مقالاتي في صحيفة التيار

Forum Démocratique
- Democratic Forum
الفاضل البشير
مشاركات: 435
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:56 pm

مشاركة بواسطة الفاضل البشير »

سلامي وتحيتي
(وليس من أدب الخصومة التعريض بعقيدة المحاور وتصويرها كعاهة أو تعويق لا شفاء للمرء منه...)
عفوا لي بعض اختلاف مع د. عبد الله فالتعريض بعقيدة المحاور في نظري أخطر من ذلك، فهو مقدمة لاستئصال المحاور. او هو استئصاله.
فهي قضية فكرية لا تقف في حدود الذوق والادب.
فالموضوع بين المتحاورين هو ما يفصل بينهما تاركا بالكامل لاي منهما ان يعتقد ما يعتقد في مؤخرة راسه.
فلننظر هذا التطرق النابه من قصي همرور حول القضية نفسها: معتقد وخلفيات المحاورة حيث تكون الآراء حول الموضوع لا الخلفيات هي الفيصل. كان يبتدر ورقة في مؤتمر وراي ان يعرف بعقيدته او خلفياته المعرفية لكن في التو أشار الى ان القيمة ستكون لما سيطرحه وليس الى تلكم الخلفية .
يقول
(ولتبيان خلفيتي التي تؤهلني – نظريا – لكتابة هذه الورقة، أقول إني حاليا طالب دراسات ......الخ .....) ويواصل( هذا التبيان البسيط لازمة من لوازم الخطاب الجاد في مواجهة القضايا الجادة، لكنه لا يقول شيئا بنفسه، وإنما المحتوى – أدناه – هو ما يتعرض للتقييم، فإن كان فيه فائدة حقيقية فسيلمسها القراء، وإن لم تكن فيه فائدة فليست هناك أي عبرة بالخلفية الأكاديمية للكاتب.)

في الحقيقة تطوير مفهوم ونهج الحوار يهمني لمارب اخري، وقد تنطبق على المقولة:(طروا الحديد نطت الابرة) كلما ذكر الحوار جيت ناطي.
وادافع فيه ان الحوار بين اطراف شديدة التباين لابد ان ينجز حول موضوع مادي, ولا يتطرق ويغرق في نبش الخلفيات الفكرية. ويكون مبررا للاستئصال.
والحوار بهذا الفهم هو ما يحتاجه التفاكر بين مراكز الحداثيين وشعوب الريف، عند استعادة الديمقراطية، التي تبدو وشيكة.
وختاما لكما التحية، وأيضا عزيزي النور حمد بعد ان اجبرتنا لنذاكر وجدت محمد عابد الجابري يشرح الخلاف بين اهل البادية واهل المدينة، في فهم ابن خلدون. ومنه هذا المقبوس:
(...ولما كان هذا الوازع تفرضه ضرورة الاجتماع والتعاون لتحصيل الغذاء . ولما كانت طرق كسب العيش وبالتالي أسلوب المعاش, يختلف في البادية عنه في المدينة, فانه من المنتظر ان يختلف الوازع هنا عن الوازع هناك...)ص164
الفصل العاشر163
نظرية العصبية العصبية والصراع العصبي
وتجده ان شئت هنا
https://www.mohamedrabeea.com/books/book1_5335.pdf
فكر ابن خلدون العصبية والدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي.
الدكتور محمد عابد الجابري
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

شكرا يا الفاضل على التعليق وعلى الإشارة لما كتبه محمد عابد الجابري
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


تعليق د. عبد الله علي إبراهيم
الحلقة 2
نشر بالراكوبة 30 نوفمبر 2016

يكتب الأستاذ النور حمد مقالات متسلسلة يرد فيها خيباتنا الحضارية (أو ما أسماه "غيبة السودان الحضارية") إلى تمكن العقل الرعوي منا. وطبق النور جرائر العقل الرعوي على الحضارة على غيرنا من الألمان والأمريكان. وكتبت مقالين لحد الآن أواخذه فيهما على خطأ تشخيصه لمحنتنا كمحصلة لطغيان العقل الرعوي في فكرنا وممارستنا. وأريد في هذه المقالة الثالثة موالاة نقد منهج النور من هذه الوجوه:

1- هل بالوسع القول، حسب منطوق النور، إن الرعاة مصابين بالعقل الرعوي أم أن العقل الرعوي مما يصيب غير الرعاة؟

2- هل "العقل الرعوي" هو نفسه "العقل القبلي"؟ فقد بدا لي أن العقلين رديفان في قول النور.

3- هل يميز النور بين الرعاة والمزارعين من شعب الأرياف كما يفعل الرعاة والمزارعين أنفسهم، أم أنهما عنده شيء واحد؟


1-بدا لنا أن النور لايعني ب"العقل الرعوي" من هم في اقتصاد الرعي (أي الرعاة ليومنا) على أنه لا يستثني هذه الطائفة من البشر في مقالاته من جريرة العقل الرعوي. فوجد النور العقلية الرعوية بين رعاة مثل الكبابيش وبني جرار والمسبعات واستهجن عقلهم الرعوي (الذي لايملكون منه فكاكاً لأنهم رعاة) لنزاعهم التاريخي والحاضر الذي نشأ وينشأ "بسبب أمور تافهة مثل سرقة بهيمة، أو ثأر". ولكن في قول آخر للنور تجده يرمي ب"العقل الرعوي" غير الرعاة من الصفوة الذين استبقوا هذا العقل في فكرهم وأدائهم في الدولة الحديثة. فالنور متفهم لأخلاق الرعاة وقيمهم في سياقها التاريخي أي في بداوتهم التي هي معاشهم. ولكن مشكلة هذه الأخلاق والقيم، في قوله، تكمن في تسربها إلى داخل بنية الدولة الحديثة. وهذا كما ترى بخلاف تعريفه الأول للعقل الرعوي بوصفه "منظومة قيمية ارتبطت بنشاط اقتصادي بعينه، وأسلوب حياة بعينها". وهما الرعي.. فالرعاة، الذين تفهم النور قيمهم في شرطها التاريخي، واقعون في جرائر العقل الرعوي التي قال بها النور طالما صارت تلك القيم "عقلاً" بتعريفه للعقل الرعوي. فهم مذنبون لعقلهم الرعوي مع تفهم النور لخصيصته التاريخية. وكان مخرج النور من هذا المأزق أن يُعرف العقل الرعوي كحثالة (حتالة الدراجة) قيم تبقت في غير الرعاة من الصفوة غربية التعليم والهوى الذين هم سدنة الدولة الحديثة. وسيقع له بهذا التفريق بين قيم الرعاة والثقافة، بنت معاشهم، وبين حثالة تلك القيم التي تتسرب إلى الدولة الحديثة بواسطة صفوة فارقت اقتصاد الرعاة ومعاشهم فراق الطريفي لجمله. وعادة ما يُستحدم مصطلح "عقل" ما لحثالة بقيت من قيم عفا عليها الدهر. وهو ما اتفق لرافائيل باتي، الكاتب الأمريكي اليهودي، في كتابه "العقل العربي" (1973) الذي أذاع فيه أن وراء الأداء العربي المعاصر حثالة ( substratum) من عقلهم البدوي التاريخي.

2-قارئ النور لن يخطيء خلطه المشوش بين مصطلح "القبيلة" ومصطلح "العقل الرعوي". فتجده يتحدث في أحوال عن "عقل القبيلة" أو قيمها. فمن رأيه مثلاً أن الإسلام جاء ليقضي على ذلك العقل و تلك القيم القبلية. فخلاصة قوله إنه كان عقل القبيلة (لا الرعوي) مسيطراً في عوالم ما قبل الحداثة. زلكنه في مواضع أخرى يدمج العقلين لا فرق. فالناظر لحال السياسة لعربية واضطرابها، في قول النور، يجد سمة "العقل الرعوي" الذي تبع "قيم القبيلة" وتجاهل قيم الإسلام. وزاد بقوله إن "عقلية القبيلة" سيطرت على مجريات السياسة بينما اختطف "العقل الرعوي" منظومة الدين برمتها. ويرى النور أن الدولة الحديثة لن تنجح طالما كان تعريف الحق فيها مرتبط حصراً بالقبيلة. وأضاف بأن القبيلة لم تقبل بالسلطة المركزية في السودان أبداً حتى أنها كمنت طوال عهد الاستعمار لتظهر "مع هبوب نسائم الاستقلال". وعليه فالسودان، في نظره، ما يزال في مرحلة "القبلية" تتحكم في أموره "بنية العقل الرعوي". فالعقل الرعوي والقبيلة هنا صنوان. والمخرج أن نتدخل لفض النطاح بين القبيلة والدولة لتغيير "هذه البنية العقلية". وواضح أن هذه البينة القبلية هي نفسها بنية العقل الرعوي الذي وصفه دائماً بأنه مصادم للدولة الحديثة. فالعقلية القبلية والعقلية الرعوية سواء في النفور من الدولة. وهما نفس الشيء بالنتيجة.

3-يشمل النور سائر العرب (أو فلنقل عرب الأرياف) ضمن الرعاة. ولم يتوقف ليسأل عما كان هؤلاء الريفييين أنفسهم يميزون رعاتهم عن غير رعاتهم. فوجدت رعاة شمال كردفان الذين عملت بينهم يستهحنون حياة المزارعين (أو عقلهم) ويرثون لحالهم متى جاء الطير وأكل زرعهم وهم مكتوفي الأيدي. بينما يرد عليهم الزراع مستحقرين حياة البدو (عقلهم) بقولهم وماذا لو تفشى المرض في حيوانكم وترككم خلواً منها. بل وجدت باحثاً في تركيبة الجيش الأردني يميز بين فرق البادية وفرق المزارعين فيه والأدوار التي تبادلتها بحسب الخطة الملكية.

وهذا التمييز بين عقل الرعاة وعقل الزراع قائم في ريفنا. فجاء الطيب محمد الطيب في كتابه "فرح ود تكتوك خلال المشبوك" ببيان دقيق رشيق على هذا التمييز. فمن وراء الاضطهاد التاريخي لجماعة الزبالعة الدينية من عهد الفونج حقيقة أنهم رعاة تبنوا طريقة صوفية طعن أهل القرى في سلامتها، بل اتهموهم بالباطنية وهي التبذلفي أوساطهم بين النساء والرجال . وكان أحّد الأصوات على الزبالعة هو صوت فرح ود تكتوك حتى استبخسه الزبالعة ووصفوه ب"رفيق الزراع". ورشّحت في مقدمتي لكتاب "الزبالعة" لمحاسن زين العابدين عن هذه الجماعة أن ننظر إلى هويتهم الرعوية لتفهم المطاعن في دين الزبالعة. فلربما تضمنت الطريقة حمية ثورية بدوية على سلطنة سنار حتى ألبت عليها من حاربها بالسلاح. وصح بذلك أن ندرسها في سياق الاقتصاد السياسي ل"الأشقياء"، وهي ما يصف به السلطان ثوار البادية أو العربان. وهي ثورات مشروعة للرد "الرعوي" على إهانة جبايات الدولة التي أحصيت نحو 13 ضرباً منها. وتستأثر تلك الدولة جزافاً على الفائض الاقتصادي لإشباع غرائزها في التنعم والراحة. فلربما نشأت الزبالعة في اقتصاد "الأشقياء" السياسي لدولة الفونج وتمرد عربانها على الدولة تمرداً أقض مضجعها وعبأت له تلك القوى لكسرها. وسنعود لهذه المسألة حين ننظر في فهم النور لمقدمة ابن خلدون وأدوار الرعاة الهدّام في التاريخ.

وسيكون حديثنا القادم عن سياسات تمثيل الذات للآخر (politics of representation) التي استبطنت نهج النور في اشمئزازه من العقل الرعوي.

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

في تشريح العقل الرعوي
(الأخيرة)

سأحاول، في هذه الحلقة الخاتمة، تقديم تلخيصٍ موجزٍ لهذه الأطروحة التي أسميتها "في تشريح العقل الرعوي". وبطبيعة الحال، لم تستقص هذه الحلقات موضوعها كما يجب، وما كان ينبغي لها. فقد أحاطت بها قيود الكتابة الصحفية الأسبوعية الراتبة. ومع ذلك فقد رسمت، بصورة مطولة، ملامح مخطط بحثي، نقدي، سبق أن أشرت، في بداية هذه المقالات، إلى أنني أنوي تطويره، سعةً وعمقًا، إضافةً إلى إجراء مزيدٍ من البحث في الأدبيات المتعلقة به، من أجل دعمه بمزيد من الأفكار والمراجع، ثم إخراجه في كتاب، في نهاية المطاف.

أثارت هذه المقالات، الكثير من الجدل، في ما وصلني من ردود فعلٍ حولها، على بريدي الالكتروني، ومما قرأته في المواقع الإلكترونية، ومما تفضل بنقله إليّ بعض الأصدقاء، حول ما جرى بشأنها من حوار في مجموعات النقاش المختلفة، التي تزخر بها وسائط التواصل الاجتماعي. احتفى كثيرون بهذه المقالات، ومن بين هؤلاء ثلةٌ ممن أعرف سعة معرفتهم، وشعورهم العميق بالحاجة إلى البحث في جذور الأزمة السودانية المستفحلة، والمتطاولة. وقد فاق احتفاء هؤلاء بالمقالات، كل توقعاتي. وقد شد ذلك عضدي، خاصةً أنني تجرأت بالخوض في شأنٍ شائكٍ، وحساسٍ، فعلا، وهو، بمنحاه الناقد للثقافة السائدة، لا يجد لدى الكثيرين، قبولاً.

أما من الجهة الأخرى، فقد انتاشت المقالات سهامٌ عدة، من زوايا مختلفة. اتسم بعضها بالموضوعية، واتسم البعض الآخر باللاموضوعية. وكل تلك أمورٌ طبيعية، في اعتقادي. فالنقد الموضوعي يعين على إعادة النظر، وضبط الطرح، وعلى التطوير. أما غير الموضوعي فيُترك جانبًا، ولا ينبغي أصلاً أن يُؤبه له. فهو من جنس الغوغائية التي طالما وسمت مجالاتنا الفكرية، والثقافية، والصحفية، والسياسية، منذ قرابة القرن من الزمان. وهذا القرن المنصرم، من الزمان، يمثّل، تقريبًا، كل عمر أمتنا في ممارسة الكتابة، في تمثُّلاتها الحديثة. وهو عمرٌ جد قصير في أعمار ثقافات الأمم، التي أخذت بأسباب الحداثة.

نحن لا نزال بعيدين، عن التعاطي مع الاختلاف كشيءٍ طبيعي، بل وكشيءٍ ضروري؛ مهم، ومفيد. وقليلون منا من يجرون المساجلات الكتابية، بعيدًا عن التشنج، وإنشابٍ الأظافر في رقبة شخص الكاتب، كأن ما بينهم وبينه خلافٌ على ميراثٍ. فالمستوى المتحضر من الحوار، الذي حطت في رحالها الأمم التي محصتها التجارب الطويلة، والانتاج الفكري الضخم، وساعدتها في صقله المؤسسات الأكاديمية المستقلة ، التي وصلت أعمارها إلى قرون عدة، فنحن منه جد بعيدين. فلدى بنية العقل الرعوي، كل الأمور واضحة، ولا حاجة إلى التساؤلات أصلا؛ فإما أن تنسجم مع بنية العقل السائد، وإما أن تُحَطَّم. فالتفكير النمطي المتكرر، والابتسار، والعجلة، والاستقواء بالجهلاء ضد العلماء، واستهداف الشخص، بدلا من استهداف مواضع الخلل في فكرته، كلها خلالٌ رعوية، آن لها أن تترجل.

ظهرت بدايات هذا الطرح، أول ما ظهرت، في كتابي "مهارب المبدعين: قراءة في السير والنصوص السودانية"، الذي صدر عن دار مدارك للنشر، في الخرطوم، عام 2010. كما ظهرت في أوراقٍ أكاديميةٍ متناثرة، نشرتها، في السنوات الأخيرة. ومما ورد في كتاب، "مهارب المبدعين"، مما له صلة بهذه المقالات، هو زعمي أن انقلابًا حدث في العقل والوجدان السوداني. فقد سبق أن قلت في ذلك الكتاب، إن سبب ذلك الانقلاب هو دخول المؤسسة الدينية الرسمية الخديوية العثمانية إلى الساحة السودانية، في بداية الغزو الخديوي للسودان. بعبارةٍ أخرى، حدث ذلك الانقلاب العقلي والوجداني، عندما أصبح للدين مؤسسة حكومية، رسمية، مهمتها أن تكون ذراعًا تستخدمه السلطة في السودان، لتكريس الاستبداد الفكري والديني، والسياسي. ولست بغافلٍ عن ضرورة تقديم بعضٍ من الاحتراز هنا؛ فبيوت التصوف السودانية، كانت، هي الأخرى، تعتمد الفقه في جانبٍ من ممارستها التعليمية التربوية. غير أن تركيزها كان على التربية والتهذيب، بأكثر مما كان على استظهار المتون وحفظها، من غير أن يكون لما يُحفظ من نصوص تأثيرٌ يذكر على الأخلاق، كما هو الحال لدى الفقهاء. قامت بعض بيوت التصوف في الحقبة السنارية، بتدريس "مختصر خليل" و"الرسالة"، لأبي زيد القيرواني، وغيرها من كتب الفقه. ومع ذلك، بقي المتصوفة مدركين أن دراسة الفقه القائمة على الحفظ والاستظهار، قاصرة عن تحقيق مراد الدين، وهو التربية والترشيد. وعلى سبيل المثال، رُوي عن الشيخ حمد ود الترابي، الذي بدأ حياته الدينية بتدريس مختصر خليل، أنه حين نوى بدء نهج التصوف والرياضات الروحية، ودخول الخلوة، رمى بمختصر خليل جانبًا، وقال: "تركناك يا خليل ومسكنا درب الجليل". وكما هو معروف فإن محمد ود ضيف الله، صاحب كتاب الطبقات كان يذكر في مقدمة سيرة من يورد من الأولياء، أنه أخذ العلم على فلان؛ أي تفقّه عليه، وأخذ التصوف وتبع طريق القوم، على يد فلان. (راجع أبو سليم، بحوث في تاريخ السودان).

أحضر الخديويون عند بدء غزوهم للسودان عام 1821، ثلاثة من الفقها؛ شافعي، وحنفي، ومالكي. ومن هنا أخذ التدين المؤسسي يأخذ وضعه في السودان. في تلك النقطة في الربع الأول من القرن التاسع عشر جاءنا التدين العثماني، الأزهري، المظهري، الداعم للاستبداد، ولأحادية التفكير، وللطهرانية. وبطبيعة الحال كان السودانيون، في الحقبة السنارية، يذهبون لتلقي العلوم الدينية في رواق السنارية في الأزهر، لكنهم كانوا يعودون ليعلِّموا الناس الفقه الضروري، الذي لا تصح العبادة إلا به. وعمومًا، كان المهتمون بالدين، من السودانيين آنذاك، قليلين، وكانوا ملتفين حول بقاع التصوف. أما بوادي السودان المحيطة بمجرى النيل فقد بقيت صلتها بالدين، ضعيفة جدًا. وتاريخ سلطنة سنار يحكي عن ذلك أفضل حكاية. بعبارةٍ أخرى، لم يكن الفقه سوى أرضية استخدمها المتصوفة لتعريف الناس بالعبادة الصحيحة، في هيئتها المظهرية، أما تركيزهم الأساس فقد كان منصبًا على التربية، والترشيد، وتعليم أصول الأخلاق. فالفقه يُبقي البدو على بداوتهم، أما التصوف فيهذب، ويعلم عبر ما يسميه المتصوفة "السلوك" قواعد الأخلاق.

بدخول الخديوية بدأ التضييق على التصوف، (راجع: أبو سليم، بحوث في تاريخ السودان، ص 33). والتضييق على التصوف ظاهرة وسمت كل التاريخ الإسلامي، كما سلفت الإشارة. فالتصوف كما يقول هادي العلوي مثّل، في عدد من منعطفات التاريخ الإسلامي، القوة الاجتماعية الناقدة لتجاوزات الحكام وفسادهم، والتذكير بما كان عليه النبي وكبار الأصحاب من الزهد والاستقامة. والفقه المدرسي، الذي يظنه الناس اليوم دينًا، ليس سوى مؤسسةً سلطانية، صنعها حكام فاسدين ومفسدين، فارقوا جوهر الرسالة، واستخدموا قوة الفتوى وفرمانات التكفير في مواجهة معارضات المتصوفة، وغيرهم من الفرق المعارضة. ومن هنا كانت ظاهرة قتل المتصوفة، وغيرهم، من هؤلاء المعارضين، سمة بارزة من سمات التاريخ الإسلامي. ومن ينظر إلى علماء الأزهر، وإلى فتاوى علماء السودان، طيلة فترة حكم الانقاذ الحالية، يمكنه أن يلاحظ انحياز هذه المؤسسة الثابت للسلطة. باختصارٍ شديد، لم يكن السودان جزءًا من المنظومة العربية المشرقية السنية، بصورتها المؤسسية السلطوية، إلا بعد وصول الخديويين. بدخول الخديوية تهمّش التصوف، وجرى إدخالنا، قسرًا، في السيرورة التاريخية العربية المشرقية، وسرديتها الممتدة منذ عصر الأمويين، إلى عصر العثمانيين. ويمثل هذا المدى الزمني، في جملته، الإطار الذي ضم حكم المستبدين، الذين جعلوا من الدين، في صيغته الفقهية المدرسية، ومن رجال الدين أداةً لترسيخ الاستبداد وحراسته.

كان ذلك، ما تضمنه كتابي مهارب المبدعين، الذي جرى نشره قبل ست سنوات. ولكن، ما بين صدور مهارب المبدعين، وما أثاره من جدل، استجدّ جديدٌ في تفكيري. فلقد واصلت البحث والقراءة، في كل الأمور المتعلقة بما طرحته في "مهارب المبدعين"، خاصةً الجوانب التاريخية. واتضح لي أن الانقلاب في الفكر والوجدان السوداني، ومن ثم في الهوية السودانية، جرى على مرحلتين. بدأت المرحلة الأولى، حين قضى الأعراب الرعاة الذين قدموا من الشمال، من مصر، في موجاتٍ متتابعة، عبر بضع قرون، على مملكة المقرة في القرن الرابع عشر، ثم على مملكة علوة في بداية القرن السادس عشر. في تلك المرحلة جرى هدم قيم الاستقرار التي رسختها الحضارة النوبية الكوشية الممتدة من كرمة ونبتة ومروي إلى فترة الممالك المسيحية، وهي قيم الانصياع لحكم القانون، واحترام ملكيات الغير، والقبول بمنظومة الدولة كجهاز منظم للعلاقات بين الناس. يقول ويليام آدمز، "خلافا للعرب الحقيقيين ما كان النوبيون أبدًا شعبًا بدويًّا، ومنذ الزمن الذي تقلدوا فيه حضارة الفراعنة، حتى مجي العرب، لم يكونوا شعبًا قبليا. كان مبدأ القرابة لديهم قد فتح الطريق زمنًا طويلا لمبدأ الإذعان للحكومات المركزية. بيد أنهم حين احتضنوا نظام العصبية العربي، من أجل هوية إسلامية، احتضنوا إلى جانب ذلك، بالضرورة، نظام العصبية القبلية"، (ويليام آدمز، النوبة رواق إفريقيا، ترجمة ، محدوب التجاني، (بدون اسم ناشر)، القاهرة، 2010، ص 497).

بسلب الأعراب مُلك النوبة جرى التحول في منظومة القيم؛ من الانسية النسبية المتوارثة من التراث الكوشي القديم، إلى التوحش، أو قل إلى "البربرية"، أو إلى حالة من حالاتها. وهو ما يمكن أن نصفه بنزعة عدم الانصياع للنظم، وإهمال العقد الاجتماعي، والتعاطي مع الدولة والسلطة كـموردٍ يمكن احتكاره، ومالٍ سائبٍ، يمكن وسرقته. فتحالف الفونج والعبدلاب، لم يكن، في حقيقة أمره، سوى تحالفٍ رعوي قح، تأسس لنهب ثروات سوبا، وانتزاع الملك من ملوكها، وهذا ثابتٌ تاريخيًا. ورغم أن الإسلام كان حاضرًا في ذلك الصراع، الذي انتهى بخراب سوبا، إلا أن حضوره كان حضورًا مساعدًا فقط، ولغرض الحشد، والتعبئة، وإثارة الكراهية، وليس حضورًا قيميًا جوهريًا. استخدم العبدلاب والفونج الإسلام لتجييش الرعاة المحيطين بوادي النيل، من أجل الهجوم على مملكة سوبا، خاصة بعد أن تكاثروا حولها وتفوقوا عليها، عددًا، وعدة، ومن ثم، الاستيلاء على ثرواتها الكبيرة التي كانت أعين هؤلاء الأعراب أصلا مصوبة عليها، منذ مدة ليست بالقصيرة.

يطرح هذا المبحث النقدي مقترحًا بضرورة إعادة النظر في السلطنة الزرقاء، وموضعتها، بناءً على حقيقة أمرها، في السيرورة التاريخية السودانية الكبرى، الممتدة منذ العصور الكوشية، لا على ما أفاء عليها به مخيال بعض المعاصرين منا. كما يقترح أيضًا، مراجعة الحقبة المهدوية، نقديا. فهؤلاء الذين جاءوا في القرن العشرين، ألصقوا الاسلام الصاقًا بذلك التحول السناري، من منطلقٍ استعاديٍّ، رغبوي، في محاولةٍ لخلق سردية متماسكة تصبح مرتكزاً لهويتنا. ولربما أمكن القول، إن الإسلام الذي استولى به العبدلاب والفونج على ملك سوبا، لا يختلف، جوهريًا، عن الاسلام الرعوي، الذي استولى به الوهابيون على سائر أرجاء الجزيرة العربية، (راجع: على الوردي، قصة الأشراف وابن سعود، الفرات للنشر، 2007، ص 221-225). كما لا يختلف عن الإسلام الذي حاول به أحمد بن إبراهيم الأعسر، الاستيلاء على الإمبراطورية الحبشية. كما لا يختلف عن الاسلام المهدوي الذي زعم لنفسه الكلمة الخاتمة، في شأن الإسلام، وأعطى نفسه حق حمل السيف، وشن الحرب على مصر وغيرها. اعتمدت كل هذه الحركات، التي انطلقت من البوادي الطرفية في الجزيرة العربية، والقرن الإفريقي، ووادي النيل الأوسط، على قوة عسكرية قوامها خليطٌ من تسطيحٍ تبسيطيٍّ للدين، وشراسةٍ بدوية فالتة، ونفوس وأيدٍ يشعل طاقاتها، إلى أقصى مدى، الحصول على المغانم، وتلهب مشاعرها دراما السلب والنهب، الممجدة أصلاً في أدبياتها.

لم يكن المتصوفة جزءًا أصيلاً من السلطة السنارية، ولم يكونوا مؤسسة تابعة لها، بالمعنى المؤسسي، وما أكثر ما دار بين المتصوفة وبين سلاطين الفونج، من مواجهات. (راجع: كتاب "الطبقات": سيرة الشيخ إدريس ود الأرباب اورفضه قبول هدية السلطان السناري له، من أرض المحس المغصوبة. وراجع سيرة الشيخ حمد ود الترابي الذي احتمت به قبائل شرق النيل الأزرق، حين هاجمهم القائد السناري، ود التُمام، مستهدفًا سلب قطعانهم). عاش المتصوفة في بقع صغيرة، أقرب ما تكون إلى دويلات، بالغة الصغر، متناثرة عبر مساحة السلطنة. وكان المجرمون يحتمون بهذه البقع من العقوبات، لأن سلاطين الفونج كانوا لا يلاحقون المجرم الذي يلوذ بشيخ من شيوخ التصوف.

كانت بقع التصوف جزرًا صغيرة متناثرة، يحيط بها بحرٌ بدويٌّ شاسعٌ، بالغ الشراسة. وقد نجح انتشار الخرافة، والإيمان بالقدرات الخارقة، التي أُشيع أن شيوخ التصوف يمتلكونها، في كبح غلواء الحكام. وهنا تكمن قوة الأسطورة، ويظهر أثرها الحسن في مجريات التاريخ. ومع ذلك، ظلت الأمور بين سلاطين الفونج وشيوخ التصوف، في شد وجذب، إلى أن أكلت سنار نفسها بنفسها، واجتاحتها الخديوية المصرية. وبدخول الخديويون إلى السودان، بدأت المرحلة الثانية من غياب الوعي بالذات السودانية، وأخذ خرق الابتعاد عن الجذر الكوشي يزداد اتساعًا، فتحول السودان من قطرٍ ذي جذور موغلة في الكوشية، تصل إلى أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، إلى قطر هامشيٍّ، مهملٍ في حواشي المشرق العربي.

يتحدث الأكاديميون عن ضرورة تفكيك التركة الاستعمارية، أو محو آثار الاستعمار decolonization، ولكن لم نر في السودان عملاً واحدًا تناول بعمق، وبادراك حقيقي، آثار الاستعمار الخديوي للسودان، الذي امتد من 1821 إلى 1885، وتأثيراته الضارة، التي طالت واقعنا حتى اليوم. ولا حتى عملا كبيرًا، شاملا، ناقش حقبة الاستعمار البريطاني. لقد ضرب الخديويون ضربة البداية في تمصير وعي السودانيين. أُنسي المصريون السودانيين تاريخهم الكوشي العتيد، فأخذوا، يصنعون لأنفسهم، في انقياد أعمى تاريخًا يعود إلى جزيرة العرب. وقد أوضح أحمد ألياس حسين "فبركة" المصريين لعروبة السودان، بما يكفي. خرج المصريون، لكنهم أبقوا مناهج تعليميهم وروايتهم للتاريخ، فبقينا رغم استقلالنا، مستعمرين مصريًا؛ دينيًا وثقافيًا، وسياسيا.

هذا الاستعمار الثقافي، الاستتباعي، هو ما ظل المصريون يعملون له منذ حكم الأسر في العالم القديم، وأخذ صورًا حداثيةً على يد محمد علي، واستمر كما هو في فترات عبدالناصر والسادات، ومبارك، وإلى اليوم. جرى استتباع النخب السودانية مصريًا، فانغلق الطريق أمام الجمهور السوداني ليعي ذات وتاريخه وثقافته. ولا غرابة إذن، أن أصبحنا منشغلين بقضايا العرب أكثر من انشغالنا بقضايانا. نهتم بآلام ومقاساة غزة، وسوريا، أكثر مما نهتم بآلام ومقاساة دارفور، أو جبال النوبة، أو حتى شرق السودان. فنحن نعيش حالة فصامٍ معيبة، لها جذور تاريخية لم تناقش بعد. ولكن كثيرين منا، لا يرون الفيل "البمبي" في الغرفة.

انطلقت هذه المحاولة البحثية النقدية من مراقبة الواقع السوداني الذي استعصى على التمدين، وقدمت في ذلك شواهد أولية. فالعقلية التي جعلتنا نفقد حتى التحديث القليل الذي انجزه البريطانيون، وننحدر لنصبح في ذيل دول العالم في كل شيء، هي ذات العقلية السنارية، التي لم تترك، رغم بقاءها في الحكم، لثلاثة قرون، ثقافة عينية أو معنوية، تذكر. فالثقافة العينية هي ما تتركه الحضارات المقتدرة، عادة، وتتمثل في الفنون الحرفية المختلفة، artifacts. لم تترك سنار عمرانًا يذكر، ولا فنونًا بصرية، ولا فنونًا حرفية، ولا زيًا، ولا طعامًا مميزًا، ولا فكرًا ولا أدبًا ذا قيمة. ولو قارنا ما انجزته سنار بما أنجزته نبتة، أو مروي، أو حتى سوبا، في كل ما تقدم ذكره، لاتضح لنا الفرق. ومن يرد أن يتيقن من هذا، فما عليه سوى زيارة متاحفنا، ومتاحف العالم، ليرى أين هي سنار، من نبتة، ومروي، وسوبا. لقد انتكسنا، دون أدنى ريب، من حالة حضارية، لها آثارها العينية، الماثلة إلى الآن، إلى حالة رعوية، تسبب فيها الاستعراب الذي فشا فينا، فسطا قبيل منا، أقل تحضرا، على قبيل من أكثر تحضرًا، باسم الاسلام، فخرَّب حضارته وسوى، ما استطاع تسويته منها، بالأرض. فواقعنا الماثل اليوم، هو امتداد لرعوية الحقبتين السنارية والمهدوية، فهو منبت الصلة بحضارتنا الكوشية الباذخة.

سؤالي المركزي في هذا المبحث، هو: كيف ولماذا انتكسنا حضاريًا، وكيف ولماذا عجزنا عن الإمساك بأسباب الحداثة، مثل بقية الأمم؟ والتساؤل حول إمساك البداوة ببنية العقل العربي، والحؤول بينه وبين الامساك بجوهر الحداثة، ليس جديدًا. فالسؤال الشهير: "لماذا تقدموا، وتخلفنا؟"، سؤالٌ قديمٌ ظل يُطرح منذ بدايات ما سُمي بـ "النهضة العربية". يقول عالم الاجتماع، على الوردي، إن المجتمع العربي هو أكبر مَعينٍ للبداوة في العالم، وإن التناقض بين الحضارة والبداوة كبير؛ فإما أن نكون متحضرين، أو نعود إلى الصحراء. فلا انتقاء، ولا توافق، ولا انسجام بين قيم الحضارة والبداوة. فسمات البداوة هي القبيلة – الغزو – التَّفضُّل، (الذي يشمل الكرم والسخاء والنخوة وغيرها). أما الحضارة فهي على العكس من ذلك تمامًا، فهي الدولة، والعمل اليدوي، وعدم الاعتماد على قيم التفضُّل. فعلى الرغم من تزايد المدن وعدد سكانها، ظلت قيم البداوة تعيش في دواخلنا، إلى حدٍّ كبير. (من مقدمة ماجد شبر لترجمة كتاب المستشرق الألماني أوبنهايم، البدو، دار الوراق للنشر، لندن، 2007، ص 11).

إن مشكلتنا في السودان، كما في غيره من الدول المشابهة لنا، مشكلة "سياسات" policies، وليست مشكلة "سياسة" politics. نحن نعتقد أن السياسة سوف تحل مشاكلنا، فننخرط بكثرة في الناشطية السياسية، ونهمل التفكير، ونغرق في النزاع غير المنتج. وقد ظللنا نمارس هذه الناشطية السياسية منذ الاستقلال. لكن، لم يمر علينا، على الاطلاق، يومٌ كان أفضل من سابقه، منذ الاستقلال. ورغم هذه الحقيقية الصادمة، لا نتوقف لنفكر، أو لنعيد النظر في تاريخنا المكتوب، أو لننظر لحالتنا من حيث قلة الكسب، وقلة القدرة على الحفاظ على ما تحقق في مضمار الاستقرار، والبناء، والتقدم، والتمدن، والصقل، والتهذيب. فحالتنا من حيث التراجع المضطرد، حالة نادرة، بل وربما منعدمة الشبيه، ولابد أن وراءها علة. وهذا الطرح يمثل في مرحلته هذه مجرد عصفٍ ذهنيٍّ لتلمس جذر الأزمة.

لكي نخطط لتعليمٍ جديد، مفيد، وحافز للتطور، لابد أن ننظر في تاريخنا على خلاف ما درسونا. فالنتائج الكارثية لما جرى تدريسه لنا، تتحدث عن نفسها. نحن بحاجة لمعرفة أصل العلل الاجتماعية، والنفسية، المُقعدة، التي نود معالجتها. هذه المعرفة هي التي تحدد كيف نرسم مناهجنا الدراسية، وكيف نصوغ رسالتنا الإعلامية، وكيف نوظف خطابنا الديني، وغير ذلك من وسائط التثقيف والتهذيب. فالأمم لا تهبط في صورة موائد تنزل من السماء، وإنما تُبنى لبنةً، لبنة، بالفكر الحر، وبرسم السياسات الصحيحة، وإتباعها بالتطبيق الحرفي اليقظ، وحراستها من ارتدادات الرعوية. والشعوب تتعلم، حين تجد أمامها قادةً معلِّمين ملهمين؛ مثال: غاندي، ونهرو، ومانديلا، ومهاتير، وغيرهم. نحن بحاجة إلى انقلاب فكري، تتبعه ثورة ثقافية، ولسنا بحاجة لتجريب المجرّب، مرة أخرى. بهذا أنهي هذا الطرح الابتدائي، وإلى اللقاء مع الطرح المكتمل في الكتاب الموسع الذي سأنشره تحت العنوان الأصلي، الذي بدأت به هذه المقالات، مع إضافة صغيرة، ولسوف يكون: "التغيير وقيد العقل الرعوي: حالة السودان".
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

الشيخ (محمد بن على زين العابدين التونسى)

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



سلامات يا النور


تابعت مقالاتك الرائعة بكل إهتمام .. وكلى شوق أن أقرأها، بعد قيامك بتوسيع هذا المبحث، بين دفتى كتاب لابد أنه سيحتل موقعاً فى المكتبة السودانية وسيكون مرجعاً للمهتمين.

لاحظت فى حديثك عن سنار، أنك لم تستند على مرجع هام لشاهد عيان هو الشيخ (محمد بن على زين العابدين التونسى)، وقد ترجم رحلته إلى السودان وزيارته لسنار من اللغة الفرنسية – لأن النسخة العربية الأصلية لكتابه ضاعت – الأستاذ عبد الله معاوية. هذه المعلومات إستقيتها من مجلة "كتابات سودانية" العدد الخامس، والموضوع بقلم عوض صالح العوض بعنوان: "رحلة للسودان للشيخ زين العابدين"، صفحة 171.

إن شهادة زين العابدين التونسى فى حق سنار ومملكة تقلى، وشهادته عن الإنقلاب الذى أحدثته الثقافة العربسلامية فى ذهنية السودانيين تجاه موروثهم الكوشى، هى شهادة فى غاية الأهمية، لأنها أتت من شاهد عيان زار السودان عن طريق الصدفة، ومكث 9 أشهر فى سنار قبل أن يغادرها إلى كردفان، وذلك إبَّان سلطة الفونج.

قد أتمكن من نقل المقاطع ذات الصلة من موضوع مجلة "كتابات سودانية".

ولك عامر التحايا

صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


شكرا جزيلا يا باسر
سوف أنتظر ما تمدني به بشوق عظيم
من جانبي سوف أسعى للحصول على الكتاب
مع التقدير والمودة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

حوار صحيفة التيار

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


نشر هذا الحوار الذي أجرته معي صحيفة التيار اليوم الإثنين الثاني من يناير

حوارات المصير
الباحث والكاتب د. النور حمد لـ "التيار":

الشعب الآن بين خياريْن باهتيْن
مجنون من يظن أن الإنقاذ لن تنهار.. ونحتاج لمعجزة لتجنب السيناريو الليبي
النظام اكتفى بالهتيفة، والمُطبلين، وسائر من اشترى ولاءهم بالمال، وتلك غفلة كبيرة
المُعارضة بكل أطيافها ليست لها رؤية، وتقتات على شعارات باهتة

وإذ يلخص د. النور حمد تفاصيل المَشهد الراهن بالسودان بمَقاييس مُوغلة في السوداوية والقتامة، على العكس تماماً من الحلقتين السّابقتين لحوارات المصير وأوشك الرجل أن يضع السلطة والمُعارضة معاً مُتساويتين في "قارب الفشل"، ويرى أنّ التغيير المطلوب لابد أن يناقش جدياً وبشجاعة إنهاء سيطرة "الوسط النيلي".. حمد الذي أنفق سنوات طوال في رحاب الفكر الجمهوري قبل أن يهاجر الى المنافي البعيدة بعد الرحيل المُفاجئ لـ "الأستاذ"، لا يعول كثيراً على (مراجعات) قادة بارزين في الحركة الإسلامية، لكنه يذهب إلى أن لا حل سوى "إجراء مساومة تاريخية كبيرة".

أجرته: شمائل النور

إذا طلبنا منك رسم (خارطة طريق) للخروج من الأزمة، فكيف تكون؟

لا أعتقد أن في وسع أي سوداني، أو غير سوداني، أن يرسم خارطة طريق واضحة المعالم، تتّسم بالعملية، للخروج من عنق الزجاجة الذي احتشدت وتكدست، فيه كل أمورنا، حتى تعطّل حراكها.

لماذا؟

الوضع الماثل الآن، وضعٌ بالغ التعقيد. وقد كان هذا الوضع نتاجاً لتراكماتٍ كثيرة مُتتابعة، تعود إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، بل إلى أبعد من ذلك بكثير. غير أن الناس لا يميلون لأن يسمعوا، في مثل هذه الأوقات الضاغطة، فذلكةً تاريخيةً لأصل المشكلة، أو تحليلاً مطولاً، بقدر ما يحبون أن يسمعوا عن إيجاد مخرج عاجل، وهذا طبيعي. فحين تضغط أمور الحياة اليومية على جيوب وقلوب وأرواح وأجساد المُواطنين، وحين ينسد الأفق تماماً، يَصبح تدبير المَعيشة اليومية هَمّاً ضاغطاً، والدواء مُتعذِّراً، تنحصر العقول في مَجرد التفكير في أقرب مَخرج.

كأنّك لا ترى مَخرجاً؟

إيجاد مَخرج من عُنق الزجاجة الذي طال مكوثنا فيه، أضحى أعسر من أيِّ وقت مضى. فهذه ليست أيام أكتوبر 1964، وليست أيام أبريل 1985، أيضاً. لقد تغيّرت البنيات التي كانت قائمة آنذاك، فقد استتبعت السلطات العمل النقابي، ووضعته تحت جناحها، كما دجنت النقابات والاتحادات المهنية، بما في ذلك الاتحادات الطلابية، حتى لم يعد للشعب كيان مُنظّم مُرتبطٌ بجهاز الدولة، بحيث يكون له تأثير في بلورة الحراك الجماهيري، وتحويله إلى قوة منظمة ضاغطة تجعل الحكومة تستجيب لتحقيق المطالب، أو تجعله قادراً على إشعال الثورات التي تحقق بغيتها في إسقاط النظام القائم. وبالطبع بقيت بعض النقابات عاملة، وقامت ببعض المنافحات المؤثرة، لكن قوة العمل الجماهيري تكمن في اتساعه وشموله وتضامنه، وتماسكه، وهذا ليس موجوداً الآن.

كثيرون يرون أنّ من المُمكن تكرار سيناريو أكتوبر أو أبريل، فقط لم تحن ساعة الصفر؟

لا أعتقد أنّ ذلك ممكناً، أو سهلاً، على الأقل. لقد بقي النظام الحالي في السلطة لأكثر من ربع قرنٍ من الزمان، تمكّن عبرها من تفكيك البنى المُجتمعية، وضرب الأحزاب السياسية، وتشقيقها، وإفقارها، وإرهاق قياداتها بالمُلاحقات الأمنية. كما دفع بكثيرٍ من القوى الحية الفاعلة إلى خارج الحدود. نجح النظام فعلياً، في خلق واقع جديدٍ سِمَتِهِ الرئيسة تشظي وضعف القوة الفاعلة في الساحة السياسية السودانية، فأضحت لا تشكل قوة ضغطٍ حقيقيةٍ عليه. كما تفنن النظام في ضرب القوى السياسية المعارضة ببعضها؛ فقسّم الأحزاب، وقسّم الحركات المسلحة. ويشهد على ذلك، ما يزيد عن ربع قرن. يُضاف إلى ما تقدم، أن مؤسسات كالجيش والشرطة والأمن، جرى إلحاقهما ببنية النظام، عبر غسيل الأدمغة بأيديولوجيا الإسلام السياسي، وشعاراتها الحماسية الجوفاء. وكذلك، عبر ربط الترقي في المناصب، بمنظومة المصالح المالية، التي أضحت المادة اللاصقة لكل القوى الداعمة للنظام. وهكذا فَقَدَ الشعب سند هذه المؤسسات التي سبق أن لعبت دوراً حاسماً في إنجاح كلٍّ من ثورتي أكتوبر وأبريل.
بشكل عام، لماذا تأخّر إنجاز تغيير في ظل نظام الإنقاذ؟

تأخّر التغيير لأنّ القوى التي تعمل له غير مُتّسقة، ولم تصل بعد إلى درجة الوعي التي تسمح لها بالتنازل لبعضها، والكَف عن الكَيد لبعضها، من أجل خدمة الهدف المركزي، كما أنّها لم تتعلّم العمل الجماعي بعد. وبطبيعة الحال هناك عوامل دولية وإقليمية ظلت في جانب بقاء نظام الإنقاذ. فهو نظام خدم بطريقة مُباشرة، وغير مباشرة، استراتيجيات إقليمية ودولية. من المشاكل القائمة التي لا تبشر بإمكان خلق قوة تغيير حاسمة، أن بعض الإسلاميين الذين خرجوا على الإنقاذ، أو أخرجوا منها، لم يتوبوا توبة نصوحاً بعد.

لكن الآن، هناك بعض الإسلاميين رفعوا أصواتهم بالمراجعات الجريئة؟

هم لا يزالون مُرتبطين عاطفياً بالتجربة، رغم فداحتها، وآثارها المدمرة. هؤلاء لا يزالون يظنون أنّها تجربة قابلة للتعديل. ولا يزالون يَظنون أنّ بوسعهم لقاء الإنقاذ في منتصف الطريق، وبوسعهم إنقاذ التجربة من أن تَذهب في التّاريخ بوصفها لعنة. ويكثر هؤلاء وسط جماعة الشعبي. هذه مُشكلة عويصة، تمنع تشبيك جسور التعاون بين القوى الساعية للتغيير. توبة الإسلاميين مما اقترفت أيديهم، شرط رئيس لكي يصبحوا جزءاً من مستقبل السودان. ودون هؤلاء تجربة الإسلاميين المصريين الذين سعوا لحتفهم بظلفهم. ودونهم، أيضاً، عودة الوعي التي جَسّدَها راشد الغنوشي وحزبه.

لهذه الدرجة ترى أنّ الواقع تَغَيّر؟

لمعرفة مَدَى تغيُّر الواقع السًّوداني عمّا كان عليه في الستينات والثمانينات، لا نحتاج سوى أن نقارن: كيف كان موت طالب أو طالبيْن في أكتوبر كافياً جداً لكي ينحاز الجيش إلى جانب الشعب الغاضب، ويُجبر النظام القائم على التنحي، في حين لم يعد موت 200 في المظاهرات، أو موت مئات الآلاف في دارفور وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، يحدث أثراً يُذكر.

هل يعني هذا أنّه لا توجد وحدة كافية لإحداث التغيير؟

نعم، أعتقد ذلك. ولا أقول هنا، إن الثورة غير مُمكنة، ولكنني أقول إن الثورة الشاملة، المنظمة، مأمونة العواقب، أضحت في غاية الصعوبة. فقد تبدّل الشعور القومي العام الذي كان من قبل مُوحَّداً إلى حد كبير، فأنجز أكتوبر وأبريل. تضعضع الشعور القومي المُوحَّد بسبب ضرب النظام للقوى المجتمعية وبنياتها التي كان يُعرف منذ البداية، أنها سوف تُشكِّل خطراً عليه.

إلى أيِّ سَبَبٍ تُعزي ما سميته (تضعضع) الشعور القومي؟

تضعضع الشعور القومي الموحَّد بسبب نشاط القوى الجهوية المُهمَّشة، الحاملة للسلاح. فالهامش، أصبحت له قضاياه التي تعنيه بصورة مُباشرة. وأصبح من الناحية الواقعية في مواجهة الحكومة، وفي نفس الوقت أصبح بقدرٍ ما في مواجهة معارضيها من عموم أهل المركز في الوسط والشمال النيلي. هذا الوضع الذي ازدوجت فيه معارضة قوى الهامش، فأصبحت ضد الحكومة من جهة، وضد بنية الوسط النيلي المسيطر برمتها من الجهة الأخرى، هو ما أدى قبل سنوات عبر مسارٍ مرهقٍ ومعقد إلى انفصال الجنوب. ولا تزال هذه الحالة قائمة، ويمكن أن تؤدي إلى انفصال أجزاء جديدة من البلاد.

إذاً ما المخرج؟

المخرج أن تستمر المعارضة من جانب الجميع، لكن بعد أن تعيد قوى المُعارضة مُراجعة أمور عديدة بها تكتسب الفاعلية والمصداقية. فقوى المعارضة، المدني منها والمسلح لم تعد لها مصداقية. ولم تعد أغلبية الشعب توليها ثقةً تذكر أو تأخذها على محمل الجد. وبنظرةٍ كليةٍ غير منحازةٍ لمجمل مسارات الأمور، يمكن للمرء أن يقول إن ما حدث للمعارضة من ضعضعة يمكن أن يكون أمراً مفيداً، إن هو أحدث لها ذكراً. فالمعارضة بكل أطيافها ليست لها رؤية وتقتات على شعاراتٍ باهتة، منتهى غايتها إعادة تدوير الماضي الباهت. وهي أيضاً فاقدة للخيال الخلاق وللمهارات وتُحرِّكها النوستالجيا والحماس. والسيئ في الأمر أن النظام الذي يعرف ضعف المعارضة وقلة فعاليتها راهن كلياً على ذلك، وأصبح لا يقدم أي تنازلات، ولا يقوم بأي مراجعات. ساوى النظام بين تنظيمات المعارضة وبين قوى الشعب، في حين أن المعارضة لا تمثل كل الشعب. فموقف قطاع كبير من الشعب منها، سلبي، ولا يختلف، في مقدار سلبيته من موقفه من النظام. ولربما استثنى من قوى المعارضة حزب المؤتمر السوداني، الذي أظهر جدية ومصداقية.

لكن ضعف المعارضة لا يلغي حاجة النظام نفسه للتغيير؟

طبعاً، النظام اكتفى بجوقة الهتيفة والمطبلين وسائر من اشترى ولاءهم بالمال وبالوجاهة، واستغنى بهم عن شعبه وتلك غفلة كبيرة. فالشعب الآن بين خياريْن باهتيْن تمثلهما الحكومة والمعارضة معاً، وليس له في أيهما بارقة أملٍ لمستقبلٍ زاهر. ويبدو الآن أنّ الشعب، ممثلاً في فئة الشباب أصبح يتحرّك بعيداً عن هاتيْن الكتلتيْن. فالدعوة للعصيان التي جرت مُؤخّراً نبعت من قلب الشارع، وليس للمعارضة فيها يدٌ. بل إنّ محاولة ركوب قوى المعارضة موجتها، ومُحاولة اختطاف عجلة قيادتها من أيدي صانعيها وظُهُور قياداتها في الفضائيات الدولية، ربما يكون هو الذي جعل الاعتصام أقل قُوةً في المرة الثانية.

هل نفهم من هذا أنه لا فاعلية للأحزاب مُستقبلاً، مقابل القوى الشبابية النشطة؟

بطبيعة الحال لا يُمكن أن تقوم ديمقراطية بلا أحزاب. لكن أيضاً لا تقوم الديمقراطية، ولا تثبت إلاّ بأحزاب حقيقية وهذه غير موجودة. ينبغي أن تكون الأحزاب نفسها ديمقراطية داخل أجهزتها. فأحزابنا إما كيانات طائفية، أو عشائرية، أو شللية، تتسم ببطريركية معوقة للتطور. فهي أحزاب هرمت وفاتها قطار الزمن ولا يختلف في ذلك يمينها عن يسارها. لذلك، إذا لم تستطع هذه الأحزاب تجديد نفسها وإتاحة الفرص للشباب وللفكر الجديد والوجدان الجديد والخُلقية الجديدة، فإن إسهامها المُستقبلي إن حدث سيكون إسهاماً سلبياً مثل ماضيها. وسَيضيف رُكَامَاً جَديداً لركام خيباتنا التاريخية المدوية.

كيف تنظر لشباب الأحزاب الذين باتوا يُوظِّفون طاقاتهم خارج الأُطر الحزبية؟

كَانَ طَبيعياً جداً أن تفرز مُمارستنا السياسية الحزبية الخاطئة، التي ظلت سائدة منذ فجر الاستقلال، هذا التوجه بين الشباب الذين أصبحوا يقولون، إن الأحزاب لا تمثلهم. فقياداتنا الحزبية لم تتغيّر لا في الشخوص ولا في المفاهيم. ولا أعتقد أنها سوف تتغيّر بسهولة، فقد يبست على هذه الحالة وفات عليها الفوات أو كاد. ومع ذلك، لا نملك إلا أن نأمل في بروز قيادات شبابية تستطيع أن تعيد تشكيل هذه الأحزاب على نسق جديد يتسم بالديمقراطية. وواضح الآن أن للشباب المنظم داخل بنية الأحزاب وغير المنظم داخل بنية الأحزاب، معركة مزدوجة ضد النظام القائم وضد القوى والعقول القديمة وممارساتها القديمة، التي تتطلع لكي تخلف النظام القائم. وعموماً فإن مخاض إخراج أمة ناهضة من هذه الحالة السودانية المتردية والمعقدة في ذات الوقت، سيكون مَخاضاً طَويلاً. فليست هناك طلقة فضية نطلقها مرةً واحدةً، لتقضي على هذه الفوضى العارمة. ويهمني جداً أن أنبه في هذا الإطار، أن على شبابنا الرافضين للأحزاب أن يعتبروا بتجربة الشباب المصري الذي نظم ثورة سلمية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. لكن عندما وصلت الأمور إلى صندوق الانتخابات فاز الإخوان المسلمون. ثار الشباب مرة ثانية حين شعر أن ثورته سُرقت منه. لكن بؤس الواقع المصري وضيق الخيارات فيه، جاءت لهم بديكتاتور جديدٍ، وضح بعد وقت وجيز أنه أقل كفاءة من سابقه.

نسمع كثيراً أنّ سيناريوهات الانتفاضات قد تُكلف الكثير، خَاصّةً مع نظام استمر أكثر من ربع قرن، في رأيك، أي من وسائل التّغيير تَراها تُناسب حَالتنا؟

أعتقد لا يُمكن أن نستغنى بوسيلة دون أخرى. جاء في القرآن الكريم: (وقال يا بني، لا تدخلوا من بابِ واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقة). فالضغط يجب أن يأتي من مختلف الجهات. هناك ضغوط يجلبها النظام لنفسه بسبب سياساته الخاطئة. هذا النوع من الضغوط سوف يزداد في الفترة القادمة. فالنظام فَقَدَ كل أوراق اللعب. أيضاً هناك الضغوط الدولية والإقليمية، وهذه تزداد كلما تحرّك الشعب في الضغط على النظام.

أيضاً فتح التحول من نهج التظاهرات في الشوارع، إلى نهج الاعتصام في المنازل، نافذة جديدة. فالتأثير النفسي لمُحاولات الاعتصام هذه، على بنية النظام، وعلى مُؤيِّديه سيكون كبيراً جداً، لأنه سيقضي على الوهم أن لهم قاعدة شعبية داعمة. كما أنّه ذو تأثير كبير جداً على الإعلام الدولي، ما سيجعل الحكومات الغربية والمُنظّمات الدولية والقوى الإقليمية، ذات الصلة بالمشكل السوداني مُنتبهةً لضعف جماهيرية النظام، ومن ثم تجنب مغبة المواصلة في دعمه. ومن المحتمل أن تدفع الضُّغوط المُختلفة، النظام للدخول في مساومة حقيقية، تُمهِّد لانتقال تدريجي سلمي للسلطة ولتغيير المسار.

تكمن المشكلة الكبرى في مدى قدرة الثوار على تثبيت أحوال البلاد عقب انحلال قبضة النظام. فمن يظن أن هذا النظام لن يسقط، إما مجنون وإما أنه لم يقرأ سطراً من التاريخ. ومن الأفضل لنظام أن يدخل في مساومة تجنب البلاد الكوارث. فإن هو لم يسقط بالحسنى فسوف يسقط بغيرها. ما بدأ الآن، له ما بعده، طال الزمن أم قصر. ولذلك، فإن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح في إطار وضعٍ سليم للأولويات لا يتعلق بكيفية إسقاط النظام بقدر ما يتعلق بكيفية تثبيت البلاد من الانزلاق في الفوضى، وفي دوائر من العنف المتسلسل.

هل بالإمكان تجاوز هذه التحديات؟

لا ينبغي أن نقلل من تحديات المرحلة المُقبلة لأنها تحديات مهولة. نحتاج لمعجزة لتجنب السيناريو الليبي. فالبلاد مليئة بالجماعات المسلحة، وهي بلاد شديدة الاتساع، ضعيفة الاقتصاد ومحاطة بدول غير مستقرة، بل بعض هذه الدول المحيطة ملتهب جداً. وضع السلاح عقب سقوط النظام يمثل تحدياً كبيراً جداً. هذا التحدي ليس مرتبطًا، حصراً بسقوط النظام عبر ثورة شعبية. فحتى لو قبل النظام الدخول في مساومة، ورسم فترة انتقالية، لاستعادة الديمقراطية، وحكم القانون، فإنّ إلقاء السلاح من جميع الفصائل المسلحة، سيبقى تحدياً خطيراً ماثلاً.

تحدثت عن السيناريو الليبي، وكأنّه واقعٌ لابد منه؟

سمعت من يقول، إنّ البلاد تعاني حالياً مما هو أسوأ من السيناريو الليبي، فلا تخيفوننا به، ودعونا نجرِّب السيناريو الليبي، كخطوة أولى للخُرُوج من هذه الحالة غير المُنتجة، التي سجنتنا فيها الإنقاذ لربع قرن من الزمان. فالضحايا يسقطون الآن، كل يوم، والنظام باقٍ ولا بارقة أمل تلوح في الأفق، تبشر بالخروج من مُستنقع الموت هذا. فلماذا نتحسّب لسقوط الضحايا وللخراب، بعد ذهاب النظام، وهاهم الضحايا يَسقطون الآن أمام أعيننا كل يوم، والخراب يجري عَلى قَدمٍ وَسَاقٍ؟ هذا القول لا يخلو من منطق، رغم قتامته. فقد حدث مثل هذا السيناريو الجهنمي في منعطفات عديدة في التاريخ. ويحدث شبيه له الآن في كل من سوريا والعراق، على اختلاف الكيفية. وهو ذات سيناريو "الفوضى الخلاّقة"، الذي رسمت معالمه إدارة بوش الابن وروّجت له كوندوليزا رايس.

إذاً ما العمل لتجنب مثل هذا السناريو؟

الوضع الأمثل في نظري، أن تمارس القوى المعارضة نقداً ذاتياً جدياً، غير أنّ هذا التطلع يبقى بالقياس لسوء الحال القائم، مجرد أمنية، بل لربما يكون مجرد أمنيةً حَالمةً. فقوى المعارضة لم تُعوِّدنا المُراجعات الجدية. يحتاج الجميع، خَاصّةً أهل الأحزاب أن يمسكوا بلجام أنفسهم أمام بوارق التغيير. تحتاج الأحزاب أن تعمل بجدٍ على تفكيك بناها القائمة، غير المنتجة وإعادة تركيبها من جديد.

ماذا تقصد بإعادة تركيبها؟

أعني إعادة تخليق ذاتها في صورة جديدة، تسمح بتغيير القيادات التّاريخية، وجعل الطريق إلى القيادة مفتوحاً أمام الشباب، وأمَام العُقول الأجد، والوجدانات الأجد، والبنيات الأخلاقية الأجد. فظاهرة "الكَنكشة" في السُّلطة وفي الزعامة ليست حصراً على الإنقاذيين، وإنّما تنطبق على جميع قيادات القوى السياسية بلا استثناء. الجميع يظنون أن الزعامة حقٌّ ثابتٌ لهم وُلد معهم يوم ولدوا ويموت معهم يوم يموتون. و"الكنكشة" تعني انعداماً كلياً للحس الديمقراطي، وتعني، من ثم، عدم الاستعداد للتخلي عن عجلة القيادة. وهذا داءٌ عامٌ ظَلّ يطحننا منذ مؤتمر الخريجين.

هل يُمكن جر جُزءٍ مِمّن كانوا في النّظام، أو لا يزالون فيه، ليصبحوا ضمن جُهود الخُروج من الأزمة؟

لا ينبغي أبداً أن نستبعد خيار المُساومة، رغم أن النظام لا يزال يتحدث بنفس الرعونة القديمة. لا يوجد، في تقديري، مخرج آمن من هذا الوَضع الشّائك، سوى إجراء مساومة تاريخية كبيرة، وشاملة. لكن لابد أن تتوفر لمثل هذه المساومة عوامل جوهرية. منها أن ينبثق من داخل النظام صوتٌ للعقل. وبنفس القدر أن ينبثق وسط قوى المعارضة الحزبية والمُعارضة الجماهيرية غير الحَزبية، صوت للعقل أيضاً. وينبغي أن تبدأ هذه المساومة بتشبيك القوى ولَم شَعث القافزين من سفينة الإنقاذ وما أكثرهم، إلى التَّيَّار العام. ولابد من القول هنا، إنّ الحوار الوطني الذي طرحته الحكومة، كان مجرد مُناورة سَاذجة لمزيدٍ من الشرعنة للاستبداد، ولا غرابة أن وُلد ميتاً، ولم يستقطب سوى أهل الإنقاذ، ودائرة أصدقائهم المُنتفعين بهم، وغيرهم ممّن لا يُعارضون أيِّ نظام مهما كان.

ما هي مطلوبات (المساومة) التي تتحدّث عنها، في نظرك؟

أولاً: تقتضي هذه المساومة التاريخية أن تُعلن القوى التي تحمل السلاح في مُواجهة نظام الإنقاذ، أنّها سوف تتخلى عن سلاحها حَالَ تَغَيّر النظام. فهناك جمهورٌ عريضٌ لا يحب النظام القائم، ويتمنى زواله اليوم قبل الغد، لكنه في المقابل، لا يثق في القوى الحاملة للسلاح. ومن الغفلة أن نظن أنّ حوادث التاريخ وما جَرّته من كَراهيات عِرقية وتوجسات، ومَخاوف، لم يعد لها تأثيرٌ، فهي مُؤثِّرة بأكثر مما نتصوّر. ولقد لعبت الحكومة على بطاقة تعميق خوف أهل الوسط من أهل الهامش، بكفاءة كبيرة.

ثانياً: تقتضي المُساومة تصور لدولة فيدرالية حقيقية، يجد فيها أهل الهامش أنّهم أسياد مصير أقاليمهم. لابد أن يُخرج المركز نفسه من هذه الدّوامة الشريرة التي أدخل فيها نفسه منذ الاستقلال، وهي دوامة الهيمنة على الجميع وهضم حُقُوق الجميع. إذا صفت العقول وطابت النفوس، واتسعت آفاق الحلم، يَصبح حل مَعضلة السُّودان المُزمنة أيسر ممّا نتصوّر بكثير. نحن الآن في مُنعطف يقتضي أن يتفوّق كل منا على نفسه، فيصبح قادراً على الاتفاق مع الآخرين، على الحدود الدنيا الضرورية، التي تجعل الحراك نحو المُستقبل مُمكناً. وهذا يقتضي استعداداً للتنازل ولتقديم بعض التضحيات.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



جاء فى الموضوع أعلاه عن رحلة زين العابدين التونسى للسودان:


صورة



ويعجب المرء لبلدة ليس فيها ما يُلفت نظر رحالة، بل تستدعى إشمئزازه، أن يجعل منها البعض نقطة تحول السودان نحو الحضارة ومنشأ ورمزاً للثقافة والهوية السودانية !!؟

أما حديثه عن كردفان ودارفور وودّاى فجاء مختلفاً، ربما لأن نسخة الإسلام التى تمثّلوها جاءتهم من عُربان الأندلس بعد سقوطها:



صورة



وأورد زين العابدين معلومات هامة فى التالى:




صورة


لاحظ وجود آثار حضارة وادى النيل فى غرب السودان حتى نواحى دارفور وودّاى، ينفى كذبة حدود هذه الحضارة حول الشريط النيلى فقط. وقد علمت من أحد أقارب نجم الدين شريف، مدير متحف السودان الأسبق، بأن الأخير قال له أن مواقع التنقيب الآثارى المُقترحة تصل حتى دارفور، ورغم أنه حزين لأن الإمكانيات تحول دون القيام بهذا التنقيب، إلاّ أنه مطمئن لنجاة هذه الآثار من السرقة لأنها مدفونة تحت الرمال. إن هجين الشريط النيلى الشمالى يبخل على الهامش حتى مجرّد المشاركة فى هذا التاريخ القديم فجعلوا حدوده فى خرائط مناهج التاريخ لا تتعدّى ضفتى شريط النيل !!؟

أما سلوك الأهالى السودانيين، الذى جاء نهاية الفقرة عاليه، الرّافض والعنيف تجاه آثار حضارة وادى النيل القديم، وتعليق الملك عند رؤيته لهذه الآثار: "بالتأكيد كانتا صنعتا على أيدى جن لسيدنا سليمان بن داؤود عليه السلام" !! .. وهو ما ورد فى الفقرة التالية، فتوضح مدى الإنقلاب الذى حدث لذهنية السودانيين بعد تمثلهم لهذه الثقافة:



صورة

آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الأربعاء يناير 18, 2017 9:08 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



معذرة يا النور .. لطول الإقتباس فضّلت عمل إسكاننج لصفحات المجلة، ولحين معالجة مشكلة الصور فى الموقع سأحاول فى أقرب وقت نقل النقاط المعنية فى موضوع المجلة.

ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



ورد فى المقال عن سنار:

- {سنار وصلها المؤلف عن طريق مصر وأقام بها تسعة أشهر إلاّ أنه لم يورد عنها تفاصيل كثيرة وإكتفى بوصفها بعدم التحضّر فى ذلك الوقت: (تلك الأرض التى ليست بها ملذات ولا حضارة منظمة، والتى ليست بها تلك الحُلة من المبانى التى تعطى بلدان أخرى صفة العروس الشابة).

- {عثر المؤلف على آثار مدينة بأحد الأودية وعدم إدراك الأهالى لذلك، ومن بين هذه الآثار قبر على شكل تابوت مغطى بغطاء مماثل لأغطية القبور المصرية المنحوتة من الرخام يحتوى على سبيكتين من الذهب وصفيحة من النحاس كتب عليها بعض السطور لم يستطع المؤلف قراءتها. من بين الآثار كذلك عمود حجرى طوله خمسة أذرع صنع بفن وحذق لا يوجد له مثيل إلاّ فى مصر، وصنم ذا وجه آدمى مصنوع من الحجارة وأربع قطع نقود ذهبية نقش وسطها وثن الشمس (صورة الشمس)، كذلك ساريتين وباب من الحجر وقطع ذهبية عديدة على شكل سبائك مدورة ضربت على صورة إله الشمس، وكان الأهالى يحاولون إتلاف صورة الشمس متى ما وجدوها.}

- {تعجب الملك من جمال الساريتين حتى قال مندهشاً: "بالتأكيد كانتا صنعتا على أيدى جن لسيدنا سليمان بن داؤود عليه السلام".}




صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

شكرا يا ياسر
سوف أسعى بشدة لاقتناء هذا الكتاب
مع التقدير
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
موسى مروح
مشاركات: 172
اشترك في: الأحد نوفمبر 06, 2011 9:27 am

في الرعاة والأعراب والرموت كنترول

مشاركة بواسطة موسى مروح »

الأخ الدكتور النور حمد،
قرأنا لك من قبل ما هو أفضل من هذه المقالات بكثير.
وقد سبقني الأخ الدكتور عبد الله على ابراهيم وآخرون للتنبيه إلى المناقص الأكاديمية الأساسية التي تعتري منهجك. وهي مناقص تركتها للمنتبه من قرائك في العراء، وكنت أتمنى لو اجتهدتَ أكثر في تمحيصها، وكان حقاً عليك ذلك، بما أنك تريد أن تتصدى لموضوع بالغ الجدية، وهو إعادة قراءة تاريخ السودان على ضوء جديد.

أول هذه المناقص وأبسطها كما ذكر الدكتور هو أنه ليس لديك تعريف ضابط لما تعنيه ب"العقل الرعوي،" لكنك رغم ذلك بنيت نظريتك بكاملها تقريباً على ذلك التعريف، الذي جمعت فيه بين نظريات أعراق البشر غير المؤكدة (إن شئنا ضبط النفس)، والضيق المعرفي بما هو مختلف عما تعودتَ عليه من أساليب حياة الناس، ونظريات التفوق الحضاري البرجوازية، وغير ذلك مما ثبت خطله من بعضٍ من فلسفات أوربا القرن التاسع عشر، الوالغة في العنصرية واحتقار الشعوب المخالفة لهم مظهراً، والتي أتت لنا ب"الاستعمار" والحروب العالمية والعدوان المستمر على موارد هذا الكوكب في عملية سطو رأسمالية لم يشهد لها التاريخ البشري المعروف مثيلاً. لذلك أتت مقالاتك هذه في نظري مثل "لحم راس" أقرب للتداعي الحر منه إلى التجويد والحذق، وغيرهما مما يميز البحوث الجادة عن غيرها.

ثم أتيت فقلت إن ضبط مصطلحاتك لا يهمك "فإن اتفقنا على وجود الظاهرة، وضرورة البحث فيها، لا يهم أي مصطلح نطلقه عليها." هذه يا دكتور من نوع العبارات الكفيلة لوحدها بصرف القارئ الجاد عما تكتب هنا. وقول دكتور عبد الله أن هذا "إلحاد أكاديمي" من جانبك يصعب الإتيان بما هو أفصح منه.

يا دكتور، الكثيرون منا لا يتفقون معك في الأساس في وجود "ظاهرة" سودانية تسبب فيها هذا "العقل الرعوي"، بل لا يتفقون معك على هذا المصطلح نفسه، فكيف إذن سنبحث ونقِيم النظريات ونقعدها؟ وكيف نصل إلى اتفاق لم تشركنا معك في تعريف
مفاهيمه؟ إذا كنتَ تريد أن تفسر لنا تاريخ السودان السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بكل ما يحمل ذلك من تعقيد، وتفصِّل لنا أسباب أمراضنا الحضارية المستعصية، فإنه من حقنا أن نتساءل عن أي مرض تتحدث. هل هي الملاريا الحضارية تلك التي أقعدت بنا، أم التايفويد، أم الحمى الصفراء، أم ذات الجنب؟ أم خليط من هذه وتلك؟ هذه كلها أنواع تتشابه فيها بعض الأعراض أحياناً، لذلك نطالبك بالتدقيق فيما تقول لإن دقة تشخيص المرض لا غنى عنها في وصف الدواء، وإلا أصبحنا مثل طبيب تشابهت عليه الأمراض، فما أن يأته مريض يشتكي من الحمى، إلا صرف له كلوروكوين.

نقطة التدقيق هذه مرتبطة بالضرورة بمجمل روح التعميم المخلّ الذي ساد مقالاتك هذه. لكني سأكتفي من هذا بمجمل ما أورده الدكتور عبد الله، فقد أحسن التفصيل والقول.

ما أود إضافته هنا هو نقطة أخرى وهي أن حسابك يا دكتور "لا يجمع"، كما يقولون. ففكرة أن السودان كان نقياً ومتحضراً لولا قدوم الأعراب الهمج إليه لا تتناسب مع ما نعرفه عن تاريخ السودان السياسي، وهو أن القيادة السياسية فيه منذ أقدم التاريخ وحتى اليوم ظلت عموماً حكراً على النخبة النيلية، التي يفترض حسب رأيك أنها ذات حضارة. ولكن هذه النخبة الوالغة في المال والقوة السياسية والعسكرية، مقارنة بغيرها، لم تستطع فكاكاً عبر القرون من هذا "العقل الرعوي" الذي أتاها من الخارج، رغم أنه لم يهزمها عسكرياً حتى يخضعها بالقوة، ولم يشاركها في السلطة حتى يؤثر فيها فكرياً، ولكنه أثّر فيها رغم ذلك، تأثيراً عميقاً أمتد عبر القرون!!! كيف يستقيم ذلك يا دكتور؟ ما هو المنطق الذي استخدمته لإثبات حصول هذا التغيير الهائل الممتد، رغم انتفاء أي وسيلة معقولة أو حدث تاريخي معروف يمكن ربط هذا التغيير الهائل به؟

هؤلاء "الرعاة" ظلوا منذ دخولهم السودان وحتى اليوم على الهامش السياسي والاقتصادي للبلاد، فلو قلتَ إنهم تَركوا هذا التأثير الهائل على حياتنا الفكرية والسياسية رغم ذلك، فهل هذا دليل على شرّانية "عقلهم الرعوي" أم خيبة عقلنا النيلي سليل الحضارات التليدة، الذي ظل يتهرب منذ الاستقلال عن مسؤولياته تجاه شعوب السودان التي يقودها، ويلقى باللائمة دائماً على الآخر المختلف، لأكثر من ستين عاماً الآن؟ فتارة سبب تأخرنا هو الأتراك وتارة الانقليز والمصريون، وتارة شعوب جنوب السودان وغيرهم من المهمشين، والآن أتى الدور على ما يبدو على "رعاة" السودان الذين يدفعهم "عقلهم الرعوي" للتقاتل والتعارك "بسبب أمور تافهة مثل سرقة بهيمة، أو ثأر،" على حسب تعبيرك. لماذا لا تطعن يا صديقي في فيل النخبة النيلية الحاكمة التي ظلت تسرق موارد السودان جميعها منذ "الاستقلال"؟ إن تحميلك "العقل الرعوي" أوزار تأخرنا يوشي بأن تلك السرقة قد تكون عندك أتفه من "بهيمة" الأعراب تلك، وأتفه من أن تريق مدادك عليها. فهل هذا ما تقصد؟ وماذا عن الملايين من السودانيين الذين ماتوا في حروب النخبة النيلية أو ما ينتج عنها من مجاعات ومرض، في الجنوب وفي دارفور وفي هوامش السودان الأخرى؟ هل ثمن حروب النخبة النيلية، الذي دُفعتْ في سبيله أرواح ملايين السودانيين، هو أيضاً أتفه من عدد الذين ماتوا في ثارات الأعراب؟ هذه هي نوع الأسئلة التي وردت لذهني وأنا أقرأ مقالاتك هذه.

لو كنت مكان الدكتور لحمّلت مسؤولية تأخر السودان لمن تسبب فيه في الحقيقة لا الخيال، وهم قادة السودان النيليون، الذين لم يكن بينهم أعرابياً أو راع على حد علمي، ولما طفقتُ أنتقي من التاريخ تفاسير تتكئ على شبهة العنصرية، وتخلط بين الأسطورة والعلم، ولتعلمت من رعاة السودان، من الدينكا إلى الكبابيش، كيف "أنجِّض" صنعتي. فقد انبرى الدكتور بقلمه لتحليل هذه الأزمة المعقدة بمقاربة موغلة في التبسُّط، فأصبحت مقالاته جزءاً من الأزمة التي أتى لحلّها.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

الزكانة والحصافة و(الحساسيّة الخلاقة) في إنتقاء التعابير هي نصف الطريق الذي يعبر بالنظريّة - إن كان ثمة نظرية - إلى عقول الناس، ولا أقول قلوبهم.
ماذا لو اختار العزيز الدكتور النور حمّد تعبير "العقل الهمجي" عوضاً عن "الرعوي" - عنواناً لنظريته التي كادت أن تصبح كتاباً منيراً عند البعض ..
والرعي مهنةٌ لا تُعيب .. إمتهنها الأنبياء من لدن داؤود وحتي محمد خاتم المرسلين ، ويمتهنها أكثر من ثُلث سكان السودان - بالقديم - 😊 ... لو فعل لأغنانا عن كثير من التهارج الذي لا يُجمِّل ولا يفيد.



تعليق من الصديق
رشاد عثمان من نواحي الفيسبوك
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »


سيكون مفيداً جدا يا النور لتوضيح الإنعكاسات السلبية للسلوك الرّعوى على السلوك المدينى، الإستعانة بصور قديمة، تدعّم بها مبحثك هذا، لمدينة الخرطوم وهى تتخلّق وفقاً لحداثة الهندسة المعمارية الأوروبية، كما هو فى الصورة التالية التى توضح عملية هذا التخلّق لأهم شارع فى الخرطوم وهو شارع القصر:

صورة

***

ومقارنتها بصورة حديثة لنفس الشارع من نفس الزاوية لما آل إليه حال هذا الشارع بعد تغوّل العقل الرّعوى على ما ثابر فى إنشأئه العقل المدينى بصبرٍ وتفان.

وبينما يقتضى الأمر منك مزيداً من التوضيح للمقصود بمفهوم "بنية العقل الرعوى"، والذى أرى أنه مفهوم محايد لا يُقصد به القدح فى أسلوب معيشة المجموعات الرعوية حصراً، فهى لا تُلام على أسلوب حياة لن يتسنّى لها مواجهة الحياة والبقاء بدونه، ولكنها تستطيع الخروج والتخلّص منه متى سنحت لها الفرصة وتهيّأت لها الأسباب. وهو، فى نفس الوقت، سلوك لا تسلم منه المجتمعات المدينية إذ تفرضه ظروف معينة للتبدِّى فيها (نموذج هتلر/ترامب).

ولحيادية هذا المفهوم، نجد أن العقل المدينى والمجتمعات المدينية تاريخياً تخرج من بنية العقل الرّعوى والمجتمعات الرّعوية، فالمجتمعات الأوروبية التى تتصدّر قائمة الحضارة والسلوك المدينى اليوم، خرجت من أكثر المجتمعات الرعوية همجيةً ووحشيةً (البربر/الفايكينج). وأخطر مجتمع رعوى عُرف فى التاريخ البشرى، خرجت أسرابه كما الجراد وكاد أن يقضى بوحشيته على ميراث المجتمعات المدينية المنتشرة من الشرق الأدنى والأوسط وحتى أوروبا، هم التتار بقيادة "جينكيز خان"، ولكن بعد ما قام به من خراب وعندما إمتصّت مدينية المجتمعات الزراعية الجريحة حرارة جيوشه المتوحشّة، خرج من هؤ لاء البرابرة ما يُعرف بأفضل الحقب الحضارية فى التاريخ الإسلامى فى عهد إبن "جنكيز خان" وهو "هولاكو" !

وفى العصر الحديث، ظل شيخ زايد حاكم الإمارات، فى سعيه لنقل مجتمع الإمارات من العقلية الرعوية للعقلية المدينية، يردد مقولة: "أعطنى زراعة أعطك حضارة"، ولأن المقولة أُطلقت فى الأساس لإرتباط الحضارة تاريخياً بالزراعة بالضرورة، فإن هذا لا يعنى أن التحول إلى النمط الزراعى كافٍ لإنتقال المجتمع ميكانيكياً من السلوك الرّعوى إلى السلوك المدينى، فبنية العقل الرّعوى مُحايدة، وهى إن كانت ترتبط فى الأساس بأسلوب معيشة المجتمعات الرّعوية، إلاّ أن هذا لا يعصم المجتمعات الزراعية المدينية من ظهورها فيها، فالأخيرة تستبطن العقل الرّعوى كشفرة الجين، لأنه مرحلة قديمة مرّت عليها المجتمعات المدينية فى سيرورة إستئناسها لهذا العقل وتملّكها للعقل المدينى.

غير أن ما حدث لنموذج مجتمعنا المدينى القديم فى السودان غريب وفريد من نوعه، فما حدث ليس إنتقال من الرّعوية إلى المدينية كما هو عادةً يحدث فى تطوّر المجتمعات البشرية، وإنما بعد وصول مجتمعات النيل الأوسط للمرحلة المدينية عبر تطوّر تاريخى طويل، تدهورت بشكلٍ مخيف حين أصابتها وحشية العقل الرّعوى ! وحتى هنا لا تثريب، فلدينا نموذج التتار الذين إستأنسوا وتمدينوا فإنبثقت عنهم حضارة يُشار لها بالبنان، فما بال تتار مَنْ خرّب سوبا ؟؟!! مالهم ظلّوا متوحشين ولم ينتج عنهم سلوك مدينى وحضارة تفوق أو تقف نداً لما قاموا بتخريبه ؟ أيكون ياترى لأنه بعد الخراب، نزحوا بعيداً عنه بوادٍ ليس ذى زرع ؟ تُرى أكنّا سنحظى بنموذج "هولاكى" إن مكثوا وسط الخراب المدينى؟
فى رأيى أنه فى نوعية العقل الرّعوى لمؤسسى أول دولة إسلامية فى السودان تكمن الإجابة.

ــــــــ

*** نقلاً عن مجموعة الصور التاريخية بالفيس بوك.

أضف رد جديد