غياب المُغنّي الأخير

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

غياب المُغنّي الأخير

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

غياب المُغنّي الأخير



[align=left]إلى: أبو بكر السّعيد



1

يتهدَّجُ صوتًكَ بأغاني بناتِ الذِّاكرة السّوسيولوجيَّة الشّعبيّة العفويَّة السِّريّة المُسمّاةَ، جُملةً، من عندَ جِهَةِ فصاحةِ البابِ الإسْتَانيِّ العالي للأيدولوجيّة الثقافيّة السُّلطويّة المركزيّةِ خصوصاً، "هابطةً". يتلذَّذُ تطريبُكَ المُعتَّقُ الجِّرارِ بسَمَاحةِ رخامةِ صوتٍ ستِّيْنِيٍّ ليس بِشَغَّالٍ أبدَاً، على مستوى وعيه المباشر، بذاتِهِ الـ"عزِّ ظهِيْرِيَّةِ" البَرِّيّةِ/النَّهاريَّةِ الإجتماعيّة؛ صوتٌ كلاسيكيٌّ، بامتيازٍ- بترجيعاته وتوليفاته وأوكتافاتهِ وصعوداته وهبوطاتِهِ ووهداتِ قرارِهِ الغرقى، الهيِّنَةَ النِّزولِ من سُدَّةِ الحلق، الوَهِيْطَةَ الهِبُوطِ البطئِ، ككشحةِ رشفاتِ مريسةٍ، عَسَليَّةٍ، أو "كونجيموروٍّ" أو "قَام زُتٍّ"، كَسْلَى، بطيئةً، مُعتَّقَةً، وطَريَّةً ("طَرَاوِيَّةً")، في جَوفِ الجّسدِ والنَّفسِ المُتَلَقِّيَيْنِ. تاركاً، كُنْتَ، لصوتِكَ وشأنِهِ، هكذا، هكذا... (تِلْكْ الـ"هكذا" التي لا يُستَطاعُ قَوْلُهَا إلا رَسْمَاً؛ إلا لونَاً وتشكيلاً). صوتٌ تَحتانيٌّ، تحتَ تيَّاريٍّ، رائقٌ، نيلٌ أبيضٌ مَاهِلٌ كائنٌ على برزخٍ شعوريٍّ قائمٌ، بلا تعيينٍ مُقيِّدٍ، في الحزامِ الصَّوتيِّ السُّودانيِّ المُمْتَدِّ، بتداعٍ حُوشِيٍّ، فيما بين أصوات أهل التّطريبِ السُّودانيّين الخمسينيِّين الآسرين إبراهيم عوض، محمد مسكين، محجوب عثمان وإبراهيم إدريس (ودَّ الْمُقْرَنْ). هل تَتَحَسَّسُونَ معي هُنَا، كهسيسِ جدولِ ماءٍ واعدٍ ضاحكٍ وأخير، ما قد شُفْتُهُ هُناكَ، في صَوتِ المُغنِّيَ الأخير، في أرضِ ما قبلَ غيابِ المُغَنِّيَ الأخير؟

2

القلبُ دائرةُ اللّهب- هالةُ التَّحقٌّقِ العاطفيِّ الجّارحْ؛ مَعْصُورَةً، كَيَدِ، كبُرتُقَالَةٍ مُتآكِلَةَ، "مَتْشُوشَةَ"، الأطرافِ بالوَهَجْ . هذا البوحُ يُؤرّقُنِي بالدّمعِ، فجأةً، حينَ رمادُ النّهارِ يجتاحُنِي بالبُكاء- بُكاءِ الشّفاءِ الكارثَيْسِيْسِيِّ أو بُكاءِ التأسّيَ الخالقِ بالشَّجنِ الحيِّ/الشَّجَرِ المَيْلَودِيِّ الحيِّ مُشيِّدَ البناءِ الغنائيِّ الخالدَ التَّرَمْسُنْ! هذا الغِنَاءُ (يا صاحِ) لا يُواتِيْنِيْ بالنّسَيَانِ وأنتَ، في البلادِ المَخْرُوقَةِ بدمِ الهوسِ السَّلَفِيِّ المُتَعَطِّنِ فيها بِبَوْلِ عناقريبٍ مُخمَّرٍ مُنْذَ عهدِ سُلالةِ البَقْطِيِّيْنَ* المُزْدَهِيْنَ- لُؤْمَاً- باعْتِمَالِ زَهْوِ النَّطْعِ والسَيْفِ على رقابِ الغارِمِيْنَ-"المَوَالِي"، غِيَابُ وَردِ رَمادٍ ذاهلٍ، أنتَ رمادُ حريقٍ ذاهلٍ، عن لياليكَ القديمةَ الوَجِعِ السُّودانِيِّ الغِنَائِيِّ الدُّيونيوزيوسِيَّ النَّفْيِ والجّمالِ؛ طَرِبَةَ الثَّمَالَةِ تَكُنْ "الحَاجَّةُ"، إذ تَلْدَغَكُ النَّشْوَةُ- على أخْذِ غِرَةٍ- بِفَرْهَدَاتِ الغِنَاءِ: يا حاجّة دُقِّي لينا كارُوشَة/يا حاجّة دُقّي لينا كَارُوشَة/ يا حاجّة دُقِّي َليـْ...َنا كَارُوشَة/ يا حاجَّاااا يا حاجَّه... ويا حاجَّة دُقّي لينا كاروشة/ يا حاجّة دُقّي لينا كَارُوشَة/ يا حاجّة دُقّي َليـْ...نَا كَارُوشَة/ أُو،ْ يا حاجَّة.........

3


الصّمتُ الغنيٌّ بإيقاعِ ذكرياتٍ غَريقةَ القِدَمِ يفجؤُني بصوتِ "تَرْتَارٍ" يَتَكَشْكَشُ، غَرَّةً، في وسطِ صُرّتِهِ- الصّمتُ- المقطوعةِ، منذ أزمانٍ سابقةٍ لمولدِ أيِّ ذكرى حيَّةً بالوعيِ والنَّهارِ [والإستدعاءُ نيتشويٌّ، على حدِّ التأكيدِ القاطعَ الإدِّعاء!]،"حَسَّةً" في هذا القلبِ، الكأسِ، السَّجْدَةِ- الأزلِ وصفاءِ الكوبِ الذي ما بُهِّرَ بسوى قِرْفَةِ لونٍ قديمٍ معجونٍ بلونِ وموسيقى طبلِ بُنَّيَّتِهِ الإنسانيّةِ-الأفريقيَّةِ: السّاحلُ ينهضُ والبُنُّ وزنجبار فيتخمّرُ، في الصّوتِ المُغَنِّي، بكُلِّ "مَرَايِسَ" التَّثَمُّلِ المعتّقةِ من قبلِ خلقِ هذا الهواء الما بعد-تاريخيِّ العميمَ بسُمِّ الحضارةِ-الآلةِ-اللُّهاثِ، هذا التَّهَدُّجُ، شجنُ "الخَدَارِ"-الأنُوثَةِ، يا مُسْلِمِيْن، فيُحْلَفُ أن قَدْ تَعَالَ حنُونَ الأغانِي، مزيدَ الجِّنُونِ، عليكَ، التَّفَانِي، التَّهَتُّكَ، بَرْدَ اللّيالي المَصِيْفَةِ، ضربَ الحبيبِ-الزّبيبِ، البُكاءَ، اللّقاءَ، السُّؤالَ، عليهِ، تأبِّي الطِّيُوفِ وكُلَّ المسالِكِ هذي، دَوارَ الكُؤوسِ، الليالي النَّفُوسِ، تَغَنِّي جَمَالِ الغِوايَةِ فَنَّاً أن قد بَرُدَتْ ليالي الحبيبِ، "التَّكَنْيُكَ*" جازَ، النَّبيذُ اتَّقَدْ، إبليسَ الكِتابِ اتّئَدْ*!



[align=left]إبراهيم جعفر
صيف 2011



* من "البَقْطْ"، نسبةً إلى "اتِّفاقيَّة البقط" التاريخيَّةِ الشهيرة فيما بين أهلِ بلادِ النُّوبةِ الأصليِّيْن والفاتحين-الغزاة من العربِ والمسلمين.
** من "الكَونْيَاك"، شَرابُ السُّكْرِ الإفرنجيِّ المعروف.
*** يُقالُ (وصَلاةُ السّلامِ على الرُّواةْ!)، في أُغنيةِ قَعْدَاتٍ/أَنْدَايَاتٍ سّودانيَّةٍ شهيرةْ: بَرَد الليل يا حبيب/ده الكُنياك ده الزّبيبْ/وِسْكِي وصودا مع النَّبِيْذْ، ثُمَّ: جانا ابليس شايل الكِتابْ/خشّه معانا بدون عتابْ/قال ندمان الولد اللّي تابْ/ونِعْمَ الطَّشَمِي الإنتُو فِيْ!
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

ربما أبتغي منكم الآن، إن تشاؤون طبعاً، قراءة نسجي الشعري "المهترش" أو "المشاتر"، أو "المشاكس"، أو "المهبلس"، أو فقط الكيفما ترون، المنشور أعلاه، مرة أخرى...
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

و "الماعبرتونيزم"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

و ما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين
يا زول مرحبا بك في أرض الشعر التي لا رفيق فيها يُستأنس به سوى القصيد. و الشاعر يكتب رسالته و يودعها زجاجة و الزجاجة يرميها في لجة البحر فتطفوا في التيه الواسع حتى يُقيض لها أن ترسو على شاطئ. و لو اسعدها الحظ فسيقع عليها شخص يفتحها و يأخذ الرسالة و يقرأ و يفهم مضمونها ويعمل به فتكون كمن يعمل المعروف و يرميه في البحر و الأجر على الله. و لو شاء الله فزجاجتك قد تؤسو [ عفوا قصدت " ترسو" لكن تأسو " ما بطالة ]في بلدا طيره عجمي فيأخذ الناس المكتوب المودع داخلها و ينظرون فيه و لا يفقهون منه شيئا.و في كل حال فأنت لا تدري أي مصير يتربص بمكتوبك لكن هذا الواقع لا يمنعك من تجشم مشقات الكتابة و إيداع المكاتيب في القوارير و أيداع القوارير في بحار الظلمات و النور.
طبعا يا ابراهيم لو كنت كتبت نوع الشعر الدارج[ أبوضلفتين] داك لربما مر عليك من يستحسنه و ينفحك كليمات مؤازرات، لكنك يا صاح كاتب زاهد في نوع الكلم البائد.و طالما أنك سترمي بزجاجتك في البحر فمن باب اولى أن تعبئها بما تطيق نفسك الشاعرةو هذا اضعف الإيمان. و دعوتك للقراء أن يتكرموا بالنظر في شعرك المبذول هنا توقعك في" الماعبرتونيزم"، و هي تخريج موفق من العبارة " يا أخوانا ما عبرتوني بلا بلا بلا " ، جادت به قريحة أخونا الفنان علاء الدين الجزولي سوركتي لتوصيف موقف الشخص المتذمر من غياب المعلقين على المادة المبذولة في منتديات التواصل الإجتماعي. و لو كان لك من عزاء في كل هذا الأمر فالناس الذين يقرأون مكاتيبك يعرفون بعدها عن الهترشة و الهبلسة و فئات الجنك تكست التي تؤثث منتديات البرونيتاريا الأدبية، فسر و عين الله ترعاك، و لو عين الله ما رعتك برضو سر و الله ما شق حنكا ضيعه.

لا بد من عودة لسيرة الشاعر المستوحش في زحام الأسافير
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

أبراهيم جعفر
كيفك، في نقاش لي مع صديق لطيف حول الغناء "الهابط"، كتبت له هذا النص تلخيصاً لنقاشاتنا.

إليكه:


في إعادة الاعتبار لما هَبِطَ من غناء أهل السودان

اعلم، هداك الله، أن الغناء قيمة روحية لا تُضاهى، وهو فنٌ قديم قدم الأرض نفسها، وقد تكلم حكماء الأرض عن ضرورته ولذته، بل وذهب الأمر بفقيهنا الأديب إبن عبد ربه الأندلسي ( 860/939 م )، صاحب " العقد الفريد "، أن يكتب :
" ... و قد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا و الآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الأرحام و الذب عن الأعراض و التجاوز عن الذنوب ". وهذا ما حدا بنُخَبِنا تولي أمر سدانته ومَعْيَرَتَه إن صحّ التعبير، فهو أمرٌ جلل لم يشاؤوا أن يتركوه للعوام وخصوصاً "رجل الشارع العادي داك" . وقد كان لهم في شأن السدانة أمرٌ عجيب، ذلك أنهم أول ما بدأوا به هو إغلاق معبد الغناء وسدانته عليهم وحدهم، وبعدها طفقوا يجترون في موجوداته، وأعلنوا أنه لا امل في قبول مصلين جُدُد ولا عُبّاد أو نُسّاك يجددون أمر ديننا الغنائي، وأن باب الإجتهاد الغنائي قد أغلِقَ للأبد. وظل معبد الغناء يقبل فقط من يجتر قديم الغناء بصوته أو بآلة موسيقية جديدة تُبقي على أصل اللحن وتُخرجَه بصوتها فقط دون المساس بسيرته الاولى إلى بعد إجازته من الكاهن الأعظم وحامل مفاتيح "قدس أقداس الغناء" العارف بالغناء سيدي ومولاي "السر بن قدور الحَقَبَنْجِي".
أما بخصوص المَعْيَرة أو المعيارية، فقد تواطأ القوم على أن خير الغناء ما غناه السلف وفي غناء السلف أخذوا ما تَحَقْبن منه فقط، وأضافوا له ما جادت به حناجر التابعين لزمان الحقيبة منذ الكاشف وحتى كابلي. ثم أنهم جلسوا في معبدهم العالي ذاك ونظروا للغناء الآخر الذي ظل يطرق أبواب معبدهم فمنعوه بل وقالوا له اهبط فإنك رجيم.
وقد قَبِلت أنا شخصياً هذا الموقف من النُخبة، باعتبار أنها تُريد بنا خيراً، وتريد أن تُطَهِّر اسماعنا توطئة لقبولنا في دينها الغنائي، وقبل كل هذا وجدت لهم تأصيلاً في الحديث الغنائي الخلدوني الشريف "وأول ما ينقطع عن العُمران هو صناعة الغناء". فظننت أنا النخبة أرادت بنا خيراً، وخوفها على زوال العمران هو ما حدا بها تولي أمر الغناء برمته.
قلت أني قبولي لهذا الأمر استند على ما ذكرته عاليه، رغم محبتي للغناء المطرود من جنة النخبة وريحها. ولكن أحد خُبثاء المدينة نبهني لما اسماه نفاق النخبة، ومختصره أنهم، أي النخبة، يُهَبِّطون بعض الغناء، بل ويستهجنونه علانيةً كلمّا واجهوا مايكروفناً "فلا يتركون له صفحةً ينام عليها" حتى إذا ما خَلَوا لأنفسهم نادوا مُغنيهم "وقعدوا" لذات الغناء الهابط سمعاً وترديداً بل ويزيدون كيل بعير حين يستبد بهم الطرب فيهججون كأنهم فَرِغوا من حساب يوم القيامة. ثُمّ أن ذاك الخبيث المديني عضّد حجته بأغنية "جيناك يا عصام" و "يا حاجة ما تقولي كاروشة" وختم حديثه بعبارة بدت لي أنها وردت لتذكيري بأنه من "أولاد قلبها"، حيث قال "هُو الزَنق دا إلا يعزف فيه أيمن الرُبُع". فأغفلت عبارته الأخيرة، ووزنت باقي حديثه فوجدت أن حُجَته مقبولة، ولكني استفظعتُ وصفه للأمر بأنه نفاق رغم فرحي بما سمعت وأملي في ادخال كل الغناء إلى فردوس الغناء مهما كانت ذنوبه. ثم تشعب بنا الحديث كالعادة لأحوال البلاد والعباد وختمنا بالرياضة ورفعنا جلستنا تلك باستغفار لله مسموع.
وحينما خلوتُ لحاسوبي المحمول بحثت عن الاغنتين اللتين ذكرهما الخبيث الأمدرماني فوجدتهما يتبوأن مقعديهما في سوح يوتيوب العظيم. وحينما تأملت في كلمات الأغنيتين وجدت أنهما تدعوان للفضائل بعكس ما أراد أن يوحي لي به الخبيث عاليه، فأغنية "جيناك يا عصام" اغنية نفسية بيئية سياحية، فالفرفشة المذكورة في الغناء هي مطلوبة عند علماء النفس كوقود يعيد الطاقة للعمل في اليوم الثاني، فإن علمت أن النخبة "خرطومئذ" كانت تتمثل خطى سلفها البريطاني الصالح لعرفت أنها كانت تقتل نفسها في العمل من اجل راحة العباد الأمر الذي يستوجب منها تجديد الهمة بفرفشة محمودة وغير محمودة. أما إن سألت عن البيئة فقد جاء في أغنية (جيناك يا عصام) ذكرٌ لـ (القش والرش) وهو يدل على وعي النخبة البيئي على ضرورة النظافة وتلطيف الجو الساخن مما يُقلل الأمراض حرصاً على حياة الشعب الكادح وتحالف قواه العاملة. ولن يفوتك، أعزّك الله، ما جاء في الاغنية عن "الريفيرا" كدعاية يقوم بها النخبوي تطوعاً في زمن لم تكن فيه وسائل الاعلام بهذه الكثرة، وذكر التلفون يدل على أن اتصالاتنا في ذلك الزمان كانت في قمة مجدها فلا تمتَننّ علينا "زين" وإخواتها، فنحن لنا باعٌ طويل بدأناه منذ أن كان التلفون "غبياً عيياً" وصبرنا له حتى أصبح "ذكياً" ذو "واتسابٍ ويوتيوب وما بينهما".
أما الاغنية الثانية (ياحاجة) ففضائلها كثيرة، ويكفي بأن من ضمن كلماتها توحيد الله ناهيك عن اعلاء قيم التعاون وتبادل المنافع بين الجيران وما يتبع ذلك من تكافل محمود، فـ(الفندك الواحد كان يكفي الحلة كلها)، لله دره زيدان غناها بإحساس عالي قلّما تجده في معاصريه.
والناظر الى الاغنيتين بعين الرضا يرى ما رأيته فيهما، ولتعلم أن ابن خلدون السوداني قال (لا خير في غناءٍ لم يُقعد له).
فإن كان هذا امر النخبة وتهبيطها لغناء وضح أنه ليس بهذا الهبوط حينما تتلقفه ايدي النخبة وتتلقاه وهي "قاعدة" في اوكارها، فما بال الذي فلت من اياديها، فهو أيضاً، في نظري، لا يقل فضيلة بأي حال من الأحوال عن المثالين المذكورين، فهل يا تُرى من طريق لإعادة الاعتبار له؟ واستكناه ما فيه من فضائل تعلو به من هبوطه؟ فأغنية مثل "الشحم دا واللحم دا" وهي في العُرف النخبوي "هابطةً هبوطاً لا شية فيه"، فلو تأملتها لبانت لك فضيلتها في سياقها التاريخي قبل حملات الإرهاب الكلسترولي، فهذا كان معيار الجمال النخبوي نفسه، فقدمته المغنية لهم متتبعة اثر غنائهم الحقيبي السلفي والذي لم يتورع عن الاعجاب الحسي بالنساء، فالذي فعلته الأغنية هي ملء فراغ "يا ليلى هوى"، وبالتالي فما الذي يجعل شحم بهية " كُراعاً "وأوصاف الحقيبة لنفس الشحم "رِجْلاً". ثم قَس على ذلك كل ما أهبطته النخبة منذ ذاك الوقت حتى أغاني الزنق الأخيرة فعين رضاك سترى فضيلتها كالنهار الأبلج. خذ مثلاً زنق "رشا السامراب" الجديد (ناس دبي ناس سواطة) ففيه ادانة لممارسات ليست كريمة تحدث هناك ونميمة غير مستحبة. وفضيلة نقد الذات هو ما تطرحه رشا السامراب حيث أن ما حدث في دبي ربطه البعض بمجتمع الزنق وهو أمر تتباطأ عن النُخب نفسها "أعني نقد الذات". والمثال الثاني هو انتقاد ظاهرة "الشلب" وهي ظاهرة خطف الأزواج القابلون للتثنية والتثليث والتربيع ما استطاعوا لذاك سبيلا. وقد تناول ظاهرة الشلب بالنقد العديد من مغني ومغنيات الزنق مثل "أمل جبرة" و"هادية" و"فيروز الدولية" وباشتراك "الربع" بنفسه و"قسوم" و"طارق علوية" في العزف والالحان وهذا يوضّح بجلاء رفض مجتمع الزنق لهذه الظاهرة.

عود علي بدء نقول، للنخبة غناءها ولها حق صيانته ولكن ليس لها الحق في الخوض في غناء الشعب بلا هدي أو كتاب يُنير لهم دروبه المتشعبة. فالشعب يمارس "قعداته" أيضاً ولا يدعي لها النُخب التي تحرمهم من قعداتها هي أيضاً، والفرق أن الشعب يعتبر أن الغناء هو الغناء لا مجال لهبوطه أو علوه، ولكن الحكمة الغنائية الشعبية تقول "لكل غناء مكان" و"غناء الطرب في مكان الزنق مُضّرٌ كالكَتمِ في مكان الطرب" فيزنق حين يحتاج ويكتم في مواضع الكَتِم، ويذوب طرباً لصفوة الغناء المعبدي النخبوي بكرومته وحتى كابليه. والشاهد أن معظم الزانقين والزانقات والكاتمين والكاتمات هم من محبي محمود عبد العزيز " وهو كما نعلم يتخيّر من الحقيبة وقديم الغناء درره" ويطربون للغناء النخبوي أيضاً ويتمايلون له طرباً حقيبة كان أم حديثاً، فإذا خلوا لأنفسهم "زنقوا" و"كتموا" غير آبهين. وهو عين ما تفعله النخبة في المسافة ما بين الغناء "النخبوي" والغناء "القعدوي" ولكن النخبة تأمر بالبر وتنسى نفسها.
قوموا إلى طربكم وزنقكم وكتمكم وتسلطنكم وقعداتكم و"أغاني وأغانيكم" ففي كلٍ خيرٌ لو علمتم.[/color]
أضف رد جديد