Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في المساحة التالية يواصل محمد خلف تقديم بعض أفكاره الناجمة عن عودته إلى تأمُّل أدب الطَّيِّب صالح، لا سيَّما عبر "موسم الهجرة إلى الشمال":



أُمَّةٌ يُهدِّدُها اليأسُ وسارِدٌ يسعى من داخلِ قبرِه إلى إحياءِ الأملِ بداخلها



أتى إلى الغربِ باكِراً، واتَّخذ مركزاً مرموقاً ببندرِه الكولونيالي؛ إلَّا أنه كان يُدرِكُ، في الوقتِ نفسِه، أنَّه ينتمي إلى أُمَّةٍ مقهورة، ذاتِ تاريخٍ مجيد، وشعبٍ فريد، وقيمٍ أصيلةٍ ونبيلة؛ لكنْ يقعُدُ بها الفقرُ، ويُنهِكُها المرضُ، وينتشرُ بها الجهلُ؛ فينقصُها لكلِّ ذلك الأملُ، ويتسلَّلُ إليها القنوطُ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب، ويُحيطُ بها اليأسُ كما يُحيطُ السُّوارُ بالمِعصم. كان مُلِمَّاً بفكرِ أوروبا، وشَغُوفاً بآدابِها؛ ويعرفُ كيف يتعاملُ مع لغتِها، ويفكُّ شفراتِها الثَّقافية، ويتحاورُ بها مع الآخرِ نوعاً من التَّحاور، إلَّا أنَّ همَّه الأساسَ هو الأنا، ليس بمعناها الفرويديِّ الضَّيِّق (ولو أنَّه حاورَه، ضمن مَنْ حاورَ من رموزِ الفكرِ الغربي)، وإنَّما بمعناها الحضاريِّ الأشمل.
ومن أجل ذلك، سنَسمَعُ صوتَه من خَلَلِ هذا الرُّكن، نتجوَّلُ عبر مَتنِه الشَّاسِع، ونستنطِقُ (فردياً، وجماعاتٍ جماعات) كتاباتِه وحواراتِه وكلماتِه المسموعةِ والمقروءة، ليَصِلَ إلينا (عبرَه ومن خلالِ قراءاتِنا النَّوعيَّةِ والمتنوِّعة) مغزى حديثِه الشَّيِّق، وفكرُه السَّرديُّ المُستنير، ورسالتُه التي تشرئبُّ إلينا من وراءِ القبر، غامضةً كنهرِ التِّيمز (كما أدرك جوزيف كونراد في "قلبِ الظَّلام")؛ ممتدَّةً كما المُتوسِّط (مثلما لاحَ لمسز روبنسون وهي تُلَوِّحُ بمنديلٍ من على رصيفٍ بالإسكندرية)؛ وعميقةً وضاربةً في جذورِ التَّاريخِ مثل نهرٍ عجوزٍ "تحدَّر في الزَّمان"، من غير أن يضِلَّ عبر طبوغرافيا المكان طريقة إلى "الشَّمال" (وفقَ ما تنقَّلَ "مصطفى"، سعيداً في "موسِمِ" هجرته، ووفقَ ما عبَّر "التِّجاني"، صادِقاً في قصيدةِ "النِّيلِ" العظيم).
وأمامَنا أيضاً سارِدٌ عظيم؛ خبِرَ حِرفة الحَكي، وعرَفَ كيف يُوظِّفُ الحِوارَ والحَبكةَ وتقنيةِ "الفلاش باك" من خلالِ مِنوالِ الإظهارِ والتَّخفِّي. ولا نُريدُ أن نستبِقَ حيثياتِ هذا المَنحى الجديدِ لمشاركاتِنا الآتيةِ ضمن رُكنِ القصَّاص، ولكننا نُريدُ أن نُبشِرَ بمَقدِمِها بإعطاءِ عَينةٍ لما يُمكِنُ أن تتكشَّفَ عنه الحفرياتُ الجماعية في مَتنِ الرَّجلِ الصَّالحِ قولاً وفِعلاً: الأستاذ الطَّيِّب صالح، الغنيِّ عن التَّعريفِ التَّقليديِّ المُبسَّط، وليس البسيطَ، بساطَتِه السَّاحرة؛ أو المتواضِعَ، تواضُعَه الأُسطوري؛ أو المُتأدِّبَ، أدبَه الجم. فـ"الفلاش باك" (أو تقنية الارتجاع بالفيلم أو المسرحية أو الرِّواية إلى أحداثٍ وقعت في الماضي) قد استُخدِمَ بشكلٍ ناجحٍ في فيلم "المواطن كين" في عام 1941؛ وهو الفيلمُ الذي أنتجَه، وشاركَ في تأليفِه، وأخرجَه، وقام بتمثيلِ أحدِ أدوارِه الممثل الأمريكي الشَّهير أورسون ويلز.
سنتركُ التقييمَ الفنِّيَّ والتَّاريخيَّ لهذا الفيلمِ المُدهش لأيدٍ أمينة (نذكُرُ منهم نُقَّاداً سينمائيين حاذِقين، مثل عبدالرَّحمن نجدي، وسعدية عبدالرَّحيم، ومحمَّد مصطفى الأمين؛ ومُخرجين سينمائيين نابهين، مثل إبراهيم شدَّاد، ومنار الحلو، ووجدي كامل؛ والقائمةُ تطولُ، فليعذِرنا الآخرون للتًمثيلِ –بمعنى ضربِ الأمثلةِ- المخلِّ)؛ ونكتفي هنا بالقولِ إنَّه رُشِّحَ لنيلِ تسعةِ جوائزَ من جوائزِ الأكاديمية، ففاز بإحداها عن جدارة؛ وهي جائزةُ أفضلِ كتابةٍ لسيناريو أصليٍّ لفيلم. إلاَّ أنَّ ما يهمُّنا ذكرُه ضمن هذه المشاركة، أن ويلز نفسَه قد قام بتمثيلِ شخصية النَّاشرِ الصَّحفي "تشارلز فوستر كين"، وهي شخصيةٌ مُركَّبة من عِدَّةِ شخصياتٍ واقعيَّة (سنطلُبُ من ناصر الطَّيِّب المك، وإيمان حبيب الله محمَّد، والطَّيب مهدي، أن يفكُّوا رموزها)؛ على أن الأمرَ المُلفِتَ أن الطَّيِّب صالح قد استخدم اسماً مُثلَّثاً مُشابِهاً لاسمِ هذه الشَّخصية الرَّئيسيةِ في الفيلم، حتَّى لكأنَّه اسمٌ لتوأمٍ أو شقيقٍ لها، لتحمِلَ بعضَ دَلالاتِ تلك الشَّخصيةِ المِحوريةِ المُرَكَّبة؛ وهو "ماكسويل فوستر كين"، أستاذ مصطفى سعيد، الذي دافع عنه أمام المَحكمة الكُبرى في لندن، وحاول تخليصَه من حبلِ المِشنقة، عندما حاول المُدَّعي العام، سير آرثر هيغنز، الذي علَّمه القانونَ بجامعة أكسفورد، أن يُحكِمَه حول عنقِه؛ هذا فيما كان يخطُرُ في بالِه أن يصرخَ في وجهِ المَحكمة: "هذا المصطفى سعيد لا وجودَ له. إنه وهمٌ، أُكذوبة. وإنَّني أطلبُ منكم أن تقتلوا الأُكذوبة"؛ وتلك قصَّةُ أخرى، سيجيء الكلامُ عليها لاحقاً.
ما يهمُّنا الآنَ، في صددِ هذا التَّداخُلِ بين الاسمين، أن مصطفى سعيد قد قال للرَّاوي إن "جَدَّكَ يعرفُ السِّرَ"؛ ولم يكنِ الرَّاوي ليخطُرُ بخَلدِه ولو لِلَحظةٍ عابرة أن لِجَدِّه أسراراً. وكانت كَلِمَةُ السَّرِ التي باح بها القطبُ الصَّحفيُّ في الفيلم، وهو في فِراشِ موتِه "روزبد" (وتُقابِلُها في العربيَّةِ كَلِمَة "بُرعُم")؛ فهل نُميطُ لِثاماً أو نكشِفُ سرَّاً، إذا ما "تبرعمت" في دواخِلِنا رؤى الطَّيِّب صالح، وسَعَت بيننا كتاباتُه؟ المؤكَّد أنه لا أملَ يُرجى، إنْ لم ينتشر بيننا التَّسامح، ويعُم فكرةُ القبول؛ وتلك هي -في إيجازٍ استدعته مِساحةُ هذه المشاركة- بعضُ الأفكارِ الرَّئيسيةِ المبثوثة عبر متنِه الشَّاسع؛ ومن أجل سيادتِها، نطلبُ من مُخرِجةِ البرامج إنعام عبدالله، ومن السِّر السَّيِّد، أن يسترجِعا أقوالَ الرَّجلِ الطَّيِّب، التي سجَّلها لإذاعتِنا الوطنية، فقد كان يوماً ما مديراً لها؛ وكان من الممكن، لولا تواضعٌ أسطوري، أن يصيرَ أكبرَ من ذلك بكثير؛ كما نطلبُ من يحي فضل الله، وِفقاً لهذا الرُّوح المُتسامح، أن يُعيدَ مَسرَحَةِ مَشهَدِ مَحكمة مصطفى سعيد في "الأولد بيلي"، التي تخرَّجَ بها من قسم الدَّراما بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح.
على المستوى الشَّخصي، سيُسعِدُني ذلك، لأن السِّرَّ ويحي، تماماً مثل حالي مع بشرى الفاضل، قد تقاسَما سريراً واحداً (بطابقين) في داخلية المعهد العالي ببانت شرق، وقد تبادَلتُ معهما بُصحبةِ محمَّد مدني وعادل عبدالرَّحمن، ذاتَ السَّرير، في وقتِ تشرُّدِنا بالبندرِ الوطني. وعلى المستوى العام، نسألُ جمهرة السِّينمائيين السُّودانيين (ونخُصُّ بالذِّكر سليمان محمَّد إبراهيم، وفاتن وأفكار وتوفيق)، لماذا اكتفتِ السِّينما السُّودانية بإنتاجِ "عُرسِ الزَّين"؛ ولماذا لم تُحاولِ السِّينما العالمية الاقترابَ من "مَوسِمِ الهجرة"، رغم اكتمالِ كلِّ عناصر السَّرد التي تصلُحُ أرضيةً راسِخةً لكلِّ عملٍ سينمائيٍّ ناجح؛ إذاً، لامتلأ جيبُ الرَّاحلِ بمالٍ يستحِقُّه، ولما سعى، حتَّى آخرِ يومٍ من حياتِه العامِرة، إلى رِزقٍ ضئيل، حتَّى تُدفعَ أقساطُ البيتِ، ويكتملُ تزويجِ البناتِ على سَنَنٍ مُرضٍ لأهلِ البلدين.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

خلف
ميري كريسماس
وبعد، بالنسبة لفلم "عرس الزين"
الإنتاج كويتي وليس سوداني
وكان ما أخاف الكضب الفلم
بيعتبر في الحالة دي فلم "كويتي"
وليس سوداني. ويا ريت السينمائيين
يفتونا في الموضوع دا.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في هذه الحلقة، فيما يقترحُ محمد خلف، بمناسبة إطلالة عام جديد، لَمْلَمة شتاتنا حول الطَّيِّب صالح، والتعامل مع حضوره، عبر آثاره الإبداعية، وإلى حدٍّ ما الشخصية، كرمزٍ للالتقاء والتحاور المُعافَى، فإنه يشرعُ في تأمُّل بعض العناصر – لا سيَّما تلك التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي – التي تتميَّزُ بها بعض أعماله – وجوانب من شخصيته:



أقبَلَ عامٌ جديد:
فلنتحَلَّق إذاً زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارِب حول الرَّجُلِ الطَّيِّب




سنهتمُّ في هذه المشاركة، والمشاركاتِ التي تليها، ضمن تجوُّلِنا عبر متنِ الرَّجُلِ الطَّيِّب، بأمرين: الأول، استئنافُ ما بدأناه في الحلقةِ السَّابقة، وهو التَّنقيبُ الجماعيُّ المستمر -من خلال الكنوزِ الأدبية التي خلَّفها لنا الرَّاحلُ العظيم- عن الدَّلالاتِ الجديدةِ والمتجدِّدة عند كلِّ قراءةٍ متأنيَّة لأيٍّ من النُّصوص، التي حفِل بها متنُه العامر؛ أمَّا الثَّاني، ولعلَّهُ الأمرُ الأهمُّ في هذه الآونةِ بالذَّات، فهو النَّظرُ إلى الأديبِ السُّودانيِّ الكبير باعتبارِه مِحوراً مُجَمِّعاً للشَّتاتِ السُّوداني بالدَّاخلِ والخارج.
فكثيرٌ من الأنظمةِ السِّياسيةِ في شتَّى البلدان تُنشئُ لها تكويناتٍ عليا، يتجمَّعُ في إهابِها الخبرة، ويشِعُّ في أعطافِها الحكمة، فتمنحُها استقلاليةً تعلو بها على الحِراكِ اليومي، وتنأى بها عن التَّحيُّزِ السِّياسيِّ الأعمى للانتماءاتِ الحزبيةِ الضَّيقة؛ فتكونُ هناك مجالسُ للشيوخِ واللُّوردات، أو بوندسراتٌ للوجهاء والأعيان، أو هيئاتٌ عليا لكبار العلماء والمستشارين؛ وكان عندنا من قبلُ مجلسٌ للسِّيادة قليلُ العدد، كافٍ رغم صِغَرِه لحلِّ مشكلة الرِّئاسة عن طريقِ تداولِها؛ وكان يمكن أن يتوسَّعَ ويتطوَّر، في إطارٍ ديمقراطي، للإشرافِ السِّياديِّ على حُكمٍ اتِّحاديٍّ فدراليٍّ أو كونفدراليٍّ أو ما شئت، إضافةً إلى اضطلاعِه بقضايا التَّشريع.
إلَّا أن الشُّعوبَ تتخيَّر لأنفسِها بشكلٍ مستقِل، وعبر مسيرةٍ تاريخيةٍ طويلة وتدورُنٍ لا ينقطع، رموزَها الثَّقافية ونجومَها الدَّائمةَ اللَّمعان. ففي مجالِ الأدب، على سبيلِ المثال، تلاقتِ الشُّعوبُ البريطانية حول شكسبير؛ والتفَّت فرنسا حول بودلير؛ وتجمَّعت ألمانيا حول غوته؛ وتشابكت مصائرُ الشُّعوبِ الرُّوسية حول بوشكين. فلماذا لا نتحلَّقُ، على طريقتِنا، زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارب حول ذلك الرَّجلِ الطَّيِّب ذي الخصالِ الحميدة، صاحبِ الإنجازاتِ الأدبية غير المسبوقة، الذي عطَّرت كلماتُه المحافل، وطبَّقت شهرتُه الآفاق: أُستاذِنا الكبير (الطَّيِّب صالح)؟
على سيرةِ شكسبير، أثار الكاتبُ المسرحيُّ ذائعُ الصِّيتِ أو "شاعرُ الملاحم" ("ذي بارد"، كما يُلقِّبُه أهلُه) على لسانِ "جولييتَ" مسألةَ اعتباطيَّةِ الأسماء (قبل أن يُثيرَها في بدايةِ القرنِ الماضي، عالمُ اللِّسانياتِ السِّويسري، فيرديناند دا سوسور، ضمن فهمِه العام لاعتباطيَّةِ العلامةِ اللُّغوية)، فقد طلبت من عشيقِها "روميو" أن يتبرأَ من اسمِ عائلتِه "مونتيغيو"، ليلتقيا على عشقٍ مستقلٍّ عن سيطرةِ وتحكُّمِ أسرتَيْهما المتحاربتَيْن؛ موضِّحةً له رأيها بالقولِ إنَّ "الوردةَ تفوحُ بعَبَقٍ طيِّب بأيِّ اسمٍ تسمَّت". إلَّا أنَّ الرَّجلَ الطَّيِّب يكسِرُ هذه القاعدة، التي يكسِرُها أيضاً عادل القصَّاص، وفقاً لما يُسمَّى بظاهرةِ "الحتميَّةِ الاسميَّة" (نومينال ديتيرمينيزم)؛ فالطَّيِّب صالح رجلٌ طيِّبٌ وصالحٌ بالفعل، مثلما أن القصَّاصَ قصَّاصٌ، علاوةً على أنَّ أصغرَ أبنائِه اسمُه "الطَّيِّب"، حَفِظُه الله.
في "مَوسِمِ الهجرةِ إلى الشَّمال"، تطلبُ مسز روبنسون من مصطفى سعيد أن يُناديها باسمِها الأول "إليزابيث"، إلَّا أنَّه يُصِرُّ على مُناداتِها باسمِ زوجِها؛ وفي التَّقليدِ الأدبيِّ والصَّحفيِّ المعروف، يتمُّ ذِكرُ الاسمِ كاملاً في المرَّةِ الأولى، ثمَّ يُستعاضُ عنه بالاسمِ الأول أو اسمِ العائلة، حسب المُتعارف عليه داخل كلِّ لغةٍ على حِدَة، ولكن الطيِّب صالح يُصِرُّ، في المرَّتينِ اللَّتينِ جاء فيهما ذِكرُ بروفيسور ماكسويل فوستر كين على لسانِ تلميذِه مصطفى سعيد، على الإدلاءِ بالاسمِ الثُّلاثيِّ كاملاً، بالرَّغم من أن الفاصِلَ بين وُرُودِهما في النَّصِّ ثلاثةُ أسطُرٍ فقط؛ وكان من الممكن أن يقولَ في المرَّةِ الثَّانية لذِكرِ الاسم: البروفيسور أو ماكسويل أو مستر كين؛ فما هي دَلالةُ هذا الإصرار؟
لعلَّ في إبدالِ الاسمِ الأول من تشارلز (كما في فيلم "المواطن كين"؛ علماً بأنَّ الاسمَ الثُّلاثيَّ الكامل للشَّخصيَّةِ الرَّئيسيَّةِ في الفيلم هو تشارلز فوستر كين) إلى ماكسويل نوعاً من الإخفاء، تتويهاً للقارئ، وإقصاءً له بعيداً عن مصدرِ الدَّلالة؛ بينما نجِدُ في الإصرارِ على بنيةِ الاسمِ الثُّلاثيةِ ذاتِها نوعاً من الإظهارِ الذي يُعينُ القارئ على معرفةِ ارتباطاتِ روايةِ "المَوسِمِ" بالفيلم (ومنها تقنيةُ "الفلاش باك"، وتركيبُ شخصية البطل من عِدَّةِ شخصياتٍ واقعية ذاتِ علاقةٍ بِسِيرةِ المُنتِج، المُخرِجِ أو الكاتب؛ وبقيَّةُ الارتباطاتِ التي عَهَدنا في الحلقةِ السَّابقة إلى النُّقَّادِ والمُخرِجين السُّودانيين بتوضيحِها لنا)؛ ولعلَّ في هذا أيضاً نوعاً من النَّسجِ على مِنوالِ الإظهارِ والتَّجلِّي، الذي أشرنا إليهِ في المرَّةِ السَّابقة.
في "عُرسِ الزَّين" (وهي روايةٌ يُحيلُ اسمُ بطلِها أيضاً إلى تلك "الحتميَّةِ الاسميَّة" التي سبق الإشارةُ إليها)، يجتمعُ المدعوون، بتنوِّعِ مشاربِهم واختلافِ أمزجتِهم، للاحتفالِ بشخصٍ وَطَّدَ صِلاتِه بالتَّعارُكِ تارَةً، وبالمحبَّةِ تارَةً أخرى، ليس مع "نِعمةَ" وحدِها، وإنَّما مع كلِّ فردٍ من أفرادِ المجتمع؛ فأتى النَّاسُ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب، من قِبلِي ومن بَحرِي؛ أتى فريقُ الطَّلحَةِ بأكملِه، وأتى عربُ القوز، "جاءوا عبرَ النِّيلِ بالمراكب، وجاءوا من أطرافِ البلد، بالخيولِ والحميرِ والسَّيَّارات" ليحتفلوا بزفافِ "الزَّينِ" على "نِعمة". ومع إقبالِ عامٍ آخرَ في أعقابِ وفاةِ الرَّجلِ الطَّيِّب (18 فبراير 2009)، يجدُرُ بِنا أن نتحلَّقَ، زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارِب، للاحتفاءِ الدَّائمِ بالطَّيِّب صالح، رمزاً للتَّوحُّدِ، وإعلاءً لقيمةِ التَّسامحِ فوق منطقِ الشَّتات، حتَّى ننالَ بحُسبانِ الدُّنيا، التي خبِرَ دروبَها، "نِعمةَ" القَبُول (فهذا لا يمنعُ، بل يقتضي، أن ننالَ أيضاً بحُسبانِ الآخرةِ أجزلَ الثَّواب).
هذا، بالطَّبع، لا يعني التَّطبيلَ للرَّاحل، رغم انقضاءِ فترةِ السَّماح التي يُجلِّلُها رحيلُ الموتى (فهو يُصبِحُ بانقضائها في ذمَّةِ التَّاريخ)، أو الاستنكافَ عن نقدِ المقروءِ أو المسموعِ أو المُشاهَد (بل يستدعيه، إذا كان نقداً موضوعياً أو علمياً)؛ كما لا يعني هذا بالطَّبع أن الرِّوائيَّ الكبير مُبرأٌ تماماً من الأخطاء (وربما بعضٌ منها لا يُغتفر، في نظرِ قلَّةٍ مُعتبرة)، فنحنُ في نهايةِ المطافِ لا ندعو للالتفافِ حول وليٍّ تقيٍّ أو شيخٍ كثيرِ الرَّماد؛ غير أن موتَه بعد عُمُرٍ مديد، وإنجازاتٍ عظيمة، يؤهِّله تماماً ليكونَ مناطاً للاقتداء، وبوتقةً دائمة لِلَمِّ الشَّتات.



في حلقةٍ قادمة، سنصحبُ القارئ في جولةٍ داخل محطَّة تشارينغ كروس بوسط لندن، لنُضيءَ جانباً مُعتِماً من رواية "موسم الهجرة"، تمهيداً للدُّخول، خطوةً على إثرِ أخرى، في المحاورِ الرَّئيسيَّةِ التي استدعت في الأساسِ ابتدارَ هذه المشاركات.

محمد خلف
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الإلتفاف الطيب الصالح

مشاركة بواسطة حسن موسى »



سلام يا عادل القصاص و شكرا على مناولاتك الكريمة
و سلام يا محمد خلف و شكرا على المكاتيب العامرة
و سلام للجميع
كتبت يا محمد خلف الله

« 
ومع إقبالِ عامٍ آخرَ في أعقابِ وفاةِ الرَّجلِ الطَّيِّب (18 فبراير 2009)، يجدُرُ بِنا أن نتحلَّقَ، زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارِب، للاحتفاءِ الدَّائمِ بالطَّيِّب صالح، رمزاً للتَّوحُّدِ، وإعلاءً لقيمةِ التَّسامحِ فوق منطقِ الشَّتات، حتَّى ننالَ بحُسبانِ الدُّنيا، التي خبِرَ دروبَها، "نِعمةَ" القَبُول (فهذا لا يمنعُ، بل يقتضي، أن ننالَ أيضاً بحُسبانِ الآخرةِ أجزلَ الثَّواب).
هذا، بالطَّبع، لا يعني التَّطبيلَ للرَّاحل، رغم انقضاءِ فترةِ السَّماح التي يُجلِّلُها رحيلُ الموتى (فهو يُصبِحُ بانقضائها في ذمَّةِ التَّاريخ)، أو الاستنكافَ عن نقدِ المقروءِ أو المسموعِ أو المُشاهَد (بل يستدعيه، إذا كان نقداً موضوعياً أو علمياً)؛ كما لا يعني هذا بالطَّبع أن الرِّوائيَّ الكبير مُبرأٌ تماماً من الأخطاء (وربما بعضٌ منها لا يُغتفر، في نظرِ قلَّةٍ مُعتبرة)، فنحنُ في نهايةِ المطافِ لا ندعو للالتفافِ حول وليٍّ تقيٍّ أو شيخٍ كثيرِ الرَّماد؛ غير أن موتَه بعد عُمُرٍ مديد، وإنجازاتٍ عظيمة، يؤهِّله تماماً ليكونَ مناطاً للاقتداء، وبوتقةً دائمة لِلَمِّ الشَّتات.
« ـ

و طبعا استرعت إنتباهي دعوتك للتحلّق حول الطيب صالح ـ لا بوصفه قامة أدبية عالية تستحق الإحترام و الإعجاب ، و إنما بوصفه حسب عبارتك يا محمد" رمزاً للتَّوحُّدِ، وإعلاءً لقيمةِ التَّسامحِ فوق منطقِ الشَّتات"،و هي دعوة تسحب الرجل الطيب الصالح من مقام الأدب لمقام السياسة السودانية المزدحم بالمزالق.و من بينها مزلق التعصب العرقي و الديني الذي قد يحزّ في نفوس قطاع من المواطنين السودانيين الذين لا ينتمون للعرق الطيب و لا للدين الصالح الذين يتخذهما بعض السودانيين بين قرائن إمتيازهم على بقية مواطنيهم الذين لا يقاسمونهم مزاعم العرق و مزاعم العقيدة
، فما رأيك دام فضلك؟ـ
وأنا أسألك رأيك لأني أتوسم في ثنايا مكتوبك حكمة قد تخفى على نظري الضعيف و كدا.ـ
برضو شوف كلام الطيب صالح التحت دا لو كنت ما شفته قبل أن تكتب دعوتك :ـ
« 
..
"..أنت عندما تفكر في ماحدث للعرب في شرق أفريقيا، كانوا هناك لقرون..أو حتى نحن العرب الآن في السودان ، لنا حوالي 800 سنة التي هي فترة وجود العرب في اسبانيا، ثم قاموا و طردوهم و قطعوا دابرهم..أنا لا أرى أي ضمان لما نحن عليه الآن.." ".. الآن نلاحظ النزوح الجنوبي للشمال وصل حتى حلفا، الكنائس تبنى على طول المنطقة الشمالية، هذه ليست قضية حقوق، انها قضية صراع على الهيمنة"( جريدة الخرطوم 26 ابريل 1998).ا
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

"..أنت عندما تفكر في ماحدث للعرب في شرق أفريقيا، كانوا هناك لقرون..أو حتى نحن العرب الآن في السودان ، لنا حوالي 800 سنة التي هي فترة وجود العرب في اسبانيا، ثم قاموا و طردوهم و قطعوا دابرهم..أنا لا أرى أي ضمان لما نحن عليه الآن.." ".. الآن نلاحظ النزوح الجنوبي للشمال وصل حتى حلفا، الكنائس تبنى على طول المنطقة الشمالية، هذه ليست قضية حقوق، انها قضية صراع على الهيمنة"( الطيب صالح- جريدة الخرطوم 26 ابريل 1998).

ما رأيكم في ذلك، دام فضلكم؟
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

فيما يعقِّب محمد خلف، في هذه المساهمة، على ما أثاره حسن موسى، وشدَّد عليه إبراهيم جعفر، فإنه يتَّخذ منها مناسبةً لتوضيح بعض المفاهيم المتعلِّقة بـ و/أو التي يستند عليها اقتراحه وكذلك مقارباته القادمة ذات الصلة بما يدعوه بـ"المتن الشامل للطَّيِّب صالح":



لم تصدمني أطروحةُ الرَّجلِ الطَّيِّبِ كثيراً، ياحسنُ (ويا إبراهيمُ)، فقد استأنستُ من قبلُ بِرَهطٍ من صُويحِباتِها



في البدءِ، يلزَمُني التَّقدُّمُ بعددٍ من الاعتذاراتِ قبل الشُّروعِ في رَدٍّ ينتظرُه عددٌ من القرَّاءِ الأفاضل. أولاً؛ أتقدَّمُ بالاعتذار للصَّادق إسماعيل، وكنتُ أُريد أن أصدُقَه القولَ بأنه يُمكِنُ اعتبارُ فيلم "عرس الزين"، منظوراً إليه من زاوية خالد الصِّديق، بأنه إنتاجٌ كويتي؛ إلَّا أنَّه من جهةٍ أخرى، تنتظرُ تعضيدَ المختصِّين، يمكنُ اعتباره عملاً سودانياً؛ وربما كان هذا الانتظار هو الذي أجَّل الرَّدَ؛ وفي البالِ، مشاركةٌ طويلة في هذا الخصوص. وثانياً؛ أتقدَّمُ بالاعتذار للأستاذ حسن موسى، فليس مثلُه، وقليلٌ غيرُه من تلك الفئة الجادَّة والمُجوِّدة لعملها، مَنْ يُتركُ سويعاتٍ قليلة في انتظارِ ردٍّ، أغلبُ الظَّنِّ أنه مُدرِكٌ لملامحِه العامَّة، إلَّا أن شواغلَ متعلِّقةً بلقمةِ العيش، واضطرابِ الوقتِ في فترةِ بين العيدين، قد فرضت عليَّ تأجيلاً، لم أكن أرغب في حدوثِه، فقد خطرت لي فكرةُ الردِّ الرَّئيسية، بمجردِ الانتهاءِ من قراءتي لملاحظتِه الثَّاقبة؛ هذا إضافةً إلى أنَّه ما كلُّ يومٍ سيَسنَحُ سانِحٌ لمناقشةِ عقولٍ نيِّرة في قامةِ حَسَنٍ وإبراهيمَ. والأهمُّ من ذلك كلِّه، يلزَمُني التَّقدُّمُ باعتذارٍ صادقٍ إلى جميعِ قراءِ هذا الرُّكن، فقد وعدناهم بتخصيصِ هذه الحلقةِ للقيامِ بجولةٍ في محطَّةِ تشيرينغ كروس؛ إلَّا أن الرَّجلَ الطَّيِّب تضرَّرَ كثيراً في حياتِه، بسببٍ من ردودِ أفعالٍ (أي تصريحاتٍ) غيرِ مراقبةٍ من جانبه، وبسببٍ من مدارسَ نقديةٍ اعتمدنا أطروحاتِها من غيرِ تمحيصٍ كاف، سنتعرَّضُ إلى نظرتينِ أو منظورَيْنِ رئيسيَيْنِ منها في هذا الخصوص، لعلنا نُنصِفُهُ في مَمَاتِهِ بعضَ الإنصاف؛ ولكن قبل البدءِ في هذه المهمَّة، سنُقيمُ تفريقاً ضرورياً بين مفاهيمَ أساسية، يحتاجُ استخدامُنا لها إلى توضيح، حتَّى يسهُلَ عمليةُ التلاقي على فهمٍ موحَّد أو الاختلافِ على بَيِّنَةٍ من أمرِنا.
عند استخدامِنا لمفاهيمَ رئيسيةٍ مثل الثَّقافة، والسِّياسة، والاقتصاد، والاجتماع (والدِّين كذلك)، ينشأُ في العادةِ خلطٌ أو تداخلٌ بين المعنى الضَّيِّق للمفهوم وبين دَلالتِه الواسعة أو الفضفاضةِ في بعضِ الأحيان. على سبيلِ المثال، يُمكِنُ أن ينحصِرَ مفهومُنا للثَّقافة في الإنتاجِ الأدبيِّ والفني، ويُمكِنُ أن يتَّسعَ ليشملَ كُلَّ تدخُّلٍ بشريٍّ في الطَّبيعة، بحيثُ لا يخلو عملٌ إنسانيٌّ عليها من سماتٍ ثقافية؛ ويُمكِنُ أن ينحصِرَ مفهومُنا للسِّياسةِ في الانتماءاتِ الحزبيةِ المعروفة، ويُمكِنُ أن يتَّسِعَ ليشملَ كُلَّ ممارساتِ الأفرادِ داخل المجتمع، بحيثُ لا تخلو ممارسةٌ اجتماعية من مدلولٍ سياسي؛ واختصاراً، يُمكِنُ أن يُقالَ نفسُ الشَّيء عن الاقتصاد والاجتماع، حيث نشأ تاريخياً عن اتِّساعِ الأوَّلِ ظاهرةُ "الاقتصادوية"، بينما نشأت عن اتِّساعِ الآخِرِ مقولاتُ "البِنيَةِ الاجتماعيةِ الشَّاملة" (ليو ألتوسير؛ نيكوس بولانتزاس؛ مهدي عامل). أمَّا بخصوص الدِّين، فهناك التَّعبيراتُ الدِّينية المحدودة داخل كلِّ ثقافةٍ على حِدَة، كما أنَّ هناك فكرةُ الدِّينِ الشَّامل، الذي يجُبُّ كلَّ دِينٍ قبله.
وعندما يطرحُ بعضُنا فكرة التَّمييزِ الضَّروري، أو يعترضُ غيرُهم على عمليَّةِ الفصلِ التَّعسفي، بين السِّياسيِّ والثَّقافي، فإن الطَّرحَ يعتمدُ المفهومَيْنِ في دلالاتِهما المحصورة، بينما يعتمدُ الاعتراضُ على الدَّلالةِ الواسعة للمفهومَيْن. وباعتمادِ هذه التَّفرقة الضَّرورية، يُمكِنُ اعتبارُ الطَّيِّب صالح بالمفهومِ الضَّيِّقِ للسِّياسة غيرَ مُنتمٍ سياسيَّاً، إذ إنَّه لا ينضوي إلى تنظيمٍ سياسيٍّ بعينِه؛ إلَّا أن الرَّجلَ الطَّيِّبَ قد تناولَ في قالَبٍ سرديٍّ شيِّق، ومنذُ وقتٍ مُبكِّرٍ (إنْ لم نقل غيرَ مسبوقٍ) موضوعاتِ الهويَّةِ الوطنية، وعلاقةِ الأنا بالآخَر، والعمقِ الحضاريِّ للممارساتِ الاجتماعية؛ وكلُّها قضايا سياسية من الدَّرجةِ الأولى، إذا اعتمدنا الدَّلالةَ الواسعة لمفهومِ السِّياسة. وعندما ندعو للتَّحلُّق حول الرَّجلِ الطَّيِّب، فإننا نُدرِكُ تماماً بأن آراءنا المتعدِّدة (التي عبَّرنا عنها بمختلفِ المشارِب) لن تخرُجَ عن هذا المنظورِ الثُّلاثيِّ الواسع الذي بَعَجَتهُ كتاباتُ الطَّيِّب صالح (والذي سنكشِفُ عنه تِباعاً في مُشاركاتِنا اللَّاحقة). ومن مَنظورِ الوحدةِ في التَّنوُّع، نُريدُ لمُساهماتِنا المتنوِّعة في إطارِ متنِ الرَّجلِ الطَّيِّب أن تكونَ أساساً للتَّوحُّد، الذي لا يُلغي تعدُّدَ الأصواتِ أو يُقصي أَحَدَاً، حتَّى لو خَرَجَ ذلك في شكلِ ردِّ فِعلٍ غيرِ مُراقَبٍ أو بسببٍ من جهلٍ أو تجاهلٍ مُتعمَّد.
بخصوصِ المدارسِ النَّقديةِ السَّائدة، هناك نظرتانِ رئيسيتانِ في هذا الخصوص؛ الأولى، نشأت وترعرعت في مجالِ الفلسفة والعلوم الإنسانية، ويُمكِنُ اعتبارُ الفيلسوف الفرنسي (الجزائريِّ الأصل)، جاك ديريدا، واحداً من مؤسِّسيها، والمتضرِّرين في حياتِه من انتشارِها؛ والثَّانية، انبثقت في مجالِ الفلسفةِ والعلومِ الطَّبيعية، ويُمكِنُ اعتبارُ الفيلسوف البريطاني (النِّمساويِّ الأصل)، كارل بوبر، واحداً من مؤسِّسيها؛ وقد حاولَ تطويرَها توماس كُن، إلَّا أنَّه تضرَّر أيضاً في حياتِه من انتشارِها، وتسرُّبِها اللَّاحقِ خِلسةً إلى حقلِ العلوم الإنسانية. يُمكِنُ وصفُ النَّظرةِ الأولى بأنَّها "تقويضية"، إذ إنها تسعى لـِ"تفكيكِ" العملِ من خلالِ البحثِ عن الجزءِ الحيوي أو النُّقطةِ الرَّئيسية التي يؤدِّي التَّنبيهُ إلى مكامنِ ضعفِها إلى انحلالِ العملِ كلِّه أو تفكُّكِه، بحيث يسمح ذلك بتوليدٍ مستمرٍّ أو انزياحٍ مطَّردٍ للدَّلالة؛ كما يُمكِنُ وصفُ النَّظرةِ الثَّانية بأنَّها "تفنيدية"، إذ إنَّها تسعى للقضاء، مرَّةً وإلى الأبد، على الأطروحاتِ أو النَّظرياتِ "الفاسدة". وانتشرت هذه النَّظرة "التَّفنيدية" أولاً في مجالِ العلوم الطَّبيعية، بينما سادتِ النَّظرةُ "التَّقويضية" في مجالِ العلوم النَّصيَّة؛ وكلاهما تُستخدمانِ بشكلٍ واسعٍ في الممارساتِ النَّقديةِ السَّائدة.
إلَّا أنَّ ديريدا، خلافاً للتَّابعين له أو المتأثِّرين به، كان يضعُ تقديراً عالٍ للعملِ المُراد تفكيكُه، ولا يقتربُ من عملٍ إلَّا إذا اتَّصف بالثَّراءِ النَّصِّي واحتشدت نواصِيهِ بينابيعَ مُنتِجَةً لدلالاتٍ لا تنقطع؛ إذ لا معنى للاقترابِ من عملٍ "مفكَّكٍ" أصلاً. في المقابل، كان بوبر، خلافاً للوضعيين المنطقيين في فيينا، يرى أنه لا يُمكِنُ البرهنةُ بشكلٍ قاطعٍ للمقولات أو النَّظرياتِ العلمية، ولكن يُمكِنُ "تفنيدُها"، مرَّة وإلى الأبد، إذا تمَّ العثورُ على حالةٍ واحدةٍ فقط، لا ينطبقُ عليها مقتضى الحال أو النَّظرية. وقد أقرَّ توماس كُن بما أتي به بوبر، لكنه نبَّه، علاوةً على أهمية "الدَّحضِ" في مراحلِ "الأزمات"، إلى اندراجِ أنشطةِ العلماء في وقتِهمُ "العاديِّ" داخل صيغةٍ نموذجية، مُتَّفقاً عليها في أَوجِ هيمنتِها من قِبَلِ الجميع؛ بمعنى أن "الخطأ" أو "النَّظريةَ المُتخطاةَ" يظلُّ له أو لها مكانٌ داخل الصِّيغةِ النُّموذجيَّةِ العامة، ريثما يتمُّ استبدالُها تماماً بصيغةٍ أفضلِّ منها.
لم يكُنْ كُنُّ راضِياً تماماً عن انتقالِ فكرتِه والعبثِ بها داخلَ مجالٍ غير مجالِها الحيوي (وهو العلومُ الطَّبيعية)، وقد عبَّر في كتابِه "السَّبيل منذُ البِنية" (الذي جمعَه أصدقاؤه في أعقابِ وفاتِه) عن امتعاضِه من إحالةِ أفكارِه (التي عُرِضَ أهمُّها في كتابِه الأشهر: "بِنية الثَّوراتِ العِلمية") إلى مجالٍ دَلاليٍّ آخَر، تتحرَّرُ ممارساتُه النَّقدية من معاييرِ الانضباطِ العلمي، بجعلِ كلِّ شيءٍ مُمكِناً وقابِلاً للتَّصديق، مهما تهاوت حُجَجُه. وقد عبَّر ديريدا نفسُه عن امتعاضٍ مُشابهٍ من إحالةِ أفكارِه إلى مَسخٍ على يدِ المروِّجين المتحمِّسين غاية التَّحمُّس لأفكارِ ما بعد الحداثة (التي صدر بعضٌ منها بسببٍ من تحليلاتِ ما بعد البنيوية، التي كرَّسَ من خلالِها قراءاتُه لعددٍ محدودٍ جدَّاً من الكتب لاستجلاءِ أوجُهِها الرَّئيسية). وقد فُتِنتُ رَدَحاً بأساليبَ نقديةٍ "تتصيَّدُ" عيوباً في المقروء، بغرضِ استخدامِها، على طريقة رولان بارت، في التَّعاركِ الآيديولوجيِّ المفتوح. وربَّما تأذَّى الرَّجلُ الطَّيِّب في حياتِه قليلاً (وربَّما جنت على نفسِها براغِثُ) من جرَّاءِ هذا التَّصيُّدِ المتعمَّدِ من قبل عددٍ من النُّقاد المُحدَثين.
ومنذ خطابي المفتوح إلى الصَّديق الماحي علي الماحي (تكفَّلَ اللهُ برعايتِه ومنَحَهُ صبراً للتَّعاملِ مع مرضِه، ووقتاً كافياً لإنزالِ ما "تصعَّدَ" لديهِ على ورقٍ أبيضَ أو شاشةٍ بلورية)، ومروراً بتدخُّلي في الحوارِ الشَّهيرِ بين الدُّكتور حيدر إبراهيم علي والأستاذ عبدالله بولا (تكفَّلَ اللهُ برعايتِهما ومنَحَهُما صبراً للشِّفاء والاستشفاء، ووقتاً كافياً لإكمالِ مشروعَيْهما وخروجِ ثمراتِهُما إلى المطابعِ أو دُنيا الأسافير)، وانتهاءً برسالتي إلى القاص الصَّديق عادل القصَّاص (أمدَّ اللهُ في عُمُرِه وحفِظَه لأولادِه وأهلِه ووطنِه)، أُحاولُ أن أُحيطَ بالمجالِ كلِّه، مُنبِّهاً لبعضِ العيوبِ الصَّغيرة، ومُغطيَّاً لها في ذاتِ الوقتِ بتحليلٍ عامٍّ إيجابي؛ مُمسِكاً منهجَ الشَّجرةِ بيدٍ، ومُفسِحاً بالأخرى مجالاً للغابِ كي يمتدُّ وينمو بلا حدود؛ وبيُمناي "كراسةٌ منطقية-فلسفية" للفيلسوف الألماني لودفيج فيتجنشتاين، وبالأخرى "تحقيقاتٌ فلسفية"، وهو أيضاً كتابٌ فتَحَ مُنفرِداً طريقاً مُمَهَّداً للنِّسبيَّةِ المعرفيَّةِ الفالِته التي جاءت في أعقابِ حركة ما بعد الحداثة.
وبفتحِنا لمتنِ الرَّجلِ الطَّيِّب (ليس لرواياتِه وقصصِه القصيرةِ فقط، الذي كُنتُ أُسمِّيه في حياتِه بـِ"المتنِ الرِّوائيِّ المفتوح"، وإنَّما أيضاً لمقالاتِه ومقابلاتِه المسموعةِ والمرئية، وما يظهرُ له لاحقاً من كتاباتٍ ومذكِّرات)، فإننا نفتحُ عالَماً شاسِعاً، ننظرُ في أرجائِه إلى أُطروحاتِه ضمن سياقٍ بعينِه، ووفقَ منظورٍ محدَّد، يسمحُ بالكشفِ عن عيوبِ المقروءِ والمسموع، من غيرِ أن يُطيحَ بالدَّلالات الكُليَّة لأعمالِه "الكاملة"، فما كلُّ قرنٍ سيسنحُ سانحٌ لمناقشةِ عقولٍ نيِّرةٍ في قامةِ الطَّيِّب صالح.
تحرَّزنا في الحلقةِ الأولى بشأنِ استخدامِنا لمفهومِ "التَّحلُّقِ" نفسِه، وقلنا إنه يجبُ أن يتمَّ "على طريقتِنا"، وأن يتمَّ من قِبلِ "زُمَرٍ وجماعاتٍ مُختلِفةِ المشارب"؛ وأوضحنا في الفقرةِ الثَّالثةِ عاليه أن "تعدُّدَ آرائِنا" لن يخرجَ، فيما نزعمُ، عن المنظورِ الثُّلاثيِّ الواسع (الذي تهيَّأ للرَّجلِ الطَّيِّب باكِراً، بحُكمِ ملابساتٍ لم تسنح لغيرِه)؛ ونُضيفُ هنا، على سيرةِ ديريدا، ولمزيدٍ من التَّوضيحِ فقط، بدءَ محاولةٍ لزحزحةِ مفهومِ "التَّحلُّق" (على أن نُكمِلَها على طريقةِ أبي علي الفارسي، في ثنايا حلقاتٍ قادمات)؛ فمادَّة [ح ل ق] تُشيرُ إلى معنى الإزالة، الذي يمكن أن يُفيدَ في التَّخلُّصِ من الفهم القديم"؛ كما تُشيرُ أيضاً إلى الاستدارة، التي لا تكتمل إلَّا بجِماعِ الآراء، على "اختلافِ مشاربها"؛ كما تُشيرُ أخيراً إلى دَلالةِ السُّمو، فلربما ارتفعنا في السَّماءِ بأجنحةٍ من نور، إذا تعلَّمنا حرفة التَّحاورِ الذَّكي، ورؤية الأشياءِ من الزَّاوية المُضادة، والتَّعاطفَ مع بعضِ سماتها، قبل التَّفكير المشروع في "تقويضها" أو "تفنيدها".

سنُركِّز خلال تجوُّلِنا عبر المتنِ الشَّاسعِ على استخلاصِ قيَمِ التَّسامحِ والتَّراضي والقبول، ورفضِ قيَمِ التَّعالي والإقصاءِ والتَّهميش، ليس في الوطنِ المحدودِ وحدِه، وإنَّما في العالمِ كلِّه، وذلك من خلالِ منافشتِنا للمحاورِ الرَّئيسيةِ للمتن؛ وهي في نظرِنا، إلى حين تنبيهِنا إلى محاورَ رئيسيةٍ أخرى: البندرُ الكولونيالي، الوطنُ الأم، والعمقُ الحضاريُّ الشَّامل؛ وترتبِطُ هذه المحاور، على سبيلِ المثال في "مَوسِمِ الهجرة"، وعلى التَّوالي، بشخصياتٍ ثلاثة، هي مصطفى سعيد، والرَّاوي، والكاتب.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في هذه المساهمة يهيؤنا محمد خلف، عبر مرافقتنا له إلى مشهدٍ وشعرٍ في رواية "مَوْسِم الهجرة إلى الشِّمال" (وفي غيرها بالطبع)، لنصاحبه في تأمَّل ما يرى إليه كعناصرَ ذات شأنٍ في هذه الرواية، بل وفي "المَتْن الروائي" الشامل للطَّيِّب صالح، كما في شخصيَّة الأخير:



هذه محطَّة تشارنغ كروس:
ثمَّةَ رهطٌ خفيضُ الصَّوت، ثمَّ ضوضاءُ عالِقةً منذُ أن حَمِيَ وطيسُ الحربِ في حقولِ فلاندرز




في وسطِ لندن على وجهِ التَّحديد، تُوجدُ محطَّتانِ عتيقتانِ باسمِ تشارنغ كروس: الأولى، لمترو الأنفاق (أو قطارات تحت الأرض)، وتقعُ مباشرةً تحت ميدان الطَّرف الأغر، ذي الأسودِ البرونزية، كما يتوسَّطُهُ تمثالُ نيلسونَ الشَّاهق، الذي تحفُّ به فَسقياتٌ (أي نوافيرُ) أربع؛ والثَّانية، لقطاراتِ السِّكك الحديدية، التي تتَّجه صوب البحر شرقاً وجنوباً، في رحلاتها اليومية إلى ومِنِ المواني التي تربِطُ الجزيرةَ البريطانية بأوروبا وبقيةِ أنحاءِ العالم. وهذه هي التي تعنينا في هذه المشاركة، التي نُريدُ لها أن تصلُحَ مدخلاً ملائماً للتَّعرُّفِ مجدَّداً على الموضوعاتِ الرَّئيسية لرواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال"، ومن ثمَّ الأفكارِ الأساسية لمتنِ الرَّجل الطَّيِّب، الرِّوائيِّ السُّودانيِّ الأشهر: الطَّيِّب صالح.
وعندما نقول وسطَ لندن على وجهِ التَّحديد، فإننا نعني وسطَها تماماً، أي نقطة الارتكاز التي كانت تُقاسُ بناءً عليها المسافاتُ داخل البندرِ الذي تحكَّمَ يوماً بجيوشِه وتجارتِه الرَّائجة في مصائرِ غالبيةِ البشرِ في العالم. فأمامَ المحطَّة، يُوجدُ صَرحٌ تَذكارِيٌّ لصليبِ الملكة إيلينا (إليانور)، الذي ما زال يُستخدمُ إلى اليوم مُرتكَزاً لقياسِ المسافاتِ من لندن، علاوةً على قيمتِه التِّذكارية والجمالية؛ وخلفها، يُوجدُ نهرُ التِّيمز، الذي قال عنه صاحبُ "قلب الظَّلام" إن "البحرَ يمتدُّ أمامَه مثل ابتداءٍ لممرٍ مائيٍّ لا نهايةَ له". وإذا كان جوزيف كونراد، مؤلِّفُ هذه الرِّواية الشَّهيرة قد أطلقَ بطلَه، مارلو، في طِلابِ بطلِهِ الآخر، كورتز، مُبحِراً من "أكبرِ، وأعظمِ مدينةٍ في العالم" إلى أدغالِ أفريقيا وأحراشِها، التي يعيثُ الأخيرُ في دُكنَةِ غاباتِها فساداً، فإن صاحِبَ "المَوسِمِ" قد وضعَ بطلَه، الرَّاوي، في طريقِ بطلِه الآخر، مصطفى سعيد، ليكشفَ عبر أوراقٍ وأحاديثَ مُقتضبةٍ في قريةٍ وادعة عند مُنحنى النِّيلِ رحلةَ الأخيرِ إلى بندرٍ مُضيء، ظلَّ رَدَحاً يعيثُ فيه فساداً وفُسقاً نَتنَاً، على رائحةِ النَّدِّ، والصَّندلِ المحروقِ، وأضواءِ الشُّموع.
مثلما أن كورتز كان ذا جنسيةٍ مزدوجة (إنجليزية فرنسية)، حتى تصبحَ إدانتُه أخلاقياً رمزاً لإدانةِ أكبرِ قوَّتين استعماريتين، فإن مصطفى سعيد كان، حسب وصفِه لنفسِه أمام شيلا غرينوود، ذا وجهٍ "عربيٍّ كصحراءِ الرَّبعِ الخالي" ورأسٍ "أفريقي يمورُ بطفولةٍ شريرة"، حتى تكونَ أفعالُه مُطابِقةً لما تنسِجُه المُخيِّلةُ الأوروبيةُ الشَّعبية أو تُعيدُ إنتاجَه بكيفيةٍ مُلتبِسة مؤسَّساتُه الاستشراقية؛ وهذا منحًى سنعودُ إليه في شيءٍ من التَّفصيل في مشاركاتٍ لاحقة. أمَّا الآن، فإننا على وشكِ الدُّخول إلى الرَّدهة الرَّئيسية للمحطَّة. كلُّ شيءٍ يسيرُ كالمعتاد، في صورةٍ تقتربُ من وصفِ مصطفى سعيد لإنجلترا بأن "هذا عالمٌ مُنظَّم": المسافرون يسيرون مُسرعين، وأحياناً يركضون، إلى ماكيناتِ التَّذاكر أو مستودعاتِ الخدمات أو غرفةِ الانتظار، من غير ضجيجٍ أو جلبةٍ تُذكر، و"لا ضوضاءَ"؛ وعلى جانبي الرَّدهة، يقفُ على أُهبةِ الاستعدادِ جنديانِ من شرطة الطَّوارئ، مُدجَّجانِ بأحدثِ أسلحةِ مكافحةِ الإرهاب. وكانت ذاتُ الرَّدهة، وذاتُ غرفة الانتظار، قبل مئةِ عامٍ تقريباً، تكتظُّ دائماً بنسوةٍ يتَّشحنَ بالسَّواد، في انتظارِ العائدين من حقولٍ فلاندرز.
أصبحت حقولُ فلاندرز (وتتوزَّعُ الآنَ بين بلجيكا وفرنسا وهولندا) تُشيرُ في الاستخدامِ الاصطلاحيِّ إلى ساحاتِ المعاركِ إبَّانِ الحربِ العالميةِ الأولى. وقد كتب عنها الشَّاعرُ الكندي جون ماكريه قصيدةً بعنوان: "في حقولِ فلاندرز"؛ يقولُ في مطلعِها:
"في حقولِ فلاندرز، يُزهِرُ الخشخاشُ
بين الصُّلبانِ المرصوفةِ صفَّاً إثرَ آخرَ،
فذاكَ تحديدٌ لمكانِنا؛ وفي السَّماءِ،
ما زالتِ القُبَّراتُ، وهي تشدو دون خَشيةٍ، تطيرُ،
وبالكادِ لا تُسمَعُ، وسَطَ أصواتِ البنادقِ المُطلقةِ من تحتِها".
إلَّا أنَّ قصيدة "أنتويرب"، للشَّاعر والرِّوائي الإنجليزي، فورد مادوكس هيفر، هي أفضلُ ما كُتِبَ من قصائدَ، بحسبِ تي إس إليوت، عن الحربِ العالميةِ الأولى؛ وهي ذاتُ القصيدة التي تغنَّت بمقطعِها السَّادسِ فرقةُ "ذا ريث" في عام 2006؛ وهو ذاتُ المقطعِ الذي اقتطعَ منه مصطفى سعيد أبياتٍ قرأها، وهو تحتَ تأثيرِ الشُّربِ، على مسمعٍ من الرَّاوي، الذي قال على إثرِ سَماعِه للأبيات: "أقولُ لكم، لو أنَّ عِفرِيتاً انشقَّت عنه الأرضُ فجأةً، ووقفَ أمامي، عيناهُ تقدحانِ اللَّهب، لما ذُعِرتُ أكثر مما ذُعِرت".
ما نُريدُ التأكيدَ عليه من كلِّ ذلك هو أن الطَّيِّب صالح قد صوَّر لنا بهذه الأبياتِ القلائل، خلافاً للدَّهشةِ التَّشويقيةِ التي اعترتِ الرَّاوي، وانتقلت منه إلينا معشرَ القراء، تحديداً دقيقاً، إلَّا أنَّه غيرُ مألوفٍ، للزَّمن الرِّوائي في "موسم الهجرة"؛ وهو فترة ما بين الحربين، التي حدَّدت معاهدةُ فرساي قسماتِها، والتي لا تزالُ زهرةُ الخشخاشِ تُمثِّل للرَّأيِّ العامِ الأوروبي رمزاً للسِّلمِ بوضعِ الحربِ العالميةِ الأولى أوزارَها؛ وهي فترةُ الثَّلاثةِ عقودٍ من الزَّمان التي يتحدَّثُ عنها مصطفى سعيد بقولِه: "ثلاثون عاماً. كان شجرُ الصَّفصافِ يبيَضُّ ويخضَرُّ ويصفَرُّ في الحدائق، وطيرُ الوقواقِ يُغني للرَّبيعِ كلَّ عام. ثلاثون عاماً وقاعة ألبرت تغصُّ كلَّ ليلةٍ بعشَّاقِ بيتهوفنَ وباخ، والمطابعُ تُخرِجُ آلافَ الكتبِ في الفنِ والفكر". وهي الفترةُ التي يقولُ عنها الرَّاوي: "كانت لندنُ خارِجةً من الحربِ ومن وطأةِ العهدِ الفيكتوري". كما يقولُ مصطفى سعيد بشأنِها: "رأيتُ الجنودَ يعودون من حربِ الخنادقِ والقُمَّلِ والوباء". وهي الأوضاعُ التي أشار إليها المقطعُ السَّادس من قصيدة "أنتويرب":

"هؤلاءِ نساءُ فلاندرز
..............
ينتظرنَ الضَّائعين، الذِّينَ يرقدونَ موتى في الخندقِ والحاجزِ والطِّينِ في ظلامِ اللَّيل.
هذه محطَّةُ تشارينغ كروس. السَّاعةُ جاوزت الواحدة.
ثمَّةُ ضوءٌ ضئيل.
ثمَّةُ ألمٌ عظيم"*.


سنوضِّح في حلقةٍ قادمة كيف تُساهمُ هذه الأبياتُ القليلة في تحديدِ أدوارِ الشَّخصياتِ الثَّلاثة الرَّئيسية (مصطفى سعيد، والرَّاوي، والكاتب)، التي تُسهمُ بدورِها في توضيحِ المحاورِ الثَّلاثةِ للمتن؛ وهي، البندرُ الكولونيالي، والوطنُ الأم، والعمقُ الحضاريُّ الشَّامل.

محمد خلف






-----------------------------------------------------------------

* احتفظنا بترجمة الكاتب للأبيات، وأعطينا لأنفسِنا حقَّ تشكيلِها. م.خ.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في هذه الحلقة، يستخدمُ محمد خلف الأبيات الشعرية الإنجليزية، التي ألقاها مصطفى سعيد في حضرة محجوب والراوي، كمدخلٍ إلى مستوًى أعمق من تحليل أدوار، أو بالأحرى مواقع، الشخصيات الرئيسة في "مَوْسِم الهجرة إلى الشمال":


هذه محطَّة تشارنغ كروس:
ثمَّة جمعٌ غفير، متَّشحاً بالسَّوادِ، بالكادِ يهمسُ بصوتٍ عال




قلنا في الحلقةِ السَّابقة إننا سنوضِّح كيف أن الأبياتِ التي ألقاها مصطفى سعيد على مسمعٍ من الرَّاوي ستساهمُ في تحديدِ الأدوار الرَّئيسية، التي ستسهمُ بدورِها في توضيحِ المحاور الأساسية للمتن. ولتذكيرِ القارئ، نقول إنها تلك الأبياتُ التي تتحدَّثُ عن نساءِ فلاندرز، اللائي ينتظرن الضَّائعين، مشيرةً ضمن تعبيراتِها إلى توقيتِ ما بعد منتصفِ اللَّيلِ بمحطَّة تشارنغ كروس:
"هذه محطَّة تشارنغ كروس؛
انتصفَ اللَّيلُ قبل هُنَيهَةٍ.
ثمَّة جمعٌ غفير. لا ضوءَ بالرَّدهةِ؛
ثمَّة جمعٌ غفيرٌ، متَّشحاً بالسَّوادِ،
بالكادِ يهمسُ بصوتٍ عالٍ.
لا مِرَاءَ في أنَّ هذه امرأةٌ ميِّتةٌ -
أمٌّ ميِّتةٌ! ذاتُ وجهٍ ميِّتٍ،
متَّشحةً إلى أَخمَصِ قدمَيْها بالسَّواد.
.................
هذه محطَّة تشارنغ كروس.
تمامَ السَّاعةِ الواحدة.
يُرى فوق الكلِّ سحابةٌ ضخمةٌ
وبصيصٌ خافتٌ من الضُّوءِ
وأعمدةٌ هائلةٌ من الظَّلالِ
تتهاوى على جمعٍ أسودَ،
بالكادِ يهمسُ بصوتٍ عالٍ.
...............
هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرنَ الضَّائعين".

يُلاحِظُ القارئ أننا أضَفنا أبياتٍ جديدة، ورتقنا آخِرُها بأولِ تلك التي ألقاها مصطفى على مسمعٍ من الرَّاوي، حينما كانا ضيفَيْنِ على محجوب، في أوائلِ عهدِ لقائِهما في تلك القريةِ الوادعةِ عند منحنى النِّيلِ في شمالِ السُّودان. وهدفُنا من ذلك، ليس فقط رسمَ الحدودِ الفاصلةِ للشَّخصياتِ الرَّئيسية، وإنَّما أيضاً تقييمَ أدوارِها في ضوءِ معرفتِها بتلك الأبيات؛ وربَّما استطعنا أيضاً، بوجهٍ من الوجوه، حسمَ الجدلِ الدَّائرِ بين النُّقادِ حول البطلِ الحقيقيِّ لرواية "مَوسِمِ الهجرةِ إلى الشَّمال": هل هو مصطفى سعيد، كما يرى غالبيةُ النُّقاد، أمِ الرَّاوي نفسُه، كما يرى بعضُهم، ومن ضمنِهم الأستاذة منى أميوني، الباحثةُ بالجامعةِ الأمريكية في بيروت، التي قامت بتحريرِ كتابٍ قيِّم عن الطَّيِّب صالح في عام 1985.
خرجتِ الأبياتُ، أثناء جلسةِ شُربٍ، من أعمقِ تجويفِ ذاكرتِه، حينما "ارتخت عضلاتُ وجهِه، وغاب التَّوترُ في أركانِ فمِه، وأصبحت عيناه حالمتَيْنِ ناعستَيْن"؛ وفي الصَّباحِ التَّالي لتلك الأُمسِيَّة، أنكر مصطفى ما ألقاه من شعرٍ فيها؛ فحينما واجهه الرَّاوي في اليومِ التَّالي أثناء انكبابِه على حفرِ الأرضِ في حقلِه، قال له مصطفى: "لا أدري ماذا قلتُ وماذا فعلتُ في اللَّيلةِ الماضية (..) إذا كنتُ قلتُ شيئاً، فهو كخترفةِ النَّائم، أو هذيانِ المحموم. ليست له قيمة". فهل صحيحٌ فعلاً أن هذا الكلامَ ليس له قيمة، كما زعمَ مصطفى؟
من المهمِّ بالنِّسبةِ لنا هنا الإجابةُ على هذا السُّؤالِ المركزي، لأننا لا نُريدُ أن نُقيِّمَ على ضوئِها مصطفى سعيد فقط، وإنَّما بقيَّة الشَّخصياتِ الرَّئيسية كذلك. إلَّا أنَّ المهمَّ أيضاً التأكيدُ على أن محاكمةَ الشَّخصياتِ ومعرفةَ أوزانِها يتمُّ في الأساسِ على قاعدةِ النَّص، وليس خارجَه؛ وعَبرَ ما يُمكِنُ تسميتُه بالفعاليَّةِ النَّصِّية، سيتمُّ، في نهايةِ المطافِ، تحديدُ أعيرةِ الشَّخصيات. وما يزيدُ الأمرَ تعقيداً حيالَ هذه الأبيات، هو أنَّنا أمامَ نصٍّ شعريٍّ، داخل نصٍّ روائي؛ أو نصٍّ مهاجرٍ إلى نصٍّ آخر؛ أو اختصاراً، أمامَ نصٍّ داخلِ نص. إلَّا أنَّنا سنجملُهما معاً ضمن ما اقترحنا تسميتَه بالفعاليَّة النَّصيَّة.
وفقاً للمحاكمةِ النَّصِّية، مشفوعةً بالفعاليَّةِ النَّصِّية، سنقبلُ كلامَ مصطفى سعيد على عِلَّاته، بأنه لم يكن يدري ما قاله (أو أنَّه كذَّب، كسباً للوقتِ، ريثما يُدلي أمامَ الرَّاوي بشَذراتٍ من قصَّتِه). كما لن نقبلَ ما طرحه الرَّاوي في البدءِ بشأنِ احتمالِ فقدانِ الذَّاكرة، كسببٍ وافٍ لنسيانِ مصطفى للأبياتِ في اليومِ التَّالي. كلُّ ما يعرفُه مصطفى سعيد عن هذه الأبياتِ (سواءً كان صادقاً أو كانت هي واحدةٌ أخرى تُضافُ إلى سلَّةِ أكاذيبِه التي ستصادفنا كثيراً في النَّص) هو قدرتُه على إلقائِها في غيرِ ساعةِ صحو: أثناء جلسةِ شُربٍ، أو خلال حلمٍ ليليٍّ، أو أيِّ تسريبٍ آخرَ من تسريباتِ العقلِ اللَّاواعي. نصيَّاً، ترفرفُ معرفة مصطفى بالأبياتِ فوق مستوى الوعي أو تنكتمُ في مكانٍ ما من منطقةِ ما دونِه.
على خلافِ ذلك، فإن الرَّاوي، بسببٍ من قوَّة ذاكرته التي نصَّبتَه في الأساسِ راوياً للنَّصِّ، وبحُكمِ معرفتِه الأكاديمية بالشِّعرِ الإنجليزيِّ الذي يُبلغُنا النَّصُّ أيضاً بأنه قد حَضَّرَ بشأنِه رسالتَه في الدُّكتوراة، قد تذكَّرَ الأبياتِ بحذافيرِها، وأعادَها علينا مُسجَلَةً في النَّصِّ الرِّوائي؛ ولولاه لما عَلِمنا بمصطفى نفسِه، وقصَّتِه الأثيرة، ناهيكَ عن بضعةِ أبياتٍ ألقى بها مخمورٌ أثناءَ ليلةٍ صيفية. ليس ذلك فحسب، فقد أبلغنا الرَّاوي أيضاً بأنَّه قد وجد تلك الأبياتِ فيما بعدُ بين قصائدَ عن الحربِ العالميةِ الأولى. واللَّافتُ للانتباه، أنه حَرَصَ على الإدلاءِ بهذه المعلومة، قبل عرضِ الأبياتِ نفسِها في ثنايا النَّص؛ وكأنَّه يُريدُ أن يقول بذلك إن هذا هو الزَّمنُ الذي تدورُ فيه أهمُّ أحداثِ الرِّواية، وهو الزَّمنُ الذي يصولُ ويجولُ فيه مصطفى سعيد في فضاءِ البندرِ الكولونيالي، إبَّانِ أفضلِ أوقاتِه، في الهدئةِ ما بين الحربين العالميتين.
في ضوءِ المعرفةِ بهذه الأبيات، يبدو الرَّاوي متفوِّقاً بمراحلَ من حيث فعاليَّتِه النَّصيَّة، فهو الحافظُ للأبيات، المدوِّنُ لها، والعارضُ لها في ثنايا النَّص؛ ليس ذلك فحسب، بل هو المشيرُ إلى مصدرِها، وربَّما هو العارفُ أيضاً بأهميَّة هذه المعلومة، وإلَّا لما قدَّمها على نصِّ الأبياتِ نفسها. صحيحٌ أن مصطفى سعيد هو الذي ألقاها في الأساس، وهو المنفعلُ بأجوائها، المدركُ لأثرِها العاطفي، وإلَّا لما حفِظَها؛ أو بالأصحِّ، استدخلها واستبطنها ضمن بنيتِه الوجدانية، فصارت مع الوقتِ جزءاً من عقلِه اللاواعي. إلَّا أنَّنا نحتكمُ إلى النَّصِّ، وننظرُ في هذا الاحتكامِ إلى ما أسميناه بالفعاليَّةِ النَّصيَّة؛ وضمن هذه الفعاليَّة، يبرز الرَّاوي كأكثرِ الشَّخصياتِ ثراءً، وأوفرها غنًّى نصِّياً. غير أن هناك شخصيَّةً أخرى لا تقلُّ أهميةً، بل تتفوَّقُ بمراحلَ على ذينكِ الشَّخصيتَيْن، منظوراً لكلٍّ من زاويةِ الفعاليَّةِ النَّصِّيَّة، ومحاكِمينَ لهم جميعاً بمعيارِ الأداءِ النَّصِّي.

سنتعرَّضُ في حلقةٍ قادمة إلى هذه الشَّخصيَّة المنسيَّة، وسنسعى إلى تنصيبها، عكس كلِّ التَّوقعاتِ، بطلاً حقيقياً، ليس لرواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال" فحسب، وإنَّما للمتنِ برُمَّته.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

في إنتظار تنصيب الكاتب نتساءل، اليس
كل كتابة روائية هي انعكاس لرؤى (ما) لكاتبها
يمكن من خلالها اعادة قراءة الكاتب نفسه؟
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في هذه المساهمة، أو الحلقة، يتقدَّمُ محمد خلف في مسعاه لاكتشاف بعض المواقع الدلالية للشخصيات الرئيسة في "مَوْسِم الهجرة إلى الشَّمال"، ومن بينها موقع الكاتب نفسه من وفي نصِّه الروائي:



هذه محطَّة تشارنغ كروس:
ثمَّة شخصيَّةٌ ثالثة في النَّصِّ الرِّوائي أكثرُ إلماماً بدلالةِ النَّصِّ الشعريِّ المعني




وعدنا في الحلقةِ السَّابقة بأننا سنكشفُ في هذه المشاركة شَّخصيَّةً منسيَّة، وسنسعى إلى تنصيبِها، عكس كلِّ التَّوقعاتِ، بطلاً حقيقياً، ليس لرواية "مَوسِم الهجرة إلى الشَّمال" فحسب، وإنَّما للمتنِ برُمَّته. وبما أن هذه الشَّخصيَّة قد استُلزِمَ إنشاؤها إنشاءً، كما سنوضِّحُ لاحقاً، كضرورةٍ نشأت عن قصورٍ نصِّيٍّ اعترى الشَّخصيَّتين الرَّئيسيتين، بسببِ عدم قدرةِ الأول (وهو مصطفى سعيد) على تجاوزِ حالة انفصامِه الظَّاهري، وعدم قدرةِ الثَّاني (وهو الرَّاوي) على القيامِ بدورِ الرَّتق، في أعقاب اطِّلاعِه بدورِ الوصي، ليس لزوجة مصطفى وولديه فحسب، وإنما لكافَّةِ ميراثِه الفكريِّ والأدبي، إضافةً إلى إصابتِه هو ذاتُه عن طريقِ التَّماسِ بعدوى الانفصام، فإنه يُصبِحُ من الضَّروري، أن نسلِّط بعضاً من الضَّوء على استخدامِ هذا المفهوم في مجالِ علمِ النَّفسِ أولاً، ثمَّ توظيفِه في مجالِ الأدبِ، ثانياً وأخيراً.
ففي علمِ النَّفسِ الفرويدي، ليس بالضَّرورة أن يعني انفصامُ الشَّخصيَّة وجودَ صَدعٍ في الشَّخصيَّة الواحدة، وإنِ اتَّخذَ المرضُ النَّفسيُّ عند البعضِ منحًى يظهرُ خارجياً في شكلِ هلوسةٍ أو استيهاماتٍ مُفرِطةً في الغرابة، أو عند البعضِ الآخرِ منحًى يرتدُّ داخلياً في شكلِ توحُّدٍ أو انطواءٍ حاد. وفي علمِ النَّفسِ الوجودي، هناك محاولةٌ رائدة عند عالمِ النَّفسِ الإسكتلندي آر دي لينغ، لرأبِ الصَّدعِ المُتوهَم لدى "الذَّاتِ المُنقسِمة" (وهو صاحبُ كتابٍ شهير بنفسِ الاسم)، بإنشاءٍ نظريٍّ (مشفوعٍ بخبراتٍ إكلينيكية) لشخصيَّةٍ شمولية قادرة على استيعاب المشاعر الأنطولوجية الفعلية المُشتَّتة في بوتقةٍ واحدة.
وفي مجالِ الأدب (وخصوصاً الأعمال الدَّرامية)، يتمُّ استخدامُ المونولوج للتَّعبير عن الهواجس، وهموم النَّفس الدَّاخلية، وما يتبعُ ذلك من حيرةٍ وتردُّدٍ، كما في مسرحية "هاملت" الشَّهيرة، للكاتب المسرحيِّ الأشهر، وليام شكسبير. أمَّا الرِّوائي السُّوداني الأشهر، فإنه يستخدمُ نَسَقَاً من الصُّورِ والأصواتِ الثُّنائية للتَّعبيرِ عن حالتَيْ التَّوازن والتَّأرجُح بين الاستيهامِ الصَّارخ والانطواءِ الحاد؛ ممَّا يستدعي إنشاءَ كيانٍ ثالثٍ في النَّصِّ ذاتِه، لرأبِ الانقسام القائم بين الشَّخصيَّتَيْن. وسنحاول أن نُثبِتَ أيضاً بأنَّ هذا الرَّأبَ لم يكن ينطوي فقط على التئامٍ بسيط لجزئيْن منفصلَيْن، وإنما أيضاً على نَسَقٍ تقييمي، تُصبِحُ فيه قصيدة "أنتويرب" (التي جاء منها مقطعُ "هذه محطَّة تشارنغ كروس") مِعياراً لتحديدِ أوزانِ الشَّخصيَّات.
لن نتطرَّقَ في هذه المشاركة إلى أنساقِ الصُّورِ الثُّنائيةِ العديدة التي حَفِلَ بها نصُّ "مَوسِم الهجرة إلى الشَّمال" (سنتركُ ذلك إلى جمهرةِ المساهمين، وربَّما تناولنا بعضاً منها، إنِ انبثقَ سياقٌ مناسب)؛ وعِوضاً عن ذلك، سنُركِّزُ على الصَّوتَيْن الأساسيَيْن، اللَّذَيْن يُعبِّرانِ عن الشَّخصيَّتَيْن المركزيَّتَيْن، وهما مصطفى سعيد عثمان والرَّاوي، الذي لم يخترِ الكاتبُ له اسماً ضمن النَّص المنفرد (وربَّما تعرَّفنا على اسمه واسم القرية التي تدورُ فيها أحداثُ الرِّواية من خلال تبييننا لاحقاً لملامح المتنِ الرِّوائي المفتوح)؛ وبما أنَّ كلاهما يستخدمُ ضمير المتكلِّم المُفرد في سردِ الأحداث ويتبادلانِ المواقعَ بالتَّساوي في توجيهِ النَّصِّ، وتوزيعِ أقوالِ بقيَّةِ الشَّخصيَّاتِ الثَّانوية، فإن المكانَ المُتبقي للشَّخصيَّة الثَّالثة التي نعتزمُ إنشاءها هو تسلُّلها بين طيَّاتِ حديثِ ذينكِ الشَّخصيَّتَيْن.
لم يتركنا الكاتبُ في ظلامٍ دامس بإزاءِ وجودِه شخصيَّةً قائمةَ الذَّاتِ داخل النَّص، وإنَّما نثرَ لنا قناديلَ تُنيرُ الطَّريق، وتُشيرُ لنا بلسانٍ ذرِب بأنَّه هو الذي يتكلَّمُ في هذا الموقع أو الذي يتوارى في موقعٍ آخر، أثناء تدفُّقِ السَّردِ العادي أو عند انكشافِ أهمِّ لحظاتِ مساهمتِه في تكوينِ النَّص. ومن بين تلك القناديل، ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حدثٍ رئيسي أو قبل وقوعِه؛ ومنها، ما يستقِرُّ في الخاطر، وما لم يُقل اعتباراً لآخَرِين، وما انقطع بغتةً واستؤنفَ توَّاً في الذِّهن؛ وما جاء أخيراً، في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص. وفي كلِّ تلك المواقع، يجيءُ صوتُ الكاتب واضحاً، ولا يترك لبساً بأنَّه صاحبُ القول. إلَّا أننا سنتابعُ أولاً ذينكما الصَّوتَيْن الأساسيَيْن، لنرى كيف حاولا معالجة الانقسام بداخلِهما، وكيف أنَّهما فشلا في نهاية المطاف، مما استدعى انتصابَ الكاتبِ داخلَ نصِّه شخصيَّةً قائمةَ الذَّات (بصرفِ النَّظرِ عن دفعِه المُحِقِّ في العديدِ من المنابر ضد دعواتٍ غير مستنيرةٍ بالنَّصِّ ذاتِه، ومُحتَكِمَةً إلى خارجِه، لوجودِ قدرٍ مدهشٍ من التّشابهاتِ أو التَّماثُلاتِ السَّطحية، بأنَّه صورةٌ طبق الأصل من إحدى شخصيَّاتِه الرِّوائية).
يمكن تلخيصُ الانقسام الظَّاهري الذي يعتري شخصيَّة مصطفى سعيد في قوله: "كنتُ أعيشُ مع نظريات كينز (الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز) وتوني (المؤرِّخ الاقتصادي البريطاني ريتشارد هنري توني) بالنَّهار، وباللَّيل أواصل الحربَ بالقوسِ والسَّيفِ والرُّمحِ والنَّشَّاب". كما يمكن تفسيرُ استقرارِه في قريةٍ خاملةِ الذِّكرِ عند منحنى النِّيلِ في شمالِ السُّودان، باعتباره محاولةً يائسة من جانبِه لرتقِ هذا الفتقِ الأساسيِّ في شخصيَّتِه، انتهت بغتةً بظهورِ الرَّاوي (أناهُ الأخرى، التي تتنازع معه مِنصَّة الحكي وتتبادلُ معه المواقع) على مسرحِ القرية، ممَّا عجَّل برحيلِه غرقاً في شمالٍ كان يُريدُ له أولَ الأمرِ أن يكون قصيَّاً، "في ليلةٍ جليديةٍ عاصفة، تحت سماءٍ لا نجومَ لها، بين قومٍ لا يعنيهم أمره".
أمَّا غرفته السِّريَّة، "الغرفة المستطيلة من الطُّوب الأحمر" التي بُنيت على الطَّرازِ الإنجليزي في قريةٍ بيوتها من الطِّين والطُّوب الأخضر، فقد كانت امتداداً خارجياً لدواخله، قابلاً للبقاءِ والتَّوريثِ الفوريِّ لأناه الثَّانية، التي نصَّبها قبل رحيلِه وصيَّاً على زوجته، حُسنة بنت محمود، وولديه محمود وسعيد. ولكن سرعان ما تبيَّن للرَّاوي أمران: أولُّهما، أنَّ مصطفى سعيد قد نصَبَ له فخَّاً بتأجيجِ حُبَّ الاستطلاع لديه، حتَّى يُواصلَ من بعدِه المهمَّة التي فشل في إكمالها، وهي رتقُ ماضيه بالبندر الكولونيالي بحاضرِه القريب بالقريةِ التي أحبَّها وأراد لولدَيْه أن ينشآ بها من غيرِ حاجةٍ إلى تجشُّمِ وعثاءِ السَّفر؛ وثانيهما، أنَّه بصورةٍ ما قد أُصيبَ -وهو الموظَّفُ "الذي لا يقدِّم ولا يؤخِّر"، والذي قضى من قبلُ زمناً في البحثِ عن شاعرٍ مغمور- بعدوى أناه الأخرى، أو ’غريمِه‘ على حدِّ تعبيره، التي تجلَّت في شكلِ حُبِّه لحُسنة، وتردُّدِه ’الهاملِتي‘ "فلبثتُ واقفاً هكذا زمناً في حالةٍ من الإقدامِ والإحجام"، وتشكُّكِه في وجودِ مصطفى سعيد، "لم يحدث إطلاقاً .. إنه طيفٌ أو حلمٌ أو كابوسٌ ألمَّ بأهلِ القريةِ تلك"؛ وفي وجودِه نفسِه: "قال إنه أكذوبة؛ فهل أنا أيضاً أُكذوبة؟". إلى أن قادته قدماه، في نهاية المطافِ، إلى النَّهر؛ فتجاذبه فيه تيارانِ متعادلانِ: أحدُهما يدفعه إلى الأمام صوب الشَّمال، والآخرُ يسحبه نحو القاع؛ وفي اللَّحظةِ التي بدأ الحلُّ وشيكاً بالاستجابة إلى نداء القاع، صاح الرَّاوي في نهايةٍ مفتوحةٍ للنَّصِّ الرِّوائي: "النَّجدة. النَّجدة".

كشفنا في هذه الحلقة، عبر ما وصفناه بقناديلِ الطَّريق، الخطوطَ العريضة لشخصيَّةِ الكاتب المُراد إنشاؤها داخل النَّص، وسنُجسِّدُ في الحلقةِ القادمة تلك الشَّخصيَّة المنسيَّة من خلالِ أمثلةٍ تحدِّد -بشكلٍ مركَّز- النُّورَ السَّاطعَ من تلك القناديل؛ فما نُريدُ عمله، يا عزيزي الصّادق، ليس مجرد توضيحِ رؤى الكاتبِ داخل النَّص، وإنَّما تنصيبُه شخصيَّةً قائمةَ الذَّات، تماماً مثلما أن الرَّاوي في "موسم الهجرة" هو أيضاً شخصيَّةٌ قائمةُ الذاتِ، إلى جانبِ وظيفتِه السَّرديَّةِ المعهودة.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

فما نُريدُ عمله، يا عزيزي الصّادق، ليس مجرد توضيحِ رؤى الكاتبِ داخل النَّص، وإنَّما تنصيبُه شخصيَّةً قائمةَ الذَّات، تماماً مثلما أن الرَّاوي في "موسم الهجرة" هو أيضاً شخصيَّةٌ قائمةُ الذاتِ، إلى جانبِ وظيفتِه السَّرديَّةِ المعهودة.




سلام يا خلف

شكراً للتوضيح، وربما كان تنصيبك للكاتب كشخصية قائمة بذاتها في هذه الرواية
توضح لي جزء منها استشكل علي فهمه، وهو الجزء الذي يبدأ بـ(وأنتهت الحرب فجأة بالنصر) ويستمر من ص 137 الى ص 140
في النسخة التي أمتلكها.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

This is Charing Cross


It is one o'clock


There is still a great cloud, and very little light


Immense shafts of shadows over the black crowd


That hardly whispers aloud


And now! . . That is another dead mother,


And there is another and another and another. . .


And little children, all in black,


All with dead faces, waiting in all the waiting-places,


Wandering from the doors of the waiting-room


In the dim gloom.


These are the women of Flanders.


They await the lost.


They await the lost that shall never leave the dock;


They await the lost that shall never again come by the train


To the embraces of all these women with dead faces


They await the lost who lie dead in trench and barrier and foss

In the dark of the night


This is Charing Cross; it is past one of the clock


There is very little ligh



There is so much pain
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في هذه المساهمة، يتوغَّلُ محمد خلف داخل "موسم الهجرة إلى الشمال"، حاملاً مصباحه النقدي، ينثر به ضوءاً على بعض جوانب المحتوى والشكل في هذه الرواية، وعلاقة ذلك بالكاتب وموقعه:




هذه محطَّة تشارنغ كروس:
ثمَّة ضَوءٌ خافتٌ في الرَّدهةِ وقناديلُ منثورةً على طولِ الطَّريق

-1-


كشفنا في الحلقةِ السَّابقة، عبر ما وصفناه بقناديلِ الطَّريق، الخطوطَ العريضة لشخصيَّةِ الكاتب المُراد إنشاؤها داخل النَّص، وقلنا إننا سنُجسِّدُ في هذه الحلقةِ تلك الشَّخصيَّة المنسيَّة من خلالِ أمثلةٍ تُحدِّدُ – بشكلٍ مُركَّز – النُّورَ السَّاطعَ من تلك القناديل؛ فهدفُنا من ذلك، ليس مجرد توضيحِ رؤى الكاتبِ داخل النَّص، وإنَّما تنصيبُه شخصيَّةً قائمةَ الذَّات، تماماً مثلما أن الرَّاوي في "موسم الهجرة" هو أيضاً شخصيَّةٌ قائمةُ الذاتِ، إلى جانبِ وظيفتِه السَّرديَّةِ المعهودة.
ولتذكيرِ القارئ بتلك القناديل، فإننا قلنا إن هناك منها، أولاً: ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حدثٍ رئيسي أو قبل وقوعِه؛ ومنها، ثانياً: ما يستقِرُّ في الخاطر، وما لم يُقلِ اعتباراً لآخَرِين، وما انقطعَ بغتةً واستؤنفَ توَّاً في الذِّهن؛ ومنها، ثالثاً: ما جاء في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص. وفي كلِّ تلك المواقع الثَّلاثة، يجيءُ صوتُ الكاتبِ واضحاً، فلم يترك لنا لبساً، أو يُلهِنا بتشويشٍ، أنَّه صاحبُ القول.
وإذا كانت تلك القناديل، التي سنتعرَّض لها بالتَّفصيلِ في هذه الحلقة، قد غطَّت جانبَ المحتوى، فإن هناك ضوءً أشدَّ سطوعاً قد لَمِسَ جانبَ الشَّكل؛ وهو هذا المنحى الذي سنتعرَّضُ له أولاً، قبل فلفلةِ الحِزَمِ الضَّوئية القادمة من تلك القناديل. ففي الأسطرِ الأولى من الفصلِ الأول، الذي اعتلى فيه الرَّاوي مِنصَّة القول، جاء ما يلي:

الجُملة الأولى:
"عُدتُ إلى أهلي يا سادتي بعد غيبةٍ طويلة، سبعةُ أعوامٍ على وجهِ التَّحديد، كنتُ خلالها أتعلَّمُ في أوروبا".
الجملة الثَّانية:
"تعلَّمتُ الكثير، وغابَ عنٍّي الكثير، لكن تلك قصَّة أخرى".
الجملة الثَّالثة:
"المهمُّ أنني عُدتُ وبي شوقٌ عظيم إلى أهلي في تلك القريةِ الصَّغيرة عند منحنى النِّيل".

يُلاحَظُ أن بين الجملةِ الأولى التي تبدأ بعبارة "عُدتُ إلى أهلي" والجملة الثَّالثة التي تبدأ بعبارة "المهمُّ أنني عُدتُ"، تُوجدُ جملةٌ متوازِنة، تتحدَّثُ عن شَّيءٍ إيجابي ("تعلَّمتُ الكثير")، وتُقابلُه بضدِّه السَّلبي ("غاب عنِّي الكثير")؛ ثمَّ تستدركُ بأن "تلك قصَّة أخرى"، ليعودَ الرَّاوي لاستئنافِ قصَّتِه الأساسية.
وفي الأسطرِ الأولى من الفصلِ الثَّاني، الذي اعتلى فيه مصطفى سعيد مِنصَّة القول، بعد أن انتهى الفصلُ الأول بعلامةِ "نقطتَيْنِ رأسيتَيْن" ’:‘، جاء ما يلي:

الجُملة الأولى:
"إنَّها قصَّةٌ طويلة، لكنني لن أقول لكَ كلَّ شيء".
الجملة الثَّانية:
"وبعضُ التَّفاصيلِ لن تهمَّكَ كثيراً، وبعضُها ..
الجملة الثَّالثة:
"المهمُّ أنَّني كما ترى من الخُرطوم".

ويُلاحَظُ أيضاً أن بين الجملةِ الأولى التي تبدأ بعبارة "إنَّها قصَّةٌ طويلة" والجملةِ الثَّالثة التي تبدأ هي أيضاً، كما في الفصلِ الأول، بعبارة "المهمُّ أنَّني"، تُوجدُ كذلك جملةٌ متوازِنة، تتحدَّثُ عن شيءٍ سَلبيٍّ ("وبعضُ التَّفاصيلِ لن تهمَّكَ كثيراً")، وتُقابلُه بضدِّه الإيجابيِّ المفتوح، الذي تمَّ التَّعبيرُ عنه بعبارةٍ غير مكتملة ("وبعضُها .. "؛ التي تنتهي بنقطتَيْنِ أفقيتَيْن)، إلَّا أنَّها مفهومة، وتقديرُها متروكٌ للرَّاوي، الذي ستقعُ عليه لاحقاً مهمَّة الاختيار. فهذه الجملة الثَّانية المتوازِنة، الموجودة في كلا الفصلين، والقائمة بين البَدءِ الفعليِّ للقصِّ واستئنافِه بما هو "المهمُّ" فيه، بَدءاً من الجملة الثَّالثة في كليهما، هي المكانُ الإستراتيجي – من حيثُ الشَّكل – الذي تختبئُ فيه شخصيَّةُ الكاتب، التي ستفاجئنا لاحقاً ضمن محتوى القصِّ بإحداثِ التَّوازنِ تارةً، وتعليقِ الحُكمِ تارةً أخرى، ورؤيةِ الأشياءِ من كلا طرفيها في كلٍّ؛ فتلك باختصارٍ شديد هي فلسفةُ الكاتب، التي جاء التَّعبيرُ عنها بشكلٍ سردي، مثلما جاء التَّعبيرُ عنها ضمن كتاباتِ الطَّيِّب صالح النَّثرية الأخرى، إضافةً إلى مقابلاتِه المطبوعة، والمسموعة، والمرئية؛ إلَّا أننا سنُركِّزُ الآنَ على المحتوى السَّردي، وفقاً للقناديلِ التي تحدَّثنا عنها في الفقرةِ الأولى من هذه الحلقة.

أولاً: ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حدثٍ رئيسي أو قبل وقوعِه
قبل أن يُقابِلَ مصطفى سعيد السَّيِّدة المسكينة إيزابيلا سيمور أولَ مرَّةٍ في ركنِ الخطباء في هايد بارك، قال للرَّاوي (الذي نسمعُ من خلالِه قصَّتَه): "وقفتُ عن بُعدٍ أستمعُ إلى خطيبٍ من جزرِ الهندِ الغربية يتحدَّثُ عن مشكلةِ الملوَّنين". وقد تُوحي عبارة "الوقوف عن بُعد" نوعاً من الإيحاءِ بأن المشكلة لا تعنيه في الأصل، إلا أنَّنا نعلمُ بأن الأفريقيَّ الأسود الذي جاء إلى الحديقةِ الشَّهيرة، بحثاً عن "صيدٍ عظيم"، لم يكن بمنأًى عن مشكلةِ الملَّونين التي تُصادفُه في كلِّ منحًّى من مناحي حياته؛ فرغم إيمانِ الفتاةِ القروية شيلا غرينوود بأنه "سيجيءُ يومٌ تنعدمُ فيه الفروق"، إلَّا أنَّها تقولُ له "إن أُمِّي ستجنُّ وأبي سيقتلني إذا عَلِم أنني أُحبُّ رجلاً أسود"؛ كما يقولُ مصطفى عن المحلِّفينَ في قاعةِ المحكمة "لو أنني طلبتُ استئجارَ غرفةٍ في بيتِ أحدِهم فأغلبُ الظَّنِّ أنه سيرفض، وإذا جاءتِ ابنةُ أحدِهم تقولُ له إنَّني سأتزوَّجُ هذا الأفريقي، فيحسُّ حتماً بأن العالمَ ينهارُ تحت رجليه". لذلك، فإن العبارة ليس لها من معنًى مطابقٍ لواقعِ الحال، إلَّا إذا ربطناها بشخصيَّةِ الكاتب التي تتخفَّى في طيَّاتِ التَّعبير وبين شُقوقِ الكلام.
فخلافاً لشخصيَّة مصطفى سعيد المُصادِمة، خصوصاً إبَّان إقامته الطَّويلة بالبندرِ الكولونيالي، نجدُ أنَّ شخصيَّة الكاتب تقفُ دائماً بمنأًى عن اتِّخاذِ موقفٍ يُوحي بانحيازِها لجانبٍ من جوانبِ الصِّراع؛ كما نجدُها مُهتمَّةً أبداً بالتَّريُّثِ وإقامةِ التَّوازن – غيرِ المرئيِّ من منظورِ الأشخاصِ الذين يرَونَ الأشياءَ بعينٍ واحدة – تماماً مثلما جاء في الجملتينِ الثَّانيتين، في ذينكِ الفصلين؛ وهو السُّلوكُ الذي يتعارضُ تعارضاً تامَّاً مع ما جاء في تصوُّرِ مصطفى، الذي تمَّ التَّعبيرُ عنه في شكلِ إهداءٍ في كُرَّاسةٍ احتوت على صفحاتٍ من "سيرةِ حياته"، التي نقرأُ فيها ما يلي: "إلى الذين يرَونَ بعينٍ واحدة ويتكلَّمونَ بلسانٍ واحد ويرَونَ الأشياءَ إمَّا سوداءَ أو بيضاء، إمَّا شرقيةً أو غربية". لذلك، فإننا نُرجِّحُ دائماً وجودَ شخصيَّةِ الكاتب مُختبِئةً في أقوالِ البطلين، إذا لم يُرجِّح حديثُهما أيَّاً من كفَّتَي الميزان. وعلى سبيل المثال، قد دُهِشَ المستقبلون، عندما أجابَ الرَّاوي على أسئلتهم عن الأوروبيينَ قائلاً هم "إذا استثنينا فوارقَ ضئيلة، مثلُنا تماماً، يتزوَّجون ويربُّون أولادَهم حسب التَّقاليدِ والأصول، ولهم أخلاقٌ حسنة، وهم عموماً قومٌ طيِّبون".
فهذا الرَّأيُ المتوازِن، الذي دفع الكاتبَ نفسَه إلى تحديدِ موقفٍ حياتيٍّ من قضيةِ الصِّراعِ اللَّونِّيِّ والعرقي، يقفُ (بالنَّظرِ إلى موقفِ الشَّخصِ المُستعمَرِ) على مسافةٍ من طرحِ المفكِّر المارتنيكي، فرانز فانون، الذي يضعُ أولويةً قصوى لقضيَّةِ التَّمييز اللَّوني، التي ترتبطُ بالهوية الكولونيالية، أو الصِّراع بين المُستعمِرِ والمُستعمَر، ويرى أنها سابقةٌ لقضيَّةِ الصِّراع الطَّبقي، ولا يُمكِنُ تخفيضُها إليه أو اختزالُها فيه؛ كما يقفُ (بالنَّظرِ إلى رؤيةِ المُستعمِرِ) على مسافةٍ من تمجيدِ رسالةِ الرَّجلِ الأبيض أو إعادةِ تدويرِ استيهاماتِه الاستشراقية. بل يُمكِنُ القولُ بأن شخصيَّة مصطفى سعيد الرَّئيسية قد تمَّ بناؤها – أصلاً – وفقاً لنَسَقٍ قائمٍ على الاشتطاطِ في السُّلوك والمبالغةِ في تقديرِ المواقف، حتَّى يتسنَّى للكاتب إبراز الخللِ والتَّلفيقِ في عملية تكوين الأفكار والجنوحِ إلى التَّطرُّفِ في الممارسة، وهما العيبانِ الأساسيانِ اللَّذانِ يكتنفانِ طرفي المعادلة في حلبةِ الصِّراعِ الدُّولي (الذي يتمُّ التَّعبيرُ عنه في النَّصِّ الرِّوائيِّ، جغرافياً واقتصادياً، بجنوب-شمال؛ وتاريخياً وحضارياً، بشرق-غرب؛ وعرقياً ولونياً، بأسود-أبيض؛ وسياسياً وعنصرياً، بأفريقي-أوروبي).
وما يُلفت الانتباه في بناء شخصيَّة مصطفى سعيد هو أنَّه إضافةً إلى نبوغها المبكِّر، وجموحها في التَّفكير، وتفحُّشها في القولِ والفعل (إبَّان إقامتها الطَّويلة في البندرِ الكولونيالي)، ومفارقتها لمراعاةِ التقيُّد بالأطرِ الأخلاقيةِ المعروفة، قد شُحِنت بطاقةٍ شعرية عالية، نُثِرت في ثنايا حديثِه، ومتونِ دفاترِه، وبعضِ "قصاصاتٍ وشذورٍ متفرِّقة"، وُجِدت بين محتوياتِ غرفتِه. ولا نعني بذلك محاولتَه كتابةَ الشِّعرِ أو فشلَه في إكمالِ بيتٍ من قصيدة (فذاك ميدانُ الرَّاوي الذي تخصَّصَ في الشِّعر، واتَّخذه وسيلةً لكسبِ العيش، بعد أن أنجز بصددِه رسالةَ دكتوراة، تعقَّب فيها أثرَ شاعرٍ إنجليزي مغمور)، وإنما نقصد به ذلك الزَّخمَ النَّغمي الذي يُحيطُ بعبارتِه، فيُحرِّرُها من ربقةِ العاديِّ، ويجنحُ بها هارباً إلى مشارفِ لحظةِ الدَّهشةِ، وانبثاقِ وقتِ الجِدَّةِ؛ متألِّقاً بتفتُّقِ أكمامِ الحروفِ، وانبلاجِ نورِ الكلم.
أمَّا الكاتبُ، فقد أفرد لنا مختاراتٍ مما يروقُ له من أشعارٍ كلاسيكية وشعبية، من غيرِ مراعاةٍ أحياناً إلى أهميةِ سياقِ ورودِها في النَّص؛ ونستثني، من ذلكَ، شاعراً واحداً وقصيدةً واحدةً مترجمةً يتيمة. فالشاعرُ المُستثنى من هذا العيب النَّصي هو أبو نواس، إذ إن اتِّفاقَ الشَّخصيتَيْن الرَّئيسيتَيْن على أهميةِ شعرِه وتنبيهَهُما إلى جماليَّتِه، يُعدُّ علامةً أخرى، على مستوى الشَّكل، لانبثاقِ شخصيَّةِ الكاتبِ في النَّص. فمن جانبِه، يُشيرُ الرَّاوي، قبيل إقامتِهم "في قلبِ الصحراءِ فرحاً للَّاشيء"، إلى أبي نواس، ويقول: "هذه أرضُ اليأسِ والشِّعرِ ولا أحدَ يُغنِّي"؛ وفي عبارةٍ أخرى تُذكِّرُنا بأسلوب مصطفى سعيد، يقول الرَّاوي في نفسِ اللَّيلة: "هذه أرضُ الشِّعرِ والممكن وابنتي اسمها آمال". وفي الجانبِ الأخر، لا يكتفي مصطفى سعيد بقراءةِ عددٍ كبيرٍ من أبياتِ شعرٍ لإبي نواس، حتَّى لتكادُ تُخِلُّ بتوازنِ النَّصِّ الرِّوائي، بل يستخدِمُه في محاضرةٍ ألقاها على محفلٍ استشراقي للتَّدليلِ على "أن أبا نواس كان متصوِّفاً، وأنه جعل من الخمرِ رمزاً حمَّله جميع أشواقه الرُّوحية". وإذا كان مصطفى قد وصف كلامَه بأنه "كلامٌ مُلفَّق لا أساسَ له من الصِّحَّة"، فإن الرَّاوي قد وصف ذلك الحفلَ في الصَّحراءِ بأنه "عرسٌ بلا معنًى، مجردُ عملٍ يائس نبع ارتجالاً كالأعاصيرِ التي تنبعُ في الصَّحراءِ ثمَّ تموت". وفي كلا الوصفَيْنِ الانتقاديَيْن، تشرئبُّ شخصيَّة الكاتب القادرة على نقدِ المكتوب، والتي يجمعُها أبو نواسٍ بالشخصيَّتَيْن الرئيسيتَيْن الأُخريَيْن عبر الاتِّفاقِ على قوَّة شاعريته.
وقد استثنينا أيضاً قصيدة "أنتويرب" المترجمة، التي استُخدِمَ مقطعٌ من قسمِها السَّادس، ليس للإشارةِ فقط إلى زمنِ وقوعِ أحداثِ الرِّواية، وهي فترةُ ما بين الحربين، وإنما للنَّظرِ إليها أيضاً كأساسٍ لتوزيعِ أنصبةِ المعلومات، وتقييمِ الشَّخصياتِ، وفقاً لمقدارِ المعرفة بالقصيدة، واستكناهِ دلالاتِها العميقة. ووفقاً لهذا المعيار، لا يُمكِنُ لنا الجزمُ حتَّى الآن بما قدَّمناه من دلائلَ نصيَّة بأن شخصيَّة الكاتب هي أهمُّ الشَّخصيات؛ وربَّما إذا تسنَّى لنا لاحقاً تقديمُ مزيدٍ من الدَّلائل، أن نخلُصَ إلى الزَّعمِ بأن شخصيَّة الكاتب أقدرُ من غيرِها على تقييمِ دلالاتِ القصيدة؛ وعندها فقط، سنلجأُ إلى الكاتبِ نفسِه، عبر كتاباتِه الأخرى، للتَّدليلِ على صِحَّة هذا الزَّعم.

سنُكمِلُ هذه الحلقة بمشاركةٍ أخرى تتعرَّض لبقية القناديل؛ ومنها، ما يستقِرُّ في الخاطر، وما لم يُقلِ اعتباراً لآخَرِين، وما انقطعَ بغتةً واستؤنفَ توَّاً في الذِّهن؛ وما جاء في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في المساهمة السابقة، أو الحلقة الأولى، وفي المفصل الأول الذي جاء تحت عنوان: "أولاً: ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حدثٍ رئيسي أو قبل وقوعِه"، سعى محمد خلف إلى البحث في طيَّات "موسم الهجرة إلى الشمال" عن دلائل تساعده على إنشاء الكاتب كـ"شخصية قائمة الذات". وفي هذه الحلقة، يشرعُ، بعد أن يُذكِّرَ القارئ/االقارئة بالمحاور الثلاثة التي تنهض عليها أطروحته، في إلقاء ضوء على شخصية محجوب، الراوي ومصطفي سعيد، كشخصيات منفردة ومتعالقة، أو متكاملة ومتناقضة، في نفس الوقت:



هذه محطَّة تشارنغ كروس:
ثمَّة ضَوءٌ خافتٌ في الرَّدهةِ وقناديلُ منثورةً على طولِ الطَّريق
-2-



قبل المُضي قُدُماً في صياغةِ فقراتِ هذه الحلقةِ الخاصَّة باستكمالِ إنشاءِ شخصيَّة الكاتب من خلال تتبُّعِ خيوطِ الضَّوء الصَّادرة من قناديلِ الطَّريق، نودُّ أن نُذَكِّرَ القارئ بالمحاورِ الرَّئيسية الثَّلاثة لمجملِ هذه المشاركاتِ حول كتاباتِ الطَّيِّب صالح؛ وهي، كما يُدرِكُ المتابعون ذوو الذَّاكرةِ النَّشِطة: أولاً، محورُ البندرِ الكولونيالي، ويُمثِّله خيرَ تمثيلٍ شخصيَّة مصطفى سعيد، رغم وجودِ الرَّاوي لسنينَ عدداً في نفسِ المكان؛ وثانياً، محورُ الوطنِ الأم، ويُمثِّله شخصيَّة الرَّاوي، رغم وجودِ شخصياتٍ أخرى تُضارِعُه، وربَّما تُصارِعُه أيضاً - مجازياً وحرفياً - مثل شخصيَّة محجوب؛ وثالثاً، محور العُمق الحضاري، الذي يُمثِّله شخصيَّة الكاتب، التي نحاول ضمن هذه المشاركاتِ الأخيرة أن نُنشئها إنشاءً داخل النَّص، حتَّى يتسنَّى لنا بسطُ الحيثياتِ الأساسية المتعلِّقة بتلك المحاور.
بمعنًى آخر، إننا لم نبدأ بعدُ في الدُّخول في صُلبِ الموضوع، ولم نُفلِح حتَّى الآن في الاقترابِ الحميمِ من المحاور الثَّلاثة، على الرَّغم ممَّا نثرناه من معلومات، وما أبديناه من ملاحظات، وما بنيناه من خططٍ أوليَّةٍ بشأنِ إستراتيجيَّةِ القراءة وبدءِ التَّحليل. وإنْ قالَ قائلٌ أو سألَ سائلٌ لماذا لا نختصر الطَّريق، ونذهب إلى الكاتب مباشرةً، بدلاً عن التَّكهُّن بوجودِه داخل النَّص، فأفكارُه منثورةٌ في أكثرَ من نوعٍ أدبي؛ فهناك الأعمالُ النَّثرية، والبرامجُ الإذاعية والتِّلفزيونية، والمقابلاتُ العديدة في الصُّحف والمجلَّات؛ هذا بالطَّبع إلى جانبِ أعمالِه السَّردية الشَّهيرة، التي تشمل الرِّواية (مثل "موسم الهجرة إلى الشَّمال")، والقصَّة الطَّويلة (مثل "دومة ود حامد")، والقصَّة القصيرة (مثل "نخلة على الجدول")، والمقدِّمات الأكثر قِصَرَاً (مثل "خطوة إلى الأمام" أو "لكَ حتَّى المَمَات").
نُجيبُ على هذا السَّائلِ الافتراضيِّ بالقول: بالطَّبع، من الممكن أن نذهبَ مباشرةً إلى الكاتبِ نفسِه، فنُنازعُه القول؛ ونقعدَ له كلَّ مرصد، فنُمسِكُه من لسانِه أو يدِه التي تُوجِعُه، ونتتبَّعَ خُطواتِه، ونتصيَّدَ هفواتِه؛ إلَّا أنَّ هذا، بعبارةِ معاوية محمَّد نور، لا يؤدِّي. بل إنَّ الشَّكلَ الأثيرَ الذي اختاره الكاتبُ منذ وقتٍ مبكِّرٍ للتَّعبيرِ عن أفكارِه، هو الجهةُ التي يكونُ الرُّجوعُ إليها "أنورَ وأبهر"، بعبارةِ الجَرجاني المُنيرة. ومن أجلِ هذا، سنُحاولُ أولاً أن نُنشئَ شخصيَّة الكاتب داخل النَّص، للتَّعرُّفِ على آرائه الفكرية العميقة من خلال وسيطٍ سردي، وعبر ما يجيءُ على ألسِنةِ شخصيَّاتٍ رئيسية، من ضمنها شخصيَّة الكاتب الواقعة قيد الإنشاء؛ ثم يُمكنُ لنا، من بعدُ، أن نرجعَ للكاتبِ الواقعيِّ نفسِه، للتيقُّنِ من صحَّة ما نزعمُ به من أقوالٍ معقولة أو آراءَ تتبدَّى لنا وجاهتُها ضمن هذه المشاركات المُخصَّصة لاستكشافِ عالم الطَّيب صالح من خلالِ محاورَ رئيسيةٍ ثلاثة.


ثانياً: ما يستقِرُّ في الخاطر، وما لم يُقلِ اعتباراً لآخَرِين، وما انقطعَ بغتةً واستؤنفَ توَّاً في الذِّهن
(كان القنديلُ الأول الذي تعرَّضنا لقبسٍ من نورِه في المُشاركةِ السَّابقة، هو: ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حدثٍ رئيسي أو قبل وقوعِه)


يُتيحُ لنا الضَّوءُ السَّاطعُ من هذا القنديل أن نتعرَّضَ أيضاً لشخصيَّة محجوب، الذي أنشأ الكاتبُ بينها وبين شخصيَّة الرَّاوي توأمةً، مثلما أنشأها بين الأخيرِ ومصطفى سعيد، حتَّى لكأنَّ الثَّلاثةَ يُشكِّلونَ فيما بينهم مجموعةً مكوَّنةً من ثلاثةِ توائم، مع الفارقِ الجوهريِّ في عملية بناء وتكوُّنِ الشَّخصيَّة الرِّوائية لدى ثلاثتهم؛ فإذا أخذنا الرَّاوي كأساسٍ للمقارنة، فإن شخصيَّة مصطفى سعيد تُمثِّلُ، في بعضٍ من جوانبها الإيجابية، توقَ الرَّاوي الرُّوحي، كما تُمثِّلُ في ذاتِ الوقتِ انعكاساً لفشلِه الفكريَّ والعاطفي، رغم نجاحِه الأكاديمي، الذي يتمُّ التَّأكيدُ عليه بـِ"انتصاره" في نَيلِ شهادة الدُّكتوراة؛ وهي نفسُ الشَّهادة التي تتراءى للرَّاوي في بعضِ حالاتِ ضعفِه المعنويِّ رمزاً لخيبته، خصوصاً إذا ما قورن ذلك بالنَّجاح الاجتماعي والسِّياسي الذي لقيه محجوبٌ في مجتمعِ القرية، وفي البلدِ برُمَّتِه، من خلالِ مشاركتِه الفاعلة في الأحزابِ السِّياسية، والجمعياتِ التَّعاونية (التي توطَّدت من خلالها في المَقامِ الأوَّلِ علاقتُه بمصطفى سعيد)، والمناسباتِ الاجتماعيةِ الرَّئيسية (زواج - طلاق- سماية – ختان – كرامة – غسل ميِّت – دفن جنازة – إقامة مأتم – إكرام ضيف – استقبال وفد – أو استضافة عابر سبيل).
لو لم يواصلِ الرَّاوي تعليمَه، لصارَ مثل محجوبٍ تماماً؛ ولو لم يخُض مصطفى سعيد معاركَه الكيشوتية (نسبةً إلى دون كيخوتة دي لا مانتشا في رواية سيرفانتيس، الذي اشتُهر باستخدامِ مَلَكَةِ الخيال لتحويلِ الواقع المُحيط به إلى استيهاماتٍ مُقنِعةٍ لِمَن حولِه) لرَجَعَ إلى الوطنِ مثل الرَّاوي، ولأصبحَ موظَّفاً "لا يقدِّم ولا يؤخِّر". إلَّا أن محور البندر الكولونيالي، مع ذلك، لا يُمكِنُ له أن يعملَ داخل الرِّواية من غير التَّفاعل الضَّروري بين شخصيَّتَيْ الرَّاوي ومصطفى سعيد؛ كما لا يُمكِنُ لمحورِ الوطنِ الأمِّ أن يكتسبَ قيمةً من غير تفاعلِ هاتين الشَّخصيتين مع محجوب؛ أمَّا محور العُمق الحضاري، فلا سبيلَ إلى إقامتِه في الأساس من غيرِ إنشاءِ شخصيَّة الكاتب، التي تتبدَّى من خلال كلِّ تلك الشَّخصيَّات، والتي نستبصرُ من خلالها أيضاً رؤية الكاتب ذاتِه، عبر بعضِ المواقف الفكرية المُعلنة أو المُواربة، حسب كلِّ حالةٍ على حِدَة؛ وهو ما سيتمُّ التَّنبيه عليه في حينه.
للرَّاوي – كما لمصطفى سعيد – تقديرٌ عميق لمحجوب، صديقِ صباه ورفيق مدرسته الأولية؛ وكان يحبُّه حبَّاً جمَّاً (يُقاربُ حبِّي لأخي محجوب، الذي سمَّيتُ عليه ابني محجوباً، تيمُّناً به؛ وربَّما جاءتِ التّسميَّةُ – لا شعورياً – بتأثيرٍ من شخصيَّة محجوب الآسِرة)؛ ومع ذلك، فقد كان انقطاعُ تعليمِ أحدِهما ومواصلةُ آخر (وهي عينُ المشكلة التي برزت إلى الوجود مع انبثاقِ المدارس التي كان النَّاسُ "يظنونها شرَّاً عظيماً جاءهم مع جيوش الاحتلال"، والتي واكبتِ "الخلاوي" حيناً، ثمَّ حلَّت محلَّها في نهاية المطاف) سبباً في أن أصبح الرَّاوي لا يستطيعُ أن يُطلِعَ محجوباً على ما أحاطنا عِلماً به نحنُ معشرَ القراء، فنراه يُنصِبُ لنا على التَّخصيصِ كلاماً يُخفِضُه تحت رادارِ محجوبٍ؛ فيقول، بعد أن أجابَ محجوباً بإجابةٍ مُقتضَبة بشأنِ سؤالِه عن الأوروبيين "هل بينهم مزارعون": "وآثرتُ ألا أقولُ بقيَّة ما خطرَ على بالي"، ثم يستدركُ بالقول: "لم أقلْ لمحجوبٍ هذا، وليتني قلت، فقد كان ذكياً. خِفتُ، من غروري، ألَّا يفهم".
عندما نُحلِّل محتوى الكلام الذي باحَ به الرَّاوي لنا، وأخفاه عن محجوب، نلاحظُ نفسَ السِّمةِ التي تحدَّثنا عنها من قبل، وهي إحداثُ التَّوازنِ عن طريق المقابلة الضِّدية، التي تظهرُ في عباراتٍ مثل: "يولدون ويموتون"؛ "من المهدِ إلى اللَّحد"؛ "بعضُها يصدق وبعضُها يخيب"؛ "فيهم أقوياء وبينهم مُستضعفون"؛ "بعضُهم أعطته الحياة ..، وبعضُهم حرمته الحياة"؛ إلى أن يخلُص في حديثه عن الأوروبيين بالقول: "لكن الفروقَ تضيقُ وأغلبُ الفقراءِ لم يعودوا فقراء". وهذا النَّوعُ من الموازناتِ هو سمةٌ فكرية لدى جمهرةِ المتعلِّمينَ تعليماً عالياً؛ يتَّخذ عند البعضِ منحًى إيجابياً، فيساعدُ على التَّريُّثِ والبعدِ عن التَّهورِ أو التَّطرُّفِ الطَّائش؛ ويتَّخذُ عند البعضِ الآخرِ منحًى سلبياً، فيقودُ إلى التَّردُّدِ والحَيرةِ شبهِ الدَّائمة، كما في حالة "هاملت" أميرِ الدَّنمارك في مسرحية وليام شكسبير الشَّهيرة (التي تتلخَّص في "مونولوجه" الأشهر، الذي يناجي فيه نفسه قائلاً: "أنْ أكونَ أو ألَّا أكون، تلك هي المسألة" أو بلغةِ شكسبير نفسِها: "تو بي أور نوت تو بي، زات إز زا كويسشن").
نلمسُ هذا التَّردُّد الطَّويل بين القطبين عند مصطفى سعيد، الذي يقول للرَّاوي: "إنني أعرف بعقلي ما يجب فعله، الأمر الذي جرَّبته في هذه القرية، مع هؤلاء القوم السُّعداء. ولكن أشياءَ مُبهمة في روحي وفي دمي تدفعُني إلى مناطقَ بعيدةٍ تتراءى لي ولا يمكن تجاهلها". كما نلمسه بشكلٍ أحَدَّ عند الرَّاوي نفسِه، خصوصاً على مشارفِ انتهاءِ الرِّواية عند منتصفِ النَّهر، حيث يقول: "كانتِ الأشياءُ على الشَّاطئينِ نصفَ واضحة، تبينُ وتختفي، بين النُّورِ والظَّلام"؛ أصبحتُ بين العمى والبصر. كنتُ أعي ولا أعي. هل أنا نائمٌ أم يقظان؟ هل أنا حيُّ أم ميِّت؟؛ ثمَّ يقول: "تلفَّتُّ يُمنةً ويُسرة، فإذا أنا في منتصفِ الطَّريق بين الشَّمالِ والجنوب"؛ وفي تلخيصٍ كاملٍ لمجمل حياته، يقول: "طول حياتي لم أختر، ولم أقرِّر. إنني أُقرِّرُ الآنَ إنني أختارُ الحياة". لكن أيَّ نوعٍ من الحياة، وضمن أيٍّ من الشُّروط؟ ويُجيبُ الرَّاوي بإجابةٍ لا تحملُ في طيَّاتها حلَّاً لحَيرته الطَّويلة، فيقول: "لا يعنيني إنْ كان للحياةِ معنًى أو لم يكن لها معنًى"؛ ثمَّ لا يلبثُ أنْ يصرخَ في نهايةِ الرِّواية: "النَّجدة. النَّجدة".

سنُكمِلُ هذه الحلقة بمشاركةٍ ختامية، نستعرضُ فيها ما جاء في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص. وربَّما شرعنا بعدها في تناولِ المحاور الثَّلاثة، كلَّاً على حِدَة.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

تعرَّفت مؤخراً - عبر الفِيسبُكْ - على شابٍّ سوداني يافع، ذي علاقة ليست عابرة بالثقافة والإبداع، كما أكَّدت لي بعض انتقاءاته وتعليقاته النقدية؛ ذلكم هو الشاب عاطف جمال، الذي تعرَّفت إليه - بشكل أكثر دِقَّة - عبر بوست له في صفحته بالفِيسبُكْ، قدَّم من خلاله مقالاً نقدياً لصديقٍ مجايل له، يتمتَّعُ بكتابةٍ نقدية ذكية وبصيرة، هو مأمون الجاك. ثم لم تلبث تداعيات الحوار الذي تفجَّر بمناسبة مقال مأمون (الذي كان عنوانه: "قراءة لقراءات: القراءة كحدث") أن قاد إلى ورود اسمي في ذلك البوست. فذهبت لأفاجأ وأسعد بهذين الشابين (وكنت قبلهما قد سعدت بمعرفة ثالثهما، خالد عمر، الذي ربطني بكلا الاثنين). أتطلَّعُ إلى، بل أتوقَّعُ، أن نسمع عن الثلاثة قريباً ما يغبِطُ ويشرِّفُ، في حقلَيْ الكتابة الإبداعية والنقدية.

وفيما يخص جمال، فقد تفتَّحت بيننا مراسلة حميمة عبر الفِيسبُكْ، قادت إلى أن يطالع بوست "الحِصَّة قِصَّة"، ويكتب - عبر رسالةٍ خاصة - التعليق التالي عن "رسالة محمد خلف" والمساهمات التالية له:


أجمل ما حدث لي في العام الجاري هو معرفة التواصل معك، وثانيهما على الترتيب دلُّك واقتراحُك لي بقراءة ما ورد في "سودانفورول" من طرف صديقك محمد خلف؛ وربما لم أقرأ يوماً في منتدًى سوداني أو أيَّاً كان نوعه من المنتديات مثل هذا التدفُّق المعرفي، والإبداع اللامتناهي من أستاذ محمد خلف. رسائله تنهض وتحرِّض على القراءة الحُرَّة في شتَّى المعارف؛ بدأت بالسرد وتفرَّعت إلى الفلسفة، العلوم الطبيعية، التأريخ والأدب - ولا ننسى الدين، لكنَّها ما زالت تحافظ على مضمون السرد الذي بدأ به رسالته. قراءة واحدة لا تكفي .. وقراءة ثانية ربَّما تقرِّبني لفهم الحق والحقيقة بمفهومَيْهما العلميِّ والديني؛ والقراءة الثالثة والعاشرة لتذوُّق هذا الكمَّ المعرفيَّ الممزوج بالذاتيِّ السِّيَرِي. الرسالة التي افتتح بها أستاذ محمد خلف عصفَه المعرفي، أجملُ رسالةٍ أقرأها على الإطلاق، لا تشبه رسائل كازانتزاكي، كافكا، ولا حتَّى رسائل دوستويفسكي التي قرأتها. هي مزيجٌ من السرد والمعرفة المرتبطة بالذاتي. لن أَجِدَ وصفاً أفضل من وصفِ الأستاذ عبدالواحد ورَّاق في رسالته إلى الأستاذ المثقَّف - بكلِّ ما تحمله الكلمة من معانٍ - محمد خلف: "ذكروا أنَّ في الصحراء واحةً لا يعثر عليها إلا المُوشِك على الهلاك. في كلِّ مرَّة يا خلف تأتي مقالتك بمثابة الواحة الظليلة والتي يتوفَّر فيها الماء العذب والتمر المُشْبِع والفاكهة الدانية والظلال الرحيبة الممتدَّة...ونحن في هذا العالم نسير في أكثر من صحراء؛ وقبل أن يتلقَّفنا الهلاك، نظفر بإبداعك. ..الذروة، ثم القلب". أنا ممتنٌّ جدَّاً لك، ومحظوظٌ جدَّاً بقراءةِ مثل هذا الكمِّ من المعرفة، التي هي حصيلة تراكم سنين من القراءة منك وأستاذ محمد خلف والمتداخلين من شتَّى بقاع الأرض. شكراً لك مرَّةً أخرى يا دكتور، وسعادتي لا تحدُّها حدود بالتواصل معك؛ وبالتأكيد ستكون لي زيارة لملبورن في القريب العاجل. تحيَّاتي لأسرتك الكريمة وإلى الأستاذ محمد خلف، وبلِّغه شكرنا الخاص نيابةً عن أصدقائي للدفقِ العلميِّ الرحيب، والذي بالتأكيد سنستفيد منه أنا وجيلي والأجيال التي تلينا.

عاطف جمال
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه هي الحلقة الثالثة، والأخيرة، من التمهيد الذي أراد به محمد خلف تعبيد الطريق إلى مقاربةٍ أعمق لرواية "موْسِم الهِجرة إلى الشَّمال"؛ وهي مقاربةٌ سوف تنهض على محاورَ رئيسةٍ ثلاثة: البندر الكولونيالي، الوطن الأم، والعُمق الحضاري الشَّامل؛ فيستهلُّ خلف هذه الحلقة بتأمُّلٍ في بُعدٍ من أبعاد الشكل لهذه الرواية، وهو الزمن السردي، كشرطٍ من شروط "إنشاء الكاتب كذاتٍ مستقلَّة داخل النَّص"؛ ثم يدلف إلى تأمُّلٍ في عباراتٍ، يراها مفاتيحَ، تنتمي لمحتوى الرواية، لتدلَّ، أيضاً، على "إنشاء الكاتب كذاتٍ مستقلَّة داخل النَّص":



هذه محطَّة تشارنغ كروس:
ثمَّة ضَوءٌ خافتٌ في الرَّدهةِ وقناديلُ منثورةً على طولِ الطَّريق

-3-




قلنا في المُشاركةِ السَّابقة إنَّنا سنُكمِلُ هذه الحلقة بمُشاركةٍ أخرى ختامية، نستعرضُ فيها ما انكشفَ لنا تحت ضوءِ آخرِ قناديلِ الطَّريق، والذي سيجيءُ هنا في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص. إلَّا أنَّه قبل المُضي قُدُماً في استكمالِ فقراتِ هذه الحلقةِ الختامية، التي تمهِّد إلى تناولِ المحاور الثَّلاثة، كلَّاً على حِدَة، نودُّ أن نقفَ لوهلةٍ قصيرة أمام عنصرٍ آخرَ من عناصرِ الشَّكل، وهو الزَّمنُ السَّردي، حتَّى نطمئنَ قليلاً إلى استيفاءِ شروطِ إنشاءِ شخصيَّة الكاتب، من جهةِ الشَّكل؛ قبل أن نستيقنَ تماماً من استيفائها، بعونٍ من قبسِ هذا القنديل الأخير، من جهةِ المحتوى.
سبق أن أشرنا في بدايةِ هذه الحلقاتِ إلى أنَّ الغرضَ الخفيَّ من إلقاءِ مصطفى سعيد لأبياتٍ من مقطع "هذه محطَّة تشارنغ كروس"، من قصيدة "أنتويرب" للشَّاعر والرِّوائي الإنجليزي، فورد مادوكس هيفر، التي تناولَ فيها أوضاعاً إنسانية تسبَّبت فيها الحربُ العالمية الأولى، هو رسمُ تحديدٍ دقيق، إلَّا أنَّه غيرُ مألوفٍ، للزَّمن الرِّوائي في "موسم الهجرة"؛ وهو فترة ما بين الحربين في أوروبا، وهي الفترةُ التي يتحدَّثُ عنها مصطفى سعيد بقولِه: "ثلاثون عاماً. كان شجرُ الصَّفصافِ يبيَضُّ ويخضَرُّ ويصفَرُّ في الحدائق، وطيرُ الوقواقِ يُغنِّي للرَّبيعِ كلَّ عام. ثلاثون عاماً وقاعة ألبرت تغصُّ كلَّ ليلةٍ بعشَّاقِ بيتهوفنَ وباخ، والمطابعُ تُخرِجُ آلافَ الكتبِ في الفنِ والفكر". وإذا كان هذا التَّحديدُ هو في الأساسِ تأطيرٌ زمنيٌّ لفعاليَّةِ شخصيَّة مصطفى داخل البندر الكولونيالي، فإنَّ زمنَ السَّردِ في الرِّواية - الذي يبدأ من أولِ جملةٍ مُكتمِلةٍ فيها: "عُدتُ إلى أهلي يا سادتي بعد غيبةٍ طويلة، سبعةِ أعوامٍ على وجهِ التَّحديد، كنتُ خلالها أتعلَّمُ في أوروبا"، وينتهي بالاستنجاد - هو تأطيرٌ زمنيٌّ لفعاليَّةِ الرَّاوي، حيثُ يتقاطعُ آخرُ سنواتِه في القرية مع آخرِ عهدِ مصطفي سعيد فيها.
إذا كان الأمرُ كذلك، ونحنُ بصددِ إنشاءِ شخصيَّةِ الكاتب، كيف يتسنَّى لنا إذاً تحديدُ زمنِه السَّردي، الذي ينبثقُ منه تأطيرٌ لفعاليَّته النَّصِّيَّةِ قائمةِ الذَّات؟ من الواضح أنَّنا لا نستطيعُ أن نجترحَ له زمناً يتطابقُ مع زمنِ شخصيَّة مصطفى سعيد أو الرَّاوي، وإلَّا لكانَ هو أحدُهما أو كلاهُما، إذ إنَّنا نعتمدُ على فرقٍ ناتجٍ عن تميُّزِهما، لإبرازِ وجودِه كشخصيَّةٍ مستقِلَّةٍ عن كليهما؛ كما لا يُمكِنُ، لنفسِ السَّببِ، أن نستخلِصه من سياقِ أقوالِهما، من ناحيةِ الشَّكل، كما استخلصناه تحت ضوء القناديل، وكما سنستخلصه في الفقرة "ثالثاً" أدناه، من ناحية المحتوى. إلَّا أنَّنا سننظرُ إلى حديثٍ صدر عن الرَّاوي في وقتٍ مبكِّرٍ من زمنه السَّردي، باعتباره مؤشِّراً على وجودِ زمنٍ سرديٍّ آخرَ، هو في رأينا زمنٌ خاصٌّ بشخصيَّة الكاتب قيد الإنشاء. ومن اللَّافت في ذلك الحديث، الذي سنستعرضُ طرفاً منه في الفقرةِ التَّالية، أنَّ الرَّاوي أوصله لنا معشرَ القراء بعد أن فَرَغَ من الإجابةِ على أسئلةِ الأهلِ والزُّوار، وبدأ يعتادُ على إقامتِه بينهم، ولمَّا تمضي سوى أيَّامٍ قليلة عُقبَ عودتِه إلى القرية؛ إضافةً إلى أنَّه قد رواه لنا من مكانِه الأثير، "عند جذعِ شجرةِ طلحٍ على ضفَّةِ النَّهر"، حيث كان يقضي عندها ساعاتٍ طويلة إبَّانَ طفولته.
فبعدَ أن جابَ الرَّاوي القريةَ "طولاً وعرضاً، معزِّياً ومهنِّئاً"، استجابةً لرغباتِ أمِّه التي كانت تقفُ له "بالمرصاد"، ذهب ذاتَ يومٍ إلى مكانِه الأثير، ليُحدِّثنا من عند تلك الشَّجرةِ على ضفَّةِ النَّهر، قائلاً: "ورأيتُ الضَّفَّةَ تتقهقرُ عاماً بعد عام أمام لطماتِ المياه، وفي جانبٍ آخرَ يتقهقرُ الماء أمامها. وكانت تخطرُ في ذهني أحياناً أفكارٌ غريبة. كنتُ أُفكِّرُ، وأنا أرى الشَّاطئَ يضيقُ في مكان، ويتَّسِعُ في مكان، أن ذلك شأن الحياة، تعطي بيدٍ وتأخذُ باليدِ الأخرى. لكن لعلني أدرَكتُ ذلك فيما بعد. أنا الآن، على أيِّ حال، أُدرِكُ هذه الحكمة، لكن بذهني فقط". قد قال الرَّاوي ذلك، بعد أن استرجَعَ – أولاً - طرفاً من ذكرياتِ طفولتِه في ذلك المكان، وبعد أن لاحَظَ – ثانياً – تغيُّراً بطيئاً طرأ على البلد؛ الأمر الذي يعني أنَّ ما أكَّدناه من قولِه بالخطِّ الدَّاكنِ العريض قد حَدَثَ في زمنٍ مُتميِّزٍ تالٍ، نزعمُ أنَّه زمنٌ سرديٌّ مُخصَّصٌ لشَّخصيَّةِ الكاتب.
وما يُقوِّي الاعتقادَ بهذا الزَّعم، أنَّنا نجدُ في طيَّاتِ حديثِ الرَّاوي عند جذعِ الشَّجرةِ على ضفَّةِ النَّهر نفسَ خاصِّية الكلام المُتوازن، عبر استخدامِ سلسلةٍ من المُتقابِلاتِ الضِّدِّيَّة: "ضفَّةٌ تتقهقرُ أمام المياه، وماءٌ يتقهقرُ أمامها"؛ شاطئٌ "يضيقُ" و"يتَّسعُ"؛ وحياةٌ "تعطي بيدٍ وتأخذُ باليدِ الأخرى". إلَّا أنَّ ما يُعَضِّدُ الزَّعمَ ويسندُه بدفعةٍ أقوى، هو اشتمالُ حديثِ الرَّاوي في هذا الموضِعِ بالذَّاتِ على عباراتٍ تُذَكِّرُنا أو بالأحرى تُوهمُنا بأنَّ قائلها هو مصطفى سعيد، صاحبُ الدِّيباجَةِ القويَّة والعبارةِ الشِّعريةِ المُميَّزة التي لا تُخطئُها الأُذُنُ أو العين: "ثمَّةُ آفاقٌ كثيرة لا بُدَّ أنْ تُزار، ثمَّةُ ثمارٌ يجبُ أنْ تُقطف، كتبٌ كثيرة تُقرأ، وصفحاتٌ بيضاءُ في سِجِلِّ العُمُرِ، سأكتبُ فيها جُمَلاً واضحة بخطٍّ جريء".

ثالثاً: ما جاء في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلات

في بيتِ شابٍّ سوداني، زميلِ دراسةٍ للرَّاوي، دَارَ نقاشٌ طويل بين المُضيف "منصور" ورجلٍ إنكليزي اسمه "رتشارد"، كان يعملُ في وزارةِ المالية. لم يشتركِ الرَّاوي في الحوار، لكنه تدخَّلَ فقط "دون وعيٍ" لتصحيحِ معلوماتٍ وردت في الحديثِ عن مصطفى سعيد؛ ثم قال فيما يُشبِهُ التَّلخيصَ لآراءِ المتحاورَيْن: "وبينما منصور يُفنِّدُ آراءَ رتشارد، أخلَدتُ أنا إلى أفكاري؛ ما جدوى النِّقاش؟ هذا الرَّجل – رتشارد – هو الآخَرُ متعصِّب. كلُّ أحدٍ متعصِّب بطريقةٍ أو بأخرى". وبعد وصفِ الرَّاوي لإحساسِ الرَّجلِ الأبيض "بإحساسِ الاحتقار الذي يحِسُّه القويُّ تجاه الضَّعيف"، أشار إلى عبارةٍ قالها مصطفى سعيد لهم (أي الرَّجل الأبيض، بوصفِه اسمَ جنس): "إنَّني جئتُكم غازياً"؛ ويقول عنها الرَّاوي معلِّقاً: "عبارةٌ ميلودراميةٌ ولا شك. لكن مجيئهم، هم أيضاً، لم يكن مأساةً كما نُصوِّرُ نحن، ولا نعمةً كما يُصوِّرون هم". ونُلاحظُ هنا أنَّ الرَّاوي يُعبِّر، عموماً، في وصفِه للرَّجلِ الأبيض عن رأيٍّ لا يختلفُ كثيراً عن الفطرةِ السَّليمة التي ترصِدُ الحقائقَ النَّفسيَّة المتعلِّقة بسايكلوجيَّةِ الشَّخصِ القويِّ إزاءَ تعاملِه في الغالبِ الأعمِّ مع الشَّخصِ الضَّعيف؛ إلَّا أنه عندما يسعى إلى تلخيصِ الآراء أو يلجأ إلى الاعتمادِ على التَّعليق، فإنه يصدُر عن عقلٍ جُبِلَ على إقامةِ الموازناتِ الدَّقيقة، والنَّظرِ إلى جانبَيْ المسألة، دونَ تحيُّزٍ لطرفٍ على آخر، مهما مالت قناعاتُه الرَّاسخة إلى أيٍّ منهما؛ الأمر الذي يُوشِي بأنَّ شخصيَّة الكاتب هي التي تتحدَّثُ في موضِعَيْ التَّلخيص والتَّعليقِ المذكورَيْنِ أعلاه.
ويُعلِّقُ الرَّاوي على تعلُّقِ إيزابيلا سيمور المَرَضِيِّ بمصطفى سعيد بقوله: "ياللغرابة. يا للسُّخرية. الإنسان لمجرد أنَّه خُلِقَ عند خطِّ الاستواء، بعض المجانين يعتبرونه عبداً، وبعضهم يعتبرونه إلهاً. أين الاعتدال؟ أين الاستواء؟". ويُوظِّفُ الرَّاوي استعارةَ "خطِّ الاستواء" أيضاً في ختامِ تعليقِه على النِّقاشِ الطَّويل الذي دَارَ بين "منصور" و"رتشارد": "كانا يقولانِ كلاماً مثل هذا، ويضحكانِ على مرمى حجرٍ من خطِّ الاستواء، تفصِلُ بينهما هُوَّةٌ تاريخية ليس لها قرار". وتلك هي النُّقطة العميقة التي تُشيرُ إليها شخصيَّة الكاتب باستمرار، سواءً جاءت في طيَّاتِ أحاديثِ الرَّاوي أو تعاريجِ عباراتِ مصطفى سعيد؛ ففيها دائماً محاولةٌ للتَّقريبِ بين الآراءِ المتقابلة أو التَّنبيهِ إلى نقاطِ تلاقيها، سعياً للاعتدال، على الرَّغمِ من مقتضياتِ الواقعِ التاريخي، الذي يُطيلُ أمدَ الانقسام. وعندما يخلُصُ الرَّاوي إلى القول: "لا يُوجدُ في الدُّنيا عدلٌ ولا اعتدال" أو يستشهدُ بعد هذه العبارةِ مباشرةً بقولِ مصطفى سعيد: "إنَّما أنا لا أطلبُ المجدَ، فمثلي لا يطلبُ المجد"، فإننا نستشفُّ لدى شخصيَّة الكاتب قيد الإنشاء حنيناً جارفاً إلى إقامةِ العدل وتحقيقِ الاعتدال، تماماً مثلما يصرخُ طفلٌ بشكلٍ عفوي: "هذا ظلم" ("إتس أنفير")، طالباً من والدَيْه أو أقرب الأقربين لديه تحقيقَ إنصافٍ أو عدلٍ فوري، إنْ لم نقل تحقيقَ اعتدالٍ يدرأ عنه في مُقبلِ أيامِه مغبَّةِ الجُنُوحِ والتَّطرُّف.
أثناء عودة الرَّاوي للخرطوم، عبر الطَّريق الصَّحراوي، بعد احتفالِهم بختانِ ولدَيْ مصطفى سعيد (سعيد ومحمود)، "وفي حالةٍ تقرُبُ من الحُمَّى"، طافت برأسِه، حسب قولِه "نُتَفٌ من أفكار"؛ إلَّا أنَّ فكرةً رئيسيةً ظلَّت تتخلَّلُ هذه "النُّتف"، وهي الحربُ الدَّائرة بين الشَّمسِ والصَّحراء، والتي يروحُ ضحيَّةً لها أفرادٌ قلائلُ تجلبُهم ظروفٌ قاهرة إلى أَتُونِها؛ وهي ’الحربُ‘ التي تنتهي يومياً "فجأةً بالنَّصر"، بقدومِ اللَّيل؛ وعنده، يُصبِحُ "شفقُ المغيبِ ليس دماً، ولكنه حناءٌ في قدمِ المرأة، والنَّسيمُ الذي يُلاحقُنا من وادي النِّيل يحملُ عطراً لن ينضُبَ في خيالي ما دُمتُ حيَّاً". وما يُكسِبُ هذه الفكرة "الواضحة وضوحَ الشَّمس" غموضاً، هو أنَّ الرَّاوي (ومن حقِّنا الآنَ أن نقولَ شخصيَّة الكاتب التي تتكلَّم من خلالِه) يُحاولُ أن يعتمدَ السَّرد أساساً للتَّحاورِ مع نصٍّ آخرَ (هو نصُّ "الغريب" للكاتب الفرنسي ألبير كامو) وفلسفةٍ أُخرى (هي الفلسفةُ الوجودية، التي كانت رائجةً إبَّانَ صدورِ رواية "الموسم")؛ سنُرجئُ مناقشتها إلى حين تناولِ محور البندر الكولونيالي؛ ولكنَّنا سنُشيرُ في الفقرةِ التَّالية إلى كيف قادنا الكاتب، عبارةً على إثرِ أخرى، لتوضيحِ تداخُلِ نصِّه، أو تحاورِه الذَّكي، مع نصٍّ أوروبيٍّ أيقونيٍّ شهير.
بدأ الرَّاوي بالقول إن السيَّارة في رحلةِ عودتِه إلى الخرطوم قد تحرَّكت "في أولِ الصَّباح"، ثم سارت شرقاً ساعتَيْن، إلى أن "ضربت في الصحراء". وعندها يقول الرَّاوي مباشرةً: "لا يُوجدُ مأوًى من الشَّمسِ التي تصعُدُ في السَّماءِ بخطواتٍ بطيئة، وتصبُّ أشِعَّتَها على الأرضِ كأنَّ بينها وبين أهلِ الأرضِ ثأراً قديماً"؛ ويعزِّز الرَّاوي هذه القول بتأكيدٍ آخر، وهو أنَّه: "لا تُوجدُ سحابةٌ واحدة تُبشِّرُ بالأملِ في هذه السَّماءِ الحارقة، كأنَّها غطاءُ الجحيم"؛ ثمَّ يردفُ بالقول: "عقلُ الإنسانِ ليس محفوظاً في ثلَّاجة. إنَّها هذه الشَّمسُ التي لا تُطاق. تُذوِّبُ المخ. تَشِلُّ التَّفكير". ولا يَملُّ الرَّاوي من الرُّجوعِ إلى هذا الموضوع: "لا شيء. الشَّمسُ والصَّحراءُ ونباتاتٌ يابسة وحيواناتٌ عجفاء"؛ كما يُضيفُ قائلاً: "الطَّريقُ لا ينتهي عند حد، والشَّمسُ لا تكلُّ. لا غروَ أنَّ مصطفى سعيد هَرَبَ إلى زمهرير الشَّمال".
وفي منتصفِ الرِّحلةِ عبر الصَّحراء، يتساءلُ الرَّاوي: "أين الظِّلُّ يا إلهي؟ ويستأنفُ الرَّاوي فكرتَه الرَّئيسية، إذ إنَّ تساؤلَه البلاغيَّ لا ينتظرُ إجابة: "مثل هذه الأرضِ لا تُنبِتُ إلَّا الأنبياء. هذا القحطُ لا تُداويه إلَّا السَّماء. والطَّريقُ لا ينتهي والشَّمسُ لا ترحم". وهنا ينشأ فجأةً سؤالٌ واقعي، وليس بلاغياً، فقد "قالوا إن امرأةً من قبيلة الميرصاب قتلت زوجها، والحكومةُ ذاهبةً لتقبضَ عليها؛ فـ"لماذا قتلته؟"، في المقامِ الأول، "في هذه الأرضِ التي لم تتركِ الشَّمسُ فيها قتلاً لقاتل"؛ فهُم "لا يعلمون". وهنا قال الرَّاوي: "خطرت لي فكرة، قلَّبتُها في ذهني، ثمَّ قرَّرتُ أن أُعبِّرَ عنها وأرَى ما يحدُث (لكنَّنا نعلمُ، من خلالِ تتبُّعِنا للحربِ الدَّائرة بين الشَّمسِ والصَّحراء، أن الكاتبَ قد مهَّد لها بكلِّ تلك العباراتِ التي ذكرناها هنا وفي الفقرتين السَّابقتين، وأنَّها لم تخطُرِ الآنَ للرَّاوي، وإنَّما قلَّبَها الكاتبُ في ذهنِه مِراراً). قلتُ لهم إنَّها لم تقتله، بل هو ماتَ من ضربةِ الشَّمس، كما ماتت إيزابيلا سيمور، وشيلا غرينوود، وآن همند، وجين موريس". ولم يكنِ الرَّاوي مُنتظِراً تفاعُلاً إيجابياً من رفاقِ الطَّريق: "لا فائدة. لا دهشة".
إلَّا أنَّ الكاتبَ (بخلافِ الرَّاوي) كان يهدُفُ إلى مزيدٍ من التَّوضيحِ لتحاورِه السَّرديِّ مع رواية "الغريب"، التي أقرَّ فيها بطلُها "ميرسو" للقاضي همساً بأنه لم يقتل أحدَ العربِ في الجزائرِ عن قصد، بل إنَّ ذلك قد حَدَثَ بسببِ ضربةِ الشَّمس؛ لذلك، فقد استرسلَ في نثرِ مزيدٍ من التَّعبيراتِ الدَّالَّة: "الشَّمسُ هي العدو. إنَّها الآنَ في كَبِدِ السَّماءِ تماماً، كما يقولُ العرب". ثمَّ تتداخلُ تشبيهاتُ الشَّمسِ واِعوِجاجُ مَسِيرِ السَّيَّارةِ في الطَّريقِ الصَّحراويِّ بسِيرةِ مصطفى سعيد ومحاكمتِه لقتلِ زوجته: "عجلاتُ السَّيَّارة تصدمُ الحصى بحقد. طريقُه المُعوَجُّ سُرعانَ ما يؤدِّي به إلى الكارثة. وفي الغالب، تكونُ الكارثة واضحةً وضوحَ الشَّمس"؛ بل إنَّ الشَّمسَ نفسَها تُصبِحُ واضحةً وضوحَ نفسِها: "والطَّريقُ لا ينتهي، والشَّمسُ واضحةٌ وضوحَ الشَّمس". ولم يلجأِ الكاتبُ إلى هذا التَّشبيهِ الأجوف، لاقترابِه من تحصيلِ الحاصل، إلَّا ليأسِه من حدوثِ التقاطٍ فوريٍّ لتحاورِ نصِّه السَّرديِّ مع نصِّ كامو ذائعِ الصِّيت، أو مع ما نُثِرَ في أعطافِه من فكرٍ وجوديٍّ، انتشرَ في فترةِ ما بعد الحربين في أوروبا، ثمَّ وَصَلَ إلى المنطقةِ العربيةِ لاحقاً في فترةِ السِّتينات وأوائلِ السَّبعينات.
لن نشرعَ هنا في التَّطرُّقِ إلى علاقةِ رواية "موسم الهجرة" بفكرةِ ’العبث‘ التي تخلَّلت رواية كامو أو فكرة ’الاختيار‘ التي تُضمِّنت في فكرِ جان-بول سارتر الوجودي، لكننا نُشيرُ فقط إلى أنَّها قد تُفسِّرُ قولَ الرَّاوي في نهايةِ الرِّواية: "لا يَعنيني إنْ كان للحياةِ معنًى أو لم يكن لها معنًى"؛ كما قد تُضيءُ مقارنةً بين قولِه: "طولَ حياتي لم أخترْ ولم أُقرِّر. إنَّني أُقرِّر الآنَ إنَّني أختارُ الحياة"، وبين قولِ مصطفى سعيد في الفصلِ الثَّاني من الرِّوايه، بعد دخولِه الفصلَ بالمدرسة: "وكانت تلك نقطةُ تحوُّلٍ في حياتي. كان ذلك أولُ قرارٍ اتَّخذتُه، بمحضِ إرادتي". وعِوضاً عن ذلك، سنمضي في طقسِ تسمِّيةِ شخصيَّةِ الكاتب، بعد أن قدَّمنا حتَّى الآنَ ما يكفي من الحيثيات، على مستويَيْ الشَّكلِ والمحتوي، حتَّى نتمكَّنَ من تقييمِ دورِه في النَّصِّ من خلال معرفتِه بقصيدةِ "أنتويرب"، التي ألقى مصطفى سعيد أبياتاً من مقطعٍ منها، وهو في مجلسِ شُربٍ، في أوائلِ عهدِ تعرُّفِ الرًّاوي بشخصيَّته الفذَّة.

سنُفرِدُ حلقةً كاملة لطقسِ التَّسمية، وما يطرحه من مشكلاتٍ تتعلَّقُ بالإسنادِ عموماً إلى مرجع؛ وخصوصاً، المرجعِ النَّصي؛ إضافةً إلى الانخراطِ في عملية تقييمِ الشَّخصيات، تمهيداً للدُّخولِ في المحاورِ الرَّئيسيةِ لهذه المشاركات، وهي محورُ البندرِ الكولونيالي، والوطنِ الأم، والعُمقِ الحضاريِّ الشَّامل.

محمد خلف
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

ليس من الميسور أن تتوفر كتابة فى هذا الزمان بجودة هذه الكتابه ومتعة مطالعتها والإطلاع على ما تمور به من معارف وأراء فى شتى مناحى المعرفه أداباً كانت أم فنوناَ وفكر فهى مجوده فى ذاتها راعى فيها أستاذنا الكاتب الناقد محمد خلف الله عبدالله أدق دقائق خصائص اللغه لا بل ظل مصححا لكل أناتها وهناتها بصبرٍ وجلد بعد أن عكف على تحريرها فى البدء والآن شارف الحديث عن كاتب ضخم ألا وهو الطيب صالح والذى ذاع سيطه فى المشرقين والمغربين لا بل المشارق والمغارب ككاتب لافتٍ ومؤثر ومثل ذلك الرجل الأمه والذى فجر ينابيعاً من الأدب سقت حقول العقول والقلوب إبداعاَ متميزاَ صور فيه بقدرته تلك حقيقة مجتمعه محدثاُ بعداَ معياريا لذلك بدربته وموسوعية إطلاعه وإلمامه بخصائص القص والسرد وإبتداع عناصر التشويق والإثاره ناقلاَ لقارئه من دهشة لدهشه بسهولة ويسر كما يفعل السحرة والحواة لما يجيدون فحقاً قد أجاد ذلك الطيب إجادةً بانت حقيقتها بحمى الإقبال والإهتمام الكبير وحقاَ أجاد الأخ خلف فى تقريب صور الإبداع تلك فى ما كتبه الطيب صالح وأحسب أن لخلف قدرات ليست بالسهله ولا الميسوره للتحقق وأتمنى أن ننجح فى إبراز عبقريته هو الآخر ذلكم المفكر والمثقف الموسوعى والناقد الإدبى والفكرى العجيب.


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

بعد غيبة مؤقتة، اقتضها ملابسات متباينة، يعود محمد خلف للحديث عن الطَّيِّب صالح، لا كاستمرار لأُطروحته عن "المتن الروائي المفتوح" لكاتبنا، وإنما ليتناول نقدياً مقالاً قديماً له، ساهمت ثلاثة عوامل في وصوله إلى خلف، وبالتالي تحفيزه على هذا التناول. العامل الأول يتمثل في أن الفنان التشكيلي السوداني معتز بدوي كان قد بعث بنسخة من المقال القديم للطَّيِّب صالح إلى خلف في مستهل شهر رمضان. العامل الثاني يتمثَّل في موضوع المقال نفسه، الذي هو تداعيات للطَّيِّب صالح عن رمضان. العامل الثالث يتمثَّل في اهتمام خلف نفسه بروائينا الكبير.

وتعميماً للفائدة ونشداناً لإنصاف مركَّب، سنقوم في المساحة التالية بإعادة نشر مقال الطَّيِّب صالح أولاً، يليه مقال محمد خلف:





مقال الطيب صالح -طيب الله ثراه- عن رمضان


لا أظن أحداً ينسى الأماكن التي صام فيها، وهل كان الفصل صيفاً أم شتاء. وبماذا أفطر ومع من أفطر. وهو قد ينسى بقية أيام العام باستثناء أيام قليلة تباغته فيها الحياة، كما تفعل بإحدى مفاجآتها السارة أو المحزنة.
الأيام العادية تمضي تباعاً طوال العام. لا يكاد الإنسان يحس بمرورها. كأن الزمن نهر سرمدي. ولكن يوم الصائم – وهذه عندي من حكم الصوم- يتفلت قطرة قطرة الدقائق تمر كأنك تسمع وقع خطاها.
الصائم يحس بالزمن لأول مرة خلال العام أنه (كم) يمكن أن يوزن بميزان ويقاس بمقياس. يختلط جوعه وظمأه - خاصة إذا كان الوقت صيفاً حاراً - مع كل دقيقة تمر. يكونان عجينة من المكابدة والسعادة.
فإذا انقضى اليوم، يحس الصائم أنه قد قطع شوطاً مهماً في رحلة حياته. وإذا انقضى الشهر بطوله، يشعر حقاً أنه يودع ضيفاً عزيزاً طيب الصحبة، ولكنه عسير المراس.
إنني أذكر بوضوح رمضانات صمتها عند أهلي في صباي الباكر، أول عهدي بالصيام. كنا قبيلة أفرادها كلهم أحياء: الجدود والآباء والأعمام والأخوال وأبناء العمومة والخؤولة. لم يكن الدهر قد بدأ بعد يقضم من جسمها كما يقضم الفأر من كسرة الخبز. كـانت دورنا تقوم على هيئة مربع، وفي الوسط باحة واسعة فيها رقعة رملية. كنا نجتمع للإفطار في تلك الرقعة.
نتولى نحن الصبية أمر تنظيفها وفرش الحصر عليها، وقبيل المغيب نجئ بسفر الطعام من البيوت، ونجلس مع كبارنا ننتظر تلك اللحظة الرائعة حين يؤذن مؤذن البلدة – غير بعيد منا- (الله أكبر) معلناً نهاية اليوم.
وكنت في تلك الأيام قبل - أن يقسو القلب ويتبلد الشعور - أحس أن ذلك النداء موجه لي وحدي، كأنه يبلغني تحية من آفاق عليا، إنني انتصرت على نفسي. أذكر جيداً طعم التمر الرطب، وهو أول ما نفطر به، حين يوافق رمضان موسم طلوع الرطب. وكانت لنا نخلات نميزها ونعني بها، لها ثمر شديد الحلاوة، تخرجه باكراً. كانوا لا يبيعون ثمارها. ولكنهم يدخرونه لمثل تلك المواسم. وقد زرعت أصلاً من أجل ذلك.
وأذكر مذاق الماء الذي يصفى ويبرد في الأزيار أو في القرب، خاصة ماء القرب، الذي يخالطه شيء من طعم الجلد المدبوغ. وشراب (الابري) وهو يصنع من خبز يكون رقيقاً جداً: أرق من الورق. تضاف إليه توابل، وينقع في الماء ويحلى بالسكر. ومذاق (الحلو مر) وهو أيضاً من عجين مخلوط بتوابل خاصة. وحين ينقع في الماء يكون ذا لون أحمر داكن الحمرة. هذان الشرابان لا يوجدان إلا في السـودان، وهما مرتبطان برمضان. ولهما رائحة عبقة فواحة. تلك وروائح أخرى، كان خيالي الصبي يصورها في ذلك الزمان، كأنها تأتي من المصدر الغامض نفسه الذي يأتي منه شهر رمضان.
كان طعم الزمان في تلك الأيام حلواً مخلوطاً بمرارة لها مذاق العسل.
لم نكن نأكل كثيراً في إفطارنا. لا توجد لحوم أو أشياء مطبوخة، كل واحد يتعشى بعد ذلك في داره على هواه، وغالباً ما ينتظر السحور من دون عشاء.
نصلي ونفطر على مهل، ونقوم نحن الصبية فنحضر الشاي والقهوة (الجبنة). وكان يسمح لنا بشرب القهوة فقط في شهر رمضان، فالقهوة عدا ذلك للكبار وحدهم.
ولم يكن ذلك نوعاً من الحظر، ولكن من قبيل الاقتصاد في النفقة، فقد كان البن أغلى من الشاي.
يساوونا بأنفسهم لأننا نصوم مثلهم. ثم يأخذون في الحديث ونحن نسمع ولا نتكلم، ويا له من حديث، كان رمضان يخرج منهم كنوزاً دفينة. كنت أستمع إليهم وكأني أشرب ماء القرب البارد وآكل التمر الرطب.
لا أعلم كم كان (معدل الدخل) عندنا تلك الأيام. ولم أكن أعلم شيئاً عن الحالة الاقتصادية في القطر. ولم يكن يهمني من الذي يحكم البلد. كنت أعلم أن الإنجليز موجودون في الخرطوم، وأحياناً يمر بنا واحد منهم، كما يمر طائر غريب في السماء.
لكننا كنا بمعزل عن كل ذلك، نحس بالعزة والمنعة والطمأنينة والثراء.
كنـت أعلم أن ذلك الإحساس حق، من الطريقة التي يمشي بها آبائي وأجدادي.
لا يمشون مختالين، ولكنهم يمشون على وجه الأرض ثابتي الخطى مرفوعي الرؤوس، لا يخامرهم شك أن الأرض أرضهم والزمان زمانهم.
ولعـل الإنجليز خرجوا آخر الأمر لأنهم ضاقـوا بإحساس الحرية ذاك لدى السودانيين، كأنهم لم يفهموا، أو رفضوا أن يفهموا أنهم أمة مهزومة مستعمرة.
الإحساس بالمذلة والهوان حدث لهم بعد ذلك على أيدي بعض أبنائهم الذين انتزعوا الحكم من الذين ورثوه عن الإنجليز، ومنهم من كان صبياً مثلي في ذلك الزمان الأغـر، وجلس على بقعة رمل كما جلست، مع آبائه وأجداده في إفطار شهر رمضان.
كنا حقاً سواسية كأسـنان المشط. ولا بد أنه ذاق المذاقات نفسها وشم الروائح نفسها، واستمع مثلي إلى أحاديث آبائه وأجداده، حديثاً مليئاً بالمحبة والحكمة والطمأنينة.
فماذا أصابنا بعد ذلك، أم ماذا أصاب الزمان؟




والآن إلى مقال محمد خلف:



رمضان وفنُّ الصَّرفِ النِّسويِّ لدى كريماتِ أمدرمان



قُبيلَ شهرِ رمضانَ بيومٍ واحد، أرسل لي الصَّديق الفنَّان التَّشكيلي معتز بدوي مقالاً كتبه الأستاذ الطَّيِّب صالح عن الشَّهرِ الكريم. وصديقي المُبدِع المُشار إليه هو ذاتُ المعتز، الذي أرسل لي من قبلُ (بالتَّزامنِ مع ورَّاقٍ) نسخةً رقمية تشتمل على مؤلَّفاتٍ شبهِ كاملةٍ للأستاذ الكبير، والتي كانت بدورها حافزاً لي لكتابةِ عددٍ من المشاركاتِ عن الرَّجلِ الطَّيِّب؛ وقد أوصل لي معتزٌّ النُّسخةَ الرَّقمية، مدفوعاً بحبٍّ غامرٍ لرجلٍ خَبِرَ معدنه عن قُربٍ لصيق، عندما كان يعملُ مصمِّماً بمجلَّة "سيِّدتي"، وكان الطَّيِّب صالح يكتبُ عموداً أسبوعياً بمجلَّةِ "المجلَّة"؛ وكانتِ المجلَّتانِ المملوكتانِ لمؤسَّسةٍ واحدة تُحرَّرانِ من نفسِ المبنى في هولبورن بوسط لندن؛ كما أوصل لي معتزٌّ هذا المقال، قُبيلَ رمضانَ، مدفوعاً بذاتِ الحبِّ الجارفِ لهذا المُبدِع، الذي لم يكن متعالياً على ناشئةِ المُبدِعين، بل كان أباً رؤوفاً لهم، وعوناً لأكثرِهم على مصاعبِ العمل، وقدوةً يندرُ لها مثيلٌ في هذا البندر الأوروبيِّ العتيق، الذي ظللنا نحيا كلانا رَدَحَاً بين ظهرانيه.
ومع استمتاعي الكامل بالمقال، وتقديري العالي لكاتبِه، وشكري الموصول لمرسلِه، الصَّديق معتز بدوي؛ فقد لمِستُ في المقال خفايا وخبايا، تقتضي الأمانةُ في هذا الشهر المبارك التَّنبيهَ عليها بحذرٍ شديد، إذ ربَّما يكونُ التَّوقيتُ غَيْرَ ملائم؛ وربَّما تأتي إلينا، من منظورٍ آخر، لعنةُ اللَّاعنين في مُقبِلِ أيَّامِنا، إن نحنُ فرَّطنا في هذه المناسبة، وتركنا الشهرَ يمضي دون الإشارةِ إلى موطنِ الداءِ المجتمعيِّ المُختبئ في ثنايا ذلك المقال. ولكن قبل التَّنبيهِ اللَّازم، يلزمُنا أوَّلاً أن نوضِّحَ ماذا نقصدُ بفنِّ الصَّرفِ النِّسوي، المُشار إليه في عنوانِ هذه المشاركة. فالمعروف أنَّ الصرفَ هو عِلمٌ لغوي، ساهم في تطويرِه نُحاةٌ عرب، وبَلَغَ فيه منهم علماءُ صرفٍ أفذاذٌ شأواً عظيماً، من بينهم أبو الفتح عثمان بن جنِّي، الذي أشرنا إليه كثيراً، ضمن رسالتي إلى عادل القصَّاص. ويُبنى الصَّرفُ العربيُّ في جوهره على ميزانٍ، أساسُه الفعلُ الثُّلاثي "فاء عين لام" [ف ع ل]. وبناءً عليه يُمكِنُ، على سبيل المثال، الإشارة إلى تلك الرِّسالة بأنَّها مُرسلةٌ في الأصل إلى "فاعِل الفعَّال" (أي عادِل القصَّاص).
في المقابل، يُبنى فنُّ الصَّرفِ النِّسوي (وسنُوضِّحُ لاحقاً لماذا هو فنٌّ، وليس بعِلم) على فعلٍ ثلاثيٍّ مُغاير، هو: "قاف شين راء" [ق ش ر]؛ وعليه، يُمكِنُ الإشارة إلى ذاتِ الرِّسالة بأنَّها مُرسلةٌ في الأصل إلى "قاشِر القشَّار"؛ فما الفرقُ الذي جعل من الميزانِ الصَّرفيِّ القائم على الحروف الثَّلاثة [ف ع ل] عِلماً، بينما صار آخرُ قائماً على الحروفِ الثَّلاثة [ق ش ر] فنَّاً، حسب زعمنا، الذي سنشرعُ توَّاً في توضيحه؟ يُشيرُ الميزانُ الصَّرفيُّ عموماً، حسب اصطلاحِ الأوائل، إلى حقيقةٍ لسانية تتعلَّق بضبط الصِّيغ الصَّرفية المقبولة ضمن اللِّسان العربي السَّائد داخل مجموعةٍ لغويةٍ محدَّدة؛ أمَّا الميزانُ الآخرُ، فهو مجازٌ يُشيرُ إلى شيئينِ في ذاتِ الآن؛ فهو، من جهةٍ أولى، يُشيرُ إلى نفسِ حقيقةِ الدَّوالِ التي يحاولُ الميزانُ الصَّرفيُّ التَّقليديُّ ضبطَها؛ وهو، من جهةٍ ثانية، ينتقلُ - بوصفه مجازاً - إلى الإشارةِ إلى شيءٍ آخر؛ وهو، في هذه الحالة، ازدواجيةٌ صميمية فيما يتعلَّقُ بالموقف العاطفي تجاه الدَّال المُشار إليه؛ فهو، من جانب، شخصٌ أو شيءٌ يحسُّ المرءُ تجاهَه بحُبٍّ جارف؛ وهو، من جانبٍ آخرَ وفي نفسِ الوقت، شخصٌ أو شيءٌ يلقى المرءُ منه الأمَرَّين.
فلنأتِ بمثالٍ حتَّى يتَّضحَ الأمر. كان صديقي نصر الدِّين عبد الجليل - وأعتقدُ أنَّه مازالَ - محبوباً لدى أُمِّه وأخَواته وجيرانه ورفاقه؛ وكان اسمُه المحبَّب هو "نصُر"؛ ولكن قلَّما يُسمعُ في بيته هذا اللَّقبُ الأليف؛ وعوضاً عن ذلك، كانوا يُنادونه باسمٍ آخر، وهو "قشُر"؛ وذلك، للتَّعبيرِ عن محبَّةٍ لا حدودَ لها؛ وفي نفسِ الوقت، عن ضيقٍ لما يلقَونه منه من متاعب، لكثرةِ غيابِه عن البيت سعياً لأصدقائه العديدين، ولملئه بالضُّيوف المُتعِبين حين عودته لِماماً إلى البيتِ الرَّحيب، في الختمية شمال (كرش الفيل) ببحري. وسرعان ما أخذ أصدقاؤه وجيرانه العديدون ينادونه بلقب "قشُر"، للتعبير عن ذاتِ الحب، وإنْ لم يخلُ إحساسُهم أحياناً من ذاتِ الضِّيق. وفي أمدرمان، كانت كريماتُ حَيِّنا ببيتِ المال، حينما يقتربُ شهرُ رمضان، لا يرغبن في تذكيرهن بمَقدِمِه؛ وعندما يفعلُ أحدُنا ذلك عفوَ الخاطر، كُنَّ يقلنَ له بلغتهنَّ الدَّارجية المُحبَّبة: "عَلِيْكَ الرَّسولْ ما تذكِّرنا بِقَشَران"؛ وهُنَّ يقلنَ ذلك للتَّعبير عن نفسِ الازدواجية العاطفية تجاه الشَّهرِ الكريم؛ فهو الشَّهرُ الذي يملأ أفئدتهن بمذاقٍ روحيٍّ لا مثيلَ له، وهو – في نفسِ الوقت - الشَّهرُ الذي تُعاني فيه أجسادُهن التَّعِبَةُ عَنَتَاً مُضاعَفاً؛ فعليهن، غيرُ الجوعِ والعطشِ مع جمهرةِ الصَّائمين، تجهيزُ الطَّعام، وتحضيرُ "المويات"، وصناعةُ الشَّاي والقهوة، ثمَّ غسلُ الصُّحونِ وبقيَّةِ أدواتِ الأكلِ بعد الإفطار، وتوضيبُ قَدْرٍ من المُتبقِّي للعشاءِ أو السَّحور.
فلننظر كيف تناول الطَّيِّب صالح هذا الجانب من عملِ النِّساء في مقالِه عن شهرِ رمضان؛ أو بالأحرى كيف أخفى هذا الجانبَ عن غيرِ عمدٍ أو سكت عنه عن قصد، لإلقاءِ مزيدٍ من الضَّوء على ملامحَ من رمضانَ في شمالِ السُّودان، تغيبُ تماماً عن القرَّاءِ الذين كانت تتوجَّه إليهم الصَّفحةُ الأخيرة لمجلَّةِ "المجلَّة"، ساعةَ كتابةِ المقال. أولُ الجوانب التي أخفاها الكاتب عن غير عمد أو سكت عنها قاصِداً تنويراً مُخصَّصاً لقرَّاءِ "المجلَّة"، هو الخارطةُ المعمارية للعقارِ السَّكني؛ فهو يقول: "كانت دُورُنا تقومُ على هيئة مربَّع، وفي الوسطِ باحةٌ واسعة فيها رُقعةٌ رملية"؛ وتوضِّح الجملة التي تليها الغرضَ من إيرادِ هذا الوصف: "كنَّا نجتمعُ للإفطارِ في تلك الرُّقعة". فالهدف الواضح إذاً هو وصفُ المسرح الذي يُقامُ فيه الطَّقسُ الجماعيُّ للإفطارِ الرَّمضاني. وسعياً لإبرازِ ذلك الهدف، توارى في خلفية المسرح الخارطة النَّموذجية للبيوت الفردية التي يأتي منها ذلك الإفطار. وهي تنقسمُ في العادة، سواءً في شمال البلاد أم وسطه بأمدرمان، إلى جزئين، يفصِلُ بينهما جدارٌ صَلْد، يلينُ صلابتُه ليلاً لتصريف شؤون البقاء والتَّهدئة النَّفسية، وتزدادُ نهاراً لتصريفِ الشُّؤون الاقتصادية والاجتماعية للأُسَر، ومن ثمَّ المجتمعُ بأَسرِه.
ثمَّ يقول: "قبيل المغيب، نجيءُ بسُفَرِ الطَّعام من البيوت"؛ وكلُّنا يعرفُ أنَّها لا تأتي هكذا من البيوتِ على وجه التَّعميم، وإنَّما تأتي من القسم المُخصَّص للنِّسوةِ في تلك البيوت، التي يقضين فيها سحابة يومهنَّ الرَّمضانيِّ المُتعِب في صناعةِ وتجهيزِ تلك السُّفر، التي ينحصرُ دَورُ الصَّبي المُطيع في حَملِها طازجةً من يدِ أُمَّهاته وجَدَّاته إلى حضرةِ آبائه وأجداده، ليشاركهم الإفطارَ في تلك البقعةِ الرَّملية من الباحةِ الواسعة التي تتوسَّط البيوت. ويُضيف: "ونقومُ نحنُ الصِّبية، فنُحضِرُ الشَّايَ والقهوة (الجبنة)"؛ وهي بالطَّبع، تكونُ مُحضَرَةً من نفسِ تلك "البيوت"، فيُجازى الصِّبيةُ بتناولها مع الكبار، فقط في شهرِ رمضان، بعيداً عن ضجيجِ النِّسوةِ في تلك "البيوت" التي تنزوي في خلفية المسرح القرويِّ الكبير. وفي هذا المسرحِ المفتوح، على وجهِ التَّحديد، يتمُّ تلقينُ الصِّبيةِ –حَصْرَاً، وعلى تلك الحُصُرِ التي قاموا بفرشِها قبل الإفطار- أصولَ السلوك وأفضلَ ما توارثه الآباءُ عن الأجدادِ من عاداتٍ وتقاليدَ وثقافات؛ وكلُّ ذلك يتمُّ عن طريق التَّوصيلِ الشِّفاهي، الذي يخرُجُ مُرتَجَلاً من الذَّاكرةِ الحافظةِ لتراثِ المجتمع: "ثمَّ يأخذون في الحديث؛ ونحنُ نسمعُ، ولا نتكلَّم؛ ويا له من حديث. كان رمضانُ يُخرِجُ منهم كنوزاً دفينة. كنتُ أستمعُ إليهم، وكأنِّي أشربُ ماءَ القِرَبِ البارد، وآكلُ التَّمرَ الرَّطِب".
لا سبيلَ إلى إنكارِ أنَّ ما كان يستمعُ إليه الصَّبيُّ، في تلك الجلساتِ الطَّويلةِ بعد الإفطارِ الرَّمضاني، على الحُصُرِ المفروشةِ على رقعةٍ رمليةٍ بباحةٍ واسعةٍ في وسطِ القرية، كان "حديثاً مليئاً بالمحبَّة، والحكمة، والطُّمأنينة"؛ فليس الغرضُ هو التَّبخيسُ من ذكرياتِ الصِّبا أو تسفيهُ قيمِ المجتمع؛ حاشا وكلَّا، إنَّما الغرضُ هو التَّنبيه إلى الفصلِ القائم بين النِّساءِ والرِّجال، وكأنَّهما مملكتانِ مُتباعدتانِ لا يُوجدُ رابطٌ بينهما إلَّا مشاويرَ يقومُ بها صبيٌّ لنقلِ الأطعمةِ والمشروباتِ من مملكةِ إنتاجِها خلف جدرانِ البيوت، إلى مملكةِ استهلاكِها وسط الباحةِ أمام تلك البيوت. والهدفُ الأكبرُ من وراءِ ذلك التَّنبيه هو تحميلُ ذلك الصَّبيَّ أمانةً في عُنُقِه، نرجو أن يكونَ قيِّماً عليها، فهو لا غيره الشَّاهدُ الأوحد، منذ انهيار مؤسَّسة الرِّق غير المأسوفِ عليها، بما يدورُ خلف تلك الجدران؛ لذلك، نُريدُ منه أن يأتيَ لنا بقبسٍ من نارِ مواقدِها، أو فوحٍ طيِّبٍ من عطرِ أنفاسِها، أو عاطفةٍ خارجةً للتَّوِ من بين ضلوعها.
وقد يُفسِّرُ لنا ذلك الصَّبيُّ، من إرشيف ذاكرته المُستديمة، لماذا فشلت – على سبيل المثال، لا الحصر - حملة عبد الرَّحمن النِّجومي إلى مصر، في أعقابِ انتصارِ الثَّورةِ المهدية، وتأسيسِ دولتِها النَّاشئة؛ إذ لم تكن لجيوشِها قسمٌ مخصَّصٌ لصناعةِ الأطعمة والمشروبات، فاُحتيجَ إلى مصاحبةِ النِّساء للحملة؛ وبما أنَّ النِّسوة هنَّ المسؤولاتُ، بشكلٍ أكبر، عن رعاية الأطفال والصِّبية وكبار السِّن، فكان لا بدَّ من اصطحاب هؤلاء أيضاً؛ فترهَّل الجيشُ، وبطأت حركته؛ فكان هذا، ضمن عواملَ أخرى، واحداً من الأسباب المنسيَّة التي أدَّت إلى فشلِ الحملة. وقد نحتاجُ إلى جهدٍ خارق لتنشيطِ ذاكرةِ ذلك الصَّبي، حتَّى يكشِفَ لنا سلسلةً من الإخفاقاتِ المجتمعية النَّاتجة عن العزلةِ المفتعلةِ لجمهرةِ النِّساء، صانعاتِ "الآبري" و"الحلومر"، وهُما، كما نوَّه الطَّيِّب صالح في خاتمةِ ذلك المقال، "شرابانِ لا يُوجدانِ إلَّا في السُّودان"؛ و"حين يُنقعُ ’الحلومر‘ في الماء، يكونُ ذا لونٍ أحمرَ، داكنِ الحُمرة". وإذا قيل لنا - في حديثٍ ضعيف – "خُذوا نصفَ دينكم من هذه الحُميراء"، في إشارةٍ إلى السيِّدة عائشة، رضي الله عنها، فإنَّه يتعيَّن علينا أيضاً – بإيمانٍ قوي - أخذُ نصفِ ثقافتنا وتراثنا الشِّفاهي من صانعاتِ ذلك المشروب ("الحلومر")، الدَّاكنِ الحُمرة.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد يونيو 04, 2017 4:51 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

رمضان كريم يا خلف
ومن علامات كرمه مقالك أعلاه.

وجملة أو تعبير (من علامات كرمه) هي اقتباسٌ من رد
من مسعود، فقد تمنيت له -فيسبُكِّياً- رمضاناً كريماً
فرد عليّ (بأن تهنئتي هذه من علامات كرمُ رمضان)

اعتقدت وما زلت أؤمن بأن النساء "عبقريات"، واحدى
علامات تلك العبقرية هي صناعة الحلو مر، وصناعة "الخُمرَة"

لطالما شغل تفكيري كيفية التوصل لتلك التراكيب المعقدة، خصوصاً
إذا أضفنا إليها فنون الطبيخ، والتطريز.
وقد قادني هذا الإعتقاد بعبقرية النساء الي التصديق أن "خدوم"
جارتنا هي أحسن من (يصنع) أعمدة الكهرباء والتلفونات. حينما أخرجت كلمة
(عمود) من سياقها "الكسائي الجلاليبي الخياطي" الى رحاب الأعمدة التى كنا
نتسكع تحتها حينذاك.

وتساؤل فقط:
هل هناك علاقة بين (قَشَرَ) بمعنى (تهندم) أو (تفاخر) بما يملك؟ وميزان فن الصرف
النسوي عاليه؟
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

درج محمد خلف على ارسال نسخة من بعض كتاباته الجديدة إلى دائرة محدودة من الأصدقاء للمشاورة والنقاش وابداء الملاحظات في هذا النص أو ذاك قبل نشره. وكان من نتيجة إرساله لمقاله الأخير عن الطيب صالح ورمضان، قبل نشره، إلى معتز بدوي أن قام الأخير بإرسال نسخته من نفس المقال - ولم يكن إسم خلف موجوداً فيها - إلى الصادق الرضي. فكان أن تعرَّف الصادق على صاحب المقال، وانثال من قلبه هذا التداعي، الذي بعث به إلى معتز:


في المنتدى الأدبي جامعة القاهرة فرع الخرطوم، في المنتدى الأدبي الاسبوعي- ذات خميس؛ اثر فراغي من قراءاتي الشعرية، اقترب مني شاب لطيف وهمس في أذني باسمه: بابكر الوسيلة؛ ذكر إسمه فقط كان كافياً لأن أعانقه؛ وقتها كنت طالباً في المرحلة الثانوية وكذلك كان بابكر؛ كنت انشر قصائدي في الملفات الثقافية في الصحف اليومية؛ لكن الملف الثقافي لصحيفة "الهدف" وكان يشرف عليه مجذوب عيدروس جمعني ببابكر الوسيلة دون أن نلتقي على المستوى الشخصي؛ مجذوب كان ينشر نصوصي ونصوص بابكر تحت عنوان "أصوات جديدة". حين عانقت بابكر أول مرة؛ في ذلك اللقاء، دعاني لكوب شاي في بيتهم العامر، في الثورة أمدرمان- الحارة 11، منذ اللقاء الأول في صالون البيت، ونحن نتناوب كاسات الشاي، ونتبادل قراءة النصوص الجديدة من كراساتنا؛ ونتبادل الحوار حولها؛ بدأت صداقة العمر؛ وكانت هناك مكتبة ثرية في صالون البيت؛ لم نك وحدنا، كان هناك النور عثمان أبَّكر في صحو كلماته المنسية- الطبعة الأولى شخصياً؛ وثروة من صنوف المعارف المختلفة. لاحقاً عرفت أن هذه المكتبة المنزلية المترفة التي نعمت بها صحبة بابكر الوسيلة، في صالون البيت الحميم، مع "سرامس الشاي" الفارهة، كانت- في الأصل- من مآثر صديقنا الجميل والأخ الأكبر محمد خلف. أعرف بالفطرة أن هذا النص البديع الذي وصلني منك من إبداع حبيبنا محمد خلف- وإن لم تصرح بذلك.
محبتي التي تعرف، لك وله، ولما بيننا من أصدقاء.

الصادق الرضي
أضف رد جديد