النساء والشيخ: عندما ينكسر القيد/د.محمد محمود

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عثمان حامد
مشاركات: 312
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:04 pm

النساء والشيخ: عندما ينكسر القيد/د.محمد محمود

مشاركة بواسطة عثمان حامد »

النساء والشيخ: عندما ينكسر القيد

محمد محمود

1
جلسة برنامج شباب توك (حديث الشباب) مع شباب السودان التي بثّتها قناة دويتشه فيلا (صوت ألمانيا) هزّت القوى المحافظة في المجتمع السوداني وأثارت ثائرتها، وخاصة ما قالته وئام شوقي التي تعرّضت لاحقا للإساءة والتجريح والتهديد. لم يكن ما قالته وئام غريبا على آذان الذين يحملون رايات الإسلام في السودان وفي مقدمتهم السيد محمد عثمان صالح، رئيس هيئة الفقهاء، الصوت الرسمي للشريعة، الذي كان مشاركا في الجلسة. ولكن ما كان مباغتا وصادما ومهيِّجا لغضب القوى المحافظة وحَنَقها هو مشهد وئام بالزِّي الذي تزيّت به (والذي يعكس التزامها بحريتها الشخصية) وصرختها التي أطلقتها في وجه الفقيه الأكبر، بانفعال ينضح ثورة وشجاعة، وهي تعرّي قهر الشريعة للمرأة. كانتا دقيقتين صاعقتين التهبت وأشرقت فيهما وئام نارا ونورا. وكان الشيخ مذهولا مندهشا وقد خضّته الصدمة، وكانت الشريعة تقف عارية في قفص اتهام وئام (العارية في نظر البعض).
في تلك الأمسية لم تقف الشريعة وحدها في قفص الاتهام وإنما وقف الإسلام نفسه كدين مؤسَّس في قفص الاتهام. نظر ممثل الشريعة بتعالٍ وزراية لعزّة تاج السر التي جلست أمامه وهي كاشفة الوجه والرأس ليقول لها: إن ربنا يأمرك بأمر وأنك تخالفينه. وأجابته عزّة بتحدٍّ وثقة بأن: ربنا هو من يحاكمني وليس أنت. بهذه الجملة البسيطة الشجاعة جرّدت عزّة رئيس هيئة الفقهاء، وهو المستوظَف ليخاطب الآخرين بصوت السلطة الدينية الآمِر الناهي، من سلطته ونزعتها عنه في لمح البصر. بهذه الجملة البسيطة الشجاعة أزاحت عزّة الرؤية المؤسسية للدين وجهازها الرسمي عن طريقها لتعلن حريتها وتفتح لنفسها (وللآخرين) أفقا أكثر رحابة. وبالإضافة لتحدي عزّة وجد رئيس هيئة الفقهاء نفسه أمام تحدٍّ آخر عندما طرحت أسيل عبدو، الجالسة قبالته، فكرة جذرية وهي فصل الدين عن الدولة (أي العلمانية) كخيار. وأكّد استمرار الحوار ما يلخّص رأيها في تجربة دولة المشروع الإسلامي، التي نشأت وترعرعت في ظلها، وهو أن الدين قد أمسى استغلالا وتسييسا.
2
يا لمأزق رئيس هيئة الفقهاء وخيبة أمله! لقد جاء لتسجيل الجلسة وهو يتوقع جمهورا من شباب سهل الانقياد سيزدرد ويستسيغ كل ما سيلقيه عليهم. ولكنه وجد، على حد تعبيره: "جمهورا أغلبه من الفتيات الناشطات فى العمل والنهج الذى يخالف ثوابتنا الاجتماعية وعقيدتنا الإسلامية" (موقع النيلين، 20 سبتمبر 2018). لم ينسحب لأنه أحسّ أن الإسلام في خطر. ولا شك أن تقديره كان سليما --- فالإسلام، وخاصة في تجليه الذي يعيشه السودانيون كـ "مشروع حضاري"، ينقل السودان من مقام "الجاهلية" لمقام قيادة العالم وهو يقدّم "النموذج الأعلى"، قد فشِل واستبان إفلاسه وأضحى بالفعل يواجه تحدّيا وخطرا حقيقيا. كيف يدافع عن "الثوابت الاجتماعية" و"العقيدة" في وجه هؤلاء الفتيات الناشطات اللائي لا يواجهنه بالبندقية وإنما بتجربتهن وأفكارهن وبشوقهن العارم للحرية؟ كيف يواجه رنا بدر الدين، فنانة الراب، التي تغني للحرية والحب والسلام؟ (استمع مثلما استمع الآخرون وظلّ صامتا). كيف يواجه عائشة (عشّة) الكارب، الناشطة الصلبة المتصدية لقضية زواج القاصرات؟ (دخل في خلاف معها متمسّكا بالموقف التقليدي للشريعة الذي يجعل بلوغ الفتاة سن "الحُلُم" هو سن زواجها، رغم تعارض الشريعة في هذا الصدد مع القانون السوداني --- وعندما أشارت للتناقض قال، مستندا على سلطته الدينية الآمِرة الناهية، إن القانون الذي لا يتّفق مع القواعد التي يؤمن بها يجب أن يتغيّر). كيف يواجه ويني عمر، الناشطة الحقوقية، التي تحدثت عن تجربة اصطدامها بقانون النظام العام الذي انتهك حريتها في اختيار زِيِّها؟ (لم يعلِّق، إلا أن موقفه كان واضحا لخّصته زرايته بِزِي عزّة).
ولقد استبان وَهَن حجج الشيخ وفساد منطقه وهو يعالج قضايا التحرّش والختان والعنف ضد المرأة، وهي قضايا عاملها كلها انطلاقا من تحامله على المرأة ورغبته في كبتها.
3
في حديثه عن التحرّش استند منطق الشيخ على أن المرأة هي المسئولة عن تحرّش الرجل بها، ولم يكن في جعبته غير الحجة التقليدية أن الحجاب هو صِمَام الأمان لحمايتها ولحفظ كرامتها في الفضاء العام. وذابت الحجة كذوبان قطعة الثلج وهي تتعرض للّهيب عندما ارتفعت أصوات الفتيات المفعمة بوجع السُّخط والاحتجاج من كل ركن في الجلسة وهن يحكين عن التحرّش بهن بصرف النظر عما إن كُنّ محجّبات أم غير محجّبات. وعندما وجد الشيخ نفسه محاصرا وعاجزا عن الدفاع عن منطقه أطلق آخر ما في جعبته: أن شابا أخبره أن فتاة تحرّشت به. وهكذا أراد قلب الوضع لتصبح الضحية هي الجانية. كانت حجة يائسة بائسة تلقت في الحال رصاصة موتها: على الرجل في هذه الحالة أن يقاضي من تحرّشت به. كانت تجربة الفتيات المريرة والمهينة واليومية هي الفيصل والكلمة الأخيرة، وهي التجربة التي دفعت إحداهن للقول إنها حتى لو كانت عارية فليس من حقّ أحدّ أن يتحرّش بها. وهي بقولها هذا لم تعبّر فحسب عن عمق انجراحها كإمرأة أضحى الشارع بالنسبة لها فضاءَ استباحةٍ وهتكٍ لحرمتها وإنما وضعت أيضا كل المجتمع أمام مسئوليته الأخلاقية في احترام إنسانية المرأة وكرامتها.
إن ما كان خليقا بالشيخ هو أن يحترم تجربة هؤلاء الفتيات وينصت لهنّ باهتمام وجدية وتعاطف علّ بصره ينفتح على واقع ليس مألوفا لديه وليس مألوفا للغالبية الساحقة من الرجال. إلا أننا نقدّر أن مثل هذا المطلب عسير بل وربما يكون غير ممكن في حالة الشيخ لأن منصبه كرئيس لهيئة الفقهاء يجعله الحارس والحامي والمدافع الرسمي عن الشريعة بكل ما تحوي من مظاهر قهر للمرأة وتمييز ضدها. وإن سألنا عن سبب انتشار التحرش بالمرأة في ظل نظام الإسلاميين فإن إجراءات الشريعة التمييزية ضدها وخطابَها الذي ينظر للمرأة في غالب حالاته كمتاع جنسي قد أدّى في تقديرنا لانتشار وتعميق النظرة الدُّونية لها مما استتبع ضمن ما استتبع انتشار السلوك المتحرِّش.
4
وعندما تحرّكت المناقشة لموضوع الختان ميّزالشيخ بين الختان الفرعوني وما يوصف بختان السنة وحَكَم بتحريم وتجريم الأول وقال إن الثاني فيه اختلاف. ولكن ماذا عن موقفه هو وعما إن كان مؤيدا لختان السنة؟ أجاب في البداية بإجابة غامضة قائلا: "نُص نُص"، إلا أنه وتحت الضغط كشف طبيعة موقفه المؤيِّد لبتر طرف من الأعضاء التناسلية بحجة أن فيه "طهارة ونظافة ولذة". ولكن ماذا عن معاناة النساء المختونات وآلامهن، ماذا عن الدليل الطبي الذي انبرى الدكتور محمد محيى الدين الجميعابي يؤكّد عليه قائلا إن الختان بكل أشكاله ضارّ صحيا وإن الحديث عن فوائده مزاعمُ جهلٍ؟ عند هذا المنعطف أضرب الشيخ عن الرد والنقاش قائلا إنه قال ما عنده. ولكن ما هو سنده فيما قاله؟ لا شك أن سنده هو المادة التقليدية للمدافعين عن ختان السنة من أحاديث وأقوال فقهية في المادة التراثية علاوة على ما يوصف بالفوائد الصحية في المادة الحديثة. إلا أن الشيخ أضاف أيضا لذلك عنصرا شبيها بالدليل المسحي عندما ذكر ما سمعه من "بعض النسوة". والشيخ أُتيحت له فرصة ذهبية لمواجهة الدكتور الجميعابي والدفاع عن حجته الفقهية والعلمية والسماعية إلا أنه آثر الامتناع والصمت.
وقفت شابة كاشفة الوجه والرأس لتقول إن التوعية مهمة ولكن لابد من قانون يحمي الفتيات حتى لو تعرّضت فتاة واحدة للختان. ولكن لماذا التباطؤ في إصدار القانون؟ وجدت نفسها تقف أمام أحد أعضاء المجلس النيابي للنظام. وقف النائب وقد ارتدى عباءة الفقيه ليحدِّثها أن النصوص الشرعية واضحة بشأن ختان السنة وحدّثها عن الحديث الذي يُوصي فيه محمدٌ نساء الأنصار أن " ... يَخْتَفِضْن ولا يُنْهِكْن". ووقفت الشابة أمام النائب وقد بدت عليها علامات الحيرة وربما ساورها شيء من القلق وربما لم تكن قد سمعت بهذا الحديث من قبل. إنها مسلمة وتعترف أنها غير "متفقهة في الدين جدا"، ولكنها تدرك كإمرأة أن الختان بصرف النظر عن أنواعه ومسمياته ضارّ. رأت ولمست في الحال خطل ما يقوله النائب (والفقهاء من ورائه) عن أن الختان مفيد للمرأة "صحيا وجماليا". رفضت ما قاله النائب وواجهته بفهمها للإسلام الذي بنته على قناعة فطرية أن الدين لا يمكن أن يضرّها. أعلنت له باحتجاج عميق ملأ كلَّ كيانها: "ما ممكن". بهاتين الكلمتين كشفت عن بصيرة أخلاقية نافذة تَزِن ما يُلْقَى عليها من النصوص بميزانها ولا تقبل انتهاك جسد المرأة وتشويهه. بهاتين الكلمتين أعلنت أن حسّها الأخلاقي هو بوصلتها وليس سلطة النصوص.
ووقفت شابة محجّبة لتبدأ كلامها بحديث محمد في آخر خطبة له يقول فيها للرجال: "استوصوا بالنساء خيرا". ثم تساءلت، والحزن يكسو وجهها: وين الخير؟ ورسمت صورة الواقع الكئيب والشقي لحال المرأة قائلة: "نحن نُضرب، نتعرض للتحرّش، نتعرض للختان --- لا توجد قوانين رادعة لمن يفعلون فينا ذلك. حقوقنا مهضومة". ثم طرحت سؤالها: "إن تعاملنا بمنظور الدين، إن كان الدين يعاملنا كذا --- لماذا خُلِقْنا؟" وصفت سؤالها بالبسيط. ولم يكن سؤالها في واقع الأمر بسيطا، بل كان سؤالا كبيرا عميقا. إلا أنها بكل أسف طرحت سؤالها في المكان الخطأ لأن من نذر نفسه لحماية بيضة الإسلام في الجلسة من أهل الفقه، وأهل الفقه لا ينشغلون عادة بأسئلة الوجود الكبرى التي اشتغل بها في الإسلام المتكلمون والفلاسفة والمتصوفة.
5
وسقط الشيخ مرة أخرى عندما تحرّك النقاش لمسألة العنف ضد المرأة. والعنف ضد المرأة واقع محزن في كل بلاد العالم التي ينتشر فيها، إلا أن ما يعقِّد الأمر في البلاد المسلمة هو أن القرآن نفسه يسمح به كإجراء تأديبي ضد من يصفها بـ "الناشِز"، أي التي لا تطيع زوجها. تقول آية القَوَامة والنشوز: " ... واللاتي تخافون نشوزهن فعِظُوهنّ واهْجُرُهُنّ في المضاجع واضْرِبُوهُنّ ... " (4: 34، النساء). والقرآن يستخدم كلمة النُّشُوز في حق الرجل أيضا، فنقرأ في سورة النساء: "وإنْ امرأةٌ خافت من بعلها نشوزا أو إعْراضا فلا جُناح عليهما أن يُصْلِحا صُلْحا والصُّلْح خيرٌ ... " (4: 128). وهكذا نرى الفرق بين معاملة القرآن للمرأة الناشز وللرجل الناشز. ومن الطبيعي أن يدافع رئيس هيئة الفقهاء عن العنف ضد المرأة، إلا أن شعوره بالحرج يجعله يلجأ للتهوين من الأمر بقوله إن الضرب سينطبق في نهاية الأمر على "نسبة ضئيلة جدا" من النساء اللائي لا ينفع معهن القول الحسن، وهنّ نساء يستحققن الضرب بل و"يستلذِذْنَهُ". لم تأبه عزّة بالمنطق المريض للشيخ وأكّدت على حقّ المرأة في المساواة وأن يكون الزواج شراكة بينها وبين زوجها لا وصايةَ فيها وخالية خلوا تاما من العنف. لجأ الشيخ لنفس حجته التي تحيل الضحية لجانٍ وقال: ماذا عن "النسبة العالية جدا" من النساء اللائي يضربن أزواجهن؟ وعندما سئل عن دليله أقسم على صحة قوله إلا أنه ما لبث أن اعترف أنه لم يُجْرِ دراسة تثبت ما قاله. ولكن هب أن هناك نساء يضربن أزواجهن --- هل يبرّر هذا ضرب المرأة؟ لا شك أن المطلوب هو إيقاف وتجريم العنف الأسري بكل أشكاله (وهو تجريم يجب أن يشمِل العنف ضد الأطفال).
ولقد اختار بعض الفقهاء في الماضي الذين نفر حسّهم الأخلاقي من الضرب خيارا آخر يعكسه الحديث الذي يقول: " ... لن يضرِب خِياركم". لم يتعاطف الشيخ مع هذا الخيار لأنه يقف على الأرضية الأخلاقية المضادة التي تريد أن تتمسّك بضرب المرأة. ولقد دافعت عزّة في مواجهتها مع الشيخ عن الموقف الأخلاقي السليم، الموقف الذي يؤكد أن الضرب فعل غير أخلاقي لا مكان له في الأسرة البتة. وموقف عزّة لا ينطلق بالضرورة من الدين ولكن من قيم أخلاقية تتجاوز الرؤية الدينية عندما تكون رؤية تمييزية --- قيم تؤكد على المساواة والمشاركة وغياب الوصاية والعنف. وفي مواجهة هذه القيم فإن الشيخ يقدّم للمرأة ما يحفظ "حقّها" من خلال "ضرب شرعي" --- فأفعال الرجل لابد أن تخضع للتدرّج الذي تتحدث عنه الآية. وعندما يفشل هذا التدرّج فإن من "حقّ" الرجل أن يضرب. وما لم يشر له الشيخ أن قراءته للواو هنا واحدة من احتمالين. فالواو من الممكن أن تكون للترتيب ("ا" ثم "ب" ثم "ج") أو لمطلق الجمع (("ا" أو "ب" أو "ج"). وقد اختار الشيخ الاحتمال الأول. أما الذين اختاروا الاحتمال الثاني فقد ذهبوا أن من حقّ الرجل عندما تبدي المرأة النشوز أن يعظّها أو يهجرها أو يضربها، فالبدء بأي واحد من هذه الإجراءات التأديبية متروك لخياره وتقديره.
تمسّك الشيخ بـ "حقّ" الرجل أن يضرب زوجته. وفي انحيازه لهذا "الحقّ" فإن الشيخ لا يهمه ما تعتقد المرأة أو تشعر، بل ولا يهمه الانهيار المحتمل للأسرة. رأى مقطع ابتهال التي أجبرتها ظروف فقرها على التزوّج وهي قاصر لتعيش مع زوج يسىء لها ويضربها ثم ينتزع منها طفلها ويخرج من حياتها لتجد نفسها امرأة معلّقة لا تعينها ظروفها على اللجوء للقضاء ولا تملك إلا الشكوى. لم ينبِس الشيخ بعد المقطع حتى بكلمة تعاطف واحدة وهو يسمع قصتها ويرى واقع البؤس والفقر المُعْدِم المحيط بها وإنما انبرى يدافع عن زواج القاصر بل ويرفعه لمقام حقّ من حقوق الإنسان.
6
إن ركيزة المشروع الإسلامي هي الشريعة. وعندما يتمّ إحياء الشريعة وتطبيقها تصبح المرأة مواطنا من الدرجة الثانية. ونجاح تطبيق الشريعة يتطلّب إعادة تشكيل وصياغة الوعي ليقبل مجموع المجتمع بتطبيقها من ناحية، ولتقبل النساء، من ناحية أخرى، كل صنوف التمييز ضدهن كأمر طبيعي إذ أنّ قهرهن واستمراره غير ممكن إن لم يتحقّق ذلك. وفي الجبهة النسوية لا نستطيع أن نقول إن المشروع الإسلامي في السودان، خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، لم يحقّق نجاحا، بحكم سيطرته على النظام التعليمي والإعلامي وقمعه لحرية التعبير (مع وضع اعتبار التنشئة الدينية التقليدية لسواد السودانيين وما ينتجه ذلك من علاقة وجدانية بالدين). ولقد ظهر طرف من هذا النجاح في الاستطلاع الذي أجراه مقدِّم البرنامج عن الضرب عندما عبّرت غالبية فتيات عينته عن موافقتهن على حق الرجل في أن يضرب المرأة (وهو حقّ شمِل عندهن الأب والأخ). ورغم أن الاستطلاع سريع وعينته محدودة العدد ولا تحوي التنوّع الفئوي المطلوب إلا أنه يعطينا فكرة تقريبية عن مدى التأثير الذي أحدثته هيمنة الخطاب الإسلامي في إنتاج "وعي زائف" يجعل المرأة تَسْتَبْطِن دُونِيَتَها.
ولكن ما هو مدى هذا النجاح؟ هل حقّق المشروع الإسلامي نجاحا يجعلنا نحكم أن خطابه بشأن المرأة قد خلق إجماعا جديدا تتبنّاه غالبية النساء؟ حسب إحصاء الدراسة المسحية التي قام بها اليونيسيف والجهاز المركزي للإحصاء السوداني في عام 2014 عن حق الرجل في ضرب زوجته أو شريكته فإن 34% من النساء مؤيدات للضرب. وهكذا ورغم أن غالبية النساء على ما يبدو يعارضن الضرب إلا أن وجود مثل هذه النسبة من المؤيدات مسألة محزنة ومخجلة ومريعة.
ورغم إمكانيات النظام الطاغية فإن المرأة السودانية لم تترك الساحة خالية للإسلاميين إذ رفعت صوتها عاليا وأقامت منظماتها ضد كل أشكال التمييز. وهكذا نشِطت الناشطات لنشر الوعي التحريري المعاكس وقمن بشنّ الحملات ضد العنف الأسري وضد الختان وضد زواج القاصرات وضد قانون النظام العام وغيرها من مظاهر القهر. وقدّم البرنامج ثلاثة وجوه مشرقة لنضال النساء ومقاومتهن الهادئة.
7
ففي توتي بدأت مبادرة هي الأنجح والأكثر فعالية من نوعها في السودان حسب علمنا وهي مبادرة "لا للختان" وجَعْل "توتي منطقة خالية من الختان". وهي مبادرة قادتها نساء مختونات من جيل الأمهات والجدّات قررن ألا تتعرّض بناتهن وحفيداتهن لما تعرّضن له. رفضن المنطق الذي يروّجه الفقهاء ولم يحفِلن بالنصوص. قرّرن في بلد لا يوجد فيه قانون يجرّم الختان أخذ زِمام المبادرة وإقرار "قانونهن" بأنفسهن، وشرعن ينشرن بصبرٍ الوعيَ المناهض للختان. وكانت نتيجة عملهن المثابر أن 75% من فتيات الجزيرة وخاصة البنات الصغيرات نجون من الممارسة التشويهية الضارة حسب بيان جمعية ناشطات توتي.
أما مبادرة الدرّاجيات السودانيات فهي تعبّر عن رغبة مشروعة وبسيطة وهو أن تكون للمرأة الحرية في قيادة الدرّاجة. وهذا نشاط من الممكن أن يؤدي للاصطدام بتقاليد المجتمع المحافظة رغم قبول المجتمع السوداني لقيادة المرأة للسيارة (وهو قبول تحقّق قبل انقلاب الإسلاميين). تتقابل الدرّاجيات أسبوعيا ليمارسن هوايتهن. يعلمن أن قيادتهن للدرّاجة ليست بتغيير كبير إلا أنهن عازمات على مواصلة نشاطهن بهدف توسيع مساحة حرية المرأة. وهنا يواجهن أيضا "الوعي الزائف" في الهجوم عليهن من نساء أخريات يستهجِنّ ما يفعلن. والدرّاجيات مقتنعات أن الأمر لا يعدو أن يكون أمر وقت ليصبح مشهد المرأة على الدرّاجة مشهدا عاديا لا يثير استغراب أحد أو استهجانه. يعلمن الثمن الذي تدفعه الرائدات ولكنهن على استعداد للتضحية ودفع الثمن مهما كان باهظا.
ووسط حشد صاحبات الوعي الحر هذا تقف شابة فريدة هي أصيل دياب فنانة القرافيتي التي نقلت فنّها للشارع لتعكس إيجابية المرأة السودانية وقوتها. شابة مليئة بحبّ وطنها ومليئة بإيمانها بقدرة المرأة على الإبداع في كل المجالات وقدرتها على الانتصار على كل أشكال القهر والإقصاء. تعلم أن وقوفها في الشوارع ترسم وهي كاشفة الوجه والرأس وقد ارتدت البنطلون مما يعرّضها لاحتمال السجن أو الجلد تحت طائلة قانون النظام العام، إلا أنها لا تأبه لأنها من طينة معجونة بالتوق للحرية.
8
كان الشيخ صامتا وهو يشاهد كل هؤلاء النساء وهن ينتفضن ويُعْلِنّ كسر قيودهن رغم دبّابات النظام العسكري الإسلامي ومدافعه وقوات أمنه واستعداده للتنكيل بمعارضية اعتقالا وتعذيبا وقتلا ولسان حاله يقول: "يعذبهم الله بأيديكم"، ورغم الاتجاهات المحافظة والمتخلفة المعادية للمرأة في المجتمع السوداني، وهو عداء كسب حتى قطاعات من النساء لصفّه. وفيما بعد تدفّق مكنون ما حمل الشيخ في صدره من غيظ وسُخْط وغضب عندما دعا "وزارة الإعلام السودانية أن تضبط نشاط القنوات التى تشوه صورة البلاد مثل هذه القناة [أي القناة الألمانية]، كما دعا القنوات السودانية للانتباه لما يُحاك ضد البلاد فلا تتعاون مع الذين يأتون بقصد التشويه." (موقع النيلين، 20 سبتمبر 2018). كان هذا هو ردّ فعل الشيخ بعد أن تعرّض، وربما لأول مرة، لتجربة الجلوس القاسي على كُرْسيٍ من النار وهو يواجه "ناقصات عقل ودين" وقفن شامخات أمامه واستطعن تمزيق حججه وهنّ يرفعن راية القيم الإنسانية التي ترفض وتتجاوز قيمَ شريعةٍ تقبل تشويه جسد المرأة وضربها وتزويجها وهي طفلة. ورأى بأم عينه كيف أن "ناقصات العقل والدين" هؤلاء لم يكتفين برفع صوتهن وإنما شرعن يعملن لإنهاء القهر عبر نشر الوعي السليم والانخراط في مختلف مظاهر النشاط الذي يفجِّر الطاقات المكبوتة للنساء لأنهن يدركن في نهاية الأمر أن هذا هو ما يحررهن وأن العدو الحقيقي ليس الرجل وإنما الوعي الزائف الذين يستعبد الرجال والنساء.
وفي تقديرنا أن ما اتّضح للشيخ أنه فشِل في الامتحان وأنه أدرك أن دفاعه عن الشريعة كان ضعيفا وغير مقنع. لا نستغرب لفشل الشيخ لأن الدفاع عن الشريعة لن يصمد في نهاية الأمر في وجه يقظة الوعي بالحقوق والتمسّك بها. إن دعوته التي أصدرها بعد الجلسة بمصادرة حرية التعبير هي ما ظلّ النظام يفعله منذ اليوم الأول لانقلابه وهو يحاول جاهدا ومجاهدا إسكات صوت المعارضة والمقاومة، وهو جهد وجهاد كان من المتوقّع أن يكون الشيخ قد رأى ولمس ثمرته الخاسرة في مواجهته الخاسرة في تلك الأمسية التي ستنحفر في ذاكرة من يحملون آمال وأحلام التغيير ويعملون من أجله كلحظة مشهودة من لحظات المواجهة العلنية لكبت الشريعة.
9
إن المطلوب ليس هو أن يستوصي الرجل بالمرأة لأن المرأة ليست بحاجة لوصاية الرجل عليها، فهي راشدة وكاملة عقل ووقفت على قدميها بفضل تعليمها الذي يؤهلها لاقتحام كل المجالات. إن المطلوب هو أن يدرك الرجل أن المرأة مساوية له وأن حريته لا تنفصل عن حريتها وأن ما يحتاج إليه هو أن يضع يده على يدها ليتشاركا عبء بناء مجتمع أفضل تتحقّق فيه إنسانيتهما سويا وتتكامل.

محمد محمود أستاذ جامعي ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.
[email protected]

للحصول على نسخة بي دي أف من هذا المقال يمكن الاتصال بـ
[email protected]


عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

تحية لك يا صديقي عثمان، وعبرك ، تحية للأخ الدكتور محمد محمود، كاتب المقال.


من خلال متابعتي ل مخازي عصابة الأخوان المسلمين في السودان في الأسافير والوسائط السايبرية خلال أكثر من 20 سنة، وكذلك بعد زيارتي للسودان قبل شهرين فقط، زرت بربر/ شندي/ والخرطوم بالطبع، وتحدثت مع الكثيرين، تبلورت لدي فكرة: لم أر في حياتي، ولم أسمع في التاريخ، ب هزيمة ساحقة، ماحقة، لنظام دولة، وهي ممسكة، ومسيطرة تماماً علي زمام الأمور (... ) ! أو هكذا تخيل لها.


التحية ل وئام شوقي وصويحباتها، وسيذهب البيدوفيلر، رئيس هيئة العلماء المفترضين، إلي المكان الذي يليق به، و بهم، عاجلاً، أم آجلاً.
الفكر الديني ضعيف، لذا فإنه يلجأ الي العنف عندما تشتد عليه قوة المنطق، حيث لايجد منطقاً يدافع به، ومن ثم يلجأ الي العنف.( ... )
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

"ووقفت شابة محجّبة لتبدأ كلامها بحديث محمد في آخر خطبة له يقول فيها للرجال: "استوصوا بالنساء خيرا". ثم تساءلت، والحزن يكسو وجهها: وين الخير؟ ورسمت صورة الواقع الكئيب والشقي لحال المرأة قائلة: "نحن نُضرب، نتعرض للتحرّش، نتعرض للختان --- لا توجد قوانين رادعة لمن يفعلون فينا ذلك. حقوقنا مهضومة". ثم طرحت سؤالها: "إن تعاملنا بمنظور الدين، إن كان الدين يعاملنا كذا --- لماذا خُلِقْنا؟" وصفت سؤالها بالبسيط. ولم يكن سؤالها في واقع الأمر بسيطا، بل كان سؤالا كبيرا عميقا. إلا أنها بكل أسف طرحت سؤالها في المكان الخطأ لأن من نذر نفسه لحماية بيضة الإسلام في الجلسة من أهل الفقه، وأهل الفقه لا ينشغلون عادة بأسئلة الوجود الكبرى التي اشتغل بها في الإسلام المتكلمون والفلاسفة والمتصوفة."- د. محمد أحمد محمود...



[color=brown]مَثَلُ تلك "الشابة المحجبة" وحسن وسلامة فطرتها الإنسانية والأخلاقية والروحية قمينٌ بأن يُرَى أو يُشَافُ على أنه كونُه من بشائر ثمار حساسية شعورية جديدة، بدأت تؤتي أُكلَها الحَيَّ في أنفُسِ شابات وشباب بلادنا المنكوبة، هي جديرة حقاً، بفعل انشغالها الممكن بما أشار إليه مقال د. محمد أحمد محمود في مقاله هذا بعبارة "أسئلة الوجود الكبرى التي اشتغل بها في الإسلام المتكلمون والفلاسفة والمتصوفة"، برفع فعل التدين، كفعل كينوني-وجودي، أو على الأدق والأرق-معاً- كفعل روحي فرداني بامتياز، إلى مقامات إنسانية وما بعد إنسانية، أو إن تشاء قل أُلوهيَّة، أصيلة.
[/color]
أضف رد جديد