و " مدرسة الخرطوم" نسخة الشارقة..

Forum Démocratique
- Democratic Forum
ايمان شقاق
مشاركات: 1027
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 8:09 pm

سلام وتحية

مشاركة بواسطة ايمان شقاق »

سلام حسن،
أود أن اضيف رابط لبوست قديم لعله يساعد ولو بقدر يسير من المعلومات .. يمكن مراجعته هنا Ulli Beier

ورابط آخر لمقال جديد عن معرض عامر نور، ببيت السركال بالشارقة
https://imanshaggag.weebly.com/blog/amir ... ns-rhythms



تحايا وتقدير
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

" مدرسة الخرطوم" نسخة الفنأفريقانية الأوروبية

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام يا إيمان
و شكرا على الروابط و قد سعدت بمكتوبك عن عامر و يا حبذا لو باصرتي له ترجمة عربية حتى تعم الفائدة، فالناس في السودان يجهلون كل شيئ عن عامر نور.
أنا عندي بضعة أسطر عن عمله و سأبذلها هنابعد أن أخارج نفسي من نسخ مدرسة الخرطوم التي لا تنتهي.









و "مدرسة الخرطوم"، نسخة " الفنأفريقانية"الأوروبية

خيار الهجنة كموقف جمالي انطرح في افق التشكيليين السودانيين الرواد حين خرجوا من السودان و وجهوا بسؤال الهوية الإجتماعية في عالم ما بعد الحرب الثانية الذي انطلقت فيه شعوب المستعمرات في دروب التحرر الوطني و ما ترتب على ذلك من مساعي رد الإعتبار لثقافات المجتمعات التي صودرت هوياتها الثقافية تحت شروط الهيمنة الإستعمارية.. لكن التشكيليين الذين ارتادوا مبحث الهويولوجيا السودانية لم يسلموا من تأثير التربية الإستعمارية التي كونتهم ككائنات ممتثلة للمؤسسة الإستعمارية التي خلّقتهم كـ " خدم الدولة »ـ"
Civil Servants
في مجتمع حضري يستهدي بالمراجع المفهومية لحداثة رأس المال.. و معظم الفنانين التشكيليين السودانيين الرواد الذين ذهبوا لأوروبا في الخمسينيات و الستينيات كانوا مبعوثين حكوميين يقضون فترة الدراسة و التدريب في بريطانيا و تنتظرهم الوظيفة عند نهاية بعثتهم.و قد أشرت في أسطري السابقة للشروط التي صالح فيها فيها «الخرطوميون» ـ بقيادة الصلحي ـ بين المكر السياسي لموظفي الإدارة البريطانية في سودان الحكم الثنائي، المتمثل في مشروع "جان بيير غرينلو" الآفروإسلامي، و الرؤية الإثنية التحررية لـ"دنيس وليامز" ، حتى يخلصوا لطرح مكيدة الهجنة الجمالية كترياق مفهومي لمخاطر الحرب الأهلية و خطر التشظي الماثل أمام الأشتات العرقية و الثقافية التي تتقاسم الحياة داخل الإطار الإداري للسودان.و على هذا الأساس انتفعت دولة الطبقة الوسطى الحضرية في عهد نميري بالمضمون الجمالي للهجنة الآفروعروبية في تسويغ الأجندة السياسية لمشروع الوحدة الوطنية الذي يمثل كشرط ضروري لتحقيق التنمية الإجتماعية في البلاد.كل هذه العوامل تضافرت لتضمن لجمالية الهجنة الآفروعروبية بأسها السياسي الكبير الممتد من سنوات الستينيات حتى نهاية السبعينيات.و كان لمفهوم الهجنة الثقافية أن يصبح فرصة سياسية جبارة لو أمكن له أن يتجذر كمطلب شعبي و كمسلّمة سياسية في عمق الحركة الديموقراطية السودانية.لكن ورقة الهجنة السياسية لم تتجاوز حد كونها وسيلة بروباغندا زهيدة التكلفة في يد افندية الحكومة الذين انصاعوا لمشيئة الدولة المخدمة حين نكصت الدولة المتأسلمة عن خيار الهجنة و التعددية الثقافية.ـ
العقود الثلاثة الأخيرة شهدت إضمحلال صيغة " مدرسة الخرطوم" على الصعيد المحلي لكن تيارالهجنة العربية الإفريقية ،في نسخته الخرطومية، انبعث في المشهد الأوروأمريكي بفضل ظاهرة العولمة الثقافية التي خلّقت في ثناياها دينامية جمالية جديدة صارت تعرّف تحت مصطلح " الفن الإفريقي المعاصر". هذا "الفن الإفريقي المعاصر" هو غير "الفن المعاصر"الذي ينتجه الأفارقة داخل و خارج القارة.ذلك لأن الأفارقة المعاصرون أنتجوا و ينتجون فنونهم تحت شروط غياب مؤسسات الرعاية و مؤسسات التدريب و مؤسسات التقييم الأدبي التي عرفها تاريخ الفن الأوروبي.و ذلك لسبب بسيط و مركب في آن، طرفه الأول ماثل في ضيق ذات اليد الإفريقية الذي يقعد بها عن إجتراح المبادرات المكلفة ماديا، و طرفه الثاني ماثل في عمى البصيرة الثقافية الذي يحجب عن ذوي الإرادة السياسية في بلدان إفريقيا رؤية الفن كإستثمار تنموي و إجتماعي عالي المردود.و غياب المسؤولين الأفارقة عن فضاء رعاية الفن المعاصر في القارة حفز مؤسسات الرعاية الأورأمريكية على إحتلال فضاء الرعاية الفنية في إفريقيا. و هو إحتلال زهيد التكلفة ماديا لكن مردوده السياسي كبير على صعيد تجميل الحضور السياسي للقوى الأوروأمريكية وسط النخب الإفريقية.و في السودان مثلا نجد أن المشهد الثقافي بين الستينيات و الثمانينيات، و المشهد التشكيلي على وجه الخصوص، يدينان بالكثير للمراكز الثقافية الأوروأمريكية [ مكتبة المجلس البريطاني، المركز الثقافي الفرنسي و معهد جوته والمكتبة الأمريكية بالخرطوم] التي ظلت، حتى اليوم، تبذل امكاناتها المادية و دعمها الرمزي للفنانين التشكيليين اليتامى من أية رعاية وطنية خارج إطار الرعاية اآيديولوجية لأجهزة البروباغندا السياسية الفجة .هؤلاء التشكيليين يعانون من أن السلطات الثقافية المحلية لم توفر لهم أمكنة لعرض أعمالهم ناهيك عن موقف التوجّس السياسي الظاهر في تعامل الأجهزة الرسمية مع الفنانين التشكيليين السودانيين.[ للإستزادة أنظر نصي المعنون «  الشعب في المعرض » على الرابط
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... ba5129c33c

أنظر أيضا نصي"مراكز لفن الهوامش :ـ الفن السوداني في المراكز الثقافية"في الخيط المعنون" هجوم وحشي على معرض التشكيلي محمد حمزة"على الرابط
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 412a815507



خرائط أرض التنين

تحت مثل هذه الشروط البالغة الصعوبة ظل الفنانون الأفارقة في السودان و في غير السودان ، يستبسلون في سبيل إنتاج فنهم المعاصر الذي يسهم في مقاومة البؤس الجمالي المقيم بين ظهرانيهم. و من يتأمل في ثنايا هذا الفن المعاصر الحاصل من وراء ظهر مؤسسات الرعاية المحلية و الأوروأمريكية يجد وجوها كثيرة لمبدعين لا يعرفهم رعاة الفن الإفريقي الرسميين في العالم الأوروأمريكي مثلما يهمشهم الرعاة المحليون تهميشا مريعا. فمن بين مبدعي السودان نجد قلة، خارج دائرة التشكيليين السودانيين تعرف عمل عمر خيري مثلا، بينما لا أحد سمع بتاج السر أحمد أو عبد الرازق عبد الغفار أو حسن الهادي أو محمد أحمد عبد الله أو النجومي أو الشايقي أو عامر نور أو كمالا اسحق إلخ . رغم أن معظم هؤلاء الناس درس و عاش في العالم الأوروأمريكي و بعضهم عمل فيه لسنوات.و لو سألت المتعلمين السودانيين فقد تجد بينهم قلة سمعوا بالصلحي و جلهم لم يشهد له عملا[ربما قبل معرضه الإستعادي في التيت مودرن بلندن في 2013 ].و في العالم الأوروأمريكي ، حيث ظل بعض هؤلاء الفنانين مقيما لعقود، فالإعلام الفني و أجهزة الرعاية لا تعرف عنهم الكثير. لماذا؟ لأن هؤلاء الناس ظهروا و عملوا في الزاوية العمياء لحقل الرؤية الأوروبية للفن.هؤلاء الناس عملوا في " أرض التنين" التي لم يرسم خرائطها أحد قبل ظهور الفئة المفهومية الملتبسة المسماة " الفن الإفريقي المعاصر".فقبل ظهور مصنف" الفن الإفريقي المعاصر" لم تكن مؤسسات الرعاية الأوروأمريكية قادرة على رؤية الفنانين المعاصرين القادمين من إفريقيا إلا كنوع من إستثناء أنثروبولوجي عجائبي يؤكد قاعدة التصنيف الأوروبي الجائرللممارسة الجمالية بين لا نهايتي "الفن العالم" و "الفن البدائي». كل هؤلاءالفنانون الأفارقة الذين عملوا في إفريقيا و في أوروبا، في فترة ما بعد الحرب الثانية، وأنتجوا فنهم على مراجع التقليد الجمالي الأوروبي ـ بحكم تدريبهم الأكاديمي [إبراهيم الصلحي السوداني و إيبا إندياي السنغالي و إرنست مانكوبا الجنوب إفريقي ] أدخلوا أجهزة الرعاية الأوروبية في "طيز وزة" مفهومي عصيب، لأنهم كشفوا عن محدودية الرؤية الطبقية المعرقنة لمؤسسات الرعاية الأوروبية تجاه المبدعين الحداثيين الوافدين من خارج المجتمع الأوروأمريكي النصراني الأبيض. و قد حاولت مؤسسات الرعاية الأوروبية مخارجة نفسها من هذه الورطة الحضارية بمكيدة مفهومية بارعة حين اخترعت للوافدين من خارج المجتمع الأوروبي مصنف" الجمالية الإثنية". هذا المصنف المفهومي الجديد الخارج من متاحف الإثنوغرافيا و شعب الدراسات الأنثروبولوجية في الجامعات الأوروأمريكية، ظل مستبعدا عن سوق الفن الواقعي في أوروبا لعقود قبل أن يفتح له رعاة " الفن الإفريقي المعاصر "بوابة " فن العالم"، و ذلك في معارض كبيرة صارت سوابق تاريخية فارقة في مشهد تاريخ الفن الأوروبي الحديث .ـ و هي معارض قام عليها نفر من الباحثين الأوروأمريكيين الذين ولجوا سوق الفن من قناة الأنثروبولوجيا و دراسات ما بعد الإستعمار.ففي أوروبا تم افتتاح الفصل الأول في كتاب " الفن الإفريقي المعاصر" في معرض " سحرة الأرض الذي أقامه "جان هيوبير مارتان في 1989
Les Magiciens de La Terre, Jean-Hubert Martin, 1989
و مارتان كائن متحفي نموذجي تدرج في مهنة المتحفة و المعارض منذ تخرجه بدبلوم في تاريخ الفن من السوربون[1968]و قد عمل مديرا لعدد من المتاحف الأوروبية بين فرنسا و ألمانيا و إيطاليا. و في فترة إدارته للمتحف الوطني للفن الحديث بباريس،[1987ـ1990].ـ
musée national d'art moderne
نظم مارتان معرض "سحرة الأرض"
« Magiciens de la terre »
الذي يعتبر حدثا فريدا في تاريخ المعارض الفنية الكبيرة .ذلك أنه عرض ـ في متحف مركز جورج بومبيدو" بباريس ـ ، و في ندية جمالية كاملة، أعمال فنانين معاصرين مشهورين من المجتمع الأوروأمريكي ، جنبا لجنب ، مع أعمال فنانين معاصرين مغمورين من إفريقيا و المجتمعات المهمشة في العالم الثالث كهنود أمريكا و أبوريجين أستراليا. و ذلك على مزاعم آيديولوجية تستلهم ميراث "كلود ليفي شتراوس"و "ميشيل ليريس" عن فكرة المساواة بين الثقافات، و أخرى جمالية تستلهم ميراث حركة ال" دادائية" في توسيع حقل رؤية الأثر الإبداعي.و قد زعزع معرض" سحرة الأرض" عادات و أعراف مؤسسات العرض الأوروأمريكية و جعل القائمين عليها ينتبهون لحدود العالم الثقافية الجديدة التي يرسمها واقع عولمة الإقتصاد، فانفتح الباب بعدها لأعداد متزايدة من فناني العالم غير الأوروبي لعرض أعمالهم في مؤسسات العرض الأوروأمريكية.ـ أنظر الرابط :ـ
https://magiciensdelaterre.fr//home.php

و بعدها بعامين شهد المجتمع الأمريكي هزة ثقافية مشابهة تمثلت في معرض "إستكشاف إفريقيا"[ أو "إفريقيا تستكشف" حتى أجد ترجمة أفضل للعبارة "آفريكا إكسبلورز، الفن الإفريقي المعاصر"].ـ
Africa explores,20th century African Art,New York
الذي نظمته الباحثة الأفريقانية " سوزان فوغل"
Suzan VOGEL,1991
في متحف الفن الإفريقي بنيويورك .ـ و سوزان فوغل التي تعتبر مرجعا أكاديميا في الفن الإفريقي باحثة ذات تاريخ طويل في تنظيم معارض الفن الإفريقي و إدارة المتاحف. و في موقعها الإلكتروني نجدها قد بسطت نشاطها لمجالات أخرى مثل صناعة الأفلام الوثائقية، بل أن حضورها كـ " خبيرة" متاحفية قد أوصلها حتى منطقة الخليج حيث عملت مع إدارة متحف قطر على موضوع عمارة الخيم عند البدوالرحّل في الصحراء الكبرى و صحراء شبه جزيرة العرب.ـأنظر الرابط

https://susan-vogel.com/Susan-Vogel/Vogel.html

في معرض" إفريقيا تستكشف" حاولت "فوغل" تقديم المتاع الفني للأفارقة ضمن سياق تاريخي و أنثروبولوجي مشغول بالشاغل التعليمي ربما لأن طموحها الرئيسي يتلخص في شرح الثقافة الإفريقية لمواطنيها الأمريكان .و ضمن همها التعليمي قامت" فوغل" بجهد تصنيفي مشهودو نظمت المتاع الإفريقي المعروض وفق مصنفات «  الفن التقليدي »و «  الفن الحضري » و «  الفن الحديث » إلخ. لكن مسعاها لا ينجو من ميراث النظر الكولونيالي لأفريقيا ككيان معرقن مزنوج و أسود، ذلك أن معرضها يدير ظهره لواقع التعدد العرقي و الثقافي السائد في القارة و يقصي أهل شمال إفريقيا عن المجتمع الإفريقي. بل أن "فوغل تذهب أبعد من مجرد إقصاء أفارقة شمال إفريقيا عن المجتمع الإفريقي لأنها، في مقدمة كتالوغ المعرض تتشكّى من أن المسيحية و الإسلام قد أثرا سلبيا على صفاء الثقافة الإفريقية. ربما لأنها لا تطيق المسيحية و الإسلام كعقائد ضالعة، و منذ قرون طويلة، في صميم التركيبة الحضارية البالغة التعقيد لأهل القارة.[ ص 14]. و رغم أن بعض الباحثين ينظرون لمعرض "فوغل" كـ "رد" أو كتكملة لمعرض " مارتان" ،يبقى التعارض قائما بين منهج «  مارتان » و منهج"فوغل»ـفالأول سعى لعرض فن العالم بما فيه الأفارقة في حين أن"فوغل"اختارت أن تعرض فن الأفارقة للعالم الأمريكي.[للإستزادة أنظر نصي " من إخترع الأفارقة؟" في قسم الدراسات و البحوث في موقع سودان للجميع ،على الرابط
https://sudan-forall.org/sections/plasti ... usa02.html

أنظر أيضا نصي المعنون.ـ
Ghosts of Africa in Europe museums
على الرابط
https://sudan-forall.org/sections/plasti ... usa01.html


سأعود
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

هويولوجيا "مدرسة الخرطوم" الأوروبية

مشاركة بواسطة حسن موسى »




عرقنة الثقافة في زمن العولمة

تحولات العولمة التي هزت العالم في العقود الثلاثة الماضية روّعت الأوروأمريكيين لأنهم تيقنوا فيها من أمرين أولهما هو أن عالمهم يتغير بطريقة تسحب من إيديهم زمام المبادرة الحضارية الذي احتكروه لقرون منذ فجر الحضارة الرأسمالية في مجتمعهم.و ثانيهما هو زوال إمتيازاتهم الرمزية و المادية الموروثة من العالم القديم الذي كانت لهم فيه حظوة الهيمنة الإقتصادية و السياسية. لقد ولّى الزمان الذي كانت فيه أوروبا و الغرب شيئا واحدا لأن منطق السوق الرأسمالي الذي فرضه الأوروبيون على الجميع خلق مسخا جديدا ابتلع مفهوم "الغرب" ككيان مستقل متعارض مع"الشرق".و في العالم الرأسمالي الجديد صار كل من الغرب و الشرق كما نجمين أفلا منذ قرون لكن ضوءهما ما زال يسافر عبر الأزمنة و الأمكنة التي تتقاسمها شعوب العالم.ـ
و لو تساءلنا عن موقع الأفارقة من تحولات العولمة التي تشملهم مع غير الأوروبيين الآخرين فربما تمكنا من فهم التركيب اللاحق بعلاقة الأوروبيين و الأفارقة لو فحصناها من المنظور التاريخي لتطور مفهوم «الآخر» عند الأوروبيين.فـ « آخر» الأوروبيين الذي كان ـ حتى منتصف القرن العشرين ـ يقف في موقف المستعمَر المغلوب على أمره، انمسخ اليوم خصما إقتصاديا خطيرا. و الندية الإقتصادية التي صار المنافسون من غير الأوروبيون يتملكونها تروّع الأوروبيين و تهددهم بخطر الهيمنة الإقتصادية الأجنبية.و في هذا المشهد يمكن عقلنة الشاغل الهويولوجي الغالب على ظواهر التعبير الجمالي المعاصرة في العالم الأوروأمريكي كرد فعل وجداني على معطيات العولمة الإقتصادية التي تتوعد الأوروبيين بتحولات غير مريحة في جملة أوجه تحققهم الوجودي.لقد أطلق الأوروبيون جنّي رأس المال من قمقمه الأوروبي، لكنه فلت من قبضتهم و رماهم في عالم جديد لا يتمتعون فيه إلا بصفة كونهم « آخر» آخر بين آخرين بلا حصر. و في هذا المشهد، مشهد زعزعة الثوابت الهويوية القديمة صار الأوروبيون يعيدون فحص هوياتهم السياسية على محاور الديموقراطية و الشعبوية مثلما صاروا يعيدون النظر في هوياتهم الإقتصادية بين خيار السوق الرأسمالي الحر بلا حدود وحماية السوق الوطني،مثلما صاروا يفحصون هوياتهم الجمالية بين موقف الإنفتاح العلماني أو الإنكفاء على الذات العرقية و الدينية.و من يتأمل في المنازعات الإجتماعية الكبيرة التي شغلت المجتمع الفرنسي في السنوات الأخيرة ، يجدها مرتبطة ـ بطريقة أو بأخرى ـ بالتحولات الناتجة عن الواقع الجديد الذي خلقته عولمة الإقتصاد و الثقافة.الأوروبيون الذين بنوا " الإتحاد الأوروبي" بحجة الإستعداد لمواجهة غيلان العولمة الإقتصادية [ الصين و أمريكا] ،صاروا يتساءلون اليوم حول إمكانية مغادرة «الإتحاد الأوروبي» الذي يعتبرونه في أصل شقائهم الراهن لأنهم فقدوا معه بعض مكونات السيادة الوطنية [ نهاية الحدود
الوطنية و العملة الوطنية و الخضوع لقرارات اللجان الأوروبية في خصوص بعض جوانب التدبير الإقتصادي و السياسي الجديد]..و خوف الأوروبيين من " الآخر" يعبر عن نفسه بأكثر الأساليب إلتواءا، لأن التخويف من خطر هذا "الآخر" الممتد من بلدان آسيا الناهضة للولايات المتحدة التي تنافس الأوروبيين في الهيمنة الإقتصادية، يجد تعبيره في المطالبة بـ " إستثناء ثقافي أوروبي" في سوق الإنتاج الثقافي الذي يهيمن عليه الأمريكيون [ الموسيقى و السينما وحقوق الملكية الفكرية] ، مثلما يجد تعبيره في إنبعاث حجج الدفاع عن الهوية الثقافية الأوروبية على محاور العرق الأبيض و العقيدة النصرانية.و أفضل نماذج العنت الأوروبي تجاه الآخر يتمثل في الأدب السياسي الأوروبي الذي صاحب قضية إنضمام تركيا للإتحاد الأوروبي. فتركيا رغم أن عضويتها في حلف شمال الأطلسي [ ناتو] يجعل منها حليفا سياسيا مهما للإتحاد الأوروبي إلا أن الأوروبيون ثابروا على استبعادها من دخول السوق الأوروبية منذ 1959 و ظلواخلال ثلاثة عقود، يثابرون على وضع العقابيل أمام استيعابها في الإتحاد الأوروبي.و الحجة الأكثر شعبية التي يرفعها المعادون لإنضمام تركيا للإتحاد الأوروبي هي حجة الخوف على إنمساخ الهوية الأوروبية إذا استوعبت أوروبا السبعين مليون مسلم تركي الذين يدينون بالإسلام.و في هذا المشهد أصبح إنضمام تركيا للإتحاد الأوروبي جزء من خطاب التخويف بالإسلام الذي تنتفع به القوى السياسية الأوروبية المحافظة عند كل معركة إنتخابية. و قد أثمر خطاب التخويف بالإسلام في فرنسا وزارة بحالها هي "وزارة الهوية الوطنية" التي خلقتها حكومة " ساركوزي/فييون" اليمينية بين 2007و 2010.[ إسمها الكامل هو "وزارة الهجرة و الإستيعاب و الهوية الوطنية و التنمية التضامنية "].ـ

Le ministère de l'Immigration, de l'Intégration, de l'Identité nationale et du Développement solidaire
و قد شهدت " وزارة الهوية " أشد الإنتقادات من اليساريين و من اليمينيين المعتدلين و من جماعات الكاثوليك الذين رأوا فيهامأسسة للعنصرية و لمعاداة الأجانب . و تناقلت وسائل الأعلام تصريح دودو ديين، المقرر الخاص لمناهضة العنصرية لدى الأمم المتحدة الذي اعتبر تأسيس وزارة الهوية في فرنسا كـ «  تطبيع للعنصرية" و "قراءة إثنية و عرقية للأسئلة السياسيةو الإقتصادية و الإجتماعية، مثلما هي معالجة آيديولوجية و سياسية للهجرة باعتبارها إشكالية أمنيية و تهديد للهوية الوطنية".
أنظر الرابط
https://fr.wikipedia.org/wiki/Ministère_de_l'Immigration,_de_l'Intégration,_de_l'Identité_nationale_et_du_Développement_solidaire

و خوف الأوروبيين من التحولات الإجتماعية و الثقافية المعاصرة بلا حدود، حتى أن المراقب للمجتمع الأوروبي يكاد لا يرى في الأوروبيين سوى قطيع من الكائنات المذعورة التي تركض في كل إتجاه خوفا من خطر غامر مبهم الملامح . من جهة أخرى ، شهدنا ،في العام 2015 التهاب شوارع المدن الكبيرة بالمنازعة بين أنصار حركة " الزواج للجميع" اليسارية الإنتماء و خصومهم من النصارى المحافظين الذين ثاروا على قانون جديد يبيح زواج المثليين. في هذه المنازعة انطرحت التساؤلات حول مشروعيةمؤسسة الزواج التقليدية و قابليتها على استيعاب التطور الجديد في العلاقات الأسرية. قد شهدت الحياة السياسية الفرنسية مؤخرا مناقشة ساخنة حول تعريف المواطنة على أثر طرح السلطات لقانون يبيح للدولة سحب الجنسية الفرنسية عن المواطنين الفرنسيين من ذوي الجنسيتين إذا ثبتت عليهم تهمة الضلوع في الإرهاب. و هو قانون يستهدف الفرنسيين المسلمين الذين صاروا كبش فداء يومي للتلبيس السياسي العنصري الذي يشتبه في كل مسلم كإرهابي كامن و متربص. و قانون نزع الجنسية الفرنسية يأتي في ختام سلسلة من القوانين و الأوامر الإدارية التي تتعلق بضبط ملبس و مأكل و مسكن و حركة المسلمين الفرنسيين، و هي قوانين تكشف عن الصعوبة التي تواجه المجتمع الفرنسي النصراني المحافظ في استيعاب الفرنسيين المسلمين كشركاء اصيلين في تركيبة المجتمع .طبعا كل هذه الأسئلة " الثقافية" الحارقة لا تقتصر على المجتمع الأوروبي وحده، فهي تنطرح على الجميع، بيد أن الأوروبيين اليوم في خط المواجهة الأول ، بينما أهل المجتمعات غير الأوروبية ،الذين ما زال أغلبهم يواجه أولويات البقاء المادي، في شغل شاغل، إما بتدبير العيش تحت تفاقم الأزمات الإقتصادية الطاحنة أو بالبحث عن المهارب من جحيم الحروب الأهلية أو /و الكوارث الطبيعية و الأوبئة إلخ.ـ
وسط هذه الملابسات ينبش الأوروبيون مواريثهم التاريخية و ينقبون في أقبية ماضيهم المجيد بحثا عن مآثر و عن شواهد على ثبات هويتهم كمجتمع متقدم يحتل مركز الحظوة ضمن تراتب الوجود الإنساني الكبير .في هذا السياق يكتشفون حقيقة صورتهم البسيطة و الفاجعة في مرآة " الآخر" و فحواها أن المرء لا يكون إلا كـ"آخر" في نظر الآخرين.و حين ينظر الأوروبيون لصورتهم في مرآة الآخر الآسيوي، يدركهم قلق و روع و حسرة لأنهم يبصرون ضعفهم الإقتصادي المتفاقم بالمقارنة مع النهوض الظاهر في إقتصاد المجتمعات الآسيوية التي كانت تحت هيمنتهم الإستعمارية حتى منتصف القرن العشرين. الأوروبيون يرون عيوبهم تتضخم في مرآة التنين الآسيوي الناهض فيصرخون " اليابانيون يعملون كالنمل"، على حد عبارة " إديث كريسون، رئيسة الوزراء في حكومة الرئيس "فرانسوا ميتران" الإشتراكية في التسعينيات.
و حين يرغب هؤلاء الأوروبيون في فحص تحولات وضعهم الهويوي ، فهم يفضلون النظر في مرآة مغايرة، مرآة سوداء، مرآة إفريقية لأن النظر في هذه المرآة المظلمة هو نظر بلا مخاطر.لأن الأفارقة ابعد ما يكون من تمثيل صورة الخصم الإقتصادي الحقيقي لأوروبا. ربما لهذا السبب يثابر الأوروبيون بشكل موسمي على الإحتفال بصورة القارة الخالدة التي لا تطيق التحول. أنظر الرابط ـ.

https://sudan-forall.org/sections/plasti ... usa01.html

و في العقود الأخيرة صارت عناية الأوروبيين بسؤال الهوية الثقافية للأفارقة بمثابة ذريعة عالية الكفاءة لإنتاج هذا النوع الأدبي الجديد الخارج من ثنايا البر النصراني بالضعفاء، و أعني أدب الهويولوجيا المزدهر في المحافل و المواسم و المهرجانات التي ينظمها الأوروأمريكيين على شرف الثقافة الإفريقية .و الذي يتخذ من الـ " أزمة " المصطنعة للهوية الثقافية الإفريقية وسيلة لطرح الأسئلة العويصة في أزمة الهوية الثقافية للمجتمع الأوروبي الحائر عند مفترق دروب حضارة رأس المال بين خيار الإنكفاء المستحيل على عادات عهد بائد أو الإنفتاح المحفوف بالمخاطر على مغامرة العولمة المريعة.ـ


خُـفَـراء اليوتوبياـ
لي ملاحظات قديمة [2002، " الأزمنة الحديثة"]حول عناية الأوروبيين المزيفة بسؤال الهوية الإفريقية في نصي " من اخترع
الأفارقة؟".ـ
أثبت منها هنا ما قد يساعد في إضاءة شجرة نسب " مدرسة الخرطوم"المتأخرة التي تم إلحاقها بفن العولمة ضمن بما صار يعرف بـ "الفن الإفريقي المعاصر" .أو فن " الدياسبورا الإفريقية" في رواية أخرى.ـ


"""أثناء التظاهرة الأفريقانية اللندنية المسماة "آفـــريــكا 1995" التي التقى عندها رهط من الباحثين والفنانين الأفارقة الأفريقانيين وغير الأفريقانيين، لم يكن هناك من يقوى على تجنب الجدال حول موضوع تعريف الفن الأفريقي المعاصر، وبالذات في "سمنارالفنانون الأفارقة، المدرسة والاستوديو والمجتمع" الذي نظمته مدرسة الدراسات الشرقية والآفريقية بجامعة لندن. وأذكر مناقشة حامية انفتحت بين بعض المشاركين حول تصريح للفرنسي "جان كلير" كانت قد نشرته "ذا آرت نيوزبايبر" Jean Clair, in The Art News Paper, Jun. 95.
و"جان كلير" ناقد فرنسي معروف ومدير متحف بيكاسو في باريس، وقد أجمع الحضور على فهم كلام "جان كلير" كتعبير عن مقاومة أوروبية بعينها لمشروعية مفهوم الفن الأفريقي المعاصر. وأصل الحكاية أن جان كلير، أبان فترة رئاسته لبينالي البندقية في ذلك العام، قال لمحررالصحيفة المذكورة الذي سأله عن موقفه ـ كمدير للبينالي ـ من اشتراك فنانين من العالم الثالث في معرض بينالي البندقية." أجد هذا الأمر شاذا وبعيدا عن العقل ففكرتنا نحن عن الفن أو عن النشاط الفني فكرة لصيقة بالواقع الغربي وكل النوايا التي تزعم الشهامة بفتح متاحفنا وصالاتنا الفنية وبينالياتنا لـ "فناني" العالم الثالث انما تمثل في اعتقادي اللمسة النهائية للضلال النيوكولونيالي ".." وعليه فلن يشتمل البينالي على فنانين من العالم الثالث. ذلك أن تشريك فناني العالم الثالث في البينالي سيكون بمثابة تجاوز مجحف لسلطة تنظيم البينالي مثلما هو تجاوز مجحف لسعة اللغة، بل وسيوقعنا ذلك في الخلط بين أمور متناقضة تماما.
ومن جهة أخرى فاستبعاد فناني العالم الثالث سيمكننا من طرح المشكلة الرئيسية بين مشاكل نهاية هذا القرن، مشكلة الثقافات الغريبة على الثقافة الغربية، الثقافات التي تملك مفهوما للصورة، لسلطان الصورة ولوضعياتها مختلف لحد كبير عن مفهومنا نحن لها. وحاليا فان هذه الثقافات تتنامى في حالة غزو للعالم بشكل يجعلنا نشك في قدرة المتاحف الكبيرة التي نفتتحها اليوم على البقاء خلال السنوات القليلةالقادمة. حين نتبصر في ما يحدث الآن في الجزائر فان كل ما نعتبره ثابتا اليوم بل ومجمل النظام الثقافي القائم على اجلال الصورة يمكن أن يتقوّض خلال عقدين أو ثلاثة. وليست هذه رؤية متشائمة للأمور. فأنا أقول هذا الكلام بتمالك تام. أعتقد أن الحضارات تتطور و تختفي."
ماذا نفعل بمثل هذا الكلام؟
إن أدنّاه باسم المساواة بين الثقافات أجحفنا في حق رجل في حكمة وعلم جان كلير، سيّما وأن حديث الرجل انطوى على بعد "تنبؤي" يكتسب مذاق الفجيعة حين نقرأه بعد تدمير تماثيل بوذا باميان على يد مهووسي نظام الطالبان في أفغانستان.
طبعا حديث جان كلير يستلهم قولة رودياردكيبلنغ الشهيرة التي تعتبر من أكفأ الأيقونات الأدبية لحرب الحضارات..
“Oh,East is East,and West is West, 
And Never the twain shall meet,
Till Earth and Sky stand presently
At God's great Judgment Seat"
لكن ان كان كيبلنغ في "سياحته" بين الشرق والغرب يعرض صلف الغازي الاستعماري، فإن جان كلير في العبارة التي تشبه "السفروق" ـ والسفروق كلمة كردفانية تدل على السلاح المقذوف الذي يسافر ويلتف حول الطريدة أو يرتد الى صاحبه [كما بومرانغ الآبوريجين الأستراليين] أو كما يرتد الكيد الى صاحبه والله أعلم ـ أقول أن عبارة جان كلير عامرة بأكثر من معانيها الظاهرة. فهي تعبّر عن قلقه الأوروبي ـ قلق ركن القهوة السودانية في ميريديان الخرطوم ـ والرجل قلق من تأثيرات الضلال النيوكولونيالي علي أصالة ثقافات أهل العالم الثالث. لكن اذا تمعّنّا في الموضع الذي يتكلم منه حين يقول "نحن"، فإن حديثه يفتح باب مشروع ثقافي طموح غايته مزدوجة من حيث كونه يريد صيانة الأصالة الثقافية والنقاء الثقافي لثقافات أهل العالم الثالث مثلما يريد صيانة الأصالة والنقاء الثقافي لأهل الغرب الأوروبي. وهكذا يبقى كل واحد في محله فلا يكون خلط ولا تعكير. يعني على حد عبارة أمي "كل قرد يلزم شدرته" والسلام. هذه الفكرة، فكرة "فرز المويات" ليست مستحدثة في السياسة الثقافية لفرنسا، فبعض مؤرخي السياسة الفرنسية يردونها للجنرال ديغول ويفسرون بها موقفه من استقلال الجزائر في مطلع الستينات. فمن المعروف أن الجنرال ديغول كان مع استقلال الجزائر ضد رأي أغلبية الطبقة السياسية الفرنسية التي لم يكن يداخلها الشك في كون الجزائر كانت وستبقى فرنسية وأن الجزائريين فرنسيين مسلمين ليس إلا.
ويحكي السياسي الفرنسي الديغولي "ألان بيرفيت" في كتابه عن "الجنرال" أن الرجل قال مفسرا موقفه من استقلال الجزائر ما معناه أن الجزائريون بقابليتهم الديموغرافية العالية قمينون بأن يصبحوا أغلبية في فرنسا وأردف أنا لا أرغب في أن أرى قريتي "كولومبي ذات الكنيستين" تغير اسمها ذات يوم لتصبح "كولومبي ذات المسجدين"، هذا الخطاب الديغولي هو اليوم سلاح ذو كفاءة سياسية عالية في يد اليمين المتطرف الفرنسي المتعنصر ضد الجالية العربية. وقد نسمع خطابا مشابها في بريطانيا ضد الباكستانيين أو في ألمانيا ضد الأتراك. والخوف من النمو السكاني غير الأوروبي كان ومازال لازمة ثابتة في السياسات الدفاعية للمجموعات العرقية الأوروبية. وهو الموقف الذي غذى مشاريع الابادة العرقية الجماعية للهنود الحمر وللأبوريجين الأوستراليين بقدر ما يغذي مشروع الـ "ترانسفير" أو "النقل الجماعي" الذي يتوعد به اليمين الاسرائيلي عرب اسرائيل نحو الأردن أو نحو الدولة الفلسطينية المحتملة حتى تؤمّن اسرائيل نقاء المجتمع من كل شائبة عرقية وثقافية غير يهودية. كل هذا يردنا لخلاصة محزنةهي أن جان كلير لا يرى أفضل من الـ "أبارتايد الثقافي" كمخرج من الخراب العظيم الذي يتربص بمنجزات الحضارة الأوروبية.
لكن يبدو أن رغبة جان كلير في صيانة نقاء الفن الأوروبي عن التدنيس المحتمل الذي يتهدده من طرف أهل العالم الثالث تصل متأخرة نوعا، ذلك أن الفنانون الأوروبيون، ومنذ وقت طويل، سافروا كثيرا خارج حدود العالم الغربي وفقدوا نقاءهم العرقي وبراءتهم الجمالية عن قصد أو عن غير قصد، فهم بشكل أو بآخر تبعوا حركة التاريخ الكولونيالي والنيوكولونيالي وسافر بعضهم مع حملات الفتح العسكرية كما هيمن بعضهم على "السكان الأصليين" بجاه الادارات الاستعمارية، وامتص بعضهم دماء رعايا بلدان العالم الثالث بفضل التواطوء الآيديولوجي مع سلطات النيوكولونيالية الدولية والاقليمية واليوم هم يمارسون الهجنة الثقافية بذريعة "حوار/حرب" الحضارات مع كل "آخر" متوفر في متناول اليد بمباركة آلة العولمة الغاشمة.
من يرميهم بحجر كل هؤلاء الناس الطيبين الذين لم يتوانوا ـ رغم كل شيء ـ عن دفع حركة الفن على درب الحداثة الوعر؟ أنا بطبيعة الحال. أنا أرميهم بأكثر من حجر وذلك بطبيعة حال رعايا بلدان العالم الثالث طبعا. حالي أنا كابن غير شرعي لسفاح النيوكولونيالية التراجيدي على فراش حلم التنوير الانساني المفقود. أنا أرميهم بأكثر من حجر لكونهم فجروا وجاروا باسم هذه الحظوة التاريخية المذنبة، حظوة النجاة من قدر الضحية في عالم يتقاسمه الضحايا والجلادون. أولاد الغلفاء لن يكفيهم حجر واحد و ستلزمني محجرة بحالها و جيش من رماة المقاليع حتى أفش غبني المقيم وهيهات. لكن "فش الغبينة" ليس في قمة أولوياتي الراهنة. وسأمسك عنهم حجارتي وحجارة غيري لأني أحتاجهم لتعريف أسس تحالف حضاري قمين باعادة تأهيل الحداثة وانقاذ اليوتوبيا من مخاطر السوق المتعولمة. إن النضال ضد الاستبعاد والاستعباد، النضال من أجل القسمة العادلة لخيرات عالمنا الروحية والمادية يحتاج لحلفاء في ذكاء وفي مكر هؤلاء الأفذاذ من ورثة السحرة والعلماء الذين نسميهم الفنانين. أما كيف سننجز مشروعنا الفادح؟ فهذا علمه عند ربي، لكن السؤال نفسه طرف في المشروع اياه والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

ولو عدنا لجان كلير، خفير اليوتوبيا، فان السعي لقفل أبواب المتاحف الغربية وصالات العرض والبينالي في وجه الفنانين القادمين من العالم الثالث لا يؤدّي ولا يجدي، كون فناني العالم الثالث موجودين في هذه الأمكنة منذ عهد طويل. وحاليا ليست هناك حاضرة غربية أوروبية مهمة تستغني عن منافع المحافل والمتاحف المخصصة لفنون أهل العالم غير الأوروبي. وفي النهاية، فان حديث جان كلير لا ينفع الا في اثارة غضب الفنانين الذين يعتبرون أنفسهم فناني عالم ثالث ورعاتهم وحماتهم الأوروبيين. ولكن فيما وراء غضبة هؤلاء وأولئك فان حديث جان كلير يثير اشكالية مؤسسات الرعاية الغربية وشهامتها الحضارية المزعومة تجاه الفنانين المعاصرين الوافدين من خارج العالم الأوروبي.
في هذا المشهد فان شبهة التجاوز الأخلاقي النيوكولونيالي التي يرفعها جان كلير في وجه المؤسسات الأوروبية لرعاية الفن غير الأوروبي تبدو مشروعة. وفي الواقع فان كلام جان كلير يثير التساؤل حول الدور المبهم الغميس للمؤسسات الأوروبية المتخصصة في رعاية الفن المعاصر غير الأوروبي. وجل هؤلاء الرعاة الذين يزعمون "التخصص" في تقديم هذه الفئة أو تلك من فئات الفن غير الأوروبي سرعان ما يخلصون ـ و في خلال سنوات، بل في خلال شهور، الى اعلان أنفسهم كـ "خبراء" في الفن غير الأوروبي وذلك عملا بالمثل المعروف "البلد المافيها تمساح يقدل فيها الورل". وبحكم الروابط وكفاءة وسائل الاتصال والاعلام فغالبا ما ينتهي هؤلاء "الخبراء" الى تكوين نوع من شبكة من الأشخاص الذين يتعارفون ويلتقون بانتظام من خلال التظاهرات الفنية التي ينظمونها هنا وهناك، بمساعدة الدول ومؤسسات الرعاية الخاصة، عبر الحواضر الكبيرة بين قارات أوروبا و أمريكا.
ومع ذلك، فلو أخذنا، على سبيل المثال، هذا الفن الأفريقي المعاصر كسبب يبرر وجود هذه الشبكة الواسعة من محترفي الرعاية لوجدنا أن هذا الفن الأفريقي يبقى غريبا، لا بالنسبة للأفارقة فحسب، بل هو غريب أيضا على سوق الفن العالمي.
وغربة الفن الأفريقي على صعيد سوق الفن العالمي تتفسر بكون هذا الفن الأفريقي المعاصرـ بخلاف حال الفن الأوروبي المعاصر ـ لا محل له من الاعراب وغائب تماما وبشكل مريب، كقيمة مالية، ضمن سلم القيم المالية الذي تصنف عليه السلع في ا لبورصة. ورغم أن بعض جامعي الفن الأفريقي المعاصر وبعض منظمي المعارض الفنأفريقانية يتفاءلون بالفن الأفريقي المعاصر كـ "أمل البيزنيس الفني" في المستقبل القريب الا أن الفن الأفريقي المعاصر يظل غير وارد على الاطلاق في خاطر الجامعين والمستثمرين الذين قد يضعون مالهم في ميزان سوق الفن المعاصر. ترى هل يعني ذلك أن الفن الأفريقي المعاصر يفلت من قانون السوق؟ طبعا لا، لا أحد يفلت من القانون التوحيدي للسوق، لكن التداخل البالغ التركيب للعلاقات التاريخية بين الأقارقة والأوروبيين انما يؤثر بطريقة مميّزة على نوع السوق الذي يبذله المجتمع الرأسمالي المعاصر لانتاج الفنانين الافارقة. وحتى الآن فقد واظبت أوروبا على بذل نوع من "سوق رمزي" للفنانين الأفارقة. وأقول سوق رمزي ضمن المنظور غير الواقعي الذي تدبر عليه أوروبا أمور الفن الأفريقي، ذلك أن الفن الأفريقي يبقى في خاطر الأوروبيين مساحة ممتدة لكل أنواع الهواجس و الأوهام العربيدة التي لا تبال بالافارقة في شيء. ففي أرض الفن الأفريقي يبيح الأوروبيون لأنفسهم حرية اعادة تخليق صورة العالم وصورة الأفارقة [مستودع "الآخر" الأبدي]، وقيل صورة الأوروبيين أنفسهم حسب الأمزجة والملابسات.
فـ"بيير غوديبير"، المتحفي الفرنسي والباحث الفنأفريقاني المعروف وسط المهتمين بالفن الأفريقي كان قد نظم ـ في سبتمبر 90 معرضا لأربعة وستين فنان معاصر من السنغال. وذلك في قلب باريس في صالة " لارش دو لا ديفنص" "غوديبير" ينظر للفن الأفريقي كـ "مستودع كبير لقيم القداسة" ويمكن للفنانين الأوروبيين الذين يفتقر عملهم لقيم القداسة "يمكنهم أن ينهلوا من هذا المستودع طاقة القداسة التي يحتاجونها".
لكن الفن الافريقي المعاصر ينطرح في خاطر الأوروبيين كمساحة لأعمال البر الثقافي ينشط فيها نفر من الحادبين على أصالة الثقافات غير الأوروبية ومن لفّ لفّهم من أهل الرفق بالـ "حيوان" الفنان الأفريقي [و لو نظرت معان لفظة "فنان" في المنجد فستجد بينها معنى "الحمار الوحشي له فنون في العدو"، فتأمّل..] من شاكلة جامع الآثار الفنية الألماني، الـ "هـرـ أيوه هرـ هورست شاوركولر" الذي افتتح غاليري متخصصة في الفن المعاصر الأفريقي والعربي في قلب باريس [ تاني؟] في العام 94.
يقول الـ "هر شاور كولر" في المقابلة التي أجرتها معه مجلة "جون آفريك" الفرنسية 13 ـ 3 ـ 94" لقد سافرت كثيرا في المغرب و في أفريقيا ".." و شاهدت الأعمال الرائعة التي أنجزها فنانو هذه البلدان، وفي نيتي أن أبين للناس أن أعمال هؤلاء الفنانين تضاهي في قيمتها أعمال الفنانين الفرنسيين أو الأوروبيين والأمريكيين، بل أن بعضهم يخلق أعمالا أقوى وأشد تشويقا ".."ومن ثمّ فأنا أعتقد صادقا أن لهؤلاء الفنانين شيء يقولونه للعالم الغربي. لكن الجمهور الغربي غالبا ما يجهل حتى أسماء الفنانين الأكثر شهرة بين الفنانين العرب والفنانين الأفارقة".."وقد بدا لي أن هذا الواقع الذي يعيشه هؤلاء الفنانين ينطوي على شيء من الاجحاف أو على الأقل على شيء من الاختلال.". طبعا لم يعدم الهر شاور كولر حفنة من الفنانين الأفارقة والمغاربة [فكأن المغاربة يقيمون خارج أفريقيا] لتأثيث صالة عرضه الباريسية بأعمالهم، من باب "المال تلته ولا كتلته"، مثلما لم يعدم حفنة من الكتاب والصحفيين الأفارقة والفنأفريقيين ليصفقوا ويهللوا لمشروعه من باب "ان كان لك حاجة عند الهر قول له يا كلب".

وهكذا يبدو أن معظم الحادبين على مصير الفن الأفريقي لا يستغنون عن مشروع ما لـ "انقاذ" الفنانين الأفارقة. أنا شخصيا أحبذ مشروع " كاترين م."، هذه الشخصية الروائية العجيبة التي تحكي سيرة عربداتها الطليقة في كتاب "الحياة الجنسية لكاترين م." للكاتبة والناقدة الفنية الفرنسية" كاترين مييه" والتي تعتبر أحد أعلام حركة النقد الفني المعاصر في فرنسا سيّما وكتابها "الفن المعاصر في فرنسا" يعتبر مرجعا مهما لدارسي الفن المعاصر في فرنسا. تحكي "كاترين م" [ ص اا] ".. حين بلغت العمر الذي يتردد فيه الأطفال على مدرسة التلقين الديني المسيحي، جاء يوم طلبت فيه مقابلة القس لأحاوره في مشكلة لم أجد لها حلا. ذلك أني كنت أريد أن أصبح راهبة "أتزوج الرب" وأغادر في ارسالية تبشيرية لمساعدة الشعوب البائسة التي تتوالد في افريقيا. لكني في نفس الوقت كنت أريد أن أتزوج وأنجب أطفالا وأحيا حياتي. القس الصموت أنهى مشروع حواري بطريقة حاسمة قائلا أن كل هذا الأمر سابق لأوانه".
خسارة كبيرة كون "كاترين م" لم تتمكن من الحضور لأفريقيا لتنقذنا كما أنقذت "الفن المعاصر في فرنسا" ذلك أن كهنة النيوكولونيالية أرسلوا لنا محترفي الفنأفريقانية الذين ينظرون لآفريقيا كمفرخة للفنانين المستعدين لتقديم الغالي والرخيص لقاء ربع ساعة "آندي وارهول" على مشهد الفن المعاصر في حواضر أوروبا و أمريكا.
ان وضعية النفي خارج السوق الحقيقي التي يكابدها الفناون الأفارقة المعاصرون تملك أن تكسب بعض الشرعية لاشتباهات جان كلير في صدد دوافع مؤسسات الرعاية التي تكفل الفنانين المعاصرين من العالم غير الأوروبي. فهي في الغالب مؤسسات رعاية تعمل كـ "رزيرف هندي" [وقيل"كرنتينة"] تحافظ على كل فصيلة عرقية "اثنية" في المحل المخصص لها من فترينة العرض التي تقسم العالم اثنيا. وعند مقتضى الحال فقد تقوم مؤسسات الرعاية اياها باجمال كافة أهل العالم غير الأوروبي في قفص واحد باعتبارهم "آخر" الغرب الأوروبي.
في الـ "ريزيرف الهندي" المخصص للفنانين الأفارقة، فان المبدعين يعرضون أساسا بوصفهم أشخاص سود يتكنّز الروح الزنجي في دواخلهم. وربما ساعدنا هذا الموقف لفهم الأسباب التي تجعل من تصانيف سياسية استعمارية عبثية من نوع "أفريقيا السوداء" أو "أفريقيا البيضاء" ما زالت رائجة في أوساط متعهدي التظاهرات الفنأفريقانية في أوروبا.
وعلى طول علاقتهم التاريخية بأفريقيا فقد طوّر الأوروبيون نوعا من تقليد أو "صنعة معارضية" متميزة بحرفية عالية غايتها عرض منتجات الثقافات الأفريقية للجمهور الأوروبي. هذه الصنعة المعارضية الفنأفريقانية تأسست مناصفة بين جهود رواد الاثنولوجيا الأوروبية ورواد الصنعة المعارضية الحديثة. فمن جهة بادر نفر من الباحثين الاثنولوجيين الى ارتجال صنعة قومسير المعرض ارتجالا من واقع الضرورة العملية التي عرفوها لأنفسهم منذ نهاية القرن التاسع عشر، ضرورة تفسير أفريقيا للأوروبيين من خلال الأشياء والأدوات التي غنموها من القارة المظلمة، هي مبادرة ذات دلالة خاصة كونها تمت في لحظة تاريخية كانت وسيلة المعرض فيها قد تطورت الى نوع ثقافي مستقل بوصفه وسيط اتصال ثقافي جماهيري وتعليمي جديد وكأداة بروباغاندا عالية الكفاءة [المعارض الدولية في العواصم الأوروبية بدأت مع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فينا، باريس، لندن وشيكاغو..].
ومن الجهة الأخرى فقد أفرزت هذه الصنعة المعارضية الجديدة في البداية جمهرة من الأشتات بينهم بعض المبدعين من محبي الزنج والاخصائيين العموميين من جنس الألعبان والاداريين الاستعماريين وبعض المبشرين والتجارالمغامرين والرحالة المحترفين و"الحمرتجية" البهلوان والحلاقين المتكلمين في الأفريقانية.. الخ. كل هؤلاء الناس كانوا يبيحون لأنفسهم رخصة تقديم وشرح "الأشياء الزنجية" للجمهور الأوروبي. ورغم أن جمهرة مفسري أفريقيا قد احسرت لحدود بعض الـ "مختصين" اليوم الا أن الكلام في الشأن الأفريقاني ما زال مباحا لكل من هب ودب، فأفريقيا بحر من الظلمات المعرفية والمنهجية وعن البحر فحدّث..نخلص من هذا ـ ونحن ما زلنا في "الجهة الأخرى"ـ الى أن نفر من قومسيرات المتاحف وبعض منظمي المعارض الافريقية من هواة الاثنولوجيا استأنفوا الصنعة المعارضية على هدي الأسس التي طرحها رواد الاثنولوجيا الأفريقانية.
واليوم نلاحظ أن مباحث الاثنولوجيا، التي كانت بمثابة حصان طروادة للمؤسسة الاستعمارية الأوروبية، لم تعد تثير ريب الكثيرين في صدد مراميها السياسية تجاه شعوب العالم غير الأوروبي، كون المباحث الاثنولوجية انمسخت في المشهد الاعلامي الأوروبي الى نوع من أيقونة كفاحية عالمثالثية.
واذا كان رواد الاثنولوجيا قد ساهموا في عملية تقديم وتثبيت الفن الأفريقي على خشبة المسرح الفني الأوروبي فهم، في نفس الوقت، طبعوا هذا الفن الأفريقي بطابع الجمالية الاثنولوجية. وهكذا فان المنظمون الأوروبيون لمعارض الفن الأفريقي ممن اكتشفوا هذا الفن الأفريقي في مشهد الاثنولوجيا نظموا مساحة المعرض بطريقة يستحيل معها تجنب المرجعية الاثنولوجية لموضوع العرض. وعليه صار عرض الفن الوافد من أفريقيا يستدعي بالضرورة تهيئة "ميزانسين" جديد يتبع الموجهات الاثنولوجية المستبطنة في خاطر منظمي المعارض الأوروبيين.
والمتتبع للعلاقة التاريخية بين فن الأفارقة والظاهرة الاثنولوجية يلمس أن القوم في أوروبا قد اختاروا، ومنذ عهد طويل، أن ينظروا لأفريقيا من خلال انعكاسات زجاج فترينات المتاحف الاثنولوجية. وهي حيلة مجزية تماما كون فترينة المتحف توفر للناظر عبرها نوعا من الحماية كما في اسطورة "بيرسي" صاحب الدرع الصقيل كالمرآة الذي مكّنه من رؤية وجه الساحرة "ميدوزا" على صفحته وقتلها دون أن ينظر اليها مباشرة، لأن من ينظر مباشرة لوجه الميدوزا ينمسخ حالاً الى تمثال من الحجر حسب الاسطورة. وتحت شرط الراحة الأخلاقية لفترينات المتحف، فإن الزوار الميامين للمتاحف الأفريقانية الأوروبية تمكنوا من مشاهدة اشنع ميدوزات أفريقيا دون أدنى مخاطرة [و أعني على سبيل المثال لا الحصر ميدوزات الغزو والاستعمار والنهب والتقتيل والابادة والعنصرية والاستعباد والاستبعاد والقصف والحصار والديون والتجويع].
ومنذ مطلع القرن العشرين استقرت صورة أفريقيا في المشهد الأوروبي بطريقة مجافية لواقع حياة الافارقة وذلك بفضل الصنعة المعارضية الأفريقانية التي ازدهرت وراجت بذريعة اضاءة القارة المظلمة في الخاطر الأوروبي الاستعماري. وفي مركز الصنعة المعارضية الأوروبية نجد عرض أجساد الأفارقة كنوع معارضي تأسس بين المؤسسات العلمية كالمتاحف والمؤسسات الترفيهية كالسيرك وأسواق الملاهي أو حتى في الأمكنة التي تجمع بين أغراض العلم وأغراض الترفيه كحدائق الحيوان. وفي هذا المعنى قامت حدائق الحيوان الباريسية في نهاية القرن التاسع عشر 1895 بعرض بعض أسر الأفارقة من "أشانتي" غانا في أقفاص ليتفرج عليهم الجمهور الباريسي.
وقد سبق عرض الأشانتي بعدة عقود عرض فتاة الـ "بوشمان"، سارتجي باارتمان "المشهورة تحت اسم "فينوس الهوتونتوت" التي عرضت في السيرك وأسواق الملاهي بين لندن وباريس في 1810. وقد تم احضار "سارتجي باارتمان" من لندن لباريس بعد أن باع سادتها البريطانيون "عقد عرضها" لمروض حيوانات متوحشة في سيرك فرنسي. وكان جمهور السيرك يدفع لرؤية المخلوقة التي كان يفترض فيها ان تمثل الحلقة المفقودة بين القرد والانسان. وكانت فتاة البوشمان تعرض عارية كي يتأمل الجمهور بطريقة "علمية" خصائصها العرقية وبالذات "خصائص" أعضائها الجنسية التي ألهمت أدبيات التاريخ الطبيعي للعنصرية الأوروبية صفحات مخجلات قلما يجود الزمان بمثلهن. بعد خمس سنوات من وصولها لباريس توفيت سارتجي باارتمان أثر اصابتها بالتهاب رئوي الا أن مسلسل شقائا لم ينقطع بموتها فقد تكالب عليها "علماء" زمانهم وقطعوا أوصالها باسم الدراسة العلمية وحفظوا مخها وفرجها في قماقم زجاجية ظلت مبذولة لزوار"متحف الانسان" بباريس حتى نهاية القرن العشرين. وبعد انهيار نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا ارتفعت أصوات بضرورة اعادة ما تبقى من جسد فتاة البوشمان لدفنها في موطنها. كن الغريب في الأمر هو أن القماقم الزجاجية التي تحتوي على أوصال سارتجي باارتمان اختفت من المتحف ـ بقدرة قادر ـ ولم يعد هناك من هو قادر على رد غربتها وسط عًهَـد المتاحف ومحفوظات الفنأفريقانية المشينة.
لكن التاريخ الطبيعي للبربرية الأوروبية في أفريقيا لم يكشف بعد عن كل فظائعه المتحفية، فقد نقلت وكالة الـ "آسوشيتيد برس" في تقرير لها بتاريخ 30ـ 6ـ2000 أن السلطات الاسبانية قررت أن ترسل الجسد المحنط لرجل أفريقي محفوظ في متحف مدينة "بانيوليس" الكاتالانية، قررت أن ترسله الى "بوتشوانا" لدفنه فيها بوصفها موطنه. كان الجسد معروضا منذ 1916 ي متحف المدينة. وأصل الحكاية يبدأ في القرن التاسع عشر في "بتشوانا" حيث قام مغامر فرنسي اسمه "ادوار فيرو" بنيش القبر وسرقة جثة "المحارب الأفريقي" وتحنيطها وبيعها لعالم التاريخ الطبيعي الاسباني "فرانسيسكو داردير" والذي قام بمنح الجسد لمتحف التاريخ الطبيعي لمدينة "بانيوليس" .
وهكذا لا يفلت عرض أشياء الثقافة الأفريقية من تاريخ العلاقة السوداء الدامية بين أوروبا وأفريقيا. وهي علاقة محورها الموت، موت الأفارقة. وفي المنظور الأوروبي الاستعماري فان الأفريقي الطيب هو الأفريقي المحنّط على نحو العبارة العنصرية التعيسة التي كان المستعمرون البيض يرددونها بلا خجل في أفلام رعاة البقر الهوليودية
«A good Indian is a dead Indian !»
واذا كانت ميزة الكائن المحنّط الأساسية هي ثبات صورته واستعصاءها على التحول الذي يدرك الأحياء فان مساعي الفنأفريقيين الأوروبيين لتثبيت صورة أهل القارة الافريقية على هيئة واحدة لا تتغير انما يكشف عن قناعة مضمرة في الخاطر الأوروبي فحواها موت الأفارقة الأكيد. أي والله لقد متنا وشبعنا موتا في خاطر سادة زماننا من الأوروبيين الذين سيحسنون اليناايما احسان لو حنطوا جثثنا ليؤثثوا بها متاحفهم وصالاتهم ومنتدياتهم الثقافية فتفهم الأمم ما خفي من أمرثقافاتنا وفنوننا.
في مطلع الثلاثينات نظمت الدولة الفرنسية من خلال متحف "تروكاديرو" حملة اثنوغرافية لجمع عناصر الثقافات المادية والروحية عبر أفريقيا. كانت تلك الحملة تعرف رسميا بـحملة "داكار جيبوتي". و كانت خطتها عبور القارة من أقصى غربها للأقصى شرقها وجمع وتسجيل كل ما يمكن تسجيله من تجسدات الثقافة الأفريقية. وكان على رأس الحملة البروفسير "مارسيل غريول" من أعلام الاثنوغرافيا الفرنسية تصحبه نخبة من أميز رواد الاثنوغرافيا ويعاونه شاعر سوريالي شاب هو "ميشيل ليريس" الذي سينشر لاحقا يوميات الحملة التي امتدت لعامين في كتابه القيم "أفريقيا الشبحية". وهو نفس "ميشيل ليريس" الذي سيصبح من أميز نقاد الاثنولوجيا الفرنسية في زمن الاستعمار مثلما هو نفس "ميشيل ليريس" الذي سيصبح من رواد الآيديولوجيا الفنأفريقانية التي تفسد على أهل أفريقيا أمور فنهم اليوم.
للمساهمة في الدعم المالي لحملة "داكار جيبوتي" سعى القائمون على أمرها لتنظيم الحفلات الخيرية في الأوساط الباريسية آنذاك فكان بعض نجوم المجتمع الفني وبعض المشاهير ينظمون حملات التبرعات لصالح "داكار جيبوتي". وقد ساهمت الراقصة الأمريكية السوداء "جوزيفين بيكر" في هذا المجهود بريع بعض استعراضاتها سيما وأنها كانت السوداء الأكثر شهرة في أوروبا كلها آنذاك. وبجانب "جوزيفين بيكر" كان المجتمع الباريسي يحتفي بملاكم أمريكي أسود، حائز على لقب بطل العالم في الملاكمة، اسمه "آل براون". وفي أمسية منتصف شهر أبريل 1931 تم تنظيم ماتش ملاكمة خيري قبل فيه "آل براون" أن يلاكم للحفاظ على لقبه والتبرع بريع الأمسية لدعم حملة " داكار جيبوتي" وذلك ـ حسب عبارة الباحث "جان جامان" ـ في مقدمته لكتاب "ليريس"، مرآة أفريقيا، "لكي تتحقق معرفة أفضل بأرض أسلافه ولرد الاعتبار لبني جلدته السود. ومن خلال مشهد هذا العرض الرياضي "تم عرض الجسد الزنجي في أكثر أبعاده حسية ـ ومن باب أولى ـ أكثرها حيوانية، بيد أن القائمين على تهيئة الحلبة في هذه الأمسية لم ينسوا أن يضعوا عند كل ركن من أركان حلبة الملاكمة أحد حراس "متحف تروكاديرو الاثنوغرافي" بكامل بزته الرسمية فكأنما الجسد الأسود المعروض على الحلبة ، تحت رقابة حراس المتحف، كان يرهص لتعريف مركز" الأشياء الزنجية" «Objets Négres» التي ستجلبها حملة "داكار جيبوتي" بعد عامين من أرض أجداد الملاكم الأسود لتعرضها في صالات متحف الاثنوغرافيا تحت رقابة نفس الحراس المنتصبين حول الحلبة". أنظر "مرآة أفريقيا" ص 27.28Michel Leirie, Miroir d’ Afrique, Paris Gallimard, 1996, pp. 27,28.

انظر الرابط
https://sudan-forall.org/sections/plasti ... usa03.html 



سأعود
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

في مكائد الهويولوجيا

مشاركة بواسطة حسن موسى »

مكيدة الهويولوجيا الإستبعادية

دعاني " جان هيوبير مارتان" ـ في 1999 ـ للإشتراك بعملي في معرض بينالي ليون الخامس الذي نظمه تحت عنوان " قسمة الإكزوتية" الذي ينطرح كإمتداد لتجربة معرض "سحرة الأرض"
Partage d' Exotisme,Lyon,2000

Link
https://msu.edu/course/ha/491/partage_d'exotismes.htm

و في خطابه بتاريخ 8 مارس 1999 نصحني "مارتان" بالعناية بهويتي الثقافية و التحسب من مخاطر النزعة التحديثية في الفن.و ذلك لأن " تبني الموقف الحداثي في التعبير يمكن أن يعتبر تقدما يعارض الظلامية و الجمود المفهومي القديم، لكن الموقف الحداثي يملك أيضا أن يعتبر فقدانا للهوية و إمتثالا للهيمنة الثقافية و السياسية و الإقتصادية للغرب".,ـ
طبعا فكرة عرض عملي في معرض كبير ينظمه " مارتان" شوّقتني للمشاركة في " قسمة الإكزوتية" و عرض عملي جنبا لجنب مع أعمال نخبة مرموقة من الفنانين المعاصرين .لكن « قلبي أكلني» و أنا أتأمل في نصيحة هذا الـ «مارتان» التي تحثني على العناية بهويتي الثقافية و تجنب الضياع في متاهات الحداثة الجمالية.و طافت بخاطري جملة من التساؤلات حول المشروعية المفهومية ،الجمالية و السياسية، التي يسوغ عليها«مارتان» إتخاذ موقف الناصح ، و حول المنفعة التي يجنيها من توجيه النصح للعشرات من الفنانين المدعويين للمشاركة في معرض "قسمة الإكزوتية ».[سأعود بتفصيل لموقف مارتان ضمن تناولي لسياسة عرض الفن غير الأوروبي فصبرا].ـ
كنت أظن أن "مارتان" الذي يتابع عملي يستحق مني أن اشرح له بعض التركيب المفهومي الذي يتعلق بعملي كفنان غير أوروبي و بوجهة نظري في مسألة الهوية الأفريقانية التي تصم فن الأفارقة بوصمة " الفن الإكزوتي"، التي هي وصمة سياسية جائرة مموهة تحت غشاء التصنيف المنهجي البريئ.ـ
كتبت لمارتان رسالة أشرح فيها رغبتي في المشاركة في " قسمة الإكزوتية" مع تحفظاتي حول الإطار المفهومي للمعرض الذي يعتبر " كل ثقافة إكزوتية بالنسبة للثقافة الأخرى" :ـ
    Chaque culture est exotique pour l’autre.
ـ 

و هكذا جاءت رسالتي أدناه :
دوميسارق في 5/5/1999
عزيزي جان هيبير مارتان ،
أثر خطابك بتاريخ 8 مارس،ابعث لك طيّه مجموعة من الوثائق الفتوغرافية و بعض النصوص .و بالنظر في هذه الوثائق، التي يعود بعضها لمطلع التسعينيات،بدا لي أن معظم مكاتيبي تدور حول ظاهرة الفن الإفريقي ، و ذلك رغم أن همّي الفني الإبتدائي كان بعيدا عن هذا المبحث. ربما لأن شاغل الفن الإفريقي ارتبط بواقع إقامتي في فرنسا في العقدين الماضيين. فقد خبرت فيها،أكثر من مرة ،تجربة إحالتي ـ كفنان ـ نحو أصلي الإفريقي و نحو صورة معينة لإفريقيا. و قد اضطررت ـ أنا الفنان القادم من إفريقيا ـ لأن أعتبر " الفن الإفريقي" عقبة تعترض مشروعي الفني أكثر منه إطارا مواتيا لتحققي الفني.و موقفي هذا كان يجر علي آيات الإستغراب من طرف الأشخاص الذين لم يدر بخلدهم أي شك حول ثبات عقيدة الفن الإفريقي،أو كما قال صديق فنان جمايكي يحيا في لندن مستنكرا قولي بأن الفن الإفريقي المعاصر لا وجود له في واقع حياة الإفارقة :ـ"و لكن لا يمكن أن تنفي أن هذه هي هويتك و جذورك" .ـ
و اليوم حين أتأمل في موقفي ضمن مشهد الفن الإفريقي المعاصر أجدني أقبل ـ و عن طواعية تامة ـوجود اسمي في ملفات منظمي معارض الفن الإفريقي المعاصر. هؤلاء الناس الذين يشكلون بضعة عشرات من الأشخاص الموزعين في العواصم الأوروبية، و الذين هم على إرتباط مع شبكة منظمات الدولية، العامة و الخاصة، المنخرطة، بطريقة أو بأخرى، في عمليات تقديم النتاج الفني غير الأوروبي للجمهور الغربي.هؤلاء الناس ظلوا يشكلون الفرصة الوحيدة أمام المبدعين الأفارقة لعرض نتاجهم للعالم. طبعا" نو بروبلم "،إذا وافق هذا الواقع مجموعة الفنانين الأفارقة المعنيين، كما ليست هناك مشكلة إذا قبل هؤلاء الفنانون الأفارقة المواصفات و المناهج التي يتوسل بها منظموا المعارض الأوروبيون لعرض فن الأفارقة. لكني، بصفتي كفنان وافد من إفريقيا،حين أعبر عن إعتراضي على مواصفات منظمي معارض الفن الإفريقي، فعاقبة إعتراضي تتمثل في التجاهل و ربما اللعنة من قبل المؤسسات التي يمكن أن تساعدني في عرض عملي على العالم.ـ
الفن الإفريقي هو لبس مفهومي عرقي [ إثني] جسيم أحاول الإنتفاع به دون توسيعه ، و هو موقف جد حرج كونه لا يتيح لي سوى هامش مناورة بالغ الضيق.ـ
و بصفتي كفنان مولود في إفريقياو في نفس الوقت فنان زاهد في حمل عبء الفنان الإفريقي، فأنا واع بأن المناسبات النادرة التي أتيحت لي لعرض عملي خارج إفريقيا إنما تمت ضمن الإطار العرقي [ الإثني] حيث يتم الإحتفال الموسمي بإفريقيا بعينها و حيث ينعم علي المنظمون الـ " آخرون" بصفة " الآخر" الإفريقي. هذه الوضعية الغارقة في التلبيس المفهومي تعطيني الإنطباع بكوني أمثل كرهينة لهذه الآلة الغريبة التي تدمج الفنانين المولودين في إفريقيا في عالم الفن المعاصر بشريطة نفيهم لهامش هذا العالم. و حين أقول بأن الفنانين الأفارقة لا يشكلون فئة مفهومية حقيقية ، فقولي يدهش الأوروبيين المعنيين بمشهد الفن المعاصر في إفريقيا أكثر مما يدهش الفنانين المولودين في إفريقيا.ربما لأن الفنانين المولودين في إفريقيا لا ينظرون لأنفسهم كفنانين أفارقة إلا حين يقفون في موقف المقارنة مع أوروبا.ربما لأن الفن الإفريقي كفئة مفهومية يستعصي على الفهم خارج إطار الـصناعة الـ " فنأفريقانية"ـ لو جازت ترجمتي للعبارة :ـ
Artafricanisme
، ـ و «  الفنأفريقانية » تبدو في مشهد الفن المعاصر بمثابة الفضاء المفهومي الأوروبي الوحيد الذي يقبل حضور الفنانين الأفارقة.ـ
أقول : بصفتي كفنان مولود في إفريقيا، [و هذه فئة مفهومية بدون لبس]، أعتقد أن ما يسمى بالفن الإفريقي المعاصر، ليس سوى أحد تحولات تقليد الفن الأوروبي.كما أعتقد أن ميل الأوروبيين للإحتفال بالنتاج الفني للأفارقة اليوم ـ بدلا عن الإحتفاء بالنتاج الفني للإسكيمو أو الهنود الحمر، هو أمر لا علاقة له بالنوعية الجمالية لنتاج الأفارقة ، و إنما علاقته قائمة ضمن ملابسات تطور الفكر الجمالي الأوروبي. و سيأتي اليوم الذي يستنفذ فيه الأوروبيون طاقة الموضوع الإفريقي و يديرون فيه ظهورهم لهذا الفن الإفريقي ليعتنوا بموضوعات مغايرة أكثر قدرة على تقبل هواجسهم و آمالهم.ـ
ماهي توقعات الجمالية الأوروبية التي تحفز الأوروبيين على فبركة فنهم الإفريقي الخاص؟ هذا الفن الإفريقي الذي لا يراه الأفارقة ابدا لأنه غالبا ما ينتج في أوروبا للأوروبيين الذين يقتنونه و يعرضونه و يجعلون منه موضوعا للتفاكر الجمالي.ـ
إن ساغ الحديث عن حافز جمالي يحفز الأوروبيين على العناية بالفن الإفريقي فهذا الحافز الجمالي يموّه من وراءه حافزا أخلاقيا في المقام الأول.كتب " بيير غوديبير" :ـ" لقد فقدنا حس القداسة منذ أن وضعنا يسوع في المتحف"و "غوديبير" الذي يعتبر الفن الإفريقي كـ " مستودع إحتياطي ضخم لقيم القداسة" [ هو أحد رواد تقديم معارض الفن الإفريقي المعاصر في فرنسا منذ منتصف الثمانينيات] .المحمول الأخلاقي يمكن الناس من تعريف كينونتهم الجمعية مثلما يمكنهم من تعريف الحدود بين الخير و الشر و تثبيت قيم و معاني الحياة و الفن إلخ.ـ و عليه فإذا كان الهاجس الأخلاقي للأوروبيين يتركز على إفريقيا كموضوع و كمرآة، فما ذلك إلا لأن القارة الإفريقية هي المسرح الذي شهد و يشهد اليوم عن مواقف الأوروبيين المجردة من كل إلتزام أخلاقي تجاه الذات و تجاه الآخر. و لهذا نشهد كل الأرواح النصرانية المعذبة تعكف باإنتظام على طقس "غسل أرجل الفقراء" الأفارقة في المهرجانات و المناسبات الفنية الأوروبية و التي تكرس الإفريقي كفنان يجري الفن و الإيقاع في شرايينه بالفطرة.ـ
أقول هذا و لا يضيرني أن إسمي ماثل في أضابير منظمي معارض الفن الإفريقي الذين يدعونني من حين لآخر للمشاركة في معارض " الفنأفريقانية"المريبة ، بل و أجد كل هذا إيجابيا لأن الفضاء الناتج من دينامية الفنأفريقانية صار منبرا مناسبا لبذر بذور الشك حول مسوغات الظاهرة الفنأفريقانية" بين الفنانين و بين المنظمين رغم مخاطر التكريس المحتمل لشخصي في دور الفنان الإفريقي المناط به إثارة القلاقل في حضن المؤسسة.رغم ذلك أرفع راية تفاؤلي لأن العالم يتغير بطريقة متسارعة و هناك المزيد من الناس الذين يتشككون و و يتساءلون حول المصداقية النقدية و الأخلاقية لمصنف الفن الإفريقي
حسن موسى"

سأعود
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الهوية الثقافية كساحة مواجهة طبقية

مشاركة بواسطة حسن موسى »



10



حدود " الآخروية":ـ
بين "جان كلير" المشفق على هوية الأوروبيين الجمالية من تطفل الأفارقة و "جان هيوبيرت" مارتان المشفق على هوية الأوروبيين الجمالية من غياب الأفارقة، يمكن أن نقرأ مركزية موضوعة الهوية في الشاغل الجمالي للأوروبيين.ـ"
« .. »

واذا تفحصنا محتوى التظاهرات الفنية الكبيرة من معارض و مهرجانات وبيناليات، مما نظمه رعاة الفن المعاصر الأوروبيين في هذا المشهد، مشهد الزعزعة البديعة التي تعصف بالقوم ـ اللهم لا شماتة ـ للمسنا أن موضوعة الهوية تحتل مركز الحظوة بين الموضوعات التي انتظمت المعارض الأوروبية الكبيرة في العقدين الأخيرين وان تمت تسميتها بأسماء متنوعة.و القائمة طويلة من "الآخر والأنا"، "التمازج" أو "الهجنة الثقافية" أو" الحوار بين الثقافات" أو "المواجهة". واذا كان جان كلير نفسه، بصفته مدير المعرض المركزي لبينالي البندقية لعام 1995، قد قدم معرضه الاوروبي الخالص على موضوعة الهوية تحت عنوان" الهوية والاخروية، تاريخ موجز للجسد الانساني عبر القرن"
«Identità e Alterità»,(Identité et Alterité: une brève histoire du corps humain à travers le siècle)،
فذلك، من جهة، لأن أرض الفن قد صارت الملاذ الأخير الذي ما زال بامكان الأوروبيين فيه أن يتساءلوا حول صلاحية هوية أوروبية مشتركة. و من الجهة الأخرى، يبدو موضوع معرض جان كلير ـ المنزّه عن حضور فناني العالم الثالث ـ مندرجا بالضرورة في مدار القلق الهويوي الأوروبي المسقط على الأفارقة، ذلك أننا ان تفحّصنا محتوى المعارض والتظاهرات الفنية التي يكرسها الأوروبيون اليوم لأفريقيا لوجدنا أغلبها ـ وقيل كلها بلا استثناء ـ يعتمد بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر على موضوعة الهوية.
وهكذا، تحت شرط الأزمة الهويوية الأوروبية التي تمخضت عنها التحولات الوجودية لمجتمع السوق، صار قدر الأفارقة أن يحملوا "عبء الرجل الأبيض" على أكتافهم السوداء المنهكة. والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
ان الهوية الأوروبية بسبيل تأمين بقائها فهي تبادر الى استدعاء"آخرها"، وقيل "طبقها الآخر" لو جازمفهومي في تسويغ النقائض ـ [و كل شي في الحيا جايز ] ـ أقول ان الهوية الأوروبية حين تستشعر الخطر فهي تستدعي طبقها الآخر أو نقيضها المطابق المتمثل في الهوية الأفريقية، وهو نوع من "فرانكنشتاين" فبركته من وحي أوهام الأنانية العرقية التاريخية.هذه الرؤية الأوروبية لـ "الآخر" والتي يبدو الفنانون السود بمثابة مسندها الطبيعي، تفرض نفسها بقدر ما يستشعر الأوروبيون انمحاق الحدود التي كانت قائمة بينهم وبين الآخرين في الماضي، وبقدر ما يحسون أن هويتهم الأوروبية لم يعد لها وجود الا في الخيال المتاحفي، وبقدرما يعون أن هذه الحظوة القديمة، حظوة توصيف غيرهم بصفة "الآخر"، قد زالت في العالم المعاصر الذي لا يكون الفرد فيه الا كـ "آخر" لـ "آخر" خلافه.
ان مفهوم "الآخر"، كما يطرحه" الفنأفريقانيون" الأوروبيون، انما ينطوي على لبس مفهومي أخلاقي يسمح للأوروبيين أن يمارسوا وجودهم ضمن حداثة الحاضرة الصناعية الأوروبية ـ وفي نفس الوقت ـ يعيشون تقليد القرية الأفريقية البدائية. انهم يحتلون موقع ذواتهم وموقع ذوات الآخرين في آن ويكون الواحد منهم آخرَ في مكان "الآخر". ويبدو أن هذا اللبس المفهومي هو، في نهاية المحصلة، الاجابة الوحيدة التي قدمتها ثقافة مجتمع رأس المال الأوروبي لسؤال الفن والثقافة الأفريقية. وهي إجابة خاطئة لأنها، من جهة، تمنع الأوروبيين من رؤية الأفارقة ضمن شرطهم الواقعي بوصفهم ضالعين في تركيب العالم وتعقيده، ومن الجهة الأخرى فهي تمنح الأوروبيين مرآة أفريقية مشوهة تعكس للأوروبيين الذين ينظرون اليها صورة اوروبية كاذبة. .ـ أللإستزادة نظر نصي " من إخترع الأفارقة 3 "على الرابط
.:ـ
https://www.sudan-forall.org/sections/pl ... usa04.html

مكيدة الهويولوجيا الأوروبية تتلخص في كونها تفبرك وضعية مزيفة لمعادلة تزعم التوازن بين الهوية الأوروبية و الهوية "الأخرى" [ إفريقية أو آسيوية إلخ].و ضمن هذا التوازن يطرح كهنة الهويولوجيا الأوروأمريكيون فرص حوار أو/و حرب الهويات كمنظور وحيد لخلاص المجتمع العالمي.طبعا مشكلة هذا الطرح تكمن في تجاهله لواقع الصراع الطبقي العالمي الذي ظل الأوروبيون فيه، لقرون ، يحتلون موقع القوة بالمقارنة مع القوى الإجتماعية غير الأوروبية.و الحظوة الطبقية التي يتمتع بها الأوروبيون تكذب دعاوى المساواة بين الهويات المستقلات المناط بهن تخليق الشراكة و القسمة العادلة . و في هذا المشهد تفسد مقولة " قسمة الإكزوتية" لأن الأوروبيون يحتكرون لأنفسهم حق القوامة الكيفية و الكمية على عملية القسمة. الأوروبيون هم الذين يشرعنون لمبدأ قسمة الإكزوتية مثلما هم الذين يدبرون العواقب المفهومية و العملية لعملية قسمة الإكزوتية. و في هذا السياق فالـ " الشريك" الآخر ليس سوى كم خامل شأنه شأن الميت بين يدي غاسله يفعل به ما شاء. لكن تبقى مشكلة حقيقية أمام القوامة الأوروبية الكذابة، و هي أن الميت المزعوم لم يعد يستسيغ أحبولة موته المزعوم ـ
و فكرة " قسمة الإكزوتية" التي طرحها "مارتان" شعارا لمعرضه ليست جديدة كل الجدّة ، لأننا نجد أصلها ضمن الزخم الأدبي السياسي و الأنثروبولوجي
لحركة التضامن الأوروبي مع نضال مجتمعات العالم الثالث للتحرر من الإستعمار.ـ
فالفكرة المحورية لمعرض " قسمة الإكزوتية"، كما يطرحها «مارتان»، هي أن كل ثقافة تبذل بعدها الإكزوتي في مرآة الثقافات المغايرة. و على هذا الزعم "يؤثنن" مارتان ـ[العبارة مخرّجة من صيغة الـ " أثننة" في معنى إسباغ صفة الإثنية.وأفضلها على " يعرقن"حتى أجد ترجمة أكفأ] ـ يؤثنن " مارتان" كل الثقافات
ethnicisation
.ـبما فيها الثقافة الأوروبية.و يخلص لمسخ المجتمع الأوروبي ككيان "إثني" كبير،أو هو الكيان الإثني الأكبر و الأشد بأساـ

و هكذا عند مربط "مارتان"/"كلير"،نجدنا بين موقفين أوروبيين ظاهرهما التناقض و باطنهما التكامل. و" إذا كان "جان كلير" يسعى لبناء الأسوار العالية لتحصين الثقافة الأوروبية وفصلها عن الثقافات الأخرى، فإن "جان هيبير مارتان" يتبع أسلوبا مغايرا فحواه صيانة حدود الآخرين على مزاعم المساواة والتعارض والتساند على حق الأصالة. "جان هيبير مارتان" يرى غير الأوروبيين كأنداد قابلين للمقارنة وللمعارضة مع الأوروبيين. بل هم قمينون برد النظرة التي يلقيها عليهم الأوروبيون بنظرة ندية معاكسة. وفكرة "رد" النظرة الأوروبية في نظري[الضعيف]، ليست منزّهة تماما من شبهات العرقية، بالذات حين يحاول الأفارقة رد النظرة الأوروبية العرقية بنظرة افريقية عرقية معاكسة. وقد وجدت هذه الفكرة الغريبة بعض الصدى في شعار"عكس البخار" أو"رد البخار
"«reversing the steam» «Renverser la vapeur»
الذي رفعه منظموا معرض أول بينالي في جنوب أفريقيا ما بعد الأبارتايد فكأنهم يبشرون العالم بأبارتايد معاكس.
« .. »

"
Ethniciser وفكرة "عرقنة" الثقافة الأوروبية
تسوّغ لـ "مارتان" تأسيس مفهوم المساواة بين كافة الثقافات بلا استثناء على طموح إنساني نبيل فحواه تحقيق وحدة الأعراق والثقافات المتعددة سعيا إلى اليوتوبيا العالمية [وقيل "العولمية"]. وفي هذا الأفق تكتسب كل ثقافة مشروعيتها من رغبتها في الاندغام في اليوتوبيا الأوروبية، تحت رعاية أوروبا، التي، باسم حظوتها التاريخية الموروثة من عهد الاستعمار، ترى نفسها بشكل طبيعي كصاحبة المبادرة[اقرأ "مالكة المبادرة"] ومن ثمّ فهي تعطي نفسها حق احتكار إدارة المشروع الطوباويي وتعريف الشروط التي يتحقق على هديها.
وعرقنة أوروبا بذريعة النظر المعكوس الصادر من طرف غير الأوروبيين هي فكرة قديمة عزيزة على "ميشيل ليريس"، رائد الإثنولوجيا الإفريقية في فرنسا و الأب غير الشرعي للفن الأفريقي المعاصر. وكان" ليريس" قد أطلق ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم "النظر الراجع" لمعالجة الوضعية المذنبة للباحث الاثنولوجي المبعوث إلى المستعمرات من قبل مؤسسات السوق الرأسمالي. وفي خصوص علاقة الباحث الاثنولوجي بالدولة الاستعمارية يقول "ليريس" في كتابه "خمس دراسات في الاثنولوجيا" "مهمتنا الاثنولوجية ما هي إلا تكليف من طرف الدولة. ونحن آخر من يتبرّأ من عواقب السياسات التي تمارسها الدولة وممثلوها على هذه المجتمعات التي اخترناها نحن كموضوع للدراسة".
Michel Leiris, Cinq Etudes d’Ethnologie, Paris, Denoël/Gonthier, 1969, p.87
ورغم ذلك فـ "جان هيبير مارتان ـ كما سنرى ـ "لا يتّبع خطى الأب الروحي للفنأفريقانية الفرنسية بإخلاص "الحافر على الحافر". إن فكرة "ميشيل ليريس" ـ اذا صرفنا النظر مؤقتا عن طموحها الانساني الطوباوي ـ تبدو، من منظورعلاقة الاثنوغرافيا والاستعمار، فكرة ثورية "مخرّبة" بقدر ما هي فكرة مغرقة في الغشامة السياسية. ولا عجب فمن غير "ميشيل ليريس" ـ الاثنولوجي والشاعر السوريالي ـ من غيره قمين باطلاق مثل هذه الفكرة السوريالية التي تطعن في مبدأ الاثنوغرافيا كمبحث استعماري وتجعل الرجل يبدو كمجنون على شجرة مشغول بقطع الفرع الذي يجلس عليه؟.ـ
يقول "ليريس" "اذا نظرنا للاثنوغرافيا كأحد العلوم التي ينبغي أن تساهم في تأسيس فكرة انسانية حقيقية، فنحن، بلا شك، نصاب بالحسرة على كون هذا العلم الاثنوغرافي يبقى آحادي الجانب. أعني أنه اذا كانت هناك اثنوغرافيا غربية تدرس ثقافات الشعوب الأخرى فان العكس غير موجود ".."و من وجهة نظر معرفية فهناك نوع من اختلال في التوازن يزيّـف منظور البحث ويؤمّن على ميلنا الاستعلائي. وهكذا تجد حضارتنا نفسها بعيدا عن متناول الفحص والدراسة الذين يمكن أن تباشرهما تجاهها هذه المجتمعات التي نجعل منها موضوعا لبحثنا".
وهكذا يبدو أمر "ليريس" في حقيقته أمر اصلاح طموح، اصلاح مزدوج يستهدف صيانة الكفاءة المنهجية للعلم الاثنولوجي مثلما يستهدف صيانة الكرامة الانسانية لطرفي الظاهرة الاثنولوجية. و في هذا المشهد يطرح "ليريس" مفهوم "قسمة العلم الاثنوغرافي" بالتساوي بين الفرقاء. وذلك في مطلع الخمسينات كما يشهد بذلك خطابه أمام "جمعية العاملين العلميين، قسم العلوم الإنسانية" والمعنون "الاثنوغرافيا أمام الاستعمار" ».ـ".
و فكرة "القسمة" العادلة في مشهد "ليريس" تقوم على "أن يتم تدريب باحثين اثنوغرافيين في البلدان المستعمـَرة و اتاحة الفرصة لهم كي يبعثوا عندنا في أوروبا ليدرسوا ويبحثوا في أساليب حيواتنا". لكن "ليريس" الشاعر الألمعي والمناضل التقدمي المعادي للاستعمار [الـ "واقع من السما سبع مرات"]، أدرى بأن الأمر، أمر القسمة العادلة، ليس بالبساطة التي يبدو عليها، كون مجمل العلائق بين المستعمِـرين والمستعمَرين تبقى ملغومة بواقع الهيمنة وأحكامه. ولذلك فهو يقول مستدركا "المشكلة هي أن هؤلاء البحّاث سيعملون وفق المناهج التي علمناهم إياها وأن الاثنوغرافيا التي سينتجونها تبقى أسيرة نظرتنا ومناهجنا"
Leiris pp. 106-111
ما العمل؟
ترى هل يستقيم هجران الاثنولوجيا لانقاذ الأفارقة؟
"كـُـس أم" الاثنولوجيا إن كانت صيانتها تمدّد من واقع قهر العباد في أفريقيا ...».و كس أم الإكزوتيكا و كس أم الفن و كس أم أوروبا و كس أم العالم المتواطئ على قهر الفقراء باسم الفن و باسم حوار الحضارات و باسم محاربة الإرهاب و غير ذلك من ترهات بروباغندا النظام الإستبدادي العالمي الذي لا يقول اسمه. للإستزادة أنظر نصي " من إخترع الأفارقة ؟" [5 ]على الرابط
https://www.sudan-forall.org/sections/pl ... usa06.html
ـ
سأعود

محمد عثمان أبو الريش
مشاركات: 1026
اشترك في: الجمعة مايو 13, 2005 1:36 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد عثمان أبو الريش »

عندى سؤال احب اوجهه لأهل مكة:
وكثيرا ما اسمع (وارى) عن هذا فن افريقى وهذا فن اوروبى وهذا فن شرقى (صينى مثلاً).. الحكاية دى حتى لو اتبلعت ما قادر الواحد يهضمها.
السؤال: هل الفن مادة سائلة أم دراب؟

وشكراً
Freedom for us and for all others
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

و " القرصنة الحضارية"

مشاركة بواسطة حسن موسى »




كتب محمد عثمان أبو الريش :ـ"

عندى سؤال احب اوجهه لأهل مكة:
وكثيرا ما اسمع (وارى) عن هذا فن افريقى وهذا فن اوروبى وهذا فن شرقى (صينى مثلاً).. الحكاية دى حتى لو اتبلعت ما قادر الواحد يهضمها.
السؤال: هل الفن مادة سائلة أم دراب؟

وشكراً
« 


نيخاو يا محمد عثمان و شكرا على سؤالك النجيض.ـ
يا محمد عثمان إذا اصابتك وعكة في الصين فالطبيب يملك خيار أن يعالجك بالطب الغربي"سي يي"، أو بالطب الصيني" جونق يي"، ذلك لأن أهل الصين[ أهلي] قد طوروا تقليد التطبيب الصيني و دمجوه في معارف العصر و صدّروا تقنياته للعالم كله. و الطب الصيني حالة نادرة من حالات الفلتان الناجح من هيمنة التقليد الثقافي الأوروبي الذي يستقوي بجاه رأس المال على تقاليد الشعوب غير الأوروبية.و لو فحصنا حالة السودانيين من منظور التجربة الصينية يصيبنا حزن و غم و غبن من تردي واقع التطبيب عندنا لأننا فرطنا في ميراث التطبيب السوداني وعجزنا عن تحصيل تقليد التطبيب الأوروبي. و حين أقول « عجزنا » فعبارتي لا تعني تقاعسنا أو كسلنا أو حيرتنا مما درجنا و درج غيرنا على ترويجه ، دون وجه حق، في حقنا ، و إنما أعني أن ملابسات هيمنة قوى رأس المال الأوروأمريكية تخلق شبكة من المعوقات الحقوقية و التقنية التي تضيق فرص أهل المبادرات الثقافية غير الرأسمالية في تحقيق أية مشروع أولويته خدمة الصالح العام. بل أن دوائر رأس المال الأوروأمريكية لا تتورع عن إتخاذ مواقف إجرامية بسبيل تأمين مصالحها المادية.و لعل مثال «  القرصنة البيولوجية » الذي ابتدعته دوائر رأس المال الصناعية في أوروبا و أمريكا يلخص بكفاءة نوع الصعوبات التي تتربص بمحاولات الفلتان من هيمنة دوائر رأس المال. و «  القرصنة البيولوجية"مصطلح حديث انصاغ في سياق سعي شركات الصناعة الصيدلية و الكيميائية الكبيرة إلى الإستحواذ على حقوق استعمال مادة طبيعية معينة
أو طريقة إنتاجها واستغلال ذلك تجاريا، مما يعني في كثير من الأحيان الاستحواذ على معارف الشعوب في مجال الطب التقليدي أو الزراعة التقليدية أو حتى في حقهم في تسمية منتوجهم كما كانوا يسمونه منذ قرون، وذلك عن طريق السعي إلى امتلاك حقوق تسويق أسماء معينة. كما فعلت شركة أمريكية حيث حاولت الحصول على حق تسويق علامة بسماتي، التي هي في الحقيقة اسم لنوع من الأرز معروف ومستعمل في الهند وباكستان. وفي حال تمكنت هذه الشركة من طلبها فإنه كان على الهنود أن يطلقوا اسما جديدا على أرزهم أو دفع أموال طائلة لاستعمال هذا الاسم. إلا أن الهند رفعت دعوى ضد الشركة وكسبتها.
ولعل الأمر يكتسي خطورة أكبر عندما يتحول الأمر إلى احتكار طرائق تقليدية في العلاج أي أنه مثلا لا يسمح باستعمال أي عقار يحتوي على المادة X في مداوات المرض Y إذا كانت الشركة قد سجلت براءة اختراع في مداواة Y ب X ، أو أنه لا يسمح لك باستعمال بذور معينة في فلاحتك لأن شركة ما قد قامت بتسجيل براءة اختراع في هذه البذور أي أنها حولتها جينيا وهي لم تقم بذلك إلخ...
ومن أنشط البلدان في هذا الميدان الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر تشريعاتها في هذا المجال فضفاضة بعض الشيء مما يسهل طلب وعمل براءات على أشياء كثيرة قد لا يمكن عمل براءات عليها وقد تقع تحت الملكية العالمية أو البشرية. والمثير للاهتمام حادثة وقعت مع شركة باير الألمانية، ففي حين كانت الولايات المتحدة ترفض تصنيع دواء منسوخ في علاج الإيدز لإفرقيا بشكل قاطع مستندة في ذلك على حق الملكية لفكرية وبراءة الاختراعات فقد أرغمت الولايات المتحدة هذه الشركة على تزويدها بعقارات مضادة للأسلحة الجرثومية بعد أحداث 11 سبتمبر بسعر بخس جدا بتهديدها أنه إذا لم تخفض السعر فإنها ستلقي قانون الملكية الفكرية جانبا وستعطي الترخيص لشركات أخرى لتصنيعه بأبخس الأثمان. »
الرابط
https://ar.wikipedia.org/wiki/قرصنة_بيولوجية

.و خلاصة هذا الأمر هو أن أهلك الأروأمريكيين ممكن بكرة أو بعد بكرة يقولوا للسودانيين ممنوع تزرعوا دخن أو حرجل او محريب عشان أنحنا عملنا براءة حقوق ملكية للدخن و الحرجل و المحريب ،و تاني أي زول عاوز يزرعهم لازم يدفع لينا حقوقنا في الأول و بعدين نديهو تصديق.ـ شايف؟.ـ
طبعا دا يبعدنا من موضوع ّدراب " الفن الإفريقي القلتو في تعليقك ،لكني أنتفع بسيرة التطبيب الصيني[ جونق يي] و الأوروبي[سي يي] لأنها تساعدني في طرح إشكالية الفن الإفريقي و الفن العربي.و في نظري الضعيف مافي حاجة إسمها "فن إفريقي" و مافي حاجة إسمها "فن عربي" و كله درّابّ و طين و زفت يغمرنا به سدنة ثقافة رأس المال و أنحنا قاعدين نراعي ساكت لامن بكرة يجينا خواجة يقول لينا خلاص أنحنا عملنا براءة ملكية لطريقة رسم القناع الإفريقي أو رسم الخط الديواني و تاني اي زول داير يعملهم لازم يخلصنا حقوقنا في الأول، و إلاّ نطلعه محاكم و ننزله محاكم لامن حمار الوادي يكورك.
يا محمد عثمان أنحنا في كلية الفنون بالخرطوم، على مستوى التحصيل النظري، لم ندرس تاريخ الفن الإفريقي و لا تاريخ الفن العربي، بل درسنا تاريخ الفن الأوروبي[ من ما قبل التاريخ للعصر الإنطيقي للعصور الوسطى للمرحلة الكلاسيكية إنتهاءا بالعصر الحديث]. و كمان على المستوى العملي مادرسنا تقنيات تشكيل بخلاف تقنيات التشكيل الأوروبي [ لوحة حامل و ألوان زيت و طبيعة صامتة و منظر طبيعي و بورتريت إلخ]و البركة في الخط العربي [و هيهات].
و أسباب غياب دراسات تقليد الفن الإفريقي و العربي عندنا، و عند غير الأوروبيين عامة، يمكن تلخيصها بأنه ليس هناك ميراث بحثي يعول عليه لبناء برامج أكاديمية في مجالات الفن الإفريقي و العربي. و يمكن القول أن الأدب الذي بنيت عليه برامج الدراسة في مؤسسات تعليم الفنون في العالم هو الأدب الذي طرحه الدارسون الأوروبيون ضمن عنايتهم بتقاليدهم الفنية. و القليل النادر من الأدب الذي يعالج تاريخ الفنون و الجماليات في إفريقيا أو العالم العربي هو من عمل بحاث أوروبيين حوافزهم و مناهجهم في تقحم مجالات الفنون في العالم غير الأوروبي ليست مبرأة من الشبهات الآيديولوجية الجمالية و السياسية التي نوّه بها «  جان كلير » في تسويغ رفضه عرض أعمال فناني العالم الثالث في بينالي البندقية عام 1995.[ سأعود لـلـ " شبهات" التي تلقي بظلالها على عمل الباحثين الأوروبيين في إفريقيا فصبرا].
يا محمد عثمان سؤالك عن حقيقة الفن الإفريقي أو الفن العربي، ممكن يتمدد ليشمل قطاعات تانية عن الإقتصاد الإفريقي أو الفكر السياسي العربي أو الأخلاق الهندية و هلمجرا.غايتو عايرة و أدوها سوط و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
سأعود
>>>
>>>>>>>>>>>>>>>
محمد عثمان أبو الريش
مشاركات: 1026
اشترك في: الجمعة مايو 13, 2005 1:36 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد عثمان أبو الريش »

سلامات يا حسن موسى..

الكلام الفوق مسح منطقة كبيرة وسأقتطع حتة اركز عليها.. وهى حتة براءات الإختراع.. والسبب انى شخصيا مخترع بعيد عنك.
الان وقبل حوالى شهرين سجلت براءة إختراع لنظام رى بالروبوت، هنا فى أمريكا، ورغم انى ما قادر اصنعه عشان القروش التى عدمها هو السبب الرئيسى للفلس.. ولكنى مطمئن للغاية إنو ما فى قرد حيقدر يصنع ويسوق النظام دا.. محروس لحد ما الله يفرجها.. شفت كيف.. والموضوع بسيط:
أنا صرفت حوالى عام كامل افكر وأقدر وأركز حتى حددت خصائص النظام الذى سيوفر 30% من الموية و100$ من الطاقة و90% من العمالة اليدوية.. وفى هذا السنة صرفت وقت ومال، والان اصمم النموذج الأولى يدويا وكلفنى حتى الان الاف الدولارات.. طيب نواصل.
هل أرضى أن يطلع احدهم بصورة ما على تصاميمى وعشان عنده القروش يمشى الصين وتانى يوم اشوف السوق غرقان بالجهاز الذى صرفت الغالى والنفيس فى تحديد ملامحه؟ الزول داك ما عمل ولا خسر قروش فى التصميم ولا ضيع سنة من عمره..
هل تعتقد اننى يمكن ان اواصل بحماس فى إبتكار نظام جديد فى مجال اخر؟
هل تعتقد لو انا وغيرى توقفوا عن الإبتكار للأسباب عاليه، ستتقدم المجتمعات حضاريا وتقنياً.. لو لا المبتكرين حقوقهم محمية لما استمتعنا اليوم بالتواصل الإنترنت أو الكتابة على الكمبيوتر. او حتى على الالة الكاتبة. أنتم الفنانين التشكيليين عملكم ما ممكن يتنسخ، ولو اتنسخ قيمته هى هى وقيمة المنسوخ رخيصة، ولذلك حقوقكم حافظنها بضراعكم وفرشاتكم.. لكن بالنسبة لينا الأصل والنسخ نفس النوعية، وربما خت الناسخ شوية قروش وزاد خصائص تخلى عملنا أقل قيمة إن لم يكن محروس بالقانون.. شفت كيف..
أفتنا دام فضلك.
Freedom for us and for all others
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

متحفة الأفارقة

مشاركة بواسطة حسن موسى »


12
متْحَفَة الأفارقة

سلام يا محمد عثمان
و الله لا تتصور مدى فرحتي بكونك توصلت لإختراع نظام هندسي للري منافعه الإقتصادية لا تخفى على أحد.و فرحتي لا تتفسر فقط بكوني أفرح لكل نجاح يدركه أصدقائي في كل مجال و لكني فرح أيضا بكونك حققت هذا النجاح في مجال الهندسة الذي درسته و تخصصت فيه ، ذلك أننا ظللنا نشهد الكثيرين من المهندسين و الأطباء و البياطرة و الصيادلة والحقوقيين و غيرهم ممن حصلوا المعارف العلمية النادرة ،بعرق الشعب الصابر، يشتتون طاقتهم في غوايات الأدب التي لا تحصى و يقضون سنين عمرهم في مغالبة الشعر و الرواية و النقد الأدبي إلخ.و طبعا أنا لا استكتر الخلق الأدبي على أحد ، فالزلابيا حق مشاع للجميع ، لكني أتوجس من عزوف العقول الموهوبة عن التوغل في المباحث العلمية الضرورية للتنمية الإجتماعية في مجتمعات الفقر التي تؤطر وجودنا المادي.و أنا يا محمد عثمان لا أدعو لتجاوز حق الملكية الفكرية للمبدعين و المخترعين و لا أقبل أن يسرق أحد جهدهم الخلاق،و هسع دي أنا تصاويري المنشورة في المجال العام عندي ليها حرّاس يراقبونها و أي زول ينهش منها بدون إذن ، يظهروا ليهو المحامين بتاعين جمعية حماية حقوق المؤلفين ، يطلعوه محاكم و ينزلوه محاكم لمن يقول الروب.و لكن كلامي يتعلق بالتطورات الحقوقية التي مدّدت موضوع الملكية الفكرية بطريقة تتيح للشركات الكبرى انتحال ملكية البذور والنباتات و الأنسجة الحيوية. فأهلك الأمريكان عملوا ليهم قانون من سنة 1980 يتيح تملّك الأنسجة الحيوية و ذلك بعد أن حسمت المحكمة العليا للولايات المتحدة القضية المشهورة بـ" داياموند ضد شاكرابارتي" في سابقة عدلية تبيح تملك الحيويات.
Diamond c. Chakrabarty (447 U.S. 303, 1980)
و عشان كدا جبت ليك سيرة الدخن و الحرجل.ـ شايف؟
الرابط
https://en.wikipedia.org/wiki/Diamond_v._Chakrabarty

و زي ما قلت الموضوع بتاعنا مجوبك و مشربك في أكتر من جهة، و أنا ناوي اركز على تطور " مدرسة الخرطوم" وجهة هذا الشيئ المسمّى بـ "الفن الإفريقي المعاصر"، و الذي هو مكيدة آيديولوجية بالغة الإلتواء غايتها استبعاد المبدعين الأفارقة من ساحة الخلق المعاصر




قلت في أسطري السابقة :ـ"
"أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت إضمحلال صيغة " مدرسة الخرطوم" على الصعيد المحلي لكن تيارالهجنة العربية الإفريقية ،في نسخته الخرطومية، انبعث في المشهد الأوروأمريكي بفضل ظاهرة العولمة الثقافية التي خلّقت في ثناياها دينامية جمالية جديدة صارت تعرّف تحت مصطلح " الفن الإفريقي المعاصر" . هذه الدينامية الجمالية هي المسؤولة عن الأسلوب الذي تخلقت عليه شجرة نسب الفن الإفريقي المعاصر بفرع أمريكي و آخر أوروبي.و من وراء الواجهة الجمالية يتموّه تدبير سياسي بالغ الإلتواء، على محاور الإستغلال الإستعماري و العرقية الأوروأمريكية.هذا التدبير السياسي الإستعماري يتنوع بتنوع المصالح في السياقين الأوروبي و الأمريكي.. ففي المشهد الإفريقي للسياسة الأوروبية تتأصل العناية بالفن الإفريقي في صميم مؤسسة الإثنولوجيا الإستعمارية التي اهتمت بالتعبير الثقافي للأفارقة ضمن مساعي السيطرة على المجتمعات الواقعة تحت الهيمنة الإستعمارية.و رغم التنويع الظاهر بين مناهج المستعمرين البريطانيين والمستعمرين الفرنسيين الذين اقتسما الغنيمة الإفريقية،إلا أن تاريخ الفن الإفريقي يحفظ للفرنسيين نصيب الأسد في عقلنة ظواهر التعبير الجمالي للأفارقة ضمن سياق الهيمنة الإستعمارية على السياسة الإفريقية.و قد انطرحت الإثنولوجيا الفرنسية كمكيدة ثقافية صنعتها الإدارة الإستعمارية الفرنسية بغرض النفاذ للوجدان الثقافي الإفريقي و فهم آليات السلوك الإجتماعي و علاقات السلطة داخل البنى التقليدية للمجتمعات الإفريقية.وكفاءة المكيدة الإثنولوجية القصوى تتمثل في كون الإثنولوجيين الأفارقة ، ممن استوعبوا الدرس الإثنولوجي الإستعماري، يستبطنون مبادئ الإثنولوجيا الإستعمارية و يواصلون مهمتها الطبقية حين يمسخون مواطنيهم الأميين ، لمقام " سكان اصليين" أزليين. و رغم أن الإثنولوجيا الإستعمارية قد نفذت لثنايا ثقافة الأفارقة التقليدية في لحظة مهمة من لحظات إنمساخ هذه الثقافة التقليدية تحت ضربات ثقافة رأس المال الإستعماري المهيمنة،إلا أن هذه الإثنولوجيا الإستعمارية لم تطق صيرورة التطور الإجتماعي للمجتمعات الإفريقية، بل و توصّلت لـ "متحفتها" في شكل جوهر ثقافي ثابت خارج التاريخ، سمّته "الثقافة الإفريقية" . و على اساس هذا "الجوهر الإفريقي" الأزلي تم تطبيق خطط هيمنة الإدارة الإستعمارية على المجتمع الإفريقي بطريقة تتجاهل التحولات التاريخية المستمرة التي يكابدها أهل القارة الإفريقية من جراء إنخراطهم في إقتصاد السوق الرأسمالي العالمي.و في مشهد متحفة المجتمعات الإفريقية اختلق الأوروبيون لأهل القارة نوع الهوية الثقافية و الجمالية و السياسية التي توافق مصالح دوائر رأس المال ـ
أنظر نصي المعنون.ـ
Ghosts of Africa in Europe museums
على الرابط
https://sudan-forall.org/sections/plasti ... usa01.html

و قد خلقت هذه الوضعية إلتباسا مفهوميا جسيما في علاقة الأوروبيي بالثقافات الإفريقية. هذا الإلتباس المفهومي ظل يلغم علاقات السياسة بين الفرنسيين و الأفارقة عند كل منعطف سياسي مهم.ـ [لإستزادة في موضع السياسة الفرنسية الإفريقية أ[نظر " فرنسافريقيا"، أطول فضيحة للجمهورية الفرنسية. لفرانسوا إكزافييه فارشاف الذي يعتبر أفضل سجل لمخازي السياسة الفرنسية المعاصرة في إفريقيا].ـ
LaFranceafrique
Le plus long scandale de la République,
François-Xavier Verschave,
Stock,1998-1999
و آثار الإلتباس المفهومي في علاقة الفرنسيين بالأفارقة، تتبدى ـ في ما وراء مقام السياسة ـ في الطريقة التي يدبر عليها الفرنسيون تمثلات الهوية الثقافية للأفارقة و بالذات في مقام تعبير جمالي إفريقي معاصر "ميد إن فرانس" بواسطة أدباء ومسرحيين و سينمائيين و تشكيليين أفارقة[ أو من سود الجزر الفرنسية في المحيط الهندي أو في الإنتيل] ينتجون آثارهم لعناية الجمهور الفرنسي والإعلام الفرنسي و في إطار المحافل و المهرجانات الموسمية المكرّسة لفنون الأفارقة. ورغم الجهود المتأخرة لنقل الإحتفاليات الفرنسية للقارة الإفريقية [ بينالي الرقص في مدغشقر ،و ملتقى الفتوغرافيا في باماكو ،و بينالي الفن في داكار] إلا أن معظم أهل القارة يجهلون ما يدور في هذه المحافل الموسمية أو هم يسمعون عنها في الإعلام الفرنسي أو الأوروبي.ـ
و لعل أفضل مثال على الطريقة التي يدبر عليها الفرنسيون شؤون الفن الإفريقي المعاصر تتمثل في النماذج الإحتفالية التي طرحتها تجربة" جان هيوبير مارتان" في معارضه المشهودة :ـ " سحرة الأرض" و " قسمة الإكزوتية"و " آفريكا ريميكس" .و هي نقلة نوعية كبرى بالمقارنة مع الميراث المحافلي السابق الذي تعود على إختزال إفريقيا في إحتمال الزنوجة المعرقنة و الرجوع لأصالة إفريقية مستحيلة.ـ .

لكن العودة للجذور الإفريقية انطرحت لدى أنصار حركة الزنوجة التاريخية،الـ " نيغريتود"، بوصفها وسيلة لتخليق هوية سياسية على أسس عرقية إنعكاسية، تمجد الأسود و الزنجي ككائن ذي حضارة ذات سيادة و استقلال، حضارة قمينة بمواجهة حضارة رأس المال الإستعماري الأوروبي و مقاومة هيمنته العرقية و السياسية.ـ
هذه الحركة التي انطلقت في البداية ضمن نزوع تحرري قوموي، انتهت لنوع من احتفال عرقي زنوجي، مردوده السياسي يخدم مصالح دوائر الهيمنة الرأسمالية في القارة الإفريقية. و الإنتكاسة السياسية و العرقية التي تكشفت عنها حركة الـ " نيغريتود" في نهاياتها السنغورية كانت كامنة ، منذ البداية، في مبادئها العرقية المكوّنة ، كمون الشجرة في البذرة ـ
و حركة " النيغريتود"،باختصار،بدأت كمبادرةثقافية من مجموعة من الطلاب السود الذين عاشوا في فرنسا في فترة ما بين الحربين.و أهم مؤسسيها هم "إيمي سيزير
Aimé CESAIRE
و ليوبولد سيدار سنغور
Léopold- Sédar SENGHOR
و ليون كونتران داماس
Léon- Gontran DAMAS
.
و قد التقى "سيزير" مع "سنغور" و "داماس" على تعريف حركة النيغريتود بكونها تنهض على مبدأ الإعتراف بقدر السواد و قبوله كخصيصة ثقافية و تاريخية للأشخاص سود البشرة .لكن إختلاف الأصول الجغرافية و المواقف الإجتماعية للأدباء الثلاثة ،أثر على الطريقة التي تعامل كل منهم بها مع فكرة النيغريتود .و إذا كان "سيزير" و "داماس" يرهنان واقعة السواد بملابسات الصراع الإجتماعي التي يسوّغ عليها الأوروبيون البيض استغلال السود، فـ"سنغور" يحتفل بالسواد كخصيصة أزلية و كجوهر وجودي ثابت في ثقافة السود ،و يحفظ له سجل الفكر العرقي قولته "العقلانية هيلينية و العاطفة زنجية».أما " إيمي سيزير" ، الشيوعي المارتنيكي من جزر "الانتيل" الفرنسية،كان ، مثل معظم أهل الجزر، يطالب بالتحرر من هيمنة ثقافة المستعمرالفرنسي و يبشر بعودة للأصول الإفريقية،و هو الذي سك مصطلح الـ «  نيغريتود »
« Négritude »
في  نصه"دفتر العودة للبلد الأم".ـ

الذي نشر عام 1939
للإستزادة عن "سيزير" أنظر ترجمة عبد الله بولا لخطاب سيزير " في الإستعمار" على الرابط
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic.php?p=22976

و قد احتفت دوائر رأس المال ، في فرنسا و خارجها ،بـ "نيغريتود" "سنغور" العرقية و قوّتها ببأس مادي و إعلامي حتى طمست بها ملامح " نيغريتود" "سيزير" الإجتماعية، و لا عجب فـ"سنغور"، الذي سيصبح نائبا في "الجمعية التشريعية الفرنسية"، عن السنغال و موريتانيا ،[ بين 1945 حتى1958]،كان يتهيأ لأن يصبح أحد أهم أعوان السياسة الإفريقية الكولونيالية لفرنسا. فهو يترأّس "فيديرالية مالي "في 1960 ثم يتم تعيينه وزيرا مستشارا في الجمهورية الفرنسية بين 1959و 1961ـو حين يصبح رئيسا للسنغال في 1960 فهو يبقى على سدة الرئاسة لـ 20 عاما حافلة بآيات الولاء للسياسة الإستعمارية الفرنسية في إفريقيا.وطوال هذا التاريخ الإستعماري ظل الإعلام الفرنسي ـ و مازال ـ يثابر على تكريس سنغور في صورة الشجرة الزنجية التي تخفي غابة التعدد العرقي و الثقافي لمجتمعات القارة الإفريقية. وذلك رغم الأدب المعارض الوافر الذي جادت به قرائح الأفارقة[ و غير الأفارقة] ممن فحصوا البعد الإجتماعي و العرقي لنيغريتود "سنغور" بعين النقد الفصيح.ـ
أنظر " ستانيسلاف أدوتيفي" » نيغريتود و نيغرولوغ"و ترجمتها[ المستحيلة] تعطي شيئا اشبه بـ " الزنْوَجَة و المتزنوجة ».ـ"
Stanislas Adotevi, Négritude et Négrologues,
Union générale d'éditions, 1972.col.10/18.

أنظر أيضا " فابيان إيبوسي بولاقا"، في نقده لعرقنة الفلسفة الإفريقية"أزمة المونتو،في الفلسفة و الأصالة الإفريقيةـ
Fabien Eboussi Boulaga
La crise du Muntu, Authenticité africaine et philosophie, Présence africaine, Paris, 1977 et 1997.
و " أدوتيفي" [ بنين]و "بولاقا" [ الكاميرون] من أهم الأصوات الإفريقية التي سعت لفرز الإلتواءات المفهومية لفلسفة النيغريتود ، لكن إعلام دوائر رأس المال في العالم الأوروأمريكي ظل يشيح ـ و بشكل منهجي ـ عن المحمول الفلسفي الثوري لعملهما الفلسفي و ، كان الله رفع القلم، سأحاول تلخيص مساهمة كل منهما في إضاءة تداخل الثقافة و السياسة في المجتمع الإفريقي المعاصر.ـ

سأعود

محمد عثمان أبو الريش
مشاركات: 1026
اشترك في: الجمعة مايو 13, 2005 1:36 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد عثمان أبو الريش »


وى نيها

حسن أب كم سيـد مغارة.. خيلو يجنك بدارا.. سلام وشكرا جداً..

قبل الخوض فى نقاش الأراء التى طرحتها أعلاه دون أن يطرف لك جفن، و حتى ينجلى الأمر ويكون القارئ على بينة.. (وقد لا يكون الى الأبد)
أحب فى هذه العجالة ان اصحح معلومة وردت وهى غير مقصودة بالطبع.. ذلك حين ذكرت انى نجحت "فى مجال الهندسة الذي درسته و تخصصت فيه"
ويجدر بالذكر هنا انى قرأت أخوة كثيرين ينادوننى بالباشمهندس، ولم اشأ أن اعلق أو اصحح لأن فى السودان التمرجى دكتور والبيكورك فنان، فإن
الكرم السودانى يفوق حسن الظن العريض. ومن كرم السودانيين انه حتى شهادات الدكتوراة الحقيقية صاروا يوزعونها على الضيوف والجيران.
لكن حكاية درستها وتخصصت فيها هذه لو مررتها فلا يكون الأمر مناسباً.. ذلك لأنى لم أدرس من الهندسة (اكاديميا) سوى برنامج سنتين فى
كلية مجتمعية لم أكمله.. وبالنسبة لى وصف تكنولوجست أصح من مهندس.. ذلك لأنى درست التكنولوجيا الكهربائية والاكترونية، والبرمجيات.. الخ و "تخصصت"
بالممارسة والخبرة الطويلة (35 عام) الإلكتورنيات الرقمية بالذات.. بعد دا لا مانع لو سمعت كلمة يا باشمهندس وانا اضعها فى اطارها الذى ذكرت اعلاه.

ملحوظة: جهاز التحكم الاكترونى الذى فى نظام الرى مبتكر وقد إهتمت به مهندسة (ماجستير كهرباء ما خمج) من معهد نيوجيرسى للتكنولوجيا NJIT وتبرعت بدفع رسوم المحامى الذى قام بتسجيله.

سأعود
Freedom for us and for all others
محمد عثمان أبو الريش
مشاركات: 1026
اشترك في: الجمعة مايو 13, 2005 1:36 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد عثمان أبو الريش »

الأخ حسن
أولا دعنى اشكرك عظيم الشكر على الكلمات الطيبات مما أكرمتنى بهن.

عود على بدء:
فى امريكا وغيرها فلا يحق لأى شخص ان يسجل طلب حقوق ملكية فكرية لكائنات الطبيعة سواء البذور والنباتات و الأنسجة الحيوية (كما هى).. والذى
تم منح حق الملكية الفكرية عنه كان عمل العالم الهندى (من اسمه) فى تطوير بكتيريا جديدة بتعديل الجينات الوراثية حتى تقوم بتحليل المواد البترولية التى تتسرب او تتدفق فى المحيطات والخلجان.. إذا هى براءة لعمل هندسى اوجد بكتيريا لم تكن موجودة فى الطبيعة، وصرف فى ذلك، أو لدى الدقة صرفت شركة جنرال الكتريك أموالا فى البحث والتطوير. أما البذور والنباتات الطبيعية الغير معدلة وراثيا فلا يحق لأحد ادعاء ملكيتها.

بالنسبة للفنون الأفريقانية.. قصدى هو، هل سيأتى يوم نقول نحن فنانين بدون ان نذكر القبيلة؟ ولو تركنا اوروبا جانبا.. نحن فى السودان عندنا برضو اوروبتنا وافريقتنا.. أنا أعتز بتراث البجا فى الشرق واستهلك اغانى المردوم من كردفان والطمبور والربابة والحقيبة والبلابل وكأنها فنى وثقافتى.. رغم تنوع منتجات هذه الشعوب الفنية.. فهل يمكن تطبيق هذا على الفنون من كل العالم، علما بأنى مواطن عالمى برضو والاغانى الكلاسيكية فى الصين هى ارثى أيضا على ان اسعى له.. محيى الدين بن عربى فى كتبه يقول "وصل" بدل فصل من كل فصول الكتاب.. فهو لا يؤمن ان هناك كائن مفصول فى هذا الوجود. أنا زاتى.

وشكراً
Freedom for us and for all others
عبد الماجد محمد عبد الماجد
مشاركات: 1655
اشترك في: الجمعة يونيو 10, 2005 7:28 am
مكان: LONDON
اتصال:

مشاركة بواسطة عبد الماجد محمد عبد الماجد »

الأخ الفنان حسن موسى
أتابع بشغف شديد واهتمام خاصة وان المامي قليل بما يختص بمدرسة الخرطوم وهو رأي ليس محكما
ذلك لقلة في الدراية والمتابعة وكان كثيرا ما يخطر ببالي ان مدرسة الخرطوم هذه كانت أول إعلان لما تسميه اليوم الفئة الحاكمة بالمشروع الحضاري !!! قبل ان يعملها جماعة الغابة والصحراء.
وكنت أعتقد خطأ ان هذه المدرسة اندثرت او في طريقها الاندثار.
لكن في الأيام القليلة الماضية اتضح لي ان هناك قلة من العمالقة لا زالت تحتفظ منها بشيء ولكنها دورته بحرفية - ان جاز التعبير - وصعدت به إلى مراحل عليا صعودا لا يتبينه المرء قليل التركيز ضعيف التأمل .
وجدت ناسا طوروها او هضموها فأصبحت لها بقية باقي في أعمالهم.
سأذكر أربعة وحسن موسى نفسه واحد منهم وسأحاول الاستشهاد والاستدلال
فاعذروني ان شططت
مرة أخرى لك التحية يا حسن والشكر على ما رفعت من بقية جهل لدينا
المطرودة ملحوقة والصابرات روابح لو كان يجن قُمّاح
والبصيرةْ قُبِّال اليصر توَدِّيك للصاح
عبد الماجد محمد عبد الماجد
مشاركات: 1655
اشترك في: الجمعة يونيو 10, 2005 7:28 am
مكان: LONDON
اتصال:

مشاركة بواسطة عبد الماجد محمد عبد الماجد »

اسف مكرر ما عارف ليه
المطرودة ملحوقة والصابرات روابح لو كان يجن قُمّاح
والبصيرةْ قُبِّال اليصر توَدِّيك للصاح
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

تراجيديا فنأفريقانية ميد إن أميريكا

مشاركة بواسطة حسن موسى »



13

تراجيديا فنأفريقانية ميد إن أميريكا


نيخاو يا محمد عثمان
يازول موضوع تملّك الأحياء داير ليهو خيط مستقل و مذاكرة طويلة في خصوص الإلتواءات القانونية التي يتذرع بها الجماعة الطيبين الذين لم يكتفوا بتملك العباد لكن هم بصدد تملك الأحياء. و عشان ما نضهب زي صاحب البالين كدي خلينا في الأول نركز على سيرة " مدرسة الخرطوم" الهوينة دي و بعدين نرجع لسيرة تملك الأحياء و النباتات.و هي سيرة عامرة بكافة تناقضات الحياة و الموت في عالمنا المعاصر.ـ


كتبت يا محمد عثمان
« 
بالنسبة للفنون الأفريقانية.. قصدى هو، هل سيأتى يوم نقول نحن فنانين بدون ان نذكر القبيلة؟ ولو تركنا اوروبا جانبا.. نحن فى السودان عندنا برضو اوروبتنا وافريقتنا.. أنا أعتز بتراث البجا فى الشرق واستهلك اغانى المردوم من كردفان والطمبور والربابة والحقيبة والبلابل وكأنها فنى وثقافتى.. رغم تنوع منتجات هذه الشعوب الفنية.. فهل يمكن تطبيق هذا على الفنون من كل العالم، علما بأنى مواطن عالمى برضو والاغانى الكلاسيكية فى الصين هى ارثى أيضا على ان اسعى له.. محيى الدين بن عربى فى كتبه يقول "وصل" بدل فصل من كل فصول الكتاب.. فهو لا يؤمن ان هناك كائن مفصول فى هذا الوجود.
« 
.طبعا كلمتك دي يا محمد عثمان هي من بديهيات الحس السليم ، لكن الغرض الذي يمرض الحس السليم و يعمي بصائر ود ابآدم صار يجعلنا نكافح و نتعب من أجل إثبات البديهيات.
غايتو ربنا يجيب العواقب سليمة.ـ


سلام يا عبد الماجد
و الله لا تتصور مدى فرحتي بطلتك بعد الإنقطاعة الطويلة.و كمان في موضوع «  مدرسة الخرطوم » التي رغم أن الناس ظلوا يكتبون عنها أكثر من غيرها إلا أنها مازالت تحتاج لكتابة تفرز موياتها المتلاطمة بين فضاءات الرسم و السياسة.كتبت يا عبد الماجد :ـ
« 
.. وكان كثيرا ما يخطر ببالي ان مدرسة الخرطوم هذه كانت أول إعلان لما تسميه اليوم الفئة الحاكمة بالمشروع الحضاري !!! قبل ان يعملها جماعة الغابة والصحراء.
و . « 
و في نظري [ الضعيف] فكلامك هذا صحيح ،و ناس المشروع الحضاري ذاتهم استقبلوا و كرموا بعض أعلام مدرسة خرطوم الغابة و الصحراء تحت بصر و سمع الشعب السوداني الصابر على المدارس. غايتو أنحنا الله شاف لينا ساكت ، نجينا بجلودنا و نفدنا من عواقب المدارس الحضارية الكثيرة التي تتربص بنا عند منعطفات التاريخ عشان تصرف لينا الهوية الفلانية أو تقلع مننا الهوية الفلتكانية. و أنا متشوق لقراءة بقية كلامك في هذه السيرة العامرة و مافي شطط.




  من يعرض يتعرّض
مثل إفريقي من إختراعي
.
قلت في مطلع كلامي أن الفرق بين منهج " جان هيوبير مارتان" و منهج "سوزان فوغل" في تدبير عرض فن الأفارقة للجمهور الأوروأمريكي يتلخص في كون "مارتان" « سعى لعرض فن العالم بما فيه الأفارقة"، في حين اختارت "فوغل" أن تعرض فن الأفارقة للعالم الأمريكي" .ـ

و يبدو منهج "مارتان" كما لو كان يساوي بين ثقافات العالم المختلفة على زعم أن كل ثقافة إنما تنطرح ،في نهاية التحليل، كموضوع إكزوتي يقف مستقلا بسيادته الجمالية، في مواجهة للثقافات الأخرى. لكن زعم "مارتان" يفسد أولا لأن واقع التواصل و التداخل و التمازج الثقافي الطبيعي بين المجتمعات الإنسانية المعاصرة يكذب مزاعم أستقلالية الثقافات ، مثلما هو يفسد ثانيا لأن واقع حيوات المجتمعات المعاصرة تحت شروط ثقافة السوق المعولم يمحق الخصوصيات الثقافية و يثلم فاعلية المواريث الثقافية التي كانت تؤثر في توجيه السلوك الإجتماعي للمجتمعات المعاصرة.و يتناسى "مارتان" أن علاقة القوى الطبقية غير المتوازنة التي تمكن الأوروبيين الأقوياء من تدبير المحافل الثقافية الكبيرة و دعوة "الآخرين" من ضعفاء العالم الثالث لللمشاركة فيها هي نتيجة طبيعية لواقع الحياة تحت شروط مجتمع طبقي معولم يتسنم الأوروأمريكيون فيه موقع الحظوة، حظوة إحتكار تعريف الأناو الآخر و الحضارة و البربرية و الحياة [ و الموت] والأخلاق و اللاأخلاق و الفن و اللافن . و في نهاية التحليل، يمكن للمراقب المتفائل عقلنة شعار "مارتان" بكون " كل ثقافة هي إكزوتية بالنسبة للثقافات الأخرى" كمجرد أمنية بتحقق يوتوبيا المساواة الثقافية بين مجتمعات العالم المعاصر.أما المراقب الحذر فهو يملك أن يرى في مشروع "مارتان" مناورة سياسية أوروبية غايتها تخليق حلف ثقافي /سياسي بين الأوروبيين و مجتمعات العالم الثالث، غايته التحسب قبل المواجهة الإقتصادية و السياسية الثلاثية المتوقعة بين الأوروبيين و الأمريكان و الآسيويين.و من ينظر في الأدب السياسي الذي انتجته الآلة السياسية الأوروبية، بسبيل تحفيز المواطنين الأوروبيين لدعم مشروع الوحدة الأوروبية ،يقرأ فيه بوضوح نبرة تخويف الأوروبيين من مخاطر الحياة في عالم مُعولم يهيمن فيه الأمريكان و الصينيون، و قيل الأمريكان "قبل" الصينيين ، كون العداء لأمريكا ظل يبطّن علاقة الأوروبيين و الأمريكان منذ أن استحوذ الأمريكان ،بجاه الدولار ، في مؤتمر "بريتونودز" [1944]، على موقع الصدارة الإقتصادية العالمية الذي كان يتسنمه الأوروبيون قبل الحرب الثانية. ـ

و الفحص المتأني للأدب المبذول حول معرض " آفريكا إكسبلورز" الذي نظمته " سوزان فوغل". و الذي يعتبر أهم مقاربة أمريكية ممنهجة غايتها تقديم فن الأفارقة في المشهد الثقافي الأمريكي، يمكن أن يساعدنا في فهم التنويع الأمريكي في عملية تخليق موضوعة " الفن الإفريقي المعاصر". و هو تنويع وثيق الصلة بـموقف الطبقة الوسطى البيضاء في الولايات المتحدة من التاريخ المعقد لحضور الجماعة الآفروأمريكية في المجتمع الأمريكي المعاصر.مثلما هو تعبير منطقي لمسلك القلق الهويولوجي الذي انتاب العالم الأوروأمريكي في سنوات الثمانينات.ـ فسنوات الثمانينيات كانت بحق لحظة مفصلية في مشهد الزلزلة التي اجتاحت االمسلمات و الثوابت السياسية و الجمالية التي انتظمت عليها علاقات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.في حقبة الثمانينيات شهد العالم إنعكاسات الأزمة الإقتصادية العالمية التي جلبت الشقاء الإقتصادي و المجاعات للمجتمعات الإفريقية[اأكثر من مليون شخص ضحايا مجاعة إثيوبيا في 1984] التي كانت ترزح تحت ثقل الكوارث الطبيعية [ التصحر و الجفاف] والإجتماعية [ الفقر و الأوبئة] ناهيك عن كوارث السياسة [ الديكتاتوريات العسكرية الموالية لدوائر رأس المال].ـ
في تلك السنوات دخل المجتمع الأوروأمريكي المغامرة النيوليبرالية [ رونالد ريغان في أمريكا و مارغريت ثاتشير في بريطانيا] بينما هرع الأوروبيون لبناء الوحدة الأوروبية ، [ السوق المشتركة]،تحسبا من إجتياح إقتصادي أمريكي و/أو من هيمنة إقتصادية آسيوية على خلفية الإزدهار الإقتصادي لبلدان آسيا [ اليابان و تايوان] ، فضلا عن التحولات الجيوبوليتيكية الكبيرة في الإتحاد السوفييتي بوصول "غورباتشيف" و إصلاحاته السياسية التي ستؤدي لسقوط "حائط برلين" و نهاية الحرب الباردة و نهاية الإتحاد السوفييتي و توابعه. و في الثمانينيات أيضا دخلت الصين في عهد الرئيسّ دينغ سياو بينغ" مغامرة [ الإصلاح السياسي والإقتصادي الذي نكص عن إقتصاد الدولة الإشتراكية و اتجه نحو إقتصاد السوق ليجعل من الصين قوة إقتصادية مرهوبة في المشهد الإقتصادي الدولي..ـ
و إلى جانب الهزات السياسية و الإقتصادية عرفت الثمانينيات التحولات الثقافية المهمة من شاكلة تراجع الكنيسة الكاثوليكية [جان بول الثاني] عن إدانة "جاليليو"و انتشار الثقافة الرقمية بفضل التقدم التكنولوجي [ ماكنتوش و ميكروسوفت و إنترنيت]و أظن أن نجاح " مايكل جاكسون" في تغيير لون بشرته الأسود ينطوي على دلالة رمزية جبارة زعزعت القناعات العرقية التي يستند عليها الوجدان الشعبي لغالبية الأمريكان بيضا و سودا.ذلك أن الطبقة الوسطى البيضاء النصرانية صاغت هوية المجتمع الأمريكي على أساس مجموعة من الحدود الطبقية و الدينية و العرقية و الجندرية. و قد كان لون البشرة ـ و ما زال ـ يلعب دورا كبيرا في تعريف وضعية الفرد الأمريكي من هرم التراتب الإجتماعي. و قد ظل النضال ضد "حد اللون" ملمحا مهما من ملامح حركة المساواة في المواطنة و الحقوق المدنية بالنسبة للأمريكان من أصل إفريقي.و في هذا المشهد يحفظ تاريخ حركة الحقوق المدنية في أمريكا مساهمات ساسة مرموقين قادوا المنظمات و الحركات الشعبية في اسلوب مواجهة إنتحارية ضد خصم هزيمته مستحيلة.هؤلاء القادة العظام، من " مارتن لوثر كنغ" لـ " مالكولم إكس" و قادة حزب " الفهود السود"[هيوي نيوتن"و بوبي سيل"و ستوكلي كارمايكل"]، لغاية « محمد علي كلاي » و "تومي سميث" و " جون كارلوس" الأبطال الأولمبيين الذين خفضوا رؤوسهم و رفعوا قبضاتهم السوداء المقفزة، تضامنا مع حركة الحقوق المدنية للسود، كل هؤلاء الابطال يمثلون في منظور التاريخ كشخصيات مسرحية أسطورية تواجه مصيرها الأسود المكتوب و المعروف سلفا، داخل تراجيديا إفريقية "ميد إن أميريكا".و في هذا المشهد تبدو أهمية حركة «  مايكل جاكسون » كبطل نيتشوي حديث يسمو بفرادته الوجودية فوق أقدار الجماعات التي تعرّف هوياتها و هويات غيرها على قيم اعتباطية فالتة من حكم الإختيار الحر. لقد اختار مايكل جاكسون أن يعبر " حد اللون" ،الذي رسمه البيض و قبله السود،فأثار روع الجميع لأنه هدم هذا الحائط الوهمي القائم في المخيلة العرقية للمجتمع الأمريكي بمباركة السلطة السياسية و الدينية ، و الذي سوّغ للأمريكان بيض البشرة أن يضطهدوا مواطنيهم السود مثلما سوّغ لغالبية السود الأمريكان قبول اضطهادهم كقدر إلهي لا فكاك منه. ـ
ـ
في هذا السياق الثقافي و الإجتماعي فـ " سوزان فوغل"، مثلها مثل " مارتان" و " جان كلير " و غيرهم من خفراء الهوية الأوروبية، تعبر عن روعها من التحولات المادية و الرمزية، التي تمخض عنها التحول نحو واقع العولمة في الثمانينيات، بطريقة مماثلة مضمونها حماية الهوية الإجتماعية للأوروبيين من التحولات الجديدة التي قد تعصف بالثوابت الرمزية و المادية التي بنى عليها الأوروبيون بأسهم الإجتماعي في إطار ثقافة رأس المال. لقد دبرت " فوغل" مشروع عرض الفن الإفريقي للأمريكان كمحاولة لترميم وجدان الطبقة الوسطى البيضاء من آثار الصدمات التي حاقت به في النصف الثاني من القرن العشرين [ هزيمة فيتنام و الأزمة الإقتصادية العالمية و صعود «  الآخر » كشريك و كخصم في ساحة المنازعة الطبقية.فمعرض " آفريكا إكسبلورز" يمثل في المشهد الأمريكي كمسعى نفسي لتطمين الذات الأمريكية النصرانية البيضاء الملتاعة من تقلبات عالم متحول في كافة المستويات، و ذلك من خلال تقديم صورة ثقافة إفريقية فالتة عن طوائل التاريخ. ثقافة إفريقية أزلية تستعصي على التطور و تشهد عن ثبات عالم بائد كان الناس فيه يُعرّفون وفق تصانيف "الحضارة" و "البربرية" و "السيادة" و "الإسترقاق" . فكأن فوغل " تخاطب أهاليها قائلة :ـ يا أمريكا اطمئنّي، ليس من داع للروع لأن بلسم الثقافة الإفريقية السرمدية سيضمد جراح الروح الأمريكية المعذبة، و هذه الثقافة الإفريقية الثابتة أبدا ليست بعيدة المنال في عالم أجنبي مستحيل.إنها هنا، مكنونة في حرز أمريكا السوداء ، تجري في شرايين الأمريكان الأفارقة .ـ

.و في هذا المنظور يمثل مفهوم "الفن الإفريقي المعاصر"، في نسخته الأمريكية، كنوع من «  رزيرف هندي  للسود» تحفظ فيه أمريكا البيضاء الفنانين الآفروأمريكانيين بعيدا عن فضاء الفن الأوروبي الذي يزعم لنفسه صفة الـ « مين ستريم آرت ». في مقام الفن الإفريقي المعاصرتملك الطبقة الوسطى النصرانية البيضاء ـ من جهة أولى ـ أن تداهن عواطف الجمهور الأوروبي النصراني بتقديم فن الأقلية الآفروأميريكانية كند جمالي يواجه ، أو يحاور، التقليد الفني الأوروبي من علياء تقليد الفن الإفريقي الأسود الزنجي العريق.و من جهة ثانية فصيانة أمريكا البيضاء لفن آفروأميريكاني يتيح لها فرز الفنانين الأمريكان السود كفئة أجنبية على المشهد الفني الأمريكي و ذلك بتكريسها كـ " دياسبورا" إفريقية.و المصطلح النصراني " دياسبورا" المستخدم لتوصيف فئة الفنانين الآفروأمريكيين يخفي وراءه برنامجا سياسيا طموحه إحالة الفنانين الآفروأميريكان لوطنهم الأم في القارة السوداء "إفريقيا". و إرجاع الأمريكان من أصل إفريقي للقارة الإفريقية حلم عنصري قديم بدأ في القرن التاسع عشر حين احتارت الطبقة الوسطى البيضاء في اتخاذ موقف إنساني عادل تجاه المواطنين الأمريكان سود البشرة الذين توصلوا للمواطنة بعد تحريرهم من قيود الإسترقاق. ـ
و في هذا المربط يتكشف المشهد الثقافي الأمريكي عن عناية بالفن الإفريقي مختلفة من نسخة الأوروبيين ، فالأمريكان لم يستعمروا أرضا في القارة الإفريقية، لكنهم وجدوا في إفريقيا مقاما يناسب حلمهم الإستعماري في القارة الأمريكية، و لو كانت العناية قد سخرت لهنود أمريكا أشخاصا من طينة لينكولن الذي كان يبشر بمجتمع سعيد سوده يحيون بمعزل عن بيضه ، لكان هنود أمريكا اليوم في إفريقيا أو في إسرائيل حتى و كل شي في الحيا جايز على قول المغني.و في هذا المنظور تجد عناية الأمريكان بالفن الإفريقي المعاصر جذرا تاريخيا في صلب مشكلة الأمريكان من أصل إفريقي " آفروأميريكانز" .الذين حاولت أمريكا البيضاء إرجاعهم لأفريقيا"في مغامرة استعمارية فريدة في التاريخ. الأمريكي. و هكذا أورثنا التاريخ الأمريكي تراجيديا " ليبيريا"[ 1822]، حيث قامت " الجمعية الإستعمارية الأمريكية" بتوطين العبيد الأمريكان السابقين في ليبيريا، ضمن حركة " باك تو آفريكا" [ العودة لإفريقيا]، و سهلت لهم استعمار السكان الأصليين و استغلالهم في أشنع سابقة استعمارية من نوعها.. و "الجمعية الإستعمارية الأمريكية" كانت تتمتع بدعم عدة رؤساء أمريكان بينهم "جيفرسون" و "لينكولن" الذين كانوا يحبذون تطهير المجتمع الأبيض من المواطنين السود الأحرار
. ـ
[size=10]https://quod.lib.umich.edu/j/jala/2629860.0014.204/-
-abraham-lincoln-and-the-politics-of-black-colonization?rgn=main;view=fulltext

في عام 1931 أدانت عصبة الأمم شروط العمل الإجباري الذي فرضته الدولة الليبيريةعلى السكان الأصليين لليبيريا. فقد كانت دولة العبيد الأمريكان السابقين تجبر أهالي البلاد على العمل سخرة في مزارع المطاط لصالح الشركات الصناعية المتعددة الجنسيات. و جدير بالذكر أن السكان الأصليين في ليبيريا لم يحصلوا على حق التصويت إلا في 1945،أي بعد قرن من تأسيس جمهورية ليبيريا التي سنت «  آبارتايد » أسود/أسود لا يعرفه أحد.و لم يتخلص شعب ليبيريا من هذا الأبارتايد الأسود " ميد إن أميريكا"،إلا في عام 1980 حين قام العسكري "صامويل دوي" بإنقلابه و نكل بالصفوة الأمريكية الحاكمة و افتتح عقدا من العنف و الحرب الأهلية الدامية.ــ
الرابط
https://lencrenoir.com/histoire-du-liberia/


لو تأملنا في موقف " فوغل"التي تزعم عرض فن الأفارقة في العالم،"آفريكا إكسبلورز"، نجدها صممت مشروعها على تصور زنوجي أسود معرقن لمجتمعات القارة.و هذا التصور الضيق، فضلا عن كونه يصادر واقع التعدد العرقي و الثقافي للقارة ،فهو يطرح إفريقيا ككيان ثقافي صافي قائم بالتعارض مع " الغرب".و سأحاول في اسطري القادمة عقلنة تصورها للفن الإفريقي، و الذي تمثلت عواقبه، على الصعيد العملي، في استبعاد أفارقة شمال إفريقيا من أول معرض مهم لفنون الأفارقة في الولايات المتحدة.و من عواقب التصور المعرقن للفن الإفريقي أن الفنانين الذين يعملون على المراجع التقنية و المفهومية لتقليد الفن الأوروبي يستبعدون بذريعة كونهم يقعون تحت طائلة الخيانة الثقافية أو/و الإنحطاط الجمالي لأنهم يعكّّرون الصفاء الجمالي المزعوم للفن الإفريقي . و لـ « فوغل » نظرة تستحق التأني في موضوع «  غربنة » الفن الإفريقي لأنها تنظر للمحمول الأوروبي التقني و المفهومي، في الممارسة الفنية للأفارقة كوجه من وجوه عملية " هضم"و " تمثل" يقوم الفن الإفريقي خلالها بأفرقة التأثير" الغربي" الوافد. و إعادة إنتاجه كفن إفريقي أصيل. و هو منطق مضمونه السماحة و الإنفتاح لكل ما يخصب الممارسة الفنية للأفارقة، و تجربة الفن الأوروبي الذي انفتح على فنون الشرق الأقصى في القرن التاسع عشر و القرن العشرين عامرة بدروس نافعة .لكن المشكلة هي أن "فوغل" تتوجس من تأثير المحمولات "الأجنبية" على الثقافة الإفريقية  و تدين التأثير السلبي للنصرانية و الإسلام على الثقافة الإفريقية. وذلك رغم أن الأفارقة يتعاملون ،منذ قرون طويلة ،مع النصرانية و الإسلام كديانات إفريقية.[أنظر ف"فوغل "، آ"فريكا إكسبلورز"ص 28][ سأعود لهذا بتفصيل لاحقا، فصبرا]. و يبدو أن هاجس الصفاء الجمالي الزنجي الذي تعرّف عليه " فوغل" الفن الإفريقي الأصيل هو المسؤول عن كونها أشاحت بوجهها عن فنون أثيوبيا ذات الثقافة الإفريقية النصرانية مثلما أشاحت بوجهها بعيدا عن فنون أهل شمال إفريقيا من ذوي الثقافة الإسلامية، لكن ثالثة الأثافي في ورطة "فوغل" المناهجية تتمثل في إشاحتها عن النظر وجهة فنون مجتمع جنوب إفريقيا . ففي هذا المعرض الذي يزعم تقديم الفن الإفريقي للأمريكان تجاهلت فوغل فناني جنوب إفريقيا الذين هم ـ على تباين أصولهم العرقية وقفوا على الدوام ضد نظام التفرقة العنصرية للأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا.و موقف "فوغل" هنا يبدو كمحاولة بائسة لتجنب الحرج الذي قد يجره الخوض في ما كان يجري في جنوب إفريقيا.و قد فضلت " فوغل" تأمين معرضها من مخاطر الأسئلة الصعبة عن واقع التفرقة العنصرية [ آبارتايد] التي كانت تجسد السياسة الرسمية لنظام الأقلية البيضاء و الذي كان يتمتع بدعم دوائر رأس المال الأوروأمريكية في سنوات "الحرب الباردة". فكأن " فوغل" لم تكتف بفرض الصفاء العرقي على الأفارقة و إنما أضافت عليه صفاءا سياسيا كاذبا لا تعكره عوارض الجيوبوليتيك السياسي الإفريقي البالغ التعقيد.ـ




سأعود
آخر تعديل بواسطة حسن موسى في الجمعة إبريل 28, 2017 7:00 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

و جيوبوليتيك الفن الجنوب إفريقي

مشاركة بواسطة حسن موسى »




14
و جيوبوليتيك الفن الجنوب إفريقي

قلت في خاتمة مقالي السابق أن حرص " سوزان فوغل" على تجنب البعد السياسي للثقافة الإفريقية المعاصرة حفزها على تجاهل فناني جنوب إفريقيا على تباين ألوانهم ، و ذلك رغم أن سنوات الثمانينيات شهدت تطورا ملحوظا لحركة الفنانين الجنوبإفريقيين السود داخل جنوب إفريقيا، و هو تطور كانت إحدى ملامحه القوية ذلك المعرض الكبير الذي نظمته " جوهانسبيرغ آرت غاليري" في 1988،تحت عنوان لا يخفي المضمون السياسي المعارض لهذا الحدث المهم :ـ" التقليد المهمل :نحو تاريخ جديد للفن الجنوب إفريقي، 1930ـ1988 ».ـ
أنظر
Mark D'Amato,
Beyond the Trauma, the transition of the Resistance Aesthetic in Contemporary South Africa,inLiberated Voices,
Contemporary Art From South Africa.The Museum for African Art/Prestel,NY 1999
و قد شكل ذلك المعرض حدثا ثقافيا و سياسيا لا يمكن تجاهله و بالذات من طرف حفنة المعنيين بالفن الإفريقي في العالم الأوروأمريكي،و على رأسهم «سوزان فوغل» التي كانت تحضر لمعرض "آفريكا إكسبلورز" لحساب"مركز الفن الإفريقي"
Center forAfrican Art
،[الذي صار لاحقا » متحف الفن الإفريقي »
Museum for African Art

].
و قد علق " فرانك هرمان"،مدير المعارض [البلجيكي] في "متحف الفن الإفريقي"[نيويورك] أن المتحف قرر استبعاد فناني جنوب إفريقيا من معرض " آفريكا إكسبلورز" «  بسبب المقاطعة الدولية الإقتصادية و الثقافيةلنظام الأبارتايد" .ـ
أنظر
Frank Herreman,Liberated Voices, contemporary art from South Africa,The Museum for African Art/Prestel,1999,p.179
و هرمان يشير لـ "الإتفاقية الدولية لمناهضة العنصرية "التي تدين سياسة الأبارتايد ، والتي وقعت عليها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في 1965.
https://en.wikipedia.org/wiki/Internati ... imination_
of_All_Forms_of_Racial_Discrimination#Condemnation_of_apartheid
و "القانون الشامل لمناهضة الأبارتايد"
The Comprehensive Anti-Apartheid Act of 1986
الذي أجازه الكونغرس الأمريكي ضد الفيتو الرئاسي الذي حاول رونالد ريغان تفعيله لتعطيل القانون.ـ
للإستزادة أنظر الرابط
https://en.wikipedia.org/wiki/Comprehen ... rtheid_Act

هرمان هنا لا يكتفي بالكذب حول حقيقة المقاطعة الـ" دولية"المزعومة لنظام الأبارتايد الذي لم يتوقف عن البيع و الشراء مع الأمريكان و الإنجليز و الألمان و الفرنسيين إلخ، بما يجعل من المقاطعة الدولية نوع من " فرض كفاية" يقوم به الأعضاء الفقراء في إفريقيا و دول العالم الثالث فيسقط عن أغنياء العالم في الدول الصناعية الأوروأمريكية بل هو يوقع العقاب على الفنانين الواقفين في وجه غول الأبارتايد فسرت عليهم الميتة و خراب الديار في آن،لكن يبدو أن التعاطف و التحالف السياسي بين فناني جنوب إفريقيا و المعارضة السياسية لنظام الأبارتايد لم يكن بحجم التعاطف بين نظام الأبارتايد و الأنظمة السياسية الأوروأمريكية [ الولايات المتحدة و فرنسا و بريطانيا]التي لم تنقطع عن دعم نظام الأبارتايد دبلوماسيا و سياسيا و إقتصاديا. و حتى عسكريا في حربه ضد مقاتلي حركة التحرر الإفريقي.فقد ثابرت فرنسا[ موطن " حقوق الإنسان" كما يقال ] من عهد ديغول على دعم نظام الأبارتايد سياسيا في المنظمات الدولية، و رفضت تقديم أي عون لمنظمة المؤتمر الإفريقي التي كانت تقاتل من أجل الديموقراطية و المساواة في الحقوق بين الجنوبإفريقيين. و قد ذكر فرانسوا إكزافييه فيرشاف في كتابه "لافرانسأفريك" »[1998] أن إغتيال « دولسي سبتمبر » ممثلة « المؤتمر الإفريقي الوطني » [أفريكان ناشونال كونغرس] في باريس في مارس 1988، كان من ثمرات التعاون بين أجهزة الإستخبارات الفرنسية و الإستخبارات الجنوب إفريقية.
أنظر

François -Xavier Verschave,La Françafrique,1998,P.199

و باعت فرنسا لنظام جنوب إفريقيا أول مفاعل نووي في القارة.كما باعت باريس لنظام بريتوريا العنصري العتاد العسكري رغم قرار حظر بيع السلاح لجنوب إفريقيا الذي أجازته الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1977 و قد كانت حكومة جنوب إفريقيا هي ثالث أهم مستوردي الأسلحة الفرنسية. و بشكل عام واصلت السلطات السياسية الأوروأمريكية دعم نظام الأبارتايد حتى لحظة إنهياره التام في مطلع التسعينيات.ـ
لقد شهدت سنوات الثمانينيات تضييق الخناق الإعلامي و السياسي على نظام الأبارتايد و الأنظمة المتعاونة معه.و وسط التوتر الذي كان يلف الواقع السياسي الجنوب إفريقي،كان من الطبيعي أن يكشف منظمو المعارض عن قلقهم من عبور الفضاء الفني الإفريقي المعاصر الملغوم بحضور جنوب إفريقيا.هذا الواقع الجيوبوليتيكي ثبّط همم منظمي المعارض الأفريقانية في أوروبا و في أمريكا فسدوا أذنا بطينة و الأخرى بعجينة و زهدوا في سماع أصوات الفنانين الجنوب إفريقيين حتى فرجها الله عليهم بإنهيار نظام الأبارتايد في 1993 و استقرار جنوب إفريقيا في المشهد السياسي الدولي كقوة إفريقية لا يمكن تجاهلها. و منذ منتصف التسعينيات انطلق الأوروأمريكيون ينظمون معارض الفن الجنوب إفريقي بهمة كبيرة حتى ليظن من يجهل تاريخ إفريقيا أن فناني جنوب إفريقيا ولدوا بعد نهاية الأبارتايدـ
ضمن هذا السياق يبدو أن تجاهل منظمي المعارض الأوروأمريكيين للبعد السياسي في التعبير الثقافي للأفارقة، كان لازمة ثابتة في معظم تظاهرات الفنأفريقانية التي كان ينظمها الأوروأمريكيين في فترة الحرب الباردة. و لو فحصنا هذا التجاهل ، من مشهد الواقع الثقافي الإفريقي، فهو يبدو كما الوجه الآخر لنبرة البروباغندا السياسية الغوغائية التي كانت تخيم على المهرجانات الثقافية التي كانت السلطات السياسية الإفريقية تنظمها محليا لتجميل الوجه القمعي السافر لأنظمة الإستبداد الإفريقية. و في السودان عشنا، في فترة السبعينيات، أبلغ حالات البروباغندا السياسية التي تستثمر التظاهرات الفنية في سلسلة "مهرجانات الثقافة" و "معارض الثراث" و "معارض الثورة الثقافية" الموسمية التي كانت السلطات السياسية تصرف عليها ببذخ لتجميل وجه النظام و لتهيئة رأس النظام لإنتحال هيئة راعي الفنون الأكبر في البلاد. هذا الراعي الكذاب الذي لم ينجح في بناء متحف للفن المعاصر أو حتى صالة عرض واحدة في السودان طوال مدة حكمة الذي قارب العقدين. و يمكن فهم النبرة السياسية المباشرة في التظاهرات الثقافية الموسمية التي تنظمها الأنظمة الديكتاتورية الإفريقية بوضوح الغاية السياسية البسيطة التي ينتظر من المهرجانات تحقيقها، بينما يبدو ميل المنظمين لتجنب البعد السياسي في التظاهرات الفنية التي ينظمها الأوروأمريكيون في بلادهم أدخل في مسلك الحذر الدبلوماسي الذي يراعي حساب المصالح المادية و السياسية التي يمكن أن تضار من مخاطر إثارة حفائظ السلطات في هذا البلد أو ذاك من بلدان القارة الإفريقية. لكن تجنب البعد السياسي المباشر في معارض الفن الأفريقاني التي ينظمها ـ
الأوروأمريكيون يتكشف عن بعد سياسي غير مباشر مضمونه أشد وطأة من مجرد إتخاذ موقف سياسي مع أو ضد الكيانات السياسية المعاصرة.و أعني به العمل على صياغة المجال الذي يتم فيه تفعيل الطاقات الفنية للأفارقة بطريقة تجعله لا يطيق سوى النتاج الفني المنسجم مع التوجه الآيديولوجي لسلطات دوائر رأس المال التي ترعى التظاهرات الفنية الإفريقية.. و في هذا المنظور أحاول عرض الملابسات السياسية و الجمالية التي يسعى من خلالها فريق الـ"عملاء" الثقافيين لدوائر رأس المال لتخليق فضاء جمالي منسوب للثقافة الإفريقية ظاهرا لكن غايته الحقيقية هي تدجين المبدعين الأفارقة داخل بنية مفهومية تحظر عليهم اية فاعلية إجتماعية ذات نفع، ولا تسمح لهم بأكثر من زخرفة الوجود الـطبقي لسدنة رأس المال بكليشيهات منسوبة لفن إفريقي لا وجود له إلا في خيال الرعاة الأوروأمريكيين.ـ
فالفنان الإفريقي الشاب الذي يرغب في عرض عمله للعالم المعاصر يجد نفسه مضطرا لقبول شروط الرعاة الأوروبيين الذين يحتكرون فضاءات العرض و يحتكرون أدب العرض مثلما يحتكرون سوق العرض.و في هذا المشهد يجد الفنان الشاب القادم من إفريقيا نفسه مضطرا لمضايرة فرادته و تناسي خصوصيته الجمالية و الإنصياع لنصائح الرعاة ذوي البأس الذين لا يعرفونه و لا تهمهم معرفته كفنان متفرد، لكنهم يتعاملون معه كممثل لفئة مفهومية و عرقية صماء معرّفة سلفا، فيبيحون لذواتهم مشروعية التصرف في متاعه الجمالي و توجيهه بما يوافق مشاريعهم و آفاق رؤاهم الإجتماعية. ـ


سأعود
آخر تعديل بواسطة حسن موسى في الجمعة إبريل 28, 2017 7:02 pm، تم التعديل مرة واحدة.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

القيّم و الراعي

مشاركة بواسطة حسن موسى »




15
الراعي واعي

و عدت في مقالي السابق بـ" عرض الملابسات السياسية و الجمالية التي يسعى من خلالها فريق الـ"عملاء" الثقافيين لدوائر رأس المال لتخليق فضاء جمالي منسوب للثقافة الإفريقية ظاهرا لكن غايته الحقيقية هي تدجين المبدعين الأفارقة داخل بنية مفهومية تحظر عليهم اية فاعلية إجتماعية ذات نفع، ولا تسمح لهم بأكثر من زخرفة الوجود الـطبقي لسدنة رأس المال بكليشيهات منسوبة لفن إفريقي لا وجود له إلا في خيال الرعاة الأوروأمريكيين".ـو قد وضعت عبارتي " العملاء" بين مزدوجين لأن هؤلاء الناس المكلفين بعرض فن الأفارقة المعاصر للجمهور في حواضر أوروبا و أمريكا هم أكثر من مجرد وسطاء "منظمين" أو منسقين لحركة الأشياء و المفاهيم الجمالية الصادرة عن الفنانين الأفارقة المعاصرين.و عبارتي " العملاء" تصعدهم لمقام الذوات الفاعلة "إيجنتس "
Agent, Actant
و الذين يتجاوزون، جورا، مقام الوساطة الثقافية المحايدة [ و المستحيلة عمليا] لمقام الخصم الذي يدافع عن مصالحه المادية و الرمزية [ من موقع الحَكَم ]، ذلك أن هؤلاء العملاء لم يدخلوا فضاء الفن الإفريقي لنفس الأسباب التي جعلت الفنانين الأفارقة ينخرطون في الممارسة الإبداعية. إنهم عملاء محترفون مأجورون للقوامة على حوادث هذا المجال الإفريقي المستحدث المسمى بالفن الإفريقي المعاصر، فيهم من يحمل شهادات أكاديمية مبرئة للذمة المهنية مثلما فيهم نفر من أهل الخبرة التنظيمية و الفهلوة الغريزية القادرين على اللعب بالبيضة و الحجر بموهبة خلاقة تجعل منهم فنانين بين الفنانين.طبعا هناك النفر القليل الجاد المخلص الحادب على كفاءة الصناعة المعارضية مثلما هناك النفر الأقل الذي لا يتورع عن التغرير بالفنانين و سرقة إنتاجهم بأكثر الأساليب سوقية.و قد جاء في المثل [ الفرنسي] :ـ "في العالم الواقعي هناك متسع للجميع رضينا أم أبينا" :ـ
Il en faut de tout pour faire un monde 
و لو اتسع براحي فسأخاطر بجرد فئات و أنواع العملاء الناشطين في فضاء الفن الإفريقي المعاصر، و ذلك من وحي تجربتي الشخصية. لكني حاليا أفضل العناية بتقديم الفئة الجادة المؤهلة مهنيا من " عملاء" الفن الإفريقي المعاصر، و هم يمتازون على غيرهم بتوفر أدبهم و وضوح سيرهم على المساند الورقية و الرقمية المبذولة في الفضاء العام، فضلا عن الحظوة المفهومية العالية المنتظرة من محاولة تقعيد مساهماتهم على مقعد النقد.ذلك أن أمرهم ،الذي ينطوي على قدر كبير من التركيب المفهومي السياسي و الأخلاقي، معقد بما يجعل كل محاولة لعقلنة عمالتهم أزرط من خرط القتاد. ربما لأن هؤلاء الناس ، من خلال إنخراطهم في المشروع الطبقي لرعاتهم يتوصلون ، بطريقة أو بأخرى، لجرف قطاع من الفنانين الأفارقة الذين لا يضيرهم كثيرا إتباع أرزاقهم على درب "عملاء " الفنأفريقانية الأوروأمريكية، و لا يكلّف الله نفسا إلا وُسعها" [ البقرة]. و مغزى هذا الكلام في حق الفنانين الأفارقة، الباحثين عن الرزق بأي ثمن، هو أن عالم الفنانين الأفارقة ـ مثله مثل غيره من عوالم البشر، لا يقتصر على جمع الفنانين الطيبين النبلاء الذين يضحون بكل شيء من أجل الفن. فعالم الفنانين لا يفلت من طوائل الصراع الإجتماعي و تناقضاته التي لا تحصى. ـ

القندول الشنقل الريكة

أذكر أنني حين كتبت رسالتي أعلاه لـ " جان هيوبير مارتان".ـ في نهاية التسعينيات ،كان قصدي هو شرح رغبتي في عرض أعمالي في التظاهرة الفنية الكبيرة التي دعاني إليها، و في نفس الوقت كنت حريصا على شرح تحفظاتي النقدية تجاه الأسس الأخلاقية لمشروعه المسمى " قسمة الإكزوتية".و كل ما في الأمر ـ أمري ـ هو أنني ، من جهة ، جازفت بمفاوضة هشة تستمد قوتها من سعة خيال خصم آيديولوجي ذكي، توسّمت في وعيه بالحدود الفكرية لقناعاته ، قابلية تحفّزه على استيعاب تحفظاتي، و ربما قبولها، و من ثمّ تهريب عملي لفترينة معرضه الإكزوتي الذي يضم كافة أشتات العالم الجمالية. و من الجهة الثانية ، في حالة قبولي في المحفل الإكزوتي، فرهاني الحقيقي كان على استجابة الجمهور لأني أعرف أن جمهور المعارض المعاصر هو جمهور ذكي، ينطوي على خبرة عالية بأدب المشاهدة تؤهله للفرز النقدي بين خطاب منظم المعرض و خطابات الفنانين المعروضة في أعمالهم .ـ
مر عام دون أن أتلقى ردا على رسالتي لـ " مارتان"و ظننت أن الرجل زهد في عرضي و سمعت تنويه "مدام موسى" الناقد لـ "وقاحتي" التي تمنعني من «العمل في صمت» زيّيي و زي الفنانين التانين ، و ضحكنا من حالي حين شرحت لها قولة أمي أن «مرمي الله مايرفعه إلاّ الله».و هكذا لفلفت حسرتي في ثوب المشاغل اليومية و نسيت الموضوع.و قبل شهر من إفتتاح المعرض اتصل بي "تيري برات"، القوميسير التنفيذي للمعرض، و اعتذر لي عن عدم عرض عملي في معرض " قسمة الإكزوتية"، لكنه طلب مني الإذن لنشر رسالتي لـ «مارتان» في كتالوغ المعرض. و ذلك لأن رسالتي أثارت مناقشة بين فريق المنظمين كونها، حسب عبارته،" تعقلن الحدود المفهومية التي ينهض عليها مشروع المعرض" .طبعا قبلت نشر رسالتي في الكتالوغ و عزّيت النفس على مبدأ «المال تلته و لا كتلته»، و وعدني « تيري برات» بعرض عملي "في مرة قادمة" إن شاء الله..ـ"
بعد إفتتاح المعرض بأسابيع اتصل بي " سيدريك فانسان" الباحث في الفن الإفريقي المعاصر، و الذي كان آنذاك يعمل بالتدريس في كلية الفنون بمدينة "بوردو"، غربي فرنسا، و قال لي أنهم قرأوا رسالتي لـ " مارتان" في كتالوغ معرض " قسمة الإكزوتية" و اهتموا بمضمونها، و دعاني للمشاركة في السمنار الذي ينظمونه في كلية الفنون حول موضوع "الفن غير الأوروبي ». بعدها تواترت الرسائل و الدعوات المشابهة من أشخاص مختلفي المشارب لكنهم يلتقون حول التفاكر النقدي في موضوعات الهوية الإجتماعية للممارسة الفنية.بل أن رسالتي لـ «مارتان» صارت تعرف وسط المهتمين بالفن الإفريقي المعاصر بـ "الرسالة التي كتبها حسن موسى لـ "مارتان" "الأمر الذي أضفى على شخصي " رَقـَشـَة" نقدية لم تكن في حسباني .و العبارة " الرسالة التي كتبها حسن موسى لمارتان " صاغتها أقلام بحاث مشغولين بأسئلة الفن و الآيديولوجيا و دارسين في الفن الإفريقي المعاصر، فيهم من دعاني للحديث في سمنارات أو لقاءات أكاديمية، مثلما فيهم من استكتبني حول الموضوعات التي أثارتها الرسالة. و لا أظن أن الرواج الذي لقيته رسالتي لـ "مارتان" يعود للنوعية الأدبية غير المسبوقة التي جادت بها قريحتي النقدية، و إنما لأن رسالتي، من جهة كانت أمرا مشاترا لا يتوقعه الناس في عالم منظمي المعارض، لأن الفنان ، عادة ـ، إما أن يقبل عرض عمله فيبعث به لمنظم المعرض أو يرفض و السلام. لكن أن يقوم فنان بإنتقاد فكرة المعرض مع إبداء رغبته في عرض عمله ايضا ، فهذا أمر لم يكن في حسبان منظمي معرض "قسمة الإكزوتية ».و حسب علمي، كنت ـ مع "كريس أوفيلي"، الرسام البريطاني من أصل نيجيري ـ كنت أحد اثنين أبديا موقفا سلبيا من فكرة المعرض . فقد رفض "كريس أوفيلي" صراحة عرض عمله في معرض يرفع شعار الإكزوتية، بينما سعيت أنا للمفاوضة النقدية التي لم تعجب منظمي " قسمة الإكزوتية".و من جهة أخرى أظن أن رسالتي لـ "مارتان"بدت ،في عالم الفن الإفريقي المعاصر الصغير، كما " القندول الشنقل الريكة"،لأنها نشرت في لحظة وصلت فيها المناقشة حول الهوية الإجتماعية للتعبير الجمالي المعاصر لمفترق مهم بين دروب المنازعة الطبقية المعولمة التي يعي أطرافها حقيقة التعبير الجمالي كساحة مواجهة إجتماعية بالغة الأهمية.هذه المنازعة المستعرة المدممة بين القوى المضمحلة في المجتمع الأوروأمريكي و القوى الحديثة الخارجة من ثنايا إقتصاد العولمة المزدهر في المجتمعات المعاصرة، تملك أن ترمي بالمجتمع الكوني في أتون حرب واسعة شاملة طويلة يختلط فيها الحابل بالنابل في عنف مادي و رمزي غير مسبوق.ـ
في هذا المشهد الذي يفرض على الأوروبيين إعادة النظر في جملة المسلمات التي تخلقت عليها المواريث الثقافية للعالم القديم ،انطرحت موضوعة الهوية الثقافية كساحة مواجهة مرموقة تتداخل امتداداتها السياسية و الأدبية و الفنية و الإقتصادية و الدينية و الجندرية في آن معا. في هذه الساحة الواسعة بحجم العولمة ، يسعى حرس الثقافة البائدة ،التي كانت ـ و ما زالت ـ تؤمن مصالح الرأسماليين الأوروبيين على حساب غيرهم، يسعون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بشتى الوسائل بما فيها وسيلة الهوية الثقافية. و تحت هذه الشروط
تتخلق مبادرات ثقافية جديدة بين مقام السياسة و مقام الفن، يدبرها نفر من القائمين على المؤسسات الثقافية الأوروبية أو الأمريكية مثل « جان هيوبير مارتان» و" سوزان فوغل» و آخرين، من حرس الثقافة البائدة، الذين أسبغوا على هذا الفرانكشتاين الجمالي، المسمى "الفن الإفريقي المعاصر"، دينامية ثقافية حقيقية لم يعد بالإمكان تجاهلها من قبل أي من أطراف المنازعة الدائرة في ساحة المواجهة المعاصرة..ـ

و حين أقول حرس الثقافة البائدة" فعبارتي لاتقتصر على الدعاة من أصل أوروبي و إنما تتجاوزهم لتشمل ذلك النفر من غير الأوروبيين. و نجانب الصواب لو جرّمنا الأوروبيين وحدهم فالأفارقة انخرطوا ،منذ عقود طويلة ، في المشروع الأوروبي للهوية الذي يتوسل بوسيلة الثقافة لإستبعاد الأفارقة عن مركز المبادرة الحضارية المعاصرة ـ
و على وجه الخصوص هذه " الفرقة الناجية" من الأفارقة الفنانين و الأدباء والنقاد و المؤرخين و الأنثروبولوجيين و منظمي المهرجانات و المؤتمرات و المعارض الذين يتخذون من حجة الهوية الثقافية منصة عملية لإطلاق دعاويهم الرامية لتقييد حركة الخلق داخل الأطر الآيديولوجية القومية و العرقية البالية و يجنون ثمار جهدهم من عطايا دوائر رأسمال الأوروأمريكي و ملحقاتها الإقليمية و المحلية.
و القائمة طويلة تبدأ من دعاة العودة للتراث الإفريقي و للجذور الإفريقية و لبراءة الروح البدائي الأصيلة ،روح الإنسان الإفريقي الطفل وثيق الصلة بعناصر الطبيعة و بالحدس العفوي وبعالم الأحلام واللاوعي و بصفاء السلوك الإنساني الأول، و غير ذلك من ترهات أدب الحركة السوريالية المتوجس و المعادي لتقليدالفكر المادي العقلاني المفخخ بمثالب ثقافة رأس المال.لقد خلق السورياليون الفرنسيون الأسس الجمالية لمفهوم البدائوية في الفن[«  بريميتيفيزم"]، من واقع ثورتهم على عقلانية المجتمع الرأسمالي التي أودت بالمجتمع الأوروبي نحو الإستغلال الإفقار و الحرب العالمية .و على درب الأدب النقدي السوريالي تقدم سدنة ثقافة رأس المال الفرنسية ليقيموا صرحا عجيبا من الإلتباسات و الأكاذيب و أنصاف الحقائق سموه " الفن الإفريقي المعاصر". و رغم أن هذا " الفن الإفريقي المعاصر" ينهض على مجموعة المسلمات الجمالية و السياسية التي انصاغت داخل التقليد الجمالي لحركة الفن الأوروبي،[الدور الإجتماعي للفنان في أفق حركة التقدم الإنساني،فرادة الخلق الفني، إتصال التقليد الفني داخل تقليد ثقافي يشكل مفهوما جامعا للعالم ]، إلا أن سدنة الفن الإفريقي المعاصر يحرصون على تقديم هذا الفن الإفريقي المعاصر كظاهرة ثقافية بعيدة من، أو/و مضادة للفن الأوروبي الذي يزعمون إضمحلاله و أنحطاطه و موته، ضمن موت مزعوم للحضارة الغربية التي أنتجته.و قد لعبت الملابسات التاريخية لحركات التحرر من الإستعمار في إفريقيا و بلدان العالم الثالث بالتزامن مع التطور الثوري في مجالات العلوم الإنسانية [ أنثروبولوجيا الشعوب غير الأوروبية] دورا مهما في تسويغ المزاعم التحررية و الوطنية لحركة الفن الإفريقي المعاصر . هذا الواقع الذي تتداخل ضمنه المكونات السياسية و الجمالية هيأ المشهد العالمي لقبول النزعة العدوانية الجائرة للفنانين و للمثقفين الأفريقانيين تجاه مجمل مواريث الثقافة الغربية مختزلة لحدود ثقافة المجتمع الأوروبي بدون أي فرز طبقي يعقلن تأثيراته .ـ
و حين يصدر الموقف العدائي تجاه ميراث الثقافة الأوروبية من أشخاص عاديين فهو أمر يمكن قبوله على زعم أن هؤلاء الأشخاص لا يملكون متاعا معرفيا يؤهلهم لفرز الأمور المشتبهات في مشهد المنازعة الجمالية المعولمة. لكن حين يصدر هذا الموقف من طرف مثقفين من ذوي الوزن الأكاديمي المعروف فهو يحتاج منا لمزيد من التأني. و أتأنى هنا عند بعض أعلام الفن الإفريقي المعاصر بغاية فرز تفاكيرهم و تفهم الأسباب التي تحفزهم على الإنحياز لجانب الخصوم الطبقيين لشعوبهم و الوقوف في موقف العمالة تجاه دوائر رأس المال .ـ

و" العمالة الثقافية" ميد إن آفريكا :ـ

و لو عدنا لفريق " عملاء" الثقافة في ساحة الفن الإفريقي المعاصر فـ "هؤلاء الناس" لا يوصفون أنفسهم بصفة " العملاء" لكنهم يستخدمون عبارة ألطف و أشد فتكا في نفس الوقت هي « القيّم»أو صاحب القوامة المفهومية و الإدارية و المالية على الفنان و على المعرض. فمنظم المعارض في رطانتهم هو الـ " كيوريتار» :ـ
Curator
و ترجمتها المتوفرة ـحاليا ـ في العربية:ـ هي " القيّم"،[ من القوامة و صاحبها هو قيّم المعرض أو قيّم المشروع الفني]. قد نجح الأنجلوساكسون ـ بجاه التأثير الأمريكي ـ في فرض مصطلح الـ " كيوريتار" في فرنسا التي كان أهلها ، حتى سنوات الثمانينيات، يستخدمون عبارتي "قوميسير »[و هو المُكلّف بمهمة أو مشروع]ـ"
Cmmmissaire
و "كونسيرفاتور"[و هو الأمين أو المحافظ].ـ
Conservateur
و الـ "كيوريت"
curate
في الأصل الإنجليزي تدل على رجل الدين المدني الذي يساعد القس في أداء مهامه في الكنيسة، أما" كيوريتور"الفرنسية
curateur
فهي تدل على الشخص الراشد الذي يعتني بالطفل القاصر أو يتولّى أمر الشخص من ذوي العاهات.و الـ " كيوريتار"
Curator
هو الشخص الذي يتولى مسؤولية القوامة على العرض في متحف أو غاليري. و هي مسؤولية تتنوع حسب حدود الممهمة المكلف بها القيّم. سواء كانت إختيار الفنانين أو إختيارالمعروضات أو تحضير النصوص المصاحبة للعرض أوتولي إختيار المقتنيات إلخ.و في عروض الفن الإفريقي المعاصر من النادر جدا أن ينظم القيم معرضا واحدا لفننان فرد، فالسائد في هذه المعارض هو الطابع الجماعي، من جهة لأن الفنان الإفريقي الفرد ، هو في الغالب شخص بلا سيرة معروفة أو بسيرة فقيرة في المعلومات بالنسبة للجمهور الأوروبي أما لقصر عمره الفني أو لصعوبة تحصيل الأدب النقدي في خصوص عمله.أما المعارض الجماعية فهي تتميز بكونها تنبني على موضوع مشترك،" ثيمة"، ينضوى تحت مظلته الجامعة أكبر عدد من الفنانين فضلا عن كون المعارض الجماعية تمكن القيّم من تمثيل القارة ،غالبا ، من خلال فنان من كل بلد.و هي طريقة تتيح للقيم معالجة الموضوع الفني العام مثل :ـ " الهوية " ،" الآخر" «  الذاكرة"،"التراث"، المستقبل"،"الحرية" ،"السلام" و غيرهابتنويعات عديدة شخصية و قومية هذا النوع من المعارض الجماعية يحتاز على رضاء الجميع، الرعاة و الجمهور [الأوروأمريكي]، كونه يزعم تلخيص إفريقيا بأكملها و بكامل تعقيداتها في معرض واحد. فلا أحد يفكر اليوم في إقامة معرض للفن الأوروبي أو للفن الآسيوي أو الأمريكي. لكن القارة الإفريقية هي الوحيدة بين قارات العالم التي ما تزال موضوعا لطموحات القوامة المعارضية الأوروأمريكية.ـ
و في المعرض الجماعي، أي معرض جماعي يتم إختيار أعمال الفنانين من طرف القيم ، حسب إنسجام العمل مع الموضوع الذي عرّفه القيم للمعرض. و في هذا السياق يصبح عمل الفنان كمجرد إقتطاف ينتفع به القيم في دعم مشروعه من خلال تنظيم نسيج المساهمات المختلفة.هذا الواقع يمسخ المعرض الجماعي شأنا خاصا بالقيم أكثر من كونه شأن الفنانين العارضين.و هكذا يكتسب شخص القيّم ،بحكم موقعه الإداري، أهمية تتجاوز أهمية كل فرد من الفنانين العارضين كونه يتحكم في إختيارهم و إختيار أعمالهم حسب الخطة التي رسمها للمعرض.و تطرح هذه الوضعية الغريبة أكثر من سؤال حول المشروعية الفكرية و الجمالية التي تموضع القيّم فوق أي من الفنانين المساهمين في معرضه.و طبعا نجانب الصواب لو صدقنا أن القيّم شخص حر يصمم معرضه و يختار موضوعه و فنانيه حسب مقتضيات جمالية بحتة. فالمعارض الجماعية الكبيرة تفترض ميزانية مهمة و إعداد "لوجستي" ضخم.و هي أمور لا تتيسر إلا للرعاة القادرين الذين تسندهم أجهزة الدولة أو الشركات التجارية و الصناعية الكبيرة أو المنظمات الدولية المهمة.و يبقى«المال عصب الحرب» حتى في ساحة هذه الحرب الغريبة التي اسمها الفن الإفريقي المعاصر.و في هذا المشهد، مشهد العلاقة بين القيم و الراعي، يفقد القيّم مشروعيته الأخلاقية مثلما يفقد استقلاليته الإدارية الإفتراضية و ينمسخ لمجرد منفذ لمشيئة الراعي الذي يدفع تكلفة العرض، أو كما جاء في الأثر"خادم الفكي مجبورة على الصلاة"و ترجمتها
He who pays the piper dictates the tune
و صلاة القوامين في "مائدة معاوية" مؤسسة ذات أصول و أتيكيت يرعاه كل من يحلم بدخول ملكوت الفنأفريقانية الأوروأمريكية.و أول أركان العقيدة الفنأفريقانية هو قبول خرافة الهوية الثقافية كإطار مفهومي لعمل الفنان الإفريقي المعاصر.طبعا الهوية الثقافية للفنان الأوروأمريكي الوافد من الفضاء الثقافي للطبقة الوسطى الأوروأمريكية البيضاء النصرانية، لا خوف عليها و لا حزن، فهو « عارف عزه و مستريح» و قد يعمل في صمت ، أو يملأ الدنيا ضجيجا دون أن يشغل نفسه بأسئلة الهوية الثقافية ، فهو حر حرية بلا حدود. أما الفنان الإفريقي فموضوعة الهوية الثقافية تنطرح عنده كهاجس بحث عصابي بلا نهاية. و وضعية البحث عن الهوية تعني ببساطة أن هذا الإفريقي الفنان هو كائن بلا هوية ثقافية، أما لأنه فقدها من تلقاء نفسه بإنكارها أو بالتفريط فيها أو لأنها صودرت منه بيد غيره[ إقرأ بيد المستعمر الأوروبي].طبعا لا أحد ، بين سدنة نظرية الهوية الثقافية، يتأنّى للتفكر في الإستحالة المفهومية لوجود كائن " بلا هوية" ثقافية، كائن منقطع عن الثقافة ، يقف معلقا في الفضاء كما شخوص " شاغال" الفالتة من قانون الجاذبية الأرضية. و بحث الفنان الإفريقي عن هويته الثقافية يؤدّي به للموضوعة الثانية التي لا تقل عنها أهمية، و هي موضوعة " الصدمة" الثقافية أو ما يسميه القوم بـالـ "تروما»،:ـ
Trauma
و " الصدمة" الثقافية هي ما يصيب صاحب الهوية الثقافية الإفريقية حين يجد نفسه ـ في إفريقيا أو في أوروبا أو أمريكاـفي مواجهة هوية ثقافية مغايرة [ و قيل :معادية].هذه الهوية الثقافية المغايرة أو المعادية تعرف حدود الإطار المفهومي الذي يتحرك فيه الإفريقي الباحث عن هويته.ذلك أن الإفريقي لا يبحث عن هويته على مرجع أي هوية أخرى ، مثل الهوية الصينية أو الهندية أو هوية الأمريكان اللاتينيين أو هوية هنود أمريكا إلخ، و إنما يبحث عن هويته الثقافية بالتعارض أو بالمقارنة مع الهوية الثقافية للأوروبيين. و سواء بنى الإفريقي هويته على منطق التعارض أو على منطق المقارنة فهو يبقى رهينا لحالة إحباط ثقافي و نفسي كبير لأنه يعرف أنه لن يكسب الحرب ضد الخصم الهويولوجي الأوروبي الذي يمتاز عليه بكونه يحتل موقع الخصم و الحكم معا مثلما يعرف أنه لن يدرك مقام النموذج الهويولوجي الأوروبي أبدا.و في هذا المشهد يمكن عقلنة نبرة العداء للغرب الثابتة في أدب الهوية الفنأفريقانية سواء صدر من طرف الأفارقة أو من طرف الأوروبيين الضالعين في تقديم الفن الإفريقي المعاصر للعالم الأوروأمريكي.و لا أظنني بحاجة لطرح الأمثلة حول الأدب النقدي، الذي يبذله فنأفريقانيون أوروبيون من طينة[ «مارتان» و «فوغل» و «كلير» [و آخرون]، و الذي يطفح بآيات العداء السافر للهوية الثقافية الغربية ، إما بسبب إرتباطها بالهيمنة الإستعمارية و الإستغلال الرأسمالي أو بالنزعة العرقية أو بالأنانية الأوروبية و تهميش الآخر إلخ، و فيهم من لا يتورع عن التنبوء بقيامة الغرب و إنقراض حضارته إلخ. لكني ، في أسطري القادمة ، سأحاول فحص الملابسات التي تحفز الفنأفريقانيين الأفارقة المعاصرين على الإنخراط في النسخة الأوروأمريكية لهويولوجيا الإستبعاد.ـ
سأعود
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



سلام يا حسن .. متابعين ومستمتعين


الصورة المرفقة صورة قديمة قطعتها من مجلة أفتكر أمريكية، ولا أدرى ما إذا كانت هذه المجلة مازالت موجودة عندى أم لا، المهم أنها لفنان أرجِّح أنه أمريكى، وأذكر التعليق المصاحب لصورته هذه يوضح موقفه الرّافض لمفهوم "الفن أفريقانية"، ولأن الصورة أكبر من "الإسكانر" ألصقتها على جزئين، لذلك قد تظهر ما مظبوطة:




صورة
صورة
آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في السبت يناير 21, 2017 3:18 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مزروعي و أرزاق الهويولوجيا الأفريقانية

مشاركة بواسطة حسن موسى »


سلام يا ياسر
زي ما شايف عندنا مشكلة مع تحميل الصور في المنبر
و قلة حيلتي الرقمية لا تسمح لي بأكثر من الإنتظار حتى يصل " أهل المروءة الرقمية" و يفرجوها علينا.
و كان ماوصلوا إلا نبيع حماري دا و نفرجّا على رقبتي و...هيهات.




16

علي مزروعي
و أرزاق الهويلوجيا الإفريقانية

ختمت مقالي السابق بوعد فحص الملابسات التي تلهم الفنأفريقانيين الأفارقة الإنخراط في النسخة الأوروأمريكية من " صنعة" هويولوجيا الإستبعاد الإجتماعي.ـ.
و في هذه الأسطرعن لي التأني عند كلمة للباحث الإفريقي المعروف "علي مزروعي"، أظنها تصلح مثالا لعقلنة حالة الإحباط الثقافي التي تسكن وجدان الأفارقة الذين ينظرون وجهة النموذج الأوروبي.ـ
و علي مزروعي[1933ـ2014] :ـ
Ali Mazrui
لمن يجهلونه ،أكاديمي كيني مسلم،كان أستاذا للعلوم الإنسانية في جامعات نيويورك[ بينغهامتون ] و كورنيل و ميتشيغان. و جامعات جوس [ نيجيريا] و
ماكريري[ يوغندا] و جوموكنياتا [كينيا]، و إلى جانب نشاطه الأكاديمي و السياسي عمل مزروعي ايضا كمستشار في البنك الدولي. و في الولايات المتحدة اشتهر كناشط "بانأ فريكاني" وسط الآفروأميريكانيين الذين كان يعتبرهم أفضل وسيط للتواصل بين أمريكا و أفريقيا.و مزروعي، عبر مساهمته في الكتاب الجماعي،" ملهمات الحداثة، دراسات في الثقافة كتنمية في إفريقيا" لو جازت ترجمتي لـ :ـ
The Muse of Modernity, Essays on culture as Development in Africa,.Editedby Philip G.Altbach and Salah M. Hassan, Africa World Press,Inc.1996
يطرح نقدا لمؤسسات الثقافة الإفريقية الحديثة ، أقل ما يمكن أن يقال فيه هو تحامله على النخب الإفريقية بجريرة عجزها عن خلق هوية ثقافية تطلق التنمية الإجتماعية و تحرر المجتمع الإفريقي من عقابيل التخلف.
و مساهمة مزروعي في مقالته التي تتصدر الكتاب، و التي اختار محررا الكتاب عنوانها كعنوان للكتاب :ـ
Perspective;The Muse of Modernity and the Quest for development
هي بمثابة تلخيص لمحتوى الكتاب حتى أن القارئ ليتساءل عن ضرورة حضور المساهمات الأخرى التي تكاد تكرر ما جاء في مقالة مزروعي.و الكتاب تجميع لمساهمات عدد من البحاث المعنيين بالثقافة الإفريقية يوصفهم كاتبا التصدير :ـ [فيليب جي آلت باك و صلاح حسن ] ،بكونهم"من أفضل المفكرين في قضايا الثقافة الإفريقية » ممن يتقاسمون "قناعة كون الثقافة محورية بالنسبة للتنمية الإفريقية ". و قد تمت مساهماتهم في إطار مؤتمر انعقد في مركز بيلاجيو للبحوث بإيطاليا التابع لـ"مؤسسة روكفلر" في 1995،وبعون من السلطة السوديدية الدولية للتنمية و " مؤسسة فورد" بفضل بعض مؤسسات الرعاية الثقافية الأمريكية.و يرى كاتبا التصدير أن " الكتاب يعكس الأفكار التي طرحتها "ألبرتا آرثرز"، مديرة شعبة الفنون و الإنسانيات في "روكفلر فاونديشان"، في مؤتمر" الثقافة والتنمية في إفريقيا جنوب الصحراء" الذي عقده "البنك الدولي" عام 1992.ـ و فكرة "آرثرز" المحورية تتلخص ، حسب عبارتها في أن "النظرة السائدة للتنمية تتميز بكون التنمية حركة تنطلق من الشمال في إتجاه الجنوب لكننا يجب أن ننظر للثقافة بطريقة مختلفة.فالثقافة تتحرك في إتجاهات عديدة.حركة الثقافة أمر يصعب التنبوء بإتجاهه.إنها لا تسير في إتجاه واحد".و يلتقط مزروعي فكرة "تحرير" الثقافة من سياق التنمية الإقتصادية التي تبشر بها "ألبرتا آرثرز"، و التي تمسخ الثقافة لحال ظاهرة روحية تهوّم فوق التناقضات الإجتماعية الطبقية و فوق قوانين الإقتصاد، لينتفع بها في دعم استراتيجية البنك الدولي الذي يتمتع مزروعي فيه بمنصب " مستشار" في قضايا الثقافة و التنمية في إفريقيا. ـ

و مزروعي ،الذي يعول كل التعويل على الثقافة، بل و يجعل منها اساسا للتراتب الإجتماعي أو كما جرت عبارته :ـ"المنفعة الرابعة للثقافة تتعلق دورها كأساس للتراتب الإجتماعي.فالثقافة إذا لم تخلق التصانيف الإجتماعية كالفئة و الطائفة و الطبقة فهي تؤثر فيها بعمق".ـ

"The forth fonction of culture concerns its rôle as the basis of stratification.Rank,caste and class are all profoundly conditioned by-if not created by- culture"(P.2)ـ
و على أساس مفهومه للثقافة يلوم مزروعي المجتمعات الإفريقية لأنها لم تؤصل ثقافة الحداثة في اللغات المحلية و قعدت في إسار اللغات الأوروبية، لغات المستعمرين الإنجليز و الفرنسيين.ـ
و مزروعي يستخدم مفهوم " الحداثة المؤصلة" :ـ
Indigenized modernization
و يورد مثال التنمية الصناعية الكبيرة لليابان و كوريا لكون اليابانيين و الكوريين نجحوا في جعل لغاتهم القومية وسائط علمية ذات كفاءة في حين بقيت إفريقيا في حالة إعتماد تام على اللغات الأوروبية. طبعا مزروعي ، أستاذ العلوم السياسية و العالم الأنثروبولوجي الأفريقاني ،لا يجهل أن إفريقيا قارة ينطق أهلها في أكثر من لغة، و أن اليابان أرض و دولة و قومية تكونت عبر القرون على تاريخ مشترك و قيم ثقافية مشتركة و أن أهله يتقاسمون لغة مشتركة إلخ، لكن مزروعي يبيح لنفسه مقارنة جائرة تتجاهل الإختلافات الإجتماعية و الثقافية الكبيرة بين إفريقيا و اليابان أو كوريا.لماذا؟مندري؟ لكني اظن ـ غير آثم ـ أن التفسير الوحيد الممكن لهذا الشطح المناهجي [ ميثودولوجي] هو أن مزروعي يتجاهل معطيات التاريخ الإجتماعي للقارة الإفريقية [و لليابان] لأنه يداهن عواطف جمهور آفروأمريكي لا يبالي كثيرا بكون إفريقيا قارة أم قطر.جمهور أمريكي أسود [ و أبيض] القارة الإفريقية عنده هي بلاد السود و السلام.و من وراء الجمهور الآفروأمريكي يتوجه مزروعي لمؤسسات رعاية الثقافة الآفروأمريكية و الثقافة السوداء في إفريقيا ، و جلها مؤسسات أمريكية تسندها الشركات الكبيرة التي تشكل عماد دوائر رأس المال في العالم. "
و خلاصة حركة مزروعي تنتهي لقناعة غريبة تعتبر "العلمية" خاصية مودعة في وسيلة اللغة و ليست في منهج التفكير العقلاني الذي يتوصل إليه المجتمع في لحظة من لحظات تطوره الثقافي.و يخلص مزروعي ، في براءة مفهومية تامة، إلى أن هناك لغات علمية و لغات تفتقر للعلمية،فكأنما وسيلة اللغة تتحصل، بطريقة ما، على ذلك الـ "سمسم" السحري الذي ما أن ينطق به حتى تنفتح مغارة المعارف العلمية ويخرج الأفارقة من سجن التخلف.ـ

مزروعي لا يكتفي بمطلب تحويل اللغات الإفريقية لوسائط علمية لكنه يطالب الأدباء الأفارقة بالكتابة في لغاتهم الإفريقية بدلا عن الفرنسية و الإنجليزية.و لا يسلم من لومه الهويولوجي كاتب في أهمية"وول سوينكا" لأنه لم يكتب لجائزة نوبل في لغة قومه الـ"يوروبا"كما جرت عبارته :ـ".منذ 1986 نال ثلاثة أفارقة جائزة نوبل للأدب.كان من الممكن لعربي كنجيب محفوظ أن ينال جائزة نوبل للأدب عن كتابته في العربية ،لغته الأم . كما كان ممكنا لكاتبة جنوب إفريقية بيضاء ، "نادين غورديمر" ،أن تنال جائزة نوبل للأدب عن كتبها المكتوبة في لغتها الأم الأوروبية، لكن لم يكن ممكنا للكاتب الأسود الوحيد، «وول سوينكا»،أن ينال جائزة نوبل للأدب عن كتابته في لغة اليوروبا ،لغته الأم.و ما كان لـ "سوينكا" أن يدخل مضمار المنافسة إلا في لغة الآخر الإمبريالي.إن الهيمنة اللغوية الأوروبية على ثقافات المجتمعات الإفريقية جنوبي الصحراء أشد وطأة من الهيمنة اللغوية الأوروبية على العالم العربي. »[ص5]. ».ـ

رحم الله مولانا "كاتب ياسين" ، الأديب و المسرحي الجزائري الفرانكفوني الذي خاض حرب التحرير من الإستعمار الفرنسي ، و الذي كان يقول :ـ" اللغة الفرنسية غنيمة حرب »،ردا على لائميه من رفاقه الذين كانوا يعتبرون كتابته في اللغة الفرنسية علامة إستعمار ثقافي. و هي قولة تلخص بذكاء كبير كل تركيب الظاهرة الثقافية تحت شروط الهيمنة الإستعمارية ،كون المجتمع المستعمَر يتملك وسائل الثقافة الإستعمارية و يعيد تدويرها و يشحنها بمضمون إجتماعي مضاد للإستعمار. و لو تمادينا بقولة كاتب ياسين لنهاياتها المنطقية فاللغة و الفن و الأدب و جملة المعارف و الخبرات التي يتحصلها الشخص المستعمَر ،تحت شرط الهيمنة الإستعمارية للأوروبيين، تصبح "غنائم حرب" قابلة للإستثمار الثوري التحرري الذي يعيد تأهيلها لصالح قضية التحرر الإنساني. لكن مزروعي ـ لسوء حظنا ـ ليس كاتب ياسين.مزروعي ينتظر من الأفارقة أن يقوموا بإعادة "إختراع العجلة" لأنه لا يقبل لهم أن يستخدموا العجلة الموجودة التي جلبها الأوروبيون في متاعهم الإستعماري. ، ربما لأن مزروعي المتخندق في حمى أصالة ثقافية إفريقية مصنوعة من متاع الإكزوتية الأوروبية، بعيد كل البعد عن واقع حركة التحرر من الإستعمار التي تعيد إختراع فكرة الأصالة الثقافية الإفريقية بطريقة خلاقة حسب معطيات الواقع و ضروراته.فقراء كاتب ياسين الجزائريين [و غير الجزائريين] كانوا في أغلبهم من الفرانكوفونيين الذين لم يسمح لهم النظام التعليمي الإستعماري بتعلم العربية ، لكن كاتب ياسين كان يعرف أن الأولوية القصوى لهؤلاء القراء كانت التحرر من الإستعمار قبل تعلم العربية.و في هذا المشهد تتجلّى كل أصالة كاتب ياسين كمبدع "إفريقي" واع بأولويات مجتمعه.و أنا أضع صفة " إفريقي" بين مزدوجين لأن مزروعي ، مثل عدد كبير من دعاة البانأفريقانية المعرقنة ،لا يعتبرون أهل شمال إفريقيا أفارقة مثل غيرهم من سكان القارة.فهم " بيض" لأنهم ليسوا "سودا" بما يكفي لإدراجهم في هذه الفرقة السوداء الناجية[ من ماذا؟مندري؟]، و لهذا ورد تنويهه بصفة نجيب محفوظ كـ "عربي" في قوله :ـ"
«It was possible for an Arabe -Neguib mahfuz -to win it(The Nobel Prize) for literature in his native Arabic »
(P.5)
أما الكاتبة الجنوب إفريقية "نادين غورديمر" ،فهي ـ رغم تاريخها الطويل العامر بالتضحيات في مناهضة نظام الأبارتايد،إلى جانب حزب مانديلا،" المؤتمر الوطني الإفريقي"، لا تنج من آلة الأصالة الإستبعادية في يد مزروعي الذي يحيلها بجرة قلم بعيدا عن القارة الإفريقية التي ولدت و عاشت فيها عمرا طال لـ 90 عاما[1923ـ2014]،يحيلها مزروعي، خبيرالبنك الدولي، الذي يتأفف من الفكر الإشتراكي باعتباره فكر غربي غريب على أصالة القارة و مستورد من أوروبا، يحيلها لأوروبا بذريعة كونها"بيضاء" تكتب في اللغة الإنجليزية.[نفس الإنجليزية التي نقرأ فيها نحن أدب مزروعي الكاتب الآنجلوفوني].ـ
.
«It was possible for a South African white -Nadine Gordimer- to win the Nobel Prize for books written in her native European language »
أما "سوينكا"فمصيره أشنع من مصير محفوظ و "غورديمر"لأنه يقيم في مقام الخائن السامي الذي يشيح عن أصالته اللغوية ليكتب في لغة المستعمر بدلا من الكتابة في لغة أهله اليوروبا.. رحم الله مولانا " مانديلا" الذي كان يقول" أنا عربي، أنا جزائري، أنا مسلم" في زيارته الثانية للجزائر1990، التي كانت أول من قدم لحزب المؤتمر القومي الإفريقي ،في 1962، العون المادي و الرمزي حين بدأ نضاله المسلح ضد نظام الأبارتايد.ـ أتحسر على رحيل مانديلا كلما لمست نوع الرواج المريب الذي تلقاه البانأفريقانية المعرقنة على يد دعاة هوية ثقافية إفريقية صارت أداة عالية الكفاءة في صيانة الفرقة و التشظي بين أهل القارة.ـ
هذا المزروعي لا يحتاج لمن يذكره بأن اللغة العربية لغة إفريقية و أن اللغة الفرنسية لغة إفريقيةو أن اللغة الإنجليزية لغة إفريقية،لأنه يعرف كل هذه البديهيات. مزروعي هو في حقيقته الطبقية واحد من سدنة الهويولوجيا الإستبعادية الذين يرتزقون لقاء عملهم في صيانة مصالح دوائر رأس المال في ساحة المنازعة الآيديولوجية المعاصرة.و فضله ـ في نظر مخدميه ـ على العملاء الأوروأمريكيين من شاكلة "فوغل" و " مارتان" يكمن في كونه يلعب دور " شاهد من أهلها" لا سبيل لرميه بسبة الإستعمارية، ذلك لأنه إفريقي قرينة أصالته مكتوبة على بشرته السوداء. تاني شنو؟
تاني مافي غير الإمساك بمواقفه و نصوصه و فرز اشتباهاتها السياسية و الجمالية حتى يتاح للأفارقة ،و لغير الأفارقة ، عقلنة هذا الجنس من أجناس هويولوجيا الإستبعاد" اميد إن آفريكا"، و الذي صار «  صناعة » رابحة يتوسل بها نفر من الناس ـ سودا و بيضا و ما بينهما من « خاتفي الألوان » الأراذل ـ لكسب عيشهم و إن كلفنا ذلك الكسب استبعاد الأفارقة عن دائرة المبادرة الحضارية المعاصرة..ـ

سأعود
آخر تعديل بواسطة حسن موسى في السبت إبريل 29, 2017 9:30 am، تم التعديل مرة واحدة.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


سلام يا حسن

تمكنت من تحميل الصورة اللوحة عبر موقع خارجى.

.. هناك جزء مهم ورد عندك فى موضوعك بالعدد الثالث من مجلة "كتابات سودانية" بعنوان: "شُبهات حول الهوية"، يدور حول توجه "الغربيين"، بإيعاز من بعض الأساتذة، للنهل من الثقافات الأخرى بالذات الأفريقية، فى شتى ضروب الفنون وذلك لشعورهم بإفلاس الحضارة الغربية فى هذه المجالات. أرى أنه لصيق بأجزاء ممّا كتبته هنا ولكنك أغفلته. أرجو أن تجد له مُباصرة ما لتدعيم كتابك هذا العالى القيّمة.

بالمناسبة الخيط إتفتل من خطوط الروابط الموجودة فى رسائلك، قم بوضعها فى حجم خط صغير.

محمد سيد أحمد
مشاركات: 693
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:21 pm
مكان: الشارقة

ووو

مشاركة بواسطة محمد سيد أحمد »

قبل شوية كنت بشاهد فى قناة سودانية24
راش دياب بيتحدث عن مدارس الفن التشكيلى فى السودان
ذكر مدرسة الخرطوم
والمدرسة الكريستالية
ومدرسة الواحد

عن مدرسة الخرطوم قال من اطلق التسمية هو تنيسى ويليامز
انا قلتا بسم الله تنيسى ويليامز زولنا بتاع المسرح
رجعتا لبوست حسن موسى دا ولقيت الزول
اسمو دينيس ويليامز
هى ما فرقت كتير دينس وتنيسى كلهم عجم
أضف رد جديد