مخيّم برنسنبوس

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عثمان محمد صالح
مشاركات: 733
اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm

مخيّم برنسنبوس

مشاركة بواسطة عثمان محمد صالح »

مخيّم برنسنبوس


كان الوقت عصر يوم من العشر الأوائل من أغسطس 1999، عندما تجاوز بنا البصّ بوّابة مخيّم بِرِنْسنبوس، ويعني غاب الأمراء، في أطراف قرية خِلزا في محافظة شمال برابانت بهولندا. رأيت الى يساري تمثالاً عالياً يجسّد الأمومة الرشيقة في هيأة امرأة بديعة القدّ ترتدي ثوباً كلاسيكياً سابغاً وترفع على كتفيها طفلاً يحمل هو الآخر حمامة مفرودة الجناحين. ثوب المرأة أبيض، ورداء طفلها أبيض، وحمامته المدغلبة بيضاء الجناحين تتأهّب منذ خروجها إلى الدنيا على يد مثّال يُدعَى النابلسي، عاش في المخيّم سنة 1996، ووضعها في تلك البقعة حيث مرّت بها أفواج من طلّاب اللجوء في غدوهم ورواحهم وهم يحلمون بأعين مفتوحة باليوم الّذي يحصلون فيه على الإقامة الدائمة، - تتأهب الحمامة للطيران والتحليق إلى سماوات لازوردية بقوّة شاهين تنتزِع الطفل وامّه من القاعدة التي تشدّهما إلى الأرض، من القاعدة التي تشدّ روح المثّال إلى الأرض.

تحدّث سائق البصّ إلى حاجب المخيّم، ثم أكمل توغّله في الخضرة الداكنة اللافتة للنظر، سائراً على درب مستقيم مرصوف بالقرميد، تكتنفه من الجانبين أشجار كبيرة وارفة الظلال حتّى بلغ مبني الإدارة في نهاية المخيّم. ترجّلت من المركبة حال وقوفها، وفتحتُ باب المبنى في اللحظة الّتي استدارت فيها المركبة عائدة منطلقة لتفرّق في المخيّمات الأخرى بقيّة الركّاب من طلّاب اللجوء.

رُحِّبَ بي في إدارة المخيّم. وتمّ تسليمي مفتاح الحجرة الجديدة في مسكن أُخْبِرت بأنّه يبعد مسافة ربع
الساعة مشيّاً على الأقدام في هذا المركز الضخم لإيواء طلاب اللجوء والّذي يعدّ من أكبر المراكز في
هولندا، وتضمّ القاعدة الممتدّة عشرات الهكتارات من الغاب يقوم عليها حوالى 40 بناءً سكنيّاً ومكتبيّاً وبإمكانها استيعاب 1200 ساكناً، وتبدو القاعدة من الأعلى أشبه بقرية (هذا التعريف للمخيّم منقول من صفحة مركزية إيواء طلّاب اللجوء بهولندا).

وأُعطيت كذلك وعاءً للطعام مصنوعاً من اللدائن ذوغطاء مُصمَت يستخدَم لحمل وجبة العشاء الساخنة لتناولها في البيت، وهي الوجبة الوحيدة التي يقدّمها المخيّم لنزلائه أثناء اليوم في المطعم القريب من مبنى الإدارة. وتمّ تزويدي بلوازم الفراش من لحاف ووسادة وملاءة بيضاء، ومنشفة للحمّام. ثم تُليّتْ عليّ قواعد السكن أتذكّر منها الآن أنّ نزلاء المخيّم مسئولون عن الحفاظ على نظافة سكنهم الخاص، وأنّ الطهي ممنوع في حجرات السكن حيث لايُسمَحُ فيها لاعتبارات السلامة والنظافة إلّا باستخدام سخّان الماء وآلة لصنع القهوة.

وطُلِبَ منّي المرور على القسم المالي من الإدارة في اليوم التالي للحصول على نثريات استعين بها على تدبير شئوني.

ولأنّ المسافة بعيدة إلى المكان الّذي سيصبح مستقري الجديد لمدّة ثلاثة أشهر بعد تنقّل من مخيّم ميل إلى مركز رايسبيرخَن لإجراء أولى المقابلات الرسمية الخاصة بطلب اللجوء مع موظف من مكتب الهجرة والتجنيس. أقلّني أحد موظّفي الإدارة بسيّاربته إلى مدخل أحد البيوت المنعزلة الواقعة في الغاب.

كان البيت قديماً مكوّناً من طابقين تنتشر الطحالب على سقفه المعروش بالبوص الّذي ينمو بكثرة في حواف المسطّحات المائية العذبة: على ضفاف البحيرات والأنهار والترع والقنوات.

بدا لي المخيّم بغابه وهياكل مبانيه الأثريّة، إذا لم تدخل حجرات السكن، منبعثاً من روايات مصفرّة الصحائف.

صعدتُ الدرج الخشبي إلى الطابق العلوي، حتى بلغت حجرة أحمل مفتاحها، وعندما رحبّتْ بي أصوات من الداخل دفعت الباب ودخلت، لأجد أمامي طاولة من الخشب كريمية الطلاء تتوسّط المكان الخانق، وحواليها أربعة أسرّة أحدها خالٍ، وعلى البقيّة يتمدّد سوداني وتشادي وليبيري، وهناك صنبور للمياه تعلوه مرآة مربّعة، وتلفاز معلّق في أحدّ الأركان، وخزانة حديدية للثياب، ومنضدة موضوع عليها سخّان للماء وآلة لصنع القهوة بواسطة الفلتر.

أكرم الثلاثة وفادتي، وهشوا في وجهي، واخبروني أنّ موعد جلب العشاء من المطعم قد أزف، وأنّهم قد اتفّقوا على التناوب في إحضاره وفق جدول أدرجوا فيه اسمي.

عرفت منهم أيضاً أنّ المخيّم كان في ماضيه القريب قاعدةً للقوّات الجويّة الملكية، وفي ماضيه البعيد معسكراً حربيّاً بناه المحتلون الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية.

سألت شركائي في المنعزَل المحاط بالصنوبر كم يبعد أقرب الأسواق إلى المخيّم، فقالوا خِلزا، خمسة كيلومتراً.

فرشتُ سريري وهيّأته للأرق ثم أغتسلت وغيّرت ثيابي وتركت المخيّم وراء ظهري قاصداً أوّل حانة أصادفها في الطريق متعطّشاً لجِعَة سوداء أغرق في قارورتها الصغيرة عالم الغاب الموحش بصنوبره وبشره ومبانيه الّتي نشبت الطحالب في أسقفها ومزاريبها وأفاريز نوافذها، وتمثاله الموثَق إلى الأرض.

عثمان محمد صالح
أضف رد جديد