والبندر فوانيسوالبيوقْدن وقَدَن : ما وراء رسالة عبد الله

Forum Démocratique
- Democratic Forum
عبد الجبار عبد الله
مشاركات: 46
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 6:54 am

مشاركة بواسطة عبد الجبار عبد الله »


ليس كل ما يلمع ذهبا"

في نقد المفاهيم (8)

أيُّ نهج في علم التاريخ وفلسفة التاريخ يا بروف؟



وكان شمولياً هواها...

الجبهة الإسلامية القومية وسيناريوهات الثورة المضادة لانتفاضة أبريل عشية 30يونيو 1989[/b]


"في الزمنِ اليباب
ليس سوى الثعلبِ والحرباء
والحيّةِ الرقطاء
في حفلهم هذا الذي تتويجُهُ الغُراب"

(محمد عبد الحي-ديوان الله في زمن العنف)

استكمالاً للقول في الحلقة السابقة بأنه من رحم المصالحة الوطنية تناسل الطفابيع ..انسلَّ الغول وما زال ينعق في سماء بلادنا طائر الشؤم منذ 27 عاماً، تأتي هذه المناقشة لإلقاء الضوء على تكتيكات الثورة المضادة وآليات تقويض الديمقراطية التعددية التي أسفرت عنها انتفاضة مارس-أبريل 1985 حثاً للخطى نحو انفراد الإخوان المسلمين بالسلطة على مدى 27 عاماً. وليس السرد التاريخي غاية في حد ذاته بالرغم من أهميته، وإنما تكمن أهمية السرد في أسئلة التاريخ الموجهة إلى الدكتور عبد الله على ابراهيم في نهاية المقال، في سياق موقفه التاريخي من المصالحة.

وعلى سبيل التمهيد، كان صعود الجنرال ماكبث –في مسرحية وليام شكسبير الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه- إلى العرش الملكي في اسكتلندا قد بُني على نبوءة ثلاث ساحرات وكذلك كان سقوطه المأساوي. وكان تسنّم دست الحكم دموياً إذ تحتم عليه قتل الملك "دنكان" الحاكم وقتئذ والخوض بعده في بركة من الدماء إخفاءً لأثر جريمته الكبرى، في حين كان مصرعه –حسب النبوءة- على يد شخص لم تلده امرأة وتتبعه غابة كثيفة من الأشجار تسير من خلفه.

وفي الحالة السياسية السودانية التي نتحدث عنها، كانت نوايا "التمكين" المبيّتة منذ مصالحة نميري في عام 1977 هي النبوءة التي شيّد عليها الإخوان المسلمون قصر أحلامهم وتطلّعهم إلى الانفراد بالسلطة إرهاصاً واستباقاً. ومثلما كانت الفكرة وراء الانخراط في المصالحة هي تقويض أطرافها المتحالفين معهم من الداخل، بما فيها نظام مايو الحاكم حينها، فقد سرى المخطط والنهج ذاتهما على الفترة الانتقالية التي تلت انتفاضة مارس أبريل 1985 والحكومات الديمقراطية التي أعقبتها، وصولاً إلى انقضاضهم العسكري أخيراً على النظام التعددي الديمقراطي في يونيو 1989.

وفقاً لهذا الافتراض –الذي يؤكده الواقع والممارسة الفعلية- لم تكن فترة السنوات الخمس الفاصلة بين سقوط نظام نميري وصعود الإخوان إلى السلطة في عام 1989 سوى شوط من أشواط التمرين والاستعداد وحشد القوى وحضّها على الانقضاض على السلطة والانفراد بها كهدف استراتيجي ما برحوا يخططون لتحقيقه منذ عام 1977. هذا ما أفصح عنه الترابي ضمنا وتصريحاً في أكثر من حلقة ضمن شهادته على العصر في قناة الجزيرة بقوله "كانت لنا خطة أخرى معدّة منذ السبعينيات وهي أنه لا بد لنا من الوصول إلى السلطة، عبر ثورة أو انقلاب عسكري. وقد كشفت لنا تجربتنا مع الأحزاب أنها تنزع الحكم منا حتى حين ندخل معها ولذلك قررنا أن نصل إليها منفردين وأن يكون لنا مشروعنا الخاص، لا شركاء آخرين معنا. (انظر الدقيقة 28:20 من الحلقة السابعة في الرابط أدناه).

https://www.youtube.com/watch?v=uIlkWj7uGa4


وبالمنطق نفسه، لم تكن فترة الديمقراطية الثالثة القصيرة تلك بالنسبة لهم سوى عقبة كأداء من "الشراكة الديمقراطية" التي ابتلوا بها ابتلاء –حسب قاموسهم السياسي- إلى أن تهيأت لهم الظروف المواتية لتجاوزها والانقضاض عليها وهي لم تزل في مهدها. ويستطرد الترابي أكثر في تأكيد هذه الفكرة في الحلقة التاسعة من شهادته، وهي الحلقة التي يفصّل فيها كيفية تخطيط وتنفيذ انقلابهم –تحت قيادته- في 30 يونيو 89 تأسيساً على "كُفرهم" بالديمقراطية النيابية وانقطاع عشمهم فيها بشتى الدعاوى والحجج والذرائع.

وبذلك فقد عقدوا العزم منذ وقت باكر على أن امتطاء صهوة الجواد العسكري هو السبيل الوحيد المؤدي إلى استراتيجية التمكين والانفراد بالسلطة. ولكن على مستوى التكتيكات كان لا بد من التغلب على عقبة الديمقراطية التي برزت أمامهم في أبريل من عام 1985. فكيف السبيل إلى ذلك؟ هنا يأتي دور تفعيل آليات "الثورة المضادة" للانتفاضة مستغلين في ذلك مكامن الضعف الهيكلي في أداء النقابات والأحزاب والقوى السياسية التي تولت قيادة الانتفاضة حينئذ. ولن نضيف جديداً نظرياً بالقول بأن الثورة المضادة counterrevolution عادةً ما تقودها القوى السياسية والاجتماعية التي ليست لها مصلحة في تغيير الوضع القائم قبل الثورة - وأن عدوّها يتمثل هنا في التحول الديمقراطي الذي أعقب الانتفاضة بسبب تعارض النظام الديمقراطي التعددي الذي تمخض عنها مع المصالح الطبقية والسياسية لقوى الثورة المضادة، ممثلة في هذه الحالة في الجبهة الإسلامية القومية بما راكمته من رأسمال طفيلي خلال سنوات المصالحة، وما اكتسبته من نفوذ سياسي اقتصادي وقتئذ. وقد آثرت الجبهة الإسلامية الانفراد بالسلطة دفاعاً عن هذه المصالح وحفاظاً عليها، وليس دفاعاً عن الدين ولا الشريعة الإسلامية اللذين جعلت منهما ذريعة ومسوّغاً لخروج ممثليها من البرلمان ومن ثم المضي في طريق تنفيذ انقلابهم في 30 يونيو. وأكثر ما يفضح هذه الحجة أن نظام الإنقاذ لم يعلن عزمه على تطبيق الشريعة الإسلامية إلا في فبراير 2011، أي بعد مضي 22 عاماً من استيلائهم على السلطة والانفراد بها. (انظر الرابط التالي عن خبر تطبيق الشريعة) بل الواقع أنهم لم يطبقوها إلى اليوم، وما أطول حبل الكذب خلافاً للمثل الشعبي الدارج!

https://archive.arabic.cnn.com/2011/midd ... an.sharia/



كيف بدأ تفعيل تكتيكات الثورة المضادة؟ هذا ما نجد الإجابة عنه في إفادات الأستاذ محجوب محمد صالح وروايته لوقائع ليلة 5 أبريل 1985 بمناسبة ذكرى انتفاضة 6 أبريل (انظر جريدة الأيام الصادرة 6 أبريل 2002): كان د. أمين مكي مدني حلقة الوصل بين الأحزاب والنقابات. وعُقد اجتماع حضره مندوبون عن حزب الأمة والحزب الاتحاد الديمقراطي والحزب الشيوعي وممثلو نقابات الأطباء والمحامين والتأمينات وأساتذة الجامعات والمصارف، طُرحت فيه مسألة تصور ما بعد نجاح الثورة. ودخل الاجتماع في تفاصيل لم يحن وقتها، فتشدد بعض النقابيين وطرحوا آراء في غاية الحدة والتطرف. فقال مندوب حزب الأمة وهو يتأهب للانصراف "الحشاش يملا شبكته" ولم يكن عمر نور الدائم وقتها يمثل نفسه بل حزب الأمة وهو حزب له وزنه. وكان التصور المطروح لشكل الحكم قيام حكومة مشاركة بين الأحزاب والتجمع النقابي، وقد استمر هذا الاتجاه حتى بعد تدخُّل الجيش، وكان يمكن أن يتبلور حتى يتحقق ولكن للأسف تدخّل بعض النقابيين، وبصورة محددة الأطباء، وبصورة أكثر تحديدا د. الجزولي دفع الله الذي أصرّ على أن تكون حكومة مستقلين فقط. وهذا واحد من أهم أسباب ضعف مجلس الوزراء الانتقالي.

ويستنتج الأستاذ محجوب في معرض تلك الذكريات أنه " لو استمر الإضراب السياسي دون تدخّل الجيش، ونجحت الأحزاب والنقابات دون تدخّل الجيش في إسقاط النظام، لقامت ثورة بمعناها الحقيقي ولأنجزت ميثاق الانتفاضة بالصورة المطلوبة".

ويقول الأستاذ محجوب عن الإخوان المسلمين: كانوا يائسين ومعزولين يرابطون أمام بوابة القيادة العامة في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني فوجئنا بهم داخل الاجتماعات، فسجَّلنا احتجاجا صارخا على هذا الوضع الشاذ وهددنا بالانسحاب باعتبار أن الأخوان امتداد للاتحاد الاشتراكي. ولكن للحقيقة وللتاريخ، فإن السيد عثمان عبد الله ساندهم، وفي تقديري أن هذا حدث باتفاق بينه ود. الجزولي دفع الله.

وفي المنحى ذاته، ذهب د. عدلان الحردلو، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم وأحد القيادات البارزة في التجمع النقابي إلى القول: الأسباب التي أدت إلى إجهاض الانتفاضة كثيرة، أبرزها الإجماع الشعبي على إسقاط نميري فقط، على أساس أن إسقاطه حل لكل المشاكل. وثانياً، رفع الإضراب السياسي قبل أن تتحقق المطالب التي رفعها التجمع. وفي اليوم الذي أعلن فيه المجلس العسكري انحيازه للشعب بدأ إسقاط الانتفاضة. فقد كان للمجلس العسكري صلات بالجبهة الإسلامية القومية، وأدت هذه الصلات إلى قيام المظاهرات التي أحاطت بالقيادة العامة يوم الاثنين، وكذلك أقال المجلس العسكري الضباط الـ13 الذين كانوا وراء التحرُّك من الجيش. وكان المجلس العسكري متخوفا من أن الانتفاضة قام بها اليسار وأنهم سيستولون على السلطة.

وعلى صعيد آخر قال د. لام أكول "المجلس العسكري أجهض شعارات الانتفاضة التي من بينها إلغاء قوانين سبتمبر 1983. وعند تكوين الحكومة الانتقالية، أخطأ التجمع بتقديم د. الجزولي دفع الله وميرغني النصري، واختار المجلس العسكري الجزولي دفع الله لأنه الأقرب أيديولوجياً. وبذلك فقد التجمع المبادرة.

وهذا ما أكّده تصريح للفريق محمد عبد الرحمن سوار الذهب –رئيس المجلس العسكري- عقب صلاة الجمعة بمسجد القوات المسلحة يوم 5 أبريل 1985: إن الشريعة التي أعلنها نميري باقية، وإن نميري الذي أعلن الشريعة باقٍ ولن ترهبنا مظاهرات الشيوعيين (انظر يوميات الدولة الإسلامية، عبد الماجد عليش، دار عزة للنشر، ص 71). وفي الحلقة السابعة من شهادته على العصر، قال الترابي إن سوار الذهب كان متردداً في رئاسة المجلس العسكري بعد الانتفاضة.

وهكذا استمرت تهيئة الظروف المواتية لتقويض الديمقراطية من داخلها والانقضاض عليها وصولاً إلى مرحلة الانتخابات العامة التي أُجريت في عام 1986، سواء من حيث وضع قانون الانتخابات وتوزيع الدوائر الجغرافية ودوائر الخريجين، أم من حيث الرقابة على إجراءات التصويت وفرز الأصوات، بل وإجراء الانتخابات في بعض المناطق التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي والأمني كما هو الحال في جنوب السودان.

فحينها، كان قد اعترض المجلس التنفيذي العالي الانتقالي للإقليم الجنوبي على القرار القاضي بإجراء انتخابات جزئية في الأقاليم الجنوبية، وجدد المجلس مطالبته بتأجيل الانتخابات في الأقاليم.

كما احتج مواطنو دارفور وحزب الأمة على تقسيم دوائر الإقليم التي قدمتها اللجنة بحجة أنها لا تناسب الكثافة السكانية ومساحة الإقليم. وثارت الاحتجاجات أيضا على تقسيم الدائرتين الجغرافيتين 41 و51 في غرب أمدرمان وكذلك الدائرة 49 حيث اتهم ممثلو الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة ضباط الانتخابات بمحاباة الجبهة القومية الإسلامية وتقسيم الدائرتين بالشكل الذي يرجّح الكفة لفوز مرشح الجبهة.(انظر الانتخابات البرلمانية في السودان 1953-1986، أحمد ابراهيم أبو شوك والفاتح عبد الله عبد السلام، مركز عبد الكريم ميرغني، ص 200).

ثم أتت الضربة القاصمة لظهر قوى الانتفاضة –لصالح قوى الثورة المضادة بطبيعة الحال- برفض تخصيص دوائر انتخابية للقوى الحديثة. وكان التجمع الوطني الذي عرّف هذه القوى قد طالب بتخصيص نسبة 20 في المائة من جملة الدوائر الجغرافية. وفضلا عن ذلك دعا التجمع إلى تخصيص 9 دوائر للمرأة و5 دوائر للمغتربين. وفيما يتعلق بتمثيل القوى الحديثة، كان ذلك ما طالبت به الأحزاب السياسية الفاعلة في الانتفاضة أيضا. وكان من أكثر الجهات تمسكاً بضرورة تمثيل القوى الحديثة، الحزب الشيوعي الذي اقترح أن يكون العدد الكلي للدوائر الانتخابية 390 دائرة، منها 280 دائرة جغرافية و110 دائرة للقوى الحديثة.

ولكن حُسم ذلك النزاع بموجب القرار الذي اتخذه الاجتماع المشترك للمجلس العسكري ومجلس الوزراء الانتقاليين بتاريخ 8 فبراير 1986، والذي رفض فيه تمثيل القوى الحديثة والاستعاضة عنه بتخصيص دوائر الخريجين إلى جانب الدوائر الجغرافية. (المرجع نفسه، ص 202).

وبذلك، نجح الإخوان في تفعيل كل تكتيكات وآليات الثورة المضادة عبر التدخل العسكري بمنسوبي الجبهة والمتحالفين معها قطعاً للطريق أمام الانتفاضة، إضافة إلى التدخل في تشكيل المجلس الوزاري الانتقالي –بذريعة الاستقلالية والحيادية وعدم الانتماء الحزبي- وأخيراً تفصيل العملية الانتخابية نفسها حسب مواصفات التنظيم الإخواني ومقاييسه. وبهذا التدخل الأخير أمكن للجبهة الإسلامية الفوز بالمركز الثالث في الدوائر الجغرافية واكتساح معظم دوائر الخريجين، في حين أُُقصيت القوى الحديثة الصانعة للانتفاضة من حلبة المنافسة وخرجت من مولد الديمقراطية الوليدة الناشئة "بلا حُمّص".

ويُستكمل هذا المشهد -ليس بسبب هشاشة الممارسة الديمقراطية وضعف الحكومات التي تعاقبت على سدة الحكم بعد الانتفاضة فحسب- وإنما بتحيّن الإخوان المسلمين لكل الفرص المواتية المؤدية بهم إلى أقصر الطرق نحو الانفراد بالسلطة والانقلاب على النظام الديمقراطي التعددي الذي أعلنوا كفرهم به وعقدوا العزم على نحره في مذبح التاريخ. وكانت مجمل الظروف والاضطرابات والاحتجاجات النقابية التي بلغت ذروتها بتقديم مذكرة الجيش الشهيرة في 22 فبراير 1989 التي طالبت الحكومة بتحديد خيارها بين السلام أو الحرب واقترحت فيها تشكيل حكومة واسعة للإنقاذ الوطني، وفي المقابل إعلان الجبهة الإسلامية من جانبها عدم المشاركة في الحكومة الموسعة إلا بشرط تضمين الشريعة الإسلامية، وتحديد تمثيل النقابات وعدم إشراك الحزب الشيوعي فيها، هي اللحظة المناسبة لتنفيذ المخطط الانقلابي. بل أتيحت للجبهة فرصة مواتية أخرى بعد اجتماع الحكومة الجديدة في 27 مارس 1989 وتبنّيها البرنامج المرحلي الذي طرحته مبادرة السلام، بما في ذلك تشكيل لجنة وزارية للتنفيذ. ومن جانبه علّق العقيد جون قرنق على تلك الخطوة واصفاً إياها بالإيجابية.

وفي 10 أبريل 1989 اتفقت الأحزاب في البرلمان على تأجيل القانون الجنائي لتهيئة الحوار للسلام. ورأت أيضا أن تجميد القوانين الإسلامية سيتيح المجال لعقد المؤتمر الدستوري، وجُمدت تلك القوانين بالفعل بأغلبية 146 نائباً في حين كان عدد النواب المعارضين 53 نائباً، فأعقب ذلك انسحاب نواب الجبهة الإسلامية من قاعة الجمعية التأسيسية. عندئذ أعلنت الجبهة عن "ثورة المصاحف" وتهيأت الأجواء عملياً بعدها لانقلاب 30 يونيو.

وهذا ما استبقت جريدة الراية الإعلان عنه في 11 مارس 1989 بقولها: "ولكن نقولها داوية وصريحة. إن هذه البلاد لن تعرف استقراراً ولا سلاماً ولا عزّة ولا منعة وشرع الله معطّل فيها. إن هذا العصر هو عصر إسلام القوة وهذه البلاد لن تنال عزّة تحت حكم الجبناء والكفار وأهل النفاق، وإن غداً لناظره قريب".

وفي عشية 30 يونيو كانوا في حفلهم ذاك الذي تتويجه الغراب كما يحكي لنا عن تفاصيله وخفاياه زعيمهم الراحل حسن الترابي الرأس المدبر للانقلاب في الحلقة التاسعة من شهادته على العصر في الرابط التالي. ويستطرد فيها أكثر في الكشف عن تفاصيل الخطة وعزمهم على تنفيذها بعد خروجهم من حكومة الصادق الأخيرة بذريعة أنه قد تبيّن لهم ألا سبيل للإسلام أن يظهر في الحياة إلا إذا تمكّن في السلطة (الدقيقة 13:40) وفيها يتحدث أيضا عن كيف أن نظامهم قد بُني على الكذب منذ الوهلة الأولى.


https://www.youtube.com/watch?v=jNjj2DTGVyc



وهذا درس من دروس الثورة المضادة لم تتعلمه القيادات السياسية السودانية على الرغم من أن تكتيكات وآليات مغايرة نسبيا –من حيث الأدوات والآليات لا النوع- هي التي أجهضت ثورة أكتوبر 1964، ولا بد من تأملها واستيعابها والاحتراز منها في سياق الحراك السياسي الجاري والهادف للإطاحة بنظام الإنقاذ الحالي. ومن الملامح الواضحة والاستباقية من جانب النظام لتفعيل أدوات الثورة المضادة هذه، الاختراق الأمني لمجموعات الشباب والناشطين، بل للقوى السياسية الحزبية نفسها، والتشكيك في القيادة البديلة وفي مستقبل ومآلات السودان بعد الإنقاذ، ودق إسفين وقطيعة ما بين الناشطين والأحزاب والنقابات، والترويج لدعاوى الحياد والاستقلالية واللاحزبية ..إلى آخره. ولعل من أبرز نُذر هذه الثورة المضادة الاستباقية المبكرة أيضا: الحملة التي تشنها السلطة ضد الحزب الشيوعي تمهيداً لحله وإخراجه من حلبة الصراع السياسي، ولكن هيهات.


ونلقي الآن بأسئلة التاريخ على الدكتور عبد الله على ابراهيم على خلفية هذا السرد التاريخي واستناداً إلى مقاله عن الترابي(من أرشيف مفاصلة الإسلاميين في شهر رمضان1999) تجدونه في الرابط أدناه:



https://www.sudanile.com/index.php?optio ... &Itemid=55


"ومع ذلك فإن هناك حوائل شتى واقعية قد تحول، أو تؤخِّر، عودة الترابي من ظل شجرة البشير إلى صدارة القوم. فقد استثمر الترابي في عودته من محنة آخر الستينات وما بعدها حركة إسلامية حررها من خوف السياسة وذل المعارضة وحفز طاقتها لبناء الدولة الإسلامية الحديثة فتنادي لها الرجال والنساء بأريحية وبذل وإبداعية. وقد وصف الترابي دقائق آفاق هذه الحركة وسؤددها في كتابه الموسوم: الحركة الإسلامية في السودان: التطور، الكسب المنهج (1989). وهي نفس الحركة التي ضحى بها حين حلها قرباناً لحلفه مع البشير والقوات المسلحة في حكومة 1989".

"وكنت نصحت الحركة الإسلامية قبل انقلاب البشير في 1989 أن يبذلوا جهداً جهيداً في شعبة علاقاتهم العامة لتحسين صورة زعيمهم بعد أن رأيت ضيق خصومه به حداً تمنوا موته. وتفاقمت هذه الصورة القبيحة عن الترابي بعد انقلاب البشير الذي اعتقد القاصي والداني أن الترابي هو وجهه الحقيقي في حين أن البشير والآخرين مجرد أقنعة. فالمعارضون السودانيون مجمعون على أن النظام، وكل دقيقة من دقائقه، هي تدبير ترابي شرير. وهي عقيدة كثيراً ما أفسدت على المعارضين سداد التحليل السياسي"


- هل ما حدث في يونيو 1989 كان مجرد "تحالف" بين الترابي والبشير والقوات المسلحة، وفقاً لإفادات الترابي نفسه أعلاه؟

- وبعد أن اعترف زعيم الحركة بعظمة لسانه بأنه كان وراء "تدبير كل دقيقة من دقائق الانقلاب" هل يسمي الدكتور عبد الله ذلك "تدبيراً ترابياً شريراً" على حد وصفه في المقال، أم أنّ له عنده "تخريجاً نظرياً" واسم "دلع" آخر هذه المرة؟

- وهل يمكن وصف الواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي أفرزه نظام الإنقاذ بأنه شجرة مورقة ووارفة الظل أيضا؟ آه من فِريع البان اليسوح نديان منو يا.. يا سلام!!

- وهل يرى الدكتور أستاذ التاريخ في نظام الإنقاذ نموذجاً للدولة الإسلامية الحديثة؟

- ومن هم هؤلاء الرجال والنساء الذين تنادوا لتلك الحركة بأريحية وبذل وإبداعية؟ "شِنْ نفرهم" من منظور علم التاريخ ومنهج علم الاجتماع الماركسي يا بروف؟ أليست لهم توصيفات ومصالح طبقية اجتماعية تتعارض مع مصالح الأغلبية الساحقة من أفراد وفئات الشعب السوداني في تداعيهم هذا إلى الحركة بأريحية وبذل وإبداعية؟ أم أنهم مجرد كتلة واحدة صمّاء مثل غابة كثيفة بلا أشجار... إن جازت العبارة الماركسية في نقد الفكر المثالي الكذوب المخاتل هذا؟

- والسؤال الأهم: أين موطئ قدم الدكتور عبد الله نفسه من ذلك التنادي والبذل والأريحية والإبداع؟


وإلى أن يجيبنا الدكتور –أو لا يجيب- تترد على نقيض روايته هذه أصداء ديالكتيك الشعر في خطاب الاحتجاج الصوفي المضاد في هذه المقتطفات من "ياقوت العرش" عند الفيتوري:


دنيا لا يملكها من يملكها

أغنى أهليها سادتُها الفقراء

الخاسر من لم يأخذ منها

ما تعطيه على استحياء

والغافل من ظنّ الأشياءَ

هي الأشياء!

تاجُ السلطانِ القاتمِ تفاحة

تتأرجح أعلى سارية الساحة

تاجُ الصوفيِّ يضيء

على سجادةِ قش

صدّقني يا ياقوت العرش

أن الموتى ليسوا هم

هاتيك الموتى

والراحة ليست

هاتيك الراحة

* * *

لا تعجب يا ياقوت...

الأعظم من قدر الإنسان هو الإنسان

القاضي يغزلُ شاربه لمغنيّة الحانة

وحكيمُ القرية مشنوقٌ

والقِرَدة تلهو في السوق

يا محبوبي ..

ذهب المُضْطَّر نُحاس

قاضيكم مشدودٌ في مقعده المسروق

يقضي ما بين الناس

ويجرّ عباءته كبراً في الجبّانه

* * *

لن تبصرنا بمآقٍ غير مآقينا

لن تعرفنا

ما لم نجذبك فتعرفنا وتُكاشِفنا

أدنى ما فينا قد يعلونا

يا ياقوت

فكن الأدنى

تكن الأعلى فينا

* * *

وتجف مياه البحر

وتقطع هجرتها أسراب الطير

والغربال المثقوب على كتفيك

وحزنك في عينيك....

يا محبوبي

لا تبكيني

يكفيك ويكفيني

فالحزنُ الأكبرُ ليس يُقال





سأواصل .



عبد الجبار عبد الله
مشاركات: 46
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 6:54 am

مشاركة بواسطة عبد الجبار عبد الله »

التحايا لكل القراء والمهتمين، ولكم الاعتذار جميعا عن طول الغياب لأسباب خارج إرادتي. ولكني سأعود قريبا لأواصل ما انقطع في هذا السجال.

لكم الود ووافر الاحترام والتقدير
أضف رد جديد