"العودة إلى الشيوعية" - محمود المعتصم

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

"العودة إلى الشيوعية" - محمود المعتصم

مشاركة بواسطة عادل القصاص »


العودة إلى الشيوعية

محمود المعتصم





(1)

لا يبدو أنه بالإمكان كتابة هذا المقال إلا كنوع من الانسحاب من المجال العام. حيث لا توجد مساحة لمثل هذه العودة هنا في أي مكان، "الكلمة" فقدت معناها داخل تجاهل تاريخها أو العداء غير المقيد بمعرفة لها، و لا أحد مستعد لأخذها بجدية. و أنا أراه كمقال مكتوب بغير رغبة في إقناع الآخرين. كل ما في الأمر هو أنني وصلت لقناعة شخصية أود أن أوثق لها. و مثل هذا التوثيق هو مسألة يصعب على الواحد منا إعلانها و تحملها. لماذا؟ ببساطة ولأننا كمخلوقات تعيش داخل فضاء معنى معين فإننا نعيش حياتنا تحت رحمة بعض الكلمات. شيء أن تحب فتاة في سرك و شيء آخر أن تعلن لها (و للآخرين) أنك "تحبها". الخطوة اللاحقة تمثل اعترافك الثقيل بال Master Signifier الجديد. و مثلما في علاقة الحب فإن "الكلمة" هي المحور البسيط و التافه الذي لا تقوم أي علاقة إلا به. فإنه في السياسة عندما نتحرك بلا اسم فإننا، و مهما علا صوت ضجيجنا، سنظل "لا شيء". و هذه الخطوة التافهة، خطوة التزامنا تحت "إسم"، هي الخطوة الأساسية بمعنى أنها شغل الثقافة القاعدي الصعب، و هي الخطوة النهائية التي تجعل عملية تثبيت العالم الجديد الذي تخلقه الثورة أمرا ممكنا. هي بمعنى ماالبداية والنهاية، الإستعداد للفعل و الفعل نفسه.

و لمثل هذا الفعل التأسيسي (أعني التأسيسي بالنسبة لي، شخصيا)، فإنه علي أن أبدأ من البداية: لماذا العمل العام؟ أو ما هو الهدف النهائي الذي يجعل من نشاطي في المجال العام أمرا مهما بالنسبة لي؟ أذكر أنه مع بداية اهتمامي بالشأن العام كان لدي صديق يفاجئنا أحيانا ببعض الأسئلة البسيطة (في الحقيقة هو كان يردد هذه الأسئلة في كل وقت و كانت تأتي كمفاجئة في كل مرة)، أسئلة من شاكلة: لماذا تسعون لجعل الوطن مكانا أفضل؟ لماذا لا ندع الأشياء تسير كما هي و تتحسن ببطء تلقائيا أو لا تتحسن بدون أن نعيرها اهتمامنا؟
على مثل هذه الأسئلة التي تبدو بلا قيمة، تبرز الإجابات النفاقية التقليدية التي تشيع بين مناضلي البرجوازية الصغيرة: لأنني أحب الآخرين و أحب بلدي.. أو لأنني أحب فعل الخير -الأشخاص المتدينون بصورة تقليدية (أعني الإسلاميين و حتى التقدميين منهم، الأشخاص الذين يؤمنون بالشكل الكلاسيكي للإله، الرب كشيء موجود ببساطة، و إن كان وجوده البسيط هو أمر لا يمكننا إدراكه) لديهم دافع أكثر أصالة و هو إتباع الخير الذي هو الإله، مثل هذا الدافع ينال إحترامي كثيرا، إلا أنه شيء لا أستطيع أن أقتنع به- البعض الآخر من المثقفين غير المنافقين سيقولون بأن هذا السؤال هو سؤال غير حقيقي يمكننا ببساطة أن نتجاهله. أو حتى أن نتجاهل القضية برمتها (مسؤوليتنا تجاه الآخرين والوطن) و في الحقيقة كان دائما لدي قدرة على مصادقة مثل هؤلاء الناس (هم في العادة يكونون ملحدين في صمت، لا يرون حتى معنى لإلحادهم، أشخاص قرروا الإنسحاب من فضاء المعنى تماما و بالتالي عيش الحياة كيفما اتفق بلا أسئلة كبيرة، ربما يمكننا أن نسميهم أكاديميا بما بعد الحداثيين)، مما يعني أنه لدي قدرة كبيرة على إحترامهم، في حين أشعر بالقرف من المناضلين ذووا الأحاسيس المرهفة تجاه الناس بشكل عام.

لأبلور إجابتي الخاصة على هذا السؤال، تطلب مني الأمر أن أتعرف على مدارس تفكير أوروبية معينة (بدأت هذه الرحلة بتعرفي على المفكر الغربي المسلم علي عزت بيجوفتش)، هذه المدارس (مثلي) لا تقبل نهاية التفكير في الأسئلة الكبيرة كسؤال المسؤولية و الأخلاق و الحقيقة. و لكنها في نفس الوقت لا تقبل الحدود الدينية التقليدية على هذه الأسئلة. الخيار الديني الشهير: إما أن تقبل بالأصولية الدينية كمرجعية و أرضية تقف عليها و إما أن تقبل أنه ليست هنالك أي أمور تستحق أن تؤخذ بجدية. إما الحياة تحت ظل الله (حسب تعريفهم له) أو حياة التفاهة. هو خيار خادع، و يمكن القول أنه خيار "الرأسمالية" في نهاية التحليل، بالنسبة لي. الحياة في ظل الله الأصولي و حياة التفاهة كلاهما وجهان لعملة واحدة، ما يتشاركه الأصوليون الدينيون و العلمانيون الليبراليون هو قابليتهم لتقبل الرأسمالية كقدر حتمي، في كلا التوجهين هنالك نظرة أساسية للواقع المادي بإعتباره شيئا نهائيا و مطلقا.

بداية الخروج من هذه الدوامة (إما الأصولية الدينية أو اللامعنى) هو إدراك أن كلاهما وجهان لعملة واحدة. أولا تفترض كلا القراءتان أهمية وجود مرجعية في خارج الإنسان لإعطاء وجوده معنى، و ثانيا تفترض كلا القراءتان أن بإمكانهما رؤية الإنسان من نقطة موضوعية محايدة. و ثالثا فإن كلا التوجهين يفترضان وجود الإنسان كوحدة متجانسة. لفهم هذه التطابقات ما عليك إلا تفكر في الملحد الكلاسيكي، هو شخص فقد الإيمان بالمرجعية الدينية و لكنه لم يفقد قناعته بضرورة وجود هذه المرجعية، و لذلك فهو يتكلم كثيرا بحزن عن فقدانه للمعنى في لحظة فقدانه للدين. و في كثير من الأحيان فإن هذا الملحد في أي لحظة أزمة وجودية حقيقية سوف يجد نفسه تلقائيا يلجأ لنقطة المرجعية في خارجه التي لم يفقد بالفعل إيمانه بها مطلقا، و للمفارقة فإن هذا "الإيمان" هو ما يجعل من هذا الملحد إنسانا تافها (بمعنى تمرغه في حياة التفاهة و إقتناعه بأنه لا يمكن أن يكون لحياته معنى و لا أن يكون له مسؤولية خارج الدين). و لذلك فإن لأحد أساتذتي (سلافوي جيجاك بالطبع) مقولة صحيحة تماما: "ليس من المهم أن لا تؤمن، المهم هو ما هو ذلك الإله الذي قررت أن لا تؤمن به؟" إن كنت تؤمن بالإله الأصولي، فإنت ستصبح ملحدا أصوليا.

ثانيا، بالنسبة لكلا التوجهين فإنه بمقدار الإنسان أن يقف خارج نفسه ليرى موضوعيا و من نقطة محايدة ما هي حقائق الأمور، النقطة المحايدة بالنسبة للمتدينين هي الله نفسه، و لذلك بالنسبة للأصولي فالنص هو الحقيقة الموضوعية، بلا أي تدخل منه كقاريء للنص. أما بالنسبة لوجهة النظر الأخرى المتحررة من قيود المعنى و المسؤولية فإن كل نظرة إنسانية تلتزم ذاتيا بأي شيء هي نظرة بريئة و مغفلة، عندما يلتزم أحدهم تحت لواء مشروع أخلاقي ما فإنه يغفل حقيقة أنه يرى الأمور من وجهة نظر ذاتية هي في الغالب غير حقيقية. المشكلة هنا هي أن هذا الموقف صحيح أكثر من اللازم كما يقول جيجاك.. هذا الموقف الرافض للذاتية يعطي نفسه أفضلية الوقوف على الحياد لرؤية حقيقة محدودية المعرفة الإنسانية، و كأن هذا الموقف موقف غير ذاتي. نقطة الحياد المطلقة هنا (و التي يؤمن بها ما بعد الحداثي بصفتها الحقيقة المطلقة) تأخذ شكل التشكيك في كل حقيقة و في كل معنى. و على ظل هذا التشكيك سيتخذ الإنسان كل قراراته و سيتهرب من مسؤولياته (و هذا قرار في حد ذاته) تحت ذريعة عدم رغبته في إتخاذ أي قرار ذاتي (كأن يقول بأن الحقيقة هي في أن الطبقات الفقيرة مظلومة، أو أن الصحيح في هذه اللحظة هو أن عليه أن يضحي بحياته من أجل هذه القضية/ مثل هذه المواقف لا مكان لها في العقلية ما بعد الحداثية الموضوعية، و التي ترى من حيادها المطلق لا معنى المواقف المبدئية). و أخيرا فإن كلا التوجهين لديه تصور غير جدلي للإنسان. بالنسبة للنظرة الأصولية، فإنه لا مكان للأخلاق خارج النص ببساطة لأن الإنسان كمادة حيوانية ليس من المنطقي بالنسبة له أن يتخلى عن مصلحته الضيقة لصالح الآخرين، لا يفهم الأصولي الديني لماذا يوجد أشخاص كإيرنستوا جيفارا أو لينين، يضحون بمصالحهم الخاصة الضيقة لأجل الآخرين بلا توجيه من النص المقدس. في نفس الوقت ترى وجهة النظر الأخرى أيضا أن من المنطقي بالنسبة لي كإنسان خارج الدين و المعنى أن أبحث عن مصلحتي الخاصة بلا أي تورع و لا مبدأ، و هو ما بات يحدث فعلا و بصورة واسعة الانتشار مع تحول الشخصية النرجسية للنمط الأكثر شيوعا في الغرب العلماني. خذ مثلا تبرير دونالد ترامب لتهربه من الضرائب، هو لم ينكر الأمر بل وصفه بأنه شطارة، المثير هنا هو أن هذا التبرير كان مقبولا بإعتباره نوع من الصدق من قبل أتباعه، ما يقوله ترامب على الملأ هو العقيدة العلمانية التي يطبقها الجميع في حياتهم الخاصة، أما عندما نخفيها في العلن فنحن لانخفيها لأنها خطأ بل لأن لها تبعات قانونية.. أن أبحث عن مصلحتي الخاصة ضد المصلحة الواسعة للمجتمع هو شيء طبيعي إذا خرج الدين من المعادلة.

خارج هذه الثنائية يمكن أن توجد قراءة جدلية للإنسان، ترى أولا بأن الإنسان الواحد الذي عليه أن يبحث عن مصالحه هو "وهم". و أن الحقيقة هي أن الإنسان هو ثنائيا لا يمكن التوفيق بينها، و "الوعي" هو نقطة الإنفصال في هذه الثنائية. في كل لحظة تقرير براغماتية "هل علي أن أقبل هذه الوظيفة؟"، "هل علي أن أسعى وراء هذه المصلحة؟" فإن سلسلة السببية المادية البسيطة يتم إختراقها لحظيا عبر لحظة صغيرة من الحرية الإجبارية، "أنا" .. "أقرر"، هيكل التقرير نفسه يخلق هذه الحرية، و من ثم فإن الوعي نفسه يولد المسؤولية على القرار الحر، العدم الذي هو الفراغ الفاصل بين الإنسان المادي و قراره يتحول لشيء أكبر من الإنسان تلقائيا، "الكوغيتو" الذي إعتبره ديكارت دليل الوجود يخرج بإعتباره شيئا متطفلا على الجسد المادي.

هنا يمكننا أن نبدأ بالتقسيم اللاكاني للنفس الإنسانية: هنالك "الخيالي" الذي هو تصور الإنسان لنفسه، عندما يقول الواحد منا "أنا" فهو يتكلم عن تصوره الخيالي لنفسه. ثم هنالك شيء آخر جذريا، و هو "الرمزي"، الفضاء الرمزي هو أمر غريب على الإنسان، هو "الآخر" الذي هو جزء مني. إذا كنت موجودا داخل فضاء رمزي يعتقد بلا أخلاقية السرقة فإنني مهما حاولت أن أبرر السرقة لنفسي فإنني لا محالة سأشعر "بالذنب". و لكن ما سبب هذا الإنفصال؟ لماذا لا يمكن "للأنا" أنا تعيش منفصلة بلا قيود من فضاء المعنى؟ السبب هو أنه في حالة الإنسان فإنه هنالك عامل جديد و هو الحرية. الأنا الإنسانية لا تتصرف بناءا على الغريزة، و لذلك فهي "حرة" بداخلها إرادة تجعلها تتخذ قرارات و من ثم فعليها أن تتحمل مسؤوليتها. هذا الوعي الذي هو سبب الحرية، هو في نفس الوقت شيء لا يمكن أدراكه ببساطة و الإمساك به، لا يمكن إدراكه إلا عبر رؤيته كشرخ، كعدم أو سواد يفصل بين الأنا الخيالية و فضاء المعنى، هو النتيجة و السبب في نفس الوقت. لذلك يجد الواحد منا نفسه متنازعا بين نفسه و مُثُله دائما، يجد الواحد منا "نفسه" في هذا التنازع. و من هذا العدم، هذا الفراغ غير المحدد بأي شيء سلفا، هذه الحرية الجذرية الثقيلة، يخرج الوعي بقدرته على خلق كل شيء. و بصفته "الحقيقي" The Real في التعبير اللاكاني. مثلا: جسد المرأة التي أحبها ينقسم بالنسبة للاكان إلى الواقعي Reality و الذي هو جسدها المادي الحيواني و الذي قد يكون في الحقيقة غير ذي أهمية، و الحقيقي The Real الذي هو الجسد ذي الهالة الميتافيزيقية الذي أراه أنا و الذي يستمد الحقيقة المضافة له من وعيي الخاص، الهالة التي تجعلني أرى شيئا لا يراه الأخرون (ما لا يفهمه ما بعد الحداثيين هو أنه ليس بالإمكان بالنسبة لي رؤية الجسد بدون الهالة، الجسد الموضوعي غير موجود بالنسبة لي). الحقيقي إذن هو شيء ذاتي و لكنه رغم ذلك ينعكس على المادة فيصبح جزءا منها. و هكذا يكتمل الثالوث اللاكاني (الخيالي/الرمزي/الحقيقي)، الثالوث الذي ينتج من النظرة الجدلية للإنسان النظرة التي تبدأ في تلمس طريقها لإمكانية وجود أخلاق معينة مصدرها ذاتي و ليس من الخارج.

المطلق موجود إذن، و لكنه الإنسان نفسه. نيتشة تنبأ قديما بأنه على الإنسان، ليقتل الإله، تكمن مشقة تحويل نفسه لإله. و لكن هذا التحول لا يترافق مع الإيمان الوثني التقليدي "بالملذات" كأشياء سامية تجدر عبادتها. بل مع العكس: الحرية الجذرية تجلب معها مسؤولية جذرية، في هذا المبدأ "الحلولي" إن صح التعبير (أقصد هذه الإشارة بكامل تهكمهما على المسيري، الذي هو الأب غير المتوقع ربما للأصولية الإسلامية الجديدة) ، ترفع الرغبة الإنسانية إلى مرتبة الأخلاق ليس لأنها أمور يتمتع الإنسان بفعلها، بل لأنها أمور يريد الإنسان أن يفعلها رغم أنها ستدمر عالمه الجميل. على سبيل المثال الحب الإنساني هو أمر أخلاقي تحديدا لأن الإنسان لا يحب كجزء من بحث عن مصلحة مادية، بل كجزء من بحث عن رغبة هي في ذاتها خلاص ميتافيزيقي. و لذلك يمكن للإنسان فعلا أن يموت من أجل الحب.

بالنسبة لي إذن، فالسياسة و الخلق السياسي هما رغبة. و الرغبة لأنها فعل حر فهي شيء تدركه كواجب ثقيل. كشيء حتمي لا تستطيع (كأنا) إلا أن تعيش من أجله. و بالنسبة لي، و رغم أنني علماني لا أؤمن بإله الأصوليين (أنا مازلت أعرف نفسي كمسلم و لكن على طريقتي الخاصة)، إلا أنني مازلت أؤمن بالموت من أجل الواجب، و إحدى أهدافي الثقافية هو إستعادة هذا الموت في المخيلة العلمانية عندنا. لأنه و كما يقول باديو، فإن الخوف من الموت هو السر الخفي للرجعية، لأن الخوف من الموت هو عدم قبول حقيقة وجود المعنى كشيء مساوي للإنسان، الخوف من الموت هو الإيمان البريء بالإنسان كمجرد حيوان يتبع الغريزة. يمكنك أن تلاحظ أن المدرسة الفكرية التي أنتمي لها هي مدرسة ميتافيزيقية بإمتياز، و لكنها ميتافيزيقيا لا يرضى عنها المتدينون. و هنا يمكننا أن نلاحظ مجددا أن الأصولية الدينية هي مدرسة تفكير ذات تشابه مع المادية البسيطة: كلا المدرستين لا تفتح أي مجال لشيء آخر جذري، للعدم، أو الحرية. بالنسبة للأصولي فالأمور هي بالضبط نفسها بالنسبة للمادي البريء، العالم هو شيء مكتمل و كل شيء فيه واضح، و لا مجال للواحد منا أن "يؤمن" بأشياء لا يستطيع أن يثبتها ماديا. الدين بالنسبة للأصولي، هو مثل المادة بالنسبة للمادي، شيء علمي يمكن إثباته موضوعيا. و بعد أن يثبت كعلم فهو يملأ كل الفراغات، الماضي و المستقبل، و بكامل تفاصيله، بلا مجال لأي تساؤل حقيقي و لا قرار فردي ( و في النهاية يحافظ الأصولي و الليبرالي على الواقع الراهن، الأول بحجة إطاعة مرجعية النص، و الأخر بحجة إتباع مرجعية الواقع المادي البسيط، بإعتبار أن التفكير خارج حدود الواقع المادي هو تفكير "مستحيل"/ الإنسان كطاقة خلق جذري غير موجودة في داخل المدرستين).

(2)

ثم نأتي ثانيا للتساؤل: ما هو الهدف النهائي الذي يحركني. دعونا نبدأ بالتوضيح التالي: أنا لا أرى أنا بإمكاني إدراك الأشياء بأبعد مما يتيحه وعيي، و لذلك فإنني كما يمكن للواحد أن يلاحظ في طريقة تفكير آلان باديو، أفكر في التاريخ بصفته الماضي و المستقبل، على شكل حلقات. و ليس بإمكان جيل أن يفكر خارج الحلقة التاريخية التي ينتمي لها. لذلك فأنا لا أفكر في مصير الإنسانية المطلق، أنا أفكر في حقبتنا التاريخية، و ما أريد أن أفعله هو أن أساهم في توجيه وعينا بالماضي، و من ثم مستقبلنا في إتجاه جديد (و لا أقول أفضل، مثلما هو الحال في الحرية الفردية، فأنا لا أرى أنه مهم لنا كبشر أن نعيش حياة أفضل بقدر أن نعيش الحياة كما نريد لا كما يريد الأقوياء). و "الجديد" هو ما نريده كمجتمعات بعكس القديم الذي يحاول أن يحافظ عليه المستفيدون منه.

لذلك فالشيوعية عندي هي الإسم الذي يعبر عن هذه الأمور: التاريخ بوصفه حلقة الماضي و المستقبل الذي يتحرك في داخله جيل ما. و المشروع الذي يعبر عن الرغبة في الجديد.
المهم هنا هو أن نفهم بصورة دقيقة الحلقة التاريخية التي نعيش فيها، أن نعرّفها. و لنبدأ بتعريفها دعونا نأخذ موقفا منحازا من البداية، دعونا نتساءل عن تاريخنا من وجهة النظر الشيوعية: بالنسبة للنظرة الشيوعية للعالم فإن التاريخ الحديث بدأ عبر إلتقاء ثلاث أمور: الثورة الصناعية، ظهور الدولة الحديثة و العولمة. هذا التاريخ الحديث إذن هو بمعنى من المعاني تاريخ الرأسمالية الحديثة، كل حركات التاريخ الحديث تستند على نزعات الرأسمالية للتطور و التحول و الإنتشار و السيطرة إلخ. الرأسمالية هذه القوة المادية العمياء التحمت مع ميكانيزمات المجتمعات الإنسانية الأخرى و تحولت إلى القوة الأساسية التي تحركها. هذه العلاقة بين الإنسان و المادة أنتجت أمورا كبيرة و جيدة عديدة، أنتجت الحداثة كمنظوميه فكرية و سياسية نحن نتمتع بالحياة داخلها: الفرد حر، و الفرد تحت ظل الرأسمالية هو مساو للفرد الأخر، إن كان أسودا، امرأة، مسلما أو خلافه، كلما تحكم المنطق الرأسمالي في مجتمع ما كلما زاد ذلك المجتمع حرية و مساواة، لأنه من وجهة نظر الربح فكل فرد له في النهاية نفس الإمكانية، إذا فرق الرأسمال بين الناس فهو سيفرق بينهم حسب مقدرتهم على إنتاج الربح، و هذه الوسيلة للتفريق على قسوتها أحيانا فهي، و لأنها طريقة عمياء، تأتي معها حرية شكلية مجردة مهمة جدا (الفرد يساوي الفرد)، على هذا الأساس المادي تم إلغاء أشكال مختلفة من العبودية و التفرقة العرقية و الجنسية و الدينية. ثم هنالك الإنتاج الضخم و التطور التكنولوجي. تاريخ الرأسمالية هو تاريخ من التقدم. ما تقوله النظرة الشيوعية هو أن هذا التقدم لديه حدود: أولا هنالك الحالة الأفريقية، العولمة بصفتها أعلى مراتب الرأسمالية تأتي معها الصورة الجذرية للا-مساواة المادية، مثلما هنالك مدراء و عمال في أي مصنع فإنه هنالك مجتمعات ثرية و مجتمعات بأكملها هي مجرد كجتمعات مستهلكة. و حالة "العامل" في المنظومة الرأسمالية هي الحالة الصغير لنفس المنطق، مهما تحول المجتمع لمجتمع ثري فإنه لابد "للعامل الفقير" أن يوجد، و لا بد لهذه الطبقة أن تمثل الأغلبية. ثم جاءت أمور أخرى: الخلفية المادية السميكة التي نقف عليها أصبحت مهددة عبر الرأسمالية، الطبيعة، الجينات في داخلنا و في داخل بقية الأحياء، و إمكانية الحرب النووية، في طريق تقدمها غير المحكوم بالمنطق الإنساني بدأت الرأسمالية تصل إلى نهايات لا إنسانية في مجالات عديدة.

ما تقوله النظرة الشيوعية هو أن كل هذه الأمور غير حتمية. هنالك شيء إسمه الإنسان، يستطيع متى ما ووجه بمثل هذا التهديد لحياته الجمعية و لقيمته الفردية أن يقوم بتغير النظام لنظام آخر. لذلك فالإسم الذي نحمله لا يمكن أن يكون "الإشتراكية الديمقراطية"، الإسم يجب أن لا يحمل الرغبة في "تحسين" النظام بل لتغييره، لأن محاولة تحسين النظام تعني ضمنيا الفشل في تحسينه، خذ مثلا محاولات تغير واقع أفريقيا جذريا، أو محاولة ألغاء الفقر، هذه الأمور لا يمكن أنتحدث مهما تحسن النظام، أن"تحسن" الملكية مثلا لا يعني تحويلها لمكلية دستورية بل لإلغاءها، لتحويلها لشيء آخر هو الديمقراطية. ثم هنالك الأممية، الشيوعية، ترى أن الفرد هو مركز الكون و لكنه و لذلك تحديدا يتصل مع كل فرد آخر في كل مكان بصلة ما، الأمة و العرق و الدين و بقية المحددات الثقافية و الهويات هي أمور مهمة، إلا أنه في النهاية "العامل لا وطن له" كما يقول ماركس، تحديدا لأنه منتج لرأسمالية لا وطن لها. تاريخ هذا التفكير بدأ مع الثورة الفرنسية، الثورة التي قامت على فكرة التنظيم الجماعي لإنقلاب على النظام و محاولة بناء دولة جديدة، الثورة التي لم يكن لها فكرة واضحة عن "الأساس المادي" كانت ثورة سياسية بلا نظرية في الاقتصاد السياسي، لذلك تم إعادتها مرة آخرى و بنظرية إقتصاد سياسي هي الماركسية في روسيا. هذه المرة بنجاح محدود، لكن في النهاية التجربة فشلت.
الآن، منذ التسعينات هنالك خلاصتان، الأولى تقول أن هذا الفشل نهائي، النخب الليبرالية التي تهتم بمصالح آنية ضيقة و تلتزم بأيديولوجيا تهكمية شرحتها سلفا، و هنالك "نحن"، الأقلية التي قررت أن تتمسك بالفكرة البسيطة: التجربة فشلت، و مع فشلها فنحن موجودون اليوم مع نفس المشاكل، ماذا سنفعل بهذه المشاكل؟ تحت النظرة الشيوعية هناك إقتراح معين: علينا مواصلة التفكير في سبيل لإعادة ثالثة: بعد الثورة الديمقراطية التي حملت إسم فرنسا، و الثورة الإشتراكية التي حملت إسم السوفييت، علينا أن نفكر في كيف للمحاولة الثالثة أن تتم.

ما المشكلة في هذا التفكير، فشل تجربة معينة لا يعني زوال المشكلة التي حاولت هذه التجربة حلها، و لذلك فمحاولة جديدة هي أمر منطقي. المشكلة هي أن هذا المنطق هو جذريا ضد الأيديولوجيا المهيمنة، و لذلك فتجاهله هو أمر مفهوم و طبيعي. ما لا أقبله هو أن يقودنا هذا التجاهل لليأس، الإنسان بالنسبة لي هو آلة كسر مثل هذا المنطق.. مثل هذا الخلق للمستحيل هو في الحقيقة ما يحرك ليس الأفراد فقط بل الأمم، و لذلك فأنا في الحقيقة أستثمر في التابو الذي صنعه الرجعيون حول فركتنا، هذا التابو هو رأسمالنا الذي سيجلب الأفراد الباحثين عن معنى. بعض من الإيمان مطلوب هنا.

ثم هنالك مسألة الأطار الكبير، من المهم فعليا أن نفكر داخل أطرنا الصغيرة: هوياتنا و أوطاننا بمشاكلها الملحة و الآنية، السياسة المحلية و الفعل اليومي إلخ. لكن هذه الأطر الصغير محكومة بالفشل و حركاتنا الصغيرة محكومة بالإضمحلال بدون إطار تاريخي كبير نتحرك داخله. لذلك فوحدة التفكير المرحلية، التي أعني بها الوحدة التي تحكم حياتي كفرد يعيش داخل أطار زمني محدود هي "الشيوعية الأفريقية". في أطار حقيقة العولمة فإننا لا يمكن أن نفكر و نتحرك داخل إستراتيجية أصغر من ذلك، خاصة عندما تكون أمامنا تكنولوجيا إتصال فعالة. الأفريقي هو البروليتاري المثالي اليوم، و إن كان ذلك يظهر في شيء فهو في أطياف المهاجرين على قوارب الموت: الأفريقي هو جزء من العالم، يتحدث لغته و يعيش على أحلامه و تطلعاته، إلا أنه محروم من كل ما عدى ذلك، هو مجرد جسد لا حاجة للرأسمالية حتى لإستغلاله. نحن السودانيون جزء من ذلك أكثر من كوننا جزءا من هويتنا، على هذه الرؤية يمكننا أن نرى نوعا جديدا من السياسة المحلية.

وثم يمكن لخيالنا السياسي أن يتسع قليلا: الكسل و اليأس المعلن و غير المعلن الذي يشل قدرتنا على الحركة هو إبن صغر رؤيتنا. سيكون من الممكن تجنيد كوادر جادة و صلبة و خلق وحدات صغيرة في الجامعات و الأحياء و الربط بينها و تدريبها عمليا وفكريا فقط إذا ما كانت هنالك أيديولوجيا كبيرة ستجعل كل فعلا صغيرا و تكتيكا ثونويا مفهوما للجميع. و سيكون من الممكن الغوص في وحل الأفكار المشتتة و التنظيمات عديمة الرؤية بدون الموت داخله: سيكون بمقدور الكادر الشاب أن يشتبك مع كل ذلك، و أن يتجاهله متى كان ذلك أفضل، بدون الشعور بأن ذلك الوحل يخنقه.
ثم للأفكار الكبيرة قدرة على تحرير الممكن في داخل الفرد الذي يبدو عاجزا. دعونا نعود لجنازة فلاديمير لينين في يناير ١٩٢٤، حقيقة ما خرجت من فم ستالين، و هو الرمز الذي يمثل كل شيء أكرهه، ستالين بدأ خطبة تأبين لينين بالقول: "نحن الشيوعيون لسنا كبقية البشر، نحن مخلوقون من شيء مختلف". مثل هؤلاء الأفراد المخلوقون من "شيء، خالص، مختلف" هم الظرف الضروي لأي فعل كبير. مجتمعنا، و العالم، بحاجة لمثل هؤلاء الأفراد.. الإسم "الشيوعية" يمكنه أن يصنعهم.
أضف رد جديد