و نحن من نفر عمّروا الأرض في ألمانيا أيضا

Forum Démocratique
- Democratic Forum
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »


سلام يا حسن،
وتقول: (يا أبو جودة، ترفق بنا عشان موضوع الترجمة دا ـ زيه زي أخوانه [ الفينقة و الأشرنة و الفرعنة و الزنوجة و العربنة و الغربنة و الشرقنة ..] محتاج لأكثر من الإدانة العجولة التي فشيت بيها غبينتك من عيال الشوام. و أصبر علينا ينوبك ثواب.) ..
كلامك صاح، وبالطبع سأحاول؛ وأراك لم تُخطيء في وصفك غبينتي، والتي أصِفها بأنها غبينة أدبية ساي، تتوسّل بال فَشِّ أملاً في وَجَدان ما تحته من "عنائب" أو "دبائب" وفي كُلٍّ بمجالي الأدب، خيرٌ يُرتَـجى. مع أني مـُنغرِس هذين اليومَين في دراسة عربية تقول: إنّ للعولمة أثراً سالباً على لُغة العرب! ولا أجد في نفسي كبير تصديق لمثل هذه النتيجة الصّلعاء؛ لاسيما وقد قرأتُ بِعَينَي ال مُصطفى منذ الثمانينات.

تلزمني غشوات لمولانا "مارسيل دوشان" وحكاية الـ Ready made وأظنّها فِكرة مُغايَرة لما أنهمِك فيه من قناعة متحرّكة في كون "الإبداع" منبعه داخلي من (الأنا) ثم يتلقّف في سيرورته نحو (الآخر) ممّا يتلقّفه من "خارج"؛ وهنا أرجع لقولك: (يا مصطفى أظن أن " التناص" الواعي أو الغافل ـ هو في نهاية التخليل ـ طريقة في الكتابة. و طرائق الكتابة تتعدد بتعدد الكتاب) .. لأقول - غير متأكِّد - بأن التّناص الواعي أو الغافل، هو في نهاية التخليل، الطّريقة في الكتابة، مهما تعدّدت طرائق الكُتّاب. مع احتفاظي ببعض التحفّظ على "واعي" التناص..! حينما يبدو في احتيازه بعضُ استسهال..! وهل من شاهدٍ أكبر من التناص الكامبل/درويشي؟

أما في قولك، عن صاحب الـReady made: ( إن معنى الأثر الإبداعي إنما يكمن في الطريقة التي ينظر بها الناظر أكثر منه في الثنايا المادية و التقنية للأثر الإبداعي) ..فقد أحالني سِراعاً لكلام قرأتُه للدكتور مصطفى محمود، في كتابــه (أحاديث منتصف الليل)، حيث يقول: " الجمالُ، قيمة تُطلَب لذاتِها دون حاجةٍ لقيمة أخرى تُبَرِّرها؛ هو لِذّةٌ ضافية تُبرِّر نفسها بنفسها، وشرارة تُشعِل في نفوسِنا الإحساس بالنشوة والسعادة بدون وِساطة. ســِرُّ الجمالٍ في لحظة الاتّصال بين نفسٍ وَ موضوع، ولا يوجَد الجمالُ في الموضوع، بل في النّفس المــُعَــدّة كي ترى وتُصغي وتحِسُّ"؛ ثم ينهال عليّ عدم تأكّدي (أو قُل: تـجـَــبُّري!) وما إن كان الدكتور المرحوم قد كتب بتناصٍّ واعٍ.

حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

رسالة من حامد فضل الله

مشاركة بواسطة حسن موسى »


رسالة من حامد فضل الله


السلام ليكم يا حسن موسى ومحمد أبو جودة ومصطفى آدم.
منذ أن تفضل حسن بنشر نماذج من كتابنا الجرماني في سودان فور أول، وانا اتابع بشغف واهتمام وفرح لتعليقاتكم ونقدكم المتواصل. وكان في نيتي، ان اعود اليكم بعد نشر جميع النماذج ولكن بعد نشر قصيدتي صلاح يوسف ومصطفي بحيري ومصادفة محمد " يوم بؤسٍ " ضد شعر القصيدة النثرية"، دفعني مبكراً الى كتابة هذه السطور. أولا، إنني دقة قديمة، فيطربني ويهزني ويخاطبني الشعر الموروث و القصيدة المقفاة أو القصيدة المرسلة الموزونة، فأدوات الشعر هي الوزن والتقفية. صحيح ان قصيدة بحيرى بسيطة في كلماتها ولكنها لا تخلو من صور جميلة. وتم اختيار ترجمتها عن قصد، لأنها تتعرض لقضايا اللاجئين و الاندماج ومعاناة الغربة والتوحد و العزلة وهى القضايا التي تسيطر الآن على الساحة الالمانية. جاءت الترجمة الالمانية معبرة جداً واصابت الهدف، اما التعبير الأكثر ابداعا لكلماتها، فجاء من خلال لوحة، رسمة حسن موسى التي زينا بها صفحة الغلاف الأمامية.
و هنا نص نثري أخر لـ مصطفى بحيرى، عذبنا عذابا غليظا في ترجمته:

.. فـــــنــدق مـحـطــة بـرلـيـن لـلـقـطــارات

.. سَـهِـروا لـيـلـةَ الأمـسِ .. في الـبـهـوِ هـُنـا . سَـكِـروا لـوقـتٍ مـُتـأخِـر ْ. الـرِجـال ُالأربـعـيـنـيـونَ إنـطـفـأَ فـيـهـم الـلـبـيــدو . الـنـسـاءُ زَجـَجــْن َبـمـاءِ الـرِيـقِ حـواجِـبـَهـُنَّ ، خـَلـــّفـــْن َشــَهــَـواتٍ عـَلـِقـــْن َحـَـواف َالكؤوس الـرِهـاف ْ
هـاهـــُم لِـتــّوِهـم ْصــَعــَدوا ، أز الـسـُلـم ُالـخـشـبي ُتـحــت َوطـأتــِـهــِم ْ. جـابـوا الـرُدهـات َ بحــْثــاً عـن ْغـــُرَفٍ أضـاعـوهـا .. و أضـاعــوا الـمـفـاتـيـح ْ. سـَحــَقـوا أعـقـاب َلـــُفـافـاتِـهِـم ْعـلي الـسِـجـادِ. بـصــقـوا . بـذِئــوا و أغــْلـــَظـوا الـنــُزلاءَ الـطـيـبـيـن ْ.
قــــَلـــَبـوا لـوحـات َ َكانديـنـسكي الـمـنـسـوخـة أعـلاهـا لأسـفـــَلِـهـا _ فـمـا ضـلـــّت ْوجـهــة الـدهـشــة _ . كـــَسَـروا أزمـِنــة الـسـَـردِ هـــَدّوا عــمــود َ الـقـصــيــد ْ. فـتــَحــوا في آخــرِ الـمـَمــرِ نـافِـــذة .. جـاء َالـشـارع . جـاءت ْقــــَيـّمــَة الـغـــُرَف ْ، ضــربـوا عـجـِـيـزَتــــَهـا ضــربـاً غـيــر َمــُبــْرِح ْ. قـالـت ْ: هـؤلاءِ الـحــُثـالـة . ثـم قـالـت ْآهِ و انـفـــَلـــَتــَت ْ. أكان َضــربـاً مِـن الـضــربِ لـذيــذ ؟! .. ثــــَمــَـة الآن َهدوء .
تـــُراهــُم ْاتـكأوا .. أم ْاضـَجــعـوا ؟ ..
هـل ْخـلـعــوا الأحــذيـة و الـجـوارب َالـمــُتــَيـبِـسـة الـنـَتـِنــة ؟
هـل ْنـامــوا ؟ ..
رُبــمـا مـاتــوا ..
ثــــَمــَـة الآن َهدوء كــــَذاك َالـذي يـعــْقـــُب ُالـمـذبـحــة .
.. صــبـاح ُالـكـنـيـســةِ الـمــُجـاورة .. رَنَّ الـجــَرس ُالنــُحـاس ْ،
فـمـا أقـــَض ّلـهــَم ْمـضـَـاجِـعـاً .
مـا أقـــَض ّمـضـاجـعـاً .
مـا أقــض ّ.
فـمـا ..
مـا ...
.. هـكـــذا إذاً : نــبـي ٌيـصـــرخ ُفي الـبــريـــة ..
و رنـيـــن يـســقـــُط ُفي بِــئـــرِ الـجــَرس ْ .

.. برلين يوليو 2004.
بـحــيـري.

أما قضية التناص، والذي لا يجد مصطفى آدم " أي مبرر لإيراد هنا مفردة سرقة ". أليس التناص في الواقع هو المرادف المودرن لكلمة السرقة ، و الشماعة التي يتعلق بها الشاعر أو الكاتب ليتحاشى سلخ وبهدلة الناقد المتبحر؟ أم يكفي ان نقول انه توارد الخواطر أو النسيان كما عبر عن ذلك كل من مصطفى وحسن.
اما قضية ترجمة الشعر، فهي بحق قضية شائكة. أنني اترجم عن الالمانية بعض القصائد القصيرة جداً واستشهد بها في مقالاتي، وهنا نموذج منها:

برتولد بريشتBertolt Brecht
للقراءة صباحا ومساء Morgens und abends zu lesen

ترجمة وتعليق د. حامد فضل الله

ذاك الذي أحبه
قال
إنه بحاجة لي
لذلك
أحرص على نفسي،
أتبصر في طريقي
وأخشى من كل قطرة مطر..
قد تفتكُ بي Der, den ich liebe,
hat mir gesagt,
dass er mich braucht.
Darum
Gebe ich auf mich acht,
sehe auf meinen Weg und
fuerchte von jedem Regentropfen,
dass er mich erschlagen koennte.

تقدم قصيدة الشاعر الألماني الكبير برتولد بريشت صورة مختلفة عن المتعارف عليه في الشعر العاطفي الوجداني. فلا أثر فيها لزرقة السماء وحلول الربيع وتغريد البلابل، ولا كلمة عن فرحة اللقاء ومرارة الوداع أو ألم الفراق. ورغم ذلك فإن كلماتها تقول الكثير عن الحب والعواطف الإنسانية. امرأة عاشقة أصبح شغلها الشاغل هو الحرص على نفسها منذ أن عرفت أن الذي تحبه يحتاج إليها. أصبحت تحرص على نفسها حتى من قطرة المطر التي لا تصيب أحداً بأذى. في القصيدة يمتزج حب الذات بحب الآخر. وهي بكلماتها المقتصدة تحمل الكثير من معاني الحب والصداقة والعذوبة. كتبت القصيدة عام 1937، في زمن الرعب، حينما كان المرء يخاف من طرقات الباب ومن زوار الفجر، وكان منتهى الحب أن يجد المرء يداً تمسك بيده ومكاناً يحميه.

سباق Wettlauf

هاينريش هاينه
ترجمة د. حامد فضل الله \ برلين

الغني يزداد غنىً

Heinrich Heine:


„Hat man viel, so wird man bald
noch viel mehr dazu bekommen.

والفقير يزداد فقراً. Wer nur wenig hat, dem wird
auch das Wenige genommen.

أما إذا كنت معدماً،
أيها الصعلوك، Wenn du aber gar nichts hast,

فلتدفن حياً! Ach, so lasse dich begraben,

إذ لا حق في الحياة denn ein Recht zum Leben, Lump,

إلا لمن يملكون شيئاً. haben nur, die etwas haben.“


اما اذا صح القول، بأن الشعر لا يترجمه الا شاعر أو كما يقول حسن " وكون هذا الشاعر اللابد وراء أكمة الترجمة لا يضع قناعه، فهذا لا يغير من أمره شيئا فهو شاعر...". فأذن قضيتي من الأول خسرانة.
ربما تمر هذه السطور بسلام. اما اذا " ولعتم" فينا من جديد وخاصة بعد ما فش محمد غبينته من عيال الشوام، فمرحبا، وسوف أكون أول الرابحين فكل ما قرأته حتي الآن من نقدكم ، فهو رصين وحصيف.
أخليكم بعافية.
حامد فضل الله \ برلين

صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

يا ألف مرحب بالنطاسي المُبدع د. حامد فضل الله

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]

يا ألف مرحب بالنطاسي المُبدع د. حامد فضل الله

أسعدتنا كثيراً والله بإطلالتك الطيبة، و"هاودتنا" بها، زيادة خيرٍ في أدب الألمان وعلومهم، فضل إسماحٍ وتزيين، وكان مبدءُ سعادتنا بما أشاعه لنا، بهذا المكان، أخونا حسننا ال عند الشدايد بنشرِ جُزء من كتابكم الجيرماني. وإنّه والله - على الأقل حتى الآن! - للكتاب الذي سيقول كُـتـــابه وكاتباته: هاؤمُ اقرأوا كِتابيه .. وهو على رَكٍّ من الثقةِ عظيم. فقد احتوى كتابكم من الأدب السوداني ألواناً مُشرقة مونِقة. وأثق تماماً أن سيكون له ما بعده، إن تمّّت قراءته وفق ما يُتَوَقّع لها. فهل هو الإصدارة الأولى؟ وهل ببرلين، معهد معروف للعلاقات الثقافية العربية الألمانية مثلاً؟

عن نقدنا، إخواني الكواشف وشخصي الضعيف، أجدني ممتنُّ لك، أن أجزتنا عليه بالرصانة؛ وأكّدتّ اهتمامك به؛ وذلك على الرغم من "التوليعات" التي درج معظمنا على "الانشعال" بها متى ما جاءت قَدَحة، أو حتى إن لم تجيء ..! لكأنّما الكل "واقف" ديدبان لِــ " تَشِّ أيِّ نَصّ " يَحِلُّ بالجوار، أو ظهرت عليه مخايل "الكُوار" :lol:

ولايفوتني في هذه العُجالة أن أتساءل: الم يتَبقّ أثرٌ باقٍ من تلك الاهتمامات الألمانية باللحن السوداني وإيقاعاته من مردوم و تُم-تُم و مجرور إلخ,,, تلك التي انتشرتْ عندنا في الخرطوم إعلامياً أواسط الفترة المايوية؛ وكانت الوفود الفنية بين "بون" والخرطوم، متواصلة، أيّام تلك الحرب الباردة.

لا أستبعد أن إصدارتكم ربما احتفت بالجانب الفني في مجال الموسيقى والصوتيات السودانية عموماً، وربما اصطحبت "الإصدارة" أسطوانة سمعية/مرئية تحمل رافداً ثقافياً سودانيا؛ وإن لم يحصل ذلك في الإصدارة هذي، ففي القادم أحلى إن شاء الله تعالى.

شكراً، من هنا، على إطلالاتك الكتابية الرائقة، بالسوداني الصحيفة، وقد قراتُ لك عددا، وأأمل في قراءة الكثير..


أكرر ترحابي، ولكم وافر التحايا

حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الجدار ..حامد فضل الله

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام للجميع
ألف شكر للصديق حامد فضل الله الذي أكرمنا بهذا " الجدار" العالي و لي أجر المناولة





الجــدار
قصة قصيرة

حامد فضل الله \ برلين

تتردد (م) منذ أربع سنوات على عيادتي بانتظام من أجل الفحص الدوري وتجديد وصفة أقراص منع الحمل. إنها امرأة في مقتبل العمر، ممشوقة القوام، شفتاها دقيقتان وعيناها واسعتان جميلتان، ترسل إلى الوراء شعرها الطويل ، أنيقة الملبس دون تكلف.
حكت لي في إحدى الزيارات أنها عاشت تجربة حب عاصفة مع زميل لها أثناء الدراسة.
".. كان شاباً طويل القامة، وسيماً، طلق اللسان مع ميل إلى الدعابة المحببة. وكنا نحن الفتيات نتنافس في التودد إليه، حتى فزت أنا بقلبه. كنا لا نفترق حتى أثناء العطلة الدراسية. ثم قطع علاقته معي فجأة ودون أسباب. كانت فترة عصيبة كادت تعصف بحياتي، حتى تعرفت على زوجي الحالي الذي يكبرني بسنوات قليلة، أثناء أحد المؤتمرات الصحفية، فأعاد لي توازني. رجل قوي الشخصية والبنية، ذو ثقافة واسعة ورفيعة، يعمل مديراً لإحدى الشركات الكبيرة."
ذكرت لي (م) قائلة: "عندما يحتوينا المخدع ويأخذني بين ذراعيه ويضمني شوقاً وفي لحظة الصعود، تداهمني صورة وتنفس صديقي السابق، فتتوتر أعصابي وأكاد أختنق. فأشعر في هذه اللحظة وكأنني أخون زوجي وأغدر به، ويتملكني الحزن وأتألم في صمت، غير قادرة على مفاتحته خشية أن أجرحه، فهو يحبني حباً صادقاً."
علمت أيضا أنها تعمل الآن محررة في إحدى الصحف البرلينية واسعة الانتشار. تحرر مع زميل لها، الصفحة الثالثة المختصة بالسياسة الخارجية وخاصة العالم الثالث.
وأصبحت منذ ذلك الحين أتابع كتاباتها التي تتصف بالموضوعية وبالتحليل الدقيق المنصف و النظرة الثاقبة خلافاً لغالبية الإعلام الألماني المتحيز ضد قضايا ومشاكل العالم الثالث.
كانت تحرص على أن تكون آخر مريضة أستقبلها، فهي تسرف في الحديث، سريعة الكلام، ورغم ذلك تأتي مخارج حروف كلماتها واضحة تمتزج بصوتها الرخيم، لدرجة أن المرء لا يمل الإنصات إليها.
كانت تناقشني وتسألني عن وطني، وأُدهش أحياناً لاطلاعها الواسع على التطورات التي تجري فيه، وليس فقط بسبب أزمة دارفور التي يشوبها كثير من الافتعال عبر الاِعلام الغربي وتختفي خلفها الأغراض.
لم تسألني أبداً لماذا تركت وطني، ذلك السؤال الذي يخشاه كل مغترب، وتندهش قائلة: ".. كلما يخرج وطنكم من أزمة يسقط في أخرى، هذا البلد الواسع بشعبه الطيب الذي يملك إمكانيات كبيرة يمكن أن تدفع به إلى عداد الدول النامية الناجحة."

كنت أجادلها أحياناً دون عقلانية متعامياً عن فسادنا وتخلفنا وقصورنا مدفوعاً بالغيرة الوطنية والهوية القاتلة وخداع النفس أمام الآخر.
وأسألها: ألا تخشين من مغبة كتابتك. فتقول إن زميلها في التحرير يشاطرها فكرها السياسي والاحترام المتبادل. كما أن رئيس التحرير صحفي متمرس وذكي، وقلما يتدخل في تقاريرنا تحاشياً لغضب الناشر. ولكن السند الحقيقي يأتي لنا من رسائل وتعليقات القراء.
قالت لي وهي تبدو حزينة، إن حلمها بالحمل لم يتحقق مذ تركت الأقراص قبل عامين. كنت أردد لها وأذكرها بأن كل الفحوص التي أجريت لها ولزوجها لم تثبت أن هناك أي سبب يمنع الحمل، وأن الأمر يتطلب قليلاً من الصبر. فتقول: "إلى متى والعمر يتقدم بي، وكل صديقاتي ومعارف زوجي أنجبن، وأسرة زوجي تضغط في انتظار الوليد."
كنت أخشى ألا تعود مرة أخرى. فأجدها فجأة أمامي، وأشعر بالزهو لأنها لا تزال مقتنعة بصواب تشخيصي.
جاءت مرة شاحبة الوجه، جلست قبالتي صامتة على غير عادتها. ولما شعرت بتوجسي، قالت لا داعي للقلق، ليس بي شيء وإنما مرهقة فقط من تراكم العمل. فحصتها كالمعتاد ونصحتها بأن تأخذ إجازة طويلة بصحبة زوجها. قالت: "كيف أستطيع أن أقنع زوجي منطقياً بأن يتخلى عن عادة العطلات القصيرة؟" قلت لها: هناك طرق كثيرة لا تحتاج إلى منطق تستخدمها المرأة لإقناع الرجل. فانفرجت شفتاها بابتسامة دالة

انفتح الباب واندفعت (م) بحيوية فائقة إلى غرفتي متخطية الممرضة، باسطة ذراعيها العاريتين أمامي، "ألا ترى أن سمرتي تفوق سمرتك!". قلت لها: ذلك وقتي وهذا دائم، وأشرت إلى بشرتي. ضحكت وأردفت:" يا لها من عطلة، ويا له من صيف! كان الهواء منعشاً نقياً، لم نشاهد قطرة مطر واحدة، والشمس لا تغيب حتى الساعة العاشرة مساء، تعقبها النجوم التي تزين قبة السماء الزرقاء الصافية، وينعكس بريق ضوئها على أمواج البحر بصورة خلابة. لا ننظر إلى الساعة ونستيقظ كما يحلو لنا ونتمطى في خدر عذب. وتواصل: "على مائدة الإفطار ونحن نتهيأ للرحيل، أحاط خصري بذراعيه وجذبني إليه وقال إنه لم يشعر في ليلة البارحة ونحن في قمة الذروة بمثل رعشة جسدي وحرارة أنفاسي من قبل. لقد كانت حقاً ليلة رائعة. تعلقت بعنقه ودفنت رأسي في صدره لأحبس دموعي، كأننا مراهقان."
نظرت إليها، غضت البصر وتوردت وجنتاها وصمتت خجلى كأنها أسرفت في البوح. وعندما ابتسمت لها أطمأنت وواصلت متمتمة: "حضرت مبكرة على خلاف المعتاد لأنني أشعر منذ أيام بثقل في ثدييّ مع شعور بالغثيان والدوار." فحصتها وقلت لها إن هناك بوادر حمل مبكر. لم ترد على كلماتي، وحتى عندما وضعت الممرضة نتيجة الفحص المخبري أمامها. بدت وكأن الكلمات انحبست في حلقها. أزالت بيدها الدموع قبل أن تنحدر على خديها، وتمتمت" لا أصدق....لا أصدق ...وكأنني في حلم. كيف أزف الخبر إلى زوجي؟"
نهضت، وقبل أن تخطو إلى الأمام، هتفت: "يا إلهي، لقد نسيت من فرط اضطرابي أن أخبرك بأنني، عندما كنت أتجول على الشاطئ وأستمتع بالرمال الناعمة الدافئة تحت قدميّ، شاهدت صديقي السابق يفترش الأرض، وقد ترهل جسده وتكورت بطنه وتساقط شعره. تطلعت إليه وبادلني نظرة خاطفة وانطلقت قبل أن يصيبني الدوار."
تقدمتها باسطاً يدي لها مودعاً، ضغطت عليها بدفء وامتنان قبل أن تتواري خلف الباب.

حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

العثرة ، حامد فضل الله

مشاركة بواسطة حسن موسى »



العثرة*


حامد فضل الله \ برلين



نورا امرأة في الثانية والثلاثين من عمرها، شقراء رشيقة القوام، تختار ملابسها بعناية، ترسل شعرها الذهبي الطويل إلى الأمام، وأحياناً تجمعه في ضفيرة طويلة واحدة ترسلها إلى الخلف، فتظهر تقاطيع وجهها: العينان الواسعتان والشفتان المكتنزتان والأسنان المنتظمة الناصعة البياض. صوتها هادئ النبرة، تتلون مخارج الحروف ببحة خفيفة تنجلي عندما تسترسل في الحديث، تضحك بعفوية دون التكلف الذي يفرضه أحياناً سر المهنة.

غادرت منزلها في الصباح الباكر مرتدية معطفها الخفيف بالرغم من حلول الربيع وصفاء السماء، تحسباً لتقلبات شهر إبريل، فهي تعمل في المبنى الرئيسي الشامخ للبنك الألماني الذي يحتل مساحة واسعة من ميدان إرنست رويتر في قلب مدينة برلين. يشاركها في المكتب المختص بالعقارات والتسليف ثلاث نساء متزوجات ورجل، جميعهم في سن متقاربة. زميلهن الطليق، ينهل من متعة الحياة، يتفاخر بعزوبيته، يبالغ في هندامه، خفيف الظل مهزار، له مقدرة فائقة على تقليد الأصوات والحركات وخاصة للسياسيين المشهورين بنفاقهم وخداعهم للجماهير، مما يدخل في قلوبهن الكثير من البهجة وهن غارقات بين الأرقام والاحصائيات والرسوم البيانية.

كانت نورا تفاجئه أحياناً وهو يتطلع إلى صدرها الناهد، فتتورد وجناتها وتغض الطرف لتتحاشى الرد على ابتسامته وبريق عينيه. ولكنها تزهو في الباطن بنظراته الخاطفة. دعاها أكثر من مرة لتناول العشاء معه، فكانت ترده بلطف مما شجعه إلى التودد إليها وتكرار دعوته.

بدت في الفترة الأخيرة شديدة الاكتئاب، قليلة الكلام، تُغرق نفسها في العمل لتجنب الأسئلة والخوض في الخصوصيات، حتى عادت زميلتها الأقرب إلى قلبها، بعد انقضاء فترة ولادة طفلها الثاني، لاحظت على التو اكتئابها وأصرت أن تذهب معها بعد نهاية ساعات العمل بحجة رؤية الوليد الجديد.

هناك أسرت لها نورا بأنها منذ أن اقترنت بزوجها منذ خمس سنوات، والذي يعمل مهندساً كهربائياً في شركة مرسيدس للسيارات، كانت ترغب وتتمنى منذ البداية أن تحمل وأنها زارت أكثر من طبيب اختصاص وباءت كل محاولاتها بالفشل وهي تشعر الآن بكثير من الاحباط وبتضاؤل الأمل. وقالت إن زوجها عبر لها أكثر من مرة وفي مناسبات عديدة عن حبه الصادق لها ولكنها غير مطمئنة. فزوجها ارتبط من قبل بفتاة حملت وقررت، رغم معارضته، التخلص من حملها خوفاً من والديها الكاثوليك ووضع والدها الاجتماعي في القرية، واستطردت أنها ترغب أيضاً في الأمومة.

اقترحت صديقتها أن تذهب معها إلى أحد الأخصائيين، الذي حضر حديثاً من مدينة هامبورج بالرغم من بعد المسافة، فعيادته تقع على أطراف المدينة وأنها على استعداد أن ترافقها فالطبيب كان زميلا لزوجها أثناء فترة الدراسة الثانوية.
استقبلها الطبيب بحفاوة وشعرت منذ الوهلة الأولى بالطمأنينة والثقة، فهو قليل الكلام مع قدرة فائقة على الانصات عكس ما تعودته من خبراتها السابقة.

بعد الفحص الأولي حدد لها مسار الكشوفات والتحاليل التي ستتلو.
في الميعاد الأخير رافقها زوجها لأول مرة. أطلعهما على النتائج التي كانت كلها مُطًمئنة. وقال لزوجها إنه يعرف قصة علاقته القديمة وبالرغم من ذلك يفضل أن يجري كشفاً له لتكتمل الصورة. أمن الزوج على كلامه وحدد له الطبيب مباشرة مسار الكشف.

في الصباح الباكر قبل مغادرته المنزل للعمل، نبهته إلى ميعاد الطبيب، قال أنه سيعود بعد الدوام ليذهبا سوياً.
اتصل بها في ساعة متأخرة من النهار وقال أنه لا يزال في زحمة العمل ولن يتمكن من المرور عليها ويفضل الذهاب مباشرة للطبيب كسباً للوقت بدلاً من تحديد موعد جديد ربما يطول. عاد متأخراً في المساء وطمأنها من النتيجة، ففرحت كثيراً وقبلته مراراً.

شعرت براحة نفسية وعادت الحياة إلى وتيرتها واندمجت في عملها وعلاقاتها وإن ظل الحمل هاجسها في اليقظة والمنام. وكانت عندما تشعر بثقل في الثديين أو انتفاخ في البطن أو تتأخر الدورة الشهرية لبضعة أيام، تذهب إلى الصيدلية للكشف السريع وعندما تشرف الدورة الشهرية، تصيبها موجة من الحزن. وكان زوجها يشفق عليها كثيراً وفكر أكثر من مرة أن يعرضها على طبيب نفسي، ولكنه خشي أن يتعقد الأمر أكثر.

أيقظته من النوم وقالت أنها تشعر بتغيرات في جسدها لم تتعود عليها في السابق. قرر أن يذهب معها لطبيبها الأول الذي لا يبعد كثيراً عن منزلهما وأن يبقى بجوارها خوفاً من انهيارها عندما يتبخر الحلم من جديد.
وكانت المفاجأة عندما بشرهما الطبيب ببوادر حمل مبكر وحدد لها الميعاد التالي لمواصلة الكشوفات الروتينية.

اتفق مع زوجته أن تواصل مع هذا الطبيب لقرب المسافة وخاصة أن الزيارات ستكون متكررة.

سعدت كثيراً بالحمل ولم تشعر بأي من المضاعفات أو الاضطرابات التي كانت تسمعها من زميلاتها ولم تتغيب يوماً واحداً عن العمل إلى أن حصلت على إجازة الحوامل القانونية.

كان زوجها يحضر دائماً إلى العيادة بعد أن تكون قد انتهت من الكشف، معتذراً بتراكم العمل وزحام المواصلات. وكانت تحكي له بفرح طاغي كيف أنها تتابع باهتمام على الشاشة الصغيرة مع الطبيب وهو يفحص الجنين بدقة متناهية – عضواً عضواً قبل أن يظهره في صورته الكاملة، وأطلعته على الصور الملونة الرائعة للجنين في أوضاع مختلفة، وكانت تكتم غيظها، فهو لا يعير الصور اهتماماً كبيراً فحسب، بل أيضاً تنزعج من طنينه الرتيب، مستعرضاً معرفته العلمية عن كيفية انتقال الموجات فوق الصوتية لتظهر كصورة تُرى بالعين المجردة.

جاءها المخاض في الصباح الباكر، اصطحبها إلى المستشفى عانقها وودعها بدفء.

اتصلت به الممرضة في مكان العمل تبشره بقدوم الجنين وسلامة الاثنين. حضر في المساء فوجدها في أبهى صورتها، مشرقة الوجه ولا أثر لمعاناة ساعات وآلام الوضع وقالت إنهم أخذوا الوليد منذ دقائق إلى عنبر الرضع بعد أن نام على صدرها.
قبّل زوجته بحنان وضمها إلى صدره وقال إنه سعيد بأنها تعدت فترة الحمل والولادة بسلام وأنجبت طفلاً سليماً.
نهض ليودعها. ضغط على يدها ولثم جبينها، تعلقت بعنقه وإذا به يجهش بالبكاء. ارتبكت وأصابها القلق، فزوجها معروف بصلابته مع مرؤوسيه وأحياناً مع زملائه. هل الأبوة تلين القلوب الصلدة؟ ما أغلى دموع الرجال، أسرت إلى نفسها. عند باب العنبر لوح لها مودعاً، أشارت له إلى اتجاه عنبر الرضع.

فحصها الطبيب وقال إنه يمكنها أن تغادر ووليدها المستشفى إذا رغبت فلا يوجد ما يستوجب بقائهما. لم تتصل بزوجها، فأرادات أن تفاجئه بوجودهما في المنزل..
دخلت المنزل فوجدت أكياس وأوراق مبعثرة على الأرض، أطباق وأكواب على حوض المطبخ.

وضعت وليدها على السرير وبدأت في جمع الأكياس، وانتبهت بأن خزانة ملابسه مفتوحة على مصراعيها. نظرت بالداخل فوجدت جميع ملابسه وأشياءه الخاصة قد اختفت، اضطربت وشعرت بالدوار، جلست على السرير تجنباً للسقوط.
اتصلت بالشركة، فقالوا إنه في اجازته السنوية.
دخلت إلى مكتبه لعله ترك رسالة مكتوبة. أوقفها صراخ الرضيع، رفعته ووضعته على كتفها وخرجت به إلى الشرفة الواسعة المطلة على الحديقة الصغيرة، مع نسائم الصيف العطرة، هدأ الوليد.
جلست على الكرسي الهزاز ووضعته في حجرها. رفعت عينيها صوب السماء الصافية وذهبت ببصرها بعيداً ، بعيداً، وغاصت في تأمل عميق. وفجأة نظرت إلى الرضيع، تطلعت على تقاطيع وجهه ولون عينيه وشعره. فطفا المكبوح وانفجر ما كان مكنوناً. ضمت وليدها بحنان إلى صدرها وانهمرت الدموع على خديها.


*
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

شرق و غرب

مشاركة بواسطة حسن موسى »


شكرا للصديق حامد فضل الله على بذل نص " شرق و غرب " من كتاب " كتابات سودانية" الصادر بالألمانية. [و أجر المناولة لا ينقطع].






شرق وغرب*
قصة قصيرة
د. حامد فضل الله \ برلين





خرجت في احدى أيام الأحد صوب البحيرة التي لا تبعد كثيراً عن مسكني، مصطحبا معي الكتاب كعادتي. الشمس مشرقة والسماء صافية. والربيع قد وضع بصماته علي الطبيعة. قمت بجولتي المعتادة صعوداً وهبوطاً بين الأشجار العالية والكثيفة، واشاهد الأطفال يتراشقون بمياه البحيرة ويتضاحكون والآباء مستلقون على النجيلة الخضراء يراقبون أطفالهم بحبور، شاب يحتضن صديقته بحميمية وشيخ يداعب كلبه. بعد عدة جولات وعند ممر جانبي من الحديقة جلست على كنبة منزوية بجانب امرأة تخفى وجهها داخل كتاب .
حييتها تأدبا وبصوت خفيض حتى لا اقطع حبل استغراقها. أزاحت الكتاب عن وجهها وحيتني بابتسامة عريضة تكشف عن وجه أربعيني صبوح مما شجعني، حتى لا ينقطع حبل الوصال:
- ماذا تقرئين ؟
أطبقت صفحتي الكتاب وأدارت الغلاف الأمامي الى وجهي .فقرأت فاوست Faust " رائعة جوته "
- قلت: قرأتها بالعربية، طالباً في المرحلة الثانوية بالخرطوم مترجمة عن الفرنسية.
- قالت: أعود اليها بشغف كلما سمح الوقت وأندهش كيف أحياناً يبرز المضمر وينجلي الغامض و ما كان مغلقاً وعصياً من قبل .
- قلت: لم أفهمها في ذلك الحين، ربما لقلة التجربة وصعوبة الترجمة، فقد جاءت من لغة ثانية.
- سألتها: ماذا تعملين ؟
- قالت: أستاذة مادة التاريخ في الجامعة البرلينية . وأنت؟
قلت: طبيبا في برلين. وأردفتُ إنكِ تعالجين التاريخ وأنا أعالج البشر.
- قالت: كلانا مرتبط بالتاريخ والبشر.
- قلت: أواصل بجانب عملي، قراءة الأدب الألماني.
- قالت: تعليم لغة ثانية والاطلاع على ثقافة أخرى جيد ومفيد.
- قلت: لا شك في ذلك إذا تجاوزنا النقاش المشتعل الذي يدور الآن بلا عقلانية حول الثقافة الألمانية الرائدة.
- قالت: وما الغضاضة في ذلك، أليس هو شعور قومي طبيعي؟
- قلت: أن مقدرة البشر علي الحياة المشتركة مع اختلاف الثقافات والهُويات واللغات والولاءات لايزال يثير الاستغراب في المانيا، بالرغم من أن بلدكم أصبح بعد ممانعة طويلة بلداً للمهاجرين. وأردفتُ لا خلاف على الاعتزاز بلغة الأم ولكن التعصب الشوفيني يقود الى تأجيج المشاعر القومية وتعقيد عملية الاندماج وتلاقح الثقافات.
- قالت: بنبرة لا تخلو من تبرم مغيرة مسار الحديث: شرقكم الأوسط يموج بالاضطرابات والفوضى وانتم تتحدثون عن ثورات ربيعكم العربي .
- قلت: كل الثورات تبدأ بالهدم والانفلات والحيرة والشك والتساؤل، قبل أن يستقيم الطريق!
ألم يتساءل فيلسوفكم الماركسي الكبير ارنست بلوخ Ernst Bloch, في كتابه Das Prinzip Hoffnung الأمل مبدأّ. بعد أن شاهد العسف والبطش والدمار الذي حل بألمانيا أثناء الحكم النازي، متأملاً حال الوطن وأهله في ذلك الزمن العصيب :
" من نحن؟ من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ وماذا ننتظر؟ وماذا ينتظرنا؟ "
قالت: الكتاب الذي صاغ فيه الفيلسوف أمله في عالم يتخطى فيه الانسان اغترابه من المجتمع والطبيعة! نحن نبحث في تاريخنا ونتخطاه وكما يقول شاعرنا العظيم هينرش هاينه Heinrich Heine :
الحاضر
هو حصيلة الماضي.
يجب علينا أن نبحث،
ما أراده الماضي،
ان شئنا معرفة الحاضر.
وأردفتْ ولكنكم تبجلون تاريخكم وتنقصكم النظرة النقدية .
- قلت: هذه وجهة نظر يمكن قبولها الى حد غير قليل، ولكننا قادرون على تخطي صعابنا الحالية رغم المعوقات والتدخلات الخارجية ...
قاطعت: هكذا تلجأون دائما الى الحل السهل "نظرية المؤامرة " لتريحوا أنفسكم بدلا من النقد الذاتي .
- قلت: لا حديث عن نظرية المؤامرة، فيكفي فقط أن تنظري ما يدور الآن في العراق وليبيا وسوريا. وثانياً اننا نقوم ببحث تاريخنا ونقده ولعلك سمعت بكتاب محمد أركون نقد العقل الإسلامي وهو أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي في جامعة السوربون بباريس وكان أستاذاً زائراً في معهد الدراسات العليا في برلين لمدة عام.
- قالت: هذا يذكرني بكتاب الفيلسوف الألماني ايمانويل كانت Immanuel Kant نقد العقل الخالص. - قلت: لعل أركون أراد بصورة أو أخرى الاشارة اليه، فالكتاب لا يتعرض لنقد العقل الديني (الاسلامي) فحسب، بل لنقد علم الاستشراق بايجابياته وسلبياته أيضاً. ونحن في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الثورات العربية، يحدونا ويبقى لنا أيضاً الأمل، كما يقول بلوخ وأقول مردداً ومضيفاً الى كلمات هاينه، إضاءة الماضي ودرس الحاضر المأزوم وبناء المستقبل وجسر بين الشرق والغرب.
تفرع الحديث وتشعب وكان ثرياً وممتعاً. وذكرت لها، رغم التقدم الواعد، أن ترجمة الأدب العربي الى الألمانية لا يزال متواضعاً مقارنة بترجمة أدب امريكا اللاتينية على سبيل المثال.
ألقت نظرة على ساعتها وقد بدأ وهج الشمس في الانحسار، وصاحت يا الهي، ووقفت.
سرنا جنباً الى جنب مع الاحتفاظ بمسافة ولكن خطواتنا كانت متساوية.
- قالت: إذن ما هو الاختلاف بيننا؟
- قلتُ: تتطور الحضارات المختلفة منذ آلاف السنين موازية بعضها لبعض، واحياناً تتشابه، طالما العقل البشري واحد والبشر يتقاسمون طبيعة انسانية واحدة. فالاعتراف بالمساواة شرط ضروري للتفاهم وتداخل الثقافات .
- قالت: عندما يرتفع الفكر عن اليومي المبتذل والمماحكات الزائفة، يجد نفسه في مواجهة الوصول لإجابات عن أسئلة مماثلة. إنها همومنا جميعاً كانت في الماضي ولا تزال في الحاضر، سواء في أوروبا أم في الشرق.
- أمنت على كلامها وأضفت: إن صراع الأفكار والحوار العقلاني بين الآراء المتباينة في حد ذاته عمل خلاق ويدفع الى الاحترام المتبادل وتبلور الأفكار. فالأسئلة المصاغة، سواء أكانت فردية أم جماعية، تجد في الغالب اجاباتها في الحوار مع آخرين.
نظرتْ الى الأمام وصوبت عينيها على امتداد البصر، تستوثق من الطريق. وعند تقاطع الشارع توقفت مختتمة بقول جوته:
" لو لم تكن العين بصيرة، ما كنا لنستطيع أن نرى سطوع الشمس ".
ـ قلت: هذا القول يذكرني بقصيدة " ديباجة " للشاعر المصري أمل دنقل:
آه .. ما أقسى الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق.
... ...
ربما لو لم يكن هذا الجدار ..
ما عرفنا الضوءِ الطليق !!
ثم دفعت لي بكتابها وقالت لعلك تقرأه في لغته الأصلية. وناولتها في نفس اللحظة وبشعور دافق كتابي
موسم الهجرة الى الشمال لكاتبنا المبدع الطيب صالح. بالرغم من معرفتي بأن أعمال الطيب المترجمة الى الألمانية نفدت جميعها وليس هناك أمل أن أحصل على نسخة أخرى قريبا .
ثم انعطفت نحو اليمين وانعطفتُ أنا نحو اليسار .

* من كتابنا الصادر باللغة الألمانية.
محمد عثمان أبو الريش
مشاركات: 1026
اشترك في: الجمعة مايو 13, 2005 1:36 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد عثمان أبو الريش »

شكرا يا حسن وضيوفك الكرام
هل شرق وغرب مستوحاه من شعر جوته: الديوان الشرقى للمؤلف الغربى؟
الأدب الألمانى غنى وخصب وعميق.. جوته وشيلر وغيرهم ممن أبدعوا فى وصف الذات الإلهية التى لا شك عندى أنهم شاهدوا لمحة منها.. (الشهود الذاتى).
حين يقول شيلر:
Alle Guten, alle Bösen Folgen ihrer Rosenspur
أو
Freude Freude treibt die Räder in der großen Weltenuhr
وذلك فى رائعته أن دى فرويدا An die Freude

فهنا الشاعر يتحدث عن الوجود الأزلى (لو استلفنا لغة الصوفية).. أو The Universe لو استلفنا لغة حلومر الفلسفة والفيوياء الحديثة.
يتحدث الشاعر عن الساعة الكونية الكبرى die großen Weltenuhr .. فكان الوجود كله عبارة عن ساعة بق بن ضخمة.. (الحركة)
الحركة التى تعطى الوجود المادى معناه
Freedom for us and for all others
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

رسالة للهر أبو الريش

مشاركة بواسطة حسن موسى »



العزيز حسن والأخ الفاضل محمد عثمان ابو الريش

تحية كروية، رغم خسارتنا الفادحة وخروجنا من منافسة كاس العالم ( انني اتكلم بلسان الماني واغني بلسان؟)
الواضح أن الأخ محمد على علم جيد باللغة الالمانية ، ( يحسده عليها " القاعدين" من السودانيين في برلين منذ زمن الفراعنة ).
وأشير هنا الى ملاحظته الذكية والصحيحة حول قصتي القصيرة " شرق وغرب ". فعلا جاءت فكرة القصة وعنوانها بعد قراءة ديوان جوته " الديوان الشرقي للمؤلف الغربي ".
وقد كتبت ورقة في هذا الصدد ونشرتها من قبل ارفقها لكما.
أين أراضيك يا ود " أبو الريش"؟

مع الود
حامد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

جوتة و الإسلام و الشرق

مشاركة بواسطة حسن موسى »



جوته1 والاسلام والشرق

تقديم وعرض د. حامد فضل الله \ برلين

نشرت صحيفة فرانكفورتا الجمأينة الواسعة الانتشار، بتاريخ 21 . 4. و 12. 5. 2017 قصيدتين لشاعر المانيا الأكبر، جوته بعنوان: " تمائم " و " هجرة ". قدم وعرض القصيدتين الكاتب والباحث في الأدب ديرك فون بيترسدورف.
يكتب بيترسدورف " قصيدة التمائم هي ضمن المجموعة الشعرية الكبيرة لـ "الديوان الشرقي ــ الغربي2"، واصفا فيه نفسه " بالمسافر" ومنطلقاً الى الشرق للتعرف عليه وفي نفس الوقت تقديمه لقرائه. هذا الشرق الواسع ، والذي يشكل جوهره العالم الاسلامي العربي مع النبي محمد و الذي تغنى
به في شبابه " أغنية محمد " وديوان حافظ الشيرازي، الذي مهد له الطريق وهو يعلم، بانه لا يزال غريبا عن الثقافة الشرقية. أن واحدة من التحديات التي واجهته " كوسيط" بين الثقافات ، هي التعامل مع ادعاءات حقيقة الديانات السماوية ، الإسلام والمسيحية. لقد ازداد التفكير مرة أخرى منذ عصر النهضة، حول النزاعات المحتملة بين الأديان. أما في منطقة الثقافة الألمانية، جاء طرح السؤال البارز في مسرحية لسنج " ناتان الحكيم ". لقد أعلن السلطان صلاح الدين: ان من بين جميع الأديان لن يكون الا واحدا صحيحاً فقط ، مما استوجب على ناتان ان يجد جوابا لذلك. في هذا الأفق يقف ايضا ديوان جوته". قصيدة تمائم تتكون من خمسة مقاطع شعرية مفصولة عن بعضها البعض، كل منها يمثل تعويذة، لها وقع سحري وتأثير شافٍ على القارئ أو السامع. "لله المشرق \ لله المغرب": انها ترجمة للآية الكريمة من سورة البقرة (2 ، 142) ويكتب كلمة إله بدلا من الله، ليخاطب في نفس الوقت المسيحيين. ومقطع أخر مقترن بالأمل والدعوة للسلام " الأرضُ شمالاً، والأرضُ جنوباَ " تًرْقدُ آمنةً \ ما بين يديه". وهي اشارة الى الحروب التي اجتاحت أوروبا، أثناء بداية كتابة "ديوانه" والكفاح في سبيل التحرر من قبضة نابليون وطغيانه، ومنها ايضا حملته على الشرق الأوسط . وأكثر جاذبية، هي التعويذة الأخيرة، التي تتعلق بعمليات جسدية بيولوجية أساسية غالبا لا ينتبه لها المرء، مثل التنفس. فجوته يربط تجربة التنفس كحركة مزدوجة من الشهيق (القبض) والزفير (البسط) بتجارب المعاناة والفرج في حياة الانسان، مما يعني قوله، ان مسار الحياة بالكامل يحدث من ايقاع النفس الاِلهي. ان هذه القصيدة تعبر بإيجاز شديد وشعرية أنيقة عن جوهر الاِسلام".
هنا مقاطع أخرى من القصيدة:
*****
هو ، لا أحدَ سواهٌ ، العدل
ويُريدُ لكل الناس العَدْل.
من أسمائِه المائة أجمعين.
سبحُوا بهذا الاسمِ المَكين
آمين !
*****
يريُد الضلالُ أن يُرْبكَني ويُغْوِيني،
لكنك تَعْرفُ كيف تَهديني.
فإن قمتُ بعملٍ أو نَظمْتٌ الأشعارَ،
فأهدِني أنتَ سواءَ السبيل.

ويكتب بيترسدورف عن قصيدة هجرة ــ Hegire وعنوانها مكتوب بنطقه العربي ورسمه الفرنسي
" من الذي يمكن أن يتحدث اليوم بصفاء وفرح عن اللقاء بين الشرق والغرب ويتصرف بحرية في معالجة صور الثقافة الاِسلامية؟ أكثر من مئتي عام تفصل بين القصيدة والحاضر، قادت الى فقدان هذا الحماس. قصيدة الهجرة وهي مفتتح للمجموعة الشعرية، الذي يجعل فيها جوته ثقافتين تتحدثان بعضهما لبعض و تحكي خروج أو هجرة النبي محمد من مكة الى المدينة في 1 هجرية 622 وايضا الهجرة من أوروبا هروبا من حروب نابليون وتدمير نظام الدولة القديم".
"العروشُ تتصدع ، والممالك ترتجف". ويصوغ فيها ايضا أفكاره حول رحلته للشرق الواسع، ببطاركة العهد القديم والشخصية الاسطورية " الخضر" الذي يشرب من نبع الحياة وشاعره الفارسي المفضل حافظ الشيرازي، الذي الهمه كتابة هذا الديوان، والحياة بين البدو والبازارات وحُور الجنة، الذي يقول عنهم القرآن الكريم: " مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ " (سُورَةُ الرَحمنِ، الآية ، 76)
أن الصورة المرسومة للشرق تُظهره كعَالم مختلف عن الحداثة الأوروبية. فهو لا يخضع للتأمل، كما عرفه جوته: "فيتسع الايمانُ، وتضيقُ الفكرة". أن هذا الايمان منذ نشأته لا يفصل بين الأرضي والسماوي. فالقصيدة بالطبع دينية في المقام الأول، بالرغم ما تحفل به من تفاصيل حسية ــ الجو البطريركي، البرمكي، الغناء والحب والشراب وحراك الناس ــ لا تخدش الحياء، فالسخرية محببة والتهكم يدفع للابتسام."
لقد كٌتبت القصيدة في اليوم الرابع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1814 ، فهي إشارة إضافية لطابعها الديني والاحتفالي.
هنا ابيات مختارة من القصيدة الطويلة:
******
الشمالُ والغربُ والجنوبُ تتناثر،
العروشُ تتصدع، والممالكُ ترتجف،
فهاجرْ أنتَ إلى الشرقِ الطاهر
*****
إلى هناكَ. حيث الحقُ والطهْرُ والنقاء
حيث كانتْ لا تزالُ تتلقى من الله
وحى السماء بلُغَات الأرض
دون أن تُصدعَ رؤوسها بالتفكير.
*****
فيتسع الايمانُ، وتضيقُ الفكرة،
إذْ كان للكلمةِ عندهم شأنٌ أي شأن،
لأنها كانت كلمة تَنْطِق بها الشفاه.

يتكون الديوان من اثنى عشر كتاب، وهى على الترتيب كتب المغنى، وحافظ، والعشق، والتفكير، والضيق، والحكمة، وتيمور، وزليخا، والساقي، والأمثال، والبارسي، والفردوس. والديوان يكشف عن معرفة جوته بالحضارة العربية والقرآن الكريم والسيرة النبوية والشعر الجاهلي عن طريق الترجمات وعن معرفته بالأدب الفارسي ومصاحبته الحميمة لشاعره المفضل حافظ. وقصائد ذات المضمون الكوني والصوفي، مثل قصيدة "حنين مبارك"، التي تعتبر من أجمل قصائد الديوان، بل درته.
وهنا ايضا ابيات مختارة منها.

لا تقل هذا لغير الحُكَماء،
ربما يَسْخرُ منكَ الجُهلاء،
وأنا أثني على الحي الذى
حَن للموت بأحضانِ اللهيب.
في ليالي الحب والشوق الرطيب،
*****
سوف تعرُوكَ منَ السحِر ارتعاشه
ثم لا تجفل من بُعْد الطريق،
وستأتي مثلما رَفَّتْ فراشة.
تعشق النور فتهوى في الحريق.
*****
وإذا لم تصغ للصوت القديم
داعيا إياكَ: مُتْ كَيْما تكون!
فستَبقَى دائماً ضيفا يهيم
في ظلامِ الأرضِ كالطيفِ الحزين.

أين الآن، ونحن نعيش زمن التطرف الديني والعنصري ورفض الأخر والعنف واستبداد الحكام وعبثهم والفقر والجوع والدمار، من رؤية جوته الدينية والكونية وإقامة الجسور من الحب والتسامح والآخاء والعدل وتعايش الأديان.
وهو القائل:

ــ أفعل الخيرَ لأجل الخير وحده !
*****
ــ ماذا يفيدُ المتَفَقه في الدين ،
أن يسد على الطريق ؟
إن ما لم يُدْرَكِ الاِدراك الصحيح المستقيم ،
لن يُعْرَف أيضا بشكل ملتوٍ سقيم.
*****
ــ سأظلُ أغني
وأُرَددُ لَحنى
وأهَدْهدُ نفسى
بين الشرقِ
وبين الغَرب
وليصبح جهدي
هو غاية مجدي !
*****
ــ من الحماقة أن يتحيزَ كلَ إنسانٍ
لما يراهُ وأن يثني عليه !
وإذا الاِسلام كان معناهُ أن للهِ التَسْلِيم ،
فإننا أجمعين ، نحيا ونموتُ مسلمين6 .


اعتمد كاتب هذه السطور، اثناء الاِعداد لهذه الورقة على ديوان الشاعر وبعض الدراسات عنه بالألمانية، وبشكل أساس على كتاب3 الأستاذ الجليل الراحل عبد الغفار مكاوي4، بمقدمته الضافية وشروحاته المفصلة. فمعرفته الواسعة باللغة الاِلمانية وجذور شعرية كامنة في النفس كبحها مبكرا وانفجرت مؤخرا، لتتجلى في ترجمته الرائعة لغالبية القصائد، عاكسا فيها روح ونفس الشاعر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ــ يوهان فلفجانج جوته (1749 ــ 1832)
2 ــ
Johan Wolfgang von Goethe, West – östlicher Divan. Deutscher Taschenbuch Verlag, München 1997
صدرت الطبعة الأولى للديوان عام 1819

3 ــ عبد الغفار مكاوي ، النور والفراشة، مع النص الكامل للديوان الشرقي لـ جوته. ( طبعة أولى، دار المعارف ــ القاهرة 1979) . (طبعة ثانية ــ أبو للو ــ القاهرة 1997)

كما توجد دراسة أخرى للديوان قدمها الأستاذ الكبير عبد الرحمن بدوي، شابها الكثير من الأخطاء (كما يقال). وثالثة للشاعر عبد الرحمن صدقي، يقول عنها مكاوي " تُرجمت القصائد جميعها ترجمة رصينة بليغة ولكنها كلفت صاحبها البعد عن الأصل". معتذراً له بصعوبة ترجمة الشعر ومستشهداً بعبارة الجاحظ " ولا يجوز عليه النقل . ومتى حُول تقطع نظمه، وبطل وزنه وذهب حسنه، وسقط موضع العجب".
4 ــ د. عبد الغفار مكاوي، درسَ في المانيا واستاذ الفلسفة في جامعتي القاهرة و الكويت سابقا.
5 ــ ضمت النسخة الورقية ، شريط فيديو قُرِاءة فيه القصيدتين بصوت عذب أقرب الى الترتيل.
6 ــ الأبيات الأربعة الأخيرة ترجمة عبد الرحمن صدقي.


محمد عثمان أبو الريش
مشاركات: 1026
اشترك في: الجمعة مايو 13, 2005 1:36 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد عثمان أبو الريش »

"الواضح أن الأخ محمد على علم جيد باللغة الالمانية ، ( يحسده عليها " القاعدين" من السودانيين في برلين منذ زمن الفراعنة )"

سلام يا حسن وشكرا على الشكرة الكاربة دى.. خلينى اقشر بيها لحد بكرة.. واشرح ليك الحاصل. مقدما كدا مقبولة وفيها جانب كبير من الصحة.

تحياتى.
Freedom for us and for all others
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الأجنبي,,حامد فضل الله

مشاركة بواسطة حسن موسى »


الأجنبي*

حامد فضل الله / برلين

1- سوء التعامل


دخلت من البوابة الرئيسية إلى مبنى البلدية العتيد الذي يحتل مساحة واسعة من شارع كارل ماركس في قلب منطقة نيوكولن في برلين.
استوقفني البواب دون الآخرين بإشارة من يده وهو قابع في غرفته المحاطة بجدار زجاجي من ثلاثة جوانب، وخاطبني جالساً عن طريق فتحة الشباك الصغيرة.
ـ إلى أين؟
قلت:
- إلى مكتب الصحة.
قال:
- أنت عامل نظافة أم مساعد طباخ؟
قلت:
- لا هذا ولا ذاك.
علق زميله الجالس بجواره ضاحكاً:
- انظر كيف يستطيع تركيب جملة ألمانية سليمة.
نظرت اليهما وتجاوزتهما من دون أي تعليق أو انفعال، مواصلا سيري داخل الممر العريض في الطابق الأرضي. لاحظتُ أن حائط الممر مكدس بدواليب وصناديق ضخمة، وأرقام الغرف مغطاة بقصاصات من الورق الأبيض.
جاء من الطرف المقابل رجل في نحو الأربعين، أنيق الهندام يرتدي بدلة كاملة. حييته باحترام، سألته عن غرفة رقم ...، لم يدعنِ أذكر الرقم، بل رد بجفاء بأنه لا يعرف هذه الغرفة وولاني ظهره. التمست له العذر، لعله زائر مثلي.
واصلتُ سيري في الممر الطويل وشاهدت امرأة، خمنت من غطاء الرأس أنها تركية أو عربية، تسند جسمها المنهك إلى عربة يد صغيرة وهي ممسكة بمكنسة طويلة، تزيل بمنديل العرق الذي ينز من جبينها.
عندما حاذيتها، قالت:
"ألست الدكتور....؟"
رددت بالإيجاب.
قالت:
ابنتي تداوم عندك منذ أربع سنوات.
كيف حالها؟
قالت: " جيدة ولها الآن ثلاثة أطفال حلوين. وأردفت: كله من فضلك.
قلت: " من فضل زوجها."
ضحكت واحمر وجهها، سألتها سريعاً لأخفف من خجلها عن مكتب الصحة.
قالت: "لقد انتقل إلى الطابق الرابع، فهم يقومون الآن بصيانة المبنى العتيق.
شكرتها، قالت سأرافقك وأواصل عملي من فوق، وأشارت، علينا بالدرج فالمصعد معطل.
قلت: " لا بأس، الصعود والهبوط ينشط الدورة الدموية.
قالت: " ويخلخل الركبتين".
ونحن نصعد الدرج قالت إنها تعاني منذ سنوات من ألم مبرح في المفاصل والظهر وتقدمت بطلب عدة مرات للحصول على التقاعد المبكر، لكن جميع طلباتها رفضت. وواصلت بحزن، أنها بدأت العمل في المدينة وهي في العشرين من عمرها وتعمل بصورة متواصلة منذ أربعين عاماً. قلت لها ثلاث سنوات أخرى ليست فترة طويلة حتى بلوغ سن المعاش.
قالت وهي تغالب دموعها:
- عندما أصل سن المعاش!! أكون قد قمت بتنظيف جميع مراحيض برلين.
في الطابق الرابع أشارت إلى غرفة السكرتيرة. طرقت الباب ودخلت مباشرة إلى الحجرة. استقبلتني السكرتيرة بابتسامتها الودودة. قلت لها إنني أريد توثيق بعض الأوراق.
قالت: " ألهذا السبب تحضر بنفسك؟"
تفحصت الأوراق، ختمتها ووضعتها داخل ملف وقامت من مقعدها لتحصل على توقيع رئيس القسم.
دخلت عن طريق الباب الداخلي الذي يربط الغرفتين وعادت سريعاً وقالت إنه يتحدث بالهاتف المحمول وقد وضعت الملف أمامه.
سألتني وقد جلست قبالتها.
ـ هل صحيح أن عدد المواليد ارتفع عن السنة السابقة؟
قلت:
- نعم، وفاق كل التقديرات ومؤشرات هذا العام أيضاً مبشرة، وأردفتُ مبتسماً: معاشنا مضمون.
قالت ضاحكة: "بفضل الأجنبيات".
كنت أستمع إليها وهي تواصل تعليقاتها الذكية المازحة وتنظر من حين إلى حين إلى ساعة معصمها وتقول إنه لا يزال يواصل المحادثة.
قلت: "لعلها مشكلة عويصة."
قالت: بتهكم "عويصة !! ألا تسمع قهقهته، إنها مواصلة لسهرة البارحة."
انفرج الباب ودخل رئيس القسم ممسكاً بالملف، نهضت السكرتيرة وقالت مشيرة إلي:
ـ دكتور ... رئيس قسم رعاية الحوامل وتنظيم الأسر في مستشفى بلديتنا.
تطلع إلي وحياني بكلمة هالو، ناول الملف إلى السكرتيرة وتوارى خلف الباب.
نظرت نحوي السكرتيرة مستغربة وقالت:
- هل لاحظت احتقان واحمرار وجهه؟
قلت:
- لعله من تأثير المحادثة الساخنة.
ولم أسر لها، بأنه الرجل الأنيق الذي قابلته في ممر الطابق الأرضي منذ قليل.


2- سوء الفهم

ضمني الطريق مع امرأة جميلة في مقتبل العمر. تطلعتُ إلى الجانب الآخر وشاهدتُ امرأة تلوح لها. ركزت نظري في شريكة الطريق وكنا نسير جنباً إلى جنب.
التفتت إلي، زمت شفتيها وحدجتني بنظرة غاضبة وأشاحت بوجهها إلى الطرف الآخر، فرأت صديقتها تلوح لها وتهتف باسمها.
قبل أن تجتاز الطريق العريض، التفتت ناحيتي والتقت عينانا من جديد، لوحت بيدها وانفرجت شفتاها بابتسامة معبرة.

3- التَفَهُّم


أخرجتُ الرسالة من جيب الجاكيت، كتبتُ العنوان على ورقة بيضاء وتناولتُ من الرف دليل مدينة برلين. دونت خط مترو الأنفاق وأسماء الشوارع حتى أصل إلى المكان الذي يبعد كثيراً عن منطقة سكني.
خرجت من محطة المترو واتجهت يميناً.
كانت السماء صافية والهواء منعشا والشمس ساطعة. تخطيت عدة شوارع دون أن أتطلع بإمعان إلى أسمائها غارقاً في أفكاري.
بعد فترة من السير ليست بالقصيرة، نظرت إلى الورقة والتبس الأمر علي.
توقفت أمام أحد المحلات التجارية، يقوم اثنان من العمال بترميم ودهان واجهته الأمامية.
انتبه أحدهما إلي، نزل من السلم – تطلع إلى الورقة، ووضع يده على رأسه وقال:
ـ إنك تسير في الاتجاه المعاكس تماماً. نظر إلى ساعته وواصل، إذا كان المكان الذي تقصده أحد المكاتب، فلن تصل ماشياً قبل نهاية الدوام.
عندما لاحظ حيرتي، أشار بإصبعه، هناك سيارتي اصعد إلى المقعد الأمامي وسأوصلك إلى المكان.
ظننته يمزح، حتى رأيته يضع الفرشاة الطويلة على الطاولة ويفرك يديه ويمسحهما على بنطاله الملطخ بالألوان.
أمسك بعجلة القيادة وسألني أثناء السير:
- ماذا تعمل هنا في برلين؟
قلت:
- طبيب في مستشفى بلدية نيوكولن.
قال:
- طبيب ومفلس.
قلت
- إنني أكره زحام السيارات وخاصة بعد توحيد شطري المدينة.
قال:
- إنكم تركبون الجمال في بلادكم.
قلت بسخرية:
- وأيضاً الأفيال.
قال:
- لم أقصد إلا المداعبة.
قلت:
- ولم أفهم أيضاً أكثر من ذلك.
بعد أربع تقاطعات دلفنا نحو اليمين وتوقفت السيارة عند الناصية الأخرى، أمام ثلاث بنايات شاهقة حديثة متشابهة، أشار إلى رقم البناية.
هبطت من السيارة، شكرته وقلت إلى اللقاء.
قال: المرة القادمة على ظهر فيل، لوح بيده وضحك ضحكة خالصة من القلب وانطلقت السيارة.

* من كتابنا الصادر باللغة الالمانية.

حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

حكاية الرجل الذي لم يصدّق ...محمد محمود

مشاركة بواسطة حسن موسى »



حكاية الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة

بقلم محمد محمود

وحُشِرَ لسليمانَ جنودُهُ من الجِنّ والإنس والطير فهم يُوزَعون * حتى إذا أتوا على وادِ النمل قالت نملةٌ يا أيها النملُ ادْخُلُوا مساكنكم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سليمانُ وجنودُهُ وهم لا يشعُرُونَ * فتبسّم ضاحكا من قولها وقال ربِّ أوْزِعْني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدَيَّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدْخِلْني برحمتك في عبادك الصالحين
(النمل 17:27-19).



عندما يتحدّث الناس في مدينتا عن حكاية الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة فإنهم يتحدثون همسا وهم يلتفتون حولهم وقد ارتعدت أطرافهم. وهم لا يذكرون اسمه ألبتّة، وعندما يرد ذكر ما يشبه اسمه فإنه يرد مشفوعا بإشارات ظاهر الأيدي وهي تضغط الشفاه المتوتّرة ضغطا وكأنها تسدّ منافذ الهواء لكيلا ينسرب ما يشبه الاسم. وبمرور الزمن فإن ملامح الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة أحاطتها قتامة وغموض وتضارب، فالبعض قالوا إنه كان في مقتبل شبابه، فارع الطول، يتفجّر جسمه نشاطا وفتوة، والبعض أقسموا أنه كان في منتصف العمر، أشيب شعر الرأس والشارب، ربعة القامة يميل لقصر مع امتلاء، والبعض ذكروا أنه مهزول نحيل، ساهم النظرات لا ترسو عيناه على شيء، وآخرون أخبروا أنه كهل أصلع الرأس يمشي بتهالك وكأنه على وشك الانكفاء ويظهر عليه الإعياء وإن لم يشكُ من علة بعينها.

ومثلما يختلف الناس حول هيئة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة فإنهم يختلفون أيضا حول تفاصيل أحداث حكايته، وإن اتفقت كل الروايات أن المواجهة الشهيرة وقعت في المسجد (بعض الرواة يذكرون أن المواجهة كانت عقب صلاة الظهر في منتصف يوم صيف ملتهب القيظ وكأنه سوط عذاب وأن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة كان يكتسي جلبابا قطنيا خفيفا داكن الزرقة، إلا أن رواة آخرين يذكرون أن المواجهة كانت عقب صلاة العشاء في يومٍ قارس البرد، يكاد الدم يتجمّد في العروق من وخز زمهريره، وأن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة كان يرتدي بلوفرا صوفيا ذا زرقة قاتمة). وتتفق الروايات أيضا على ثلاثة أماكن وهي المستشفى والمحكمة ثم ميدان العدالة، وفيما عدا ذلك فإنها تتضارب وتتعارض تعارضا ميئسا. مثلا، متى سمع الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة قصة النملة؟ وفي أي مقام سمع الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة قصةَ النملة؟

بعض الرواة يقولون إنه سمعها قبل يوم من المواجهة الشهيرة، وبعضهم يقولون إنه سمعها في نفس يوم المواجهة الشهيرة. وبعض الذين يميلون للشك (وما أكثرهم في مدينتنا) يزمّون شفاههم ويقولون بغمغمة هامسة: "إن الأمر يدعو للاندهاش والحيرة، لابد أن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة فد سمع قصة النملة قبل ذلك، في المدرسة أو عبر أجهزة الإعلام، أو قرأها وخاصة أنه كان قارئا نهما!" ولكن من المؤكد، وهذا ما تجمع كل الروايات عليه، أن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة قال لإمام المسجد وعلى مرأى ومسمع من جمع حاشد من المصلين إنه لا يصدّق قصة النملة، ومن المؤكد أنه قد وقع اعتداء عليه وإن اختلفت الروايات حول كيفيته.

بعض الرواة يقولون إن الإمام بُهت عندما صرخ الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة في وجهه وبأعلى صوته وبكامل وعيه بأنه لا يصدّق قصة النملة وبأن ثلة من المصلين أخذها حماس مفاجيء وهجمت على الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وأوسعته ضربا ولكما بالأيدي والأقدام وبأن الإمام ما لبث أن استردّ تماسكه واستنقذ الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة من براثن المصلين. وبعض الروايات تذهب إلى أن الإمام وجماهير المصلين صعقتهم الدهشة وألجمت أطرافهم وأن الذي انبرى للرجل الذي لم يصدّق قصة النملة شخص واحد (وإن اختلفت الروايات حول اسمه وصفته) . إلا أن بعض الرواة يصرّون أن الإمام هو الذي هجم على الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة، وأنه عندما سمع ما سمع اتّقدت في جسده ثورة عارمة وانقضّ على الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وتابعه باقي المصلين الذين أعدتهم سَوْرة الإمام (والذين يتمسكون بهذه الرواية يشيرون لموجات الغضب التي تجتاح الإمام أحيانا وهو يخطب على المنبر وكيف تتشنّج أطرافه وتجحظ عيناه). وانفرد أحد الرواة برواية مفادها أن الإمام وجمع المصلين تسمّروا في أماكنهم عندما قال الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة إنه لا يصدّق قصة النملة وأن الأفق الغربي، المجلّل بقتامة غروب الشمس، انفتح فجأة عن مردة من الجن هجموا على الرجل وتركوه مغشيا عليه، معلقا بين الموت والحياة بخيط رفيع يشبه خيطا واهيا من خيوط ضوء الشمس المحتضرة.

وتتضارب الروايات حول كيفية نقل الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة من المسجد إلى المستشفى وإن أجمعت على أن المصلين لم يلمسوا الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة خوف أن يُحبط أجر صلاتهم. فبعض الروايات تقول إن أحد المارة سمع الضجة ودخل المسجد، وعندما رأى الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة مغشيا عليه حمله على ظهره إلى الشارع المحاذي للمسجد وأوقف سيارة أجرة وأوصل الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة إلى المستشفى. والبعض يقولون إن ذلك الرجل لم يحمل الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وإنما خفّ في الحال للاتصال بسلطات المستشفى. والبعض ذكروا أنه تصادف أن سيارة من سيارات شرطة النجدة كانت تمرّ بقرب المسجد عندما وقع الحادث وأنها هي التي حملت الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة للمستشفى.

وتتضارب الروايات أيضا بصدد ما حدث في المستشفى. فبعض الرواة يقولون إن الطبيب المناوب (وهو طبيب بعينه يذكرون اسمه وأصله وفصله) رفض أن يلمس الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة عندما سمع بحكايته، وهي رواية يرجّحها الكثيرون لأن هذا الطبيب بالذات مشهور في مدينتنا بالورع الشديد وبأنه على طهارة دائمة ومعروف بحرصه الدائم على الإشراف على تطبيق الحدود من قطع للأيدي ومن قطع من خلاف للأيدي والأقدام ومن رجم (وإن لم تقع إلا حالات رجم معدودة في تاريخ مدينتنا ختى الآن، وهي حقيقة يذكرها الناس في مدينتنا بسخرية يخالطها تيه خفي إذ أن الجنس الحرّ يفشو في مدينتنا فشوا يبزّ ما هو معروف في المدن الأخرى المحيطة بنا). والبعض يقولون إن الطبيب المناوب كان طبيبا آخر وأنه قام بإسعاف الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وأنه أُخضع لمساءلة تأديبية فيما بعد. والبعض يصرّون أن الطبيب المناوب كان غائبا تلك الأمسية وأن الذي أسعف الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة ممرض معروف في مدينتنا بسلاطة اللسان ومتهم في أخلاقه.

وتقول بعض الروايات إن المرضى الذين شاركهم الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة عنبرهم تلك الليلة تعرّضوا كلهم لكوابيس مريعة وظلوا يصرخون ويتلوون بتشنج لاإرادي وهم على حافة ما يشبه الهاوية المظلمة. ويقول أحد جيراننا (بنغمة تشي زهوا مستترا) إنه كان أحد أولئك المرضى في تلك الليلة الحافلة بالرعب وإنه رأى نفسه يقع في جبّ مظلم، وعندما اصطدم بقاع الجبّ أبصر ضوءا خافتا في نهاية ما يشبه النفق وظل يزحف وهو يتنفس بصعوبة، وبعد زمن بدا وكأنه أبد وصل إلى وادٍ مقفر تعلوه كثبان رملية وتنتثر فيه أشجار عجفاء خالية من أي ورقة خضراء وهبط بدرب بدا له مطروقا وسار زمنا بدا وكأنه أبد وإذ به يصل واديا آخر تتناثر فيه جماجم بشرية وبقايا هياكل على مدّ البصر وأُوحي إليه فيما يُوحى إلى النائم أنه في وادي النمل، وعندها حانت منه التفاتة لقدميه المحترقتين العاريتين فرأى صفا من النمل يزحف وئيدا لأعلى جسده، وعندها بدأ يصرخ ويصرخ ويصرخ ولم يحس يشيء بعدها، وإن أخبره ممرض العنبر فيما بعد أنه هجم عليه بحقنة مهدئه. ويقول جارنا إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة كان قد اختفى صباح اليوم التالي من عنبرهم.

وتختلف الروايات حول المدة التي قضاها الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة في المستشفى، فالبعض يقولون إنه أُخرج نفس الليلة وحُمل لرئاسة حراسة الشرطة المركزية، وآخرون يقولون إنه أُخرج صباح اليوم التالي ونُقل لرئاسة جهاز الأمن، إلا أن آخرين يؤكدون أنه أُخرج بعد ثلاثة أيام ووضع تحت إشراف قوات أمن الطواريء. وقال البعض إنه ترك ليتماثل للشفاء ولم يخرج إلا بعد أسبوع ليُتحفظ عليه في مبنى الأمن العام، وأن خلافا نشِب بين رئيس جهاز الأمن العام ورئيس جهاز أمن العقيدة حول أحقية كل منهما في استجواب الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة، إذ اعتبر رئيس جهاز الأمن العام التشكيك في صِحة قصة النملة أمرا يمسّ الأمن العام ويتهدد كيان الدولة بينما أصرّ رئيس جهاز أمن العقيدة أن قصة النملة مما يدخل في دائرة حمايته المباشرة. وعندما تصاعد الخلاف واستعرّ قررت السلطات في نهاية الأمر أن يخضع استجواب الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة لدائرة الأمن الخاص، وهي دائرة رفيعة المستوى ومحاطة بحجب كثيفة من السرية التي بستحيل اختراقها.
وبما أن محاكمة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة لم تكن مفتوحة ولم تشر لها أجهزة الإعلام ألبتة فإن الروايات عنها متضاربة أيضا. إلا أن أكثر الروايات تواترا (وهي الرواية التي تميل لها جارتنا، والتي تلوك الألسن علاقتها بعقيد يعمل في أمن الطواريء) أن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة رددّ أثناء استجوابه أنه لا يصدّق قصة النملة.
ولا يعلم أحد لماذا قرّرت دائرة الأمن الخاص إحالة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة لمحكمة بدلا من أن ينتهي استجوابه النهاية المعهودة لاستجواب كل من يقع في يد دائرة الأمن الخاص إذ أنهم لا يفتأون يدخلون في عداد المفقودين وتختفي سجلاتهم اختفاء تاما وأحيانا تختفي أسرهم ويختفي أقرباؤهم وأصدقاؤهم. والواقع أن النجاح كان دائما حليف دائرة الأمن الخاص في محو وجود أولئك الأفراد محوا تاما وكأنهم لم يوجدوا أو وكأن وجودهم كان خطأً عابرا ما لبث أن صُحِّح باختفائهم. وحسب رواية جارتنا فإن المحكمة عقدت جلستين فقط ، استمعت في الجلسة الأولى لأقوال الشهود وفي مقدمتهم الإمام. وتقول جارتنا إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة أصرّ أمام المحكمة مرة أخرى على أنه لا يصدّق قصة النملة، وانفضت المحكمة بعد أن وَجّه القاضي بتكوين لجنة عليا من العلماء لمحاورة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة. وتقول جارتنا إن لجنة العلماء ظلت مجتمعة بالرجل الذي لم يصدّق قصة النملة ثلاثة أيام وأن العلماء تبسّطوا وحكوا له تفاصيل مدهشة عن قصة النملة ووصفوا له وادي النمل وسردوا له أطرافا من تاريخه، وألمحوا له أن السلطات ستبذل له العطايا السنية إن أعلن في المسجد وعلى رؤوس الأشهاد أنه يصدّق قصة النملة. وتقول جارتنا إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة ظل صامتا طيلة الأيام الثلاثة ولم ينبِس بكلمة وأن العلماء استبشروا خيرا. وتقول جارتنا إنه حين أزِف الميعاد أطرق الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة طويلا ومرّت ساعة من الزمان خالها العلماء دهرا وبدأوا يتململون في جلستهم وإن لم يفصحوا عن ضيقهم، وإذ بالرجل الذي لم يصدّق قصة النملة يرفع عينيه ويقول لهم بصوت مرهق وخافت إنه لا يستطيع أن يصدّق قصة النملة.

وتقول جارتنا إن العلماء غضبوا غضبا ضاريا وارتجفت أياديهم ولحاهم وعمائمهم وهم يصرخون في وجه الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة، والذي ركّز عينيه على بلاط الغرفة وغاب فيما يشبه الذهول، ويعدونه بالويل والثبور، فالسلطات ستثخن به الأرض وربّ العالمين سيلقي به في أسفل سافلين يتلظّى في نار جهنم وليس له طعام إلا من غِسْلِين. وتقول جارتنا إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة ظل على حاله ساهما لا حراك به، وعندما يئس العلماء منه ووصل حبل صبرهم ذاك الطويل إلى نهايته نظروا إلى بعضهم وأطالوا النظر وألقوا نظرة طويلة على الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وأعطوه فرصة أخيرة أخيرة. وتقول جارتنا إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة ظلّ مستمسكا بصمته الكثيف، وعندها خرج العلماء واتجهوا في الحال للقاضي الذي كان في انتظارهم. وفي صباح اليوم التالي عقدت المحكمة جلستها الثانية ونطقت بحكم الإعدام.

وتقول جارتنا إن القاضي سرد في حيثياته خطورة جريمة المتهم وكيف أن رفضه للتصديق بقصة النملة جريمة تهزّ الأسس التي يقوم عليها كيان مجتمعنا. واستطرد القاضي ليؤكّد أن أي تهاون في مواجهة مثل هذه الجريمة سيؤدي لعواقب وخيمة وأن مجتمعنا يقف بالمرصاد لكيد الشيطان. وأفرد القاضي، كما تروي جارتنا، حديثا مطوّلا عن كيد الشيطان ومحاولاته الدائبة التي لا تفتر للتسلل عبر منافذ النفوس الواهنة والمريضة لإضعاف مجتمعنا وحرفه عن خطته المقدسة. وأسهب القاضي في سرد تفاصيل بعض مظاهر هذا التسلل الشيطاني. وتضيف جارتنا باعتداد أن مصادرها أكّدت لها أن حديث القاضي بهذا الصدد كان حافلا بالأمثلة الملموسة إذ أنه اعتمد على التقارير التي أمدّته بها أجهزة الأمن ورصد المعلومات. ثم تحدّث القاضي بعد ذلك بتفصيل عن قصة النملة وأورد عددا كبيرا من المقتطفات المستقاة من كتب التفسير وتحدّث عن مغزى قصة النملة وما تعنيه بالنسبة لمجتمعنا والحكمة الكبيرة والثابتة لقصة النملة عبر مختلف الحقب والعصور. وتقول جارتنا إن تلاوة القاضي لحيثيات الحكم استغرقت زهاء الثلاث ساعات وأن هذا الزمن يمثّل رقما قياسيا في تاريخ القضاء في بلادنا ويؤكّد الفداحة الاستثنائية لجريمة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة.

***

كان الوقت صباحا عندما خرجنا إلى ميدان العدالة. كانت الشمس تتسلق قبة السماء ببطء وحذر وظلّ الهواء ساكنا والأشجار ساكنة والمنازل ساكنة والشوارع ساكنة. اكتظّ ميدان العدالة بعدد لا يحصى، وانتصبت في وسطه المِنَصّة الجديدة أو "المِنَصّة الشاشية" كما يسميها الناس في مدينتنا، وهي من الإنجازات الحديثة التي تفخر بها سلطات مدينتنا. والمِنَصّة الجديدة حديدية ومستطيلة. وتذكر نشرة المعلومات الأسبوعية أن طولها مائة ذراع وأن عرضها خمسين ذراعا وأن ارتفاعها عن الأرض عشرة أذرع. ومن وراء المنصة وعلى جانبيها تصعد أدراج حديدية ذات مظهر صلب وفي أركانها الأربعة شُرعت مكبرات صوت ضخمة. وأبرز ما يستوقف النظر على المنصة قائمة خشبية سامقة الطول يتدلّى منها سيف، وهو السيف الذي يُستعمل في قطع الأيدي والأقدام. وعلى بعد نحو العشرين ذراعا تقف قائمة خشبية أخرى أقلّ طولا تتدلى منها السياط والعُصي التي تُستعمل في الجلد (بما أن ميدان العدالة في الطرف الشمالي لمدينتنا وبعيد بعض الشيء عن قلب المدينة ودائرة المحاكم فقد قررت السلطات منذ سنوات أن يتم نشر عقوبات الجلد وتنفيذها في منطقة السوق وأمام دائرة المحاكم وفي بعض الأحياء وأن يتم تنفيذ عقوبات القطع في ميدان العدالة، إلا أن ميدان العدالة لا يزال يشهد بين آونة وأخرى تنفيذ عقوبات الجلد عندما تتوافق مع عقوبات القطع). ويقف بين القائمتين مسطّح خشبي يعلو عن سطح الأرض بنحو الذراعين ويلتصق به مسطّح خشبي آخر ارتفاعه نحو نصف ارتفاع المسطّح الأول. والمسطّح الأول يُستخدم لقطع الأيدي، أما الثاني فهو لقطع الأقدام. وعلى بعد أذرع من المسطّحين يقف عمود عليه ميكرفون. وتقف خلف المنصة شاشة ضخمة يبلغ طولها حسبما أوردته نشرة المعلومات الأسبوعية أربعين ذراعا بينما يبلغ عرضها خمسة وعشرين ذراعا. ونستطيع أن نرى على هذه الشاشة تفاصيل قطع الأيدي والأقدام مكبّرة عشرات المرات، وهو إجراء يختلف عن السابق عندما كانت السلطات توزّع على جمهور المشاهدين المناظير المقرّبة إلا أن السلطات لاحظت الاختفاء التدريجي لهذه المناظير (تنسب الروايات فكرة الشاشة لأحد كبار رجال المصارف في مدينتنا وتقول الروايات إن خلافا حادا نشب بين العلماء بشأنها إذ رأى بعضهم أنها بدعة بينما رأى آخرون أنها وبالتهويل الذي تحدثه أداة مؤثرة من أدوات النهي عن المنكر، وتقول الروايات إن ضغط المصرفي والعلماء المؤيدين أقنع السلطات في نهاية الأمر بإقامة الشاشة، وهو إنجاز وضع منصة مدينتنا في طليعة منصات البلد وجعلها معلما من المعالم التي يزورها السيّاح).

عندما برز السجّانون الأربعة من البوابة الخلفية المطلة على ميدان العدالة كانوا يحملون على نقّالة كومة بشرية مغطاة بغطاء رمادي. اقتربوا من المنصة ببطء وبدأوا يصعدون أدراجها وئيدا. كانت الشمس قد اقتربت من كبد السماء وبدأنا نحس لسع لهيبها. وقف السجانون وقد اتجهوا لحشدنا. وبعد دقائق خرج من نفس البوابة رجلان ملتحيان يلبس أحدهما جلبابا أبيض والآخر جلبابا أزرق، وصعدا الأدراج ببطء. سكن الناس وخمدت أصواتهم. وعندما وقف الرجل ذو الجلباب الأبيض أمام عمود الميكرفون رأينا صورته على الشاشة بوضوح وتفصيل مذهل. بدا وجهه متعبا وكان صوته أجشا بعض الشيء. قال إنه ممثل لجنة العلماء التي حاولت هداية الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة. تحدّث عن جريمة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وعن خطورتها على مجتمعنا ومصيرنا. قال إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة هالك في الدنيا والآخرة وأن مصيره في الدنيا الموت الزؤام ومصيره في الآخرة العذاب الأبدي. تحؤّل وجهه المتعب لوجه متّقد بالحماس وكان يتحدّث بتدفق وهو يشير بكلتا يديه بحيوية متفجّرة. تحدّث طويلا ولم يعبأ بقيظ النهار. كان يتوقف أحيانا للحيظات وكأنه يستجمع أنفاسه أو يعطي المستمعين فرصة لتدبّر ما قاله. طمأننا بأن مجتمعنا ما زال بخير وأن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة مجرد ظاهرة شاذة وشوهاء لا يعدمها أي مجتمع مهما بلغ من السلامة والصلاح وأن كل الأمر مجرد ابتلاء وامتحان تجاوزناه بعون الله.

ظل الناس ساكنين وكأن على رؤوسهم الطير. التفت المتحدث إلى الرجل الآخر ذي الجلباب الأزرق وأومأ له برأسه. اتجه الرجل ذو الجلباب الأزرق بخطى ثابتة نحو قائمة السيف وداس على ما يشبه الزِّر فإذا بالسيف يتدلّى ببطء بلمعان يخطف الأبصار تحت وهج الشمس. سرت وسط الناس وشوشة تشبه الحوقلة. أمسك الرجل ذو الجلباب الأزرق بمقبض السيف واتجه بخطى بطيئة نحو النقّالة ووقف على رأسها وقد استدار بظهره للناس. شاهدنا على الشاشة الكومة البشرية مرة أخرى ولاحظ البعض ما يشبه الحركة اليسيرة. كانت الكومة بلا ملامح وتَعْسُر معرفة الرأس من القدمين، إلا إذا افترضنا أن الرجل ذا الجلباب الأزرق كان يقف بإزاء الرأس. وقف الرجل ذو الجلباب الأبيض أمام الميكرفون بلا حراك، وانتصب الرجل ذو الجلباب الأزرق والسجانون الأربعة وظلّوا جامدين في مواقعهم لا تبدو منهم أدنى حركة. وعلا الناس صمت مهيب وكثيف (وربما كان كئيبا أيضا، إلا أنه من كان من المستحيل استبطان طبيعة ذلك الصمت). ظللنا على ذلك لزمن بدا وكأنه أبد. ثم رأينا (وكأن أبد الصمت هذا أسبغ على المشهد شيئا كالحلم) الرجل ذا الجلباب الأزرق يتّجه نحو المسطح الخشبي الأعلى، يسير ببطء شديد وكأنه يجرّ في كل خطوة كرة حديدية. وقف خلف المسطح الخشبي وقد أصبح في مواجهتنا. رأينا على الشاشة، وبوضوح وتفصيل مذهل، وجها يصعب وصفه. أي مشاعر كانت تضطرم بداخله في تلك اللحظة؟ هل يَعَضُّ شفتيه دائما على نلك الهيئة أم هل هو ثقل اللحظة وضغطها؟ هل تعكس العينان دائما ذلك الخَواء أم هل هو رَوع الموقف ومشقته؟ حمل الرجال الأربعة الكومة البشرية ووضعوها على المسطّح الخشبي، كشف أحدهم عما يشبه الوجه (وإن بدا عديم الملامح) من أعلى الرأس إلى العنق.

ارتفعت ذراعا الرجل ذي الجلباب الأزرق بالسيف. المتع السيف لمعانا يخطف الأبصار، وهبط في لمح البصر ليفصل الرأس عن بقية الجسد. شَهَقَ الناس شهقة واحدة. وإذا بصوت الرجل ذي الجلباب الأبيض يرتفع هادرا: "الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!" وهدر الناس وراءه بصوت قوي صمُّ الآذان وهزّ ميدان العدالة كما لم يهتزّ من قبل: "الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!" وعندما سكن الناس فاض صوته بهدوء (رأينا وجهه على الشاشة، وبوضوح وتفصيل مذهل، وهو يعكس طمأنينة ما لبثت أن أعدتنا) وأخبرنا أن موت الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة يعني موته في ذاكرة مجتمعنا العامر بالسلامة والعابق بالصلاح وأن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة مجرد حدث عابر يجب ألا يستوقفنا ويجب أن يمحى محوا تاما ولا يسمع عنه أطفالنا وأطفال أطفالنا. بدا وجه الرجل ذي الجلباب الأبيض على الشاشة وقد غمره ما يشبه الانشراح. وفارقت جموع الناس ميدان العدالة وهم يحسون ما يشبه الانشراح وقد غمرهم شعور بطمأنينة عميقة أن ثوابت مجتمعهم، ومنها قصة النملة، راسخة لا يطالها البِلى.

إلا أنه ومن يومها لم يستطع الناس في مدينتنا الانفكاك من أسر لحظة جديدة ملحّة ومكدّرة تهجم عليهم بين الحين والآخر. وعندما تهجم هذه اللحظة تنخفض أصواتهم فجأة. وعندها يجدون أنفسهم يتحدثون همسا وهم يلتفتون حولهم وقد ارتعدت أطرافهم ويذكرون حكاية الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة. وكلما فعلوا ذلك فإنهم يجدون أنفسهم يضغطون على شفاههم المتوتّرة بحركة لاإرادية وكأنهم يسدّون منافذ الهواء لكيلا ينسرب ما يشبه اسم الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة.

فرانكفورت، أغسطس 1991

حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مواقف,,حامد فضل الله

مشاركة بواسطة حسن موسى »



شكرا للصديق د. حامد فضل الله على مواصلة بذل نصوص كتابهم الصادر بالألمانية.
............



مواقـــــــــــــــــــــــــف
قصص قصيرة جداً

بقلم حامد فضل الله / برلين





الشيخ والباب
في يوم شتوي والشمس مائلة للغروب دفع الشيخ المسن الأشيب الباب الضخم بصعوبة ومعاناة بالغتين وأومأ لي بيده يفسح الطريق قائلا بأدب جم : تفضل! دخلت ثم تبعني وصاح وقد تملكه الغضب في تلك اللحظة، ثم أردف قائلا بسخرية: شكرا!
أجبته: قلتها من قبل، ألم تسمعني؟
فرد بتأني: عفواً، لم أسمعها لكني أصدقك.



غطرسة
شاركت في ندوة حول قضايا الاندماج ومشاكل الأجانب في المانيا. وتعرضت في مداخلتي لنفاق بعض قياديي الأحزاب السياسية الذين يستغلون ورقة الأجانب لكسب الأصوات في الانتخابات والتعرض لقضايا هامشية ومضحكة مثل غطاء الرأس للتلميذة أو للمرأة المسلمة، غاضين النظر عن القضايا الأساسية مثل الأزمة الاقتصادية والبطالة وطرح الحلول لها، بما فيها قضية الاندماج. كان النقاش صاخباً وجِداليا وكنت بين الحين والآخر ألحظ امرأة تجلس في المقدمة تثرثر مع جارتها وتتضاحكان أو تتصفح مجلة بين يديها وقلما كانت تتابع الحوار. وفجأة وقفت ودون أن تطلب الكلمة وقالت بانفعال ومشيرة وهي تحدق فيّ:
- لماذا لا تذهب الى وطنك؟
سألتها بهدوء:
كمواطن لماذا لا أبقى هنا؟
اضطربت واحمر وجهها وانعقد لسانها ولم تنبس بكلمة.



صمت
انفردت بنفسي في أحد أركان المقهى العتيق بأبوابه الزجاجية العديدة التي تطل على كلية الفنون الجميلة في برلين. وتزين جدرانه صور الأدباء والشعراء والفنانين ونجوم السينما. جلستُ وحيداً غارقاً في أفكاري... جاءت ترفل في خطوات متأنيةِ وفي نضارة الورد. جلست أمامي، وكان الصمت جليسنا الثالث.
وافترقنا دون كلمة، كلانا يحمل على كاهله آلامه وآماله.
وأنشدُت في صمت ووجع مع أحمد عبد المعطى حجازي
" أنت فاتنةٌ..
وأنا هرمٌ
تبحثين عن الحب، لكنني
أقتفى أثرا ضائعا
كان لا بد أن نلتقي في صباي
إذن...
لعشقتك عشق الجنون
وكنا رحلنا معا "





غثيان
جاء أبن الرافدين الى برلين شاباً يافعاً جميل البنية والصورة وأكمل دراسته الجامعية. لم يشارك مع أبناء وطنه في عمل سياسي، رغم أن بلده يحكمها نظام دكتاتوري غاشم. ولم ينضم متطوعاً الى احدى منظمات المجتمع المدني العديدة. حاقدا على الألمان شعباً وحكومة ويصفهما بالعنصرية وكره الأجانب، فهو الشاعر الكبير والكاتب الرصين، لم يجد المركز الذي يستحقه، أستاذاً جامعياً أو خبيراً ثقافياً، كما يتخيل أو يتوهم. لم يرفع طوبة من الأرض وهو الآن على مشارف الخمسين ويقبض راتبه الشهري من قسم المساعدات الاجتماعية دون أن يرمش له جفن. يقترض المال ولا يرده و يغتاب الغير، ويتحرش بزوجات أصدقائه. التقيت به لأحذره من بعد ما أن انفض الناس من حوله وكمحاولة ليتصالح مع نفسه أولاً. مرت بنا فتاة في سن أولادنا. تطلع اليها وقال بلا استحياء: ما أجمل هذا المكان لصيد الحسان. تركته وحيداً قبل أن اُصاب بالغثيان .



نفاق
ظهر فجأة في الساحة الألمانية وبسرعة الصاروخ اصبح نجماً تلفزيونياً وصورته تزين الصحافة الورقية
يخلط بين الأحداث التاريخية والآيات القرآنية ويفتي في كل مسألة فقهية، ادعى العلمانية ووصف الاسلام بالفاشية. انفضحت علاقاته ومصادره المالية. طلب النجدة والحماية البوليسية.


شويعر وشاعـــــر
في أمسية صيفية جلست في القاعة الأنيقة التي تزينها اللوحات التشكيلية الرائعة، وسط الحضور المختلط، عربي وألماني، نستمع للإعلامي العربي الكبير يقدم ديوانه الجديد وكنت ألحظ وهو يواصل جلدنا، كيف تنفرج شفاه البعض ببسمة لها مغزاها، وكيف تلتفت الرؤوس يميناً أو شمالاً إشارة العزوف والتململ، أو تتطأطأ خجلاً. أحسست وكأن كابوساً يمسك بخناقي. قلتُ في نفسي: لو كان هذا شعراً، فكلام العرب باطل. وتذكرت في هذه الحظة شعر صلاح أحمد إبراهيم و صلاح عبدالصبور فهدأت اعصابي قبل أن ينفجر شريان في دماغي.



مفارقات الأمن والأمان
عشت في برلين عاصمة جمهورية ألمانيا الديمقراطية (السابقة) طالباً في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين إبان الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين، الغربي والشرقي وكانت نافذتنا الى الخارج، اذاعة وصحافة الحزب الحاكم الوحيد وسيطرة الأيدليوجي على المعرفي. في زياراتي النادرة والخاطفة الى برلين الغربية ماراً عن طريق القطاع الامريكي، كان يعتريني الخوف وأشعر بالخطر وأنا على أرض النازيين والإمبرياليين. وعندما أعود الى برلين الشرقية وأشاهد هناك البوليس منتشراً في الشوارع والأزقة، أشعر بالأمن والأمان. وبعد أن انتقلت الى برلين الغربية و أزور أصدقائي القدامى في شرقها ، كان يصيبني الرعب من كثافة الشرطة في الطرقات والأماكن .



رغبة دفينة
استقبلت لأول مرة في عيادتي المحامي الشاب وزوجته الطبيبة الشابة، اللذان حضرا منذ أيام قليلة من وطنهما العربي. المظهر والملبس يدلان على الثراء والنعمة. بعد الكشف، أكدت لهما أن الحمل في الأسبوع الثاني عشر وشرحت لهما مراحل الفحوصات القادمة لمتابعة نمو الجنين، وحددت المعاينة التالية بعد أربعة اسابيع .
ودهشت عندما عادا بعد أسبوع واحد فقط، وقالت إنها تريد كشفاً دقيقاً مبكرا. قلت لها أن الكشف عن طريق نقب أو خزم الأمنيُوني للحصول على عينة من السائل الأمنيُوني من أجل التشخيص لا ينطبق على حالتها. وشرحت أنه رغم أن هذا الكشف يتطلب عملية صغيرة الا أنها ليست خالية من المضاعفات مما يهدد الحمل . ولكنها واصلت وبإصرار على طلبها وذكرت بأن في أسرتها أطفالا ولدوا مشوهين. قلت لها إن الكشوفات ومتابعة مراحل الحمل قادرة على أن تكشف عن أي خلل أو تشويه، ولكنها واصلت حديثها بأنها تعيش حالة نفسية قاسية وخاصة أنها الآن بعيدة عن أهلها. كانت تتكلم بافتعال ظاهر، عجزت حركات الوجه واليد أن تخفيه. كان زوجها يتابع حديثنا بصمت. وخدعتُ نفسي بالعامل النفسي وتم الكشف وحضرا بعد أسبوع واطلعتهما على نتائج التحاليل الدقيقة، وبشرتهما بأن المولودة القادمة ستكون معافاة وسليمة تماماً . غادرا العيادة على عجل!
تم الاجهاض في هولندا في المستشفى الخاص والمشهور ببورصة الاجهاض.



التبجح
يختال في الشارع كالطاووس بزيه الوطني، الجلباب الأبيض الناصع والطاقية المزركشة والمركوب الأحمر الفاشري. وسبحة الألوب الطويلة تتدلى من عنقه وسيجارة المبسم.
التففن حوله الصبايا المراهقات، يقرأ لهن من صفحات النيويورك تايمز ويخدعهن برطانته.
عمل نادلا في المراقص البرلينية ، الدخل الوفير، معاشرة الحسان ومعاقرة بنت الحان والمسحوق الأبيض و الدخان. يسخر من أبناء وطنه، الذين يدرسون بالنهار ويكدون ليلا ستراً للحال. فقد العمل والمسكن ويشارك في غرفة واحدة مع خمسة من ذات الخصال. أصبح متسولاً في الطرقات ورقماً في سجل الهِبات



المنفى والوطن

هرب من عسف السلطة وملاحقة الشرطة وفقدان الأمل وضيق الحال. نجح في الوصول إلى المنفى، عاش حياة هانئة لينة وبراحة بال. استبد به الشوق الى وطنه وناسه، ذهب لزيارتهم. وجدهم كما كانوا في بساطتهم، يلفهم حزن عميق ومقيم، مع عزيمة لا تلين في المقاومة والرفض والصبر.



حب
في صبيحة يوم ربيعي وضعتُ صحف الصباح على المنضدة وفتحت باب الشرفة الزجاجي الكبير، فتسرب الهواء نقياً مع ضوء الشمس المشرقة. طار العصفوران القابعان في الركن. بينما واصل العصفور الكبير الارتفاع، هبط الصغير مرة أخري على الشرفة وأخفق في محاولته الثانية. نثرتُ بعض البذور على ارضية الشرفة وركنت إناءً مليئاً بالماء، وتركت الباب متوارياً. لم يلتقط العصفور الصغير حبة واحدة ولم يقترب من الماء، بل راح يشقشق بلحن حزين. هبط العصفور الكبير وتلاق المنقاران، وتكرر الصعود والهبوط والتلاقي عدة مرات، ثم شقشقا بعذوبة وارتفعا معاً وتواريا في الأفق بعيداً عن ناظريّ.
أضف رد جديد