماهير، وتعدل مسلكها. ولكن، أليس هذا هو ما فعلته الانقاذ؟ فأين وصلت به؟ فلا الشعب تغيّر في الوجهة التي تريد، ولا النخب التي سطت بها على الحكم بليل استطاعت أن تعض على جمر الاستقامة، ففشا الفساد في البر والبحر، وانقسم القطر، وانهار الاقتصاد، وعم خراب مادي ومعنوي، لا مثيل له.

ما ظلت تهدف إليه هذه المقالات، هو محاولة ربط إشكالات حياتنا الراهنة بجذورها، في التواريخ التي وفدت منها، حتى تُفهم على نحوٍ أفضل، ويجري التصدي لها وفق فهمٍ عميقٍ لمسبباتها، حتى لا يضيع الوقت في جهود التغيير القاصرة، التي تعيد إنتاج الأزمة، وتجعل الأوضاع الجديدة أسوأ من سابقتها. وكما سلفت الإشارة، مراتٍ عديدةً في هذه المقالات، فإن هدم بنية الدولة الحديثة الناشئة، في السودان، بدأ مع خروج البريطانيين. فكل تجارب الحكم الوطنية، التي وقفت وراءها بنية العقل الرعوي الدخيلة، ابتداء بسلطنة الفونج، ومرورًا بالحكم المهدوي، وانتهاء بأنظمة الحكم لفترة ما بعد الاستقلال، لا تحكي عن بناء للدولة، بقدر ما تحكي عن صراعٍ مرير معها، ظل يستهدف بنيتها. وهو استهداف جرى من الحكام، ومن المحكومين، سواء، بسواء، لأن العقلية لدى الحاكم والمحكوم، هي نفسها.

سوف أواصل، فيما يلي من فقرات، كما فعلت في الحلقة الماضية، في تقديم بعض النماذج التي تبين كيف الثقافة الرعوية، لدى الأفراد، ضد العمل المؤسسي، أي؛ ضد الدولة، وضد المصلحة العامة. فعمل النخب الحاكمة في هدم الدولة، معروف لدينا، وها هي نتائجه ماثلة في واقعنا المعاش. لكن هناك خراب يصنعه الجمهور المحكوم، وهو لا يملك ألا أن يصنعه، بحكم ثقافته. يتساءل خلدون النقيب: لماذا لا تقوم دولة المؤسسات عندنا؟ ويجيب بأن هناك موانع موضوعية، ولكن هناك موانع ذاتية لا تُحظى باهتمام المراقبين والمحللين للأوضاع العربية. ومن هذه الموانع بعض السمات المشتركة للشخصية الوطنية، وهي الصفات السلبية التي تتشابه وتشيع في السكان بدرجة كبيرة، بحيث تمنع القبول بتقديم مصلحة المؤسسة، أو المصلحة العامة، على مصلحة الأفراد.(راجع: خلدون حسن النقيب، آراء في فقه التخلف، (ط2)، دار الساقي، لندن، 2008، ص 64).

من يرى أحوال السودان الآن، بعينٍ مبصرة، لابد أن يحتار في الكيفية التي يمكن أن تعاد بها الأمور فيه، إلى نصابها، بعد كل هذا الخراب المروِّع، الذي طال كل شيء. فهذه الفوضى، وهذه الجلافة المتزايدة، وهذا القبح، والكلاح، الذي يكسو وجه مدننا وقرانا، وهذه الغوغائية التي تطالعنا، أنّى اتجهنا، وهذا الاتساخ المتزايد، ليست كلها من صنع الحكومات. فبقدر ما لدى من تولوا أمورنا، من قابليةٍ لكي يصبحوا فاسدين، ومفسدين، ومخربين، فنحن، أيضًا، كذلك. دعونا، على سبيل المثال، نتأمل اللامبالاة، بل، و"القطامة"، التي يتعامل بها كثيرٌ من الموظفين، الذين، يجلسون وراء النوافذ التي تقدم الخدمات الحكومية، مع الجمهور. دعونا نتأمل نظرات الاستعلاء، والازدراء، التي ينظرون بها إلى طالبي المعاملات، ولامبالاتهم بمعاناتهم، وقلة حساسيتهم تجاههم، بل وكلفهم العجيب بتعذيبهم. هذا إن غضضنا الطرف عن قلة الكياسة، والجبين المقطب بلا سبب، وتعذُّر القدرة على الابتسام، وعلى الترحيب بصاحب المعاملة، وطمأنته أن أموره مقضية، وحقوقه محفوظة ومصانة، وكرامته موفورة.

يعمد كثيرٌ من الجالسين خلف هذه النوافذ إلى تمريغ كرامة طالبي المعاملات. ويبدو أنهم يجدون في هذا الصلف الأجوف، والغفلة عن جانب الله، وجانب الحق، مدعاةً للانتشاء، ولإرضاء الغرور الزائف، وربما، لملءِ فجواتِ مركباتِ النقص في نفوسهم، ونفخ مزيدٍ من الهواء في قربة "الإيقو الشخصي، المنتفخة أصلا. وربما هذا كله "تكنيك" للاسترزاق من الوظيفة العامة. فقد نشأت لدينا، مؤخرًا، ظاهرة ميسِّري، أو مُسهِّلي المعاملات، الذين يتولون عن الناس انجاز معاملاتهم. ويبدو أن هذه الظاهرة التي لا يعترض عليها أحد، تخفي وراءها خيط خفي يربط هؤلاء المُيسِّرين بالموظفين. ولربما يكون هذا هو السبب وراء تصعيب المعاملات، وقلة الحساسية تجاه طالبي الخدمات، وتعريضهم للوقوف الطويل، وللانتظار الممل والمرهق، ولمطوّلات "تعال بكرة"، و"الشبكة طاشة"، و"ورقك عند فلان، وفلان غائب". في هذا المثلث الشيطاني يصبح الموظف، والمُيسَّر، والمواطن، طالب الخدمة، جميعهم، أدواتٍ لهدم بنية الدولة، وتحويلها إلى مسخرة.

من ناحية أخرى، يتصرف صغار الموظفين مثلما يتصرف المستبدون الكبار. فهم يستنكرون أسئلة الجمهور، ويضيقون، أشد الضيق، بأي تعبير عن عدم الرضا، بل، ويعتبرون ذلك هجومًا شخصيًا، وليس مجرد أبداء لملاحظاتٍ موضوعية، حول طريقة أداء عمل عام. فبمجرد أن تستفسر الموظف، عن خدمة طال انتظارها، أو تبدي ملاحظة ناقدة لطريقة العمل، أو تعلق على التأخير، يجيئك رد الفعل الهجومي، الغاضب، المباغت، على هذا النحو: "انت عاوز توريني عملي يعني"؟ وربما تتبعها: "تعال بالله أقعد محلي". وهكذا يتحول الأمر من مجرد استفسار، أو ملاحظة حول اجراءات مكتبية، ينبغي أن تحكمها قواعد إجرائية، ومدى زمني، وغير ذلك مما يضبط سلوك الموظف العام تجاه الجمهور، إلى مواجهة شخصية.

هذا "الإيقو"، وهذه الأنا المتضخمة، لم تهبط علينا من السماء، وإنما هي متجذرة في بنية هذا العقل الرعوي، التي نحن بصددها. فالعقل الرعوي لا يستطيع أن ينظر إلى الأمور، ولا يستطيع معالجتها، من زاوية موضوعية. ولذلك، فإن من يتجرأ من الجمهور، فيبدي ملاحظة ناقدة، مهما كانت موضوعيتها، ومهما كان اعتدال اللغة التي قيلت بها، أو الأدب الذي قيلت به، يعرض نفسه لردة فعل ثأرية من جانب الموظف، تتمثل في الرد العنيف، وربما يصل الرد الثأري حدَّ تعمُّد تعطيل معاملة من أبدى الملاحظة. وهكذا يتخلق جو من الارهاب مانع للنقد. ولو قارنا هذا الوضع بما يجري في الدول المتقدمة، تتبينت لنا علل العقل الرعوي. ففي الدول المتقدمة يرحبون ترحيبًا حارًا بالملاحظات، وبالنقد، ويشجعونه لأنهم يعرفون أن النقص من طبيعة كل عام، وأن رأي الجمهور مهم، لأنه هو الزبون. أما نحن، لكوننا نعيش في مناخات الاستبداد، فإن إبداء أي ملاحظة يُعد من الكبائر. فالاستبداد ليس حصرًا على من يجلسون في أجهزة الدولة العليا، وإنما هو موجود في ثقافة الأفراد، مهما تدني وضعهم في هرم السلطة. فهناك أنفة، وصلف، وتعال، ونزوع للاستبداد لإرضاء غرور زائف، ملأتنا به تربية خاطئة، لم تعمل سوى لتثبيت العقد النفسية، وترسيخها. كما أن هناك كلفًا بنهب المال العام، بأي سبيل ممكن. هذه الأمور، وكثير غيرها، هي الرعوية التي أعني، وهي، هي التي ما جاء الإسلام، إلا لكي يستأصلها من جذورها، ويلقي بشجرتها الخبيثة، في النار. جاء الاسلام ليقضي على قيم القبيلة، ويقيم مكانها قيم الحق والعدل.

لحظة أن يتسنم الموظف الصغير، لدينا، وظيفته، ولحظة أن يحس بأنه قادرٌ على أن يُعطي، أو يمنع، يتصرف مع الناس من منصة امتلاك السلطة المطلقة. يتصرف الموظف بهذه الروح العدوانية النزاعة إلى التجاوز، حتى لو كان من يقف أمامه شيخٌ في عمر أبيه، وله من التجربة والخبرة، والتعليم، والحكمة، ما لا يحلم به هذا الموظف الصغير حتى لو أُعطي خمسة أضعاف عمره الذي هو عليه. هذا المسلك الرعوي المتسم بالجفاء وبالعدوانية الذي يطبع تصرفات كثير من الموظفين العموميين، يجعل طالب الخدمة يشعر بأنه متسول، وأن الموظف يتفضل بها عليه تفضلا، مع أنه صاحب حق، بل هو من يدفع لهذا الموظف راتبه.

أتوقع أن يتصدى لي البعض قائلين، إن في ما أقول تعميمًا، وربما تعديًا بغير حق على قطاع عريض برئ من هذه الأدواء، وأن خدمة الزبون لدينا بخير، وأن هناك أقلية، قليلة، تقوم بمثل هذه الممارسات، ولا يصح أن نطلق بناءً عليها حكمًا عامًا. وتلك شنشنة قديمة من أخزم، نعرفها. فقد عملنا في حكومة السودان ووقفنا مئات المرات أمام الموظفين العموميين، ورأينا كيف بدأت هذه الظاهرة، منذ الستينات، وكيف تفاقمت، لتصل في عهد الانقاذ الحالي إلى ما وصلت إليه.

رأينا في المطار، كيف يأتي فرد من القوات النظامية يحمل "دقشة" من الجوازات، أو من أوراق المعاملات، فيتخطى الواقفين في الصف، ويصل إلى الموظف المسؤول، وينجز معاملة الأسرة التي تخصه، أو الأصدقاء والمعارف. وكم شاهدنا معاملاتٍ يتم ادخالها من طرق جانبية، تتسبب في تعطيل من يقفون في الصف. فهناك نافذة للجمهور، وهناك "نفاج" خلفي "لأولاد المصارين البيض". هذا وباءٌ عام لا قيام لدولة معه، وهو لا يمثل سوى طرف من أزمة عامة بالغة الضخامة، بالغة التعقيد. فكل شخص منا يعتقد أنه ذا خصوصية، وأنه أهم من غيره، ولا ينبغي، من ثم، أن تسير أموره في ذات المسار الذي تسير فيه أمور عامة الناس. بل إن الخرق لقواعد المؤسسية، يصبح لدينا مدعاة للتباهي. وما أكثر ما سمعت من يقولون، وهم يثنون على شخص بعينه: "الزول ده نجيض بعرف يقضّى أمورو"؛ أي أنه يعرف الطرق الخلفية و"النفاجات"، التي ينجز من خلاله معاملاته.

يعود الإحساس بالعظمة، لدى أكثريتنا، إلى قيم القبيلة التي سبق أن تربَّى عليها أسلافنا، حين كانوا رعاة. فالبيئة الرعوية تشحن أبناءها بالشعور بالعظمة وبالأهمية، وبالاستحقاق المطلق، والأفضلية على الغير. وهذا واضح في أشعارنا الشعبية، التي تنضح بالفخر، بالأصل والفصل، وبالرفعة والعلو على الآخرين. ولقد ارتبطت تلك التربية بالطبيعة الحربية للقبيلة، المهمومة، أساسًا، بالدفاع عن ممتلكاتها وعرضها. ومثل هذا النوع من الشحن المعنوي الذي كانت تمارسه القبيلة في ما مضى، تمارسه اليوم الجيوش مع جنودها، في كل بلدان الدنيا، وهو مفهوم ومقبول في سياقه. وكذلك أخلاق الرعاة وقيمهم، فهي الأخرى مفهومة ومحترمة في سياقها التاريخي. كل ما في الأمر، أنها تصبح مشكلة حقيقية، حين تتسرب إلى داخل بنية الدولة الحديثة، وتحكم فبضتها عليها.

أيضًا، من الأمثلة الصارخة للشعور بالأهمية، ظاهرة تجاوز قائد المركبة، لمن يقفون أمامه في الطريق، بخلق مسار جانبي، يصل به إلى الإشارة الضوئية، فيعبرها قبل من سبقوه. ولا شك، أن من يسلك مثل هذا المسلك، شخصٌ ممتلئٌ بالشعور بالعظمة، وبأنه أهم من الآخرين، وأن وقته أغلى من وقتهم. وكل ما ذكرته هنا ليس سوى نذر يسير من سيطرة القيم الرعوية على مجريات حياتنا. وهي قيم تناقض أساسيات الحياة المدينية، وأساسيات التحضر، وضوابط المؤسسية، وكل النظم واللوائح والقوانين، التي تنسق علائق الناس، وتحفظ حقوقهم وكرامتهم. فالمدنية تعني النظام ومعرفة الحدود وحفظ حقوق الجميع، على قدم المساواة.

سبق أن أشرت في المقالات السابقة، إلى كيف تطوع القبيلة الفرد، وتجعله مجرد ترسٍ في ماكينتها، لكونها قائمة على الجماعية، وعلى الانصياع التام للمنظومة. ولذلك، فإن الفردية واستقلالية الرأي، ممقوتة لديها، أشد المقت، لكونها تهدد الطريقة التي تحمي بها أمنها. فمخالفة الجماعة، في القبيلة، جريرةٌ كبيرةٌ، تعرض صاحبها للتقريع واللوم والاستهجان، وربما أدت إلى عزله عن المجموعة. وحين تنتقل القيم الرعوية إلى داخل بنية الدولة الحديثة، يتحول المجتمع إلى حابسٍ لطاقات الأفراد، ماحقًا لملكاتهم، ومواهبهم. فالقبيلة تريد من فردها أن يكون محاربًا، مطيعًا، كما في الجيش. هذا في حين تحتاج الدولة الحديثة، العقول الحرة الخلاقة، والملكات الإبداعية. فكل الاختراقات الكبيرة في التاريخ، التي أسهمت في رفعة كثير من الأمم، قام بها من كانوا يفكرون خارج الصندوق. فالإبداع، كما هو معلوم، شأنٌ فردي. وكلما كبرت مساحات الفردية، وكلما كان الوسط العام، والرأي العام يسمحان بحرية التفكير، وحرية النقد، وحرية التجريب، كلما تفجرت طاقات الأفراد، وكلما كانت فرص المجتمع في التطور أكبر. فإبداعات الأفراد هي التي تفتح الطريق للجماعات لترتقي. والعكس بالعكس؛ فكلما كانت المجتمعات خانقة، ومقيِّدة، ونمطية، وعابدة للسائد، ولا تعرف غير الطرق المطروقة، ومتحفزة، على الدوام، للدفاع عن ما هو قائم، رغم عقمه، كلما جمدت، وتوقف فيها الزمان، فتآكلت، بمرور الزمن، واهترأت.

دعونا نتأمل كيف كانت أمهاتنا وجداتنا منشغلات بـ: "فلانة ما جات عزتني في موت فلان، أو فلانة". وكيف أن سيف اللوم المجتمعي، المسلط على الرقاب، قد جعل الجميع مصابين بـ "رهاب اللوم"، وخشية المقاطعة، والعزل، وردود الفعل الثأرية، وتشويه السمعة. فميزان القيم ظل يتحول من الفضائل الرفيعة والمعاني، وأضحى عالقًا بالشكليات، والمجاملات الاجتماعية. غابت الأساسيات، وارتبك وضع الأولويات، وضاعت قيمة ما يقدمه الفرد من خدمات علمية، أو عملية لمجتمعه. أصبحت الطقوس والشعائر الاجتماعية هي كل شيء في حياتنا، في حين أن حياتنا نفسها تنفلت من بين أصابعنا كل يوم، وتهبط من حضيض إلى حضيض أدنى من سابقه.

ننشغل بالمجاملات الاجتماعية، ونضيع فيها من الوقت أكثر مما ننفق في البحث العلمي، وفي الانجازات العملية، التي ترتفع بحياتنا، أو على الأقل، تحول بينها وبين التردي الذي يزداد إمساكه بخناقها كل صبح جديد. يتحمس الفرد منا للمناسبات الاجتماعية، ويحرص عليها أشد الحرص، لكنه لا يحرص على نظافة الشارع أمام منزله، أو نظافة الحي، أو حتى الامتناع عن إلقاء المخلفات والأوساخ كيفما اتفق! أيضًا، نلتزم بالوقت لحضور "الدافنة"، ولكنا لا نلتزم به في أي أمر آخر! لكن، لا غرابة، فالقيمة والسمعة الحسنة، جرى ربطها بأداء هذه الطقوس المجردة. في حين جرى نزع القيمة عن الأعمال الحقيقية المؤثرة على حياتنا، التي يمكن أن تدفع بها نحو الأفضل. والسر وراء هذا كله هو عقل القبيلة الذي يريد أن يضع الفرد في الدور المحدد سلفًا، الذي يريده له. فكل شيء ينتهي في عز القبيلة، أو العشيرة، أو الأسرة الممتدة، الذي هو قيمة مجردة متوهمة. فمن لم يأت لحضور دفن قريبي، أو عقد قرانه، لم يكرمني ولم يهتم بإعزازي، ومهما كان عذره، فهو لا يستحق اكرامي واعزازي. فالأمور كلها ملفوفة في "الإيقو". هذا التطويع للفرد، ومحق ذاتيته، ومصادرة فرديته، أت من ماضي القبيلة، حيث ينبغي أن يسير الفرد على العجين دون أن "يلخبطو". وتمثل هذه الظاهرة تمددًا في الحاضر، أقلُّ غلظةً، للأزمنة التي كان يُضحى فيها بالفرد في معابد الجماعة.

لقد وصلت لدينا، الممارسات المدمرة لبنية الدولة، ولتقاليد العمل البيروقراطي، بمرور الزمن، درجة أصبحنا معها نخلي المكاتب، وسائر أماكن العمل، لحضور دفن جنازة، أو عيادة مريض في المستشفى، بل والسفر المتكرر إلى جهات بعيدة لتأدية هذا النوع من الواجبات الاجتماعية. وكل الهدف هو أن نبقى بمنأى من دائرة اللوم المدمرة للسمعة. وما أكثر ما سمعت الأهل والأصدقاء يشكون لطوب الأرض، من هذا العناء شبه اليومي الذي صادر حيوات الجميع، وسحب أنشطة الأفراد من العمل المفيد إلى مجال التجريدات الطقوسية الشعائرية. لكن لا أحد يجرؤ ليقول "البغلة في الابريق". فمن يجرؤ، تنهال عليه السهام من كل حدب وصوب. ولا أحب أن أُفهم خطأ هنا، فصلة الرحم، وصلة الأصدقاء والمعارف، كلها قيم نبيلة، دون شك، ولكنها يمكن تنظيمها، كما يمكن وضعها في موضعها الذي لا يمنحها الأولوية المطلقة، على كل ما عداها.

أما ما طرأ على عاداتنا في الأفراح من تباهٍ بالثراء، ومن غلو في التباهي بالوجاهة الاجتماعية، ومن "فشر" مقرف، حتى لدى ولاة الأمر، فطبيعته الموغلة في الرعوية، فلا تحتاج مني إلى دليل. وما من شك أن سفه المناسبات الاجتماعية وسط الكبار، ليس سوى طفحٌ فاض من مستنقع الفساد، ومن تراجع الفضائل، واستشراء الضحالة، واختلاط حابل الفضائل بنابل الرذائل. ودعونا نضع كل هذه الأمثلة البسيطة التي ذكرتها في كفة، ونضع قيم الإسلام التي نعرفها، ولا نعمل بها، في كفة أخرى، ولننظر: هل ما نفعله في كل هذه المناحي ذو صلة بالدين، أم هو مجرد جاهلية رعاة؟ يقول رافائيل باتاي، إن المشترك بين قيم الفرد العربي وتعاليم القرآن، قليلٌ جدا، فقيمه تبدو أكثر صلة بقيم ما قبل الاسلام. (Rafael Patai, The Arab Mind, Charles Scripners, NY, 1983, p. 97).
(يتواصل في الحلقة الأخيرة)

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ÅÓãÇÚíá Øå
مشاركات: 453
اشترك في: السبت سبتمبر 10, 2005 7:13 am

مشاركة بواسطة ÅÓãÇÚíá Øå »

سلام الاستاذ النور
الملاحظة الثانية هو ان الاتهام الجماعي لفئة او مجموعة معينة ايا كانت هذه المجموعة من البشر بانهم السبب في الخراب الذي حاق بالسودان منذ ان وفدوا من جزيرة العرب وتجريمهم هكذا برمي الكلام على عوانه امر غير مقبول لا على المستوي الاثني ولا على المستوى السوسيولجي ويجاف العلمية وافضل ان اقول هذا عوض ان اقول بانه منطق متخلف. ساعود ببقية الملاحظات واسباب الاختلاف مع بن خلدون لاحقا .
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


تعقيب للدكتورعبد الله علي إبراهيم
جرى نشره بالراكوبة اليوم وهو متسلسل وهذه هي حلقته الأولى
(1)
واصل الدكتور نور حمد نشر مقالات مسلسله الذي يُشَرِّح فيه "العقل الرعوي" حتى بلغت تسعاً في آخر إحصاء. ومن رأي النور أن هذا العقل هو الذي من وراء خيباتنا الحضارية في الماضي والحاضر. بل هو من وراء خيبات غيرنا مثل الردة النازية في المانيا في الثلاثينات وفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية. واهتممت بما يكتب النور لأنه قلم حاذق توسع في ضرر العقل الرعوي في حين اختزل من سبقوه هذا الضرر في عبارة موجزة عابرة غير متأنية. وتوافرتُ منذ سنوات على كتابات نقدت فيها من نسبوا بؤس حالنا لهذا العقل. وقلت لو صحة نسبة بشاتن حالنا لعقل ما لكان هو "عقل البرجوازية الصغيرة". ولذا بادرت، وحلقات النور هذه في مبتدئها، بمطاعن في منهجه لا أعتقد أنه استوفاها حقها من النقاش في رده عليّ. وعليه رأيت العودة إلى هذه المطاعن المنهجية والحلقات ما تزال تترى. وسأخصص هذه الحلقة وما بعدها لهذه المطاعن المنهجية ثم اتوافر في حلقة أخرى على مآخذ موضوعية انتخبتها من شغل النور الفكري حول العقل الرعوي.

لعل حوار مثل النور عسير لأنه يتهمك بما أنت منه شاك. فلما سألناه تعريف مصطلح "العقل الرعوي"، وهي العاهة السياسة الثقافية التي خرج لتشريح عوارها، شخّص حالتنا كمصابين بنفس العاهة. فقال: "الذين يضرسهم "العقل الرعوي" ربما احتاجوا أن يتريثوا فلا يندفعوا إلى الدفاع بحمية القبيلة. فهذا النوع من الاندفاع يمثل واحدة من تجليات العقل الرعوي، المتحفز، الذي لا يفكر صاحبه مرتين قبل أن يخف إلى سلاحه ليشهره في وجه الآخر". ولم تكن لنا من قبيلة من وراء الحمية التي نسبها للعقل الرعوي فينا سوى قبيلة الأكاديميين الذين تحرير المصطلح الأصل في شغلهم.

ومهما يكن فقد شفانا النور من دائنا بتعريفه لمصطلحه في ما بدا لي مكرهاً لا بطلاً. فهو مصر على أن الذي ينبغي لنا التركيز عليه هو الظاهرة وتجلياتها لا مصطلحها. قال "فإن اتفقنا على وجود الظاهرة، وضرورة البحث فيها، لا يهم أي مصطلح نطلقه عليها". وسنتجاوز عن هذا الإلحاد الأكاديمي وننوه بأنه التفت مع ذلك إلى بيان مفهومه للعقل الرعوي وعرَّفه للراغب. فقال إن "العقل الرعوي منظومة قيمية ارتبطت بنشاط اقتصادي بعينه، وأسلوب حياة بعينها". وبعبارة في قوله أخرى فهو منظومة قيمية شكلتها ظروف تاريخية. وهي ظروف لم تسمح لها بأن تتشكل على غير تلك الصورة.

وتعريف النور الوارد للعقل الرعوي من دارج الماركسية. وماركسيته الدراجة تمثلت في جعله البناء التحتي، النشاط الاقتصادي، حاكماً على المعارف (المنظومة القيمية). ويعود بنا هذا التعريف الماركسي الدراج إلى كلمة سلفت للنور نسب فيها عدم استساغتي لمفهومه ل" العقل الرعوي" إلى بقاء أقدامي "منغرسةً، إلى الآن، في تربة التحليل الماركسي للظواهر". ويضيف "أن التحليل الماركسي الاقتصادي للظواهر رغم أهميته التاريخية، لم يعد صالحًا تماما. فقد انقصم عظم ظهره منذ وقت طويل. فمقولة الوعي التابع للمادة، ومقولة إن منظومة علاقات الانتاج هي التي تصنع القيم، وأن البنى الفوقية تتولد، بالضرورة، من البنى التحتية، في قوله، مقولات سقطت جلُّ دعاماتها الإيديولوجية. وأعني هنا، أنها لم تسقط على الصعيد النظري، وحسب، وإنما سقطت على صعيد التجربة الفعلية في التطبيق الاشتراكي في الدول الشيوعية. " وظهرت فيها الرعوية بتغلب العنصرية والعقيدة الدينية على مثاليات الاشتراكية. وليس من أدب الخصومة التعريض بعقيدة المحاور وتصويرها كعاهة أو تعويق لا شفاء للمرء منه علماً بأن النور لم يأت في علاقة الفكر بالواقع المادي بغير الصيغة الماركسية التقليدية.

ومن أوجه عسر مناقشة النور أنه لا يستقر على حال من محاكمة العقول على خيباتنا. فهي عنده كثر. فحتى عهد قريب في أوراق قدمها إلى مؤتمرات اتحاد الكتاب السودانيين كان من رأيه أن مصدر نكستنا هو العقلية الخديوية. ومن تلك مقاله "غيبة السودان الحضارية ومحنة العقل المُحتل" (مؤتمر 2013) سمى فيها تأثرنا بالفقه المدرسي العثماني المتزمت (1821-1885) "احتلالاً عقلياً" لبنية العقل السوداني. ولولا هذا الاحتلال العقلي في قوله لشق السودان طريقاً خاصاً للحداثة. ولكنه عاد لينسب خيباتنا في المقالات موضوع نظرنا إلى العقل الرعوي كما تقدم. فلم يكن بوسع السودانيين، بالنتيجة، الوقوع على تلك الحداثة الخاصة بهم لأن لخديوية، في قوله الجديد، جاءت بنظام حداثي وصفه بأنه غاشم ما لبث أن اقتلعته الهبة المهدوية الرعوية التي ما لبثت أن استحالت إلى فوضى عارمة. فبأي العقلين تصدقان؟
بالطبع من حق الكاتب تغيير وجهة نظره حول شأن ما متى تهيأت له الأسباب. ولكنه متى نقض نفسه بنفسه بقوة، بل انقلب عليها انقلابا، وجب عليه مهنياً أن يطلع زملاء الكار والقراء عامة بمكنونات هذه الانقلاب ودواعيه. فالكاتب كالرجل والمرأة رهين لسانه الأول.

ووجدت النور ضنيناً ببيان مقولاته وتقعيدها بما يوقعه تحت طائلة الاستبداد الفكري. فأكثر النور من ذكر ابن خلدون في ما كتب عن أن العرب أبعد الأمم من سياسة الملك. وقال إن "العرب" "عندي تعني "الأعراب". ومضى ليقول و"لعل" ابن حلدون عنى بالعرب "الأعراب" وليس "العرب" على إطلاق العبارة. ويضيف: "لا تشمل كلمة "أعراب كل العرب". وانتهى إلى هذا الرأي (اللعلي) عن أن عرب ابن خلدون أعرابا وكان بمكنته أن يُوسع ابن خلدون بحثاً ليقيم الحجة على مقاصده من عبارة "عرب" الطاغية في وصفه السلوك السياسي والاجتماعي لهذه الجماعة. فليس من علائم إحسان البحث المجازفة برأي بغير استيفاء حقه في التقعيد والتشقيق ليسلس للكاتب زمام الاستدلال. فكيف استدل أن ابن خلدون عنى ب"العرب" "الأعراب" ولم يستنطق نصه بما يفيد ذلك؟

ووجدت أن النور نفسه لا يميز في مواضع من مقالاته بين العرب والأعراب بحيث تنتفي ضروة التمييز بينهما التي سعى لبيانها. فقال إن قريش، التي من أهل الحضر لا الوبر، سكنت الحاضرة بعقلية القبيلة الرعوية. فهي عنده ارستقراطية من العرب استغلت سدانتها للكعبة (معبد دينها الوثني) لإثراء نفسها. وكان إسلامها بمثابة إحناء الرأس للعاصفة لتمر فيعودون لما كانوا فيه. ولنسأل النور: كيف لا تكون هذه المخاتلة من "العرب" في قريش من باب "أشد كفراً ونفاقاً" التي وصف بها القرأن الكريم الأعراب؟ وبالنتيجة تنقض هذه المماثلة بين العرب والأعراب (نفاق قريش العرب ونفاق الأعراب) التي جاءت عند النور مسعاه ليميز العرب عن الأعراب عند ابن خلدون. فقريش أعراب طالما استبطنت الكفر وهي تتشدق بالإيمان كالأعراب تماماً.

ووجدت النور من أهل "الخط المعلق" في البحث. فجاء بالآية "الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ورسوله". وحملها دلالات "جينية" يقشعر لها من يعتقد بأن الإسلام دين الفطرة. فقال إنه وجد الآية غاية في دلالة عن "بعد الأعراب عن الله، ومن نبيل القيم . . . فهم من السوء بحيث أصبح من الخير لهم ألا يعرفوا بتعاليم الإسلام . . . ليبقوا على ما هم فيه رأفة بهم". وجاء في نفس الموضع بآية القرآن الأخرى: "وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة 99). ولم يزد النور في وجه هذا التحدي المصطلحي الرباني عن قوله "وبطبيعة الحال استثنى القرآن أعراباً آخرين من هذا الهجاء". وهو استثناء توجب الوقوف عنده لولا أن النور عجول يخترق ضاحية المصطلحات كيف شاء ويترك القارئ في حيرة من أمره.
أطلت. وأعود لمآخذي على منهج النور في مقال آخر.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
أضف رد جديد