حوارحول روايتي الجديدة (حكاية مدينة واحدة) - الرأي العام

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
الحسن بكري
مشاركات: 605
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:51 pm

حوارحول روايتي الجديدة (حكاية مدينة واحدة) - الرأي العام

مشاركة بواسطة الحسن بكري »

ال[align=right]رأي العام تحاور الروائي الحسن بكري.. بمناسبة صدور روايته الجديدة (حكاية مدينة واحدة).

حاوره الناقد والأكاديمي عبد الماجد عبد الرحمن الحبوب

*الروائي للرأي العام: سوبا التي استلهمتها في روايتي الجديدة, هى سوبا تخصني, ولكنها تتواشج مع لحظة سوبا التاريخية الفارقة والفاجعة.

*سقوط سوبا هو الذي دشن سؤال الهوية الحارق في السودان, وتناولها السردي لديّ مكتظ بالاحتمالات والأسئلة.

*الحرب مغامرة كبرى في التاريخ، ولدينا تاريخ طويل متسربل بالعنف.

*"أحوال المحارب" رواية ناضجة مما أهلها للفوز بجائزة الطيب صالح، ولكن لا اعتقد انها ماستربيسي، فكل رواية لي مهمة على طريقتها.

*دائماً أضع قناعاً كثيفاً بيني وبين شخوصي السردية.

*لدينا نقاد قلائل يمتلكون مهارات نقدية عالية وإلمام عميق بقواعد النقد الحداثي وما بعد الحداثي.. وحركة الابداع عندنا تتقدم نسبياً على حركة النقد.

*الرواية العالمية ليست في مأزق.. لكن ربما النقد هو الذي يتمترس في مدرسية بائسة حارماً بعض الروايات من فرداتها الفنية ومغامراتها الجمالية الخاصة بها.

*لا يوجد "انفجار" روائي بهذا المعنى.. فكلمة انفجار سلبية، ونحن الشعوب الأقل قراءةً في العالم حسب تقارير التنمية العربية المتواترة.

الحسن بكري أحد أبرز الروائيين السودانيين الذين برزوا في المشهد السردي والثقافي في السودان خلال العقدين الماضيين. وارتبط اسمه بتدشين جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي إذ كان أول من فاز بها عن روايته (أحوال المحارب القديم) التي مثلت حينها في حد ذاتها حدثاً ثقافياً مهماً في الساحة الثقافية. كان قبلها قد أصدر رواية (أهل البلاد الشاهقة 1997), و"سمر الفتنة" 2002 , ثم تبع ذلك لاحقاً برواية "طقس حار 2011", إلى أن صدرت روايته الجديدة هذا العام (حكاية مدينة واحدة 2018), عن دار العين المصرية. يتميز البكري بخبرة أكاديمية وحياتية ثرة وتوفر بحكم الدرس والعمل الأكاديمي على معرفة عريضة بتاريخ وصناعة الرواية الانجليزية, فضلا عن الرواية والفن السردي في تجليهما العالمي, كونه تخصص في الأدب الانجليزي في جامعة الخرطوم في السبعينات وعمل أستاذاً جامعياً في عدة جامعات سودانية وعربية (جامعة الجزيرة وجامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا وجامعة قطر). أكمل الحسن دراسته العالية في بريطانيا التي نال فيها درجة الماجستير في علوم تدريس الانجليزية من جامعة برمنجهام البريطانية. انشغل خطابه الروائي, ضمن تيمات كبيرة أخرى, بفكرة الحرب العريقة في الإبداع السردي مند الملاحم القديمة كمهارباتا الهندية (التي يقال أنها أطول قصيدة في التاريخ إذ نافت على المائة ألف بيت) وحتى وقتنا الحاضر, مثلما انشغلت سروده بتعقد الصراعات الإنسانية وحركتها اللولبية. يضاف إلى ذلك, أنه اهتم بحضور التاريخي ودورانه واشتباكه التوليدي مع الحاضر والمستقبل. والحسن من الكتاب الدين يهتمون بالشكل وكثيراً ما يردد حكمة الجاحظ العظيمة أن الأفكار والمعاني (مطروحة في الطريق) وأن "الصناعة الفنية" هي أساس الإبداعية ومخ الإبداع. كما أنه امتاز بتشغيل حيوات وطاقات المكان الروحية والايكولوجية (منطقة الجزيرة وما حولها).
هدا الحوار والمؤانسة معه تجيء بمناسبة صدور روايته الجديدة (حكاية مدينة واحدة), عن دار العين المصرية قبل أسابيع من الآن؛ والتي تم تدشينها مساء الجمعة 13 يوليو 2018 في مركز دال الثقافي في الخرطوم بحري. حكاية مدينة واحدة التي تستدعى لحظة سوبا التاريخية وتدمجها ببراعة في تضاعيف الراهن السوداني المعقد, تغرف من مصادر عديدة, وتفعّل تناصات وإحالات متعددة, ونعتقد أنها رواية فاتنة وجميلة وجديرة بالقراءة النقدية من زوايا متعددة وبمناهج متنوعة. ونترككم الآن مع وقائع المؤانسة مع الكاتب:



_ روايتك الجديدة (حكاية مدينة واحدة) ... بدأً لماذا هذا التناص مع ديكنز في العنوان؟
أولا لأن الرواية تتناول أحداثاً تتعلق بمدينة واحدة في الأساس، بالإضافة إلى إحساس عميق بالامتنان تجاه روائيي العصر الفيكتوري الإنجليز وبالتلمذة على يدهم. تشارلز ديكنز أحد أعظم من كتبوا الرواية على مر الصور كما تعلم والتناص مثلما هو واضح يشير إلى رواية ديكنز الشهيرة (حكاية مدينتين A Tale of Two Cities).

_ لك قول أن على الروائي أن يقرأ أولاً الرواية الأوربية بمعنى أنها أصل الرواية لكيما يستطيع كتابة رواية في الأساس؟
الرواية بشكلها المعروف نشأت وترعرعت في أوروبا لكن للشعوب كلها سردياتها وحكاياتها. على نحو تقني الرواية الأوربية والغربية بشكل عام استلفت من المسرح الكلاسيكي ومن الملاحم الكثير من تقنياتها. فهي تتوزع على وحدات وتهتم ببنية الشخصية والحكي وتستوعب أسلوبيات مثل الإحالة والمفارقة والتلميح وغيرها. النقد السردي وربما الألسنيات أيضا، تضيء النصوص السردية وتأوّلها وتزيح النقاب عن المهارات التي ترد في ثناياها. ولأن الرواية الأوربية هي الأعرق فنقدها أيضا عريق مما يتيح فرصاً أكبر للإلمام بصنعة الكتابة الروائية. إلى ذلك فجهود البحث والنشر والدراسة تتوفر بنشاط ومثابرة في الغرب. لكن من ناحية أخرى, فالرواية في أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية تحقق حالياً فتوحاتٍ قيمة ربما تفوقت فيها على ما تنجزه الرواية الأوروبية.
_ إلى أي مدى يمكن أن يعضد هذا الكلام فكرة المركزية الأوروبية Euro- centricity حيث هناك حركة أدبية-ثقافية-سياسية في العالم الثالث تقف ضدها, وتراها مكرسة للآحادية الأوربية ومهمشة للتعددية الثقافية والفنية في العالم؟
لنترك الايدولوجيا جانباً, الآن ولنصرف النظر حتى عن الظروف الاجتماعية التي نشأت فيها الرواية. إنني أتحدث على نحو عملي فقط. إنها عموماً مسألة إنتاج فن سردي وتراكم الخبرات في إنجازه لا أكثر ولا أقل. لا يمكنني الوقوع في فخ تنميط الرواية في العالم الثالث بالطريقة التي يتم بها تصنيف الرواية لدى مؤسسات نشر بل وبحث عديدة في الغرب، إذ يجري الاحتفاء بإفريقيتها أو لاتنأمريكيتها، كمثال فقط، بقدر ما تظل تلائم الكليشهات الاثنوغرافية السائدة وبقدر ما تطابق وجهات النظر الاستشراقية العتيدة والتي تم تقويضها بشكل منهجي منذ أعمال إدوارد سعيد وما تلاها من جهود بذلها تلاميذه وسواهم من النقاد الذين تصدوا للقواعد النظرية التي انبنت عليها مدارس الاستشراق الكلاسيكي.

_ جدل الرواية والتاريخ عريق وإشكالي حتى أن جامعة أكسفورد حدث أن أسست درجة علمية لدراسة التاريخ من حيث هو رواية والرواية بوصفها تاريخاً. كما أن مدارس ما بعد الحداثة في فلسفة التاريخ صارت تلقي بظلال من عدم الثقةعلى فكرة "الموضوعية" في التاريخ, باعتبار أن الأحداث التاريخية تخضع في المطاف الأخير لرؤية المؤرخ. هل يمكن أن تلقي بعض الضوء على "حكاية مدينة واحدة" تأسيسا على هذا الجدل عن تعقد العلاقة بين الرواية والتاريخ؟
بالنسبة إليّ لا يفيد التاريخ بوقائعة المدونة إلا من حيث أنه نص يحتوي على تقنيات كتابة تخصه ومن حيث تكريسه للأحداث بالسناريو الذي يفترض المؤرخ أنها قد وقعت بها. إنه استلهام يضاهي التاريخ ولكنه ينفيه بتشييد معمار سردي ووقائعي مجافي أو مقابل. سوبا وهي "المدينة الواحدة" سوبا تخصني ويتواشج تاريخها لديّ بسوبا كما يصفها المؤرخون من حيث أهمية قيامها وسقوطها كلحظة تاريخية فارقة وموحية يمكن تدشينها على نحو مختلف يقارب الحاضر والمستقبل الأمر الذي يمكّن من استلهامها بميكانيكية بندولية متواترة خاصة في ظل الاتجاهات السياسية التي لا يلوح في الأفق أنها ستستقر على حال قريبا. بالتالي يبدو لي أن استحداث القسم العلمي الأكسفوردي هو مبادرة منطقية تماما.

_ لماذا سوبا بالتحديد؟
إنها مدينة مركزية جدا في تاريخ السودان السابق واللاحق لها. عندما نتحدث اليوم عن الأفريقية والعروبة في السودان فإننا نتحدث قطعا عن ثنائية سوبا-سنار. سقوط سوبا هو ما دشن سؤال الهوية الحارق الذي يواجهنا بعنفوان متجدد منذ لحظة سقوطها في بداية القرن السادس عشر. لذلك تناولها في عمل روائي يبدو مكتظاً بالاحتمالات وبالأسئلة التي تخص حاضرنا ومستقبلنا.
_ هل ثمة إهمال أدبي لها؟
من جانبي، كتبت عنها رواية كاملة هي "سمر الفتنة". لابد من الإشارة هنا إلى أحد رواد المسرح السوداني الحديث، خالد أبو الروس، الذي ألّف المسرحية الشعرية المعروفة "خراب سوبا". لكن الاهتمام بسنار كما يتمثل في جهود شعراء مدرسة الغابة والصحراء وغيرهم يستدعي من جهة أخرى الإرث الحضاري للممالك النوبية ومن هنا هذه المزاوجة بين الغابة والصحراء.

- لماذا في نظرك كانت حساسية الأدب السوداني تجاه سؤال الهوية والهويات السودانية على التعميم تبدو أكبر وأدق وربما أسبق تاريخياً من حساسية النخبة السياسية؟
تتصدى النخب دائماً لطرح المبادرات الفكرية وهي التي تختص بتدشين الحوار حولها أو اتخاذها مواضيع للإبداع بشتى أشكاله. ولأن السودان هو وطن لشعوب وثقافات عديدة فإن سؤال الهوية أو الهويات ظل على الدوام سؤالاً شائكاً تراوحت مقارباته بين من نافحوا عن العروبة وبين أولئك الذين تحدثوا عن هوية آفروعربية إلى أولئك الذين دافعوا دون هوادة عن هوية أفريقية صرفة. لذلك بدا السؤال دائما متجددا وقابلا لمجابهته من زويا فكرية وإبداعية متجددة وطريفة. تحضرني هنا كمثال المقالة المفتاحية في نقد مدرسة الغابة والصحراء (شجرة نسب الغول) لعبد الله بولا. لكن على المستوى السياسي العملي أدى هذا التشظي إلى نتائج مأساوية بفعل الشوفينية الحزبية والإثنية للطبقات الحاكمة وهي نتائج يمكن رصد بشاعتها في معظم سنوات الحكم الوطني التي تلت الاستقلال.
- ما جديد سوبا "حكاية مدينة واحدة" وما إضافتها الرؤيوية والفنية من وجهة نظرك، بالنظر لسوبا كما لدى أبي الروس وسوبا كما تبدت عندك في رواية "سمر الفتنة"؟

أظن إن أبا الروس تبنى في مسرحيته "خراب سوبا" وقائع سقوط سوبا كما تحكيها المخيلة الشعبية. وبصرف النظر عن اختلاف الأجناس الفنية، تظل كل الوقائع في "سمر الفتنة" محض افتراءات سردية تخصني. تبنيت بشكل عام, الفكرة الأسطورية التي تدعي أن امرأة ماكرة هي من تآمرت على إسقاط سوبا. هذا كل شيء، بينما يظل كل ما تبقى من تفاصيل مغامرة سردية من نسج خيالي. وفي حكاية مدينة واحدة يتم تأسيس مدينة كاملة بموقع غير الموقع التاريخي لسوبا. وفيما تستلهم الرواية المصائر التي حاقت بالمدينة التاريخية، تقترب "المدينة الواحدة" هذه من مصير يواجه المستقبل أكثر مما يؤرخ للماضي ولا تطل الرواية على التاريخ إلا كأرشيف يعين على توالي حيل السرد وتفاصيله وعلى ممازجة المستقبل بشكل مراوغ فقط بالماضي.

- ثمة جدل فلسفي كثيف حول دور العنف في التاريخ (في البال كتاب انجلز "دور العنف في التاريخ" مثلا). وكانت على الدوام المدينة والدمار الذي يحل بها، رمزا لهذا العنف التاريخي منذ القصص والملاحم والأساطير القديمة، وكذلك هناك تجليات هذا العنف المديني في النصوص الدينية الكبرى. لحظة سوبا وعنفها الذي يبدو غير حاضر في الذاكرة الجمعية السودانية بما يكفي... هل ألقى بثقله على شكل الرواية وطريقة اشتغالها على ثيماتها الكبيرة؟
أظن أن أنجلز يشير إلى ثقافة الحرب باعتبار أن تأجيجها كان على الدوام حكراً على الدولة في النظام الإقطاعي ثم الرأسمالي فيما بعد وباعتبار العنف وسيلة لقمع الطبقات المستغلة (بفتح الغين) في خضم الصراع الطبقي, لذلك يشير إلى أن القضاء على الدولة بقيام المجتمع الاشتراكي سيؤدي بالضرورة إلى القضاء على الحرب.
تشتغل ثيمة الحرب في "حكاية مدينة واحدة" في اتجاهات مختلفة لا تتضمن تعريفاً محدداً للعنف الناتج عن اشتعال الحروب بقدر ما تتخذ من الحرب وسيلة لإثراء السرد وترسيخ الثيمات التي تتضمنها الرواية. البطل عاجز باستمرار عن أداء دوره الإنساني في تحرير قومه وروحه لعزوفه عن الانخراط في الصراع الناشب مما يكرس الثيمات الأخرى المتعلقة بالتسويف والعجز وحتى الجبن والخور. لكن الحرب من ناحية أخرى تجلب الخراب الشامل وما يلحق به من اغتصاب وإبادة. ومن زاوية ثالثة تقوم شاهندا، بعكس رفيقها، بدور المرأة الشجاعة والحكيمة فتقود قومها للانتصار. ويعكس العنف في الرواية الواقع المأساوي الذي وجدت بلادنا نفسها ضحية له لأجيال متعاقبة.

_ المسافة بين "أهل البلاد الشاهقة" – 1997 و "حكاية مدينة واحدة" – 2018 مرورا ب "سمر الفتنة" - 2002 و"أحوال المحارب القديم" – 2004 و"طقس حار" 2011، كيف تراها من زاويتك الخاصة؟ وما أبرز ملامحها ومطباتها ومنعرجاتها؟
فيما ظللت محتفياً بالثيمات الكبرى، فخاخ الروح والجسد ومكائد التاريخ وقسوة الواقع، كنت انتقل بحكمة صقلتها السنوات من بعض الغرارة السردية، التي قد تميز قليلاً من الجوانب الفنية في العمل الأول مبررة بالحماس للنشر وبقلة الخبرة المتصلة بشروط النشر نفسها وربما بالإفراط في الثقة بالنفس وبالواقع الأدبي، إلى نصوص أكثر تماسكاً من حيث بنيتها السردية وثيماتها وربما حتى لغتها. وفيما كنت متردداً في مقاربتي للتاريخ وفي نظرتي لعلاقات الحب وحتى الكراهية، فقد استحوذت بمرور السنوات على جرأة فائقة في تناول هذه القضايا.
- فكرة الماستربيس (العمل الأهم) للكاتب هل هي حاجز أم منصة انطلاق إذ أن بعض الكتاب يراها عقبة؟ قد يرى البعض أن "أحوال المحارب القديم" هي العمل الأهم للروائي الحسن بكري، ماذا ترى؟
بصراحة بالنسبة لي تبدو كل أعمالي مهمة بطريقة أو بأخرى. "أحوال المحارب القديم" برأيي رواية ناضجة مما أدى لفوزها بالجائزة الأولى لمسابقة جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي في دورتها الأولى رغم أن المنافسة شملت أعمالا روائية جيّدة لروائيين كبار آخرين وهي بذلك أدت إلى أن يتعرف عليّ قراءٌ ونقادٌ كثر في السودان وفي بلدان عربية وغير عربية. لكن هذا لا ينفي أن رواياتي الأخرى مهمة على طريقتها وليس لدي أي إحساس شخصي بأنها الماستربيس بين أعمالي.
- أنت دارس وأستاذ جامعي وعريق في معرفتك بالأدب الإنجليزي، إلى أي مدى أثر هذا في رؤيتك للرواية وكتابتك لها؟
اطلاعي الوثيق على هذا الأدب ودراستي الواسعة نسبياً له ولنقده أثرا بشكل مباشر أو غير مباشر على نصوصي، من بنية مجمل النص وحتى تقسيم الفقرات وصياغة الجمل وعلامات ترقيمها، وأظن أنه لا يجوز لأحد الادعاء بأنه قرأ رواياتي بإتقان مالم يلاحظ التناصات والحوارات المتصلة التي أجريها مع أعمال أدبية أخرى، إنجليزية أو غيرها. لكنني فوق ذلك اهتم بالتقنيات في المستويات الصغرى التي أشرت إلى بعضها فيما سبق، الثيمات، الإحالات، المفارقات، التلميحات، إلخ.
- أليس الرواية العالمية في مأزق فني؟
تشق الرواية العالمية دروبا جديدة باستمرار وتنهال محاولات تجريب منتظمة على كافة المستويات المتصلة بكتابتها. أظن أن نقد الرواية هو الذي يواجه مأزقاً من جهة أنه يتمترس أحياناً في مدرسية بائسة بينما يقتضي التعدد والابتداع المتوالي في كتابة الرواية نقداً متعدداً بالمستوى ذاته يباصر كل نص روائي بحسب الفرادة والتجريب اللتين اختص بهما.

- نلاحظ أن نصك الكبير حتى "حكاية مدينة واحدة" ظل مشغولا على الدوام بهواجس الحروب وعنفها واستدامتها.
الحرب هي مغامرة كبرى فيما يختص بتكريس واقع اجتماعي وسياسي جديد. والخيارات الخاصة بتأجيجها أو إخمادها واتخاذ المواقف الإيجابية أو السلبية تجاهها كلها مواضيع يمكنها إتاحة نماذج متجددة في الكتابة الروائية. إضافة إلى أن لدينا تاريخ طويل متسربل بالحروب والعنف, الأمر الذي يستوجب وبشكل تلقائي الوقوع في حبائل تتمثّلها أو تدور حولها. في "حكاية مدينة واحدة" الشخصيات الرئيسية إما منخرطة في المعارك ومثابرة في تسعيرها أو منسحبة منها وفي حالة تسويف وصدود عن خوضها وتبنّي موقف ثابت بخصوصها لذلك تظل الوقائع المتصلة بالتسويف والصدود سواء في الحرب أو الحب (النقيض المباشر لها) موتيفات ثابتة في معظم أعمالي السردية.
- يتحدث بعض النقاد عن انفجار روائي عربياً وسودانياً، ماذا تقول؟
كلمة "انفجار" تحمل في طياتها بعداً سلبياً يشير إلى الكثرة غيرة المتبصرة. الشعوب العربية هي الأقل كتابة والأدنى قراءة على كافة الأصعدة، تستوي في ذلك الكتابات الروائية وما عداها، كما تؤكد تقارير التنمية البشرية للعالم العربي. تتفوق لغات يتحدثها جمهور أقل بإنتاج علمي وأدبي أغزر وأوسع بما في ذلك بلدان كاليونان أو حتى إسرائيل! لابد من تطوير مناهج تدريس اللغة والأدب عندنا على مستوى التعليم العام والجامعي، وفضلا عن التركيز على الاستظهار والتدريس عن اللغة، كما هو الحال في مناهج النحو والبلاغة والنصوص، يجب الاهتمام بتعليم المهارات العليا، القراءة والكتابة والمحادثة والتفكير النقدي، وجعل التلميذ محور العملية التعليمية وليس المعلم على نحو ما يفعل أغلب المدرسين عندنا، إذ يظل المعلم يرغي ويزبد منفرداً على مدى الوقت المخصص للدرس.
-النقد السوداني كيف تنظر إليه من زوايتك ككاتب؟ وهل بالضرورة أن يطارد النقد كل رواية جديدة ويكتب عنها أم أن المسألة تعتمد برمتها على الحركة الثقافية العامة والجدل المستمر بين حركة الإبداع وحركة النقد؟
لدينا بضع نقاد ممن حازوا على مهارات نقدية عالية يحفزها إلمام عميق بقواعد النقد الحداثي وما بعد الحداثي. يقع على عاتق هؤلاء إثراء المشهد الأدبي والثقافي بأعمالهم، ويؤدي بعضهم هذا الدور بجهد ومثابرة معقولين. في عالم مثالي يتوقع الكتاب الروائيون وغيرهم أن تلقى أعمالهم صدى نقدياً واسعاً مما يعين على انتشارها إذ القراءة هي ما يحفز على الكتابة، وكل عمل إبداعي ينتظر دراسات تضيء الطريق لقراءته وربما حتى تقويمه. أظن أن حركة الإبداع حالياً متقدمة نسبياً مما يقتضي حركة نقدية أبعد أثراً ونشاطاً.


- - أبطالك – رغم عجزهم وتسويفهم – فإنهم يحققون انتصاراتهم العظيمة الخاصة بهم، مما يجعل الرواية تأخذ نفساً ملحمياً، وان كنت ملاحم معكوسة أحيانا تحتفي "بالعجز الإنساني" في حد ذاته وهي من ضمن المجاهل الروائية المفضلة لكافكا وكونديرا وجويس وهيمنقواي ضمن ثلة روائيين آخرين عظماء. هل تتفق ولماذا؟

هذا ما يحدث تقريباً. بالإضافة إلى السقطة الإنسانية الأصيلة الداوية، مفارقة الفراديس كما هو الحال في الإنجيل أو الكبد "المكابدة" بفعل إرادة الإله كما يقرر القرآن، هناك بشاعة الإنسان ونتانته لدى جونثان سويفت وهناك عجزه باعتباره مصيراً محتوماً كما لدى توماس هاردي أو كنتيجة لبؤس المؤسسة وسوء أخلاقها وقسوتها لدى كافكا أو حتى في أشعار ت. س. إليوت ومسرحيات صمويل بيكت. لكن يتميز الأبطال لديّ بهذا الاستغراق في الحب وفي ذاك التعلق بتشييد عالمٍ مغاير، تماماً كأطفال التيجاني يوسف بشير بإشراقهم وبانبهارهم بالعالم. تبدو هذه الإجابة مثل تهويمات تخصني، فالرواية قد طلعـت من يدي وما أنا إلا مؤلفها الذي يلزمه أن يلتزم الصمت المطبق الآن.


- - قد يلاحظ القارئ تشابهاً بين بطلي روايتي (أحوال المحارب القديم) و (حكاية مدينة واحدة) ونساؤهما ومغامراتهما وعجزهمها. وأن صوتك ككاتب يميل للتعاطف معهما؟
.
ربما يختص الأمر بموقف أخلاقي من القضايا العامة، حقوق الإنسان والسياسة وغيرهما وربما هو رد فعل طبيعي لما يجري في مجتمعاتنا. لكن يجب دائما برأيي الحديث عن (بيرسونا الشاعر) لديّ؛ فأنا أضع دائما قناعاً كثيفاً بيني وبين ما أكتب. لديك الآن روايات ربما بثيمات تتشابه أو حتى تتطابق هنا وهناك لكنها تظل على مستوى تقنيات السرد كافة وعلى مستوى الحكي، الأحداث والتفاصيل، وبنية الشخصيات وكل شيء، كل شيء، أعمالاً متباينة تماماً إلا بالقدر الذي يحقق لمشروعي الروائي تماسكه ووحدته.

في "حكاية مدينة واحدة" تتضافر الحروب والدكتاتوريات والخور لتودي بالبطل أو الأبطال، إذ ليس ثمة واحد فقط، فتتحقق سقطته التراجيدية التي تقع له على اعتبار أنه بطل من هذا الزمان، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ربما لهذا السبب بالضبط يمكننا أن نحس بالتعاطف معه إذ هو منا وفينا..
أضف رد جديد