هاشم محمد صالح، سنة يا أم خالد، حفر في حفريات عجب الفيا

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
نجاة محمد علي
مشاركات: 2809
اشترك في: الأربعاء مايو 04, 2005 1:38 am
مكان: باريس

هاشم محمد صالح، سنة يا أم خالد، حفر في حفريات عجب الفيا

مشاركة بواسطة نجاة محمد علي »

وصلني من هاشم محمد صالح هذا المقال لنشره بمنبر الحوار الديمقراطي.
نجاة


سنة يا أم خالد
حفر في حفريات عجب الفيا


كتب الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا في سودانايل بتاريخ 5 مايو 2017، ضمن سلسلة أسماها (حفريات لغوية)، مقالاً رد فيه تعبير الرندوك(1): "سنة!" الذي كان جارٍ في الإستخدام في السبعينات، إلى تعبير آخر ورد في الحديث النبوي. يقول عنوان المقال: "حفريات لغوية: سنة! التي تقال اعجاباً حبشية وردت في الحديث النبوي".
ومع أن أصل التعبير واضح وهو كلمة "سنة بمعنى عام"، ولأن السنة هي الأطول في وحدة قياسات الزمن، فانسحب للتعبير للإستخدام مجازاً عن المبالغة والإستعظام (التعظيم)، إلا أنّ الأستاذ عجب الفيا استبعد هذا التفسير ومضى يبحث عنه في أمهات الكتب.
يقول الفيا مُستدركاً: "ولكن قد عثرت على أصل هذا التعبير بينما كنت أطالع كتاب (المُعَرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم) وهو كتاب قيّم يرصد الألفاظ الأجنبية في العربية لمؤلفه منصور الجواليقي أحد أئمة اللغة الأفذاذ، والمتوفي سنة 540 هـ. يقول الجواليقي في حرف السين عن لفظة سناه: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن العاص، وكساها خميصة وجعل ينظر عملها ويقول: سناه سناه يا أم خالد. وسناه في كلام الحبش: الحَسَنُ. انتهى. ص 202. " و يواصل الأستاذ عجب الفيا: " ... وتأكد ظنّي بعد الرجوع الى معجم لسان العرب الذي وجدته قد أثبت الحديث وذكر أن الكلمة وردت بصيغ مختلفة في روايات مختلفة ومن هذه الصيغ كلمة "سنه" التي تقال في اللهجة السودانية."
وهناك عدة اشكالات منهجية أساسية في هذا المنحى، وهو شائع عند الكثيرين ممن يكتبون في أمر العامية والفصحى في إطار البحث اللغوي التقليدي، ويحاولون رد هذا أو ذاك من الألفاظ إلى أصلٍ في الفصحى، أو إثبات (فصاحة) لفظة عامية ما.
أول هذه الإشكاليات هو اعتبار العلاقة بين الفصحى والعامية علاقة أصل بفرع، أو بمعنى آخر،اعتماد تصوّر مفهومي للعلاقة بين لهجات الكلام واللهجة النموذجية المُقعّدة (Standard) أشبه ما يكون بعلاقة التناسل البيولوجي. وربما يكون مصدر هذِه الترِكة الثقيلة من فرع اللسانيات التاريخية Historical Linguistics الذي يصنّف اللغات إلى "أُسر" حسب خصائصها البنيوية، ومن ثمّ تسرّب هذا المجاز غير السعيد إلى البحوث اللسانية بعامة. ولكن دراسات فرع اللسانيات الإجتماعية (Sociolinguistics) نسفت هذا المجاز بتأكيدها أن اللغة بطبيعتها وصلتها باجتماع الإنسان متباينة. وأن الهوية الإجتماعية والنزوع للتماثل والإنتماء ودينامات المجموعة، تؤدّي إلى التباين وسط أكثر المجموعات اللغوية تجانساً (2)، كما أنّ علاقات القوة والحظوة وسريان الإنتخاب الإجتماعي هي التي تدفع بلهجة من بين اللهجات إلى الإنتشار والتمييز والترفيع والتقعيد.
ثاني هذِهِ الإشكالات يعود إلى التاريخ الخاص بالفصحى العربية. فالفصحى - كما تدفع بذلك الدراسات الفاحصة وخاصة دراسات المستشرقين- كانت دائماً لغة النصوص والفنون الأدبية (الرفيعة) ولم تكن يوماً لغة الخطاب اليومي لأيّ مجموعة ما(3). وربما زاد من غربتها عن الخطاب اليومي اشتغال جمهرة النحويين - بعد الإسلام على تقعيدها وطرد القاعدة فيها في إطار الهمّ الإسلامي العام لجمع أمّة المسلمين على قراءة واحدة للنص العربي الإسلامي المركزي، أي القرآن(*).
ينضاف إلى ذلك أيضاً التاريخ الخاص بالعاميات العربية من حيث أنها في أصل نشأتها ليست ذات نسب مباشر إلى لهجات الخطاب اليومي العربية القديمة ولا الفصحى، وإنما مرّت بمرحلة وسيطة طبعت بنيتها على النحو المُفارق الذي نشهده اليوم. ويحصي فيرقسونFerguson) (Charles (4) أربعة عشر ملمحاً أو سمة تتميز بها وتشترك فيها جميع اللهجات العامية الحضرية العربية المعاصرة، لا توجد في الفصحى ولا في أيٍّ من اللهجات العربية القديمة ويخلص من ذلك إلى فرضية مفادها أن أصل جميع العاميات الحضرية العربية واحد لكونها (نشأت) عن نوعية عربية من لغة الخطاب المحكي (فوق- قبلية) تخلّقت في أوساط الجيوش والمراكز الحضرية على إثر الفتوحات الإسلامية التي أدّت إلى تداخل العرب مع الشعوب المجاورة وضم أراضيها سياسياً وإدارياً للإمبراطورية الإسلامية الناشئة. وهو يسمي هذه النوعية فوق القبلية بـ "الكويني" وتعني في الإغريقية (عام/تعميم) وتشير إلى عملية نشوء لهجة خطاب عامة مشتركة نتيجة لتداخل مجموعات إثنية إغريقية تتحدث لهجات مختلفة، خرجت عنه هذه اللهجة العامة التي تبنّاها الجميع للتخاطب المُشترك، والتي لا تشبه إيّ من هذه اللهجات الإثنية منفردة.
ربما أنّني استطردت قليلاً على هامش الموضوع المطروح أمامنا، لكنّني أرمي إلى أنّه لا معنى لمحاولة تأصيل الإستحداثات والتقليعات اللغوية والبحث عن (أصل ما) لها في (سلالاتها الأولية) أوعند الأقدمين بمجانية، ودون أيّة اعتبار لكل هذِه التعقيدات في الوضع اللساني العربي. فمثل هذِه الإستحداثات هي من واقع التباين اللغوي، إضافة لكونها قد تحدث هكذا عفو الخاطر وبصورة مستقلّة في كل نوعية على حدة، دون أن تكون مُنحدرة عن أصل، أو بتأثير من مثل لغوي أعلى.
فبسبب التوهان المنهجي، لم يتوقف الأستاذ عجب الفيا طويلاً عند تعبير "سنة!" (في بيئته اللغوية)، ولو فعل لوجد أنّه يستخدم لإبداء الإستعظام والإستعجاب والإستغراب أكثر من كونه للإستحسان فقط. وبذلك فإن صلته بلفظة "سنة" للزمن، التي تعثّر بها وتجاوزها غير عابئ، واضحة ومباشرة. وكما أسلفت، فإن لدلالة الطول (العِظَم) التي تتضمّنها اللفظة صلة مباشرة بالمُراد منه في تعبير (الرندوك) المجازي، وهو (الإستعظام) و(تقرير المبالغة). ومعروف في المجاز- في اللغات عموماً- أنه استخدام للفظ في غير المعنى المألوف، المُراد له- ويقوم أساساً على تجاوز المعنى الحرفي إلى سحب وتعمييم خاصية ما فيه. ومثل هذه الألفاظ والتعبيرات التي تظهر كتقليعات لغوية غالياً ما تكون فضفاضة (ambiguous)، ولأنها لم تأتِ من القواميس أو لها استخدام إجتماعي متواتر، فهي ليست جامدة وتكون قابلة للتوسيع والتمديد في الدلالة كلما تواصل استخدامها. ولكونها أيضاً في الأصل مجازاً فهي حبلى بطاقة تعبيرية عالية يتم اكتشافها من خلال الإستخدام المتواصل. وأقرب مثال لما أتحدث عنه هنا لفظة (المسكول)، وهي معرّبة من الإنجليزية تخلّقت في إطار ثقافة الإتصال المرتبطة بالهواتف الذكية، وتبدّلت في الإستخدام- من دلالتها الأصلية كإتصال لم تبلغ رسالته- لتعني رسالة من نوع خاص، ثم انتقلت إلى "الجزارة" لتعني (نصف ربع الكيلو من اللحم أو خليط العظام وجلافيط اللحم التي لا ترقى لتسميها لحماً، لكنّها تسد الحاجة في طبخ حلّة المُلاح!". ومجاز التقصير عن بلوغ الغاية واضح (5).
ولا أستبعد ما توصّل إليه عجب الفيا- اعتماداً على إفادات المعاجم- من أمر الأصل الحبشي لـ"سناه" الواردة في الحديث، فهنالك صلات تاريخية وتجارية بين الحجاز وجنوب الجزيرة العربية والحبشة، كما أنّ وجود أحباش في مجتمع مكّة قد ورد ذكره في الكتابات الإسلامية. على أنّ ما استوقفني هو كيف تأتى له، وقد وقف على الأصل المحتمل للتعبير في الحديث النبوي، وعزلته في المعاجم حيث لا يرد له ذكر إلا وهو مقرون بهذا الحديث الوحيد، مع ذلك أن ينصّبه أصلاً ومصدراً لتعبير "سنة!" الدارجي السودانيّ!

كذلك من المُهم في تقصّي أمر الإستحداثات والتقليعات اللغوية، النظر في أمر أيٍّ من الشرائح المجتمعية والمجموعات يمكن ترجيح أن تكون التقليعة قد ظهرت وشاعت وسطها، ثمّ عمّت بعد ذلك. هذا لأن ثقافة مثل هذِهِ المجموعات وسلوكها العام، والمؤثرات التي تخضع لها ستكون هادياً وكاشفاً لأصل وحيثيات وملابسات ظهور الإستحداث ومساراته. والملاحظ أن الشرائح الإجتماعية الإنتقالية والهامشية (أو المُهمّشة) هي الأكثر نشاطاً في ابتدار التقليعات اللغوية(6). ومن المُحتمل أن يكون تعبير "سنة!" قد نشأ وسط فئات الكماسرة والمساعدين في مواقف البصّات في إطار المشاغلات و(التسديرات)، ثمّ انتقل إلى قطاعات طلاب المعاهد العليا والجامعات والشباب، وهم فئة حيوية في نشر وتعميم التقليعات اللغوية.


(1) استخدم تعبير (الرندوك) مصطلحاً للإستحداثات أوبالأحرى التقليعات اللغوية التي تظهر من حين لآخر، وهي وإن انتشر استخدامها تظل رهينة بقطاعات اجتماعية معيّنة وبسياق استخدام وظروف مُعيّنة، وقد لا تعمّر طويلاً.
(2) كالإختلافات اللسانية التي ترجع للجندر، المجموعة العمرية، والإجتماعية .. إلخ. لقراءات في اللسانيات الإجتماعية، أُنظر: بيتر ترودجيل، ويليام لابوف، جاك شامبرز (المراجع بالإنجليزية).
(3) يوهان فوك "العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب". ترجمة د. رمضان عبد التواب. (النسخة الإليكترونية لطبعة مكتبة الخانجي). انظر بصفة خاصة مقدمة بروفيسور أنطون شبيتالر.

*هذا من بين الأسباب التي حدت بعميد الأدب العربي طه حسين للتشكك في أصالة الشعر العربي الجاهلي، واعتبار أكثره منحولاً، حيث أن الفصحى الكلاسيكية لم تتشكّل وتأخذ طابعها النهائي الذي نعرفه اليوم، إلا قبيل ظهور الإسلام بقليل، وفي العصر الإسلامي الأول عند اشتغال النحاة على تقعيد نحوها اعتماداً على النص القرآني والحديث، والمروي من أشعار العرب وفنون القول الأخرى في العصر الجاهلي.
أنظر: طه حسين. في الأدب الجاهلي. النسخة الإليكترونية لمطبعة فاروق، الطبعة الثالثة 1933 م.

(4) Charles Ferguson: The Arabic Koine. In "Structuralist Studies in Arabic Linguistics". Google books (Not complete)
وما يقصده فيرقسون هنا هو نشوء لهجة عامّة جديدة من تداخل لهجات عديدة، وهي وإن كانت تأخذ من من كل اللهجات الداخلة في تكوينها، إلا أنّه لا يمكن ردها إلى أي واحدة منها فقط. وتسمّي اللسانيات الإجتماعية مثل هذه العملية بالـ "التسوية اللهجية ( Dialect Leveling) " ولكنّي أرى أن هناك عملية تهجين أيضاً قد حدثت، نسبة لإشتراك متحدثي اللغات غير العربية من (الأعاجم) في تخليق هذِه اللهجة العامة بدليل حدوث تغيير في تركيب الفعل بدخول لاصقة الـ (Aspect)، وفي بنية الجملة بغلبة الجملة الإسمية، والمجال يضيق.
5- شأنشر قريباً دراسة حول الإبداع اللغوي الشعبي في التعريب الخاص للفظة "مسكول" واستخداماتها المجازية المختلفة.
6- ففي المجتمع الأمريكي-على سبيل المثال- فإن معظم التقليعات اللغوية التي يبثها (الهيب - هوب) Hip -hop تأتي من "(الهود) The hood" وهو غيتو الفقراء من السود في الحضر. وفي السودان فإن فئات الكماسرة والمساعدين في مواقف البصات، ومؤخرأ فئة ما يُسمّى بـ(الأطفال المشردين) كان لها القدر المُعلّى في ابتداع وترويج الكثير من التقليعات اللغوية (الرندوك). والمشترك بين هذه الفئات هو وجودها على هامش المجتمع وفعاليتها الوجودية المُفعمة ونزوعها العالي للتضامن إزاء ذلك التهميش مما يسهّل عليها خروجها على ثوابته واجتراح أدوات مقاومته ومن بينها اللغة.

مراجع كلاسيكية في اللسانيات الإجتماعية:
1- Trudgill, Peter (2000). Sociolinguistics: An Introduction to Language and Society. Penguin. ISBN 978-0-14-192630-8.
2- Chambers, J. K. (2009). Sociolinguistic Theory: Linguistic Variation and Its Social Significance. Malden: Wiley Blackwell. ISBN 978-1-4051-5246-4.
3- William Labov (1973). Sociolinguistic Patterns. University of Pennsylvania Press. ISBN 9780812210521.
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »


الشكر الجزيل للأستاذ هاشم محمد محمد صالح ،

يدعو مقاله للطرب الثقافي ، فقد فاتتنا الرصانة العلمية في ظاهرة اللغات المحلية . وقد نجد كثير من المفردات وفق رأي بروفيسور عبد الله الطيب ،أراها من فرط محبته للغة القرآنية والعربية في الشعر الجاهلي ، أن يبحث حول أصول العامية في اللغة العربية الفصحى ، وتلك أراها منذ زمن أنها محاولة للتأصيل عن محبة ، وليس عن علم في أصول اللغة وهو اجتراح خاص ، يمكن أن يكون مبحثاً إبداعياً ( البحث عن جذور الفصيح في اللغة العامية ) للتقابل بينها ، وليست لذلك صفة علمية في البحث في أصول الألفاظ والمعاني العامية . وهنا تماماً مثل العودة لسنار لدكتور محمد عبد الحي ، فإني أراها ( تصوراً إبداعيا لسنار ) ، ولا ترتكز لأصل علمي في دولة سنار التاريخية .وذلك باب يمكننا طرحه في غير هذا المكان.
وأتفق في كل ما أورده الأستاذ هاشم ،


( ياهاشم .. من شوفتك طولنا.. ومن كتاباتك أيضاً )

*
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »


الشكر أجزله للأستاذة نجاة محمد علي ،
وسلامنا لبقية العقد الفريد وأستاذنا وصديقنا عبدالله بشير
صورة العضو الرمزية
نجاة محمد علي
مشاركات: 2809
اشترك في: الأربعاء مايو 04, 2005 1:38 am
مكان: باريس

مشاركة بواسطة نجاة محمد علي »

سلام يا بيكاسو
وشكراً على التحايا

في عام 1975، كنا مجموعة من الأصدقاء والصديقات في مدينة بيزانسون في جنوب شرق فرنسا، قادمين من الخرطوم. معظمهم جاءوا للكورس الصيفي المعتاد لطلاب السنة الثالثة بقسم اللغة الفرنسية. وكنت وصديقتي نور عبد الرحيم في عامنا الثاني في زيارة لاستكشاف بلاد الغال قبل أن أحضر في العام التالي للدراسة. كان تعبير "سنة" قد ظهر في ذلك الوقت. وبينما كنا نتجول في شوارع المدينة، التفت صلاح حسن أحمد نحو شابة فرنسية تسير إلى جوارنا "مشاغلاً": سنة، حول، 12 شهر، 56 أسبوع، 356 يوم... سنة يا عنب بوردو. إلى هنا انتهت مشاغلة صلاح، وانفجرت البنت ضاحكة، وربما أضحكها ورود اسم بوردو، المدينة الفرنسية المعروفة بعنبها ونبيذها المصنّع منه، وسط كم الكلمات التي لم تفهمها التي استرسل فيها صلاح. هذا الاسترسال الطويل يعكس أيضاً التعبير عن المبالغة الكامن في استخدام كلمة "سنة". بين "سنة يا أم خالد" و"سنة يا عنب بوردو" مر أربعة عشر قرناً، لم يُستخدم فيها هذا التعبير سوى في بعض مدن السودان دون سواها من البلدان، ولا حتى في ديار أم خالد نفسها.
كلمة "سنه" لا "تُقال في اللهجة السودانية"، وإنما كااااااانت تقال في وقت محدد في مدن محددة من أرض السودان الواسعة بلغاتها العديدة، وبلغتها العربية ذات اللهجات العديدة التنوع أيضاً. يعني ما في حاجة اسمها "اللهجة السودانية" بإطلاق.

بشرى الفاضل
مشاركات: 353
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:31 pm

مشاركة بواسطة بشرى الفاضل »

تحياتي
شكرا يا نجاة على تحفيزك لهاشم لأن يتحفنا ببحوثه العلمية ونأمل أن يتحف موقعكم بشعره الجزل الذي يضاهي كتابته الرصينة هذه.
نعم فكرة رد الكلمات من العامية السودانية بتبايناتها اتمولوجيا للعربية الفصحى بالمصطلحات العديدة مما أورده هاشم فكرة بائن خطلها وهو الإتجاه الذي ذهب إليه بروفيسور غبدالله الطيب وآخرون. رد هاشم ممتع وفيه سياحة متفكرة تنبيء عن مخزون دراسات نتمنى أن يضمنها في دفتي كتاب.ولعجب الفيا اجتهاداته لكن كلمة سنة واضحة بنفسها أنها في الراندوك الشبابي الطلابي في المدن السودانية في سبعينات القرن الماضي أنها تعني كما أشار هاشم التعظيم والمبالغة لا الاستحسان وإن بدا أن الاستحسان يندغم في ذلك بطرف. التحية لك وللصديق بيكاسو الشقليني.
صورة العضو الرمزية
نجاة محمد علي
مشاركات: 2809
اشترك في: الأربعاء مايو 04, 2005 1:38 am
مكان: باريس

مشاركة بواسطة نجاة محمد علي »

سلام يا بشرى وكيف حالك؟

هاشم لم أحفزه على الكتابة، وإنما "حفز" نفسه بنفسه :wink: .
وجدت مقاله على بريدي الإلكتروني، طالباً مني نشره، ونشرته.
وأتمنى مثلك أيضاً أن "يتحف الموقع بكتاباته المختلفة.


عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »



تحياتي للجميع
كي نكون مُنصفين ، يتعين أن نستأذن الكاتب " عبد المنعم عجب الفيا " في إيراد مقاله موضوع الملف .
ربما يكون الملف مشروع حوار خلاق حول أصول الكلمات في اللغات ، ونحن نعلم أن اللغة كائن حي ، قابل للتغيير وللتطور . فالجميع يفكرون باللغة. وسنعود للموضوع .

*
حفريات لغوية: سَنَهْ! التي تقال إعجابا حبشية وردت في الحديث النبوي .. بقلم: عبد المنعم عجب الفيّا
نشر بتاريخ: 05 أيار 2017



أذكر أنه في أيام صبانا، في سبعينات القرن الماضي، كانت هنالك كلمة تقال للتعبير عن الإعجاب بالشئ، فإذا رأيت منظرا أعجبك او سمعت خبرا سرك، تقول مبتهجا متهللا: سنه!

كنا نقول ذلك بحكم العادة ولا ندري أصلا لهذا التعبير أو اللفظ وربما كنا نظن انها كلمة "سنة" العربية ذاتها استعملت استعمالا غير عادي. ولا أدري تاريخ ظهور هذا التعبير في اللهجة السودانية على وجه التحديد، فهل ظهر التعبير في جيلنا أم كان معروفا في الأجيال السابقة ثم بعث من جديد مرة أخرى في جيلنا.

ولكن قد عثرت على أصل هذا التعبير بينما كنت أطالع كتاب (المُعَرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم) وهو كتاب قيّم يرصد الألفاظ الأجنبية في العربية لمؤلفه منصور الجواليقي أحد أئمة اللغة الأفذاذ، والمتوفي سنة 540 هـ. يقول الجواليقي في حرف السين عن لفظة سناه: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن العاص، وكساها خميصة وجعل ينظر عملها ويقول: سناه سناه يا أم خالد. وسناه في كلام الحبش: الحَسَنُ". انتهى. ص 202.

فخطر في ذهني على الفور التعبير السوداني: سنه!، الذي يقال استحسانا وإعجابا، وتأكد ظني بعد الرجوع الى معجم لسان العرب الذي وجدته قد أثبت الحديث وذكر أن الكلمة وردت بصيغ مختلفة في روايات مختلفة ومن هذه الصيغ كلمة "سنه" التي تقال في اللهجة السودانية.

يقول لسان العرب: "وفي الحديث عن أم خالد بنت خالد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بثياب فيها خميصة سوداء فقال: ائتوني بأم خالد، قالت: فأُتيَ بي رسول الله (ص) محمولة وأنا صغيرة فأخذ الخميصة بيده ثم ألبسنيها، ثم قال: أبلي وأخلقي، ثم نظر إلى عَلم فيها أصفر وأخضر فجعل يقول: يا أم خالد سَنا سَنا". ثم أضاف المعجم: "قيل سَنا بالحبشية حسنٌ، وفي روايةٍ: سَنهْ سنَهْ، وفي رواية أخرى: سَناهْ سَناهْ". انتهى.

والحديث رواه البخاري وآخرون، وقد رواه البخاري خمس مرات في مواضع مختلفة من صحيحه، جاء في بعضها "سنه" وفي بعضها "سنا" التي أوردها لسان العرب، وفي بعضها الآخر "سناه" التي أوردها الجواليقي أعلاه.
أما رواية البخاري التي ورد فيها: سنه سنه، فقد جاءت كما يلي: "قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليَ قميص أصفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سنه سنه- قال عبد الله: وهي بالحبشية: حسنةٌ– فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعها". انتهى. (انظر: صحيح البخاري، باب من ترك صبية غيره تلعب معه أو مازحها).
بعد الإطلاع على كل ذلك أجرينا تحقيقا عن وجود هذه الكلمة في اللغات الحبشية السامية (الأمهرية والتقرية والتقراي) وذلك بسؤال بعض الأخوة الأثيوبيين، ووجدنا أن الكلمة لا تزال مستعملة في اللغة التقرية/ التقرنجا وتنطق الآن: "سَناي" بإضافة ياء في آخرها أشبه بياء النسبة في العربية، وتعني: جميل وحسن. ويكثر استعمالها الآن في الأغاني العاطفية لوصف جمال الفتاة. وأغلب الظن أن أصل الكلمة هو سنا أو سنه، فحدث فيها، بفعل الزمن، تغير variation كما يقال في علم اللغة، فصارت "سَناي".

هذا، وقد جاء في متن بعض روايات الحديث :"ثم ألبسنيها ثم قال: أبلي وأخلقي". وفي رواية كررها ثلاث مرات. وجاء في شرح الحديث في عبارة: "أبلي وأخلقي" العرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول البقاء للمخاطب، أي أنها تطول حياتها حتى يبلى الثوب ويخلق. وقيل إن أم خالد عاشت بسبب هذا الدعاء تسعين عاما. وهذا الدعاء يوجد نظيره في الثقافة السودانية. أذكر حينما كانوا يأتون إلينا بلبسة جديدة، يدعون لنا قائلين: إن شاء الله تكملها بعرق العافية".


أما أم خالد موضوع الحديث النبوي، فتقول المصادر إنها الصحابية أَمَة بنت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، زوجة الزبير بن العوام ولدت له خالد وعمر، فكنيت أم خالد. وقد هاجر أبوها خالد بن سعيد بن العاص مع امرأته همينة (وقيل: هميمة) بنت خلف إلى الحبشة فولدت له هنالك أم خالد وأخوها سعيد، وبقوا بالحبشة حتى صارت أم خالد صبية. ولعل النبي (ص) أراد في الحديث أن يمازح أم خالد بلغة الحبشة عند قدومهم منها وهي آنذاك صبية. وربما دخل التعبير: "سنه سنه" العربية قبل البعثة النبوية. فلا عجب، وقد وردت في القرآن الكريم عدة مفردات من لغات الحبشة السامية، منها: مشكاة ومنسأة وبرهان ونفاق وكفلين وصحف جمع مصحف وفَطَر (خَلَق) وغيرها. (انظر: مقالنا- حفريات لغوية: عندما قالت الفتاة الحبشية اسمي وِرْق يعني دهب – سودانايل).

الرابط في مدونة سودانايل :

https://www.sudanile.com/index.php/%D9%8 ... 91%D8%A7-2[/color]
صورة العضو الرمزية
نجاة محمد علي
مشاركات: 2809
اشترك في: الأربعاء مايو 04, 2005 1:38 am
مكان: باريس

مشاركة بواسطة نجاة محمد علي »

بيكاسو تحياتي
كتبت

كود: تحديد الكل

كي نكون مُنصفين ، يتعين أن نستأذن الكاتب " عبد المنعم عجب الفيا " في إيراد مقاله موضوع الملف


أرسل لي هاشم رابط مقال عجب الفيا، وطلب مني إضافته للبوست لتمكين المشاركين والمتابعين من قراءة المقالين في الوقت نفسه.
وكنت على وشك وضعه. وأنت تعرف زحمة وقتي المتنازع بين أكثر من مشغولية.
شكراً لك على إضافة مقال عجب الفيا ورابطه.
صورة العضو الرمزية
نجاة محمد علي
مشاركات: 2809
اشترك في: الأربعاء مايو 04, 2005 1:38 am
مكان: باريس

مشاركة بواسطة نجاة محمد علي »

سلام للجميع
وصلني من هاشم محمد صالح هذا الرابط المؤدي إلى المقال الذي كتبه عبد المنعم عجب الفيا ويتضمن تعقيباً على مقال هاشم وعلى بعض ما ورد في هذا الخيط:


في المنطلقات النظرية للحفريات اللغوية. بقلم: عبد المنعم عجب الفيّا

وهذا هو المقال

البحوث التي ننشرها تحت اسم الحفريات اللغوية، تنتمي منهجيا، إلى علم اللغة العام، وتندرج تحت فرع أساسي في اللغويات يسمى فقه اللغة المقارن Comparative Linguistics ويسمى أيضا Comparative Philology الفليلوجيا المقارنة. كما تندرج تحت فرع آخر في اللغويات مكمل للفرع الأول وهو Etymology الإتيمولوجي الذي يبحث في أصول الكلمات وتاريخها. وتندرج كل هذه الفروع تحت قسم أو عنوان عريض يسمى Historical Linguistics علم اللغة التاريخي.
انظر مثلا في معجم اكسفورد للغة الإنجليزية ستجده يحدد أصل كل كلمة وتاريخ دخولها الإنجليزية ومن أين دخلت هل من الإغريقية أم اللاتينية أم الجرمانية إلخ.. أم هي من الفارسية أو العربية حتى.
وهذا ما نقوم به في الحفريات في بحوثنا عن علاقة اللهجة السودانية العربية بما يسمى العربية الفصحى واللغات الأخرى. فعندما نقول مثلا إن كلمة "مورود" بمعنى محموم في اللهجة السودانية، هي كلمة عربية لفظا ومعنى لورودها في الشعر العربي والمعاجم، أو حينما نقول إن تعبير "بات القوا/القواء" تعبير عربي قديم لفظا ومعنى لوروده في الشعر الجاهلي والمعاجم القديمة، أو عندما نقول إن خاصية الإمالة مثل كسر أواخر الكلام أو خاصية إسقاط الهمزة التي نجدها في اللهجة السودانية خواص موروثة من لغة العرب، فكل ذلك وغيره يندرج تحت فقه اللغة المقارن comparative linguistics الذي يبحث في القرابة relatedness بين اللغات واللهجات، كما يندرج تحت الإتيمولوجي الذي يبحث في أصول الكلمات وتاريخها.
وعليه فإن الزعم بان بحث أصول ألفاظ اللهجة السودانية، في اللغة العربية الفصحى، يواجه إشكالات منهجية أو انه منحى غير علمي، هو زعم لا يستند إلى أي حجة علمية سوى النفور من ربط الثقافة السودانية بالثقافة العربية الإسلامية. إن البعض ينفر لأسباب آيديولوجية من ربط أصول ألفاظ اللهجة السودانية باللغة العربية الفصحى خوفا من فكرة العروبة والدولة الدينية، ولكن هذا خلط للأمور لا مبرر له.
ستظل الحقيقة التي لا مفر منها، شئنا أم أبينا، هي أن هذه اللهجة السودانية العربية لم تهبط علينا من السماء هكذا، بل ورثناها من العرب. وهذا لا ينفي "سودانوية" هذه اللهجة وخصوصيتها النابعة من حقيقة امتزاجها بالمكونات المحلية الأفريقية: الاجتماعية والثقافية واللغوية. لقد استوعبت هذه اللهجة الكثير من الألفاظ النوبية والبجاوية والفوراوية والفونجية وغيرها ولهذا السبب وأسباب أخرى تجدنا نقف مع الرؤية الآفروعربية للثقافة السودانية.
أما علم اللغة الاجتماعي social linguistics فهو من أحدث فروع اللغويات ويبحث في أثر المجتمع في تطور اللغة ويؤمن بالقول: اللغة كائن حي، وبأن هذه الحيوية التي تتمتع بها اللغة هي بفعل تأثير المجتمع وثقافته. ولما كانت اللهجات تُظِهر حركية اللغة وتطورها، فإن علم اللغة الاجتماعي، يركز على دراستها. وتجري دراسة اللهجة بالتركيز على مجموعة سكانية معينة في بقعة جغرافية محددة وفي لحظة تاريخية محددة. وإذا استخدمنا مصطلحات فردناند دي سوسير نقول تجري دراسة اللهجة synchronically أي آنيا (في اللحظة التاريخية الحاضرة) وليس تعاقبيا أو تاريخيا diachronically. ولكن دراسة أي لغة أو لهجة لا تكتمل بغير دراسة البعدين معا: الآني والتاريخي، وهنا لا بد من الاستعانة بعلم اللغة التاريخي حتى تكتمل الصورة بمعرفة ماضي وحاضر اللهجة.
غير أن بعض الذين تخصصوا في دراسة علم اللغة الاجتماعي، يظنون خطأ أن هذا الفرع حل محل علم اللغة التاريخي وهذا غير صحيح. كل فروع علم اللغة متكاملة فيما بينها ولا يوجد فرع يلغي فرعا آخر. إن القول أن اللغة كائن حي ومتبدل ومتطور لا يترتب عليه القول بانفصال اللغة عن تاريخها وأصلها. فحتى اللهجات الخاصة بفئات محددة في المجتمع مثل "الراندوك" والتي هي اكثر عرضة للتبدل والتغير ليست منبتة الصلة عن تاريخ وماضي المجتمع الثقافي واللغوي فهي في الغالب اعادة انتاج واحياء لكلمات وعبارات قديمة في سياقات جديدة. مثلا كلمة:"سنة!" التي كانت تقال استحسانا (وليس تهويلا أو استعظاما) في اللهجة السودانية، بافتراض أنها من "الراندوك" الشبابي، فليس هنالك ما يمنع أن تكون إعادة إحياء لكلمة سَنة ذاتها الواردة في الحديث النبوي: "سَنة يا أم خالد". ومن ذلك أيضا استعمال كلمة "حديد" في معنى تمام الصحة والعافية التي كانت رائجة في الثمانينات فهي إعادة احياء للتعبير القرآني: "فبصرك اليوم حديد".
والآن بعد ما وطنّا الحفريات في علم اللغة العام، ننتقل للحديث عن الهدف من هذه الحفريات. إن هدفنا من تأثيل ألفاظ الللهجة السودانية العربية في اللغة العربية الفصحى هو المساهمة في القضاء على هذا التقسيم "المانوي" للغة إلى ألفاظ فصحى وأخرى عامية أو على الأقل كسر حدة هذا التقسيم، وذلك بإثبات أن الكثرة الغالبة من هذه الألفاظ التي يطلق عليها عامية جزافا، هي ألفاظ فصحى بدليل ورودها في المعاجم العربية الكلاسيكية وفي الشعر العربي القديم وفي القرآن والحديث ومع ذلك يجري إقصاؤها عن لغة الكتابة والتعليم والإعلام بدعوى عاميتها المزعومة.
ولا بد من التاكيد أننا نتحدث هنا في الحفريات عن الألفاظ، وليس التراكيب النحوية والصيغ الصرفية. فهذه الأخيرة موضوع بحث آخر نعمل عليه الآن، يتعلق بدراسة ازدواجية التعبير في اللغة العربية: لماذا هنالك مستويان للتعبير، مستوى للكتابة وآخر للكلام، ومتى نشأت هذه الازدواجية وما هي أسبابها؟ وهل كانت الفصحى لغة مخاطبة بين العرب الذين نزل فيهم القرآن ام كانوا يتخاطبون باللهجات كما نفعل نحن الآن؟ والى غير ذلك الأسئلة الملحة الأخرى.
تبقت ملاحظة أخيرة وهي اعتراض البعض على استعمالنا تعبير "اللهجة السودانية" باعتبار أنه ليس هنالك لهجة سودانية ولكن لهجات سودانية، وهذا صحيح. ولكنا نقصد باللهجة السودانية، اللهجة السودانية العربية الوطنية التي تمثل القاسم المشترك في التخاطب بين قبائل السودان ذات الأصول العربية وغير العربية. وبكل تاكيد إن الحديث عن اللهجة السودانية العربية الجامعة لا ينفي حقيقة تعدد اللهجات واختلافها باختلاف القبائل السودانية فاللهجة الوطنية الجامعة هي جماع هذا الاختلاف والتباين. ففي كل دولة عربية يوجد عدد من اللهجات ولكن هنالك لهجة جامعة تميز كل دولة عن غيرها من الدول. ففي مصر مثلا نجد لهجة الصعيد ولهجة الشرقية ولهجة الاسكندرية ولهجة بني سويف والفيوم ولهجة محافظات الدلتا ولهجة سيناء ولهجة القاهرة ومع كل ذلك هنالك لهجة مصرية جامعة معروفة. وفي السعودية توجد لهجة الحجاز ولهجة نجد ولهجة مناطق عسير وجيزان ولهجة القطيف وغيرها وكلها تصب في اللهجة السعودية المعروفة. وفي العراق هنالك لهجة البصرة ولهجة بغداد ولهجة الموصل وغيرها مع وجود اللهجة العراقية الوطنية المميزة. وهكذا لا تشذ دولة من الدول عن هذه القاعدة.


[email protected]
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

حفريات عجب الفيا: عود على بدء

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

[size=18]حفريات عجب الفيا: عود على بدء
في رده على نقدي لتعسّفه في إرجاع استحداثات لغوية في عامية المركز السودانية لأصول في الفصحى، وطّن الأستاذ عبد المنعم عحب الفيا حفرياته في مشروع كبير يقول إنّ هدفه هو:
"المساهمة في القضاء على هذا التقسيم "المانوي" للغة إلى ألفاظ فصحى وأخرى عامية أو على الأقل كسر حدة هذا التقسيم، وذلك بإثبات أن الكثرة الغالبة من هذه الألفاظ التي يطلق عليها عامية جزافا، هي ألفاظ فصحى بدليل ورودها في المعاجم العربية الكلاسيكية وفي الشعر العربي القديم وفي القرآن والحديث ومع ذلك يجري إقصاؤها عن لغة الكتابة والتعليم والإعلام بدعوى عاميتها المزعومة."
وفي ظنّي أنّه سيمضي الوقت سدىً لتحقيق أمر في عداد المستحيل فما سرى من أمر اللغة بفعل تاريخها الإجتماعي لا يمكن رد عجلته إلى الوراء، (إلّا إذا أمكن إعادة إنتاج ظروف مُشابهة لهذا التاريخ في إطار هندسة إجتماعية)(1). واللغة كما ذكرت في المقال السابق، متباينة بطبيعة وجودها الإجتماعي. فثنائية الفصيح والعاميّ نتاج قرون من الفرز التاريخي الإجتماعي اللساني ولها مؤسسات تحرسها في بُنى المجتمع والثقافة والوعي الجمعي. ولفظة (وِردة) التي سقطت عن القاموس الحي لعامية المركز السودانية أصبحت تستدعي معها- بالنسبة للسامع- سمات انطبعت بها من تاريخها مثل (محلّية-إقليمية-إثنية) (2)، وإن وردت في أعتى المعاجم الفصيحة أونطق بها عنترة بن شداد نفسه. وإن وافقنا الأستاذ عجب الفيا في مسعاه لإثبات أنّها فصيحة، فإنّ (رد الإعتبار هذا) لن يعيدها لدائرة الإستخدام في عاميّة المركز ناهيك عن الفصحى الكتابية؟!
والأستاذ عجب الفيا مشكور على التنوير بشأن فروع اللسانيات من لدن اللسانيات التاريخية(3). فلا أنكر فضلها ولا فضل حفرياته (في الإمتاع والمؤانسة)، إنما طالبته بالعناية بطريقة حفره (حتى لا يعوّق نفسه أو يعوقنا). ومثل هذِه العناية تجدها عند عون الشريف قاسم وهو من رواد الباحثين في (العاميّة السودانية)، فاسمعه يقول في كتابه "دراسات في العاميّة"(3):
"الواقع أنّ التطوّر الذي أصاب اللغة العربية لا يمكن تفسيره كلّه بالرجوع إلى الأصول العربية وحدها، بل لابد فيه من الإعتماد كثيراً على المصادر القديمة التي لم تتيسر لدارسينا في صورة مكتملة حتى الآن. فمن الواضح أنّ اللغة العربية قد دخلت في صراع مع عدد لا يحصى من اللغات ورواسب اللغات في السودان القديم وتأثّرت في أصواتها ومعانيها بها"(ص 14).
هذا الواقع والسياق التاريخي الإجتماعي، يعترف به الأستاذ الفيا(4) ، لكنّه يحتفي به شفاهة؛ (paying lip service to it) ولا أثر له في تحليلاته. فعند تعرّضه لظاهرة الإمالة (كسر أواخر الكلمات)، يسارع في عجلة لا يحسده عليها أحد ويجزم:
" .. إن خاصية الإمالة مثل كسر أواخر الكلام أو خاصية إسقاط الهمزة التي نجدها في اللهجة السودانية خواص موروثة من لغة العرب .."
لكنّ عون الشريف يتناول الظاهرة بحرص الباحث المُدقّق، فيكتب:
" ومما يلفت النظر في هذا المجال شيوع كسر أواخر بعض الكلمات بطريقة تجعلها ياء أو قريبة من الياء. ويكثر هذا في شمال البلاد. فالشايقية مثلاً يلحون على مثل هذِه الياء مثل قولهم الساقي للساقية والإجازي للإجازة ... هل نقول أنّ هذا من تأثير اللغات النوبية التي استقرّوا في وسطها والتي ما تزال تجاورهم والتي يكثُر في كثير من أواخر كلماتها مثل هذِه الياء مثل عردي للعردييب وعنقري للعنقريب ودفي للدفيق وماري للماريق وهذِه القاف الملحقة علامة المفعولية (ص 23)"
تتجلى العناية أيضاً عند تناوله لكلمة "أجواد" فيقول عون الشريف: "وكثيراً ما يوقع مثل هذا التشابه في أصول الألفاظ في أخطاء جسيمة خاصّةً إذا كان صوت الكلمة ومعناها قريباً من الأصل العربي فكلمة الأجواد المشهورة والتي تُجمع على أجاويد وتعني من يتوسطون بين المتنازعين ويسعون لرأب الصدع، قد يتبادر إلى الذهن أنّ أصلها الجود لإنّ من يقوم بهذِه المهمة لابد أنّ يكون كريم النفس. وقد قال الحاردلو يمدح: بعرفك كنت تقوم في حجازة واجوادية. والواقع أن الكلمة ليست من الجود في شيء وإنما هي نوبية الأصل مكونة من مقطعين أولهما (أج) بمعنى مختلف و(واد) بمعنى منفصل؛ والمعنى العام الذي يفصل بين المتنازعين (ص 16). وليس غرضي هنا أن أتبنى هذا التخريج من قبل بروفيسور عون، لكن لا بدّ للمرء من أن يعجب بهذا الحرص والإنتباه للسياق التاريخي الإجتماعي الذي تبلورت فيه العاميّات السودانية. وهذا بالضبط ما تفتقده محاولات الأستاذ عجب الفيا الذي يتناول الألفاظ خارج سياقها التاريخي- الإجتماعي (والدلالي أيضاً)، منساقاً فقط وراء الأصوات وفكرة السلف اللساني في تخريجاته. فهو لايزال يصرّ على أنّ "سنة" الراندوكية من "سناه" الحديث، بل إنّه أضاف إليها تعبير "حديد" كناية عن السلامة والقوة وهي أيضاً من الراندوك الشبابي فها هو يكتب:
"ومن ذلك أيضاً استعمال كلمة "حديد" في معنى تمام الصحة والعافية التي كانت رائجة في الثمانينات فهي إعادة احياء للتعبير القرآني: "فبصرك اليوم حديد"..
ولا أدري ما يعنيه الأستاذ الفيا بـ (إعادة إحياء) هذِه، فالآيات القرآنية وأبيات الشعر ومواد معاجم الفصحى ليست حاضرة حضوراً حيّاً في الوعي الجمعي الشعبي حتي يتم استدعاؤها بالسهولة وبالبديهية التي يتم بها تخريج مثل هذِه الإستحداثات، خاصة بالنظر لثقافة الشرائح الإجتماعية التي من المرجّح أن تكون هذِه الإستحداثات قد ظهرت وسطها أولاً. كما أنّ الأستاذ في عجلته لتثبيت اكتشافاته المثيرة لا يتوخى الدقة التي نراها عند بروفيسور عون. فـ(حديد) الراندوك الشبابي من (الحديد) المعدن بقرينة القوة والمِنعة، أمّا (حديد) الإية فترجعها التفاسير لمعاني نافذ وحاد ودقيق كلسان الميزان (4).
ونشاط الكتابة غير نشاط الكلام، لذا تنهض هَذِه الثنائية في كل المجتمعات اللسانية، فتجد اللغة النموذجية (الفصحى) موظّفة في الكتابة ولهجات الكلام ( العاميّات) التي توظّف في التخاطب اليومي. وهذا الإختلاف في التوظيف يتبعه اختلاف في البنية والمعجم والأسلوبية بل حتى في المشاعر والأحكام القيمية تجاه كل من النوعيتين اللغويّتين على حدة. ولكن المسافة بين اللغة النموذجية (الفصحى) وبين لهجات التخاطب اليومي (الكلام) في المجتمعات المتحدّثه بالعربية أكبر عنها من ما هو عليه الحال في كثير من المجتمعات اللسانية الأخرى، كما أنّهما تختلفان نوعياً في البنية. وهذِه حالة خاصة تعرف بـ " الإزدواجية اللغوية". ولتشارلس فيرقسون مقال عمدة في هذا الصدد (5)، وهو أوّل من تىبّه لهذه الظاهرة في المجتمعات اللسانية العربية، ووصفها باختصار على أنّها وضعية تتحايث فيها جنبا إلى جنب في الإستخدام الإجتماعي نوعيتان لغويتان هما الفصحى وتعتبر إجتماعياً (لغة عليا) والعامية وهي (نوعية أدنى). وتقتسم النوعيتان مجالات الإستخدام الإجتماعي؛ فتستخدم الفصحى في المجالات العليا كالشعائر الدينية والتعليم والإعلام والأدب (الراقي)، والمخاطبات الرسمية، ويتم تعلّمها نظامياً. بينما تستخدم العامية في الأسرة والخطاب اليومي والسوق والأدب الشعبي، وهي النوعية التي تتمّ وراثتها إجتماعياً بصورة طبيعية. وعلى العكس من الإنطباع السائد وسط متحدثيّ العربية بأنهما امتداد لبعضهما البعض، فإن بين هاتين النوعيتين انقطاعات ماثلة في النشأة ومصدر وطبيعة الإكتساب كما في التركيب اللساني وفي الإستخدام الإجتماعي.
هذا الإنقسام الصارم في مجال الإستخدام، إضافة إلى (القيمة الإجتماعية) والمشاعر المترسبة حيال كلّ من النوعيتين ما دعاني للحكم بالإستحالة على مشروع الأستاذ الفيا الرامي إلى القضاء على التقسيم إلى فصحى وعاميّة أو "كسر حدّته". ولكن يبدو أنّ أمر هذا الإنقسام وتاريخيته غير خافييْن على بديهة الأستاذ عجب الفيا، فهو يعمل كما جاء في إفادته على: "موضوع بحث آخر يتعلق بدراسة ازدواجية التعبير في اللغة العربية: لماذا هنالك مستويان للتعبير، مستوى للكتابة وآخر للكلام، ومتى نشأت هذه الازدواجية وما هي أسبابها؟ وهل كانت الفصحى لغة مخاطبة بين العرب الذين نزل فيهم القرآن ام كانوا يتخاطبون باللهجات كما نفعل نحن الآن؟"!؟ وهذا موضوع لا شك في إلحاحه كما تؤكّد عبارة الأستاذ الفيا. فلوضعية الإزدواجية اللغوية نتائج ومترتبات وخيمة على التعليم وعلى الكفاءة اللغويّة وبالتالي على الأداء اللغويّ في المجتمعات العربية. فنظامنا التعليمي غير عابِئ بكون الفصحى ليست هي اللغة (أو النوعية اللغوية) التي يلتقطها الأطفال في سياق تنشئتهم الإجتماعية. وهم حين يبدأون تعلّم القراءة والكتابة في بداية سنيهم الدراسية، يواجهون نظاماً صوتياً وصرفياً ونحوياً مختلفاً عن ما عهدوه في (لغتهم الأم) المكتسبة إجتماعياً. وهذا أشبه بوضعية من يتعلّم لغة ثانية أو أجنبية، دون أن تكون المناهج مُتهيئة أو حتى واعية لظرفه ووضعيته. وينشأ عن ذلك ما نراه من تعثّر في التعبير بلغة لم تُحسن المدارس تعليمنا إياها، والتعلّق بفصاحة لفظية فارغة المحتوى. والأمر يمضي أبعد من ذلك؛ فلأن الكسب اللغوي يصبح في مثل هذا الظرف خاضعاً للظروف والمجهودات الشخصية، تتسع هوة التفاوت اللغوي. وبالنظر لواقع التعدد اللغوي والإثني، فإنّ هذا التفاوت يُدخِل اللغة ضمن ترسانة الحيازات التي تكرِّس القوة والحظوة في دولة -أو دُول- العربية (الفصحى) هي "لغتها الرسمية". ولهذا فإنني، وإن استغربت انعطافة الأستاذ الفيا غير المتوقعة من الإنشغال بتفصيح العاميّة إلى التقرير بوقوع الثنائية في التعبير بين الكتابة والكلام، لا أملك إلا أن أوافقه في أهمية تسليط الضوء على واقع الإزدواجية اللغوية من ناحيته كوضعية لسانية، وكذلك من ناحية مترتباته الإجتماعية في التعليم والثقافة وحيازة القوة.
وعليه، فأرجو أن أكون قد أوضحت للأستاذ الفيا أنّ مأخذي على حفرياته لا علاقة له بالأيديولوجيا، بل بالجيولوجيا اللسانية، وأنّني لا أكتب باسم (البعض) بل باسمي المُعنوَن به المقال. وإن كان قد زكّاني كمتخصص في (علم اللغة الإجتماعي)- وما أنا سوى دارس له- فليسمح لي ببعض مساحة للتحشر في مواضيع لي فيها مليم أو مليمان، كما يجري تعبير الفرنجة.

__________________
(1) هناك تجارب ناجحة محدودة تمت في إطار "التخطيط الغوي" لمعالجة وضعية اللغة في المجتمع، مثل إحياء العبرية واتخاذها لغة قومية، وإصلاح التركية، وتبنّي السواحلية لغة وطنية.
(2) كنت أسمعها في صغري عند أهلي الكبار من مُتحدثي لهجة الشايقية. وأجزم أنّني لم أسمعها أو أقرأها بعد خلال الخمسين سنة الماضية.
(3) والأستاذ عبد المنعم مستغرق في تبيان أنّ حفرياته تنتمي لهذا الفرع أو من الدراسات اللسانية، في حين أنّ المنازعة هي في ما إذا كان يلتزام منهجاً مقبولاً ودقيقاً في التقصّي والمقارنة و "التأثيل".
(4) فهو يقول مقال الرد " وهذا لا ينفي "سودانوية" هذه اللهجة وخصوصيتها النابعة من حقيقة امتزاجها بالمكونات المحلية الأفريقية: الاجتماعية والثقافية واللغوية".
(5) عون الشريف قاسم: دراسات في العامية. الدار السودانية. الطبعة الأولى 1974م.
(6) أنظر تفسير الطبري، وتفاسير أخرى على مواقع لا حدّ لها على الشبكة الإسفيرية. " .. وقوله ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) يقول: فأنت اليوم نافذ البصر, عالم بما كنت عنه في الدنيا في غفلة, وهو من قولهم: فلان بصير بهذا الأمر: إذا كان ذا علم به, وله بهذا الأمر بصر: أي علم.
وقد رُوي عن الضحاك إنه قال: معنى ذلك ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) لسان الميزان, وأحسبه أراد بذلك أن معرفته وعلمه بما أسلف في الدنيا شاهد عدل عليه, فشبَّه بصره بذلك بلسان الميزان الذي يعدل به الحقّ في الوزن, ويعرف مبلغه الواجب لأهله عما زاد على ذلك أو نقص, فكذلك علم من وافي القيامة بما اكتسب في الدنيا شاهد عليه كلسان الميزان."
https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/ ... aya22.html
(7) Ferguson, Charles A. 1959. Diglossia. Word 15: 325-340. https://www.mapageweb.umontreal.ca/tuite ... lossia.pdf
آخر تعديل بواسطة هاشم محمد صالح في الخميس أغسطس 03, 2017 3:01 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

و الآيديولوجيا اللسانية

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام يا هاشم

ياخ رجعت قريت كلامك تاني و استوقفتني عبارتك:ـ
"..وعليه، فأرجو أن أكون قد أوضحت للأستاذ الفيا أنّ مأخذي على حفرياته لا علاقة له بالأيديولوجيا، بل بالجيولوجيا اللسانية".
فبالله أشرح لينا حكاية الجيولوجيا اللسانية الفالتة من الآيديولوجيا ينوبك ثواب و أجر من عند الله و كذا..
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

سلامات ياحسن،
تُقرأ في السياق ياخ. فقد كتبت ما كتبت رداً على اتهام الأستاذ الفيا لي في قوله:
"إن البعض ينفر لأسباب آيديولوجية من ربط أصول ألفاظ اللهجة السودانية باللغة العربية الفصحى خوفا من فكرة العروبة والدولة الدينية، ولكن هذا خلط للأمور لا مبرر له."
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

لهجة أم درمان - عبد المنعم عجب الفيا

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

حفريات لغوية: لهجة أم درمان أم لهجة المدينة ؟! بقلم:عبد المنعم عجب الفيا

"لهجة أم درمان" تعبير غيرمعروف لدى عامة الناس في السودان كما أنه لم يكن معروفا عند الباحثين الأوائل في اللهجات السودانية، أمثال: عبد الله عبد الرحمن وعبد الله الطيب وعون الشريف قاسم وعبد المجيد عابدين وهليلسون وغيرهم.
وقد بدأ بعض المثقفين استعمال المصطلح في التسعينات استنادا على قلة قليلة من البحوث التي صدرت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. أقول قلة قليلة من البحوث لأنه لا يوجد إجماع بين الدارسين على المصطلح. ثم إننا نرى أن المصطلح لا يستند إلى أسس علمية وعملية صحيحة فليس هنالك لهجة ذات مواصفات صوتية وصرفية ونحوية ودلالية خاصة بام درمان تميزها عن بقية مدن السودان بحيث تفرض علينا ان نجترح لها مصطلحا خاصا كهذا.
ومن الدلائل على ان هذا المصطح لا يستند إلى أسس علمية سليمة استعماله استعمالات مغلوطة حتى من قبل الباحثين الذين يروجون له. ومن ذلك مثلا كتب مرة أحد المختصين في اللغويات والداعمين للمصطلح قائلا: إن "ساكت" و"ساي" لهجة امدرمانية!! وغني عن القول ان ساكت وساي لهجة ريفية وبدوية بحتة ومستعملة في مختلف أقاليم السودان وليست خاصة بامدرمان وهي من التعابير الموغلة في سودانيتها وليست من الألفاظ التي استحدثتها لهجة المدن. ويذهب عبد المجيد عابدين صائبا إلى أن ساي ترخيم من ساكت. واللفظان بمعنى واحد. فإذا سئلت: لشنو سويت كدي؟ ترد: ساكت أو ساي. ومن امثلة الترخيم في اللهجة السودانية قول الحردلو "الشم" للشمش: "الشم خوخت وبردن ليالي الحرة". والترخيم معروف في اللغة العربية.
كذلك وصف مرة باحث مختص آخر حديثنا عن المورود والوردة بمعنى المحموم والحمى في (الحفريات اللغوية) بانه حديث في لهجة المركز، وهو يقصد بالمركز الخرطوم وامدرمان!! والحقيقة ان مورود ووردة لهجة أهل الأرياف والبوادي أصالة وأول من تخلى عنها هم أهل امدرمان وبقية المدن.
ومن الأمثلة على استخدام المثقفين غير المختصين لتعبير لهجة ام درمان هو أنني كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء، وهو من أبناء ام درمان وكان مقيما بالسعودية، حول ضرورة التمسك باللهجة السودانية الجامعة في التحدث مع بقية الجنسيات العربية. فقال لي ذلك الصديق: "أنا أتحدث مع السعوديين بلهجة ام درمان". ولما سألته ماذا يقصد بلهجة ام درمان؟ أجاب ان لامدرمان لهجة خاصة ولكنه عجز عن تحديد ملامح هذه الخصوصية. فقلت له: إنك تقصد لهجة المدن والحضر التي صارت لهجة السودان الجامعة، وكان يمكنك القول انك تتحدث مع السعوديين باللهجة السودانية، وكفى. فلو سألت اي عربي آخر بماذا تتحدث مع الجنسيات العربية الأخرى لأجاب: انه يتحدث باللهجة السعودية مثلا أو الخليجية أو العراقية أو الشامية أو المصرية أو المغربية إلخ.. دون تحديد مدينة أو منطقة بعينها مع أن التباين في اللهجة العربية الواحدة في القطر الواحد ليس أمرا خاصا بالسودان.
صحيح أن لكل مدينة من مدن السودان خصوصيتها الثقافية واللغوية ولكن خصوصية ام درمان لم تبلغ حد أن تكون لها لهجة قائمة بذاتها بكل الخصائص الصوتية والنحوية والصرفية والدلالية التي تميزها عن بقية المدن. إن سكان أم درمان لدى التحليل الأخير ما هم إلا سكان الأرياف والبوادي الذين هاجروا إليها بلهجاتهم في أزمان مختلفة مثلها مثل بقية مدن السودان. إن ما يسمى "لهجة أم درمان" ما هو إلا لهجة المدن والحضر التي نجدها في مدني وبورسودان وكسلا والأبيض وعطبرة وغيرها. وقد يقول قائل إن أمدرمان هنا استعملت كرمز باعتبارها المدينة الوطنية الأولى وأم المدائن. ولكن ليس هذا هو المقصود من دلالة المصطلح عند بعض الدراسين والمثقفين بل ان المقصود أن هنالك لهجة خاصة بام درمان كمدينة ومكان بعينه وليست كرمز للدلالة على اللهجة القومية الجامعة.
وهذا لا يمنع بالتأكيد ان يخصص دارس ما بحثا عن لهجة أم درمان العربية كمدينة من غير إدعاء أن لأم درمان لهجة قائمة بذاتها ولها خصائص صوتية ونحوية وصرفية ودلالية تجعلها تختلف عن لهجة مدن وأرياف السودان.
وما يقال عن مصطلح لهجة أم درمان يقال أيضا عن تعبير "لهجة الوسط" الذي يستخدمه البعض مرادفا لتعبير لهجة أم درمان. فإذا كان المقصود بالوسط، الوسط الجغرافي أو الشريط النيلي، فليس لهذا الوسط لهجة واحدة وخاصة به وحده. فلهجة أرياف الشايقية والبديرية مثلا في الشمال تختلف عن لهجة مدن العاصمة المثلثة. ولهجات شمال الجزيرة تختلف عن لهجات جنوب الجزيرة مثلما تختلف لهجات النيل الأبيض عن لهجات شمال الجزيرة ولهجة العاصمة. كما أن لهجات النيل الأبيض تتفق مع لهجات البطانة في الشرق ولهجات شمال شمال كردفان (دار حامد والكبابيش والكواهلة والحَمَر) ومع لهجات شمال دارفور (الزيادية والمهرية والمحاميد) مثلما تتفق لهجة الشايقية مع لهجة الجوامعة والبديرية بشرق ووسط شمال كردفان. وكل ذلك يجعل تعبير لهجة الوسط تعبير اختزالي إلى حد كبير. ومرة أخرى نقول إن ما يسمى "لهجة الوسط" ما هو إلا لهجة المدن والحضر، سواء كان هذا الحضر في الوسط أو الشرق أو الغرب أو الشمال.
ونخلص من كل ذلك إلى أن تقسيم اللهجات السودانية إلى لهجات ريف وحضر كاف في الدلالة على التباين اللغوي في السودان بين الريف والمدينة.


https://sudanile.com/index.php/%D9%85%D9 ... 9%8A%D8%A7
آخر تعديل بواسطة هاشم محمد صالح في الخميس نوفمبر 30, 2017 5:15 am، تم التعديل مرة واحدة.
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

حول التنوّع اللهجي واللغوي في السودان

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »


حول التنوّع اللهجي واللغوي في السودان

نشر الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا مقالاً بموقع سودانايل بتاريخ 20 سبتمبر 2017م (أعلاه). مستنكراً فيه استخدام بعض من كتبوا في اللهجات العربية السودانية لمصطلحات مثل "لهجة أم درمان" و"لهجة الوسط" إشارة إمّا إلى اللهجة النموذجية الحضرية العامة أو للهجة المدينة أم درمان في ذات نفسها.
وعلل الفيا رفضه لهذِه المصطلحات بأنّها لم تكن معروفة عند الرواد أمثال: عبد الله عبد الرحمن وعبد الله الطيب وعون الشريف قاسم وعبد المجيد عابدين وهليلسون. ثمّ أضاف إلى ذلك قلة البحوث وعدم إجماع الباحثين، واختتم بعبارة قاطعة جازمة:
"ثم إننا نرى أن المصطلح لا يستند إلى أسس علمية وعملية صحيحة فليس هنالك لهجة ذات مواصفات صوتية وصرفية ونحوية ودلالية خاصة بام درمان تميزها عن بقية مدن السودان بحيث تفرض علينا ان نجترح لها مصطلحا خاصا كهذا".
وخلاصة رأيه هي أنّ تقسيم اللهجات السودانية إلى لهجات ريف وحضر كاف في الدلالة على التباين اللغوي في السودان بين الريف والمدينة.

ولعل الأستاذ الفيا يقصد (التباين اللهجي)، أي التنوّع في إطار اللغة العربية؛ فـ (التباين اللغوي) في السودان لا تكتمل صورته دون ذكر اللغات السودانية التي يتحدثها إلى جانب العربية ما يقارب ثلث سكان البلاد (الفور والزغاوة والمساليت في الغرب، البجاوية في الشرق، لغة النوبيين في الشمال، لغات النوبا في جنوب كردفان، ولغات منطقة جنوب النيل الأزرق ..إلخ).
وفي حقيقة الأمر، فإنّ التقسيم الثنائي للهجات العربية السودانية إلى لهجات ريف ولهجات حضر لا يكفي حتى لمجرد وصف ثراء أوضاع التباين اللهجي للعربية في السودان ولايحيط بتعقيدها ولا بتداخلها.
فما أسماه الفيا بـ(الريف) يزخر بالتنوّع اللهجي وتتعدد أوجه وجود العاميّة العربية فيه بأكثر مما أورده في مقاله؛ فهو يركّز على مناطق توجد فيها العربية لغة أولى في شكل اللهجات العامية العربية الإثنية المختلفة. إلا أنّ هنالك مناطق التداخل والتماس اللغوي مع اللغات السودانية المحلية حيث تتخلّق نوعيات متعددة من الهجين الى الخليط الإنتقالي إلى جانب وجود أشكال العربية المتنوعة كلغة ثانية. وكذلك، فإن الحضر تتعدد فيه اللهجات ونوعيات العاميّة. فالواقع أنّ أي إنسان له تجربة في السفر والتنقّل بين مدن السودان المختلفة، وله أذن مرهفة ومنتبهة إلى التباين اللساني يستطيع أن يلتقط بعض الإختلافات في النطق أو في اختيار المفردات أو في التركيب أحياناً بين عاميات الحضر المختلفة. فمع وجود لهجة قومية نموذجية عامة (جامعة) تسود بصورة خاصة في الحضر، فإن لمدن إقلمية عديدة سمات لسانية خاصة بها اكتسبتها من التاريخ الإثني-الإجتماعي والثقافي للمنطقة. فعامية بورتسودان لها سمات تميّزها عن عامية الخرطوم أو الأبيض أو الفاشر أو الدلنج، ولكلّ واحدة منهن سمات تميّزها عن الأخريات. بل إنّ الإختلاف يمكن أن يقع في أشكال النطق أو التسميات من حي لحي داخل المدينة الواحدة. بعض هذِه الإختلافات قد يكون واضحاً يعي به الناس، بينما يحتاج البعض الآخر يحتاج للدراسة المستقصية المُتخصّصة. وكلنا يعلم أنّ أمدرمان مدينة قديمة لها تشكيلتها الإثنية الخاصّة ولها تاريخها الإجتماعي والثقافي الخاص الذي يميزها عن حتى جارتها الخرطوم، مما يجعلنا نتوقع وجود خواص لسانية مميزة لطريقة كلام أهلها. والغريب أنّ الفيا نفسة يُقِرُّ في زلة من قلمِه مُصَرِّحاً:
"صحيح أنّ لكل مدينة من مدن السودان خصوصيتها الثقافية واللغوية .." فما هي هذِه الخصوصية إذاً إن لم تكن ما يتبدى في طريقة نطق الناس أو اختيارهم لمفردات أو تراكيب بعينها؟ لكن يبدو أن لعجب الفيا مواصفات بعينها فهو يضيف:
"ولكن خصوصية ام درمان لم تبلغ حد أن تكون لها لهجة قائمة بذاتها بكل الخصائص الصوتية والنحوية والصرفية والدلالية التي تميزها عن بقية المدن" ولنا حينئذٍ أن نتساءل كم يبلغ (النصاب)، أو ما هو الـ (threshold) الذي يجب أن تتعداه طريقة الكلام في منطقة أو مدينة ما، حتى تتأهّل لأن تكون لهجة (قائمة بذاتها). وماذا يعني الفيا بـ (قائمة بذاتها). فاللهجات لا تكون قائمة بذاتها وإلّا لأصبحت لغات (قائمة بذاتها). وكما أشرت في مقال سابق، فإنّ اللسانيات الإجتماعية تعتبر التباين أصلاً في اللغة لإرتباطها باجتماع الإنسان. وتُعرّف اللهجة بأنّها تنويع في طريقة الكلام سواء في النطق أو اختيار المفردات أو في التركيب مهما كان طفيفاً أو عظيماً. ذلك أنّ بين لهجات اللغة الواحدة قاسم مشترك أعظم في البنية والخصائص هو الذي يسمح بالتواصل والتفاهم المشترك(mutual intelligibility) . وبحسب علم اللهجات (dialectology) فإنّ اللهجات تتصل بعضها بالبعض الآخر في منداح (continuum)(1) بحيث تتعاظم الفروقات ويقلّ التفاهم كلما تباعدت، وتقلّ الفروقات ويتعاظم التفاهم كلما اقتربت من بعضها البعض. وعلة التباين اللهجي تكمن في المسافة والحواجز سواء أكانت في الجغرافيا أو النظام الإجتماعي. فقد أظهرت الكثير من دراسات اللهجات الجغرافية أن المسافات والحواجز الطبيعية تلعب دوراً مهماً في التباين اللغوي وتشكل في كثير من الأحيان انقطاعاتٍ وحدوداً لسانية بين لهجة أو مجموعة لهجات وأخرى. كذلك فإنّ الحراك الإجتماعي الإقتصادي وما ينتج عنه من قيام المراكز الحضرية والهجرات والتساكن، ونشوء تكوينات إجتماعية وشبكات تواصل جديدة، يؤدي إلى المزيد من التقارب اللهجي ونشوء اللهجة العامة المشتركة. وفي نفس الوقت، فإنّ التراتب والتمايز الإجتماعيين يخلقان مسافات وحواجز بين الشرائح والمجموعات الإجتماعية مما يؤدي أيضاً إلى التمايز في طريقة الكلام في إطار اللهجة الواحدة، وبالتالي إلى ظهور لهجات الفئات الإجتماعية مثل لهجة الشباب، لهجة النساء، لهجة الطبقة الوسطى ..إلخ. وربما تكون الفروقات والإختلافات اللهجية الجغرافية أكثر وضوحاً ويعي بها الناس، بينما تحتاج الإختلافات اللهجية الإجتماعية إلى الكشف عنها عن طريق الدراسة المستقصية
وتُرسم الأطالس اللغوية وتُعيَّن الحدود بين اللهجات، سواء أكانت جغرافية أو اجتماعية، بناء على سمة أو سمتين من النظام الصوتي أو التركيبي أو الدلالي تُسمى المتغيير (variable) للتفريق بين لهجة وأخرى. ولا يُشترط أن تبلغ الإختلافات حدّاً معيناً، كما لا يشترط فيها أن تكون شاملة جميع أركان البنية اللسانية. لكن الواقع أن البناء اللغوي مترابط وتتبادل مكوناته التأثير في بعضها البعض. وهناك في تاريخ تطور العاميات العربية بعامة تغييرات صوتية أدت بدورها للتأثير في الصرف والتركيب (فيرقسون) (2). وقد بُنِيَت الدراسات التأسييسة في اللسانيات الإجتماعية للهجات الجغرافية والإجتماعية في اللغة الإنجليزية على خصيصة أو إثنتين. فدراسة بيتر ترودجيل في نوريتش (Norwich) تستند على الإختلاف في نطق المقطع ing، حيث يوجد له نطقان بالنسبة للصامت الأخير، (n) الذي يسود وسط الشرائح الإجتماعية الدنيا، و(ng) الذي هو (النطق النموذجي) ويسود وسط الطبقات العليا. وخلصت الدراسة أيضاً إلى أنّ النساء، غض النظر عن الشريحة الإجتماعية التي ينتمين إليها، يملن لاستخدام النطق النموذجي أكثر من الرجال (3). وأقام وليام لابوف دراسته عن التباين والتراتب الإجتماعي للهجات الشرائح الإجتماعية في نيويورك على نطق الراء أو عدمه في كلمة (floor) (4). وتقوم المقارنة بين لهجات الفئات الإجتماعية أو المناطق الجغرافية على التقييم الإحصائي لنسب وجود الظاهرة اللسانية المعيّنة (المتغيير (variable في الإستخدام في اللهجة المعينة. وتُفسّر النتائج على أنّها مَيْل، أي أنّ متحدثي لهجة مُعينّة يميلون لاستخدام (المتغيير (variable اللساني موضوع الدراسة أكثر أو أقلّ من متحدثي اللهجة أو اللهجات الأخرى. فليس الأمر أمر وجود الظاهرة اللسانية (المتغيير (variableأو عدم وجودها كلّيةً، كما يظنّ الفيا. واللهجات كما أشرت أعلاه توجد في منداح (continuum) لا يعرف الإنقطاعات، وإلّا لما كانت لهجات.
أمّا تسمية اللهجة النموذجية العامة الجامعة بمدينة ما أو منطقة جغرافية، فتقليد عام سائد ولا يختص به السودان. فاللهجة العامية المصرية النموذجية السائدة يشار إليها بلهجة القاهرة، واللهجة الفرنسية السائدة بلهجة باريس. واتخاذ المدينة أو المنطقة اسماً للهجة المشتركة العامّة يأتي لكون هذِه المدن تشكّل مراكز الإشعاع التي تحدث فيها الإستحداثات اللغوية والتقارب اللهجي، ومن ثمّ تنتشر في باقي المراكز. كذلك فإنّ (الوسط) الجغرافي في السودان هو تاريخياً منطقة الحظوة والقوة والحراك الإقتصادي السياسي، وقد أسهمت مع هذا، سهولة الإنتقال وتواتر الإتصال بين سكانه عبر التاريخ في خلق نوعية لغوية بالتقارب اللهجي انبنت عليها، وتشكّلت من خصائصها العامّة، اللهجة النموذجية العامية العربية السودانية المشتركة التي تسود في المناطق الحضرية في السودان عامّة.
هذا، وعلى الرغم من ارتباط ظهور اللهجة العاميّة النموذجية المشتركة بـ (الوسط) و(العاصمة) جغرافياً وتاريخياً، فقد أبِنت من قبل تفضيلي لإصطلاح يُبرز الطابع الإجتماعي لهذِه اللهجة النموذجية العامّة باعتبارها لغة الطبقة الوسطى ذات الحظوة الإقتصادية الإجتماعية، والتي يتعزز انتشارها بفضل عوامل المركزة الإدارية واقتصاد السوق واتساع التعليم وشيوع وسائل الإتصال ..إلخ.
وغض النظر عن الشواهد العينية في هذا الصدد، فإنّ معطيات النظرية اللسانية الإجتماعية تدلنا على ما يُمكن توقعه من ناحية اختلاف اللهجات، إذا ما اختلفت البيئات الجغرافية أو الإجتماعية وتداخلت مع الحراك الإقتصادي الإجتماعي السياسي. فالطريق بين الدراسات التجريبية وبين النظرية ليست ذات إتجاه واحد. فكما تدعم الدراسات التجريبة النظرية، فإنّ النظرية تضيء الطريق للدراسات التجريبية الميدانية.
وفي ما يتعلّق بدراسة الأوضاع اللغوية في السودان بعامّة، فإنّ التوصيف الأفقي و(الأطلس) الذي يرسم التوزيع الجغرافي للهجات العاميّة واللغات السودانية ويحدد مناطق تحدّثها، لايفيان وحدهما بالصورة كاملة، حيث تغيب عنها أبعاد حركة هذِه الأوضاع وديناميتها. فهذِه اللغات لاترقد مجاورة لبعضها البعض في سلام، وإنما توجد في حالة صراع مع بعضها البعض، يؤدّي إلى الإنحسار التدريجي في ناحية وإلى التمدد والإنتشارفي الناحية الأخرى. لذلك فإنّ المسوح اللغوية التي تستهدف الكشف عن المعرفة اللغويّة والإستخدام اللغوي للسكان في مناطق السودان المختلفة عن طريق التقييم الإحصائي هي السبيل الأفضل إلى الإحاطة بهذِه الدينامية. وقد أوضحت بحوث عديدة أجريت في معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية ومعهد الخرطوم الدولي للغة العربية أنّ السمة العامة للأوضاع اللغوية في السودان هي سريان الإنتشار التدريجي للغة العربية وانحسار اللغات السودانية في مناطق التداخل اللغوي (5).
فالواقع إذاً هو أنّ الأستاذ الفيا هو الذي لا يستند إلى أيّة مرجعية علمية في أحكامه التي يطلقها جزافاً. وكذلك فإنّ مقاله في عمومه مربك ويحفل بالكثير من التناقضات الداخلية. فهو مرّة يعترض على التسمية، وأخرى ينكر وجود الظاهرة في ذات نفسها. وفي حين أنّه يريدنا لوصف التباين اللهجي بأن نكتفي بالمقابلة بين الحضر والريف، تجده يتحدّث عن (لهجة العاصمة). غير أنه يبلغ قمة التناقض حين ينكص عن ثيمة مقاله الأساسية ليقول:
"وهذا لا يمنع بالتأكيد ان يخصص دارس ما بحثا عن لهجة أم درمان العربية كمدينة من غير إدعاء أن لأم درمان لهجة قائمة بذاتها ولها خصائص صوتية ونحوية وصرفية ودلالية تجعلها تختلف عن لهجة مدن وأرياف السودان."
ولا غبارعلى الباحث أن يتوجّه لدراسته من غير إدّعاء، لكن عليه بالتأكيد أن يستصحب خلاصة البحث النظري والتجريبي السابق في علاقة اللغة بالمجتمع. لكن السؤال هو كيف يُمكن تحديد خصائص حديث أهل أمدرمان إن لم يكن بمقابلته وتبيان اختلاف بعض مظاهره مع اللهجة العامّة أو لهجات المدن الأخرى. وكيف ستكون هناك (لهجة أم درمان) إذا كانت لا "تختلف عن لهجة مدن وأرياف السودان" وكيف جاز له دمج مدن وأرياف السودان في (لهجة مدن وأرياف السودان.) وهو يقول بالتمايز بين لهجات المدن والأرياف
وقد شملني الفيا في نقده لمن يستخدمون مصطلحاً لتعيين اللهجة العامية النموذجية في السودان قائلاً: "كذلك وصف مرة باحث مختص آخر حديثنا عن المورود والوردة بمعنى المحموم والحمى في (الحفريات اللغوية) بانه حديث في لهجة المركز، وهو يقصد بالمركز الخرطوم وامدرمان!! والحقيقة ان مورود ووردة لهجة أهل الأرياف والبوادي أصالة وأول من تخلى عنها هم أهل امدرمان وبقية المدن."
مثل هذا القول يصلح مثالأ ساطعاً لسوء الفهم- أوعدمه، لكنّه قد يتخطى ذلك ليلامس عدم الأمانة العلمية. فكان الفيا قد سأل مستنكراً ما أسميته (لهجة المركز)، فأجبت في الرد عليه:
"فيما يتعلّق بنقطة الأستاذ عجب الفيا الثانية الواردة في آخر المقال عن تسميتي (عاميّة المركز)، فأجيبه بأنّي أعني ما يطلق عليه البعض (عاميّة أم درمان)، وآخرون (عاميّة الخرطوم). وقد ظنّنت أنّها أوفق نسبة لشقاق نشب بين المعسكرين في أيهما الأصح، نسبة لأنّها تتفادى التحيّز (المديني)، كما أنّها تأخذ في الإعتبار أن طابع هذِه اللهجة حضري إجتماعي ويتمّ فيها تحييد الخصائص (الإثنية) و(المحليّة) و(الإقليميّة) التي في اللهجات الأخرى عن طريق الـ(Dialect Leveling) . و(المركز) تصوّر أو مفهوم إجتماعي لا جغرافي يُضفي على هذِه اللهجة سمة كونها لهجة الشرائح الإجتماعية ذات القوة والحظوة، والتي يمتد نفوذها إلى كافة المراكز الحضرية على امتداد القطر .."
كيف يمكن لقارئ أمين أن يستشف من هذا أنني أقصد بالمركز الخرطوم وأم درمان كما يزعم الفيا ويردف ذلك بالتعجّب بعلامتين (كمان) بدلاً عن واحدة.
تبقى مسألة احتجاج الفيا بأنّ الرواد الأوائل لم يعرفوا مثل هذا الإصطلاح. فهؤلاء (الروّاد) روّاد لأنهم كتبوا في زمان لم تكن فيه اللسانيات الإجتماعية ولا فرع دراسات اللهجات قد تبلورا لا في المفهوم ولا في المنهج بالصورة التي نعرفها اليوم. وفي الواقع فقد كانت إهتمامتهم عامّة وإن لامست هذه أو تلك من قضايا اللهجات. فعبد المجيد عابدين كان معنياً بسمات لاحظها في العاميات السودانية تميّزها عن عاميات العالم العربي الأخرى. أمّا هيللسون فقد كان معنياً أيضاً بتوصيف العامية السودانية لإي مقابل عاميّات عربية أخرى. وقد وضع كتيباً في تعليمها للإداريين البريطانيين. وفيما يتعلّق بالأوضاع اللغوية، فهو يرى أنّه مقارنة بسورية ومصر حيث تسود لهجة حضرية عامّة (Common Language)، فإنّ السودان يفتقر- في الوقت الذي كتب فيه - إلى وجود عامية نموذجية عامّة ذات شخصية ، لسانية واضحة ومحددة. إلا أنّه يستدرك أنّ الخليط اللهجي في المراكز السكانية الكبيرة، و"لغة" مكاتب الدولة وورش العمل الإصطلاحية يُمكن تمييزها عن اللهجات "الريفية القحة". ثمّ يضيف أنّه من المحتمل أن تؤدي عوامل المركزة السياسية والإقتصادية وانتشار المعرفة بالقراءة والكتابة إلى ظهور لهجة تخاطب عامّة مُنبنية على لهجة العاصمة (the language of the capital). (5) أمّا عبد الله الطيب، وهو ينطلق أساساً من مركزية الفصحى، فقد سمّى للعاصمة لهجة خاصّة بها، وضرب مثلاً باستخدام (عاوز-عايز) في مقابل (داير)، وقال بانتشار هذِه اللهجة عن طريق وسائل الإعلام (الراديو)(الفيديو مرفق) (6).
وفي ما يختص بعون الشريف، وهو من الذين قاربوا التباين اللهجي بتركيز أكبر، فقد بدأ مترسماً خطى هليلسون بالقول أنّه من الصعب الحديث عن (لهجة عامية سودانية)، لعدم وجود لهجة احدة يتحدثها كل الناس في ذات الوقت. ولكنّه عاد ليقول بأنّه من الجائز جداً أن نأخذ (لهجة الخرطوم وضواحيها) كوسيط اتصال عام مفهوم لغالبية إن لم يكن لكل متحدّثي العربية في المدن(7) (قاسم المدونة 1965). ثم يعود في كتيبه الموّسع حول العاميّة لا لتأكيد وجود (لهجة العاصمة) فحسب، وإنما للتخوف من تغوّلها على التنوّع في عاميات (الريف) ليقول: "وأملنا كبير في أن يتناول المختصون هذِه المناطق اللغوية بالدراسة قبل أن تطغى عليها اللهجة "النموذجية" في (السودان الأوسط) وفي (العاصمة) بالذات" (8) (دراسات ص (21) وص (26).


1- ترجمة الـ (continuum) بـ (المنداح) من اقتراح الأستاذ عبد العزيز الطاهر، زميل في كورس الماجستير معهد الدراسات الآسيوية الإفريقية.
2- يصف فيرقسون كيف أنّ اختفاء الصائت المذدوج (diphthong) [ay] و [aw]، و سقوط الهمزة في آخر الكلمة في العاميات، أدّى إلى دمج الإفعال المعتلة الآخر، والأفعال التي آخرها همزة، وذات الجذور المضعّفة كلها في مجموعة صرفية واحدة في العاميات، في حين أنّ لكل واحدة منها تصريف قائم بذاته في الفصحى.

الفعل الفصحي العاميات
مشى/ يمشي مَشَيْتُ مشيت
بدأ / يبدأ بَدَأْتُ بديت
مَدَّ / يمُد مَدَدْتُ مدّيت
Charles A. Ferguson. The Arabic Koine. Structuralist Studies in Arabic Linguistics. Charles A. Ferguson's Papers. R. Kirk Belnap & Niloofar Haeri. Brill,1954-1994
3- Trudgill, P. (1974). The Social Differentiation of English in Norwich. Cambridge: Cambridge University Press.
4- Labov, W. (1966). The Social Stratification of English in New York City. Washington, DC: Center for Applied Linguistics.
(5) أنظر أيضاً: عشاري أحمد محمود. جدلية الوحدة والتشتت في قضايا اللغة والوحدة الوطنية في السودان. المجلة العربية للدراسات اللغوية الخرطوم . العدد الرابع (1985)
6- بروفيسور عبد الله الطيب. سير وأخبار -أصول أهل السودان (إبتداء من 18:00 ) https://youtu.be/X-auC8H5wA0
7- Awn al-Sharif Gasim (1965) Some Aspects of Sudanese Colloquial Arabic. Sudan Notes and Records, Vol. 46 (1965), pp. 40-49. University of Khartoum
8 - عون الشريف قاسم: دراسات في العامية. الدار السودانية. الطبعة الأولى 1974م.
أضف رد جديد