الحركة الشعبية: الديموقراطية، السودان الجديد، وقضايا ذات صلة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

الحركة الشعبية: الديموقراطية، السودان الجديد، وقضايا ذات صلة

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في شهر أكتوبر من العام الماضي، دار حوارٌ، عبر الإيميل، بين عبد الله الشقليني وبيني حول "توحيد اليسار السوداني". كان الشقليني قد بعث إليَّ برابطِ مقالٍ قديم له بعنوان "اليسار الموحَّد"؛ قمت على إثر قرائتي له بالتعقيب عليه في رسالةٍ خاصة. ثم تطوَّر نقاشنا لنتَّفق، نحن الإثنين، على افتراع خيطٍ في "منبر الحوار الديموقراطي"، كنا نأمل أن يتَّخذ هيئة ملفٍّ يتناول قضايا اليسار السوداني، ماضياً، حاضراً وغداً. غير أن ملابسات عديدة، أكثرها ذا صلة بالظروف الشخصية لكلينا، لم تساعدنا على التفرُّغ لهذا العمل الهام.

ومؤخراً، قبل حوالي ثلاثة أسابيع، دار حوارٌ، بين عددٍ من عضوات وأعضاء قُروب "المَمَر"، الذي أسَّسه مامون التِّلب في الواتساب، حول "قضية الديموقراطية والحركة الشعبية لتحرير السودان". وفي الواقع، كانت ناهد محمد الحسن هي من فجَّر قضية/سؤال الديموقراطية داخل الحركة الشعبية في هذا القُروب. ثم رُفِدَ الحوار بتساؤلاتٍ وتعليقاتٍ ثاقبة من أعضاء آخرين وعضوات أخريات من أمثال ميرفت النِّيل، مغيرة حربية، علاء الدين محمود، حاتم الياس، محجوب ديوك وعصام جبر الله. كانت التساؤلات والتعليقات تتمحور – بإختصار أأمل ألَّا يكون مُخلِّاً – حول ما يمكن إعادة صياغته على هذا النحو: هل الحركة ديموقراطية؟ وإن لم تكن ديموقراطية أثناء الحرب، ما الضمان لتكون غير كذلك فيما بعد الحرب؟ وإن لم تكن ديموقراطية، هل لنا – أخلاقياً – الحقُّ في مساءلتها أو تقييم أدائها، فيما هي تخوض حرباً؟ لماذا هي غامضة على هذا النحو؟ هل من الممكن توقُّع تغييرٍ جوهري فكري، سياسي وتنظيمي في ظل قيادة جديدة لها؟

من جانبي، لم أرُد على كل التساؤلات أو أُعلَّق على جميع الموضوعات، وبعضها جاء على هيئة مداخلاتٍ أو تعليقات، بيد أنني قمتُ بكتابة كلمة مضغوطة، عنيتُ بها أن تكون مدخلاً لتعقيبات قادمة.

ولاحقاً، انداح الحوار ليبلغ الفيسبك، بعد أن قام التِّلب بنقل تعقيبي المضغوط إلى صفحته هناك، ليُرفد بتعليقاتٍ بصيرة من كل من محمود المعتصم، عصام جبر الله وعلاء الدين محمود.

ثم لاحقاً، كتبتُ تعليقاً ثانياً، ضمَّنته مقال الشقليني، "اليسار الموحَّد"، ورسالتي الخاصة إليه، أو تعقيبي عليه، إذ رأيت، من جهة أولى، أن ذلك "التعقيب المركَّب" ربما يستجيب لبعض ما أُثير من قضايا. ومن جهة ثانية، ربما يفتح النقاش على آفاقٍ أخرى ذات صلة.

وسعياً وراء توسيع ماعون النقاش، واتتني فكرة أن أبدأ بنقل بعض ما تم نشره في "المَمَر" والفيسبك إلى هنا. هذا من ناحية أولى. ومن ناحية ثانية، ربما يضع هذا الخيط المُقتَرَح المؤجَّل للشقليني ولي – عملياً – قيد التنفيذ، رغم اختلافه عن تصوُّرنا الأول لـ"ملف اليسار السوداني".


آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأربعاء يوليو 05, 2017 3:34 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كلمتي المضغوطة أو بمثابة مداخلة، وقد أجريتُ عليها بعض تحريرٍ:


لم تكن الحركة الشعبية – شأنها في هذا شأن أي تنظيمٍ سياسيٍّ سودانيٍّ آخر، يمينياً كان أم يسارياً – ديموقراطيةً – بالمعني المُقنِع نظرياً والفاعل عملياً للكلمة – في أيِّ يومٍ من الأيام. بل لم يكن سؤال الديموقراطية من الأسئلة التي تشغلها. ويعود ذلك لطبيعة النشأة والمرجعيات النظرية والتنظيمية لها. فهي نشأت حركةً ماركسية من أقصى اليسار، حيث سؤال الديموقراطية ليس غائباً فحسب، وإنما مدعوم بأدبٍ يرى إلى الديموقراطية المنجَزة وسائدة حتى الآن، أي الديموقراطية الغربية، بعدوانيةٍ نقدية، أي كحيلةٍ للهيمنة الطبقية. هذا من الجانب النظري، الذي هو ضامر جداً. وبالمناسبة الشخص الوحيد، تقريباً، الذي أثار سؤال الديموقراطية مع جون قرنق، هو منصور خالد في حواره مع، وتوثيقه لمواد متنوِّعة لـ، الأخير، المُدوَّنة في كتابٍ باللغة الإنجليزية من تحرير منصور بعنوان "جون قرنق يتحدث". من الجانب التنظيمي، المرجعية التنظيمية النموذجية للحركة هي حركات التحرر الوطني في المستعمرات السابقة (هل هي مستعمرات سابقة فعلاً؟) في أفريقيا، أميركا الجنوبية وآسيا. وطبعاً جميعها، كحركاتٍ تستهدي بدرجاتٍ مختلفة بتأويلاتٍ ماركسية متباينة، تنظيمات لم يشغلها سؤال الديموقراطية.

ومع ذلك، ربما ثمَّة مساحة – حذرة فيما أرجو – بأن يُثأر سؤال الديموقراطية داخل الحركة في المستقبل القريب، المتوسِّط والبعيد – لأن خصوصية تكوين الحركة، كتركيبة تحوي متناقضات متعددة، وفيما رؤيتها العامة الجديدة لم تتبلور بعد، وفيما هي تضمُّ – شأنها شأن أي تنظيمٍ سودانيٍّ آخر – نسبةً عالية من الفاعلين غير الديموقراطيين – فإنها أيضاً تضم أقليةً، سؤال الديموقراطية – رغم تبايناتٍ في الرؤية والأصالة – في المركز من همومها، فإن من الممكن تغدو تنظيماً ديموقراطياً.

مع محبتي واحترامي.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس أغسطس 03, 2017 4:02 pm، تم التعديل 8 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

تعليق محمود المعتصم:


تعليقك دا رائع جداً يا أستاذ عادل.. لأنو الفكرة الحقيقية في الموضوع هي إنو الحركات المسلحة ما مؤسسة بصورة صحيحة.. ومفروض نعرف ليه هي ما مؤسسة بصورة صحيحة أسا وهي خارج السلطة وإلا فيا إمَّا هي حتفشل يا إمَّا لو نجحت المصيبة حتبقى أكبر.

لكن عندي تعليق فريندلي جداً داير أعمله..

أنا الأيام دي واصل لحالة تعاطف مع الماركسية (ككلمة قبل أي شيء تاني).. سببها شعور بنوع من الشفقة. يعني.. الكلمة بقت الكلمة الإنت أول ما تقولها ممكن بعاد داك تنتقدها بأي شيء وكلامك حيكون مقبول.. الماركسية همشت الديمقراطية .. الماركسية شجعت على العنف.. الماركسية اختزالية.. الماركسية تبسيطية الخ. بحيث نحنا قاعدين ندفن في نظرية هي في نهاية التحليل فيها البذرة بتاعة الحل.أانا الداير أقوله إنو مفروض لأنو الماركسية هي واحدة من أهم المنتجات الخلاها لينا القرن الماضي.. مفروض نهتم إننا ننتقدها بصورة دقيقة.

مثلاً فكرة إنو الحركة الماركسية ما اهتمت بالديمقراطية لأنها أداة تضليل برجوازي.. هنا نحن كاننا بنقول إنو الحركة الشعبية هي حركة ديكتاتورية لأنها ماركسية بكل بساطة.. أنا التحفظ بتاعي هو إنو الحركة الشعبية حتى ما وصلت مرحلة إنها تكون ماركسية.

لأنو الماركسية احتمال كرهت الديمقراطية البرجوازية.. لكن نهائي ما أهملت سؤال الديمقراطية عموماً.. الماركسية مهووسة بفكرة إنو الناس في القاعدة مفروض يكون عندهم قوة مادية واضحة تحديداً عشان يكون في ديمقراطية.. عشان كدا الحركات الماركسية بتكون حركات مهووسة بفكرة تنظيم القواعد في شكل هرم و بفكرة إنو اللجان المركزية في الأحزاب تكون بتجي عبر القواعد المنظمة دي. عشان كدا حتى لمن أزمة غياب الديمقراطية الشكلية تضرب.. الأزمة دي ما بتلقى مجتمع مفكك ومغيب تماماً و قائد أوحد.. لا .. الأزمة بتقوم بتلقى حزب قوي جداً و منظم كجزو من قواعد المجتمع. بعد داك الحزب دا ببقى ديكتاتوري بديناميكية مختلفة جداً عن ديناميكية القائد الأوحد (او المنظومة القبلية البسيطة). مثلاً الحزب الشيوعي الصيني أو الروسي حتى أو حتى الحزب الشيوعي السوداني.. الحركة الشعبية ما وصلت للتطبيق الماركسي البشكل دا..

مفروض لمن نشوف مجتمع الجنوب بيتحول لمجتمع قبلي ونخبة رجعية بصورة تقليدية جداً تحكمه بطريقة جهوية عادية .. هنا الملام ما الماركسية. لو الماركسية بتعمل كدا فهي ما بتستحق أي اهتمام.. ودي ما الحقيقة.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في السبت يوليو 01, 2017 5:01 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

إجابة عصام جبر الله على تساؤل من علاء الدين محمود القائل بـ"هل سؤال الديمقراطية كان غائبا فعلا في الأدبيات الماركسية، وهل فعلا أغلق التاريخ بضبة ديمقراطية الغرب ومفتاحها؟"


سؤال الديمقراطية (العامة والحزبية) والحقوق والحريات هو أساس كل ما يحدث وسيحدث ليس فقط في الحركة. لم يكن [سؤال اليموقراطية]غائباً بالعكس كان حاضر جداً، لكن طغت الأحادية الآيديولوجية في النظر إليه. كثير من المساهمات المستندة على أو متبنية إرث ماركس (أفضل التعبير ده علي استخدام "الماركسية" التي لا أعتقد أنها توجد أصلاً) نزعت بقوة نحو اعلاء الصراع الطبقي وبالتالي اعلاء شأن الحقوق الاقتصادية على الحقوق المدنية والحريات..وحتي الأولى تم النظر إليها بشكل بدائي ومتعسف وميكانيكي (ده موضوع آخر).. وبانتصار تيارات لينين وماو وغيرهم تم نسف كل ما وصلت إليه البشرية عبر تطورها من منجزات حقوق وحريات ووصمها بالكامل أنها ديمقراطية برجوازية يجب القطيعة معها..في تقديري ده كان أساس فشل كل هذه التجارب والمدخل للاستبداد..مؤسس على أحادية متطرفة وأصولية كمان.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأربعاء يونيو 28, 2017 7:53 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

تعقيب علاء على عصام:

تمام يا عصام بس حقو هو زاتو [عادل القصاص] ما يقيف فيها كتير لأنو حيخش في ما لا يصلح أن يصبح زقاقات لشارع كبير، الحديث عن أزمة حركة مسلحة أي مستلهمة الماركسية كشأن حركات التحرر، ودا سياق تاريخي، لكنها تظل حركة عسكرية عندها قانونها يعني شخصياً ما بعرف لي حركة عسكرية أُسست على مبادئ ديمقراطية أكان غربية أكان غيرو، فالدخول في قصة الديموقراطية والماركسية دا بسوقنا بعيد عن تفسير الأزمة، الحركة تقلبت كثيراً بحسب المتغيرات وحتى المانفيستو الماركسي وقع عليهو أمر "قلبك ليه تبدل" منذ زمن طويل وعُطِل.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأربعاء يونيو 28, 2017 8:07 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

مقال الشقليني:



اليسار الموحَّد




لعلها فكرة ابتدعها اليساريون الإسبان كما تداولنا ذلك مع صديقنا دكتور أسامة . فقد تركوا الحزب الشيوعي عندهم ، كما هو . مجموعة من الشيوخ يجترُّوا حياتهم السابقة، ويستأنسون حتى خرجوا من الواقع المُعاش . أليس الأجدى رص صفوف كل الفصائل الديمقراطية التي تؤمن بالحداثة ؟، وترك خصلة الاستئصال ونفي الآخر. والحديث عن الأشخاص، بدل الحديث عن الفِكر وقضايا الحياة الراهنة وكيف تُحل معضلة الوطن ، وصار عليه الطليعيون من أبناء وبنات السودان ينتظرون ،لا ينقصهم شيء سوى جلوس القُدامى" ليتفرجوا على اللعبة الحلوة "، بدل النزول إلى حلبة الميدان، فيكشفوا عورات الكهولة أمام المتفرجين!

(2)

قديماً ، عندما كان الورق عزيزاً والوراقين هم أهل الطباعة والنشر ، وهم من يكتبوا بقلم البوص ، ودواتهم من شحوم الماشية ورماد الحريق الأسود ، كتب الشاعر الفخم: أبو الطيب المتنبي:
لا بُدّ للإنسانِ من ضَجعَةٍ .. لا تَقْلِبُ المُضْجَعَ عن جَنبِهِ
نحنُ بَنُو المَوْتَى فَمَا بالُنَا .. نَعَافُ مَا لا بُدّ من شُرْبِهِ
يَموتُ رَاعي الضّأن في جَهْلِهِ .. مِيتَةَ جَالينُوس في طِبهِ
وَ غَايةُ المُفْرِطِ في سِلْمِهِ .. كَغَايَةِ المُفْرِطِ في حَرْبِهِ

(3)

عِلَة موطننا أعيت الطبيب المُداويَّ ، وتفرقت الأسهم عن بعضها ، فسَهُل تهشيمها وانكسارها عن هدفها . نشرب كل يوم من شرابٍ آسن ، يسأل بعضنا ما العمل ؟. ذلك السؤال القديم المٌتجدد . نزحفُ الآن على ناقلة تجُرها البغال ، تتعب البِغال و نحن لا نتعبُ . شكُونا من عِلاتنا ، والعِلّة تشتاق إلى الدواء الذي نُكسر قنينته من جهلنا.

(4)

لا نطلُب غير ، تبيُّن الخيط الأسود من الخيط الأبيض . الذين هم يجهلون ولا يدرون بذلك . ونعرف الذين استمسكوا بأهدافٍ علتها فيها . هجروا الفِكر الذي نَعُم به الآخرون. نعرف حُلفاءنا ولنتسامح معهم ، ليكُن المَوردُ طيباً. اتفاقٌ فضفاض ولو، ولكنه مُلزِّم . نحن بعيدون عن تقنية العصر ، وهي مُيسرة عند شبابنا . ماطل منْ كُنا نأمل فيهم خيراً ، ولم نتعرف على فرادة الفِكر وإبداع السياسة طوال تاريخنا . إما طواحين هواء ، أو مدحَلة لفرم الإنسان ، ويستمتع سائق المِدحلة بالنتيجة ، وتنكشف ابتسامة صفراء كالحة تقول : قضينا على الآخر!!

(5)

لقد كان أجدادنا وآباؤنا يمثلون إسلام التسامُح . إن أخطأت يقولون لك استغفر، ويربتون على كتِفِكَ .يصلّون ويكبرون ما وسعته العقيدة من سماحة، ويتفقدون الأرحام . تجدهم أيام العُسرة والنفير ،تضيئي الوجوه بالمحبة ، تنير ولو لم يمسسها نور . لم يطلبوا السلطة ولم يطلبوا الحُكم ولم يتزلفوا ولم ينتهزوا مال السُحتْ فيغتنوا .ولم يأتوا البيوت بليل ويخطفون أو يعذبون ويقتلون ويرمون النفوس البشرية في مقالب القمامة !! ، بل يصفقون ثلاثاً استئذانا بدخول البيوت . لم نر فيهم إلا إسلام الصادق الأمين الذي تشبهوا به.
نُكرر : منْ أين جاء هؤلاء ؟. من وشم الإنسان السوداني الطيب ومن عذبه بكل أدوات الكراهية ؟. ولم يكنُ في تاريخ هؤلاء ثارات قديمة ، جاءوا بتشوهاتها لينتقموا. ولن يستطيعوا تغيير الإنسان السوداني بإرجاعه إلى الخلف . إن ركب الإنسانية وتطورها لن ينتظر حلول معضلات أهل السودان ، وهي معضلة من صناعة فصيل معروف، وحوله متشابهين ،أبعدوا أنفسهم عن الثقافة والعلم .وتمرغوا في ظاهرة التقليد الأعمى . فعمموا الظلام بدرجاته على حياتنا . ويأملون أن يفلتوا من المحاسبة!

(6)

انقسم هؤلاء الذين يرغبون جرّنا للوراء ، بين منْ أخرجوا خناجرهم للذبح ، وبين من ارتضوا ديمقراطية وست منستر وهم لا يعرفون آليتها ، واستخدموا المال السياسي لجرّ الطيبين ليعيدوا اجترار الماضي . وجميعهم أقحموا قوانين العقيدة في الحياة الاجتماعية ،ورجعوا بها وفق اجتهاد غلاة السلف . هؤلاء يجمعهم طمس العقيدة وتحويل نقاء تربيتها للنشء ، وطيب معاملتها ، إلى القسوة المخيفة . ولم يُدركوا تأويل الدِّين الذين يتبجحون بتطبيقه ، إذ يذكر المولى جّلت عزته عند مُخاطبته النبي الأكرم : أنك لا تُهدي من أحببت. وتلك تناقض حملة صحائف القرآن على أسنة الرماح ، يرجون منافع وضيعة على حساب الفقراء من أبناء وبنات وطننا.

(7)

كتب الأستاذ "عبدالجواد يس" في ملحق الاتحاد الإماراتية الثقافي بتاريخ 22 سبتمبر2016 عن الإصلاح الديني:

(ماذا يعني الحديث الآن عن الإصلاح الديني؟ ولماذا هو مشكل؟
عندما يظهر مصطلح الإصلاح الديني فهذا يعني، أو هو يعلن عن تناقض. تناقض بين «النظام الديني» و«النظام الاجتماعي»، السائدين عند نقطة زمنية معينة: النظام الديني لم يعد يشبع حاجات النظام الاجتماعي. والنظام الاجتماعي لم يعد يحتمل الزامات النظام الديني.
النظام الديني ينشأ أصلاً كإفراز للنظام الاجتماعي الذي ظهر فيه إبان حقبة التأسيس. ولذلك فإن المراحل الأولى اللاحقة على نشأة النظام الديني، لا تعرف مصطلح الإصلاح الديني، لأن النظام الاجتماعي يكون هو ذاته أو قريباً منه، ومن ثم فلا مجال للحديث عن تناقض.
التناقض يبدأ، بشكل تدريجي، مع تزايد المسافة الزمنية الفاصلة بين اجتماعيات النشأة الأولى للنظام الديني، واجتماعيات الواقع الاجتماعي اللاحقة عليه. والسبب ببساطة هو أن النظام الديني يتم تثبيته كمقدس بطبيعة التدين، فيما أن النظام الاجتماعي يستمر في التطور بطبيعة الاجتماع وقوانين العالم).

(8)

لماذا لا يجتمع اليساريون في مزهرية فكرية واحدة ، ويضعوا لبنة جديدة لتحالف الحداثيين ، ويتركوا أحزابهم كما هي . ويعيدوا صياغة فكرة نيّرة لحمل شعلة التنوير . ويتركوا عراك بعضهم ، وتحالفاتهم مع قادة لا ينتمون للحداثة ، بل قادة يلهثون وراء أن يجعلوا أنفسهم نداً لصاحب الكون ، يلبسون لباس الرب ، ينهون ويأمرون ، وينسون أنفسهم .
لماذا لا تجتمع أرواح اليسار والحداثيين ، ولو في حواصل طيور خُضر؟ ، لأننا في حاجة لفِكر وثّاب . دعونا من تحالفات أصحاب الأجندة غير المعروفة ، أو أصحاب السياسة الذين أرادوا العقيدة مطية لأهوائهم.

عبدالله الشقليني
13 أكتوبر 2016

صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

رسالتي الخاصة أو تعقيبي على مقال الشقليني:


العزيز شقليني (هكذا أفضَّل – وأرجو ألَّا تمانع – الاستغناء – تحبُّباً – عن الألِف واللام في إسمك، أو، بالأحرى، وَسْمك المكاني-الوجداني)،

أولاً، تجدني بالغ الأسف لتأخُّري في التعقيب على مقاليك المهمَّين. على أن شفيعي لهذا التأخير أنه لم يكن بوازعٍ من إهمالٍ وإنما بسببٍ من تأجيلٍ دعتني إليه عُدَّة أسباب أهمُّها أنني لم أرد لتعقيبي عليك أن يأتي مُبتَسَراً أو مدفوعاً – حتى لو جزئياً – بعجلة المجامَلة الاجتماعية.

أبدأ بالتعليق على مقالك: اليسار الموحَّد.

كأنك – بدفعك إليَّ بهذا المقال – كنت تعلم بأحد أهم مكابداتي الوجدانية-الفكرية-الثقافية-السياسية المركزية: التغيير الأصيل، هذا الذي يجب أن يطال كل جوانب حياتنا، والذي لا ينبغي أن يحدث – ولن يحدث على أيَّة حال – بآلية انقلابية، وإنَّما ببُرُسِّسْ (لا أجدني متحمَّساً لاستخدام الترجمة السائدة لهذه الكلمة: "العملية" لاعتقادي أنها ترجمة ربما تكون دقيقة حرفياً لكنها غير كذلك مفهومياً، بالنسبة إليَّ على الأقل، ربَّما لتعدُّد، أو تداخُل، معاني وإحالات كلمة "عملية"). وأنت – ويا لغبطتي بهذا – قد تعرَّضت – ولو على نحوٍ مضغوط في الغالب، اقتضته طبيعة المقال على الأرجح – لأهم جوانب هذا البُرُسِّسْ المُشتَهَى: الثورة الثقافية. ذلك أنه – بغير الثورة الثقافية الأصيلة – فإن نظرتنا وممارستنا للحياة، أي للفكر، للثقافة، للدين، للمجتمع، للسياسة، للعِلم، للأخلاق، للفن، للعشق، للجنس، ولسوى ذلك حتماً، لن تنتقل إلى الأمام.

لو أُقْتِرَح عليَّ أن أصف حالة اليسار السوداني (وهذه عباءة فضفاضة طبعاً) في جُمْلةٍ (مفيدة) واحدة، سأقول إنه أسيرُ توَحُّلٍ مًرَكَّبٍ ومديد. ولن يتم تحرُّك فاعل نحو وحدة تنظيماته دون أن يتخلَّص كل تنظيم من توَحُّله الخاص (أو على الأقل بعد أن يكون البُرُسِّسْ الأصيل لهذا التخلُّص قد أُنخِرَطَ فيه حقاً). وإذا رأينا إلى أحد أبرز أقطاب هذا اليسار، وهو الحزب الشيوعي السوداني، نجده كان – وما يزال – أسيراً لهذا التوَحُّل المًرَكَّب والمديد - حتى حين كان في عنفوان فعّاَليته وهيبته الآيديولوجية، الفكرية، السياسية، التنظيمية والثقافية (رغم أن هذا لم يكن بيِّناً مثلما هو الآن). وما ضموره المُرَكَّب الراهن سوى حصيلة (حتمية) لوقوعه في هذا التوَحُّل المًرَكَّب والمديد. فعلى سبيل المثال، الاستناد – شبه الحرفي على الأقل – إلى التأويل الغربي-الشرقي (الشرقي هنا يعادل الروسي/السوفييتي) السائد – قبل عقودٍ على الأقل – للماركسية، كان توَحُّلاً. المراهنة على الطبقة العاملة كقوة إجتماعية يُنَاطُ بها التغيير الرَّادِكالي – في قُطْرٍ يسود فيه نمطُ إنتاجٍ غير حديث – كان توَحُّلاً. المركزية التنظيمية كانت توَحُّلاً. الاعتماد، شبه الحصري، على القدرات التنظيمية، الآيديولوجية، الفكرية، السياسية، الثقافية، التنظيمية لقائدٍ واحد، كان توَحُّلاً. التمركُز أو التوجُّه، شبه العام – في "اللَّاوعي التنظيمي" على الأقل – السوداني-الشمالي والقومي العربي-الإسلامي، كان توَحًّلاً. الرُّكون إلى أن نجاح واحدة من أبرز إستراتيجيات النضال السِّلمي، ألَا وهي العصيان المدني أو الإضراب السياسي العام، لا يمكن أن تتحقَّق إلَّا بواسطة النقابات والاتحادات فقط، كان توَحُّلاً.

أمَّا التنظيمات ("الشمالية") اليسارية الأخرى، غير القومية العربية (نظرياً)، فهي تقاسم الحزب الشيوعي السوداني جُل أنماط توَحُّله، فيما "يتميَّز" عنه أغلبها – إن لم يكن جميعها – بالفقر النظري والتنظيمي (رغم أن الحساسية النظرية لأفكارِ بعضها كان يمكن أن ترفد الفكر السياسي السوداني بمساهماتٍ بالغة الأهمية لو تأسَّست نظرياً. مثال ذلك: "قوى الريف"). بيد أن هذا البعض – كما البقية – اكتفى بالإشارات أو الاختزلات النظرية وعوَّل على برنامج العمل.

أمَّا التنظيمات اليسارية القومية العربية، فهي – علاوة على اشتراكها مع التنظيمات اليسارية السودانية الأخرى في بعض أشكال توَحُّلها – إلَّا أن توَحُّلها الخاص، العاطفي-القومي (العرقي؟) والآيديولوجي، في الانتماء العنيد إلى عُنصرٍ/بُعدٍ واحدٍ من عناصر/أبعاد السودان (وليس ثمَّة من عيبٍ في الانتماء – غير المُشتَط – إلى هذا العُنصر/البُعد)، قادها إلى اختلاقٍ رؤيةٍ مُكَابِرةٍ كانت – بالإضافة إلى تهافت الأنظمة القومية العربية التي ولَّدتها ورعَتها (سقوط كلٍّ من صدَّام حسين ومعمَّر القذافي، تزايد الضمور السوري وقبل ذلك الذبول المضطرد للناصرية) – في المركز من أسباب محدودية وانكماش تأثيرها السياسي، إلى الدرجة التي أدَّت لاحقاً ببعضها إلى الاضمحلال وبعضها الآخر من المرجَّح الَّا يكون مصيره مختلفاً.

أمَّا الحركة الشعبية لتحرير السودان، فهي – رغم اجتراحها النظري، المحدود والمضغوط، ومبادرتها العملية التي جعلتها متقدِّمةً – في بعض الأوجه على الأقل – على بقية التنظيمات اليسارية السودانية، مما جعل حضورها السياسي أبرز من حضور الأخيرة، لا سيَّما منذ مرحلة التأسيس والكفاح المسلَّح وحتى فيما بعد مرحلة "إتفاقية السلام الشامل" وقبل اغتيال جون قرنق – إلَّا أنها تشترك، مع ذلك، مع جُل – إن لم يكن كُل – تلك التنظيمات في بعض صُوَر توَحُّلها. على أن جانباً من التوَحُّل الخاص بالحركة الشعبية لتحرير السودان مستعارٌ جزئياً من التقليد البطريركي الاجتماعي-الثقافي-السياسي المحلي العام (شأنها في هذا شأن جميع التنظيمات السياسية السودانية، يمينيةً كانت أم يسارية) وجزئياً من تراث حركات التحرُّر الوطني. وبعضُ هذا يتمثَّل في المركزية التنظيمية، مرجعية القائد الواحد والنُّفور من العمل النَّظري.

أمَّا الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، فإن توَحُّلها الراهن لهو أكثر كثافة واتِّساعاً من المرحلة السابقة. والسبب يكمن – إلى حدٍّ كبير – في فقدان القائد الواحد. فإذا كان حضور هذا القائد يقود إلى توَحُّل التنظيم، فإن غيابه (خصوصاً في حالتنا السودانية) ينتج عنه زيادة نوعية وكمية في هذا التوَحُّل. بتعبيرٍ آخر، إن نفوذ هذا النوع من القائد يقيِّد التنظيم، وانتفاء وجوده (الفيزيائي) يشلُّه. ولنا في حالات الهُزال المتشابهة للحزب الشيوعي السوداني، الحزب الجمهوري والحركة الشعبية لتحرير السودان – بعد استشهاد عبد الخالق محجوب، محمود محمد طه وجون قرنق – دلائل فاقعة.

فعلى سبيل المثال، أدَّى هذا التوَحُّل المضاعَف للحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال – من بين ما أدَّى – إلى إفتقارها للرؤية الإستراتيجية العامة. وقد تبيَّن هذا – مثلاً – في أن يتحوُّل التفاوض بينها وبين النظام القائم من تاكتِك إلى إستراتيجية، من وسيلة إلى غاية، بحيث غَدا الهدف يتمثَّل في عقد أيَّة صفقة معه. بل إنني أزعم أن الهدف الأساس، الذي دفع بالحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال لخوض هذه الحرب، ليس تغيير النظام وإنما ممارسة الضغط عليه حتى يرضخ لتَقاسُم السلطة (رغم أن توصيف "تَقاسُم" – في ظل التوازن الراهن، المختل بسبب عوامل داخلية وخارجية، للقوة – ليس دقيقاً؛ ورغم أن مزاعم قيادة الحركة تقول بأن هذا هو السبيل لتغيير النظام – أو تفكيكه من الداخل، بحسب أمنيةٍ جامحةٍ للصادق المهدي).

وفي تقديري، أنه في هذه الحالة من التوَحُّل، العام، المُرَكَّب، المديد، يقيم السبب، البديهي، المركزي، الذي جعل – وما يزال يجعل – اليسار السوداني يعيش – ويشترك مع اليمين السوداني (التقليدي "المُعارِض") – في واقعٍ من شبه العطالة السياسية. وهو الواقع الذي قاد – من بين ما قاد – إلى تثبيت دعائم وبقاء هذا النظام (إن لم يكن المساهمة في انبثاقه بالأساس). إنه الواقع الذي أدَّى – من بين ما أدَّى – إلى عدم القدرة على ابتكارِ رؤيةٍ أو إستراتيجية ثورية مغايِرة، تتبدَّى أهم خصائصها في بناءٍ تنظيميٍّ مختلف وفي تاكتِك مقاوَمةٍ يناسب تحوُّلات هذا الواقع (بما في ذلك التوحيد – المؤقَّت على الأقل – لقوى اليسار). إنه الواقع الذي نتج – من بين ما نتج – عنه – أو، بالأحرى، بسببٍ منه – حركات المقاوَمة الشبابية الراهنة، الرائعة، واليتيمة، على أكثر من صعيد.

الوحدة، غير الهشَّة، الفاعلة، الخلَّاقة، لا تحتاج إلى حساسية أخلاقية-تنظيمية عالية فحسب، وإنَّما – أيضاً وأساساً – إلى رؤية ثاقبة؛ وهذه لن تتأتَّى – لا سيَّما في حالتنا اليسارية هذه المزمنة والمسبِّبة للاكتئاب المزمن – سوى عبر المراجعة الشاملة والشجاعة، أي المساءلة غير الانتقائية، أي غير المُخاتِلة، للذات. ولن تصبح مثل هذه المساءلة ممكنة دون مكابدات وجدانية، فكرية وثقافية حرَّى.

عادل القصَّاص
الأيام الأخيرة من عام 2016
ملبورن
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الثلاثاء سبتمبر 12, 2017 2:34 pm، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

تعليقي على بعض مما ورد في "المَمَر" بخصوص الديموقراطية والحركة الشعبية لتحرير السودان، بعد أن أجريتُ عليه قليلاً من التحرير:



"لم يسبق للديموقراطية أن مُورِسَت قطُّ في السودان"
جون قرنق، من كتاب "جون قرنق: رؤيته للسودان الجديد وإعادة بناء الدولة السودانية"، تحرير: الواثق كمير.

*

لم يُوجَد في الماضي، ولا يُوجَد الآن، تنظيمٌ سياسيٌّ سودانيٌّ، يمينياً كان أم يسارياً، ذو إستراتيجيةٍ سلميةً كانت أم مسلحة، يمكن نعته – بشِبْهِ امتلاءٍ – بأنه ديموقراطي. والحركة الشعبية لتحرير السودان ليست استثناءاً في هذا الصدد. كلها تنظيمات بنات بيئتها السودانية الداخلية، المتخلِّفة على أكثر من صعيد. ومن ثَمَّ كانت إحدى النتائج، البارزة والمشتركة، والتي تتمظهر في أكثر من بنية، كالأسرة، القبيلة، الطائفة والحزب، تتمثَّل في إرث أوعقيدة (وأكاد أقول غريزة) التحكُّم والاستتباع.

وهذه العقيدة بالغة الوضوح والملموسية في التنظيمات السياسية اليمينية السودانية، حيث لم يفلح في اخفائها الانتقاء النظري الواجف، المُتسوِّل، من قِبَل بعضها (كالأمة والاتحادي) لحفنةٍ قليلة من مفاهيم أو تقاليد تعود إلى الفكر السياسي الغربي فيما يتصل بالديموقراطية الغربية، لا سيِّما نسختها البريطانية. بل – أكثر من هذا – إن ذلك الانتقاء لم يتم تبنَّيه كعاقبةٍ لتأويلٍ صميم، وإنما عقب ختْنِه فرعونياً، بمصوِّغٍ مُلهوَجٍ، ومُلهوِجٍ، كمُبرِّرٍ لـ "الاختلاف".

وإذا كانت الديموقراطية الغربية – بتجاوز البصر عن تمايُزاتها الداخلية – موصومةً بالتفافات غير ديموقراطية، الذي ربما يؤكِّد على تنبيهٍ نافذٍ لمحمد عثمان دريج يقول بـ"إن الديموقراطية لا تعني أبداً غياب الفعل غير الديموقراطي"، وهي إلتفافات أُبتُكِرَت، طُوِّرَت، مُورِسَت، وما تزال تُطوَّرُ وتُمارَس، بواسطة براعات غربية ماكرة، متنوِّعة، ومتواشِجة، بُغية تسهيل/تأهيل/تأبيد هيمنةٍ طبقية محددة، فإن "تجاربنا الديموقراطية" لا تدع مجالاً للشك في افتقار "ديموقراطيتنا" إلى عناصر أساسية مترابطة: أصالة الخلْق، عضوية التأسيس (كممارسةٍ تنظيميةٍ داخلية قبل أن تكون خارجية)، وبراعة/مَكْر التسهيل/التأهيل/التأبيد التي لازمت تأسيس، نمو، استمرار وسطوة الديموقراطية الغربية. ويرجع هذا الافتقار المركَّب إلى ارتباكِ وجدانِ، ردعِ مخيِّلة، وتثاؤب عقل "القائمين على أمر (وليس مؤسِّسيْ) الديموقر اطية" عندنا، وذلك لأجل – وليس في – تنظيماتنا اليمينية. فكانت النتيجة أن "تجاربنا الديموقراطية" – التي كثيراً ما وصمتُها بـ"شبْهِ الديموقرطية" – فيما غابت عنها، بداهةً، براعة/مَكْر الالتفافات غير الديموقراطية الغربية، فإنه تم قصْم ظهرها – الرخو أصلاً – بخروقاتٍ، بالأحرى اعتداءاتٍ، غير ديموقراطية.

أما التنظيمات اليسارية، ماركسيةً كانت أم قوميةً-عربيةً، التي انبثقت بسبب حساسيةٍ اجتماعية- ثقافية-سياسية- داخلية، بمعنى سودانية، مختلفة، فعلى الرغم من أن مناهضة إرث التخلُّف – المُستعان عليها بتغذيةٍ من استلهاماتٍ فكرية-آيديولوجية، سياسية، ثقافية، وتنظيمية خارجية، وبدرجاتٍ متباينة الأصالة الداخلية والنفاذ من تنظيمٍ إلى آخر – ظلَّت – تحت تصنيفاتٍ أو تعبيراتٍ متعددة – على رأس أجندتها، إلَّا أن مناهضة إرث/عقيدة التحكُّم والاستتباع لم تكن – عملياً – على رأس تلك الأجندة. هنا أزعم أن استمرار إقاتة هذه العقيدة لدى التنظيمات اليسارية – بغض النظر عن الفارق النوعي الذي يميِّزها عن التنظيمات اليمينية وعن الفوارق النوعية التي تميِّز بعض هذه التنظيمات اليسارية عن بعضها الآخر – لا يكمن في رسوخ هذه العقيدة، في وعيها أو لاوعيها التنظيمي، فحسب، بل يكمن، أيضاً، في الاستلهام المفرط للتقاليد التنظيمية (المركزية) الخارجية.

ولعل من أبرز ما يأتي إلى الذهن، في هذا السياق، تأمُّل المرء في المراهنة الحاذقة للحزب الشيوعي السوداني على النضال السلمي عبر الانخراط في (استخدام؟) النظام الديموقراطي البرلماني، كتكتيك ظلَّ يأمل في أن يقوده إلى مرحلة بناء نظامٍ اشتراكي. وقد وجدتُ صعوبةً – بناءاً على التقاليد/الممارسات الحزبية الداخلية على الأقل – في أن أتصوَّر هذا النظام الاشتراكي المأمول كنظامٍ غير مركزي، أي غير متناسلٍ من مفهوم وممارسة "الديموقراطية المركزية"، أي غير منحدرٍ من، وممارسٍ لـ، عقيدة التحكُّم والاستتباع، في خاتمة المطاف؛ رغم ما يمكن أن يتخيله المرء من تنميةٍ، متأسسة على مفهومٍ ماركسيٍّ للعدالة الاجتماعية، أي مفارقة في عددٍ من الأوجه لأكذوبات "التنميات الوطنية" السابقة والراهنة؛ لكن ليس من العسير – مع ذلك – ألَّا يتخيَّلها المرء تنميةً تعاني من عَرَجٍ فادِح.
ٍ
أما بالنسبة للحركة الشعبية لتحرير السودان، فعلى الرغم من أن هويتها الفكرية-الآيديولوجية-السياسية تشكّلَت سابقاً من خَلَلِ تأويلٍ ماركسيٍّ مختلفٍ عن، إن لم يكن متناقضاً مع، تأويل الحزب الشيوعي السوداني، إلَّا أنها كانت – كذلك – تسعى نحو تحقيق حلمها السياسي المُشابِه، ولكن القائل بالوصول العسكري الزاحف/الفاتح إلى مركز السلطة في الشمال (بمساعدة تحالفات مع قوى شمالية كانت تراهن عليها بمستويات متفاوتة)، لتبني نظاماً اشتراكياً (رغم الفارق بين حساسيتيْ التأسيس المدني (لدى الحزب الشيوعي) والعسكري (لدى الحركة الشعبية). بيد أنه، في كل الأحوال، لو كان تحقق لها هذا الانتصار (بهويتها الفكرية-الآيديولوجية-السياسية السابقة)، وأقامت ذلك النظام الاشتراكي المأمول، فإنه لن يكون سهلاً على المرء أن يتخيَّله نظاماً غير مركزي، أي غير متناسلٍ من مفهومٍ مماثلٍ لـ"الديموقراطية المركزية" وممارسٍ لها، أي غير منحدرٍ من، وممارسٍ لـ، عقيدة التحكُّم والاستتباع، في خاتمة المطاف؛ رغم ما يمكن أن يتخيله المرء من تنميةٍ، متأسسة على مفهومٍ ماركسيٍّ للعدالة الاجتماعية، أي مفارقة في عددٍ من الأوجه لأكذوبات "التنميات الوطنية" السابقة والراهنة؛ لكن ليس من العسير – مع ذلك – ألَّا يتخيَّلها المرء تنميةً تعاني من عَرَجٍ فادِح.

فهل تعني هذه الصورة القاتمة ألا نفعل شيئاً – كديموقراطيين منظَّمين وغير منظَّمين وديموقراطيات منظَّمات وغير منظَّمات – حيال هذه الأزمة؟

أعتقد أن بوسعنا فعل الكثير. وما هذا الحوار إلا بعض ما يمكن فعله.

للمعتقدين والمعتقدات في الديموقراطية كعنصرٍ بنائيٍّ شرطيٍّ، كخصيصةٍ عضوية، للتنمية العامة، أو لتأسيسِ وترسيخ العدالة الاجتماعية بوجهها المركَّب والواسع، وبصرف الطرف عن تمايُز رؤانا لهذه التنمية/العدالة، أقترحُ ممارسة أنواعٍ مختلفة من "الضغوط" ("داخلياً" و "خارجياً") على تنظيماتٍ يمكن المراهنة – رغم الوجع المقيم والاحتراس المشروع – على إحتمالات الثورة الثقافية، الأصيلة، داخلها، على الرغم من أن "البؤر الديموقراطية"، الأصيلة، داخلها، ما تزال "أقلية الأقلية".

بهذا المعنى، فإنني ما أزال حليفاً إستراتيجياً، منتبهاً، للحزب الشيوعي السوداني، عضواً، حذراً، في الحركة الشعبية لتحرير السودان، محبِّاً متأمِّلاً للحركات الشبابية الجديدة.

النقد الموضوعي، البنَّاء، ومهما تكن درجة حدَّة مواجهته، يظل على رأس ما هو مطلوب من ضغوط. الانكماش الأخلاقي من المساءلة (وهي عندي تعادل "النقد الموضوعي البناء") يتضمَّن بعداً غير أخلاقي، لا سيَّما حين يملأ تنظيمٌ فمه بأحلامي، حين يُعتَقل، أو يُعذَّبُ، أو يُشَرَّدُ، أو يقاتِل، أو يستشهد، في سبيل هذه الأحلام، أحدٌ؛ حين تغدو هذه الأحلام أحد أقنعة/شعارات صناعة وتأبيد الاستبداد، الذي يسُر سكوتي ممثليه. غير أن الثقل/الدور الأخلاقي لمثل هذه المساءلة، كشكلٍ من أشكال الضغوط، من "الداخل" و "الخارج"، من شأنه أن يعين، مثلاً، تنظيمين، كالحزب الشيوعي والحركة الشعبية، على طرحِ سؤالٍ مركَّب – أتصوره مشتركاً (رغم التبايُن والتشابه المتوقَّعين للإجابة) بين التنظيمين – والذي أتمنى أن يكون ويظل مطروحاً بحرارة مواجهة الذات وأساها، الذي هو قمين بها، من نوع:

"لماذا تقلَّصت عضويتنا؟ لماذا ذبُل تنظيمنا؟ لماذا لم نعد نجذب أعضاء جدد؟"



تذييل، بمثابة ترويس:


كان جون قرنق يقول ما معناه: "السودان الجديد بُرُسِّسْ (عملية) وليس حدثاً".

*

كتب موسى مروِّح مرةً ما معناه: "أنه ليس من المنطقي أن يصير كل السودانيين والسودانيات أعضاء في كل تنظيم سياسي كي يعرفوا ما بداخله لكي ينتقدوه".

*

كتبت في أحد فصول أطروحتي الأكاديمية:

"إن جميع التنظيمات السياسية هي، بطبيعتها، غير قادرة على استيعابٍ كاملٍ للأحلام والرؤى النقدية للمبدعين والمثقفين المتحرِّرين. المبدعين والمثقفين المتحرِّرين، تعريفاً، غير امتثاليين".
(وشخصي – حسبما يقول سياق الفصل على الأقل – من بينهم/بينهنَّ).

ثُمَّ، في نفس الفصل:

"صحيحٌ أن مسألة الديمقراطية كانت دائماً هي التحدي الأكثر أهمية بالنسبة للتنظيمات السياسية الماركسية، التقليدية وغير التقليدية، كما للنظُم السياسية الاشتراكية، فضلاً عن مجموعة واسعة من الأفراد الماركسيين. لكنها كانت أيضاً مصدراً للإنزعاج بالنسبة لي. هذه الحالة الذهنية يمكن تلخيصها على هذا النحو: على الرغم من إيماني بضرورة المساواة الاجتماعية، كما تُترجم في الاشتراكية، أنا، ببساطة، لم أستطع – وما أزال لا أستطيع – أن أتخيَّل أي شكلٍ من أشكال الاشتراكية من غير مكوِّنٍ ديموقراطيٍّ صميمٍ، أي عضويٍّ، لها. لقد كنت دائماً اشعر بالقلق والحرج بسبب افتقار الأنظمة الاشتراكية المتحكِّمة، لا سيما تلك التي حظيت بتأييدي، كالنظام الكوبي، للعمود الفقري الديموقراطي."
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين سبتمبر 11, 2017 2:15 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

المادة التالية عبارة عن ورقة قدمها الواثق كمير في المؤتمر العام لاتحاد الكتاب السودانيين الذي انعقد في الخرطوم عام 2006، حيث كان كمير قد تلقى وقتها دعوة من السكرتير العام للاتحاد آنذاك، كمال الجزولي، لالقاء ضوء على مفهوم "السودان الجديد" كما طرحته الحركة الشعبية لتحرير السودان:



السودان الجديد: نحو بناء دولة المواطنة السودانية

د. الواثق كمير




مقدمـة:

هناك من بين السودانيين، خاصة في الشمال، من يعتبر أن السودان الجديد مفهوم مبهم أو أحجية غامضة، وربما يعنى أشياء مختلفة لأناس مختلفين. وهناك من انتقد الفكرة ابتداء كفكرة عنصرية ذات توجه معادي للإسلام وتهدف في نهاية الأمر إلى محو الهوية العربية-الإسلامية وإحلال الهوية الأفريقية مكانها. كما يرى فيها آخرون دعوةً مقنعة للانفصال وإقامة دولة جنوب السودان المستقلة. وهنالك أيضا من أدان الرؤية دون تحفظ لمجرد صدورها ممن لم تألفه أفئدتهم وأذهانهم.
وهذا ما جعلني أرجح أن اختيار الأستاذ كمال الجزولي لشخصي تحديداً لمناقشة هذا الموضوع مرده موالاتي للحركة الشعبية لتحرير السودان، التي كان زعيمها الراحل عراب مشروع السودان الجديد والمروج له والمنافح عنه. ولئن كان لا اعتراض لدى على حكمة هذا الاختيار، لكنى كنت أعتقد أنه ربما حققنا قيمة إضافية للحوار لو أن كاتباً آخر (أو كاتبة) من غير المنتسبين (أو المنتسبات) للحركة الشعبية قد دعي لعرض وجهة نظره (أو نظرها) حول رؤية السودان الجديد من منظور مختلف. وقد يكون غريبا أن أثير هذه النقطة! ولكن من الفرضيات الأساسية لهذه الورقة أن ما صاحب رؤية السودان الجديد من سؤ فهم و ما اكتنفها من غموض ولبس عند البعض يعود بقدر كبير إلى الخلط بين السودان الجديد كإطار مفهومي والحركة الشعبية كمروج للمشروع وكتنظيم سياسي بادر في لحظة تاريخية معينة، لتحويل الرؤية إلى واقع ملموس. فعدم الانتماء إلى الحركة الشعبية، بالمعنى التنظيمي، لا يتناقض بأي حال من الأحوال مع اعتناق الرؤية أو الاعتقاد فيها. وحقيقة، أجازف بالقول بأن كل المؤمنين بالرؤية هم "حركة شعبية" بيد أنه ليس كل من هو "حركة شعبية" يؤمن بها!
تهدف هذه المساهمة المتواضعة إلى إذكاء وإثارة النقاش والحوار حول مفهوم السودان الجديد في محاولة لإزالة سؤ الفهم الذي شاب الرؤية وذلك بتسليط الضوء على نشأة الفكرة وأصول تكوينها وتطورها، ورغم ما يعتو رني من شعور قوي بأن الكثير من المجتمعين هنا يقرونها ويؤيدونها. إذ خلافاً لما قد يعتقد المنتقدون والمتشككون فإن مفهوم السودان الجديد لا ينطوي بأي حال على مضامين عرقية أو عنصرية أو إنفصالية. بل هو بالأحرى إطار لمشروع قومي يستهدف بناء دولة المواطنة الحقة والمستدامة والقادرة على استيعاب المجتمع السوداني بكافة تنويعاته العديدة والمختلفة. فالمفهوم يدلّل على إطار مرجعي ذو طبيعة عالميه يتعدى السودان ويمكن تطبيقه في مناطق نزاعات أخرى شبيهة داخل وخارج القارة الأفريقية، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل حالة وفق شروطها الموضوعية. فوق كل ذلك يجب أخذ المشروع في الأساس على أنه إسهام فكري ضمن أدبيات الخطاب السياسي السوداني المستجد والجدل المحتدم في شأن إعادة بناء الدولة السودانية.

رؤية السودان الجديد: الأصول والنشأة:

كان وراء فكرة السودان الجديد اهتمام الراحل د. جون قرنق بأزمة الحكم في السودان والحرب الأهلية في الجنوب إلى جانب سعيه الحثيث وبحثه الصادق من أجل الوصول إلى سلام دائم وعادل. وكان إخفاق اتفاقية أديس أبابا، التي كان الراحل د. جون قرنق من ألدّ وأشرس معارضيها، لكونها لا تحقق السلام والازدهار لجنوب السودان، هو الذي دفعه إلى التمحيص وإعادة النظر في طرق وأساليب التعامل مع الأزمة السودانية. ولعله تساءل: لماذا يتمادى السودانيون في الاقتتال فيما بينهم إن لم تكن القضايا المتنازع عليها بالغة الخطورة وترقى إلى هذا الحد من الخصومة؟ وخلص إلى أن التهميش بكل أشكاله والظلم والتفرقة والتبعية تشكل جذور المشكلة وهي الأسباب الرئيسية للنزاع، والتي لا يمكن التعامل معها باجتزاء وبأسلوب منح الصدقات وتقديم التنازلات لصالح المتمردين أو الثوار الساخطين كلما اشتعل النزاع في إقليم معين. فللسودانيين مشاكل في الشرق وفي الغرب وفي الوسط وفي أقصى الشمال. أن تعريف المشكلة بأنها "مشكلة الجنوب" تعد في حد ذاتها دعوة للتهميش! اجتهاد جون قرنق قاده لإعادة تعريف المشكلة على أنها "مشكلة السودان" وليست "مشكلة الجنوب" كما دأبت الأنظمة المتعاقبة على الحكم في الخرطوم تقليديا في الترويج لها. إن الدولة السودانية متمثلة في هيكل السلطة في المركز هي التي تحتاج لإعادة هيكلة جذرية حتى تتمكن من استيعاب الأشكال المتعددة للتنوع السوداني والتعامل مع كافة أشكال الإقصاء والتهميش لشعوبها. فالسمكة تتعفن من رأسها لا من ذيلها!
لم يكن قرنق سياسياً ومقاتلاً من أجل الحرية فحسب بل كان باحثاً ومفكراً عالمياً يسعى لتحقيق نظام دولي جديد. وإلى ذلك فهو لم يكن بمعزل عن التأثر بكل نظريات العالم الكبرى واتجاهات الفكر وعلم الثورات، وعليه فإن مفهوم السودان الجديد يأخذ بقليل من قبس الماركسية ومختلف مدارس الاشتراكية، كما يدين بصورة كبيرة للتراث الفكري الإنساني. فضلاً عن أنه يستصحب بشكل كبير تجارب مشابهة في تكوين الأمم وبناء الدول في كل من أمريكا الشمالية واللاتينية. لا غرو إذن أن البدايات الأولى لرؤية د. قرنق للسودان الجديد كان يشوبها بعض النزوع للاشتراكية. وكان الرأي آنذاك بأن الحل الوحيد لعلل البلاد يكمن في إطار سودان موحد تحت مظلة نظام اشتراكي يراعي الحقوق الإنسانية لجميع القوميات ويكفل الحريات لكل الأديان والمعتقدات والرؤى. وعلى كلِ، فإن الإتكاء على الإشتراكية لا يقدح في ولا ينتقص من مرتكزات مفهوم السودان الجديد. مع ذلك فقد أقر الراحل د. قرنق وشدد بأن مضمون هذه الإشتراكية لا يجوز تقريره ميكانيكياً. بالأحرى فإن "تمثّل وتنزيل الإشتراكية" في السودان سينجلي وتتضح معالمه في سياق تاريخي، ومع استمرار الكفاح من أجل التغيير وتطبيق برنامج التنمية الاقتصادية الاجتماعية أثناء الحرب وبعدها، ووفقاً لشروط السودان الموضوعية. إلى جانب ذلك، فإن آخر ذكر للاشتراكية فيما يتعلق بالسودان الجديد كان في معرض حديث قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان في 3 مارس 1984. فالاشتراكية كانت إلهام دفعت به الظروف الموضوعية التي كان لا بد من التفاعل معها والمحيط االسياسى الذي كان قرنق يعمل في إطاره، وهي على أي حال لا تلقى بأي ظلال أيديولوجية على رؤية السودان الجديد.

اعتبارات منهجية: مصدر اللبس والتشويش:

الإخفاق في التمييز منهجياً بين رؤية السودان الجديد من جانب، والحركة الشعبية (على المستوى التنظيمي، والمستويين الاستراتيجي والتكتيكي) ومتطلبات العملية السياسية لبناء السودان الجديد في مسيرة الكفاح ( سياسياً وعسكرياً وتفاوضياً)، من جانب آخر؛ يشكل أحد الأسباب الرئيسة في إرباك المفهوم. فبعض المنتقدين والمتشككين دأبوا على الانشغال، ومنذ أن طرح الراحل زعيم الحركة الشعبية فكرة السودان الجديد في النصف الأول من الثمانينات، بتساؤلات حول أصل وبذور تكوين الحركة الشعبية ومكوناتها العرقية وأدائها السياسي والعسكري بينما أولوا قليلا من الاهتمام، إن لم يهتموا أصلا، لاختبار الحركة بشكل موضوعي أو تمحيص ما ظلت تبشر به وتدعو له من رؤية.
فالوحدة مثلاً، في ذاتها قيمة جوهرية تتكامل تماما مع، ولا تنفصل عن رؤية السودان الجديد‘ كما هي هدف كبير تطمح فيه وتتطلع إليه قطاعات عريضة من المجتمع السوداني في كل أنحاء البلاد. هذه الدعوة الأصيلة، على أي حال، لم تجد حظها من القبول الجاد كونها صادرة عن "جنوبي" بل تم ازدرائها وتحقيرها ربما لحين ظهور د.قرنق في الخرطوم ثم رحيله المفاجئ والمأساوي. ورغم أن حق تقرير المصير أصبح مطلباً للحركة الشعبية لتحرير السودان فقط في 1991 تجاوباً مع شروط موضوعية في الخرطوم والجنوب، إلا أنه غالباً ما يتم تصويره وكأنه دليل دامغ على الميول الانفصالية للحركة الشعبية وقائدها. وحقيقة، يجب أن ينظر إلي حق تقرير المصير باعتباره وسيلة أو آلية لتحقيق الوحدة الطوعية في ظل بيئة غير مؤتية وعدائية، فهو ليس من المبادئ الأساسية للسودان الجديد. و هذا ببساطة ما يفسر عدم ظهوره في أدبيات الحركة إلا بعد 9 سنوات من تأسيسها وفي لحظة تاريخية من العملية السياسية للصراع من أجل بناء السودان الجديد .
كما إن فصل الدين عن الدولة هو أيضا أمر جوهري في بناء دولة المواطنة وجزء لا يتجزأ من رؤية السودان الجديد. وهذا بدوره قد شابه الالتباس مع الإستراتيجية السياسية للحركة الشعبية، وبمعنى آخر تم خلط الرؤية مع العائد السياسي للمفاوضات. ربما لذلك استشعر بعض الناس أن الحركة الشعبية بقبولها لمسألة الإبقاء على، وتطبيق الشريعة في الشمال قد ارتدّت عن موقفها فيما يختص بالعلاقة بين الدين والدولة. ولكن، لابد أن ندرك أنه في سياق الظروف التي كانت تحيط بالمفاوضات كان هناك اختياران فقط على الحركة الأخذ بأحدهما. أحد الخيارات كان أن تتمسك الحركة بفصل الدين عن الدولة في جميع أنحاء السودان مما سيؤدي إلى تجميد أو انهيار المفاوضات، ولم يكن ذلك ليبدو سائغاً لقواعد الحركة في الجنوب أو مقبولا للشعب السوداني ولا للوسطاء. أسوأ من ذلك أنه كان ممكناً أن يعود بالبلاد إلى دائرة الاحتراب. الخيار الثاني يتمثل في السعي من أجل الوصول إلى حلول عملية من شأنها إنهاء الحروب دون التفريط في حقوق المواطنة لغير المسلمين، ليس في الجنوب فقط، إنما في عموم السودان. لذلك فإن ما تم إنجازه عبر التفاوض كان مجرد خطوة للأمام في العملية السياسية الطويلة والشائكة لبناء السودان الجديد.
وكما ألمحنا أعلاه، فإن نموذج الدولة الواحدة بنظامين كان رد فعل مباشر لموقف الحكومة المتشدّد حول فصل الدين عن الدولة. وقام النموذج على مقترح الترتيبات الكونفدرالية الذي طرحته الحركة منذ بداية المفاوضات، والتفكير الذي ساور البعض بأن النموذج صنيعة أمريكية أو أجنبية فيه مجافاة للحقيقة ومطاوعةً للظنون. ولذلك استهدف المقترح تأكيد الوحدة الوطنية دون الحط من قدر غير المسلمين وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية في وطنهم. والواقع أن مقترح الكونفدرالية كان يمثل النموذج الثاني من النماذج الخمسة المطروحة في ورقة (وسائل حلّ النزاع السوداني) التي قدمها زعيم الحركة في عام 1993 أثناء مفاوضات أبوجا. ولم يكن د. قرنق تحت تأثير أي وهم بأن النموذج الثاني (دولة واحدة بنظامين)- والذي تمخض عن اتفاقية السلام الشامل- يمثل أو يرقى إلى السودان الجديد الذي تصبوا إليه الرؤية. ولذلك أطلق على هذا النموذج (السودان الجديد في حدّه الأدنى) ويستند إلى فرضية أن الترتيبات الكونفيدرالية ستوفر مساحة لتطوير وتعزيز رابطة سودانية جامعة خلال فترة انتقالية قد تقود إلى (سودان متحّول ديمقراطيا) كما يشير (النموذج الأول) أو إلى تقسيم البلاد إلى دولتين مستقلتين ( النموذج الخامس). أما النموذج الثالث فيقوم على فرضية سودان عربي إسلامي يسيطر على الجنوب (وضعية ما قبل اتفاقية السلام الشامل) والذي يفضي بالتأكيد إلى انفصال الجنوب. و(النموذج الرابع) هو نموذج نظري بحت يقوم على افتراض سيطرة دولة علمانية افريقية محلية تؤدي إلى تكوين دولة مستقلة في الشمال. أما الطريقة المثلي للمحافظة على الوحدة فتتمثل في التحول مباشرة من النموذج الثالث (السودان القديم) إلى النموذج الأول (سودان متحّول ديمقراطيا)، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بهزيمة نظام السودان القديم المسيطر هزيمة حاسمة ونهائية. وعلى أي حال، إن لم يكن ذلك ممكناً واختارت الحركة المفاوضات كطريق تسوية النزاع، فإن الخيار الأفضل الثاني يتمثل في التوجه نحو السودان الجديد عن طريق النموذج الثاني (السودان الجديد في حده الأدنى، الكونفيدرالي) أو نموذج (دولة واحدة بنظامين). والواضح أن هذا الخيار يعني القبول بمخاطرة احتمال الانزلاق نحو النموذج الخامس (الانفصال) باعتباره مساوياً لتكلفة فشل القوى الداعية لسودان جديد وديمقراطي في تحقيق انتصار حاسم ونهائي على النظام. وهذا بالتأكيد ليس خياراً انفصاليا. ولكن السير إلى نهاية الطريقً حتى يتحقق السودان الجديد فليس بمسئولية الحركة الشعبية بمفردها ولوحدها، وإنما يمثل تحدياً لكل قوى التغيير الأخرى، خصوصا في شمال السودان‘ والتي يفترض أن تقوم بكل ما هو ضروري وأن تلعب الدور المطلوب لتحريك الأوضاع من النموذج الثاني إلى النموذج الأول، بدلاً من السماح لها بالانحدار نحو النموذج الخامس. وهذه كلها عملية سياسية في سياق الصراع من أجل التغيير ويجب أن لا نخلط بينها وبين رؤية السودان الجديد.
هناك اعتبار منهجي آخر تجدر ملاحظته وهو أن السودان الجديد ليس بنقيض للسودان القديم، كما أن الرؤية لا تهدف إلى هدم السودان القديم كليةً وبناء سودان جديد على أنقاضه. فبناء السودان الجديد هو بالأحرى عملية "تحويلية" قوامها إحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية جوهرية وإعادة هيكلة سياسية تستصحب كل العناصر الإيجابية في السودان القديم مسترشدة بكل تجاربنا التاريخية والمعاصرة، ومدركة بل ومؤهلة لمجابهة التحديات الضخمة للقرن الحادي والعشرين. وستكون مهمة الحركة الشعبية وقوى التغيير الأخرى، خصوصاً في الشمال، والتي نشأت وترعرعت في السودان القديم نفسه، الأخذ من أفضل مكوناته وأكثرها إيجابية ورقيا في سياق التجارب الخاصة لكل من هذه القوى لقيادة عملية التحوّل صوب سودان جديد.
من جانب آخر، فهنالك بعض القوى التي استفادت ومازالت تستفيد من السودان القديم وهي تعي جيداً أن في السودان الجديد تهديدا لمصالحها سواء كانت تلك القوى في سدة الحكم أم كانت معارضة له. وهذه القوى ماضية في عزمها على تضليل قواعدها وبث الخوف في صفوفها بأن مفهوم السودان الجديد ما هو إلا اسم مستعار وتجميل لفكرة تكرّس دولة إفريقية مسيحية مناهضة للإسلام والعروبة وتعمل بالتنسيق مع الصهيونية على استبدال الهوية الأسلاموعربية للسودانيين (خصوصاً في الشمال). إن هذه الادّعاءات غير المؤسسة والتي تذكي جذوتها النعرة العنصرية والهوس الديني قد تم التصدّي لها بصلابة في أماكن أخرى وتجاوزها الزمن تماماً؛ وحتى في ورقة (وسائل حلّ النزاع السوداني) التي طرح فيها زعيم الحركة الشعبية نماذج الحل الخمسة في عام 1993 أثناء مفاوضات أبوجا، أكّد الراحل على أن النموذج 4 (حيث السيادة لدولة أفريقية علمانية) هو نموذج افتراضي ونظري بحت. وفى حقيقة الأمر، إذا كان النموذج الأول، سودان ما قبل اتفاقية السلام الشامل (السودان العربي-الاسلامى) تستحيل استدامته فكيف يستقيم عقلا أن يفكر صاحب هذه الرؤية الثاقبة في سودان على (النموذج 4) غير قابل للحياة، على حد سواء!
ومثال صارخ للالتباس والخلط بين رؤية السودان الجديد والحركة الشعبية، كتنظيم سياسي، مقال نشر مؤخرا في صحيفة "سودان تريبيون" والذي اعتبر خطأ استخدام عبارة "السودان الجديد" لوصف المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش الشعبي في الجنوب، جبال النوبة والانقسنا، وكأنها تتطابق مع تعريف جغرافي لمفهوم السودان الجديد من قبل الحركة الشعبية. وبالطبع ليس هذا بصحيح ومن السذاجة بمكان أن يصدر من حركة ظلت تقاتل أكثر من عقدين من الزمان من أجل التغيير.

السودان الجديد: إطار قومي لإعادة بناء الدولة السودانية:

السودان القديم: ما خطبه؟


اتساقاً مع تعريف الأزمة السودانية بأنها "مشكلة السودان" وليست "مشكلة الجنوب" فحسب، فإن تصور الحل يكمن في تحوّل السودان ككل، وذلك بعد إجراء تحليل متعمق ودراسة متأنية للسودان القديم. ويتجلى المدخل لهذا الحل في تكشّف أزمة الهوية الوطنية التي أفرزتها أطر الحكم بعد الاستقلال في أغلب أنحاء القارّة الأفريقية. فأزمة الهوية هي نتاج لتطوُّر تاريخي. فقد تشكلت الدولة الأفريقية (أو السودانية) تاريخياً من عدة عناصر وتنويعات إثنية وعرقية وثقافية وسمتها بتركيبة تعدّدية. فكانت الدولة الأفريقية، ولا تزال، تتألّف من وحدات عرقية متمايزة، لدرجة أنه كان من الممكن لغالبيتها أن تزعم إبان الاستعمار بأنها قومياتٌ قائمةٌ بذاتها. وفيما درجت السلطات الاستعمارية على تطبيق سياسات تفاضلية تمايز سياسياً واقتصادياً بين المجموعات والأقاليم المختلفة، لازم تلك التعددية تفاوتاً كبيراً في صوغ معادلة السلطة وتقسيم الثروات القومية والخدمات الاجتماعية وفرص التنمية. وأفضى هذا التنوع الغزير مقروناً مع تلك التباينات الشديدة إلى زرع بذور النزاع والشقاق بين العناصر المكونة لهذا التنوع. وبدلا عن أن تنشد حلولا بعينها لمعالجة هذه التباينات عبر انتهاج نظام تمثيل عادل وتوزيع منصف للثروات، فإن غالبية حكومات ما بعد الاستقلال آثرت فقط الركون مجملاً إلى تبنّي الأنماط الدستورية التي خلّفها المستعمر. وباتّخاذها ذاك المنحى أرست تلك الحكومات مفاهيم أحادية جامدة للوحدة تمّخض عنها قمع أشكال التنوّع العديدة، منتقصةً بذلك حقوق العديد من الأفارقة، تاركةً إيّاهم بلا حول ولا قوة، يتطلعون ليس فقط للاعتراف بخصوصية هوياتهم إزاء هيمنة الأغلبية بل لتمثيل كياناتهم عبر الأطر الدستورية وأنظمة الحكم في الدول التي يعيشون في كنفها. أفضت هذه السياسات في العديد من الأقطار الأفريقية إلى النزاع المسلح والمطالبة بحق تقرير المصير بشتى الصيغ والدرجات .
لا يستثنى السودان من هذا الواقع، إذ أن القطر عانى طيلة سبعة عشر عاماً حرباً انفصالية اشتعل فتيلها قبل أربعة شهور فقط من الاستقلال. توقفت تلك الحرب مؤقتا نتيجة لاتفاقية سلام هشة دامت عقدا من الزمان اشتعلت بعده الحرب مجددا بسبب نقض الحكومة، من جانب واحد، للاتفاقية. ومن هنا جاءت تساؤلات الراحل قرنق حول كنه المشكلة ولماذا يعرض أي مجتمع نفسه لأجيال من المعاناة والاقتتال على امتداد البلاد؟ إن محاولات الأنظمة المتعاقبة على الحكم في الخرطوم منذ 1956 إقامة وحدة تقتصر على اثنين فقط من مكونات التنوع التاريخى والمعاصر مع إقصاء محددات التنوع الأخرى لهو أساس مشكلة السودان الذي ينبغي تعريف الأزمة السودانية على ضوئه. هكذا عمدت الدولة السودانية إلى إقصاء الغالبية العظمى لأهل السودان من المشاركة في الحكم وبالتالي تهميشها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما حرض المهمشين للجوء إلى المقاومة. ولطالما كان السودان ولا يزال يرزح تحت نير الحروب، كما برهن على ذلك مؤخراً النزاع المسلح والاقتتال الدائر في دارفور وشرق السودان. ومرد ذلك ببساطة هو أن الأغلبية في السودان لم تعد مشاركة أو صاحبة حق في حكومات يفترض أنها تمثلها. ويكمن الحل لهذه المشكلة الأساسية في بناء دولة سودانية تسع الجميع بلا استثناء؛ أي دولة مواطنة حقة وإدارة حكم سياسية جديدة يتساوى فيها السودانيون في الحقوق والوجبات بغض النظر عن الدين والأصل والعرق والقبيلة والنوع.

دعائم السودان الجديد:


خلافا للإستراتيجية السياسية والمواقف التفاوضية للحركة الشعبية لتحرير السودان، فإن المرتكزات النظرية للسودان الجديد المفصلة في مارس 1985 ظلت ثابتة لم تتغير، وإنما استفيض في بيانها وتفصيلها، نورد حيثياتها فيما يلي.

بلورة الهوية السودانية:


بلا شك أن السودان مجتمع متعدد الأعراق والثقافات. وإن إحدى مشاكل السودان القديم أنه كان، وما زال، يبحث عن ذاته ويطرح تساؤلات مضنية حول هويته الحقيقية، فنحن قطر عربي كما أننا قطر أفريقي، ولكن هل نحن هجين؟ هل نحن عرب أم أفارقة؟ فمن نحن؟ وحينما نفشل في تعريف هويتنا، بسبب أننا لا نبحث عنها داخل السودان بل نبحث عنها بالخارج، "يلوذ البعض بالعروبة وإذ يخفقون في ذلك يلجأون إلى الإسلام كعامل موّحد، بينما يصيب الإحباط البعض الآخر حال إخفاقهم في إدراك كيف يكونون عرباً بينما اقتضت مشيئة الخالق خلاف ذلك؛ فيلجأون للانفصال". أما السودان الجديد فتتساوى في الإنتماء إليه كل القوميات التي تقطنه الآن؛ وما تاريخه وتنوعه وثرواته إلاّ تراثاً مشتركاً بينها. إذن فلن يصح تعريف الهوية السودانية وفقاً لعاملين اثنين فقط (العروبة والإسلام) مع استبعاد بقية المحددات الجوهرية المتجذرة في تنوع السودان التاريخي والمعاصر. لذلك فإن عملية البناء الوطني تستوجب إمعان النظر داخل القطر واستصحاب تجارب الآخرين وصولاً لتكوين أمة سودانية متفردة. وهناك العديد من الأقطار والشعوب والأمم ممن فعل ذلك. "فقد هاجر الإنجليز إلى أمريكا وأنشئوا ثلاثة عشر مستعمرة، ولكن ظلوا كما هم ذات الإنجليز يتحدثون الإنجليزية ويدينون بالمسيحية كما اضطروا إلى محاربة إنجلترا لنيل استقلالهم. وهاهم الآن الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يدّعون أنهم إنجليز رغم تحدّثهم بالإنجليزية. الإنجليزية هي لغة أمريكا ولكن تلك البلاد هي أمريكا وليست إنجلترا. مثال آخر جيد ساقه البرتغاليون والأسبان. والأسبانية هي لغة الأرجنتين وبوليفيا وكوبا، مع ذلك يظلون نفس الدول وليس أسبانيا. وبالمثل لا يمكن الزعم بأن العربية في السودان هي لغة العرب وإنما لغة السودان وأهل السودان".

الوحدة على أسس جديدة:


أن الوحدة التي تأسس عليها السودان القديم ليست حيوية وغير قابلة للبقاء أو الاستدامة. فهذه الوحدة متجذرة في الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية لبعض النخب والمجموعات بينما أستبعدت مجموعات أخرى أساسية من عملية صياغة أسس المجتمع السوداني وتم عزلها عن المشاركة الفاعلة في السلطة السياسية وعن التعبير عن هوياتها القومية والثقافية وعن قسمة نصيبهم في الثروة القومية، وتم كل ذلك في إطار نموذج تنمية غير متكافئة. إن للسودان تاريخ عريق وغني منذ أيام الحضارة الكوشية التي ترجع إلى آلاف السنين قبل ميلاد المسيح، وهذا ما نعته الراحل قرنق بالتنوع التاريخي. بينما يشكل سودان اليوم محصلة ناقصة ونتاج غير مكتمل لعملية تفاعلات وتحولات تاريخية طويلة ومعقدة أنتجت هذا المزيج المتنوع عرقيا وثقافيا ودينيا ولغويا واقتصاديا وجغرافيا. وتمثل هذه التشكيلة التنوع المعاصر للسودان. اقتصر السودان القديم وحدة البلاد على محددات وعناصر انتقائية من المجموع الكلي للعناصر التي تشكل جميعها التنوع التاريخي والمعاصر للسودان، بينما تم إهمال وتجاهل مكونات حيوية ومفتاحيه أخرى.
إن الوحدة التي تأسست على هذه المكونات الجزئية وما صاحبها من تبعات سياسية واقتصادية واجتماعية ستظل دوما هشة وغير قابلة للاستمرار. فلابد للترتيبات الدستورية والمؤسسية وبرامج وسياسات السودان الجديد من أن تعكس هذين النوعين من التنوع التاريخى والمعاصر. وهذا من المتطلبات الضرورية لبناء أمة عظيمة موحدة طوعيا في تنوعها بدلا عن أمة منقسمة على نفسها بسبب التنوع. بل إن الإصرار والمثابرة على تماثل دين واحد مع الدولة، وبالتالي إقامة دولة دينية لا يقود إلا لإحداث شروخ عميقة في نسيج المجتمع السوداني مفضيا في آخر الأمر إلى تشظى البلاد وتفسخ الدولة السودانية. ومرد ذلك ليس فقط لأن كل السودانيين لا يدينون بالإسلام، بل لا يوجد إجماع حول قوانين الشريعة حتى وسط المسلمين أنفسهم. ولذلك يجب أن لا نسيء تفسير المقصود بفصل الدين عن الدولة، سواء كان ذلك عمدا أو عن جهل، ليعنى إبعاد الدين عن الحياة والمجتمع ولو بأي شكل من الأشكال. فهذا ليس بممكن لأن الدين جزء أصيل من الإنسانية. علاوة على أن كل السودانيين لهم معتقداتهم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يعتقدون في الديانات الأفريقية التقليدية. فكل ما تقترحه رؤية السودان الجديد هو أن الدين ينظم العلاقة بين البشر وخالقهم وهى علاقة بطبيعتها محكومة بالتشريعات الدينية في المجال الخاص. بينما الدولة مؤسسة اجتماعية وسياسية استنبطها البشر وينتمي إليها الجميع بغض النظر عن معتقداتهم الدينية المختلفة. ولهذا كان الراحل د. قرنق يتساءل في تعجب: لماذا نغرق أنفسنا في خلط المواضيع و نفرق بين شعبنا فينقسم الناس ويحصدون الشقاق نتيجة لذلك!!

إعادة هيكلة السلطة:

وهذا يعنى ابتداء إعادة هيكلة السلطة المركزية بصورة تضع في الاعتبار مصالح كل المناطق والقوميات المهمشة، سواء أولئك الذين حملوا السلاح أو الذين ظلوا يعارضون بصبر وفى صمت. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإنهاء احتكار السلطة في يد فئة قليلة أيما كانت خلفياتهم وسواء جاءوا في زى الأحزاب السياسية أو أسر حاكمة أو طوائف دينية أو ضباطا في الجيش. فقد كان تمثيل الجنوبيين والمجموعات المهمشة الأخرى في الحكومات المركزية دائما رمزيا وبدون استشارة أو مشاركة فعالة في عملية تكوين هذه الحكومات، فغالبا ما تتم دعوة هذه المجموعات للانضمام إلى الحكومات "الوطنية" كطفيليين أو متفرجين وليس كشركاء متساوين وأصليين. وقد دفع هذا الإقصاء بالنخب والمتطلعين إلى السلطة في هذه المناطق للرجوع إلى، والاتكاء على قواعدهم الاثنية والإقليمية والى تكوين حركات وتنظيمات سياسية إقليمية. وهذا ما وصفه الراحل قرنق "بالصدف التي لا تحدث صدفة!" إذ دائما ما تنتهي السلطة بيد مجموعة أو مجموعات معينة من شمال السودان. وثانيا، التشديد على لامركزية السلطة وذلك بإعادة تعريف العلاقة بين المركز في الخرطوم والأقاليم ومنح سلطات أوسع لهذه الأقاليم في شكل فدرالي أو حكم ذاتي، أين ومتى ما كان ذلك ضروريا، حتى تتمكن الجماهير، وليس النخب الإقليمية، في ممارسة سلطات حقيقية من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وترويج وتطوير ثقافاتهم المختلفة.

الحكم الديموقراطى وحقوق الإنسان:


وما يجب التطلع إليه والترويج له وحمايته هو سودان جديد ديموقراطى لا تكون فيه المساواة والحرية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية مجرد شعارات بل واقعا ملموسا يعيشه الناس. فالديمقراطية في السودان الجديد ليست هي ديمقراطية الماضي الصورية والإجرائية والتي كانت بمثابة تمويه لإدامة المصالح المكتسبة لبعض المجموعات. فقد خضعت الحقوق المدنية في تلك الديمقراطية الصورية لأهواء الحكام، بينما ظلت الأغلبية في الأقاليم على هامش السلطة المركزية والتي تعاملت معها وكأنها تابع يسهل التخلص منه أو مناورته بالتحايل والنفاق السياسي. يمثل التحول الذي تنشده رؤية السودان الجديد نقلة في المنظور الاقتصادي والاجتماعي يستلزم الاعتراف بالتنوع السياسي وذلك بضمان الحرية الكاملة للتعددية السياسية. وهذا بالضرورة يستدعى تعميق حقوق الإنسان وكافة الحقوق الدستورية واحترام استقلال القضاء، بما في ذلك محكمة دستورية لا تنتهك حرمتها والالتزام بحكم القانون من قبل الحكومة والمحكومين وتأسيس خدمة مدنية ذات كفاءة واستقلال حقيقي على كل مستويات الحكم. كما تسعى رؤية السودان الجديد إلى إعادة صياغة النظام التشريعي بأسلوب يضمن تحقيق التوازن والضبط ويكفل السلطات الممنوحة للأقاليم لكي لا يتم سحبها أو إضعافها بواسطة مراكز السلطة الأخرى. فيجب أن لا تؤخذ الديمقراطية كوسيلة للصراع من أجل السلطة واستحقاقاتها فحسب، بل لابد من فهمها كنظام تنافسي لترسيخ الحكم الراشد وضمان توفير وتطوير الخدمات الاجتماعية ووصولها لأهلنا في كل أنحاء السودان بدون الخدش في كرامتهم أو الانتقاص من قيمتهم الإنسانية.

التنمية المتوازنة والمستدامة:


لا يكتمل مشروع السودان الجديد بدون تطوير منظومة اقتصادية يتم من خلالها الاستخدام العقلاني والرشيد لموارد البلاد الطبيعية والبشرية الوفيرة لوقف التنمية غير-المتكافئة ولوضع حد لكل أشكال التهميش والحرمان وللتوزيع العادل لثمار النمو والتنمية. ويمثل الاقتسام الملائم والعادل للثروة بين شعوب وقوميات السودان المختلفة جزءا لا يتجزأ من منظومة التنمية المتوازنة.

خاتمة:

إن الأزمة الوطنية التي أبتلى بها السودان منذ استقلاله في 1956 هي في الأساس أزمة هوية أساسها عجز السودانيين عن التصالح مع واقعهم الثقافي والاثنى والذي يجعل منهم أمة. فجاءت رؤية السودان الجديد في جوهرها كإطار قومي ورابطة اقتصادية واجتماعية وسياسية متجذرة في ومستوعبة للتنوع المتعدد الذي يتميز به السودان. فهي، إذن، إطار لإعادة تشكيل كل السودان وصوغ الديمقراطية وتحقيق المساواة والحرية والتقدم، وهذه كلها مكونات أساسية للاستقرار والديمقراطية الحقيقية. وهذا بالتحديد ما يميز السودان الجديد عن السودان القديم والذي تأسس على عنصرين فقط من مكونات التنوع التاريخى والمعاصر للسودانيين. فجوهر الرؤية هو الإدارة العادلة للتنوع واحترام هويات وثقافات كل المجموعات القومية. وبالرغم عن أن السودان هو منطلق وبؤرة اهتمام رؤية السودان الجديد إلا انه يمكن تطبيقها عالميا في الدول والمناطق الأخرى التي تمزقت أوصالها بسبب التنوع والتباين العرقي والاثنى والثقافي والديني. وبذلك، فان الرؤية ليست بعقيدة أو أيديولوجية للحركة الشعبية، ومن ثم يجب أن لا نخلط بينها وبين الهيكل التنظيمي للحركة أو استراتيجياتها وتكتيكاتها وما يصاحبها من عمليات سياسية تهدف إلى تحقيق الرؤية، ولو أن كل هذه مواضيع مشروعة للنقاش والحوار والتقييم النقدي.

توسيع دائرة الحوار:


إن حالفني التوفيق في توضيح رؤية السودان الجديد من خلال هذا العرض، فإن قاعدة إتحاد الكتاب السودانيين وكل المشاركين في هذا المؤتمر العام سيوافقونني الرأي على الآتي:

• هذه الرؤية هي بمثابة مشروع قومي لبناء سودان موحّد وقابل للحياة يجنّب البلاد خطري التفكك والانشطار. فالرؤية للسودان القديم المنافسة في كلتي نسختيه، منذ الاستقلال وحتى 1989 ومن 1989 إلى 2005، قد أخفقت في صون وحدة البلاد واستدامتها؛ بينما رؤية السودان الجديد ترتكز على مفهوم المواطنة الذي لا شك عندي أن غالبية الحضور في هذا المؤتمر يساندونه.

• الحركة الشعبية لتحرير السودان هي التي تقدمت برؤية السودان الجديد. ولكن، مثلما أن السودان القديم يتعرض لتغيّرات جذرية في مسيرة انتقاله نحو السودان الجديد فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان نفسها لابد أن ينالها التطوير وتخضع بذلك لتحولات أساسية. ورغم أن الحركة ظلت تحتفظ بمضمونها الرئيسي، إلا أنها شهدت تحولات عبر السنين، وفي غضون تلك التحولات بدت الحركة مختلفة في المراحل المختلفة للكثير من الناس وجماعات المهتمين مما يفسر اللبس- القائم عند البعض- حول طبيعة ومضمون الحركة الشعبية. إن اتفاقية السلام الشامل، والتي أفضت إلى أكثر التحولات الدستورية جذرية بعد الاستقلال، قد أدخلت الحركة الشعبية لتحرير السودان في مرحلة جديدة (جمهورية ثانية) تتسم بالعديد من حالات الانتقال وما تستدعيه من إدارة فاعلة لهذه التحولات. فبانتقالها من مربع الحرب للسلام فان الحركة الآن مواجهة بإدارة تحول دقيق ثلاثي المسارات: أي من تنظيم سياسي-عسكري إلى حركة سياسية، ومن حركة إقليمية إلى حركة قومية ، ومن خانة المعارضة إلى الشراكة في الحكومة. أضف إلى كل هذا الرحيل المفجع والمفاجئ لزعيمها والذي بلا شك قد زاد وضاعف من أعباء الحركة في التعامل مع هذه التحوّلات المتعددة.

• رؤية السودان الجديد ليست برنامجاً تحتكره الحركة الشعبية وحدها أو أي كيان سياسي آخر منفرد، وإنما كما قدمنا، هي إطار قومي من شأن الأحزاب والتنظيمات السياسية وضع سياساتها وبرامجها الخاصة على ضوئه.

• كان الراحل زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان مدركاً منذ تأسيس الحركة أنها لن تكون قادرة بمفردها على تحقيق التحوّل من السودان القديم صوب السودان الجديدً. لذلك، كان الراحل حريصاً منذ البداية على خلق صلات مع ومد يديه إلى مختلف القوى السياسية والاجتماعية في الشمال. كما كان له دورا محوريا في جمع هذه القوى في وقت مبكر في كوكا دام-إثيوبيا في مارس 1985. كما كانت الحركة الشعبية عضوا فاعلا في التجمع الوطني الديموقراطى وتبوأ قائدها رئاسة القوات المشتركة للتجمع. وهكذا، فإن الحركة الشعبية أقامت تحالفات مع جميع القوى السياسية الحديثة والتقليدية بغرض المضي قدماً بعملية البناء الوطني. ورغم أن أوضاع ما بعد اتفاقية السلام الشامل قد خلقت واقعا سياسياً جديداً إلاّ أن الحركة الشعبية عازمة على التفاعل مع القوى السياسية الأخرى بإقامة تحالفات تخدم أهداف ومرامي السودان الجديد.
إن منظمي هذا المؤتمر جديرون بالثناء لطرحهم رؤية السودان الجديد للمناظرة والنقاش في هذا المنبر المعتبر. ولكن من الأهمية بمكان أن نمضي قدما بهذا المجهود وذلك بتوسيع دوائر الحوار عن طريق الدراسات والأبحاث الجادة وبإشراك كل قوى التغيير، خصوصا في الشمال.

أولاً: من المهم تحديد المواضيع والقضايا الملحة التي طرحتها الرؤية وما تستدعيه من بيان وتفصيل. إن قائمة مختصرة بهذه القضايا تشمل ضمن أخريات: ثنائيات السودان القديم/الجديد، الحداثة/التقليد، مفهوم التهميش، قضية العرق والطبقة، التعددية الديمقراطية والثقافية، قضايا المرأة والحقوق المتساوية، الديمقراطية وحقوق الإنسان، الدستور وحكم القانون، الثقافة ووسائل الإعلام، اقتصاد السوق وتطوير القطاع الخاص.

ثانياً: يبدو أن الوقت قد حان بأن تدخل قوى التغيير والسودان الجديد في الشمال والحركة الشعبية في حوار صريح وبناء حول الانتقال نحو السودان الجديد في سياق اتفاقية السلام الشامل. في هذا السياق يبرز سؤال هام حول كيف لنا أن نوظف الوضع الجديد الذي أرست قواعده اتفاقية السلام الشامل لصالح الدفع بمشروع السودان الجديد إلى الأمام، وهو سؤال يشكل في حد ذاته مجالا خصبا للبحث والتفاعل والحوار. فان كان البعض يرى بأن الحركة الشعبية قد تراجعت عن رؤية السودان الجديد وتقزمت إلى محض حركة إقليمية جنوبية فما هو موقف قوى التغيير الأخرى في الشمال؟ إن السؤال الذي يغلب تأطيره بشكل خاطئ في الشمال حول مصير الشماليين في الحركة بعد رحيل د. قرنق يجب إعادة صياغته ليكون: ما هو مصير كل الشماليين وليس فقط المنتسبين للحركة إذا تراجعت إلى كيان سياسي جنوبي؟ هل لهذه القوى أي مشروع بديل لرؤية السودان الجديد؟ أليس من صميم مصلحة السودانيين في الشمال، خصوصا المتطلعين إلى سودان جديد موحد، مؤازرة الحركة عبر المشاركة الفاعلة في تحولها إلى حركة سياسية قومية وذلك باعتبارها الضمان.


[email protected]
أضف رد جديد