مذياع من محطّ الحوّاتة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عثمان محمد صالح
مشاركات: 733
اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm

مذياع من محطّ الحوّاتة

مشاركة بواسطة عثمان محمد صالح »

في طفولتي الباكرة رافقت أبي في أسفاره الدائمة إلى محطّ الحوّاتة عدّة مرّات، عدت منها إلى بيتنا في محطّ الحصيرة عامر الجراب بحكايات طويلة عن عالم فوّار بالضجيج، ملوّن كقفص طيوري، ومتجدّد الجلد كثعبان.

محطّ الحَوّاتة في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي هو مزيج من بهجة السفر إلى بندر المعزولين بالقطر البخاري المنضبط في حركة سيره ومواعيد وصوله، وفتنة بساتين المانجو، وعبور القطار للكبري العتيق قبل وصوله لرصيف المحطّ، ومشهد قوارب الحَوّاتة في نهر الرهد، وأقصى درجات السعادة الأسرية عندما نعود محملّين، عند فراغنا من التسوق، بمالذّ وطاب، والمذياع الذي اشتراه أبي من سوقها في نهاية عام 1973.

سمني الطلاء، ماركة ناشونال، احتفى بالمذياع المحولجية وعامل التلغراف وخفير المحطّ وعمّال الدريسة يتحلقون حوله في أوقات الفراغ، حين ينقطع هدير القاطرات ويسكن رصيف المحطّ.

كساه أبي برداء جميل خاطه ترزي الحصيرة من قماش البوبلين وقاية له من الغبار والمطر والحشرات، فصار المذياع الأنيق هو المتحدث الدائم باسم ذلك البندر الغامض الّذي
تأتي منه القاطرات واللواري السفرية بعد أن تفرغ شحناتها. وأضحى الأنيس الرائق المزاج لجلسات الشاي النهارية، وقعدات السمر المسائية بالقرب من فنظاز المياه وعربات الشحن المركونة على مايُعرف ب "الخط الميّت".

كنت أتصنّت لكل شاردة وواردة تخرج من جوف ذلك الصندوق المغلق المزان بحلية بديعة.
يلاحقني صوته العالي دانياً حيناً، ومتباعداً حيناً آخر، ويناجيني نداؤه عندما ينوح طمبور المغني محمد كرم الله متوسّلاً ذلك الطيف المهاجر الّذي رحل دون أن يطيّب خاطره، عندها أدع كل انشغالاتي، واقطع جولاتي، وأعود مسرعاً، مقترباً من الصندوق النائح، من حوله يجلس المحولجية وعمّال الدريسة.

كان محمد كرم الله هو مغنّي طفولتي الأول بلامنازع، يعزف لي طمبوره الحنين في محطّ للقطار أسير في قبضة الخلاء.

عثمان محمد صالح.
فينراي 2004 - تلبرخ 2018
أضف رد جديد