نشرة الأخبار في تلفزيون تشاد

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

نشرة الأخبار في تلفزيون تشاد

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

https://www.youtube.com/v/niNzt9nTw5M

جاد عليّ الصديق أحمد طراوة بهذا الفيديو لمقطع من نشرة الأخبار بتلفزيون تشاد ..
الفيديو فعلاً مُلفت للنظر، ومُحفِّز على التفكير في المآلات المختلفة للغة العربية.
تُرى لو لم تهجم علينا الغزوة التركية وتربطنا مركزياً بالشرق العربي الإسلامي وتأتينا بالأزهريين وعلماء السلطان والتعليم النظامي والإدارة المركزية، ... ترى أكانت عربيتنا ستصبح كعربية تشاد؟!
لابد لمن إطلع على (الطبقات) أن يكون قد انتبه للغة التي كتب بها، والتي لا شك في كونها في ذاك الزمان كانت لغة المثقفين السودانيين.
كذلك فأن الممالك التي قامت في السودان لاتختلف في تقاليدها كثيراً عن الممالك (الإسلامية) الأخرى التي قامت على هامش الإمبراطورية الإسلامية في المنطقة الجغرافية- السياسية التي كانت تُعرف ببلاد السودان والتي امتدت حتى موريتانيا ومالي وأفريقيا الوسطى. وقد كانت صراعات سلطنات دارفور (الداجو- التنجر- الفور) مع وِداي غرباً (تشاد)، ولَم تبدأ سلطنة الفور في الإتجاه شرقاً إلا في زمن السلطان تيراب والصراع حول كردفان مع الفونج.
ثمّ هناك أيضاً مسألة العربية في جنوب السودان ودورها كلغة تواصل lingua franca وأيضاً كلغة أولى ولغة ثانية لأجيال من الجنوبيين من سكّان الحضر.
كيف سيكون مستقبل العربية في جمهورية جنوب السودان؟ وأي لغة عربية؟ لغة المركز العربي- الإسلامي الذي يرونه كمُضطهد لهم. تلك اللغة المليئة بالإنحيازات ضدهم أم لغة عربية أخرى (محايدة) ومُحوّرة على لسانهم وظرفهم كهذِه العربية التشادية المبينة؟!







[b]
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

وهذِه خواطر حول هذا الموضوع، غير مرتّبة (وربما بعضها فطير) كتبتها على صفحتي في (الفيس بوك)، تعليقاً على مداخلات الأصدقاء، أنشرها هكذا علّها تثير نقاشاً يساعدني في إعادة كتابتها بشكل أفضل:

• دخول العرب للسودان السابق للإسلام لا يُعتد به كثيراً (في مسألة الإستعراب)، فالهجرات والتساكن والتداخل البسيط تخلق أوضاع لغوية جديدة من ناحية تنويع الخارطة اللغوية والتوزيع الجغرافي للغات فيها، لكنّها ربما لا تُحدث تغييراً لغوياً فارقاً.
• إنّ التغيير اللغوي الناجز والذي تصطدم فيه اللغات بعضها بالبعض الآخر، ويحدث فيه الإنتشار والإنحسار، وتصعد فيه لغة أو لغات وتندثر أخرى، هو ذاك الذي تدعمه قوة المؤسسات الإجتماعية الجديدة الناجمة عن الإنقلابات والتغييرات الإجتماعية الكُبرى.
فتجارة المسافات البعيدة، والغزو العسكري ونشاطات بناء الدولة، ومركزة السلطة والنشاط الإقتصادي، هي التي أحدثت الإنقلابات الإجتماعية العميقة في شمال وأواسط السودان. فبفضلها ضعفت وتخلخلت الحدود الإثنية- الثقافية بين المجموعات ونشأت الحاجة للتعامل وللتواصل خارج المجموعة الإثنية- الثقافية بلغة تستوعب الظروف الجديدة التي نشأت. وهذا ما حدث بعد الإسلام وتوسّع الإمبراطورية الإسلامية الذي خلق وضعاً جيوبوليتكياً جديداً.
• العراق والشام ومصر وربما أجزاء من شمال أفريقيا استعربت قبل السودان بقرون. فقد أوقفت مقاومة النوبيين الزحف الإسلامي (العربي) القادم من الشمال، وضمنت لهم اتفاقية (البقط) الإحتفاظ بالسلطة السياسية لستِّ قرون أو أكثر بعد حملة عبد الله بن أبي السرح. وقد زار أحد أمراء النوبة (المسيحيّين) بغداد في عهد الخلافة العبّاسية، ليفاوض في أمر (البقط).
• فيما قبل الغزوة التركية، قامت في السودان أرستقراطيات إثنية ذات قدرة على التنظيم العسكري بدفع نشاطات تكوين الدولة والمركزة السياسية والإقتصادية. وتكاد تلك الدويلات أن تكون نسخاً (copy cats) لبعضها البعض على طول الحزام السوداني، وفِي هامش الإمبراطورية الإسلامية، (في تبنيها للأيديولوجية الإسلامية والأصل العربي "الشريف" واللغة العربية). فمن الفونج إلى الفور وتقلي، ومن وِداي إلى مالي إلى السلطنات الإسلامية الأخرى في غرب أفريقيا تأسست مثل هَذِه السلطنات بقيام إثنية بالتوسّع خارج حدودها بتحالفات مع مجموعات (عربية) أو مستعربة أو بدونها وبناء كيانات سياسية أوسع من حدود القبيلة.
خلق مثل هَذِه الكيانات فوق- القبلية وبناء المؤسسات الإجتماعية الكبيرة وتنامي الإقتصاد البضائعي والإنفتاح على الصراع السياسي الإقليمي، هَذِه العمليات الإجتماعية الكُبرى والمُخلخِلة هي التي تهيئ الظروف المواتية للتغيير اللغوي.
• ما يسمّى بالقبائل العربية التي انداحت في سهول كردفان ودارفور، وربما عن طرق شتى أخرى حتى وصلت غرب أفريقيا، هي قبائل تمتهن الرعي واقتصادها أقرب إلى الإكتفاء الذاتي، فهي إذاً وحدات منغلقة على نفسها، كما أنّها لم تلعب دوراً كبيراً في عمليات بناء الدولة، أكثر من أن تكون حليفاً كما حدث في السودان من حلف العبدلاب مع الفونج.
لكن إثنية كالفور مثلاً، على الرغم من أنّها لم تستعرب إستعراباً كاملاً، فإن توسعها السياسي خارج حدودها التقليدية ومساعيها في نشاطات تكوين الدولة قد أوجدت الظروف الإجتماعية المواتية لإنتشار العربية، بما لم تفعله أيّ من القبائل العربية في المنطقة.
• إذا كانت السلطنات السودانية الأولى هي التي دعمت موجة الإستعراب الأولى، فإن الغزوة التركية هي التي دعمت سيرورته، وبدأت موجة الإستعراب الثانية. فمع دخول (التركية)، دخلت الدولة المركزية الإسلامية بمؤسساتها العسكرية والإدارية والتعليمية والدينية. وتتوجت نشاطات بناء الدولة عبر القرون بضمّ الأراضي السودانية للإمبراطورية الإسلامية وربط إدارته واقتصاده وثقافته الإجتماعية بالمجتمع الشرق-أوسطي الإسلامي.
فتأمين الطرق ومَرْكَزة الإدارة والنشاط الإقتصادي وظهور المدن والمراكز وإدخال التعليم النظامي - وكافة التدابير التي اتخذتها السلطات الحاكمة في سبيل تدعيم سلطها وحلب الريع- كلّها تؤدي إلى المزيد من الترابط الإجتماعي ونشوء تكوينات إجتماعية جديدة أوسع من القبيلة و (الدار) والإقليم. وهذا كلّه يخلق ظروف أكثر تحفيزاً للتداخل والتماس مع (اللغة العربية). جدير بالذكر أنّه مع تطوير الإدارة وتوسّع التعليم النظامي واتساع رقعته، بدأت تتدعّم مكانة اللهجات (العليا) التي تتبناها الدولة (العربية الوسيطة والفصحى إضافة إلى لهجات الكلام الحضرية التي يتمّ فيها تحييد الخصائص الإثنية والإقليمية). وبذلك تتوسع المعرفة بها ويتوسَّع استخدامها وينتشر بين مجموعات أوسع من السكّان.
• (اللغة العربية) تسمية مخادعة. فاللغة هي مجموع لهجاتها وجميع أشكال تخريجاتها من أوعر أشكال فصحاها إلى كافة أنوع الهجائن (التي ربما تكون آخذة في التَّشكُّل في هذه اللحظة). أقول هذا لأنّ أذهاننا تنصرف إلى وحدة صمّاء مُنجزة حالما نسمع تعبير (اللغة العربية)، وغالباً ما تكون (عربية الكتابة الفصحى).
بهذا المعنى، فإنّ (اللغة العربية) التي دخلت إلى السودان إنما هي أرخبيل من النوعيات ولهجات الكلام والخطاب اليومي بالأساس، وربما وبشكل محدود بعض نوعيات الكتابة والقراءة.
أقول هذا أيضاً لأن ما يُعرف بـ (الفصحى) لم تكن لغة الحديث أو الخطاب اليومي لأحد، بل كانت حتى في العهد قبل الإسلامي لغة الأدب والنصوص الفنّية وفيما بعد لغة الكتابة.
لذا فليس من المستبعد إفتراض أن المعرفة بلهجة أو لهجات الكتابة (العليا) كان ضعيفاً جداً ومحصوراً على الشيوخ الدينيّين وتلاميذهم، وأن الغالبية العظمى من السكان لم تكُن بحاجة في معاشها لمثل هَذِه اللغة (أو النوعية) فيما عدا حفظ ما تيسّر لأداء الشعائر الدينية. وكنت قد أشرت إلى (نوعية) اللغة التي كتب بها ود ضيف الله طبقاته، على أنّها ربما تكون (أرقى) أشكال لغة الكتابة في ذاك العهد.
• ما أعنيه إذاً هو أنّ فترة (التركية) هي التي شكلت مرحلة الإستعراب الثانية، من حيث أنّها وفرت شروطاً وظروفاً لم تكُن موجودة قبلها بنفس الزخم، أدت إلى تسارع وتيرته واتساع رقعته، وأيضاً إلى تكْيفِهِ نوعياً بالنزوع نحو التسوية والتمركز اللهجي Standardization، ونحو تبني اللهجات والنوعيات (العليا). وذلك كما أسلفت بمركزة السلطة وتطوير الإدارة وتوسيع التعليم النظامي، بشكل لم تعهده البلاد في السابق. لذا ظهرت الحاجة وتدعّمت للنوعيات (العليا) التي تتبناها الدولة (العربية الوسيطة والفصحى إضافة إلى اللهجات حضرية).

• من تصفحي السريع لتاريخ تشاد على الانترنت، لاحظت أنها ظلّت تحكم بواسطة السلطنات الإسلامية حتى دخول الإستعمار الفرنسي عام ١٩٢٠م. وبالنظر لنظام حكم السلطنات (كما عهدناه عند الفونج والفور) فهو نظام لا مركزي يفرض فيه المركز دفع نوع معيّن من الأتاوات على القبائل والمشيخات المختلفة، وقد يعيّن حاكماً أو أميراً عليها، لكنّها تظل تتمتع باستقلالها الذاتي في إدارة أمورها. مثل هذا النظام لا يشجّع على مركزة الإقتصاد ولا الإدارة ولا يُحدِث بالتالي تغييرات إجتماعية بعيدة الأثر في حياة الناس كما تفعل الدولة الرأسمالية. فهذا النظام من مخلفات الإقطاع وهو ما يسميه سمير أمين بالدولة الخراجية نسبة لقيام المركز باستحلاب (الخراج) من المقاطعات والمشيخات والتكوينات القبلية المختلفة مع ترك كامل الحرية لها في أمور الإدارة والخدمات وشئون رعاياها الأخرى.
هذا مختلف عن ما تفعله الدولة الرأسمالية التي تفرض نظاماً مركزياً تتولى من خلاله إدارة كافة شئون البلاد من إقتصاد وإدارة وخدمات وتعليم وما إليه.
وقد خبرنا في السودان هذا النوع من الحكم عالي المركزية مع الغزوة التركية التي ما أن دانت لها الأمور وتبخرت أحلام الذهب والعبيد حتى شرعت - على طريق محمد علي في تحديث مصر- في تنظيم الإقتصاد والتجارة والزراعة والإدارة والتعليم على نحو مركزي. وهكذا بدأت معالم الدولة المركزية البرجوازية الحديثة (الرأسمالية) في الظهور في السودان.
الدولة كبناء فوقي ذات قدرة فائقة على تطبيق سياسات تؤدّي إلى إحداث تغييرات إقتصادية وإجتماعية بعيدة الأثر في حياة الناس والمجتمعات.
وقد وصلت نشاطات تكوين الدولة أعلى مراحلها وأرقى أشكال تعبيرها في السودان مع غزوة محمد علي. فبفضلها لم تتوحّد أقاليمه المختلفة تحت حكم مركزي فقط، بل بدأت مَفْصَلة articulation إقتصاده بالإقتصاد الرأسمالي العالمي ودخوله في دورة الحداثة.
أكثر ما يهمنا هنا هو مركّزة الإدارة والتعليم واحتياج الدولة للكوادر المتعلّمة لإدارة شئونها. فالدولة إذاً تحتاج إلى التعليم والتأهيل وإلى لغة لهذا التعليم. وبهذا توفّرت ظروف مواتية أكثر لانتشار المعرفة بلهجات الكتابة والقراءة (الفصحى والعربية المعاصرة).

آخر تعديل بواسطة هاشم محمد صالح في الجمعة أغسطس 18, 2017 5:58 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

هاشم
كيفك
لغتنا العربية هل جاءت من الجزيرة العربية ام جاءت بعد (كسرة) الاندلس
ورجوع المسلمين الى افريقيا من هناك من جهات تنبكتو ومالي وكانم وغانا
في كتاب (تاريخ السودان للسعدي) اجده اقرب للطبقات، والتأثير من هناك اكثر من التأثر
من الجزيرة العربية


كتاب تاريخ السودان
https://www.ahlalhdeeth.com/vb/attachmen ... 1216744624
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

هاشم كيفك
لغة المثقفين اعتقد أنها كانت هي الفصحى في زمن (ود ضيف الله)،
مقدمة الكتاب كانت بالفصحى والمتن استعمل اللغة العامية

في الفديو أدناه نشاهد الفصحى في تشاد


https://www.youtube.com/watch?v=l_2YY1Qgcis
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

في تاريخ الفصحى في السودان

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

أهلين يا صادق،
وشكراً على المثابرة
معرفتي، وربما معرفتنا، بتاريخ السودان الغربي ضعيفة. مؤرخونا عموماً أهملوا البوّابة الغربية، وما قرأته قبل سنين وأتذكره الآن طشاش طشاش من كتاب محمد بن عمر التونسي ومذكرات الرحالة الألماني جوستاف ناختيقال يوحي بمؤثرات ثقافية في سلطنة دارفور لا تخفى صلتها بالجزء الغربي من بلاد السودان وشمال أفريقيا. وأظن أنّ بعضاً من كتبوا عن هذه المؤثرات يشيرون إلى مظاهر مثل انتشار الطريقة التجانية وأصداء السيرة الهلالية في التراث الشفاهي كدلائل على ذلك.
ومما يشير إلى الصلات ببلاد السودان الغربية، أنّ تاريخ سلطنة الفور في بداياتها الأولى كان شديد الإرتباط بمملكة وِداي إلى الغرب منها، وقد دخلتا في حروب طويلة إلى أن استقرّت الحدود بينهما، ومن ثمّ بدأ التوجّه شرقاً في عهد السلطان تيراب.
من الناحية الديموقرافية، هناك طبعاً امتداد حزام البقّارة والقبائل (العربية) والمستعربة التي تسرح فيه على جانبي الحدود، وكذلك وجود الأبّالة على اتساع الصحراء الليبية. مثل هذا الوجود والتداخل السكاني لا بدّ أن يسمح ويؤدي إلى انتقال المؤثرات شرقاً وغرباً.
وبذلك فلا بدّ أنّ لهجات الخطاب ونوعيات الكلام العربية قد دخلت السودان خلال معابر شتى من الشمال والغرب والشرق وأسهمت بهذا القدر أو ذاك في إعطاء العاميّات السودانية السمات التي هي عليها الآن.
المؤرخون عموماً يعطون أهمية أكبر للهجرات والمؤثرات القادمة عبر المنفذ الشمالي، ويظهر هذا في التوثيق الأوفر نسبياً للوقائع المرتبطة به. ويليه في ذلك المعبر الشرقي الذي عرف التجارة والهجرات والصلات بين السودان والجزيرة العربية في تاريخ أقدم من ذلك.
والراجح من غلبة المؤثرات النوبية والبجاوية على عاميات شمال وأواسط السودان العربية في نواحي القاموس والتركيب (عون الشريف) (1)، أن يكون اندياح العربية الأكثر زخماً وحيوية هو الآتي من ناحية الشمال والشرق على الترتيب.
لكنّي أظنّ، آثماً أو غير ذلك، أنّ حملة الباشا محمد علي باشا قد حسمت الأمر لصالح المنفذ الشمالي ونجاعة المؤثرات الفوقية الناجمة عن سلطة الدولة ونزوعها نحو المركزيه على الوضع اللغوي، وفعالية سياساتها في نقل هذِه المؤثرات إلى المراكز الطرفية وهوامشها.
كتاب السعدي لم أستطع الخروج منه بشيء بالتصفح السريع، وبدا لي معنياً بوقائع سلطنات غرب أفريقيا مثل مالي وكانم وبرنو التي حرّكتها الهجرات والصلات بالشمال الأفريقي.
حفريات محمد جمال الدين في مصادر "الحقيبة" شيّقة وجديرة بالإهتمام. أعجبني الجهد المبذول المدعوم بالتوثيق والتحليل. البوستات عديدة والمتابعة في "الفيس بوك" شاقّة، وقد أمضيت ساعات طوال على صفحته أقفذ من بوست لآخر بلا ترتيب فصعُبت عليّ المتابعة، خاصّة وأنّ الموضوع تخالطه "حفرياته الأمدرمانية" التشنيعية المُثيرة. حَريٌّ به أن يُخرج بهذا العمل من (جب "مارك" الطمّاع) إلى وسيط أكثر رحابة. وإن كان لي تحفّظ انطباعي (ومستعجل)- فأنا لم أكمل قراءة البوستات- فهو أنّه لا يمكن رد كل تراث "الحقيبة" الشعري لمصدر واحد هو التأثير الأندلسي أو كتاب (الحالي).
فيما يتعلق بموضوع اللغة وانتشار العربية بنوعياتها المتعددة، يظلّ موقفي هو أن حملة محمد علي كان لها الدور الحاسم في تشكيل الوضع اللغوي للعربية وللعاميّات السودانية في السودان (الحديث).
فيما يتعلّق بملاحظتك بمقدمة (الطبقات)، وقد استوقفني الأمر من قبل، فصحيح أنّ ود ضيف الله كتب مقدمته بفصحى ضافية. ورغم أنّ ذلك قد يشير إلى تمكّنه فيها، وهو من أسرة متفرّغة للعلم والقضاء، إلّا أنّ هناك بعض الملاحظات التي قد تحدّ من دلالة كتابته لها بالفصحى:
1- الملاحظ في المقدمة (والطبقات ليست بين يديّ الآن وأنا أكتب من الذاكرة) أنّها نمطية وتحوي عبارات وصياغات محفوظة مثلها في ذلك مثل الخطب الدينية التي يُعاد إنتاجها عن طريق الحفظ. ويتصل بهذِه الملاحظة السؤال عن لماذا اختار ود ضيف الله كتابة المتن بالعامية على المواصلة بالفصحى.
2- لا شك في أن الفصحى كانت موجودة ومعروفة أبان السلطنة السنارية في إطار ضيّق، وأنّها كانت تُدرّس في إطار الخلاوي وهناك إشارات إلى أنّ (مختصر الخليل) كان من ضمن المقرّرات. لكن يبقى الأمر الأساسي وهو أنّ الفصحى واكتسابها مرتبطان بالتعليم، وأنّ التعليم فيما قبل (التركية) كانت وسيلته الخلاوي. وإذا تصورنا مدى انتشار الخلاوي، ومدى ارتباط التلاميذ بها وهم قوى عاملة تحتاجها الأسر في الرعي والزراعة، يمكننا أن نتصور أثرها الضعيف في نشر المعرفة بالفصحى، وسط قِلّة متخصّصة. هذِه القِلّة تعيش في وسط لغته العاميّة وثقافته هي الثقافة الشعبية؛ وصلاتها بمراكز الثقافة العربية الإسلامية ضعيفة نسبياً.
3- وبالمقابل، فإنّ التعليم النظامي في الدولة (الحديثة) يرتبط بجهاز الدولة لدوره في توفير الكوادر التي تسيّر دولابه، ويتميّز عن الخلاوي في أنّه يخلق هذِه الشريحة الطبقية المنفصلة عن مجتمعات الرعي والزراعة وثقافاتها (المحليّة)، والتي تتبنّى ثقافة (رسمية) منفتحة على المؤثرات الإقليمية الأوسع القادمة من العالم العربي- الإسلامي.
4- حتى تاريخنا القريب كانت نسبة الأمية (إقرأ المعرفة بالفصحى) وسط جيل آبائنا عالية جداً حتى في مناطق الوسط والشمال الحضرية التي تمتعت أكثر من غيرها (بخيرات) دولتي الخديوية وصاحبة الجلالة التعليمية.
5- مررت سريعاً على "مخطوطة كاتب الشونة"(2)، ولم أكن أظنّها متوفّرة على الأسافير. يقول مُحققها الشاطر بصيلي أنّ مؤلفها الشيخ أحمد بن الحاج أبوعلي المعروف بكاتب الشونة كان موظفاً بالديوان بالخرطوم حتى عام (1250(هـ) 1834) م. وأنهى كتابه بعد ذلك بأربعة أعوام أي في ) 1838) م. وإذا كان ود ضيف الله قد توفي عام ) 1810) م، فيمكن القول أن "الطبقات" قد سبقت "المخطوطة" بنحو أربعين عاماً أو يزيد؛ وأنّ ود ضيف الله عاش في ظلّ سلطنة سنّار بينما عاصر كاتب الشونة (التركية). مخطوطة كاتب الشونة مكتوبة بالفصحى وإن كانت تبدو عليها بعض سمات (العربية المُوّلدة)- وتعريفها أدناه. ومن المرور السريع على بضع صفحات وقفت على بعض السمات غير الفصيحة مثل: (دار خشم البحر)، (فلان ولد فلان)، (الله المستعان وعليه التكلان)، (وقت الكركبة)، (سحايب الرضوان) و (الماسورين) بإهمال الهمزة.
6- ويمكن في هذا الصدد أن نذكر أيضاً الشيخ الحاج الماحي بن محمد بن الشيخ بن أحمد بن عبدا لله عام 1789-1871م، المادح الشهير، وهو تقريباً معاصر لكاتب الشونة، ومحاولته "لتفصيح" مديحه (سَمْحَ الوصوفُ يارب نشوفو)
7- في التاريخ العربي الإسلامي هناك الكثير من الكتب المؤلفة بلغة وسيطة بين الفصحى والعاميّة، خاصّة تلك المتعلّقة بالأدب الشعبي (ألف ليلة وليلة)، كما أنّ الدارجية بدأت في الظهور في الشعر منذ القرن الرابع الهجري. ويؤرّخ المستشرق الألماني المتخصّص في تارخ العربية (يوهان فوك) بسقوط الخلافة العباسيّة لظهور ما يسميه بـ (العربية المُوّلدة) وهي مجموعة من اللهجات الإقليمية ذات كيفية خاصّة من الأصوات، والصيغ، وقواعد التركيب، والثروة اللفظية (تُقرأ: المخالفة للفصحى). ويورد (فوك) من ضمن الأمثلة كتابات أسامة بن منقذ الذي كتب ذكرياته في أسلوب يبدو فيه الكثير من الطابع العام المتعارف اليوم للغة العربية السورية، ويقول إنّ النحوي ابن يعيش كتب شرحه للمفصّل بأسلوب عادي ركيك؛ وأنّ ابن أبي أصيبعة (1203- 1270( كتب تراجمه للأطباء بلغة المسامرة والحديث التي كانت سائدة بالقاهرة بين الطبقات المثقفة لذلك العهد (3).
والأمر يتعلّق- من قبل ومن بعد- بالوضع الشاذ لـِ (الفصحى) من حيث هي نوعية لغوية لا (ولم) يتحدثها أحد، ولا توجد إلا في الكتب، ولا يتمّ اكتسابها إلا من خلال التعليم؛ بينما نجد أنّ اللغة النموذجية (Standard) في المجتمعات الأخرى لهجة حيّة قائمة على لهجة إقليم ما وتتحدثها الشرائح الطبقية العليا، كما في الإنجليزية والفرنسية مثلاً. هذا موضوع ينتظر التعرض له باستفاضة ووضوح أكثر، وقد تطرقت له في إشارات خفيفة في كتاباتي الأخرى هنا.


(1) عون الشريف قاسم: دراسات في العامية. الدار السودانية. الطبعة الأولى 1974م.
(2) https://dar.bibalex.org/webpages/mainpag ... Job:183301
(3) يوهان فوك "العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب". ترجمة د. رمضان عبد التواب. (النسخة الإليكترونية لطبعة مكتبة الخانجي).
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

هاشم
كيفك
في لغة كتابة الطبقات، هل كان بيتم
تدريس العامية من ناحية كتابية مثلاً؟
لأنه لو حصرنا موضوع الفصحى في الطبقات (العليا)
او المتعلمة فالمفروض انه كتاب الطبقات موجّه (للقراء)
والقراء ديل بيقروا بياتو لغة؟
السؤال دا حيّرني، هل كان بيتم تدريس الكتابة بالدارجي؟
أم أن الذين يتعلمون بالفصحي (يتكاتبون) بالدارجي، كما
نفعل نحن في (وسائل) التواصل الإجتماعي.
يوسف ميخائيل بعد زوال التركية حينما (أُعْطِي) قلم ليكتب
كتب بعامية كردفانية.

المهم الموضوع بالنسبة لي عصف ذهني، ويحتاج لبحث وتنقيب
ومقارنة، يا ريت نلقى (فَرَقَة) نتناقش فيه.



تخريمة:
لو جيت نهاية الاسبوع لمناسبة عبد اللطيف ومريم ممكن نتكلم اكنر
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

إفادات عن الوضع اللغوي في تشاد

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

كتب الأستاذ مصطفى أحمد علي (في الفيس بوك) مُعلّقاً على (نشرة الأخبار من تلفزيون تشاد):
أرجو أن أشير إلى أن لهجة انجمينا والتي أعد بها الريبورتاج، لم ترق بعد إلى مرتبة اللهجة العربية النموذجية في تشاد، تنافسها في ذلك لهجات عربية أخرى مثل لهجة ابشي،ولهجة البطحا.
فالسهل الأوسط تسكنه قبائل عربية هي امتداد لحزام البقارة في دارفور وكردفان، وهناك محافظات مثل البطحا وسلامات، ترتفع فيها معدلات الاستعراب ارتفاعا كبيرا يماثل سهل البطانة السوداني. وواقع الأمر يشهد بأن هناك تشابها يقرب من التطابق في المشهدالثقافي الاجتماعي في كل من تشاد والسودان (عمق ظاهرة الاستعراب في الحزام الأوسط، وبروز اللغات المحلية كلما اتجهت جنوبا أو شمالا)
استعراب انجمينا يشبه إلى حد كبير استعراب جوبا ومجموعة (النوبي) في اوغندة، تمّ من خلال المعسكرات الحربية ،وتحديدا على يد فلول جيش رابح فضل الله، السوداني، وكتب للهجة انجمينا الانتشار والذيوع نسبياً، بحكم الموقع السياسي والاقتصادي للمدينة، ونتج عن ذلك ظاهرة الازدواجية اللهجية، فكثيرا ما تجد داخل المدينة نفسها، من يتحدث بلهجة "أنقى" داخل البيت بحكم جذوره العرقية، ولهجة "هجين" خارج بيته لتيسير التواصل مع محيطه.
وبصورة عامة، ومن خلال معايشتي الميدانية، على مدى خمس سنوات (1998-2003)، يمكن القول بأن لهجة انجمينا اقتربت كثيرا من لهجة أبشي، بفعل وتأثير الكوادر المهنية الوافرة القادمة من شرق تشاد، ومن المهجر السوداني، المتأثرة بدورها بلهجة أم درمان، هذا فضلا عن مؤثرات أخرى لا يسمح المجال بتفصيلها.
------------------------------
وسألت الأخ مصطفى:
بودّي يا أخ Mustafa A Ali لو تفضَّلت علينا بمسح سريع للأوضاع اللغوية في تشاد، وذلك من حيث:
١- ما هي أوسع اللغات انتشاراً كلغة أولى (أم) وكلغة ثانية
٢- توزيع اللغة العربية الجغرافي في مقابل اللغات الأفريقية
٣- ما هي لغة التعليم في المراحل المختلفة
٤- مواقع المجموعات التى تتحدث (لغات كبرى) من حيث السلطة والنفوذ؟
فأجاب:
الوضع اللغوي في تشاد يماثل نظيره في السودان إلى حد بعيد.. اللغة العربية متداولة بصفتها لغة أم او لغة ثانية، بما يقترب من نسبة 80 او 90 في المائة، وتتركز في الحزام الأوسط الممتد من أبشي شرقا،رإلى انجمينا غربا، بل إلى ما وراء ذلك الي شرق نيجيريا وشمال الكاميرون.
في شمال تشاد تسود لغة القرعان (التوبو) والبديات، وهم فرع من الزغاوة، وتأتي اللغة العربية في مرتبة ثانية ، ويمكن مقارنة ذلك بالنوبية في شمال السودان.
في الجنوب هناك لهجة عربية هجين تسمى (عربي بونقور) وهو يماثل عربي جوبا ويتم توظيفه في التفاهم بين القبائل التشادية الجنوبية (المسيحية غالبا) ويتسع نطاق استعماله حتى داخل أفريقيا الوسطى.
عودة إلى الحزام الأوسط ،اللغات الإفريقية التي تتعايش مع اللغة العربية (الغالبة)، هي المبا (البرقو) والداجو والباقرمي والبرنو، وهذه اللغات في حالة تراجع مستمر لصالح العربية.
اللغة العربية، وبموجب الدستور هي لغة رسمية إلى جانب الفرنسية وينص دستور 1995(،ينبغي التاكد من التاريخ) على الازدواجية اللغوية.
التعليم العربي يخطو بثبات منذ منتصف التسعينات وهناك جامعة معربة تماما هي جامعة الملك فيصل بانجمينا.
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

أوهام الفصحى

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

سلامات صادق،
أسئلة فعلاً مهمة، والإجابات عليها ستساعد كثيراً في إضاءة جوانب من وضعية العربية في المجتمعات السودانية.
طبعاً ليس هناك- أو بالأصح ليس لدي- إجابات عليها تستند إلى مادة أو وقائع محقّقة. وزي ما شايف، موضوعي كلّه قائم على استنتاجات ظرفية أقوم بتمديدها هنا وهناك. وسأضيف عليها فيما يلي بعض القرائن المحكيّة anecdotal) ) وهي طبعاً من باب الإستدلال الضعيف أيضاً.
أرجو أنْ أذكّر في البداية بتنبيهي السابق بضرورة التعامل الحذِر مع تعبير (اللغة العربية) من حيث أنّه يحيل- مُضلِّلاً- في أذهاننا إلى كتلة صمّاء لا تمثل الواقع الوجودي الحقيقى للغة العربية؛ فالعربية توجد إجتماعياً في شكل نوعيات (عاميّة محليّة، إقليمية، عامية المركز النموذجية، فصحى الكتابة، الفصحى الحديثة، الفصحى الكلاسيكية .. إلخ) وبكفاءات مختلفة في محصلة المعرفة اللغوية للاأفراد Linguistic Repertoire) أو (Linguistic Competence كما توجد هذِه بدرجات توفّر مختلفة في المجتمعات السودانية المختلفة. وفي كفاءة الأفراد اللغوية، تحتل العاميّة المقام الأول، حيث يتقن جميع الأفراد عاميّة الجماعة التي ينتمون لها أو يوجدون وسطها، وتتفاوت الحظوظ في معرفة النوعيات (العليا)- ومنها (أنواع الفصحى المختلفة) حسب الخبرة والتعليم.
الهدف من تدريس (مادة اللغة العربية) سوى في الخلاوي قديماً أو في المدارس حديثاً هو (الفصحى) طبعاً. فحتى في الخلوة على ذلك الزمان، فإنّ النوعية المقصود تعليمها هي (الفصحى) وليس العامية، والأبجدية هي أبجدية الفصحى لا العاميّة. لكنّ الفصحى عصيّة المنال، فيتعلّم التلاميذ مبادي القراءة والكتابة. وتعلّم الكتابة القراءة والكتابة لا يعني تعلّم (الفصحى). فبينما يكفي العام أو نصفة لتعلم مباديء القراءة والكتابة من ربط الأصوات المنطوقة بالحروف المرسومة، فإن تعلّم الإستخدام الغوي (للفصحى) بقاموسها ونحوها وأساليب كتابتها يتطلب أكثر من ذلك بكثير، وربما لابدّ لإجادتها من التخصص الذي قد يستغرق سنيناً عددا.
في يومنا المُعاصر، وفيما أذكر من تدريس القواعد والأدب في المرحلتين الوسطى والثانوية، فإنّ أغلب المعلّمين الذين مرّوا عليّ كانوا يخلطون الفصحى بالعامية في شرح القواعد والأبيات الشعرية، إلّا القليل. وأعتقد أنّ هذِه حالة عامّة وأنّ لغة التدريس في مدارسنا هي العاميّة وليست الفصحى. الإنزلاق من الفصحى للعامية شيء طبيعي يجري عليه اللسان بعفوية ولا إرادية، لأنّ المخزون من اللغة والتعبير في اللاوعي الجمعي هو من العاميّة في معظمه، وقد يخالطة بعضاً مما علق بالاّذهان من (فصحى) يتدرب عليها الفرد في المدرسة. وكما يجري المثل، فإن الطبع يغلب التطبُّع>
يرتبط هذا بمسألة وضعية اللغة العربية في الوجدان الجمعي للجماعة العربية الإسلامية. فللمكانة العليا لـ (الفصحى) كلغة الدين والثقافة العليا (الراقية) وكمثال أعلى للصحة اللغوية والبيان، وبوصفها المثال المرتجى، فإنّا نتوهّم لها وجوداً بأكثر مما هو واقع الحال. فالفرد في هذِه الجماعة يمضي طفولته في التقاط العاميّة والتدرّب على مختلف استعمالاتها الإجتماعية، ولا يلامس (الفصحى) إلّا في بعض نصوص الحفظ الدينية الطابع في معظمها. ولا يبدأ في التعرض لـ(الفصحى) بصورة مكثّفة إلّا عند دخوله المدرسة.
وعدا تعليم القراءة والكتابة، فإنّ مناهج تدريس العربية تركّز على دراسة الأدب والقواعد؛ ولا تعلِّم مهارات الكتابة ولا تقنيات القراءة والبحث، كما أنّها تتجاهل التفاوت وعدم تساوي الفرص من ناحية توفّر (الفصحى) بسبَب الإنقسام والتمايز الإجتماعي والتباين اللهجي والأوضاع اللغوية في مناطق التداخل اللغوي، الأمر الذي يتطلّب استخدامم مناهج متباينة لا منهج قومي واحد. الناتج عن هذِه الوضعية هو التدنّي العام في الإلمام بكل جوانب اللغة وبالتالي التدنّي في الأداء اللغوي لضعف معرفتنا بالنوعية الكتابية وبخطاب التعبير الكتابي.
وإذا كان هذا هو الحال اليوم مع انتشار التعليم، فما بالك في الحال مع الخلاوي وهي التي كانت المنفذ للتعليم في ذلك العهد.
وأضرب مثلاً بعمّي وهو من خرّيجي الخلاوي النابهين (وربما واصل في تعليم الكبار)، وقد استطاع إجادة القراءة والكتابة وكان يقرأ الصحف والمجلات (عادي)، كما تقول أنت. عمّي هذا كان يكتب خطاباته ويقرأها بنفسه، وقد شهدته يكتب بعض تعاقدات البيع والشراء والتنازل عن الملكية وأشياء من هذا القبيل كل هذا بالعاميّة المحلّاة ببعض العبارت الفصيحة من الشائع المحفوظ. قياساً على هذا، يمكن تصور أن خريّجي الخلاوي في العهد السنّاري وما بعده، بعد أن (يفكّون الحرف) ينطلقون للكتابة باللغة التي يألفون. وربما يستحسن هنا أنّ نرجع للتفريق بين تعلّم الكتابة والقراءة وتعلّم الفصحى كلغة وأداة للتواصل.
صحيح أن ما قام به ودضيف الله في (طبقاته) هو جمع أحاديث متواترة ومروية عبر الأجيال في التراث الشعبي، وأنّه كتبها باللغة (النوعية اللغوية) التي كانت تروى بها. لكن من نافلة القول أنّه ضمّنها كتابه لتقرأ وإلّا لما تجشم تلك المشقة. أي أنّه كان يتوجّه بكتابه هذا إلى جهور قاريء باللغة التي يستطيع فهمها وإدراك معانيها.
أرجو أن أكون- بطريقة مُلتفّة نوعاً ما- قد أجبت بأنّه وإن كان هدف تعليم العربية هو (الفصحى)، فإنّ التدريس كان ولايزال يتمّ بالدارجة، وأن نتاج هذا التعليم هو اكتساب تقنيات الكتابة والقراءة من ناحية ربط الأصوات بالحروف من غير إجادة لقدرات التعبير بالفصحى بقاموسها ونحوها المختلف. وبالتالي فإن المتعلّمين يستخدون تقنيات الكتابة والقراءة هذِه في التعبير باللغة (أو النوعية اللغوية) التي يجيدون، وربما لأنّه تخالطها بعض التعبيرات والإكليشهات الفصيحة، يظنون أنّها الفصحى.
آخر تعديل بواسطة هاشم محمد صالح في الجمعة أغسطس 18, 2017 6:01 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

ود ضيف الله والريادة في لغة السرد المعاصر: عجب الفيا

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

طبقات ود ضيف الله والريادة في لغة السرد المعاصر ..
بقلم: عبد المنعم عجب الفَيا

القاريء المتعجل والمعتاد على اللغة الفصحى في التأليف قد يصدمه استخدام صاحب كتاب الطبقات اسلوب لغة الكلام الدارج في الحكي عن سير واخبار الأولياء والصالحين والعلماء الذين ترجم لهم وربما اصدر هذا القاريء بسبب ذلك حكما متعجلا على المؤلف يرميه فيه بالركاكة والجهل وقلة العلم والمعرفة وضعف التحصيل في اللغة الفصحى.
ولكن الشاهد أن المؤلف كان فقيها وعالما في اللغة ولم يفعل ذلك لقصور باعه في الفصحى غير انه استشعر بحسه الفني ووعيه المتقدم، الحيوية التي يضفيها استخدام لهجة الكلام في السرد. فهو أراد نقل ثقافة عامة الناس وما يعبر عن وجدانهم ومعتقداتهم ورأى أن لغة الكلام هي الأقدر والأصدق في تصوير واقع الناس الاجتماعي والثقافي والديني.
وليس أدل على علو كعب المؤلف في العربية وعلومها من مقدمة (خطبة) الكتاب والتي كتبها بلغة عربية فصحى مبينة لا تشوبها شائبة من لغة الكلام. بل أنه استخدم الفصحى في ثنايا سرده للتراجم لكن عندما يسترسل في الحكي عن الشخصية وعندما تاتي القصة في شكل حوار بين أكثر من شخصية، ينتقل من الفصحى إلى لغة الكلام. فهو قد زواج بين الفصحى واللهجة الدراجة في التأليف.
وبذلك يكون محمد النور بن ضيف الله رائدا في كيفية توظيف لغة الكلام في السرد القصصي. فاذا كان الجدال قد دار طويلا، بين الأدباء والنقاد المعاصرين، ولا يزال محتدما حول استخدام لهجات الكلام في تاليف القصص والروايات والمسرحيات، فإن المؤلف قد حسم هذه القضية حول المزاوجة بين الفصحى والدارجة قبل ثلاثة قرون. فهو قد كان واعيا منذ ذلك الوقت بالقيمة الجمالية للغة الكلام في فن القص.
إن استخدام صاحب كتاب الطبقات لغة الكلام في الكتابة لا يشهد بريادته في لغة السرد المعاصر وحسب بل يشهد على أنه قد قدم لنا بذلك خدمة لا تقدر بثمن وهي حفظ الصورة التي كانت عليها اللهجة السودانية العربية الجامعة قبل ثلاثمائة سنة وهي الفترة التي مرت على تاليف الكتاب (1753م) وبذلك وفر المؤلف معينا لا ينضب للباحثين في فقه اللغة المقارن واللغويات.
يقول المؤلف في المقدمة عن أسباب تأليفه للكتاب: "وبعد فقد سالني جماعة من الاخوان، افاض الله علينا وعليهم سحايب الاحسان، وأسكنا واياهم أعلى فراديس الجنان بحرمة سيد ولد عدنان، ان أورخ لهم مُلك السودان، واذكر مناقب أوليائها الاعيان. فاجبت سؤالهم بعد الاستخارة الواردة في السنة والالهام، ولم يكن لاسلافنا واسلافهم وضع في هذا الشان الا ان اخبارهم متلوة عند الخاص والعام، منها ما بلغ حد التواتر عندهم. فاحببت ان أذكر ما اشتهر وتواتر من تلك الاخبار. وذلك لان الخبر المتواتر عند الاصوليين، من الاقسام اليقينية التي تفيد العلم بالشئ وتنفي عنه الشك والظن".
"فاقتديت بجماعة من المحدِّثين والفقهاء والمورخين فانهم ألفوا في في التاريخ والمناقب كالامام عبد الغافر الفارسي في (تاريخ نيسابور) والامام جلال الدين السيوطي في كتاب (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة) والحافظ بن حجر الف كتابا في مناقب علما عصره سماه (الدرر الكامنة في اعيان الماية الثامنة) والشيخ احمد المقري الف كتابا سماه) نفح الطيب في اخبار ابن الخطيب)..". انتهى. تحقيق يوسف فضل، ص 35.
ما جاء بالمقدمة ينم عن تمكن المؤلف من العربية وعن سعة اطلاعه على كتب التراث العربي الإسلامي ومصطلحات علومه وفنونه. غير أن الكثيرين لم يدركوا مغزى اختيار المؤلف الواعي لاستخدام اللهجة العامية واتخذوا من هذا المنحى في التأليف دليلا على ضعف العربية في مملكة سنار وسائر العلوم لظنهم ان هذا النهج كان هو أسلوب التأليف الكتابي السائد في ذلك العهد. وكل ذلك غير صحيح. فقد ازدهرت في مملكة سنار ساير علوم العربية والعلوم الإسلامية ازدهارا كبيرا وكانت الخلاوي والمساجد بمثابة مدارس للعلم يفد إليها التلاميذ من مختلف بقاع السودان ومن شرق افريقيا وغربها.
كان التلاميذ يدرسون بعد حفظ القرآن، الفقه على المذهب المالكي: كتاب (مختصر خليل) وشروحاته و(الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني و(متن العشماوية) للعشماوي الرفاعي المصري و(الأخضري) لعبد الرحمن بن محمد الأخضري الجزائري وغيرها. وفي علم القراءات يدرسون (ابن الجزري) الدمشقي و(الشاطبية) للإمام الشاطبي الأندلسي. وفي النحو يدرسون (الأجرومية) و(ألفية ابن مالك) وغيرها، وفي التوحيد وعلم العقائد يدرسون (السنوسية) وغيرها إلى جانب علم الكلام (الفلسفة الإسلامية) والمنطق. وكل ذلك مما ورد في كتاب الطبقات.
وكانت سنار منفتحة علميا على العالم العربي والإسلامي حيث كان يفد إليها كثير من العلماء من الحجاز ومصر والمغرب، وكان كثير من الطلبة السودانيين يهاجرون إلى مصر والحجاز للدراسة ثم يعودون ليدرِّسوا في الخلاوي والمساجد. وكان رواق "السنارية" بالأزهر من أشهر مقامات الوافدين لتلقي العلم هنالك. ومن أوائل من هاجروا إلى مصر طلبا للعلم إبراهيم البولاد أحد أولاد جابر الأربعة والذي عاد ليدرَّس بدار الشايقية حيث وفد إليه كثير من الطلبة من مختلف أنحاء السودان وعادوا لنشر التعليم في أقاليمهم ومنهم أقطاب في الصوفية. يقول عنه ود ضيف الله: "دخل الى مصر وتفقه على سيدي محمد البنوفري واخذ عليه الفقه والاصول والنحو. ثم رحل الى ترنج ودرَّس فيها (خليل) و(الرسالة) وهو أول من درَّس خليل ببلاد الفونج وشدت اليه الرحال..". تحقيق يوسف فضل، ص 45.
وكانت هنالك مراسلات ومساجلات بين علماء ومشايخ سنار وعلماء مصر ومن أشهرها المساجلات بين الشيخ إدريس ود الأرباب والشيخ المصري علي الأجهوري حول السجاير أو التنباك بعبارة ود ضيف الله. فقد أفتى الأجهوري بإباحته وعارضه الشيخ إدريس الذي أفتى بحرمته. ص 52.
بل ان بعض العلماء السودانيين كانوا يهاجرون للتدريس بالحجاز حيث تفوقوا هنالك نذكر منهم الشيخ عبد الله العركي الذي درَّس على كرسي (مقام) الإمام مالك بالمدينة سنين عددا وكذلك العالم الحجة عبد اللطيف بن الخطيب عمار الذي درَّس بالحرم المكي والذي قال عنه ود ضيف الله بالطبقات: "هو شيخ الاسلام الفقيه النحوي الأصولي المتكلم المنطقي المجتهد في المذهب الشافع حج الى بين الله الحرام .. وجاور بسببها، ومدحه بعض أهل الحرم فقال فيه نثرا جميلا بديعا: هو عالم الديار السنارية وعلاّمة الأقطار الإسلامية، ومدحه شيخه في علم المنطق الشيخ نور الدين التميمي بقصيدة..". تحقيق يوسف فضل، ص 299.
ونتوقف هنا لإيراد بعض الإشارات من سير العلماء والمشايخ بكتاب الطبقات لإعطاء صورة موجزة عن الحركة الفكرية والعلمية بمملكة سنار.
جاء مثلا بسيرة المضوي بن محمد أكداوي: "وشرع في تدريس (الرسالة) والنحو وعلم الكلام وعلم الاصول والمنطق وعمرت الحلقة بشندي. واجتمع عليه خلق كثيرة. وألف كتبا شانها ان يكتبن بمداد الذهب منها اربعة شروح على أم البراهين، والعمدة، التي عم النفع بها في ساير الاقطار و(الوسط) و(الصغير) و(الحاشية) التي هي أجل مؤلفاته وشرحان على (يقول العبد في بدء الأمالي) الكبير في مجلد ضخم نحو ستين كراس والصغير في سبعة كراريس، وشرح (الجزرية) شرحا مفيدا وشرح (عقيدة الرسالة) و(الأجرومية) وغيرها". ص 101.
و(أم البراهين) والمعروفة اختصارا بالسنوسية للإمام محمد بن يوسف السنوسي التلمساني وهو كتاب في علم الكلام على مذهب الأشاعرة يتألف من ثلاثة أجزاء: أم البراهين الصغرى والوسطى والكبرى. ويقصد بالحاشية الحاشية التي كتبها الشيخ المضوي على كتاب أم البراهين. والجزرية كتاب في علم القراءات لابن الجزري الدمشقي والأجرومية كتاب معروف في علم النحو. والجدير بالذكر ان التأليف في الأصول قد توقف في العالم الإسلامي في ذلك العهد واقتصر على كتابة الشروح والحواشي على المتون.
وجاء في سيرة عمار الخطيب والد عبد اللطيف، وأشهر خطباء سنار: "ولد بسنار وسافر الى مصر والحجاز لطلب العلم والحج وقرا ساير الفنون الفقهية والعقلية والنقلية وعلم النحو واللغة والاصول والمنطق والتصوف وساير الفنون..، وجاب معه رحلين أو ثلاثة كتب. وقد وجدت بخطه: "وكان سفرنا من سنار لطلب العلم بالأزهر والحج في يوم الجمعة بعد العصر خامس عشر في رمضان سنة سبع وسبعين بعد الألف من الهجرة النبوية". ص 259.
كذلك جاء في ترجمة حامد اللين بن الفقيه سليمان بن حامد اب عصا: "قرا علم الكلام على مكي النحوي. وتفقه على الشيخ الزين. واشتغل بتدريس الرسالة والعقايد وجمع الكتب. وهو أول من جاب شرح عبد الباقي على خليل من مصر والشبراخيتي على العشماوية. وكان له مع والدي ضيف الله صحبة". ص 182.
وجاء بترجمة غانم أبو شمال: "غانم أبو شمال الجامعي الكردفاني، شرح السنوسية شرحا مفيدا". ص 311.
وعن المام علماء ذلك العهد بالفلسفة وعلم المنطق يقول المؤلف في سيرة الشيخ يعقوب بن الشيخ بانقا: "رايت له كلاما على الهيولي فدل على تفوقه في علم الكلام. قال: واعلم ان الخلاف الواقع بين اهل السنة والحكماء في الهيولي ليس في وجودها وعدمها، بل هي موجودة، وانما الخلاف بينهم في قدمها وحدوثها. فهيولي ابناء ادم التراب، وهيولي ابليس النار، وهيولي الملايكة النور، وهيولي السرير وعصا موسى الخشب. انتهى". ص 373.
والهيولي Hyle مصطلح فلسفي وهي كلمة إغريقية وتعني المادة الأولى التي خلق منها الكون والموجودات كما تعني أصل الشئ وجوهره في فلسفة أرسطو. وهو يقصد بالحكماء الفلاسفة.
كل ذلك وغيره يؤكد على قوة الحياة التعليمية والفكرية في مملكة سنار وعلى متانة العلائق الثقافية والعلمية بينها وبين المراكز العربية الإسلامية.
هذا، ومن الأسباب الأخرى التي اتخذها البعض ذريعة للزراية بكتاب الطبقات هو كونه أفاض في ذكر كرامات الأولياء واسهب في الحديث عن خوارق العادات التي ياتون بها ورأى البعض في الغلو في ذكر هذه الخوارق ضربا من الشعوذة ونشر الخرافة فغضوا من شأن الكتاب.
الحقيقة لقد كان المؤلف أمينا في نقل ثقافة عصره، فالتصوف كان سيد الموقف ليس في السودان وحسب بل في سائر الأقطار الإسلامية في تلك العصور. وقد اقتدي المؤلف في ذلك بكتاب (الطبقات) للشعراني المصري والذي أشار إليه المؤلف كثيرا في ثنايا الكتاب، وما حواه كتاب الشعراني من كرامات وخوارق عادات يفوق ما أورده ود ضيف الله.
ولكن حتى وإن كنا من الذين لا يؤمنون بالكرامات الصوفية، علينا أن ننظر إلى ما جاء بالكتاب بوصفه تراثا إنسانيا جماليا على غرار ما ينظر به الغربيون إلى التراث الأسطوري الإغريقي والروماني. ومهما يكن يعد الكتاب كنزا معرفيا لا ينضب في اللغة والتاريخ والإثنلوجيا والإثنوغرافيا والأنثوربولوجيا والميثيولوجيا.
المراجع:
1- محمد النور ود ضيف الله، كتاب الطبقات في خصوص الاولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، تحقيق وتعليق وتقديم: الدكتور يوسف فضل حسن، دار التاليف والترجمة والنشر- جامعة الخرطوم، الطبعة الرابعة 1992
2 - محمد النور ود ضيف الله، كتاب الطبقات في خصوص الاولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، إعداد فضيلة الشيخ القاضي/ إبراهيم صديق، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، ط،3 ،2012
3- أحمد الحاج أبو علي، مخطوطة كاتب الشونة في تاريخ السلطنة السنارية، تحقيق الشاطر بصيلي، الدار السودانية للكتب،2009
[email protected]

عن سودانايل:
https://www.sudanile.com/index.php/%D9%85%D9%86%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A/245-1-7-1-5-1-7-4/100719-%D8%B7%D8%A8%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%AF-%D8%B6%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D8%B1-%D8%A8%D9%82%D9%84%D9%85-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B9%D9%85-%D8%B9%D8%AC%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8E%D9%8A%D8%A7
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

"مخطوطة كاتب الشونة" مكتوبة أصلاً بالعاميّة

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

كنت عازماً على تَتبُّع الملاحظات التحريرية المتعلّقة باللغة، في "مخطوطة كاتب الشونة"(1). وذلك للوقوف على طبيعة اللغة في الوثيقة الأصليّة، قبل التحرير. فقد لاحظت ومن المرور السريع على بضع صفحات بعض السمات غير الفصيحة في تعبيرات مثل: (دار خشم البحر)، (فلان ولد فلان)، (الله المستعان وعليه التكلان)، (وقت الكركبة)، (سحايب الرضوان) و (الماسورين) بإهمال الهمزة.
كذلك استوقفتني إشارة في هامش الصفحة الثالثة من مقدمّة المؤلف يقول فيها المحقق: "قايلها عُدّلت إلى قائلها (ص3) ". فظننت أنّ تتبع مساعي المحقق اللغويّة في تفصيح الكلمات ستردنا مباشرة للكلمات الأصلية كما كانت في المخطوطة؛ وتعطينا بالتالي فكرة محققة عن
طبيعة اللغة التي كُتبت بها الوثيقة. ولكنّ المُحقّق وفّر لي هذا العناء، بوصفه المباشر (للغة) هذِه الوثيقة الأصلية (بالعاميّة الدارجة).
ففي ثنايا حديثه عن النسخ التي اعتمد عليها في تحقيق النسخة المطبوعة يقول الشاطر بصيلي إنّ النسخة الأساسية التي اعتمد عليها هي نسخة دار الكتب المصرية، ويواصل:
"وتعتبر نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة أقدم مخطوطة نقلت عن النص المنسوب لكاتب الشونة، وهي تحتوي على حقائق خاصّة بشخصية هذا الكاتب في ثنايا المتن، ولذا جعل الناشر هذِه النسخة القاهرية أصلاً للمتن المنشور هنا بعد تحقيقه ومقارنته بمتون النسخ الأخرى."
ثمّ يواصل المحقق، ويأتي لنا بنبأٍ عظيم وهو غير عابيء بدلالته، إذ يقول:
"ويلاحظ أنّ النسخة القاهرية كُتبت بلغة عامية دارجة، أمّا ما عداها فيتضح منها أنّ أصحابها كتبوها في أسلوب أقرب إلى العربية الفصحى" (كاتب الشونة ص د)
ويفهم من سياق حديث الشاطر بصيلي أنّه هو إذاً من قام بتحريرالوثيقة بالفصحى. أي أنّه كمحقق تدخلّ في لغة الوثيقة و(قام بتصحيح "أخطائها" اللغوية). فيبدو أنّ البصيلي، كمؤرّخ، لم تكن اللغة تهمّه بقدر اهتمامه بالمعلومات ومحتوها التاريخي.
وبالتالي يمكنّنا أن نقول بأنّ الإحتمال الأقوى هو أن وثيقة كاتب الشونة كُتبت أصلاَ بالعاميّة وربما بعاميّة مفصّحة؛ وأنّ الناسخين فيما بعد قاموا بتفصيحها لهذِه الدرجة أو تلك لـ (نوعيّة) كانوا يظنّون أنها لغة الكتابة.
ويعتبر الشاطر بصيلي كتابة ودضيف الله وكاتب الشونة بمثابة "بداية حركة نهضة علمية طيّبة" لكتابة التراجم والسيرة.
وبالفعل ففي تاريخنا القريب، هاتان من أوائل الوثائق التاريخية المحليّة والمصادر المكتوبة عن الحياة الإجتماعية للفترة السنارية. وكما أنّهما مصدران للتاريخ الإجتماعي، فهما كوثيقتين (مكتوبتين) تؤرخان كذلك وتشيران إلى بدايات التأليف والكتابة، كما تتضمّنان أيضاً شواهد على مستوى ودرجة التعريب الذي وصلت له مجتمعات شمال وأواسط السودان المستعربة في ذلك الوقت؛ من ناحية توفّر الإتصال بالنوعيّات اللغوية العربية العليا ومن بينها الفصحى، وبالتالي من ناحية المعرفة بها.
ولا يجدي في هذا الصدد قول الأستاذ عجب الفيا بأنّ اختيار ود ضيف الله للعاميّة لكتابة تلك السيّر جاء لأنّه كان : "رائدا في كيفية توظيف لغة الكلام في السرد القصصي. فاذا كان الجدال قد دار طويلا، بين الأدباء والنقاد المعاصرين، ولا يزال محتدما حول استخدام لهجات الكلام في تاليف القصص والروايات والمسرحيات، فإن المؤلف قد حسم هذه القضية حول المزاوجة بين الفصحى والدارجة قبل ثلاثة قرون. فهو قد كان واعيا منذ ذلك الوقت بالقيمة الجمالية للغة الكلام في فن القص."(2)
ففي هذا اسقاط واضح لمفاهيم معاصرة على واقع لا يمتّ لها بصلة. فلم يكن ود ضيف الله ناقداً أدبياً أو قاصّاً، بل قاضياً فقيهاً ومؤرّخاً لا شغلة له "بالقيمة الجمالية للغة الكلام في فن القص" ولم يسمع بها، لأنّ حقل النقد الأدبي نفسه في عصره لم تك تشغله مثل هذِه القضية. وأن نقول أنّه:
"استشعر بحسه الفني ووعيه المتقدم، الحيوية التي يضفيها استخدام لهجة الكلام في السرد .."
يصبح الإسقاط بذلك مركّباً؛ إذ نفوِّج مصطلحات النقد الأدبي لتعيننا في استجلاء موضوعة هي ذات طبيعة تاريخية. وفي هذا تحميلٌ للرجل بمهمة لم يتطلّع إليها ومنٌّ عليه بقدرات لم يدّعيها. فتلك إذاً قراءة لا سند لها من وقائع تاريخ ود ضيف الله ومصادره، ولا الفترة التي عاشها. وكيف إذاً
نعُدّ الكتاب "كنزا معرفيا لا ينضب في اللغة والتاريخ و .." كما يقول الفيا، ونحن نهمل معلومات أساسية مثل طبيعة لغة الكتاب ونوعيتها ودلالات ذلك من شهادتها على أوضاع العربية ولغة التأليف في ذلك العهد!؟ وينتمي ود ضيف الله إلى شريحة من الطبقة الوسطى من العلماء والمؤلفين والمتفقّهين، مطلوبة في في قصور الأمراء ومجالس القضاء ودواوين الدولة وأجهزتها، لكونها (الذاكرة) الحافظة والناقلة للتراث العربي الإسلامي الذي عليه تقوم أيديولوجية الدولة. وهي شريحة متخصّصة يتيح لها هذا الطلب عليها، أن تقضي وقتها في التأدّب في علوم الدين والعربية كي تتأهّل لهذا الدور.. ومن هذِه الناحية، فلا يُستبعد تمكّنها من علوم العربية والدين. ولكن هذا النوع من التأهيل مما لا يتوفر للفرد العادي، ولا يحتاجه. ويلاحظ أن أسراً بعينها تسلك هذا الطريق وتتوارثه. على أنّ المهم أيضاً الإنتباه إلى أنّ سعة اطِّلاع هذِه الشريحة وحسن معرفتها بالفصحى والنوعيات العليا لا يعني أن عامّة تلاميذهم تتوفر لهم فرص مماثلة للإحتكاك بهذِه النوعيات أو زمناً مناسباً لإجادتها.
كذلك فإنّ هذِه الشريحة- بحكم دورها ووضعها- متمددة على طول العالم العربي والإسلامي وعابرة للأقاليم والكيانات السياسية المحليّة،وكتب التاريخ والسير حافلة بأخبار تنقّلهم من بلاط لآخر، وانفتاح بعضهم على بعض، واذدهار ثقافة قومية قوامها علوم العربية والفقه والشعر والنثر وأدب الرحلات. لكن هذا لا يدل أيضاً على توفّر هذِه الثقافة للعامة المتعلّمة ولا على انفتاحهم عليها.
والكتابة بغير الفصحى في تلك العهود لم تكن وقفاً على السودان. فقد أوردت أعلاه أنّ يوهان فوك (3) يؤرّخ بانهيار الدولة العبّاسية وانحلالها إلى دويلات لبدايات ما يسميه بـ (العربيّة المُولّدة) ويُعرّفها بأنّها مجموعة من: "اللهجات الإقليميّة تمتاز كل منها عن الإخرى امتيازاً يختلف، قوة وضعفاً، باشتراكها في كيفية خاصة من الأصوات، والصيغ، وقواعد التركيب، والثروة اللفظية.
ويقول فوك أنّ هذِه اللهجات الإقليمية: " .. في العراق، وبلاد الرافدين، وفلسطين وسوريا، ومصر، وشمال أفريقيا، واسبانيا، نضحت على لغة المثقفين، وأكسبتها في كل إقليم لوناً محليّاً ذا طابع خاص." مما يعني أنّه يتكلّم عن لغة الكتابة. ويستشهد بكتاب المقدسي (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم)، فيقول: "ومما يدل على أنّ مراده- أي المقدسي- من (لغة الأقاليم) التي يتكلّم بها لغة المثقفين لا لغة الشعب الدارجة، دعواه أنّ أصح العربية تلك التي يتكلّم بها في المشرق أي في الإقليم اللغوي الفارسي لأنهم، يتكلّفونها تكلفاً ويتعلّمونها تلقفاً (ص 199) "
وقد أوردت أعلاه أيضاً أنّ (فوك) يذكر من ضمن الأمثلة كتابات أسامة بن منقذ الذي كتب ذكرياته في أسلوب يبدو فيه الكثير من الطابع العام المتعارف اليوم للغة العربية السورية، ويقول إنّ النحوي ابن يعيش كتب شرحه للمفصّل بأسلوب عادي ركيك؛ وأنّ ابن أبي أصيبعة (1203- 1270( كتب تراجمه للأطباء بلغة المسامرة والحديث التي كانت سائدة بالقاهرة بين الطبقات المثقفة لذلك العهد (ص 237).
يبقى أنّ كتاب يوهان فوك يمثل مصدراً غنياً لتاريخ العربية في تطورها عبر القرون. فهو يتعرّض لأخبار (اللحون) منذ العهد الأموي، مروراً بالعهد العباسي وصعود "الشعوبيين" إلى السلطة وما صاحبه من "انحطاط" العربية، وتراجع الفصحى أمام اللهجات الدارجة، إلى أن ينتهي بفترة إنحلال الإمبراطورية العربية الإسلامية وظهور العربيات المُولّدة. ويستحق الكتاب عرضاً مستفيضاً، أرجو أن يتوفّر لي الوقت للقيام به.

------------------------------
(1) أحمد بن الحاج أبو علي كاتب الشونة. مخطوطة كاتب الشونة: في تاريخ السلطنة السنارية والإدارة المصريّة. تحقيق الشاطر بصيلي عبد المجيد. وزارة الثقافة والإرشاد القومي؛ جمهورية مصر العربية. (تاريخ النشر غير موجود، لكن بصيلي يثبت في مقدمته: القاهرة 1961. (النسخة الإليكترونية)
(2 ) عبد المنعم عجب الفيا: طبقات ود ضيف الله والريادة في لغة السرد المعاصر. (سودانايل). الرابط أعلاه. (العنوان ذاتو عجيب: كيف يكون الرجل رائداً في في لغة السرد "المعاصر" التي لم يعاصرها!)
(3) يوهان فوك "العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب". ترجمة د. رمضان عبد التواب. (النسخة الإليكترونية لطبعة مكتبة الخانجي).
أضف رد جديد