كوبون للطعام

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عثمان محمد صالح
مشاركات: 733
اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm

كوبون للطعام

مشاركة بواسطة عثمان محمد صالح »

حكاية الحكاية

كماهو حال كلّ حكاية، فإن ل "كوبون للطعام" الّتي أعرض فيما يلي مفتتحها هي الأخرى حكاية. كتبتها مرتين، فخرجت أول مرةّ كهيكل عظمي، مستعيراً هنا تعبيراً للطيب صالح عند حديث له في مقابلة تلفزيونية عن إحدى بواكير حكاياته المنشورة في دومة ودحامد، ثم أعدت كتابتها في هذه المرّة بعد أن كسوت العظم لحماً، وبين المرّتين - هيكلاً ومكسوة باللحم - تتمدّد قرابة الثلاثة عقود من الزمن، إذ أنّي كتبتها في أواخر 1989أو بدايات 1990، وقد نشرتها مجلة نبتة التي كان يصدرها الإتحاد العام للطلاب السودانيين ببلغاريا آنذاك.

ضاع مني ذلك العدد من نبتة في حمى التنقل والترحال الدائم بين المساكن والمآوي والمخيّمات والقرى والمدن والبلدان، بين صعدات الطريق الطويل إلى المستحيل وهبطاته المفاجئة العنيفة المورثة للرضوض والكدمات، وقد ضاع منّي أصل الحكاية القصيرة جداً برغم حرصي عليها ضمن أوراق أخر اصفرّت وتهرأت أضنّ بها على الضياع والنسيان ونهش القوارض لجسدها الورقي الرقيق، مما اضطرني لاعتصار ذاكرتي اعتصاراً عند إعادة كتابتها، أنا الّذي لا أتذكرها إلّا طشاشاً، وشوف الطشاش كما هو معلوم خير من العمى.
وبين المرّتين جرت في النهر كما يقال مياه كثيرة اغتسلت فيها وشربت منها وأبحرت على طوف ينزلق عليهاورسوت كسندباد في بلاد السجم والرماد وعبأت القناني لأيام العطش. وبرغم المياه التي تدفّقت في مجرى الحياة أحسب أن هذه الحكاية في ثوبها الجديد مازالت تحتفظ بالملامح الأساسية لتلك الحكاية القديمة المنشورة، كما أنّها في ذات الآن خلْقٌ جديد بعنوان جديد إذ أن العنوان القديم قد تسرّب من ذاكرتي. وهو أمر محزن.

أرجو من رفاقي الأعزّاء في البلقان إن كان في حوزة أحدهم ذلك العدد من نبتة أن يمدّني بصورة برقية منه، وله منّي خالص الشكر والتقدير. عثمان
آخر تعديل بواسطة عثمان محمد صالح في الخميس مارس 01, 2018 10:00 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عثمان محمد صالح
مشاركات: 733
اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm

مشاركة بواسطة عثمان محمد صالح »

كوبون للطعام


أيقظه رنبن المنبّه في تمام الخامسة مساءً. ولأنّه كان مستندفَاً مهدود القوى وفي مسيس الحاجة إلى مزيد من الراحة والنوم بعد ظهيرة قائظة قضاها في التجوال والسباحة في ماء عجيب، إذ كان خالي البال في عنفوان العطلة الصيفية عن الدراسة، فقد قام بإغلاق المنبه حانقاً، وحاول ماوسعته الحيلة أن يغفو من جديد، لكنّ عضّة الجوع غلبته، فدعك عينيه، وهبّ من الفراش وهو يشعر بالضيق في داخله يتنامى إزاء المنبّه الّذي حرمه من متعة لاتعوّض. وودّ حينها لو فتح النافذة وقذف به إلى الخارج، وتخلّص من تطفّله المقيت على منامه، وارتاح من سلطان رنينه العنيد على قيامه. كان يحلم في نومه بمسقط رأسه في ريف سهل البطانة في أيامها الزواهر في النصف الثاني من الستينات وكلّ السبعينات من القرن الماضي، يتجوّل بالعَرّاقي والسروال والطاقية البيضاء المشغولة باليد والمركوب الفاشري الطوبي الحمرة يمشي به خفيفاً لايثقل كاهله حزن يذرع الأعوام كمالو كانت لحيظات وثّاباً كرواد الفضاء، يسائل جَدّته لامّه في الحقول الخضراء المنبسطة على مدّ البصر في التربة الطينية الثقيلة الفوّارة المتشققة الداكنة السواد، والّتي تفتّحت فيها لوزات القطن طويل التيلة بيضاء من غير سوء، وجَدّته تجيبه من بعيد، ومع ذلك كان يتناهى اليه صوتها الدفيء مسموعاً بوضوح كأنّها تقف بجانبه، بينما هي في بقعة عصيّة على الوصول تقتفي في البرزخ جدول " أب ستة" تجمع من حوافه ثمار اللوبياء. لبد كلّ متحرّك لاهث من شدة الحرّ في ظلال النبتات المتفرّقة في المشهد الطبيعي المترامي الأطراف بسدِره وعُشَره ومَسكيته وقرظه وكِتِره ونخله الذي يخيم عليه سكون كسكون المعابد والأضرحة. سكن الهواء وانقطع رفيف الطيور وأزيز الحشرات وثغاء المواشي وهدير الماكينة التي ترفع الماء إلى الصهريج العالي المدهون بالبياض والسواد وران السكون على ماء الترعة، وهمد ما بداخله ورسب إلى قيعان زلقة في ظهيرة مستعرة، توقّف فيها كلّ شيء باستثناء السراب فإنّه لاقيلولة له من بين جميع الموجودات، ظل مترقرقاً مائجاً في حيوية دفاقة، حتّى بلغه وصار يعبّ منه، وينهل بقدرما استطاع دون أن يروي ظمأه لفضّة الأوهام المذابة في الطريق. ثم خاض في السراب خوض السعيد محدثاً جلبة حتّي غمره السراب تماماً، عندها أخذ يعوم، ونادته جَدّته بأعلى صوتها وقد انتابها حياله قلق عظيم، وخشيت ألاتراه من جديد فدعته أن يعود في الحال لأنّ موعد الغداء قد حان، ونصحته بألايخاطر بالذهاب بعيداً، محذّرة إيّاه من خطر التماسيح المنتشرة في جزائر المنطقة، فطمأنها بانعدام الأخطار، وأنّه لامحالة عائد، وهكذا ظلّ طافياً على ظهره يدغدغه الماء ويعشي بصره وهج الشمس فنينتشي، ويملأ الحبور قلبه فيضحك كالطفل الغرير لكلّ ما حوله بلاتمييز، للأرض التي أكرمته، وللسماء التي دثّرته، وللريح التي أقلّته، وللأيادي التي أطعمته، وهدهدت مرقده حتّى أغمض جفنيه، ونام في طمأنينة وثبات فوق الماء الوهّاج، وبدا له وطنه في ساعة الصفاء والهناءة التي ظفر بها بعد شقّ الأنفس طافياً تحت سماء البطانة داني القطاف، ولهذا فقد تشبّث بهذا الحلم بكلتا يديه منافحاً عنه بالأنياب والأظافر، مصارعاً في ذلك صوت المنبِّه الّذي أفسد عليه سعادته المتخيَّلة، واقتلعه من جذوره الراسخة، واقتاده بغير رضاه، وساقه بالقوّة سوق الأرقاء، وأعاده إلى حجرته المغمورة بشمس البلقان في العمارة السكنية رقم 50(أ)، القائمة في نهايات المدينة الجامعية بصوفيا.
أضف رد جديد