Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

هذه باقة ورد فرائحية صباحيه وسلطة فواكه كل ما فيها أجمل من الاخر، كريز معتز مشمس بابكر
وعنب الصادق مع صفاء حضور خلف إنها إشارات وبواعث للفرح تؤكد عظمة الله فى تدوير الأشياء
لالتقاء النوادر كفاحا وعبر الوسائط لصناعة الفرح للناس كقدر اجتماع رواد مدرسة الغابة والصحراء
وجماعة الجو الرطب واساطين المنتدى الأدبى بجامعة القاهره وجماعة نمارق وعقد الجلاد
وغيرها من السوانح


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر هذا الجزء، الأول، من مساهمةٍ جديدة، يرتاد محمد خلف آفاقاً مختلفة، أو مستقلة، ولكن متصلة بمساهمته السابقة، كان تأمُّله في مقال الطيِّب صالح سبباً رئيساً في نموها باتجاه الاحتفاء بالمرأة ككائن يقف على قدم المساوة مع الرجل وككائن منتج ومتميز في أكثر من حقل:



روزا لوكسمبرج وفوحُ الورداتِ الثَّلاث




أشرنا في مشاركةٍ سابقة إلى واقعِ انفصالٍ قائمٍ بين الجنسين، متمثِّلاً في وصفِ الطَّيِّب صالح لممارسةِ شعيرةٍ دينية، في قريةٍ بشمال السُّودان؛ وسنحاولُ في هذه المشاركة تسليطَ بعضٍ من الضَّوء على نماذجَ نسائيةٍ ثلاثة، حاولَ كلٌّ منها، في أزمنةٍ متباعدة، وأماكنَ متباينة، أن يخطو خطوةً حاسمة نحو تقريبِ الشُّقة القائمة بين الجنسين أو ردم الهوَّة التَّاريخية التي تفصل بينهما. وتكثُر الأمثلة لرائداتٍ عمِلن ضمن حركةٍ سياسية واسعة، وحقَّقن نتائجَ باهرة باتِّجاه الوصول إلى الهدف، وهو المساواةُ في الحقوقِ بين الجنسين؛ إلَّا أنَّ هناك مَنْ عمِلن ضد التَّيار السَّائد، ولم يلقين عوناً يُذكر سوى عزيمةٍ نابعةٍ من أعماقِ أرواحهن، وإصرارٍ صادرٍ عن قوَّة تكوينهن الفكري؛ وسنسعى في هذه المشاركة إلى أن نُبرِزَ ملمحاً من مساهمتهن في تغييرِ الأوضاع، آملينَ أن ننثرَ بين ثنايا الوقائعِ عبقاً من سيرتهن العطِرة.
ما يلفتُ الانتباه في سيرة روزا لوكسمبرج، أنَّها انتبهت باكراً إلى فكرة الهوِّيات الاجتماعية المتقاطعة (أو الإنترسيكشنالتي)، وأنَّها دافعت بشراسة عن حقوق هذه الفئات عبر "رابطة إسبارتاكوس"، ولاحقاً من خلال الأحزاب السياسية اليسارية الكبيرة في بولندا وليتوانيا وألمانيا؛ كما أنَّها وقفت ضد اندفاعِ بلدانِ أوروبا الرَّئيسية نحو الحرب (العالمية الأولى)، وانتقدت مساندة بعضِ الأحزابِ اليسارية لحكومة بلدانها التي كانت تمضي معصوبةَ الأعينِ نحو أتونِ حربٍ لا تذر، أولُ ضحاياها همُ الفئاتُ الاجتماعية التي يجمعُها الفقرُ والاضطهادُ العرقيُّ والجنسيُّ في بوتقةٍ واحدة أو مصيرٍ اجتماعيٍّ مشترك. كما أنَّها خِلافاً لقادةٍ كبار في الحركةِ اليسارية العالمية، قد شكَّكت في إمكانية نجاح الثَّورة في بلدٍ أوروبيٍّ منفرد؛ فلا غرابةَ إذاً أن حمَّلها جوزيف ستالين مسؤولية رواج فكرة الثَّورة الدَّائمة. إلَّا أنَّ وقوفها ضد الحرب العالمية هو الذي قاد حكومة فريدريش إيبرت في ألمانيا إلى اغتيالها، ورميِّ جثَّتها في قناة لاندفير.
لعلَّ ما تحمله روزا من أفكارٍ راسخة وقوية، موجَّهةً في معظمها ضد التيَّارات السَّائدة أو المهيمنة، قد أكسبها سمعةً يمكن وصفها بالشَّراسة وحِدَّة الطَّبع، حتَّى أنَّ أقرب أصدقائها كان يخشى من التَّقدُّم إليها أو إسماعها كلماتٍ يُمكن تفسيرها بالإطراء الذُّكوريِّ المتعالي أو الغزل البريء. ويحكي أوغست بيبل أنَّه اُضطُرَّ إلى أن يدُسَّ في جيبِ معطفها كلماتِ تشبيبٍ وتغزُّل، حينما تلاقت أكتافُهُما وهُما يدخلانِ عبر ممرٍّ مزدحم إلى اجتماع الكمنتيرن. إلَّا أنَّ كلَّ ذلك لم يكن إلَّا مجردَ مظهرٍ خادع، واستيهامٍ ذكوري، يسعى لتصوير المرأة وفقَ معاييرِ نمذجةٍ سائدةً في مجتمعٍ بعينه؛ فعندما ينكسرُ القالبُ المألوف، يميلُ المرءُ عادةً إلى تصويرِ الوقائعِ المُشاهدة وفقَ ما تهوى مُخيَّلته أو يُصادفُ هواه. ففي حقيقةِ الأمر، كانت روزا امرأةً مشبوبة المشاعر، كرَّست قدراً من عواطفها للعمل العام، إلَّا أنَّ حياتها الخاصَّة كانت مبذولةٌ لأصدقائها من النِّساء (كلارا زيتكن) والرِّجال (كارل ليبنخت)، وزوجها (ليو لوغيخس)؛ كما تشهد رسائلُها التي نُشرت بعد موتها بنزاهتها ودماثة خلقها، مقارنةً مع تدافعها اليوميِّ مع رجالِ عصرِها لانتراعِ الاعترافِ بها كمُنظِّرةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ لا يُشقُّ لها غبار؛ فالحريَّةُ عندها هي دائماً "حريَّة من يفكِّر بشكلٍ مختلف".
وفي لندن، إبَّان فترة ما بعد الحرب العالمية الثَّانية، في بداية الخمسينات، كانت روزاليند فرانكلين تعملُ باحثةً بكلية كينغ، حيث عُهِدَ إليها بإماطةِ اللِّثام عن تركيبِ الحامضِ النَّوويِّ الرِّيبي منقوصِ الأكسجين (الذي عُرِفَ لاحقاً بمختصر "دي إن إيه"؛ ويُعرفُ اختصاراً بالعربية بالحامض النَّووي، ولو أنَّ ذلك يجعله متماهياً مع مختصر "آر إن إيه"، فهو أيضاً حامضٌ نووي، لكنه غيرُ منقوصِ الأكسجين؛ الأوَّل حاملٌ للرِّسالة الجينية، والثَّاني مترجِمٌ لها)، وقد كانت تتشاركُ حلَّ المسألة المعقَّدة مع موريس ويلكينس، إلَّا أنَّ التَّواصلَ اليوميَّ بينهما كان شبه معدوم. ويُفسَّرُ ذلك من جانبٍ بحرصها على استقلالها المهني، وعضِّها بالنَّواجذ على حريَّتها الأكاديمية؛ ويُفسَّرُ نفسُ الأمرِ، من جانبٍ آخر، بشراستها وحدَّة طبعها وضعف أنوثتها (على حدِّ زعم جيمس واتسون). وكانت التَّقنية التي يستخدِمانِها في الوصولِ إلى حل، هي تقنية تصوير ودراسة البلُّورات بالأشِعَّة السِّينية، بغرضِ الكشف عن ترتيبها البنيوي، فاختراقُ الأشِعَّة للبلُّوراتِ يؤدِّي إلى انكسارِها أو ميلِها بزوايةٍ محدَّدة، فتتكوَّن عنها صورةٌ ثلاثيةُ الأبعاد، تُمَكِّنُ من التَّنبؤ بكثافةِ الإلكترونات داخل البلُّورة، إضافةً إلى التَّرابط الكيميائي للذَّرَّات.
وفي كيمبردج، كان باحثانِ آخرانِ، هُما فرانسيس كريك وواتسون، يهتمَّانِ بنفسِ الموضوعِ البحثي؛ لذلك كان محتَّماً عليهما أن يدخلا في تنافسٍ أو سباقٍ مع كلية كينغ بلندن (هذا إضافةً إلى سباقٍ آخرَ عبر الأطلنطي مع باحثٍ كيميائيٍّ ضليع هو لاينس باولينغ، الذي سبق أن تحدَّثنا عنه في إحدى المشاركاتِ التي خصَّصناها لأسماءٍ بارزةٍ بولاية كاليفورنيا). وبما أنَّ التنافسَ كان يجري في إطار العلوم الطَّبيعية، وليس الأسواق التِّجارية، فكان لا بدَّ أن يتمَّ حوارٌ بين الجهتين، وأن تسعى كلُّ مجموعةِ بحثٍ إلى أن تُطلِعَ الأخرى بما تجري من تجاربَ، وبما تُحقِّقُ من نتائجَ، في كلتا حالتَيْ النَّجاحِ والإخفاق. وعبر هذه اللِّقاءاتِ التَّحاورية، الماكوكيَّةِ بين لندن وكيمبردج، بدأت تلوحُ في الأفق ملامحُ خلافٍ، وسوءُ فهمٍ مُتبادلٍ، وتصوُّراتٌ خاطئة، راح ضحيُّتها امرأةٌ باسلة، سعت لأن تحفظ لنفسِها، ولبناتِ جنسِها (أو جندرها)، مكاناً تحت الشَّمس؛ إلَّا أنَّها ظُلِمت في حياتها، مثلما أنَّها تُجوهِلت بعد مماتِها؛ فعسى، إنْ لم نُفلِحْ في رفعِ بعضِ المظالمِ عنها، أن نُزيلَ عن سيرتِها قدراً يسيراً من مرارةِ التَّجاهل.
كان كريك وواتسون يشتغلانِ في مختبر كافِندِش بكيمبردج تحت إشراف السِّير ويليام براغ، الذي لم يكن يُحبِّذُ تدخُّلهما في أبحاثِ الـ"دي إن إيه"، بعد فشلِ نموذجِهما الأوَّل؛ ولأنَّه كان يرى، من جانبٍ آخر، أنَّ هذا البحث متروكٌ برُمَّته إلى كلية كنغ بلندن، التي يعمل بها ويلكينس وروزا، تحت إشراف السِّير جون راندول. إلَّا أنَّ الحامض النَّووي الرِّيبي منقوصَ الأكسجين كان أجَلَّ شأناً وأثمنَ قيمةً من أن يُتركَ إلى جهةٍ واحدة، مهما أملى الأوتوكيتُ بغيرِ ذلك. ولكي يبني كريك وواتسون نموذجَهما الثَّاني، الذي كُلِّلَ في نهاية الأمر بالنَّجاح، كان لا بدَّ من الاستعانة بمعلوماتٍ حيوية، تتوفَّر فقط عند مصدرَيْن منافسَيْن لهما أشدَّ التَّنافس. فمن جهةٍ كانا يحتاجانِ إلى معلوماتٍ حول التَّركيب والتَّرابط الذَّرِّيِّ للعناصر الكيمائية؛ وكانا يحصُلانِ على ذلك من كتاب باولينغ المدرسيِّ الأساسيِّ: "طبيعة التَّرابط الكيمائي" (وكانا يحتفظان بنسخةٍ بالية، يضعها واتسون أحياناً تحت وسادته)؛ وكانا يتابعان في نفسِ الوقت سيرَ أبحاثِه وتقدُّمِه عن طريق الرَّسائل التي تصِلُ لابنه بيتر، الذي كان يعملُ معهما في كافِندِش.
أمَّا المعلومات الحيوية التي تقودُ إلى بناء نموذجٍ أقرب إلى واقعِ الحال، فقد كان لا بدَّ من وصولِها لهما من لدى روزالِند، التي كانت تعكفُ بنفسِها على تصويرِ مركَّب (أو جزيء) "دي إن إيه" عن طريق اختراق البلُّورات بالأشِعَّة السِّينية. وقد نجحت روزالِند أخيراً في تصويرِ نُسخةٍ، عُرفت بالصُّورة "باء" (فورم بي)؛ وهي قابلةٌ للتَّعرُّفِ من خلالها على بنية الحامض، وذلك خلافاً للصُّورة "ألف" (فورم إيه)، التي لم تكن واضحةً بدرجةٍ كافية. ولكن كيف السَّبيل إلى هذه المعلومة، خصوصاً وأنَّ روزالِند لا تتكلَّم حتَّى مع زميلها ويلكنس؟ ولحداثةِ سِنِّه ولموطنِه غير البريطاني (فهو أمريكيُّ الأصل)، عُهِد لواتسون بهذه المهمَّة العسيرة، ولكن التَّحيُّز السِّلبيَّ الجلي الذي ظهر في كتابه "اللَّولب المزدوج"، هو الذي دفعنا لمناصرة روزاليند، التي كانا (كريك وواتسون) يشبِّهانها بروزا لوكسمبرج؛ إلَّا أنَّ واتسون كان يُكنِّيها بلقب "روزي"، حتَّى يعلِّق على إهاب الاسم المُختلق ما يطفحُ بصدرِه من مشاعرَ سلبيةٍ تجاه امرأةٍ نجحت في أوائلِ الخمسيناتِ من القرن الماضي في أن تجِدَ لها موقعاً للتَّنافسِ الشَّريفِ مع "شقائقها الرِّجال"؛ فما كان هو موقف أحدُهما، مُتمثَّلاً في جيمس واتسون، الذي ألَّف كتاباً – من منظورٍ شخصي - عن اكتشافِ بنية الحامض النَّووي الرِّيبي منقوصِ الأكسجين؟
يقولُ واتسون إنَّ "روزي" كانت تعمل تحت إشراف ويلكينس؛ وفي حقيقة الأمر، إنَّ روزالِند وويلكنس كانا يعملانِ سوياً، وعلى قدمِ المساواةِ، تحت إشراف السِّير راندول، مثلما أنَّ كريك وواتسون كانا يعملانِ سوياً تحت إشراف السِّير براغ. ويزعم واتسون بأنَّ "روزي" لم تكن تعتقد بأنَّ مركَّب "دي إن إيه" يُمكِنُ أن يُوجَدَ في شكلِ لولب، مع إنَّ روزالِند تقول في مذكرةٍ تُعلِّق فيها على الصُّورة "باء" (فورم بي) إنَّ سلاسلَ ثنائيةً أو ثلاثيةً أو رباعيةً للحامضِ النَّووي مُشترَكةِ المحور يُمكِنُ أن تُوجَدَ في كلِّ وحدةٍ لولبيةٍ للحامض. ويزعم واتسون بأنَّ "روزي" لا تحفل بأنوثتها وترتدي نظَّاراتٍ بعدساتٍ مُكبِّرة مُنفِّرة؛ وفي الواقع، إنَّ روزالِند كانت مليئةً بالحيوية وسط أصدقائها ومعارفها، خارج دائرة العمل في كليَّة كنغ؛ وما النَّظارةُ ذاتُ العدساتِ المكبِّرة، إلَّا لدواعي التَّصوير بالأشِعَّةِ السِّينية. كما يدَّعي واتسون بأنَّ "روزي" هاجمته ذات مرَّةٍ، حتَّى احتمى بويلكنس؛ غير أنَّ من الممكن تصوُّر دوافعِ اِمرءٍ يُمكِنُه التَّجرؤ بالقول عن روزالِند: "إنَّ المرءَ لا يجِدُ مناصاً من الزَّعم أنَّ أفضلَ مكانٍ لامرأةٍ عالِمة هو جلوسها في حضنِ رجلٍ عالم (بالتَّلاعب بكلمة "لاب"، إذ ينوسُ بين "الباء" المجهورة والمهموسة، إذ تعني إحداهما "حِضناً"، بينما تعني الأخرى "مختبرا").
في عام 1951، نجح فريق كيمبردج في الكشفِ عن تركيبِ الحامضِ المعروف بـ"دي إن إيه؛ وفي عام 1962، مُنحت جائزة نوبل لعلم وظائف الأعضاء أو الطِّب لكلٍّ من فرانسيس كريك، وجيمس واتسون، وموريس ويلكنس؛ وبما أنَّ الجائزة الشَّهيرة لا تُمنح إلَّا لأحياء، وكانت روزالِند قد انتقلت إلى بارئها في عام 1958، فقد رحلت عن 37 عاماً، من غيرِ أن ترى جانباً من التَّقدير الذي تستحِقُّه، لِما بذلت من جهدٍ علميٍّ خارق، فات ملاحظتُه في وقتِه على أقربِ الدَّائرين في محيطِها العلمي والعملي. وإنُ فاتتها الجائزةُ المُقدَّرة، فإنَّ أفضلَ جائزةٍ يُمكِنُ أن تنالَها بعد رحيلِها هو إحياءُ سيرتِها وإعادةُ الاعتبارِ لسمعتِها، التي نالت رشاشاً من عالِمٍ أعمته ضلالاتُ الوقتِ عن رؤيةِ الحقيقة العلمية في أجملِ إهابٍ لها، كانت قد ارتدته روزالِند فرانكلين بشجاعةٍ واستقامةٍ عديمتي النَّظير، حتَّى آخرِ رَمَقٍ من حياتها (أو حتَّى قبيل أسبوعينِ من مماتها، بتعبيرِ جيمس واتسون، في ذيلِ كتابه الموسوم "اللَّولب المزدوج").
ولإعطاء واتسون ما يستحقُّ، فالحقُّ يُقال إنَّه اعترفَ في ذيلِ كتابِه بدورِها، بعد أن تحاملَ عليها غاية التَّحامل في صدرِ الكتاب، على المستويَيْن العلميِّ والشَّخصي؛ فقد اتَّضحَ، حسب اعترافه، أنَّ عملها في مجال الأشِعَّة السِّينية كان عملاً مقدَّراً، وتزدادُ أهميَّته بشكلٍ مطَّرد؛ كما أنَّ فرزها للصُّورتين "ألف" و"باء" (فورم إيه و بي) كان كافياً لنيلِها سمعةً علميةً طيِّبة؛ هذا إضافةً إلى برهنتها على أنَّ مجموعة الفوسفات يجب أن تكون محيطةً بتركيبِ الـ"دي إن إيه" من الخارج. وكلُّها إنجازاتٌ علمية كانت كافيةً لأن تؤهِّلها للتَّرشُّح للجائزة العلمية الكبرى، وتُجِبرُ القائمين عليها بمنحِها لها؛ مثلما أجبرت واتسون على القولِ إنَّه "بعد سنواتٍ من المشاحناتِ، قد أقررنا باستقامتِها الشَّخصية وكرمِها، بعد أن أدركنا (أنا وكريك) بشكلٍ متأخِّر، بأنَّها كانت امرأةً ذكيَّة تطلبُ اعترافاً من محيطٍ عِلميٍّ يعتبرُ النِّساءَ في الغالبِ الأعمِّ مجرَّد مشاغلَ تصرِفُ المرءَ عن التَّفكيرِ الجاد".

في حلقةٍ تكميلية لهذه المشاركة، سنستنشقُ مع القرَّاءِ الأفاضل فوحَ وردةٍ ثالثة؛ ولحسنِ حظِّنا، أو ربَّما لشوفينيةٍ، خبيئةً بين ضلوعنا، فإنَّها وردةٌ ناميةٌ في حقلٍ سوداني.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كان الشاعر بابكر الوسيلة، والذي هو الأخ الأصغر لمحمد خلف، قد نقل المساهمة السابقة للأخير إلى "قروب الممر"، الذي أسَّسه الشاعر مامون التلب في الواتساب. فتسبَّبت مقالة خلف في انثيال ذكرى من د. ناهد محمد الحسن. على إثر فراغي من قراءة تعليق ناهد، الموازي والمتواشج، تذكرت تعليقي الأولي الذي قلته عبر الهاتف لمحمد خلف على مقالته. قلت لناهد، عبر الواتساب، نفس التعليق تقريباً، الذي فحواه: "إن هذه مقالة مُعَلِّمة، بمعني أنها - بخلاف الرؤية النافذة للكاتب/الكاتبة - فإنها توفر معلومات جديدة وملهِمة للقارئ/القارئة". وناهد، لمن لا يعرفها، هي طبيبة نفسية، شاعرة، ناشطة ثقافية في أكثر من حقل، مثال ذلك أنها كانت عضوة في اللجنة التنفيذية لاتحاد الكتاب السودانيين. استأذنتها في أن أنقل تداعيها، تأملها النقدي المضغوط، إلى هنا:



كانت السوربون من الأماكن التي طلبت من مضيفي أن يأخذني إليها..قال لي المرشد السياحي، "لا يمكن أن نكمل تاريخ السوربون في يوم. عليك أن تختاري أن تدخلي من باب الآداب أم باب العلوم..فقلت الآداب طبعاً، وفي نفسي قلت يكفي أنني أهدرت دهراً في العلوم..في نهاية الرحلة الساحرة، حدثني عن أن هيئة الجامعة لم تضم امرأة كرئيسة..استغربت من هذا الكلام..وكانت مناسبة لأن أعرف شيئاً عن المرأة في فرنسا..وتطرق في توضيحه لتعليم النساء الجامعي حتى وصل إلى مدام كوري، وكيف أن الجامعة لم تسمح لها بتدريس الكيمياء إلا بعد وفاة زوجها وعدم وجود شخص آخر مؤهل غيرها للمنصب..وقد اعترض كثيرون على ذلك بادىء الأمر..وفي أول محاضرة لها في السوربون، كانت النساء يجلسن في نهاية الصف والرجال في الأمام.. لكن اليوم الذي درَّست فيه كوري كان هو اليوم الذي جلست فيه النساء في المقدمة..ومن يومها والنساء يجلسن في المقدمة في الصف..حين دُرِّسنا مدام كوري، لم يقل لنا أحد إنها تسبَّبت في اختراق أساسي في الذكورية القابضة في السوربون..وإنها اختصرت بعبقريتها تطور سنوات..ومع ذلك، لا نجد اسمها في صحائف النسويات كغيرها من العظيمات.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر هذه الحلقة الثانية، ووسط باقة من الوردات، يقدِّم لنا محمد خلف وردته الثالثة، التي هي وردتنا السودانية، بكلِّ فخرٍ:



روزا لوكسمبرج وفوحُ الورداتِ الثَّلاث

-2-

أُدرِجَتْ أمِّي، مُنى مكِّي، معهنَّ منذ منتصفِ الخمسيناتِ في برنامجٍ لمحوِ الأمِّية عن كريماتِ أمدرمان؛ وكنتُ أسمعُ منها، منذُ عهدٍ زاهٍ ومبكِّر، أسماءً محبَّبة لرائداتٍ للحركة النِّسوية السُّودانية، تجري على لسانِها في سهولةٍ ويُسر: خالدة زاهر، فاطمة طالب، عزيزة مكِّي، حاجَّة كاشف، نفيسة المليك، ثريا الدِّرديري؛ ثم عرفتُ عن طريقِ الاطِّلاعِ أسماءً لا تقلُّ عنهنَّ شُهرةً وسَبقاً؛ منهنَّ مَن شاركن لاحقاً في تأسيس "الجبهة النِّسائية الوطنية"، مثل ثريا أمبابي، وسعاد الفاتح؛ ومَنْ شاركن بعد ذلك بفترةٍ في تأسيسِ "اتِّحاد نساء السُّودان"، مثل محاسن عبد العال، وأم سلمى سعيد، وفاطمة عبدالمحمود (التي أصبحت أولَ وزيرةٍ إبَّان حكم المشير جعفر محمَّد نميري). وفِي مرَّاتٍ عديدة، ذهبتُ معها بإلحاحٍ باكٍ منِّي - وأنا طفلٌ صغير - إلى دارِ المُرشِدات، وفصولِ محوِ الأمِّية، وتدريس الخياطة والتَّطريز؛ وصحِبَتني معها عن طِيبِ خاطرٍ، وفي أكثرِ من مرَّةٍ، إلى احتفالاتِ "أسبوع المرأة"؛ كما سَمِعتُ منها مراراً باسمِ "الاتِّحادِ النِّسائي". ولم يُفلِح ذلك كلُّه في محوِ أمِّيتها، لانقطاعِ البرنامجِ بسببِ الأوضاعِ السِّياسية غير المستقِرَّة، وبسببٍ من تعسُّفِ بعضِ الحكوماتِ الوطنية؛ إلَّا أنَّه رسَّبَ في داخلِها – بشكلٍ حاسم - محبَّةً للعلم، وقوَّةً في الشَّخصية، ونُبلاً في المقصد، واعتزازاً بقيمتِها كامرأةٍ متفرِّدة، لها قدرُها وكرامتُها.
كما سمعتُ منها بمجلة "صوت المرأة"، التي كانت تُشرِفُ على تحريرِها الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم، منذ عام 1955. وعندما تمَّ، في عام 1965، انتخابُها أوَّلَ امرأةٍ في البرلمانِ السُّوداني عن دوائرِ الخرِّيجين، وانتخابُها في نفسِ العامِ رئيسةً للاتِّحادِ النِّسائي (التي لا زالت ترأسُه إلى الآن)، ترسَّخَ اسمُها بلا منازعَ كأشهرِ رائدةٍ تطأ قدماها أرضَ البلاد. إلَّا أنَّنا ننتخبُ في هذه المشاركةِ وردةً أخرى، لِتنضافَ إلى باقةِ الورداتِ الثَّلاث؛ ألَا وهي الأستاذة فاطمة بابكر، لا لِشيءٍ إلَّا لأنَّها كافحت ضد التَّيارِ السَّائد، ولم تلقَ عوناً إلَّا من فئةٍ من المثقَّفاتِ الطَّليعيات، وحَفنَةٍ قليلةٍ من طالباتِ الجامعة، اللَّائي تلقَّينَ العلمَ والتَّنظيرَ النِّسويَّ المتقدِّمَ على يدِها؛ فإن ظللنَ إلى الآنَ حَفنَةً من الرَّائدات، فإنَّ مؤشِّرَ الزَّمنِ الآتي يتَّجهُ بقوَّةٍ صوبَ الأفقِ الذي انفتحَ أمامَهنَّ، بفضلِ مجهوداتِ الأستاذة فاطمةِ الأخرى. ففي بدايةِ التِّسعينات، حضرتُ حفلاً أُقيمَ تكريماً لها بمرفأ برايتون بجنوب إنجلترا، حيث تحدَّثَ في الحفلِ طائفةٌ من طالباتِها ومعارفِها، من بينهن منال الإحيمر، وأمينة الرَّشيد، وربَّما هالة الأحمدي (هذا إنْ لم تخُنِّيَ الذَّاكرة، وتكونُ قد قدِمتْ لاحقاً إلى المملكة المتَّحدة)؛ وعندما جاء دوري لحديثٍ لم يكُن مُعدَّاً له مُسبقاً، لم يكن عندي ما أقولُه؛ وربَّما استحييتُ بوجودِ نسوةٍ خبِرنَها جيِّداً، داخل الفصلِ وخارجه؛ فأرجو أن تأتيَ هذه المشاركةُ تعويضاً عمَّا سلف.
ليس في مِشيتها صلفٌ ولا غرور، ولكنَّها كانت عندما تمشي في مِشوارِها اليوميِّ من شعبةِ العلوم السِّياسية إلى كلِّية الاقتصاد، عبر مقهى النَّشاط، تنتصِبُ دوماً ممشوقةَ القوام، بثوبِها الأبيضِ النَّاصع، وشعرِها "الآفرو" الكثيف، من غير التفاتٍ، يُمنةً أو يسارا؛ غير أنَّ الجالسين على جانبَيْ الطَّريق يكادون أن ينزووا لمجردِ رؤيتها، وهي تنصَبُّ كأنَّها "جلمودُ صخرٍ حطَّه السَّيلُ من علٍ"؛ إذ كانوا يخشَون تعليقاتِها وتأنيبَها المؤكَّد، وانتقادَها المُحِقَّ لعاداتِ التَّسكُّع، من غيرِ طائلٍ، في مقهى النَّشاط. وكان صديقي الأستاذ محمَّد عبد المنعم (فوكس) من أنجبِ تلاميذِها ومناصريها. وفي حفلِ اقترانِها بالدُّكتور محمَّد سليمان بدارِ الأساتذة، انبرى (فوكس) بخطبةٍ لا تُنسى، طوَّع فيها مقاطعَ من قصائدَ للشَّاعر محمود درويش، لِتتلاءَمَ مع المناسبة، وكان المبدعُ الفلسطينيُّ قد أحدَثَ لتوِّهِ نقلةً في القصيدةِ العربية بانبثاقِ "الرَّماديِّ"، و"أحمد الزَّعتر"، و"أعراس":

"عاشقٌ يأتي من الحربِ إلى يومِ الزَّفاف
يرتدي بدلته الأولى
.....
وعلى حبلِ الزَّغاريدِ يُلاقي فاطمة
.....
وتُغنِّي الفتيات:
قد تزوَّجتَ
تزوَّجتَ جميعَ الفتيات
يا مُحمَّد!
.....
وتزوَّجتَ البلاد
يا مُحمَّد!
يا مُحمَّد!".
ومن "تلك صورتُها وهذا انتحارُ العاشق"، يأتي صوتُه هادِراً بين أزيزِ الطَّائرات:
"الصَّخرُ يهتفُ لاسمكِ الوحشيِّ كُمَّثرَى؛وأسألُ هل تزوَّجتَ الجبال ...؟"

من النَّادر جدَّاً، أن يحتشدَ زواجٌ بقوَّةِ الرَّمز والدَّلالة، مثلما هو الحال مع زفافِ الفاطمتين؛ فالأولى اقترنت بالمناضل الشَّفيع أحمد الشِّيخ، رئيس اتِّحاد نقابات عمَّال السُّودان، فكان زواجُهما، في جانبٍ منه، تعبيراً عن التحام القضايا النِّسائية بقضايا العمَّال، وارتباطِ مصيرِها بمآلاتِ الطَّبقة العاملة؛ بينما اقترنتِ الثَّانية بصاحب "حرب الموارد"، فكان زواجُهما، في جانبٍ منه، تعبيراً عن تجاوزِ التَّأطيرِ الطَّبقي، والتحام قضايا النِّساء، كجنسٍ، بقضايا البيئة التي تهمُّ كلَّ البشر، كبشرٍ، بصرفِ النَّظرِ عن منشأهم الطَّبقي. إلَّا أنَّ الزَّواجَ الأوَّل قد ارتبط كذلك بالمنظَّمات الجماهيرية في أماكنِ العملِ والأحياء، بينما ارتبط الزَّواج الثَّاني بما يحلو للبعضِ بتسميته بالأبراجِ العاجية، في الجامعاتِ والمعاهدِ العليا. كتبتِ الأستاذة فاطمة بابكر في مستهلِّ حياتها الأكاديمية كتاباً تحت عنوان: "البرجوازية السُّودانية: أطليعةٌ للتَّنمية؟"، لكنَّ كتابَها الذي يهمُّنا في هذه المشاركة، هو كتابٌ تحت عنوان: "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة"، الذي صدر عن "دار كيمبردج للنَّشر"، في عام 1995.
وفي منتصف الثَّمانينات، قدَّمت لنا الأستاذة فاطمة بدارِ اتِّحادِ الكتَّاب السودانيين بالمقرن، والتي كانت عضوةً مؤسِّسةً فيه، مذاقاً باكراً من ذلك الكتاب، في شكلِ محاضرةٍ عن "الفكر النِّسوي الغربي"، والتي ضمَّنتها بالفصلِ الأوَّلِ منه. وإنِّي لأذكرُ أنَّ الحاضرينَ قد اندهشوا لمتابعتها المُتقصِّية للحركة النِّسوية في العالم، وكان أفقُ معظمِ الحاضرين، في ذلك الوقت، لا يتجاوزُ فيما يختصُّ بقضيَّةِ المرأة ما يطرحُه الاتِّحادُ النِّسائيُّ عبر مجلَّتِه "صوت المرأة" أو ندواتِه العامَّة التي لا تُقامُ إلَّا لِماماً. وإنِّي لأذكرُ أيضاً أنَّني قد قلتُ لها: "إنكِ قد قدَّمتِ لنا عرضاً ضافياً عن الفكرِ النِّسويِّ الغربي، وأقمتِ لنا تفرقةً مضيئة بين الحركاتِ النِّسائية التي نشأت في أحضان الحركات الوطنية أو ارتبطت بنضالاتِ الطَّبقةِ العاملة، وبين الفكرِ النِّسويِّ الغربي، الذي نشأ مستقِلَّاً عنها نوعاً من الاستقلال؛ إلَّا أنَّ المرءَ يلمسُ في ثنايا ما قدَّمتينه لنا محاولةً لتجاوزِ واقع دونيَّة المرأة بتقمُّصِ صورةِ قامعها، وهو الرَّجل". فتفضَّلتِ الأستاذة بالإجابةِ قائلةً: "من أين لي بقدوةٍ أخرى لِأتقمَّصَها، فالرَّجلُ هو الذي ظلَّ رَدَحاً سيِّد الملعب؛ وباستمرارِه في لَعِبِ هذا الدَّور، سيكونُ هو القدوة المطروحة للتَّشبُّهِ والمُحاكاة (كلُّ الصِّياغةِ من عندي، إلَّا أنَّ الإجابة هي ما أزعمُ بأنَّها أقربُ إلى ما قُمتُ هنا بصياغتِه، ولكن هيهاتَ من مطابقةِ ذلك لِما أورَدَتْه الأستاذة الفاضلة في تلك المحاضرة القيِّمة).
وهذا هو المزلق؛ أو هذا هو النَّقصُ الذي يعتري التَّاريخَ المكتوبَ بصددِ النَّماذجِ النِّسائيَّةِ المتفرِّدة، التي تصلُحُ قدوةً للنِّساء والرِّجالِ معاً. ومن أجلِ هذا، خصَّصنا الحلقة السَّابقة للحديث عن قدوتين نيِّرتين، هما روزا لوكسمبرج وروزالِند فرانكلين؛ على أملِ أن تُصبِحَ فاطمةُ بنت العافية بعد هذه الحلقةِ قدوةً يُشارُ لها بالبنان، عوِضاً عن التَّمسُّكِ بأهدابِ الرَّجل أو التَّشبُّه بأيٍّ من مخازيه؛ فهي بصلابةِ منشأِها، واستقامةِ خُلقِها، وقوَّة فكرِها، جديرةٌ بأن تكونَ قدوةً لغيرِها، نساءً كنَّ أم رجالا؛ ودونكم كتابها، ولسانُ حالِها يقول: "فهاؤم اِقرأوا كتابيه"؛ فهي ليست من النَّائحاتِ أو مَن يلطُمنَ الخدودَ أو يشُقَّنَّ الجيوب. ففي عام 1998، تُوفيت والدتُها العافية موسى إبراهيم، فحزِنت عليها حُزناً عميقاً، إلَّا أنَّها قرَّرت - في جسارةٍ غيرِ مسبوقةٍ وسط نساءِ عصرِها - تجاوُزَ الحزنِ عليها بالكتابةِ عن قضايا المرأة السُّودانية والشُّروعِ في صياغةِ كتابِها الثَّاني: "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة"؛ فنرجو أن تمتدَّ إليه يدُ البناتِ كلَّما فقدنا عزيزاً أو فارقنا رفيقَ عُمُرٍ أو صديق. وإن نَشَدنَ من بعدِ ذلكَ قدوةً من رجل، فهذا عينُ ما قام به البروفيسور التِّجاني الماحي؛ فحينما فقد ابنَه، امتدَّت يداه إلى "رسالة" أبي حامد الغزالي الموسومة "أيُّها الولدُ المحب"، فـ"العلمُ بلا عملٍ جنون، والعملُ بلا علمٍ لا يكون".

سننتقلُ في الحلقةِ الثَّالثةِ والأخيرةِ من هذه المشاركاتِ الثَّلاث من "حرب المواردِ" إلى "حربِ الورود"، حينما نعالجُ اللُّغةَ المهيمنة في مسرحية: "من يخافُ فرجينيا وولف؟".

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يونيو 11, 2018 1:55 pm، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

في يوم سبعة وعشرين اكتوبر الماضي
احتفلت بمرور ثلاثة سنوات على معرفتي الاسفيرية بمحمد خلف
والسبب هو عادل القصاص والذي حفزت قصته محمد خلف
على الرسالة الاولى وما تناسل بعدها من رسائل.
احتفلت بأن أعدتُ قراءة البوست من أوله والان فقط انتهيت
من قراءته كله.
وكنت قد بدأت قراءة ومشاهدة بعض الاحالات والمراجع
عن كتب ومقاطع فديو وحتى افلام من فترة طويلة
( التي تمّ ايرادها او الاشارة اليها في هذا البوست). لم انته منها
ولكني قطعت شوطا لا بأس به.

وما زلت في انتظار (معالجة اللغة المهيمنة في مسرحية من يخاف من فرجينيا
وولف).
شكراً محمد خلف وشكراً عادل القصاص، المتعة التي
وجدتها في قراءة هذا البوست لا تضاهيها متعة
لا استطيع أن اصفها ولكني احسها وأمتليء بها.


كنت قد حاولت مرة القبض على مثل الشعور بالمتعة اعلاه
وحاولت تطويعه ليُقرأ من خلال الكتابة، لكنها ضاعت ضمن انتقالاتي الكثيرة،
ولكنها باختصار كانت تتكلم عن متعة معينة في لحظة معين وأذكر أني بدأتها بالعبارة الآتية
( هَبْ أنك)
هنا سأكتب ما اتذكره منها بصياغة جديدة.

( هَبْ أنك افترقت عن من تحب من الناس، وليكن صديقك العزيز جداً، وان شئت فحبيبتك.
المهم شخصاً تشتاقه أيّما اشتياق. ولنقل أنه عاش بمكان وأنت بمكان آخر.
هَبْ أن هذا الشخص هاتفك وقال لك أنه قادم ليراك لأنه مشتاق (وبه لوعة).
وجاء يوم قدومه، وحتى يصل إليك مبتغاي، لنفترض أنه قادم بطائرة
وأنت وشوقك له تقفان انتظاراً للحظة رؤيته.

الآن أنت في المطار أمام صالة المغادرة، تتفصح في وجوه القادمين
ثم يظهر من أحببت)

الآن ماذا؟

(فرحك برؤيته وهو يتقدم نحوك، المتعة الشوق الفرح السعادة وهو يتقدم نحوك فارداً ذراعيه
إليك وأنت مثله).
هل يمكن أن تتخييل في حياتك متعة تلك اللحظة والتي تقع ما بين رؤيتك له ورؤيته
لك وفرد الأذرع لحضنٍ يعبر عن شوقكما......... توقف هنا....... وامسك هذه اللحظة، لا ليست اللحظة نفسها
ولكن احساسها .... ذلك الاحساس المترقب الممتع المندهش المُستَدِر للدمع، المُفرح.


هذا شعوري إن استطعت وصفه وهيهات
شكراً محمد خلف
وشكرً القصاص
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

جائزةٌ كبرى للحِبرِ النَّبيل ونوبِل أخرى للحَبَّارِ الضَّخم



عزيزي عادل

قد جفَّ حِبرُ كلماتِنا رَدَحَاً، ولمَّا تُرفعُ بعدُ أقلامُ الرِّسالة؛ ولقد تكرَّمتَ يا صديقي مشكوراً بإطلاعِ الصَّادق إسماعيل، في بريدِكما الخاص، على طرفٍ من أسباب التَّوقُّف. ومن حقِّ الصَّادق (الذي لولاهُ لماتتِ الرِّسالةُ في مهدِها أو أصابتها جلطةٌ في مقتبلِ عُمُرِها) أن يكونَ على عِلمٍ بمسارِ حالتِها الصِّحيَّة، إلَّا أنَّ من حقِّ القارئ الكريم الذي ثابر على متابعةِ حلقاتِها، وسَهِرَ لاحقاً على مراجعتِها والانتفاعِ بما حواهُ طيَّاتُها، أن ينعمَ أيضاً بانتعاشِها وتجدُّدِ سريانِ الدَّمِ في عروقها. لكلِّ ذلك، أرجو أن تسمحَ لي مجدَّداً باستئنافِ تدفُّقِ تداعياتِ الرِّسالة بحكاياتٍ متنوِّعة عن الحِبرِ وأخرى محدَّدةٍ عن الحَبَّار.



قلم حبر سائل "تروبن"

قبل أشهُرٍ من اختبارِ الانتقال من المرحلةِ الأوَّليَّة إلى المرحلةِ المتوسِّطة (وكان يُطلقُ عليه حينَها اسمُ "امتحان اللَّجنة")، حرصتُ مثل غيري من فقراءِ المُمتحَنين على توفيرِ مبلغٍ من المال (نجمعَهُ قِرشاً على إثرِ قِرش، وفِرينياً على إثرِ فِريني، وشِلناً على إثرِ شِلن)، لشراءِ قلمِ حِبرٍ سائل، ماركة "تروبن"، ومِحبَرَةٍ جديدة ملأى بالحِبرِ الأزرقِ الدَّاكن، وذلك للإجابة على أسئلة الامتحان المُهيب، على أفضلِ وجه؛ خصوصاً، إذا تمَّت تعبئة القلم الأسود "الشَّهير" بأجودِ أنواع الحِبرِ الإنجليزيِّ الصُّنع، ماركة "كوينك – باركر". وبالفعل، جاء اليومُ الرَّهيب؛ ومضت ساعاتُ الامتحانِ بسلاسةٍ ويُسر، بفضلٍ من اللَّهِ وسِنَّةِ القلم التي تنزلقُ بلُطفٍ فائقٍ على صفحاتِ "الفولوسكاب" الملساءِ الصَّقيلة.
وفي اليوم الأخير للامتحاناتِ، الذي بدأ باختبار الحساب (فرَّاق الحبايب")، ابتلانا اللهُ بمراقبٍ فظٍّ، ترتعدُ لِمَرآهِ المفاصلُ ويزدادُ باقترابِه وجيبُ القلب؛ فأمَرَ على الفور بعدم استخدام أقلامِ الحِبرِ السَّائل، وأشار للعاملِ (الفرَّاش) أن يشرعَ في ملءِ المحابر الموضوعة على ثقوب الأدراج (ففعلَ، حتَّى فاضت جوانبُها بالحِبرِ المخفَّف بالماء؛ فلم يَعُد أزرقَ، بل رماديَّاً بلونِ الباستيل)، ثمَّ قام بصرفِ أقلامِ الرِّيشةِ وفولوسكابٍ مُصفَرٍ، قبل أن يطلبَ من التَّلاميذ المُرعَبين بدءَ الإجابة على أسئلةِ الامتحان. وعلى الفور، بدأتِ المتاعب؛ فبدلاً من الانصراف إلى حلِّ أسئلة الامتحان، انشغلنا بالتَّهامسِ، والتَّضجُّرِ، ثمَّ الاحتجاجِ العلنيِّ والشَّكوى لدى المراقب بشأنِ الحِبرِ الباهت والورقِ المُصفَر؛ إلَّا أنَّه أصرَّ على منعِ استخدامنا لأقلامِ الحِبرِ السَّائل، كما رفض تغييرَ ما بالمحابرِ من مادَّةٍ هي للماءِ أقربُ من الحِبر.
وقد زاد الطِّينُ بلَّةً بالنِّسبة للتَّلاميذ أمثالي الذين لا يحملون مناديلَ أو بحوزتهم ورقٌ نشَّاف؛ فقد كان الحِبرُ المُدَّعاةُ يسيلُ وينتشرُ على جانبي الأرقام وعلاماتِ الجمع، والطَّرح، والضَّرب، والتَّسوية؛ وازدادَ الأمرُ سوءاً لِمَن كانت يداهُ تعرقانِ أو تصطكُّ أوصالُه من هولِ تجربةِ الامتحان، أينما وكيفما كان ذلك الامتحان؛ وقد عُقِد لنا ذلك العام بالمدرسةِ الأهليَّة، وليس الأميريَّة؛ ولم يفلح أيٌّ من المُمتحَنينَ من مدرسة أبي قرجة، السَّاكنينَ بِحَيِّ الكراكسة، بالمرورِ والعبورِ إلى أيَّةٍ منهما (ما عدا عبد الله بشير "السَّحَّار")، بسببِ ملابساتٍ شتَّى، أهمُّها شدَّةُ القسوةِ التي صادفتنا من ذلك المراقبِ الفظِّ، الذي أشرف على سيرِ ورقة الحساب المشؤومة. وكان نصيبي مدرسةً مُعانة، كلَّفت أُسرتي ثلاثةَ جُنيهاتٍ للعامِ الدِّراسي، وهذا هو مبعثُ حسرتي التي ظلَّت تناوشني بين آنٍ وآخر، ولم يُضعِفها توالي الحقب والأزمان؛ ولكنَّني لستُ نادماً على أيِّ يومٍ قضيته بمدرسة بيت الأمانة الوسطى، لِما لقيتُه من صُحبةٍ لا تُنسى، ولِما وجدتُه من إشرافٍ تربويٍّ مثالي (أرسى أساسَه الشَّاعرُ الوطني عُبيد عبد النُّور)، ولِما تشرَّبتُ به من نحوٍ عربيٍّ مِعياري (أرسى أساسَه الشِّيخ الفذ مصطفى عبد المولى).

في البالِ، أن تتكوَّنَ هذه المشاركة من سبعِ حلقات (وربَّما تزيدُ، وفقاً لتفاعلِ القرَّاء)؛ وسوف تكونُ الحلقةِ الثَّانية تحت عنوان: "محمَّد الحِبِر: ذلك المناضلُ المُخصرمُ النَّبيل"

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في السبت يونيو 02, 2018 12:55 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

نعم يا خلف
استلمت رسالة القصاص ولم أرد عليها، كان احساسي أنك ستعود
وانتظرت وها أنت تعود بهذه الكتابة الحميمة.


إذاً فظاظة المراقب والتي هي نتيجة لحدثٍ ما أو أحداث أدت به لاجباركم على استعمال حبر المدرسة
والذي صادف أنه باهت، وحتى هذا البَهَتَان محكوم بمقارنته مع حبر "الكوينك - باركر"، أقول إذاً هذه الفظاظة
أوصلتك للكثير من الكَسْب على مستوى المعرفة وعلى مستوى المعارف من اصدقاء وأدباء وغيرهم.

تدهشني دوماً هذه الاحتمالات المفتوحة والمصادفات أو القدر أو "القِسْمَة"، أو المصائر والمآلات وتدفعني دفعاً لسرحانات
طويلة ممتعة في معظم الوقت، وتعتمد معظمها على (لو لم يكن كذا... أو لو لم أفعل كذا ...)


في انتظار الحبر النبيل الذي سيُكتب به عن "محمد الحبر"
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

جائزةٌ كبرى للحِبرِ النَّبيل ونوبِل أخرى للحَبَّارِ الضَّخم



عزيزي عادل

طِيلة فترةِ التَّوقُّفِ المؤقَّت عن الكتابة، لم يشغلني شاغلٌ مثلما شغلني موضوعُ الذَّاكرة، بوصفِها جهازاً عقلياً لتلقِّي الذِّكر ولممارسةِ عملِ التَّذكُّر، علاوةً على عمليَّةِ التَّعلُّم، في علاقةِ كلِّ ذلك بالموضوعِ الرَّئيسي الذي ظلَّ يرفِدُ رسالتي المطوَّلةَ إليك، وهو التَّشابكُ الذي لا ينفصمُ بين الحقِّ والحقيقة. صحيحٌ أنَّ زفرةً قد صدرت منِّي في شكلِ "صرخةٍ كتيمة" بشأنِ دولةٍ "مُكافئة" (جِنِيرِك)، تمَّ نشرُها بمجلَّةِ "الحداثة"، تحت إلحاحٍ مُشدَّدٍ من يوسف حمد وتأثيرٍ أكثر نعومةً من أمال علي، إلَّا أنَّ بالي كان مُنصَبَّاً برُمَّته حول موضوع الذَّاكرة؛ وما هذه الحلقاتُ السَّبعُ إلَّا مقدِّمةٌ مطوَّلة لِما سيُكتَبُ لاحقاً بصددِها، فالحبرُ رمزٌ منسيٌّ للكتابة، التي هي - بخلاف مفهوم "الكِتابيَّة" (غراماطولجي) الذي سعى لتسويغِه جاك ديريدا - امتدادٌ خارجيٌّ للذَّاكرة.



2. محمَّد الحِبِر: ذلك المناضلُ المُخضرمُ النَّبيل ومِرآةُ "واتساب" العجيبة

حباني اللهُ بمجموعةِ "واتساب" عجيبةِ التَّكوين، فهي تضمُّ ممثلين لأصدقائي منذ أوَّلِ وعيٍّ لي بالطِّفولة إلى أوَّلِ وعيٍّ لنا بتقدُّمِ العُمُر. وقد أنشأها عبده أمين، صديقي منذُ نعومةِ أظفاري (حرفيَّاً)، فهو ابنُ أُميَ الثَّانية، صفيَّة بنت البدوي سليمان كركساوي، الذي تلقَّى أوَّلَ العلمِ على يد ست نفيسة، بينما ذهبتُ أنا إلى ست عَشَّة؛ ويُوجدُ بهذه المجموعةِ كلٌّ من عبد الله السَّحَّار وعبد الرَّحمن سالنتوت، اللَّذينِ رافقاني بروضة ست عَشَّة؛ وبها بُشرى عبد الكريم، ومحمَّد جون، والسَّحَّارُ نفسُه، الذين أسعدونني برفقتهم إبَّان المرحلةِ الأوَّليَّة بمدرسة أبي قرجة؛ وبها سالنتوتُ ذاتُه الذي قضى معي أجمل أيَّام العمر بمدرسة بيت الأمانة الوسطى؛ وبها بُشرى عينُه الذي تعلَّمتُ على يدهِ السِّياسةَ بالمدرسةِ الأهليَّةِ الثَّانوية بأمدرمان، وهاشم محجوب الذي هداني إلى القصَّة القصيرة؛ وبها جونُ كذلك الذي دخل معي الجامعة واستقال منها مبكِّراً، فتركني نهباً لغوائلِ الدَّهرِ ونوائبه؛ كما بها إبراهيم بحيري، "الأدمِنُ" الحالي، الذي تركته الجامعة، فأكمل عُدَّتها مُحلِّلاً بارِعاً للنُّظُمِ بجامعة بودابست، برفقةِ صديقِ الصِّبا المرحوم عبد المنعم الطَّيِّب (الذي كان سيُتحفُنا في هذه المجموعة بقفشاتِه اللَّاذعةِ المحبَّبة).

إلى جانب ذلك، فإنَّ هذه المجموعة تضمُّ أصدقاءَ لفترةِ ما بعد المرحلة الثَّانوية الخِصبةِ بالعمل السِّياسي وتبدُّلاته العاصفة؛ وينضمُّ إليها محمَّد المختار، والفاتح السَّرَّاج، وإسماعيل حسن حفيد النُّور الجريفاوي (وكان يُمكِنُ أن يكونَ بها معاذ إبراهيم وهاشم الخليفة، اللَّذانِ غابا برحيلهما الأبدي؛ ويحيي زروق، الذي شغلته مهنةُ الطِّب عن المشاركة)، كما أنَّ بها أيضاً - لحُسنِ الطَّالعِ - المناضلُ المخضرم محمَّد الحبر. وكانت هذه المجموعة تعملُ بالنِّسبةِ لي كمرآةٍ عجيبة، فعبرُها أُحدِّقُ إلى نفسي عبر مختلفِ الحقب، فأرى فيها ذاتي وكأنَّما أتصفَّحُ ألبوماً عائلياً؛ ومثل أيِّ مِرآةٍ صقيلة، كانت تعكسُ صورتي من غير أن تمنحني القدرة على المشاركةِ الفعليَّة في الحدثِ من داخل، فقد تجمَّدت عروقي في غربةٍ طويلةٍ من خارج. وكنتُ أسألُ نفسي مِراراً: كيف أمكنهم التَّماسك، وكيف تسنَّى لهم القفزُ عبر كلِّ تلك الحقب لصياغةِ لغةٍ يوميَّةٍ آسِرة تحفظُ لهذه المجموعة عبقها ورائحتها المميَّزة. وكنتُ أراهم عن بُعدٍ وهم يفعلون ذلك يوميَّاً بسلاسةٍ ويُسر، فأتحسَّرُ حيناً لبُعدِي عنهم، وأتعجَّبُ حيناً لمَلَكاتِهم التَّلقائيَّةِ الأصيلة؛ فقوَّة الحُجَّةِ هي نفسُها، ونفاذُ البصيرةِ هو ذاتُه، مثلما هي روحُ التَّسامحِ والمرح - إلى أن شبَّ خلافٌ بين السَّحَّار والحِبِر. وفي واقعِ الأمرِ، لم يكن ذلك الخلافُ سوى سوءِ فهمٍ عابر، فقد ظنَّ "السَّحَّارُ" أنَّ الحِبِرَ تمادى قليلاً في أسلوبِه الهزليِّ السَّاخر، فما كان منه إلَّا أن غادرَ المجموعة، واستأنسَ بوحشتِه في حَوَّاشَةٍ على مشارفِ الحَوَّاتَة، تدُرُّ عليه رِزقاً وفيراً، لكنَّها لا تُطفئُ إلَّا نذراً قليلاً من ظمَئِه الرُّوحي واحتياجِه الدَّائمِ لقدامى الأصدقاء. وبالفعل، كان الخلافُ طفيفاً ولا يستحقُّ الذِّكر، إلَّا أنَّ أسلوبَ معالجتِه يستحقُّ الوقوفَ والتَّأمُّل.

ظلَّ الحِبِرُ طَوالَ حياته متمسِّكاً بقناعاته، وانتمائه إلى قضايا الفقراءِ والمسحوقين، وتفرَّغ رَدَحَاً لخدمتهم؛ وفي سبيلِ ذلك، لاقى الأمَرَّين، فذاقَ طعمَ التَّشرُّد، واعتادَ برودةَ الزَّنازين؛ إلَّا أنَّه مع ذلك، وربَّما كان بسببِ ذلك، يتمتَّعُ بقلبٍ ناصعٍ، وسريرةٍ صافية، وخصالٍ حميدة، ورِقَّةٍ لا تُخطئُها العين، وعذوبةٍ تُذكِّرُ بالألحانِ العاطفيَّةِ الشَّجيَّة. وكانتِ المجموعةُ كلُّها، وفي طليعتِها الحِبِر، تنتمي إلى معسكرِ اليسار؛ ما عدا السَّحَّار الذي يتَّخذُ دائماً، رغم حبِّه للمجموعة وانتمائه إليها قلباً وقالباً، موقفاً مستقلَّاً ومتفرِّداً؛ وكان ذلك يروقُ للمجموعةِ تماماً، لأنَّه يُفجِّرُ في داخلِها نقاشاتٍ لموضوعاتٍ كان يُمكِنُ أن تظلَّ في حُكمِ المنسيِّ باعتبارِ أنَّها أمرٌ مفروغٌ منه ولا يحتاجُ اِمرؤٌ إلى إثارتِها وسط الثُّلَّةِ المتَّفقةِ أصلاً على جُلِّ الموضوعات. ويُذكَرُ هنا أنَّه، مع تقادمِ العهدِ، بدأت تسري داخل المجموعةِ مشاعرُ دينيَّةٌ كانت مخبوءةً طِيلةَ الوقتِ، إلَّا أنَّ التزامهم إزاء قضايا العدلِ الاجتماعيِّ لم يتزحزح قيدَ أنمُلة.

كما أنَّ التزامهم إزاء بعضِهم البعض لم تَشُبهُ شائبةٌ، رغم نشوءِ تبدُّلٍ في الآراء، واختلافٍ في التَّصوُّرات، واضطرابٍ في الذَّاكرة. ويومَ نشبَ خلافٌ، وليس شجاراً، بين الحِبِرِ والسَّحَّار، لم يَذُقِ الأوَّلُ طعمَ النَّوم، كما أصبح طعمَ الدُّنيا ماسِخاً لدى الثَّاني. إلَّا أنَّ الحِبِرَ هو الذي سعى أوَّلاً إلى الصُّلح، وأعلن موقفه أمام الجميع بأنَّه لم يخرُج عن طورِه في الهزلِ المعتاد، لكنَّه مستعِدٌّ أن يذهبَ للحوَّاتةِ حافياً لتقديمِ فروضِ الاعتذار للصَّديق عبد الله السَّحَّار، الذي قادته قدماه ذاتَ يومٍ اشتدَّت كآبتُه إلى معسكرِ اليمين. ولحُسنِ الحظِّ، قد حدث ما كان مأمولاً، إذ خفَّ السَّحَّارُ مُسرِعاً للمجموعة التي كانت تنتظره بالأحضان؛ لكنَّنا نُقدِّمُ باسمِ المجموعةِ جائزةً كبرى للحِبِر، لتمالُكِ النَّفسِ، وصدقِ الإحساسِ، وانتزاعِ المبادرةِ بالصُّلح؛ كما نُقدِّم باسمِها "جائزةَ المُتسابِقِ الثَّاني لأعمالِ الخيرِ" للسَّحَّار، لسرعةِ استجابتِه للصُّلح، ولاستمرارِه في رفدِ المجموعةِ باستبصاراتٍ ذكيَّة، وفكرٍ ثاقب، وعقلانيَّةٍ لا ضفافَ لها.



بعد قبولِ كلٍّ من الحِبِرِ والسَّحَّار بِخُطَّة توزيع الجوائز (وترحيبِ كلٍّ مِمَّنِ اتَّصلنا به من الأصدقاءِ بذلك)، نكونُ قد ختمنا هذه الحلقة، وأصبح من المرجَّح، بإذنِ الله، أن تكونَ الحلقةُ المُقبِلةُ من هذه المشاركة تحت عنوان: "تجربةٌ مريرة مع الأستاذ الفاضل الحبر نور الدَّائم"

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يونيو 11, 2018 1:42 pm، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وصل إلى محمَّد خلف هذا الرَّد من عبد الله بشير السَّحَّار، تعليقاً على ما جاء في الحلقةِ الأولى من مشاركة الحِبرِ والحبَّار:

"العودة إلى الماضي تُثيرُ كثيراً من الشجون والذكريات، وينتابك إحساسٌ عميق يصعُبُ التعبير عنه، خاصَّةً الكتابة بإصبع واحد في التلفون.
تذكرتُ يومَ إعلانِ النتيجة، وكنتُ جالساً وظهري إلى الحائط، وقربي محمَّد عبدالله، وكُنَّا دائماً معاً؛ فهنأهُ بقوله: "يا عبد الله البشير مبروك"، فأشارَ الجميعُ إليَّ؛ وكان ذلك هو المُربِّي الفاضل: ميرغني الأحمر. لم يكن أحدٌ يتوقَّع نجاحي، فقد كان ترتيبي ال٤٢ في امتحان الفترة الأخير.
المهم، هذه الكتابة أعادت لي ذكرى حميمة لم أظن أنَّها في الذاكرة: كلُّ أولاد المدرسة؛ من المُرعِب محمَّد سِروة إلى أكثرنا وداعةً ورِقَّة، وكُنتَ أنتَ: محمَّد خلف الله".

عبد الله بشير السَّحَّار
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يونيو 11, 2018 1:41 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وَرَدَ إلى محمَّد خلف تعليقانِ من الأستاذ عبد الواحد ورَّاق على الحلقتين السَّابقتين من مشاركة "الحِبِر والحبَّار"، يبدأ كلٌّ منهما بعبارة "ياسلام يا سلام":


يا سلام ياسلام

كم آنستني هذه الكتابة الحميمة في هذا الليل الرمضاني ...

هي كتابة ذات رسالة قوية تتحدَّث عن الانطباع الذي تنفر منه النفس أو تستلطفه البصيرة؛ ومن ثمَّ تظلُّ تستبطنه وتجترُّه تلوكه وتبتلعه؛ ولا يمكنها لفظه أو الخلاص منه ما ظلَّت تستصحبه عبر الحقب العمرية؛ تجترُّه بالبحث وبالنظر وبالأفكار وبالتشريح، علَّها تُخفِّف من وطأته أو وهجه.

شكراً يا خلف على هذا الكرم والتفاني والولوج إلى دهاليز النفس والروح.


ياسلام ياسلام

الكتابة ذات الظلال والألوان ..

كالغرف الداخلية في المنازل المحبَّبة التي تتوفَّر فيها الطيبة والإلفة والرفقة والابتسامات، والعفوية والطلاقة والأمان، ونكهة الطعام وطعم الأشياء الذي لا يزولُ كلَّما سنحت للإنسان رجعة لتلك الأيَّام بالخيال أو بالتمنِّي أو بالذكريات أو من خلال الأحلام ..


كلُّ مرَّة تفاجئنا بكتابة مختلفة يا خلف من حيث لا ندري ..

لك الشكر والأمنيات الطيبة في هذا الشهر الفضيل الذي يأتي من مكان مجهول، كما قال الطيب صالح، عليه الرحمة.

عبد الواحد ورَّاق

آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يونيو 11, 2018 1:41 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »


جاءت هذه الكلماتُ المتلاحقةُ لمحمَّد خلف من ذاتٍ تأتيها الحروفُ طائعةً، وتنكمشُ في حضرتها المسافةُ
القائمةُ بين القلب والقلم؛ أتت إليه من ابنِ أمِّه ورفيقه في دروبِ الكتابة، بابكر الوسيلة سر الختم:

"كم أنا أرفرف من الداخل بالفرحة لاستئناف تدفُّق الحبر على فلوسكاباتنا الجديبة؛ خصوصاً، وأنا أعلم جيِّداً أنَّه من أجود أنواع الحبر السوداني فكرةً ورصانة. نجح الحبر والحبَّار."

"أجمل ما في الأمر أنَّ ذاكرتك تعمل في اتِّجاهاتٍ غير متوقَّعة. لكأنَّها تحفر في كلِّ الاتِّجاهات بطاقةٍ جبَّارة. ملؤها المحبَّة وفرض التسامح الذي يُمليه قلبك فيضاً على الآخرين. ذاكرةٌ لا تذهب في اتِّجاهٍ خطِّيٍّ متواتر، إنَّما تذهب نحو الطفوليِّ في كلِّ شيء. علاقاتك بأصدقائك، بأهلك وبمجتمعك في تناسقٍ مدهش؛ وفوق ذلك، بفكرٍ عميق يتنامى، وبقلبٍ كبير . لشدَّ ما نحتاجُ - في هذا الزمنِ الأغبش - لمثلِ هذه الكتابة الموحية والحيَّة، رغم إشاراتِ الموتِ المتعدِّدة."

"عفواً ..ننتظرُ المزيدَ من نشيدِكَ الصافي. صرتُ أكثر شوقاً وترقُّباً لكتابةِ ذاكرتك. أتمنَّى أن تجِدَ الوقتَ المتَّسع لها، فأنتَ لايعوزك الذهن ولا القلب.".

بابكر الوسيلة
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يونيو 11, 2018 1:40 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذا تدفُّقٌ حميمٌ آخرُ انهمرَ على محمَّد خلف من ابنِ أخته مجدي عبد العزيز، ابنِ المرحومة عواطف بنت صفيَّة بنت البدوي سليمان كركساوي، أمِّه الثَّانيَّة (وهي تلك الصِّلةُ اللَّصيقة التي اعتاد خلف على تذكيرِنا بها في متنِ وثنايا تداعياتِ هذه الرِّسالة المطوَّلةِ إليَّ/إلينا):



من أجمل الأشياء، عندما تقرأ أيَّ سطورٍ أن تكونَ كلُّ الأجواء والأشخاص والأمكنة محفورةً في ذاكرتك؛ هذا ما حدث، وعيناي تجري بكلِّ نهم وهي تلتهمُ الكلمات. أغلب ما ورد من أسماءِ أشخاصٍ أعرفهم جيِّداً، بل كانوا مصدرَ إزعاجٍ في طفولتي، فكثيراً ما كنتُ المُرسالَ لإحضارِ الماء البارد وشراءِ الاحتياجاتِ من الدُّكان. عبدالله بشير السَّحَّار، تطابق اليومَ هذا الوصفُ مع الاسم - فقد أطلق لحيته، فصار اسماً على مُسمًى، على الرَّغم من رِقَّته وأدبِه العاليين؛ بشرى عبد الكريم، لا يزالُ كما هو، يُذكِّرُني بصوتِ الكمانِ لا يتغيَّرُ أبداً مهما تغيَّر الزَّمن؛ محمَّد جون، الفتى الأسمر - اسمه ارتبط عندي بعربة الموسكوفيتش، غاب الاثنانِ من السَّاحةِ معاً، فهذا عهدُ الكوري. أمَّا عن الأجواء والأشخاص، فمَن مِنَّا لا يذكرُ الحوش الضَّاجَّ بأهله - تلك المرأة القويَّة المسيطرة على الكل، ولكن بكلِّ حِنِّيَّة: الحاجَّة بخيتة سليمان كركساوي - مَن يستطيع أن يقول لها "تلت التَّلاتة كم"، إلَّا أنَّها سيطرةٌ ونفوذٌ بسلاح المَحَنَّة والحكمة؛ عم بدوي، الرَّجل الحافظ للقرآن؛ عم محمود، الرَّجلُ العطوف، المُشفِق على حالِ الصِّغارِ والكبار؛ حسن مكِّي، الرَّجل الذي لم ترَ عيني مثله، وأنا موقنٌ بأنَّ مقامه الفردوس الأعلى؛ حاجَّة صفيَّة، وحاجَّة مُنى، ثم بنات محمود، والفاتح، وحاجَّة التَّومة، وحاجَّة زهراء، وعفاف، وحاجَّة عواطف، وأسماء زوجة حسن، وغلام الله ومحاسن وابنهما علم الدِّين، وأسماء أخرى. هذه المنظومة تحتاجُ يا محمَّدُ أن تقفَ عندها كثيراً، فأرجو أن تُبدِعَ في وصفِهم كما عهدناك دائماً.. في شوقٍ شديد للحلقاتِ القادمة، حتَّي تعودَ بنا إلى الزَّمنِ النَّقي.

مجدي عبد العزيز
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

"مصير الحي يلاقي" كما قال المثل ، وأقول "مصير الإسفيري يلاقي"، وهاهو خلف يتموقع ويتَوَتْسَب وأخيراً
يتفَسْبَك ويلاقي كل الذين طالما سمع صرير "كيبورادتهم" أحياءاً في "انترنيتهم" يتواجدون.

الانترنت يُوشك أن يبلغ السن القانونية بعد سنة من الآن (18 عاماً)، وفي هذه المسيرة البسيطة استطاع
أن يُوصلنا ببعضنا كأحسن ما يكون. هذه الثورة التواصلية العظيمة لم تحدث منذ اختراع التلغراف باقتضابه المعروف.
وألآن هأ نحن بفضل هذا الانترنيت نتواصل ونقرأ ونعيد ترتيب العلاقات القديمة، ونكتسب معارف مفيدة.
كل سنة وأنتم بخير
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

[align=right]الأعزاء والعزيزات،

لقد أرغمتني ظروف مركَّبة، جدُّ معيقة، عن التغيُّب، ليس عن هذا الخيط فحسب، وإنما عن الموقع كله.

أعود، رغم أن جُل تلك الظروف ما تزال تشل قسما معتبراً من طاقتي، بهذا المقال لمحمد خلف الذي يتناول قضية بالغة الأهميةألا وهي محاولة تكفير صديقنا السر السيد.
كامل تضامني معه:






السِّرُّ ساعٍ في سبيلِ الحقِّ، ودُعاةُ تكفيرِه مطالبون بتطبيقِ أبسطِ متطلَّباتِ الحقيقةِ بشأنِه





كان منذ ريعان صباه بعطبرة (وأشهدُ له منذ أن عرفته في ريعانِ شبابِه بالعاصمة السُّودانيَّة) مُحِبَّاً للإسلام، شغوفاً بالقرءان، ودائمَ البحثِ عن وَصلِ الدِّينِ بهمومِ العصر، وصهرِ تعاليمِه في مختبراتِ الحداثة؛ ومن أجل ذلك، انخرط في فصولِ المعهد العالي للموسيقى والمسرح، وانضمَّ خلاله إلى جماعتَيْ "السَّديم" المسرحيَّة و"تجاوز" للثَّقافة والإبداع، إلى أن تخرَّجَ فيه ممثِّلاً وناقداً مسرحيَّاً يُشارُ إليه بالبنان. كما كان أيضاً من الشَّبيبة المؤسِّسة لاتِّحاد الكُتَّاب السُّودانيين، ومن الدَّافعين لأنشطتِه الدَّاخليَّة، والمدافعين عن انفتاحِه على جماهير الطُّلاب بالجامعات والمعاهد العليا بالعاصمة القوميَّة، التي انتشرَ فيها السِّر السَّيِّد حداثيَّاً عارفاً لمُبتغاه، وجماليَّاً شفَّافاً، دَرَّبَ ذائقته الفنِّيَّة على كافَّةِ أوجهِ الإبداع.
فهذا هو السِّرُّ، الذي عرفته في الماضي (وذاكرةُ الشَّتاتِ لا تقِرُّ بالمُتغيِّرات)؛ أمَّا "السِّرُّ" الذي كنتُ أرغبُ في أن يبقى خبرُه في طيِّ الكِتمان (لولا آخرُ المُستجِدَّات)، فقد ظلَّ يأتيني شفيفاً ومتدفِّقاً عبر محادثاتٍ هاتفيَّةٍ مُطوَّلة، لم يُخفِ فيها خَشيتَه من تفشِّي ظاهرة "الإلحاد"، وكان يبحثُ عن منهجٍ لتفهُّمها، توطئةً لإيجادِ آليَّةٍ فكريَّةٍ لدرئها؛ فإذا به يُتَّهمُ جُزافاً بالذي كان يخشى وقوعَه من غيرِه؛ فيالها من قِسمةٍ ضِيزَى، ومن إجحافٍ لا مُبَرِّرَ لحدوثِه، لولا أنَّه قد أثار عُشَّ زُنبورٍ بتوجيهِه سهامَ نقدٍ موضوعيٍّ إلى رئيس "هيئة علماء السُّودان".
وعندما بدأنا تدشينَ رسالتي إلى القصَّاص، كان السِّرُّ من أوائلِ المحتفين بها، فلا غروَ أن سعى، بتعضيدٍ قويٍّ من أصدقاءَ آخرين، إلى طرحِ جانبٍ منها (وهو جانبُ السِّيرة) للمداولةِ المُستفيضة ضمن ندوة العلَّامة عبد الله الطَّيِّب (بقاعةِ الشَّارقة، خلال عام ٢٠١٦)؛ إلَّا أنَّ ما دفعه إلى الاهتمام الجادِّ بالرِّسالة، هو تناولُها للحقِّ، وإقامتُها الفارقَ الجوهريَّ بينه وبين الحقيقة؛ فكان من أوائلِ المُلتفِتينَ إلى هذه الخاصِّيَّةِ فيها، وساهم بمشاركاتٍ قيِّمة في استجلاءِ هذا الجانب؛ ثمَّ أتبعها بنقاشاتٍ مُطوَّلة معي على الهاتف لمزيدٍ من الاستفسارِ والتَّوضيح. وللذين لم يتابعوا معنا مشاركاتِ الرِّسالة في حينها، نقولُ إنَّ الحقَّ قديم، وهو كلامُ اللهِ الذي "لا يأتيهِ الباطلُ من بين يديه ولا من خلفِه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد"؛ سورة "فُصِّلت"، الآية رقم "٤٢". وفي الجانبِ الآخر، فإنَّ الحقيقة ملتبسةٌ بأوجهٍ مُصاحِبةٍ لها، تشملُ الزِّيفَ والافتراءَ والخطأَ والوهم، علاوةً على الباطلِ بمعناه الدِّينيِّ؛ هذا غير أنَّه من المُستبعَدِ الوصولُ إليها أو التَّعرُّفُ على ملامحِها النِّهائية أو الاستيقانُ من معرفتِها، إذا ما شاعَ بين النَّاسِ خبرُ الوصولِ إليها. وكلُّ ما يُمكِنُ أن يُقالَ بصددِها إنَّنا نشعرُ بالاقترابِ حثيثاً منها، ولكن هيهات.
وما نُسمِّيه بمجالِ الحقيقة، يشملُ العلومَ الطَّبيعيَّة بأنواعِها؛ من الفيزياء إلى الأحياء، ومن ميكانيكا الكمِّ إلى علمِ الكونيَّات؛ كما يشملُ العلومَ الاجتماعيَّة بأنواعِها، من الأنثروبولوجيا إلى علمِ النَّفس، ومن الاقتصادِ إلى علمِ السِّياسة؛ إضافةً إلى ذلك، فهو يشملُ بدرجةٍ حاسمة بالنِّسبةِ إلى موضوعنِا، كافَّةَ ضروبِ النَّحو، والأساليبَ اللُّغويَّة، والمعارفَ النَّصِّيَّة، وعلومَ التَّفاسير. فكلُّ العلومِ التي تنضوي تحت لواءِ الحقيقة، على اختلافِ مناهجِها، وتنوُّعِ مصادرِها النَّظريَّة ومنابعِها الإلهاميَّة، تعتمدُ بدرجاتٍ متفاوتة، وأحياناً حاسمة (خصوصاً، كلَّما ابتعدنا كثيراً عن حقلِ العلومِ الطَّبيعيَّة)، على اتِّفاقاتٍ في طرائقِ النَّظرِ إلى موضوعاتِها، وعلى ثقَّةٍ متبادَلة في استخدامِ الأدوات، وعلى إجماعٍ بشأنِ أوجهِ التَّفاسيرِ المُحتملة، في غضونِ وقتٍ معلوم، لأفضلِ المسالكِ المنهجيَّة للاقترابِ من الحقيقة، وأفضلِ السُّلوكيَّاتِ المتَّبعة لضمانِ البقاءِ ضمن كَنَفِها؛ وإنْ عزَّ على السَّالكينَ هذا المطلب.
تعتمدُ كلُّ هذه العلوم، بلا استثناء، على طرائقَ شتَّى في بناءِ عمليَّةِ الإجماع؛ فإذا انفرط عِقدُه، ونَشَبَ خلافٌ حادٌّ بين السَّاعينَ إلى بلوغِ الحقيقة، ضمن كلِّ هذه العلومِ القائمة تحت مجالِها الحيوي، فإنَّ التَّحاورَ المهذَّب، والمجادلةَ بإحسان، والصَّبرَ على تعنُّتِ الخصوم، وإبداءَ التَّسامحِ إزاء أُطروحاتِهم، ومحاولةَ رؤيةِ الموضوعاتِ من منظوراتِهم، هو السَّبيلُ الوحيد إلى الالتقاءِ مجدَّداً في نقطةٍ ما حول ما يجمع، أو يقودُ في نهايةِ المطافِ إلى اتِّفاقٍ مؤقَّت، ريثما ينشأُ مرَّةً أخرى ما يدعو إلى تجدُّدِ الخلاف. أمَّا إذا ترسَّختِ الأفكارُ (على الجانِبَيْنِ المتصارِعَيْن)، ولاذ كلُّ طرفٍ بخندقِه، فإنَّ الطَّريقَ يُصبِحُ ممهَّداً للإساءةِ اللَّفظية، والتَّنابذِ بالألقاب، والتَّجريح، والعنفِ الجسديِّ، والتراشقِ بالسِّلاح. وفي غيابِ الموسَّساتِ التي تضطلعُ تاريخيَّاً بقيادةِ الرَّأي، ونشرِ التَّسامح، وتحقيقِ مَهَمَّةِ الإجماع، يُصبِحُ من الواجبِ تقديمُ المبادرات، وتعزيزُ الاجتهادات، وتعلُّمُ حرفةِ التَّفكيرِ خارج الصَّندوق.
فالسِّرُّ لم يحِد عن الحقِّ، بل ظلَّ منذ صباه يسعى جاهِداً في سبيلِه؛ ويستهدئ بكلامِ الله، ويفكِّرُ من داخلِ كتابِه؛ ويستمدُّ رؤاه من القرءان، ويسترشدُ بتعاليمِه. وما يُفرِّقُه عن دُعاةِ تكفيرِه أنَّه قَبِلَ تحدِّي الحداثة، وأدار ظهرَه لبعضِ التَّفاسيرِ التي أَكَلَ عليها الدهرُ وشَرِب؛ فدُعاةُ تكفيرِه مطالبون قبل غيرِهم بتقديمِ الأدِلَّة على إثباتِ دعواهم، بالإشارةِ إلى مواضعِ خروجِه - ضمن أنشطتِه الفكريَّة والإعلاميَّة والمسرحيَّة - عن الحقِّ؛ عِلماً بأنَّه تصديقٌ بالقلبِ لخبرِ السَّماء، واتِّباعٌ لهديِ رسولِه؛ أمَّا الخلافُ النَّاشِبُ بين المُصدِّقين بشأنِ تفاسيرَ تمسُّ قضايا اجتماعيَّةً أساسيَّة: مثل تربيةِ الأطفال، والوصايةِ عليهم، وزواجِ الطِّفلات، والتَّحرُّشِ بالنِّساء، والمساسِ بحقوقِهن؛ وتقنينُ كلِّ ذلك في إطارِ نظامٍ عامٍّ، فهي كلُّها تفاسيرُ تدخلُ في مجالِ الحقيقة؛ وتحتاجُ، مع تغيُّرِ ظروفِ الحياةِ الاجتماعيَّة، إلى مُتَّسعٍ من الحرِّيَّة لبناءِ إجماعٍ وقتيٍّ بصددِها.
وفي الختامِ، نقول: إنَّما الإلحادُ في جوهرِه مَيلٌ عن الحقِّ، وليس اختلافاً ضروريَّاً من أجل الوصولِ إلى الحقيقة أو الاقترابِ حثيثاً منها، مثلما هو الحالُ مع الأطروحاتِ العلميَّة المتنافِسة؛ و"العلماءُ" الذين يميلون إلى السُّلطان ميلاً بَيِّنَاً، تحقيقاً لِمَرضَاتِه، وليس إحقاقاً للحقِّ، أو إثراءً لأنظمةِ الحقيقة، هُمُ الذين يحيدونَ عن الجادَّة، ويُشوِّشونَ على الفكر، ويُربِكونَ الخطواتِ الضَّروريَّة للتَّوصُّلِ إلى إجماعٍ في الرَّأي حول أخطرِ القضايا الاجتماعيَّة، عبر المنابرِ الفكريَّةِ والإعلاميَّة. وما السِّرُّ إلَّا مُنخَرِطٌ نَشِطٌ في مجالِ الحقيقة، مثلما هو ساعٍ في سبيلِ الحقِّ؛ فأفسِحوا لكلِّ حَمَلَةِ مِشعلِها فضاءً رَحبَاً ومُتَّسَعاً من الوقت، حتَّى تلتقيَ دروبُها – سلاسة - بسبيلِ الحقِّ، وتستضيءُ بنورِه.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

من منا لم يفعل فيه/فيها هذا الموران الشعبي الفذُّ فعله؟

لنرى، مثلاَ، ماذا فعل بمحمد خلف:




الحقيقة لا تقتربُ من الحقِّ إلَّا بالتئامِ الشَّتات



فلينظرِ المرءُ من حولِه أو أمامَه: قد يرى سهلاً أو جبلا، غابةً أو نهرا، شجرةً أو قصرا؛ وقد يرى شخصاً أمامه أو جدراناً تُحيطُ به من الجهاتِ الأربع، أو يُحدِّقُ مليَّاً في مرآةٍ تعكِسُ صورته؛ وقد يرى المرءُ ما ترى الزَّرقاءُ أو لا يرى في أحيانٍ كثيرة أبعدَ من أرنبةِ أنفِه. وفي كلِّ الحالات، ومهما تركَّز الذِّهنُ والتأمت نيوتروناته (أي خلاياهُ العصبيَّة أو عصبوناته) وانتظمت في مساراتٍ تُمكِّنه من رؤية ما يتبدَّى حوله أو أمامه، فإنَّ شتاتاً يحدُثُ دائماً بانفراطِ الحالِ إلى ثلاثةِ أقانيمَ متداخلة؛ ويستوي الأمرُ في ذلك إذا نظر المرءُ من خلالِ مجهرٍ أو تيليسكوب، أو استخدمَ فقط عينَه المجرَّدة. وهذه الأقانيمُ الثَّلاثة هي: ١. الموضوع الشَّاخص أمام المرء؛ ٢. الذَّات النَّاظرة إلى موضوعاتها؛ ٣. شكل التَّعبير اللُّغوي أو اللَّالغوي عن هذا الوضع.

اختصاراً، يُمكِنُ تسمية هذه الأقانيم الثَّلاثة المتداخلة، وفقَاً لترتيبٍ متوالٍ: ١. العالم (الموضوعي)؛ ٢. العقل (مناط التَّفكير)؛ ٣. اللُّغة (بمعناها الواسع، الذي يشمل حركة الجسم، تعابير الوجه، لغة العيون، وحديث النَّفس). وهي أقانيمُ متداخلة بشكلٍ صميمي (غير هندسي)، يُمكِنُ توضيحُه بشكلٍ أفضل، إذا تعرَّضنا في البدءِ إلى نوع الأولويَّة التي يتميَّزُ بها كلُّ أُقنوم - فما يُميِّزُ العالمَ هو أولويَّتُهُ الكيانيَّة، وما يُميِّزُ العقلَ هو أولويَّتُه العِرفانيَّة، وما يُميِّزُ اللُّغةَ هو أولويَّتُها البيانيَّة. وبما أنَّ هذا التَّداخل غير هندسيٍّ (مكاني)، فإنَّه يقومُ في الأساس على آليَّةٍ اعتماديَّة (زمانيَّة)؛ إلَّا أنَّ مفهوم الزَّمان هو نفسُهُ خاضعٌ لوجودِه المتميِّز داخل كلِّ هذه الأقانيم الثَّلاثة على حِدَة؛ فالزَّمانُ داخل العالم تعاقبيٌّ (دياكروني)، لا يقبلُ في الواقع أيَّ حركةٍ في الاتِّجاه المعاكس؛ وهو داخل العقل المفكِّر قابلٌ لذلك، إلَّا أنَّه يكونُ فيه بشكلٍ عامٍّ آنيٌّ وتزامني (سينكروني)؛ وهو سياقيٌّ داخل أُقنوم اللُّغة، بمعنى أنَّه يقبل كلَّ الوضعيات، إذا تهيأ لأيٍّ منها سياقٌ ملائم، بما في ذلك سياق الاستحالة، والاحتماليَّة، والشَّرطَّية، والمُغايَرَة للواقع.

وفقاً للأولويَّة الكيانيَّة (من الكينونة المادِّيَّة)، فإنَّ اللُّغة بأوجهها المتعدِّدة وسياقاتها المتباينة تقومُ على العقل، الذي يقومُ بدوره، وفقاً لذاتِ الآليَّة الاعتماديَّة (السُّوبرفينيَّة)، على العالم، بصفته أُقنوماً تأسيسيَّاً، بالنَّظرِ إليه ككيانٍ ماديٍّ قائمٍ في كلِّ شيء، أي أنَّه متداخلٌ، بهذه الصِّفةِ الكيانيَّة، مع كلِّ أُقنوم. ووفقاً للأولويَّة العِرفانيَّة، فإنَّ اللُّغة لا تُنتَجُ، في المقام الأوَّل، إلٍّا باعتمادِها على عملياتِ العقل؛ كما أنَّ العالم لا يُضاءُ أو تتعقلن موضوعاته إلَّا بنورِه. ووفقاً للُّغة، فإنَّ العقل لا يخرُجُ من سِرارِه (بمصطلحِ النَّحويِّ نافذِ البصيرة، أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرَّحمن بن محمَّد الجُرجاني) إلَّا بها؛ كما أنَّ العالمَ بدونها يظلُّ معتِماً ومعتقلاً على الدَّوامِ داخل صميميَّته المادِّيَّة.

بسببٍ من تميُّز هذه الأقانيم الثَّلاثة المتداخلة، تأتي المعرفةُ الإنسانيَّة متشظيَّةً؛ وقد تمَّ الاقترابُ أوَّلَ الأمرِ من العالم عن طريق السِّحر، ثمَّ الدِّين (خاصَّةً ما جاء ذكره في السِّجلِّ الأنثروبولوجي)، ثمَّ أخيراً العلوم الطَّبيعية (التي تجدُ صورتها المُثلى في صياغاتٍ رياضيَّة "تختصرُ العالمَ في دفقة")؛ وتمَّ الاقترابُ من العقل بادئ الأمر عن طريق الفلسفة (التي تجدُ صورتها المُثلى في صياغاتٍ منطقية تختصرُ العمليات العقليَّة في حفنةٍ من الرُّموز المُحدَّدة والمُحدِّدة)؛ كما تمَّ الاقترابُ من اللُّغة أوَّل وهلةٍ عن طريق النَّحو (الذي يجدُ صورته المُثلى في جُمَلٍ تعريفيَّة مبسَّطة، هي قواعدُ واضحةٌ تُلزِمُ اللُّغةَ ومُستخدِميها بخُطَّةِ سيرٍ مُحدَّدة).

ولكن سرعانَ ما تطوَّرتِ العلومُ الطَّبيعيَّة رأسيَّاً، لِتشملَ علم الكونيَّات (كوزمولوجي) لدراسة العالم في اتِّساعه المتناهي في الكبر، وعلم ميكانيكا الكم لمعرفة العالم في جزيئيَّاته المُتناهيةِ في الصِّغر. وفي نفسِ الوقت، اتَّسعتِ العلومُ الطَّبيعيَّة أفقيَّاً، لِتُتاخِمَ العلوم الاجتماعية بأنواعِها المختلفة، وبمناهجها المتباينة في شدَّةِ اقترابها أو بعدها من العلوم الطَّبيعيَّة؛ واتَّسع مجالُ الفلسفة، ليشملَ علم النَّفس، والظَّاهراتيَّة، وعلم النَّفس المعرفي، والعلوم العصبيَّة الحديثة؛ كما قاد تطوُّرُ النَّحو إلى البلاغة بأقسامها المختلفة، ثمَّ تطوَّر لاحقاً لِيشملَ علم التَّفسيريَّة (الهيرمونيطيقيا)، واللِّسانيَّات البنيويَّة، وكافَّة المناهج النَّقديَّة الحديثة.

ومع هذا التَّطوُّر المتلاحق، ظلَّت سُبُلُ التَّوصُّلِ إلى الحقيقة متشابهةً داخل كلِّ أُقنومٍ على حِدَة؛ ففي العلوم الطَّبيعيَّة بأنواعها، يتمُّ مضاهاةُ الحقيقةِ بالوهم (هل نرى جبلاً شامِخاً أم سَرَابَاً خَدُوعا؟)؛ وفي إطار العقل، يتمُّ وضعُ الحقيقة في مقابل التَّخيُّل (إراديَّاً كان أم غيرَ إرادي – فهل نسمعُ خريرَ جدولٍ أم تعترينا عِوضاً عن ذلك رغبةٌ جامحةٌ في الارتواء؟)؛ وفي السِّياقاتِ اللُّغوية، يتمُّ فحصُ الحقيقة فحصاً دقيقاً، تحسُّباً لمخاطرِ الزِّيفِ والافتراءِ والخطأ، علاوةً على الباطلِ بمعناه الدِّينيِّ، الذي يشمل الكذب والرِّياء وقول الزُّور. ولا غرابةَ أن تَفَشَّى في هذا الفضاءِ الإسفيريِّ الحُرِّ ظاهرةُ الأخبارِ المُزيَّفة ("فيك نيوز")، بشكلها الفرديِّ المُتناثِر، وبوتيرتها المنظَّمة التي تديرها أجهزةٌ سيبرانيةٌ حديثة تحت إشراف الدول المركزية، ممَّا حدا بمخترع شبكة الإنترنت، تيم بيرنرز-لي، إلى الحثِّ على صياغةِ ميثاقٍ لمحاربةِ هذه الظَّاهرة التي تقِفُ حجرَ عثرةٍ أمام مشروعِه التَّنويريِّ الإنساني؛ ولكن هيهاتَ، بعد أن طفحَ الكيلُ واستشرى الفسادُ في "النِّت".

في مقابل الحقيقة المتشظيَّة، والموزَّعة داخل أقانيمَ متداخلة، يبرزُ الحقُّ الواحدُ الصَّمدُ مُوجِبَاً بلا نقيض؛ وتأتي كلمتُه عبر رُسُلٍ يقولون الحقَّ؛ ومن أجلِه، يبذلون كلَّ غالٍ ونفيس. ونحنُ بدورِنا نأخذُ ما يأتونَ بِهِ على ثقةٍ، وبتصديقٍ تامٍّ من غيرِ تكذيب. ولكن حينما تبعدُ الشُّقَّة، ويتقادمُ العهد، ويكثُرُ الوسطاءُ بيننا وبينهم، ويعزُّ مطلبُ الفردِ الذي تتجمَّعُ في يدِه كلَّ السُّبُلِ التي تقودُ إلى الحقِّ، يلجأُ النَّاسُ في نهايةِ الشَّوطِ إلى التماسِ نورِه والتَّشوُّق إلى الاقتراب من قَبَسِه بِرَتقِ التَّشظِّي، ولَمِّ الشَّتات، والإجماعِ على كلمةٍ سواءٍ بينهم - وسيكونُ في مقبلِ الأيَّامِ، بإذنِ الله، متَّسعٌ للجميع لقراءةِ النُّصوص الدِّينيَّة، ومراجعة التَّفاسير الشَّهيرة، وصهرِ الجهود - بصدقٍ - في مختبراتِ الحداثة. ولا يكفي مجرد إعمالِ المناهج الحديثة، مع تبييت النِّيات، بل يجب تقصِّي الحقيقة في كلِّ أقانيمها المتداخلة، وتقريبُها من نورِ الحقِّ: لنرى بالفعلِ جموعاً هادرة، لا أن نتوهَّمَ فصائلَ مُندَسَّة؛ ولنسمعَ هتافاتٍ مُدوِّية، لا أن نُلفِّقَ تفكيراً رغبويَّاً ساذجاً؛ ولِندوزِنَ كلماتنا على إيقاعِ الثَّورةِ السِّلميَّة، لا أن نخترعَ سياقاً للتَّراجعِ والخذلان.

حرصنا في هذا التَّقديم أن نوجزَ أفكارَنا في عباراتٍ مكثَّفة، على أملِ أن نتناولها في شيءٍ من التَّفصيل، إذا ما انبثق سياقٌ ملائم، أو نزلَ إلى ساحةِ الكتابةِ عنوةً واقتداراً مَنْ كُنَّا ننتظرهم طويلاً طويلا؛ ومَن ظننَّاُ أنَّهم "مهما هم تأخَّروا، فإنَّهم يأتون"؛ إنَّنا نسمعُ وقعَ خطاهم في الطُّرُقاتِ، وفي قيادةِ التَّظاهرات؛ مثلما نسمعُ طَرْقَ أصابعِهم على الكيبورداتِ، وأصواتِهم الحيَّة في اللَّايفاتِ على شبكة الإنترنت


محمد خلف

صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

حزف للتكرار
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في السبت فبراير 09, 2019 7:04 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عثمان حامد
مشاركات: 312
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:04 pm

مشاركة بواسطة عثمان حامد »

هنا رد محمد خلف على أحد قراء موقع الممر. فبعد أن نشر عادل القصاص، الحلقة السابقة في موقع الممر، الذي يشرف عليه مامون التلب، وصل لخلف استفسار من: علاء محمود، عن ماهو الربط بين العرفانية و العقلنة والمنهج العلمي؟


بيانيَّة اللُّغة تكشف سياقيَّاً (وكيانيَّاً أيضاً) عن عِرفانيَّتها


يظلُّ أمرُ دلالة الكلماتِ غائماً، واللَّبسُ فيها قائماً، إلى أن يأتي تدخُّلٌ من أمورٍ شتَّى، أشهرها السِّياق، إلَّا أنَّ هناك غيرَه، من ضمنه التَّضام؛ فإذا وردت عبارة "الهمزة المتطرِّفة"، فإنَّ مجرد ضمِّ كلمةٍ إلى أختها كافٍ للكشف عن دلالتها؛ وهي غيرها في عبارة "الجماعة المتطرِّفة". أمَّا السِّياق، فإنَّه يحتاجُ إلى مزيدٍ من الإشارات الدَّالة؛ فإذا استخدمنا كلمة "العين"، فإنَّنا نحتاجُ إلى سندٍ دلالي، لنعرف ما إذا كنَّا نقصد نبعَ مياهٍ جارية أم أنَّنا نقصد (بمعنى نتوجَّه إلى) مدينة "العين" في إمارة أبوظبي (هذا بالطَّبع غير المعاني الأخرى للمفردة، التي لا يتَّسعُ المجالُ إلى ذكرِها).
وكلمة "عِرفان" تشير، ضمن دلالاتها الأشهر، إلى مذهب الإشراق الصُّوفي؛ إلَّا أنَّ ما عنيناه هو المصدر المُعتاد (والصِّناعيُّ معاً، كما هو واضحٌ من العنوان أعلاه) لمادَّة (ع ر ف)؛ وهي عرف، يعرفُ، معرِفةً وعِرفانا؛ والمصدر يعني العِلم (إلَّا أنَّنا نُميُّز، كما سيأتي في حلقةٍ قادمة في "سودانفورول" بين العلم والمعرفة؛ والكلام والقول؛ والإرادة والقصد؛ مثلما ميَّزنا من قبل بين الحقِّ والحقيقة).
كما حرصنا -موارَبةً- إلى إضفاءِ دلالةٍ ما على لاحِقة الألف والنُّون، التي يعتبرُها النَّحو التَّقليدي زائدةً؛ ونعتبرها ذات مغزًى محدَّد، يُشيرُ إلى الدَّرجة القصوى من الفعل المعنيِّ، ممَّا يُعطي بُعداً دلالياً جديداً لكلماتٍ مِفتاحيَّة في لغتنا العربيَّة، مثل: الرَّحمن-القرآن-الشَّيطان. أمَّا الأقانيمُ الثَّلاثة (العالم أو الواقع الموضوعي، واللُّغة، والعقل)، فقد حرصنا على ربطها، على مستوى الدَّال، بهذه اللَّاحقة المُهملة، حتَّى تلتئمُ - على تشظِّيها - بناظِمٍ نوني، يُشيرُ مواربَةً إلى تداخلها، ووصولها في نهاية الأمرإلى غايةٍ قصوى، وهي الدَّلالة: كيان-عرفان-بيان.
وبما أنَّ الصِّلة بين الثَّلاثةِ أقانيمَ قائمةٌ على آليَّةٍ اعتماديَّة (سوبرفينيَّة)، فإنَّ أولويَّة اللُّغة البيانيَّة، مثل أولويَّة العالم الكيانيَّة، تتضافرُ عبر السِّياق في الكشف عن عِرفانيَّتها، التي مصدرها هو العقل (وليس الإشراق أو الغنوص، كما في المذاهب الصُّوفيَّة، مع تقديرنا لرؤيتها الثَّاقبة).

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

عودة خلف أسعدتني، ولا أزيد

كتب خلف: (إنَّما الإلحادُ في جوهرِه مَيلٌ عن الحقِّ، وليس اختلافاً ضروريَّاً من أجل الوصولِ إلى الحقيقة)

كيف ذلك والإلحاد يمكن اعتباره اختلاف ضروري من أجل الوصول إلى الحقيقة، كون الإلحاد ينتج عن محاولة فهم الحياة ووجود إله من عدمه.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الأعزاء والعزيزات، متابعو ومتابعات هذا الخيط، نعتذر عن التغيُّب غير المقصود.
فلنرحب بعودة محمد خلف مواصلاً مناقشته مع الصادق إسماعيل:












ترحيبٌ بنشرِ الوعي، علاوةً على تعميقِه، من غيرِ إهدارٍ لسياق الحِراك الجماهيري






ظللنا نُردِّدُ في هذا الرُّكن منذُ أوَّلِ عهدِه أنَّ رسالتي إلى القصَّاص - بصفتها طقساً جماعيَّاً، واحتفاءً بحركةٍ ثقافيَّة مكتملةِ الجوانب - لا تتنفَّسُ إلَّا بمساهماتِ عددٍ متنامٍ من القرَّاء، هذا من جانب؛ ومن جانبٍ آخر، حرصنا طيلة الوقت على أن تأتي مشاركاتُنا مصحوبةً بسياقٍ ملائم. وكم أثلجت صدورَنا مداخلاتُ الأستاذ الصَّادق إسماعيل، لِما فيها من اِلتفاتاتٍ ثاقبة وتساؤلاتٍ تُحرِّضُ على مزيدٍ من الاستقصاء والتَّعميق؛ فهل يسمحُ سياقُ الحِراك المحتدم حالياً في السُّودان بالتَّناولِ المتعمِّق لِما أُثير من قضايا هامَّة ضمن هذا الرُّكن البديع؟
للإجابة على هذا السُّؤال، يُمكِنُ التَّمهيدُ بتسليطِ الضَّوء على ثلاثِ نقاط:
أوَّلاً: لو كان الحِراكُ أمراً عابراً، لتوقَّفت له الحركةُ هُنَيهَةً حتَّى يعبُر؛ ولكنَّه استطالَ حتَّى تحوَّلَ إلى ظاهرةٍ ثقافيَّة متعدِّدةِ الأنشطةِ والاهتمامات، فكان لا بدَّ أن تُثرى السَّاحةُ بالأجملِ والأروع والأقيم والأعمق، وبما هو أنفعُ وأجدى لحياةِ النَّاس.
ثانياً: لم نألُ جهداً ضمن مشاركاتِ هذا الرُّكن في طرحِ أكثرِ القضايا تعقيداً، وفي مساءلةِ عددٍ من الأطروحاتِ الشَّائكة، من غير أن نلمسَ نفوراً من القرَّاءِ أو تراجعاً في المقروئيَّة (ريدرشيب).
ثالثاً: رغم انشغال النَّاس بالحِراك اليومي، لم ينفضِّ القرَّاءُ عن الرَّكن، بل زادَ عددُهم بشكلٍ ملحوظ.
لذلك، يُمكِنُ باطمئنانٍ شديد الاقترابُ من تساؤلِ الصَّادق، في محاولةٍ للإجابة المستفيضة على سؤالِه المهم، وهو ما جاء ضمن استفسارِه يوم الثُّلاثاء 26 فبراير، قائلاً: "كتب محمَّد خلف: (إنَّما الإلحادُ في جوهرِه مَيلٌ عن الحقِّ، وليس اختلافاً ضروريَّاً من أجل الوصولِ إلى الحقيقة)؛ كيف ذلك والإلحاد يمكن اعتباره اختلافاً ضروريَّاً من أجل الوصول إلى الحقيقة، كون الإلحاد ينتج عن محاولة فهم الحياة ووجودِ إلهٍ من عدمه"؛ عِلماً بأنَّ ما أشار إليه الصَّادق في مقدِّمة الاستفسار قد كُتِبَ في 25 نوفمبر، أي قبل بدءِ الحِراك بحوالي 24 يوماً؛ وقد جاءتِ الفقرة مثار التَّساؤل في ختامِ مشاركةٍ خصَّصناها للدِّفاع عن السِّر السَّيِّد الذي كان يواجه بدءَ حملةٍ لتكفيره، أخمد اللهُ نارَها بانشغالِ الخصم باشتدادِ الحِراك، الذي من المؤمَّل أن يقتلعَ الفكرَ التَّكفيريَّ من جذورِه؛ آملين في ذاتِ الوقت أن تنجحَ الإجابةُ التي نتقدَّم بها في تبيانِ تهافت الدَّعوة الإلحاديَّة، على وجهِ العموم.
تعتمد الفقرة المُشار إليها على فهمِنا القائم على التمييز بين الحقِّ والحقيقة، وعلاقة اللَّاتماثل القائمة بينهما؛ وهُما الأمرانِ اللَّذانِ ظللنا نؤكِّد عليهما كلَّما سَنَحَ سانحٌ أو انبثق سياقٌ ملائم لإيرادِ مزيدٍ من التَّوضيح بصددِهما؛ لذلك يلزمنا أوَّلاً تقديمُ الشُّكر للصَّادق لتهيئته لهذا السِّياق. كما نستميحُ القرَّاءَ عُذراً بإعادةِ إيرادِ الفقرةِ كاملةً بإبرازِ جزئيها، حتَّى تتضحَ أكثر؛ فقد قلنا: "إنَّما الإلحادُ في جوهره مَيلٌ عن الحقِّ، وليس اختلافاً ضروريَّاً من أجل الوصولِ إلى الحقيقة"؛ في حين جاء استفسارُ الصَّادق مُسقِطاً للحقِّ، ومُبرِزاً للحقيقة؛ وكان يمكنُ أن نكتفي بهذا القدر من الإجابة، لولا أنَّنا لمِسنا سانِحةً كريمةً للتَّوضيح؛ خصوصاً وأنَّنا وَعَدنا في ردِّنا على استفسار علاء محمود، الذي جاء بعد اطِّلاعِه على مشاركة "الحقيقة لا تقتربُ من الحقِّ إلَّا بالتئامِ الشَّتات"، التي نشرها القصَّاصُ في موقع "الممر"، الذي يشرف عليه مامون التِّلب – وَعَدنا بأنَّنا سنُميِّزُ في هذا الموقع "بين العلم والمعرفة؛ والكلام والقول؛ والإرادة والقصد؛ مثلما ميَّزنا من قبل بين الحقِّ والحقيقة".
لكي نضعَ مرتكزاً لهذا التقييم، علينا أن نسترجعَ ما ذكرناه عن الأقانيم الثَّلاثة التي تُشكِّلُ أقسام الحقيقة المتشظِّية؛ وهي العالم (أي الواقع الموضوعي)، والعقل، واللُّغة؛ وقد نبَّهنا من قبلُ إلى تداخلِ هذه الأقانيم، إلَّا أنَّنا نُضيفُ هنا بأنَّ تداخلَها يتمُّ على مستويَيْن أساسيَيْن: مستوًى حركيٌّ فعليٌّ، يشملُ النٌّشوء والتَّدورُن بتمدُّدِ المكان وارتباط اللَّاحق زمانياً بالسَّابق، وفقاً لآليَّةٍ اعتماديَّة (سوبرفينيَّة)؛ ومستوًى سكونيٌّ، يشتملُ على الإنشاءِ بفعلٍ عقلي، تكتسبُ فيه الأشياءُ، ضمن وضعها المكاني، بُعداً آنيَّاً (سينكرونيَّاً). وتبعاً لهذين المستويَين، يضطلِعُ كلُّ أقنومٍ، على ما به من تشظٍّ، بدور الهيمنة على بقيَّة الأقانيم. فالعالمُ، بما له من أولويَّةٍ ماديَّة، يُهيمنُ بتشيُّؤهِ على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في الكون؛ ولا تصلُحُ معرفةٌ به، إلَّا إذا شكَّلت حركةُ التَّدورن الفعليَّة أساساً لكلا الأقنومَيْن الآخرَيْن (نشوء الدُّماغ وتدورُّنه أساساً ماديَّاً للعقل؛ وبروز الأصوات أساساً ماديَّاً سمعيَّاً للكلام، والحروف أساساً ماديَّاً بصريَّاً للكتابة؛ وهُما القسمانِ الأساسيانِ للُّغة).
ويمارس العقلُ هيمنته بإنتاجِ بدائلَ آنيَّةٍ تعتقلُ حركيَّة العالم حتَّى تتمَّ معرفته؛ فالعالمُ لا يظهرُ إلَّا به، وهو (أي العقل) يبدأ بالحواس أوَّلاً للتَّعرُّفِ عليه (أي العالم) بشكلٍ لصيق، لكنَّه لا يقنعُ إلَّا بتجاوزها (أي الحواس) إلى إنتاج صيغٍ آنيَّة لمعرفة العالم في غيابِه (ماضياً ومستقبلاً)؛ فتأتي العلومُ الطبيعيَّة في شكلِ صيغٍ رياضيَّة يطمح العلماءُ في وضعِها في شكلٍ مختصر (لا يتعدَّى صفحةً واحدة)، يُمَكِّنهم من معرفة كلِّ شيء في هذا العالم، لذلك يسمُّونها "نظرية كلِّ شيء"، فهي بالفعل في طورِها النَّظريِّ الأوَّلي؛ وتأتي معرفته لطريقة عملِه نفسِه في شكلِ صيغٍ منطقيَّة، يرى بعضُ الفلاسفة (من ضمنهم لودفيغ فيتجنشتاين في فلسفته الأولى) أنَّها تشكِّل صورةً للعالم "الخارجي"، لكنَّه اقتنع في فلسفته اللَّاحقة بأنَّ الدَّلالة اللُّغويَّة لا يُمكِنُ حصرُها في أطرٍ منطقيَّةٍ ضيِّقة.
وإذا كانت هيمنة العالم تقومُ على حركة التَّدورُن الفعليَّة، وهيمنة العقل تقومُ على الإنشاء الآني (وهما المستويانِ الأساسيانِ اللَّذانِ أشرنا إليهما آنفاً)، فإنَّه لم يتبقَ للُّغة لكي تمارس هيمنتها إلَّا إحداثُ مزجٍ مُحكَمٍ من المستويين؛ وبالفعل، تتأسَّسُ اللُّغة، أيُّ لغةٍ، من مبنًي ومعنًى؛ ولا يُضاءُ العالمُ، ولا يعملُ العقلُ، إلَّا بمزجِهما معاً في هيكليَّةٍ تشكَّلَ أساسُها الماديُّ من علاماتٍ شتَّى، تشمل حركة الجسم وتعابير الوجه ولغة العيون، فالأصواتِ فالحروف؛ ثمَّ تتوسَّط بالنَّحو والتَّركيب، فالأداء؛ حتَّى تأتي قمَّتها في معانٍ تحملها إشاراتٌ تقودُ إلى دلالة.
وفقاً للمنظومة المغلقة للحقيقة بأقانيمها الثَّلاثة المتداخلة، يُمكِنُ لفهمٍ متزمِّتٍ أن يُنكِرَ وجودَ خالقٍ لهذا العالم المادي، فالفحصُ الدَّقيق لمحتوياته لا يُشيرُ مباشرةً إليه؛ وهذه بالضَّبط هي الإجابة التي يُقالُ بأنَّ العالِمُ الفلكيُّ الفرنسي بيير-سايمون لابلاس قد أدلى بها إلى نابليون، حينما سأله: أين يوجد الله ضمن النظام الذي وضعه للكون في كتابه الجديد، فأجاب بأنَّه لم يكن بحاجةٍ إلى هذه الفرضية (أي وجود الله).
كما يُمكِنُ لعالمٍ مثل ريتشارد دوكنز أن يرفض الاستدلال الشَّهير الذي صاغه ويليام بيلي بشأنِ وجودِ ساعةٍ في أرضٍ قفر، فهي في رأيِّه، خِلافاً لحجرٍ مُلقًى في البرِّية، تُشير إلى وجودِ صانع؛ فكان ردُّ دوكنز عليه بأنَّه إذا كان هناك صانعٌ لها، فلا بدَّ أن يكونَ صانعاً ضريرا، في إشارةٍ إلى قدرة الانتقاء الطَّبيعي على صنعِ أنظمةٍ بيولوجيَّة بديعة، من غيرِ حاجةٍ إلى خالق.
هذا ما كان بشأنِ الحقيقة، إلَّا أنَّ فهمنا يتأسَّسُ على تمييزٍ حادٍّ بين الحقِّ والحقيقة، إضافةً إلى علاقة اللَّاتماثل الصَّميميَّة القائمة بينهما. ولكن نسبة لطولِ هذه المشاركة، سنُرجئُ حديثنا إلى حلقةٍ قادمة، نُضيءُ فيها أهميَّة الحقِّ في تدشينِ حداثةٍ لا تُقصي أحَدَاً، بالتَّمهيد لذلك بتجربةِ الحداثةِ الأوروبيَّة - التي تأسَّست على خلفيَّة حركةِ إصلاحٍ ديني - من غير أن تنجحَ في سدِّ الفجوة التي تركها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أو الثَّغرة التي خلَّفها إيمانويل كانت، المدشِّنُ الفعليُّ لحركة التَّنوير الأوروبيَّة.


محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

قبل أن يواصل محمد خلف الاستجابة لتساؤل الصادق إسماعيل، يتعرض ها هنا لموضوعة اقتضاها الحراك الثوري الراهن، وهو تعرُّض غير بعيد، مع ذلك، عن أطروحته عن "التمييز بين الحق والحقيقة"، والتي سيواصل الاستناد عليها في الرد على الصادق:





كتائبُ الظِّلِّ والكشفُ عمَّا تكتبُه الظِّلال: فُسحةُ أملٍ وتأمُّلٍ بين "الحصَّة قصَّة" و"الحصَّة وطن"





وَعَدنا في الحلقةِ السَّابقة بالإجابة على تساؤلِ الصَّادق إسماعيل بشأنِ مقولتنا حول تهافت دعوى الإلحاد، وفقَ فهمِنا الذي يتأسَّسُ على تمييزٍ حادٍّ بين الحقِّ والحقيقة، إضافةً إلى علاقة اللَّاتماثلِ الصَّميميَّة القائمة بينهما؛ إلَّا أنَّ سياقاً جديداً قد انفتحَ لتناولِ موضوع "الالتفاف حول الحقيقة" (أو تجاوزها - "بوست تروث")، وارتباطِه بالأنباء الكاذبة "فيك نيوز"، وارتباطِ كلِّ ذلك بعمليات التَّضليل والإيهام المتعمَّدِ في شبكةِ الإنترنت، وبالأخصِّ وسائل التَّواصل الاجتماعي؛ وهو موضوعٌ مختلِفٌ عن موضوع "اللَّاحقيقة" الفلسفيِّ والبلاغي، الذي سنتطرَّقُ إليه عند تناول دعوى الإلحاد في ضوءِ الحقِّ، (عِلماً بأنَّ الحقَّ - خِلافاً للحقيقةِ - لا ضدَّ له)؛ علاوةً على أنَّه موضوعٌ فرَضَهُ سياقُ الحَراكِ الدَّائرِ فَرضَاً، سواءً كان ذلك في الفضاءِ الإلكتروني أو ساحةِ الاعتصام.
غير أنَّ هناك خيطاً منطقيَّاً يربِطُ ما فرَضَهُ علينا السِّياقُ بموضوع الحقيقة المتشظِّيَّة، (بأقانيمها الثَّلاثة، التي سنتَّخذها في الحلقةِ القادمة مدخلاً لإثباتِ تهافتِ دعوى الإلحاد)؛ وهو أنَّ الواقع، بأولويَّتِه المادِّيَّة المُستندةِ إلى آليَّةٍ اعتماديَّةٍ "سوبرفينيَّة"، ليس هو دائماً كما يتراءى لنا بأعينِنا؛ مثلما أنَّه ليس بالضَّرورةِ متطابِقاً مع تصوُّرِنا الذِّهنيِّ له أو تعبيرنا اللُّغويِّ عنه. وكذلك، فالأنباء المتداولة في شبكةِ الإنترنت، حتَّى لو كانت مصحوبةً بصورٍ وتسجيلاتٍ صوتيَّة واضحة، ليست هي بالضَّرورة حُجَّةً لناشرِها، مثلما أنَّها ليست بالضَّرورةِ حُجَّةً عليه؛ فالأمرُ برُمَّتِه يحتاجُ إلى غربلةٍ للوقائع، وتمحيصٍ للحقائقِ المُدَّعاة، واستدلالٍ منطقيٍّ سليم لاستخلاصِ النَّتائج التي يقودُ إليها؛ وكذلك، هو الحالُ مع الظَّواهرِ الطَّبيعية؛ فعلى سبيل المثال، كرويَّةُ الأرضِ يتمُّ الوصولُ إليها عن طريق الاستدلال العلمي، لتحلَّ محلَّ تسطُّحِها البادي للعيان؛ وكذلك الأمرُ مع دورانِ الأرض حول الشَّمس، الذي يحلُّ محلَّ حركتها الظَّاهرية التي تتراءى لنا دوماً عبر مسارِها اليوميِّ من المشرقِ إلى المغرب.
في ظلِّ الحَراكِ اليوميِّ المتسارع، قد لا يتوفَّرُ وقتٌ كافٍ للتَّأمُّل والالتزامِ التَّام بما يتطلَّبه الاستدلالُ السَّليم، الأمرُ الذي قد يُعزِّزُ من مخاطرِ الانزلاقِ في التَّخبُّط واتِّخاذِ القراراتِ التَّاريخيَّةِ الخاطئة، إلَّا أنَّنا نُبصِرُ فُسحةً للأملِ بين ما نخُطُّه هنا في ركنِ "الحِصّة قصَّة" بموقع "سودانفورول" وبين ما يُخطِّطُ له الشَّبابُ في أركانِ "الحصَّة وطن" بساحةِ الاعتصام. وكنَّا قد رحَّبنا في الحلقةِ السَّابقة بنشرِ الوعي، مع التَّنبيه على أهميَّةِ تعميقِه، من غيرِ إهدارٍ لسياقِ الحَراكِ الجماهيري (الذي لا نشكُّ في إمكانيَّةِ نجاحِ تدورُّنِه ثورةً عارمة تؤسِّسُ لوضعٍ سياسيٍّ مغاير)؛ فإذا كان أمرُ كتائبِ الظِّلِّ قد انكشفَ من خلال تصريحٍ سابقٍ لمُنشئها في وسائلِ الإعلام الرَّسميَّة، وعبر ما يرِدُ تِباعاً من تسريباتٍ عبر وسائلِ الإعلام الاجتماعيَّة، فإنَّ ما تكتبُه الظِّلالُ لا زال بعضُهُ عصيَّاً على فكِّ التَّشفير. فهذه الكتائبُ الإلكترونيَّة لن يهدأ لها بالٌ، حتَّى تُزَعزِعَ الاستقرار وتعصِفَ بمكتسباتِ الثُّوَّار؛ أو بحسبِ تعبيرِهم العامِّيِّ (الدَّارجيِّ) الدَّقيق، فإنَّ هذا "الجِدادَ الإلكترونيَّ" العُصابيَّ لن يكُفَّ عن السَّهرِ، حتَّى ينجحَ في تقويضِ ما تمَّ إنجازُه بالتَّعبِ، والعرقِ، وبذلِ الدِّماء.
وبما أنَّه لا وقتَ كافياً للتَّمحيصِ والتَّدقيقِ وتجويدِ الاستدلال، فإنَّ التِّرياقَ المضادَّ للفوضى الخلَّاقة، والكابِحَ الناجِعَ للشَّائعات، والمعطِّلَ الفعليَّ لأنشطةِ "الجِداد"، هو التَّمسُّكُ بوحدةِ الصَّفِّ (مهما اشتدَّتِ الخلافات)، ووضعُ العينِ نصبَ الهدف (مهما تعدَّدتِ الشَّواغلُ الصَّارفةُ للانتباه)، والعملُ وفقَ ما تمَّ الاتِّفاقُ عليه (مهما تسلَّلتِ الشُّكوكُ إلى فحواه أو جدواه)، وأخيراً، التَّجاهلُ التَّامُّ لنقنقتِهِ فيما هو يبيضُ أكاذيبَ سوداءَ (مهما تراءتِ الحقائقُ في ظاهرِها مَوطِئاً راسِخاً لخطابِه). وممَّا يُسوِّغُ هذا الموقف، هو أنَّ الجانبَ الآخرَ يعتمدُ في مواجهتِه على تراتبيَّةٍ صارمة، تنصَبُّ فيها الأوامرُ من عَلٍ إلى أسفلَ من غيرِ تفكُّرٍ أو احتجاج؛ على أنَّ ما يُرجِّحُ قوَّةَ هذا الموقف في هذا الجانب، هو اعتمادُه على قيادةٍ تمضي دوماً على بركةِ الله، بعد أن تتلقَّى التَّغذيةَ اللَّازمةَ من قواعدِها العريضة في ساحةِ الاعتصام؛ والتي لا تتوانى لاحِقاً في "الانصبابِ" حتَّى آخرِ الشَّوطِ (مهما كانت عواقبُه).
وبناءً على هذه التَّغذية، نتوقَّع من القيادة أن تُحقِّقَ أقصى درجاتِ المكاسب؛ وأدنى تلك المكاسبِ حُكمٌ مدنيٌّ، مُبرأً من الشَّوائب؛ وبما أنَّ القيادةَ، بحُكمِ تكوينِها الأصليِّ، جسمٌ نقابي، مُضافاً إليه مستوًى حزبي، فإنَّنا نتوقَّعَ أن يتمَّ التَّفهُّمُ لبعضِ القضايا الشَّائكة التي يتمخَّض عنها التَّفاوض، إن خلُصت نوايا المفاوَضين؛ وفي هذه الحالةِ فقط، أي حالةِ إظهارِ حُسنِ النَّوايا من الطَّرفِ الآخر، فإنَّنا لا نطلبُ من القيادةِ تسويغاً فقط لِما تمَّ التَّوصُّل إليه، وإنَّما نطلبُ منها أيضاً تسويقاً سلِساً للقراراتِ الصَّعبة التي يتمُّ اتِّخاذُها؛ كأن يتمَّ اختيارُ خطيبٍ مُفوَّهٍ قادرٍ على توصيلِ فحوى الاتِّفاقاتٍ بلغةٍ بسيطةٍ ومفهومة، وأن يكونَ قادراً على إقناعِ الجماهير العريضة في ساحةِ الاعتصام بقبولِها؛ وأن يكونَ قادراً كذلك، في حالةِ التَّمنُّعِ أو الانقسام، على امتصاصِ الغضبِ ومنعِ التَّفلُّتات؛ فالأمرُ المتوقَّع بوجودِ العسكرِ طرفاً في التَّفاوض، أن ينالوا قدراً من المكاسب، وأن ينعموا بشكلٍ ما من أشكالِ الحماية.
في حلقةٍ سابقة، نوَّهنا إلى أنَّ "الحقيقة لا تقتربُ من الحقِّ إلَّا بالتئامِ الشَّتات"؛ وفي هذه الحلقة، عوَّلنا على جِماع الرَّأيِّ باعتباره سبيلاً وحيداً لتحقيقِ أهدافِ الحَراك؛ وفي حلقةٍ قادمة، سوف نستأنِفُ محاولةَ الرَّدِّ على تساؤلِ الصَّادق إسماعيل، بتوسُّلِ الحقِّ عبر ذاتِ الإجماع، وبتبديدِ أوهامِ الإلحاد، موضِّحينَ في نفسِ الوقتِ حالةَ التَّشظِّي التي يتَّسمُ بها مجالُ الحقيقة، بأقانيمها الثَّلاثة: العالم، والعقل واللُّغة؛ بدءاً من أسطورة الكهف، وما كتبته الظِّلالُ على جُدرانِه، حسبما رواها أفلاطونُ في الكتابِ السَّابعِ من مُحَاوَرةِ "الجُمهوريَّة".

محمد خلف
أضف رد جديد