أفريقيا تغزو العالم الجديد - بدر الدين حامد الهاشمي

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

أفريقيا تغزو العالم الجديد - بدر الدين حامد الهاشمي

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

أفريقيا تغزو العالم الجديد: مغامرة مصر في المكسيك (1863 – 1867م)

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي






مقدمة:


هذه ترجمة لمعظم ما ورد في مقال للدكتور جون دن عن تاريخ جنود الكتيبة (الأورطة) السودانية (المصرية، بحسب التسمية الرسمية) التي سيرها الخديوي إسماعيل من الإسكندرية إلى المكسيك في عام 1863م ليحلوا محل الجنود الفرنسيين الذين حصدتهم الحمى الصفراء. نُشر المقال عام 1997م في العدد الرابع من مجلة War in History.
ويعمل دكتور جون دن أستاذا للتاريخ في جامعة فالدوستا الحكومية بولاية جورجيا الأمريكية، وهو متخصص في التاريخ الحربي، وله عدد من الكتب والأوراق عن الشؤون العسكرية في القرن التاسع عشر، خاصة في مصر وبولندا والصين، نشرت في مجلات مختصة بالتاريخ العسكري. وله كتاب شهير بعنوان "جيش الخديوي إسماعيل Khedive Ismail’s Army"، نُشر في طبعته الأولى عام 2004م.
وسبق لنا أن ترجمنا بعض المقالات عن تاريخ تلك الكتيبة أتت بعناوين "تنازع القوانين" و"سودانيون في المكسيك" و"عرض لكتاب (صفوة الفيلق الأسود)".
الشكر موصول للأستاذ الدبلوماسي عمار محمد محمود لمدي بنسخة من الورقة الأصلية.


المترجم.


"يرى الرئيس أنه لا يجوز قانونا بأية حال استخدام زنوج أفريقيا كجنود للانقلاب على المؤسسات السياسية المستقرة في القارة الأمريكية"
ويليام هنري سيوارد، في 14/12/ 1865م (وزير الخارجية الأمريكية بين 1861 – 1869م).أرسل وزير الخارجية الأمريكية تلك الرسالة الغاضبة في الوقت الذي كان فيه جنود مصر أبعد ما يكونون جغرافيا عن موطنهم الأصلي. وعملت كتيبة كاملة منهم مع قوات التدخل الفرنسية في المكسيك بين عامي 1863 و1867م. وكانت تلك هي أول وحدة لقوات أفريقية نظامية تعمل في العالم الجديد. وكان ذلك نتيجة للسياسات المصرية الموالية بقوة للفرنسيين. وكانت سمعة صفوة تلك القوات المسلحة الحسنة، والنظريات الطبية السائدة عهدئذ تشير إلى أن الأفارقة يقاومون أمراض المناطق الاستوائية أكثر من غيرهم. ومثلت تلك الحملة القطيعة المهمة الوحيدة في العلاقات الأمريكية – المصرية حتى خمسينيات القرن العشرين.
وفي المقابل، كانت تلك العلاقات ودية نوعا ما في بداية الحرب الامريكية الأهلية. فقد كان سعيد باشا خديوي مصر بين عامي 1855 – 1864م قد أغلق موانئ بلاده أمام السفن التي ترفع علم الكونفدرالية، ومنح السلطات الفيدرالية خيار أن تشتري بعض قطع السلاح الصغيرة المصرية الصنع. غير أن الخديوي تجاوز تلك العلاقة الودية بسبب الموقف الدبلوماسي المؤيد بقوة لفرنسا في بلاده وفي المنطقة على وجه العموم. وكان المهندس الفرنسي فرديناند دليسبس قد أقام شركة لشق قناة السويس بشروط ميسرة، وكانت تلك هي إحدى أمثلة ولع الخديوي سعيد بفرنسا وكل ما يأتي منها. وكان الجيش المصري فرنسي التسليح والتكتيك والزي الرسمي، وكان كل الخبراء الأجانب فيه من الفرنسيين.
لذا لم يكن من المستغرب أن استجاب الخديوي سعيد سريعا حين طلب منه نابليون الثالث مده بعون عسكري. وكان ذلك الامبراطور الفرنسي قد تورط في مغامرة محفوفة بالمخاطر هدفت لإقامة دولة عميلة في المكسيك، وكان في حاجة لمساعدة من متخصصين لتدمير قوات الجمهورين وزعيمهم بنيتو خواريز Benito Juárez (الذي شغل منصب رئيس المكسيك بين عامي 1858 – 1872. المترجم). وكان يلزم لمقابلة مقاومة قوات خواريز العنيدة حملة طويلة لا يمكن النصر فيها عليها إلا بجيش جيد الإعداد والتموين.
وكان النصر على قوات الجمهورين يعتمد على السيطرة على فيرا كروز أهم ميناء مكسيكي يطل على (البحر) الكاريبي، وهو مفتاح الطريق إلى العاصمة. وعلى الرغم من أن تلك المدينة كانت من أكثر المناطق حيوية لتلك الجهود الفرنسية، إلا أنها كانت معروفة أيضا بتفشي الأمراض الفتاكة بها. فتلك المدينة تقع بالقرب من مستنقعات وبرك وبحيرات ضحلة وغابات استوائية خلقت حزاما من الملاريا والحمى الصفراء وأمراض استوائية مميتة أخرى ينقلها البعوض. ووقف الطب حينها عاجزا عن مكافحة تلك الأمراض مما أفضى لمعدلات عالية من الوفيات بين صفوف القوات (الفرنسية) الموجودة بتلك المنطقة، بلغت مئات الجنود في كل شهر، خاصة في صيف 1865م. وكان من ينجو من الموت من المصابين يحتاج لوقت طويل قبل أن يتعافى تماما، وكان ذلك مما يقلل من فعالية القوات. وسُميت مقبرة المدينة من باب التهكم والسخرية "جَنّة الأقْلَمَة".
وكان هنالك بالطبع بعض الجنود الذين نجوا من تلك الأمراض، وغدت لديهم مناعة معقولة ضدها، وصاروا ينشرون في المناطق المحيطة بمدينة فيرا كروز. غير أن ذلك النوع من الجنود لم يكن موجودا في فرنسا، بينما كان في جيش مصر عدد كبير منهم. وكانت فرق الجيش المصري السودانية الآتية من مديرية الاستوائية معتادة على العيش في مناخ يشبه مناخ فيرا كروز. لذا لم يكن من المستغرب أن يُطلب من الخديوي سعيد "إعارة" كتيبة من السودان للعمل ضمن القوة الفرنسية في المكسيك. وكان ذلك الخديوي حريصا على إرضاء أصدقائه، فوافق في أواخر عام 1862م على الطلب، بل تبرع بتحمل كل النفقات المترتبة على نقل الكتيبة السودانية للمكسيك. وقام بعد اتخاذه لقراره مباشرة برحلة نيلية (بعيدا عن مقر اقامته) تحاشيا للقاء ممثلي الامبراطورية العثمانية وأمريكا وبريطانيا في القاهرة، وكانوا جميعا يرفضون قيام مصر بتلك المغامرة (أضاف الكاتب في الحاشية أن بريطانيا كانت تعارض مشاركة مصر في القتال بالمكسيك ببعض الاستحياء، إذ أنها كانت قد شاركت هي نفسها أيضا في بداية الهجوم على فيرا كروز، وفي احتلالها في 1861م، أما السلطان العثماني فقد كان يرى في إقدام مصر على إرسال جنودها لخارج حدودها نوعا من الاستقلالية والخروج عن سلطته الأعلى على مصر، ولكنه كان أيضا يخشى إغضاب فرنسا والنمسا. أما أمريكا فقد كانت لديها الرغبة وليس القدرة على منع تدخل مصر في الشأن المكسيكي، إذ أنها كانت منشغلة بحربها الأهلية. المترجم).
ورغم أن الخديوي سعيد لم يكن عليما بمبدأ مونرو (وهو بيان للرئيس الأمريكي جيمس مونرو قدمه للكونغرس الأمريكي في الثاني من ديسمبر عام 1823م، نادى فيه بضمان استقلال دول نصف الكرة الغربي كافة ضد أي تدخل أوروبي يهدف لاضطهادهم أو التدخل في تقرير مصيرهم. المترجم)، إلا أنه كان شديد الرغبة في تفادي أي احتكاك ممكن مع الدول الخارجية. ولهذا السبب تم نقل فوج المشاة التاسع عشر (وكانوا 450 سودانيا) إلى ثكنات ميكس بالإسكندرية بأكبر قدر ممكن من السرية. وفي وقت متأخر من مساء الثامن من يناير عام 1863م استقل هؤلاء الجنود – تحت قيادة البمباشي (الرائد) جبارة الله محمد - سفينة فرنسية متجهة بهم في مغامرة جامحة، كانت هي الأولى التي تقوم فيها قوات أفريقية نظامية بالقتال في العالم الجديد.
وكان بعض أولئك الجنود من الجنود المخضرمين الذين شهدوا حروبا لمصر على حدودها، بينما كان بعضهم من المستجدين، إلا أنهم كانوا جميعا من صغار السن نسبيا. ورغم إرهاق وضغوطات السفر الطويل على ظهر السفينة، إلا أن انضباطهم وبراعتهم العسكرية وزيهم الأنيق كان لافتا للأنظار ساعة وصولهم لميناء فيرا كروز. ووصف ويليام م. اندريسون، أحد الأمريكيين الذين شهدوا لحظة وصول الجنود السودانيين، في كتابه الصادر عام 1959م والمعنون: "أمريكي في مكسيك ماكسميليان، 1865 – 1866م" كما يلي:
"هم رجال لهم قدٌّ ممشوق، مثل أشجار نخيلهم، وإن جاز ذكر متناقضات مفرطة فهم "جنود كما ينبغي للجندي أن يكون، إذ أن بشرتهم سوداء كالقطران، وملابسهم بيضاء كالجليد. وكانوا شديدو الاهتمام بنظافة أجسادهم وملابسهم، وكانوا دوما على أتم استعداد لأي عرض عسكري ...".
وكانت أولى واجباتهم في المكسيك تنحصر في القيام باستعراضات وتدريبات عسكرية. وكان الجيش الذي يقف خلف الإمبراطور العميل ماكسميليان يتكون من قوات بلجيكية ونمساوية وبولندية ومجرية وفرنسية ومكسيكية. ولهذا كان على الكتيبة المصرية أن تتعلم التأقلم والاندماج مع تلك القوات العالمية. وقد ورد في بعض المصادر الفرنسية أن الجنود السودانيين وصلوا لفيرا كروز وهم بـ "هيئة رثة"، ولكن ذلك كان أمرا متوقعا بسبب الرحلة الطويلة في ظروف الترحيل الصعبة في القرن التاسع عشر، وقد يحدث لأي فرد.
وظهرت مشكلتان في غضون تلك الأيام. أولهما هو أنه كان هناك بالكتيبة ثلاثة ضباط فقط. وهذا عدد قليل من الضباط لكتيبة بذلك العدد. وزاد الأمر سوءً وفاة قائد الكتيبة جبارة الله محمد. وكانت المشكلة الثانية هي كيفية تقديم الأوامر لأولائك الجنود السودانيين الذين لا يتحدثون غير اللغة العربية.
وتم التغلب على المشكلتين. فتمت ترقية كبار الجنود الذين كانوا يحملون رتبة الشاويش (الرقيب) إلى ضباط برتبة الملازم، وترقية الملازمين الأصليين إلى رتبة اليوزباشي (النقيب). وصار النقيب محمد الماظ قائدا للكتيبة. وأسند لعقيد مشاة في فرقة فرنسية مكونة من جنود جزائريين (Zouave) مع عسكري جزائري آخر واجب القيام بعملية التدريب باللغة العربية. وبعد أربعة شهور من التدريب المتواصل، كانت الكتيبة جاهزة لبدء عملياتها العسكرية.
وكانت الاستراتيجية الكلية هي فصل الكتيبة إلى أربعة فرق. وكُلفت اثنان من تلك الفرق بالقيام بالدوريات والحراسة حولي منطقتي تايجيرا وسوليداد، بينما كُلفت الاثنان الأخريان بالبقاء في فيرا كروز كاحتياطي. وكانوا كلهم يخوضون حربا غير تقليدية ضد متمردين بمشاركة فرق من الفيلق الأجنبي الفرنسي مع إمبرياليين مكسيك، وفرق غير نظامية متخصصة في حرب العصابات.
وقام الجنود السودانيون (في الأصل المصريون) في ربيع وصيف 1863م بحراسة خطوط السكة حديد، والقطارات والمحطات. وكانت واحدة من أبرز معاركهم هي قيام 17 من هؤلاء الجنود بمواجهة 300 من المتمردين، والصمود أمام هجومهم، بل وتعقبهم وطردهم من المنطقة!
وفي الثاني من مارس عام 1865م أثبت هؤلاء الجنود صلابة معدنهم مرة أخرى تحت ظروف بالغة العسر. فقد وقعوا في كمين نصبه لهم 800 من المتمردين في منطقة شديدة الوعورة. وقُتل في ذلك الكمين قائدهم الفرنسي برصاص أحد قناصة المتمردين. فقام الجنود السودانيون (في الأصل المصريون) بهجوم مضاد، شكلوا فيه طابُورين هجوميين، وبمهارة فائقة قاموا بالتنسيق مع قوات مدفعية صديقة، وسارعوا بالانسحاب لموقع القوات المكسيكية. وكانت النتيجة هي انتصار آخر لجنود النيل. وبعد شهر يوليو غدت القوات الفرنسية التي تُرسل لمهام معينة تضم اسماءً ليست مألوفة في بلاد الغال مثل كوكو وآدم وفرج الزين وحسين آدم. ويجمع غالب المراقبين على أن السودانيين (المصريين في الأصل) حاربوا في تلك المعارك "ببرود يندر نظيرهavec sang - froid le plus rare" .
وما أن حل عام 1865م حتى مثل "أطفال الصحراء البواسل" هؤلاء عاملا مهما في الدفاع عن فيرا كروز، وطريق إمدادها الحيوي لمدينة المكسيك. وفي أغسطس من ذلك العام قام طابور جمع 300 من أولئك الجنود (وكان ذلك أكبر تجمع لهم) بالهجوم على عدد من أقوى معاقل المتمردين في كوتوتشتلا ىوميدلين وسوليداد وأفلحوا في تصفيتها. ثم قام خمسون منهم بزيادة القدرة على التحرك بتحولهم إلى سلاح الفرسان. وحارب هؤلاء في عدد من الصدامات والمعارك الصغيرة في تلك المناطق، ساهموا أيضا بالعمل كحراس على ظهور الخيل، وكسعاة لنقل الرسائل. ونجح جنود الكتيبة المصرية تقريبا في كل مواجهة خاضوها، وكانوا بزيهم الأبيض المميز نذير هلاك لقوات المقاومة المحلية.
ولا ريب أن ذلك النجاح قد رفع من الروح المعنوية، وكذلك فعلت المؤون (المِيرَةُ). فقد كان الجنود السودانيون (المصريون في المقال الأصلي) العاملون بالمكسيك ينالون طعاما جيدا، ويستخدمون أسلحة فرنسية حديثة بعدما تعطلت أسلحتهم (القديمة) التي جاءوا بها من مصر. وبُذلت الكثير من الجهود لمقابلة احتياجاتهم الخاصة. فقد كانت الجٍراية المقررة لكل جندي تشمل نوعا معينا من النبيذ (Imperial wine)، ولكن بما أن الخمر محرم في الإسلام، فقد قام الجيش الفرنسي باستبدال النبيذ لهم بكمية إضافية من البن والسكر. وإضافة لذلك، تم إطعامهم لحوما من حيوانات ذبحت على الطريقة الإسلامية. وأتت بعد ذلك مفاجأة سارة رفعت من روحهم المعنوية، تمثلت في زيادة مرتباتهم لضعف ما كانت عليه في البداية. وخلافا لما كان عليه الحال في وطنهم، فقد كانت تلك المرتبات تصرف بانتظام. وساهمت كل تلك العوامل في جعل أفراد تلك الكتيبة "قوات نخبة" بحق، وواحدة من أفضل الفرق الفرنسية.
وعلى الرغم من تلك المكانة الرفيعة التي حظوا بها، إلا أن مبادئ Clausewitz الخاصة بـ "الاحتكاك" سرعان مما ألمت بهم. ففي بداية عام 1864م قدم كل هؤلاء الجنود بصور جماعية (افتراضا) عريضة تطالب بإعادتهم إلى بلادهم. وبما أن الغالبية العظمي من أفراد تلك الكتيبة كانوا أميين، وكان عمل الكتيبة ككل مرضيا، فيمكن القول بأن تلك العريضة كانت من فعل قلة من الأفراد الناقمين. ورغم كل ذلك، فقد زادت في أوساطهم حالات المرض والارهاق الشديد والإصابات المفضية للموت، مما قلل من قوة الكتيبة. وكان لا بد من تعزيزات عسكرية.
وفي تلك الأيام توفي الخديوي سعيد، وحل محله إسماعيل. ورغم أن الخديوي إسماعيل لم يكن مثل سعيد في حبه وطاعته العمياء للفرنسيين، إلا أنه كان يرغب أيضا في علاقة ممتازة مع نابليون الثالث، فوافق على إرسال المزيد من الجنود (السودانيين) للمكسيك. غير أن الولايات المتحدة (التي كانت قد خرجت للتو من حربها الأهلية) عارضت ذلك بشدة، وكانت على استعداد لإنفاذ "قاعدة مورنو" بالقوة.
وخلال الاجتماع الذي دار بين الخديوي إسماعيل وقنصل أمريكا العام بمصر شارل هيل، قال الخديوي مفتخرا بجنود كتيبته في المكسيك بأن "زنجيا واحدا فقط من بين كل زنوجي بالمكسيك قد مات بالحمى الصفراء"، وأن تركبيهم الطبيعي "محصن ضد تلك الأمراض".
وفي يوم 26 أغسطس 1865م أرسل شارل هيل لوزير خارجيته في واشنطن سيوارد محذرا:
"لقد وضعت الولايات المتحدة تحت قبضتها مؤخرا أكثر من 100,000 من نفس العرق. ويمكن للبعض القول ردا علينا بأن هؤلاء الرجال يمكنهم مثلا العمل في مصر دون أن يصيبهم أي ضرر، إن طبقنا تلك القاعدة الخبيثة.... نفس ما فعله الباشا في المكسيك بطلب من قوة خارجية، يمكن للولايات المتحدة عمله في مصر إن طلبت منها ذلك قوة صديقة".
وتراجع إسماعيل باشا قليلا وقلل من فرص انتصار الفرنسيين في المكسيك، وفسر موقفه بالقول بإنه سيبقي على الكتيبة المصرية في المكسيك بكامل قوتها احتراما منه لاتفاقيات سابقة أبرمها سلفه الخديوي سعيد، ولكنه لن يرسل مزيدا من الجنود لتدعيمها. وكتب شريف باشا وزير الخارجية المصري إلى شارل هيل بأن القوات المصرية في المكسيك "تعاني من الشوق والحنين للوطن أكثر من معاناتها من طقس المكسيك أو نيران الأعداء فيها"، وأن أولئك الرجال قد أرسلوا في مهمتهم في 1863م، وقد قضوا بالفعل فترتهم المقررة، وعليهم الآن العودة للوطن".
وكانت تلك محض ادعاءات ومزاعم ليست صادقة تماما. فمن المعلوم أن الجنود السودانيين يقضون دوما فترات أطول (مما قضوه في المكسيك). وفي تلك الفترات كانوا عادة ما يقيمون صلات أسرية وعلاقات اجتماعية حسنة في المدينة التي يقيمون بها. وبما أنه لم يَؤُبْ أي فرد من أفراد تلك الكتيبة بعد، فإن إرسال أعداد جديدة من الجند لم يلق حماسا كبيرا. بل كان الجنود غير المتعلمين والجهلاء (بالعالم) يرون أن الخدمة العسكرية في المكسيك هو حكم بالموت المحقق. وبلغ حد الخوف من السفر للمكسيك أن قام رجال الفوج الرابع في كسلا بعصيان علني وصدام عسكري في يوليو من عام 1865م عندما أُخبروا بأنه سيتم إرسالهم للمكسيك ليحلوا محل الجنود السودانيين هناك (ذكرت هذه المعلومة في مقال نشر عام 1940م في العدد الثالث والعشرين من مجلة (السودان في رسائل ومدونات) بعنوان: "تاريخ كسلا ومديرية التاكا").
وعلى الرغم من أنه تم بنجاح القضاء على ذلك العصيان، إلا أنه أفضى إلى وقف إنفاذ الخطة التي كانت تقضي بتجهيز وإرسال تعزيزات للكتيبة السودانية بالمكسيك. ولم تبلغ تلك التعزيزات الإسكندرية إلا في نوفمبر من ذات العام. ورغم ذلك كان عدد هؤلاء قليلا مما استلزم النظر في إمكانية تجنيد السودانيين والنوبة المحليين في مصر كبديل محتمل. وفي هذا زعم القنصل الأمريكي بمصر لوزير خارجيته سيوارد:
"ليس بمقدور أحد إقناع أي واحد من البوابين السود بفتح باب غرفته في الليل لأنه يخشى أن يُقبض عليه للتجنيد ... بل إن كثيرا من الخدم السود فروا من بيوت مخدميهم واختبأوا في الصحراء في غضون أيام حملة جمع السود في السفينة المتجهة للمكسيك".
وبلغت سفينة الجنود الذين بُعث بهم لتعزيز الكتيبة السودانية مقصدها في ديسمبر من عام 1865م. وتم بسرعة توزيعهم إلى المناطق التي كانت تدور بها معارك ضارية ضد المتمردين الذين صاروا يضاعفون من نشاطهم في تلك الفترة (أورد الكاتب في الهامش زعم كاتبين في مقال لهما نشر في عام 2009م بالعدد رقم 53 من مجلة Der Islam بعنوان "كتيبة مصرية في المكسيك" أن مصر لم تبعث قط بتعزيزات لكتيبتها في مصر. المترجم). وكانت قوات بنيتو خواريز قد نالت وقتها تأييدا دبلوماسيا وعسكريا من إدارة أندرو جونسون (الرئيس السابع عشر للولايات المتحدة بين عامي 1865 – 1869م. المترجم). وكانت يبدو أن فرنسا تخسر حربها في المكسيك، فرأى نابليون الثالث أن ليس بمقدوره مواجهة العقبات وتخطى الصعاب المتعاظمة أمام جيشه في المكسيك، فقرر أن يوقف خسائره ويتخلى عن حلمه بإمبراطورية في المكسيك.
لقد بلغ عدد المعارك التي خاضتها الكتيبة المصرية خلال تلك الحرب 48 معركة كبيرة، وشاركت أيضا في تغطية الانسحاب النهائي للقوات الفرنسية في بدايات عام 1867م. وكانت ضمن آخر قوات غادرت المكسيك (في 12 مارس من عام 1867م. المترجم).
لقد ترك أولئك الجند بلا ريب أثرا كبيرا في مجريات تلك الحرب، ونالوا إعجاب الأعداء والأصدقاء على حد سواء، وحصدوا أكبر قدر ممكن من الميداليات تم منحه لوحدات أجنبية في الجيش الفرنسي. فقد نالوا في غضون أربعة أعوام قضوها في المكسيك 56 ميدالية (médailles militaires)، و11 أوسمة شرف (Légion d'honneur ). وتمت كذلك ترقية الضابط الفرنسي الكبير اليه فريدرك فوري (Elie Frédéric Forey) الذي كان يقود الجيش الفرنسي في المكسيك. وتراوحت أعداد الذين قضوا نحبهم (لكل الأسباب) من رجال الكتيبة المصرية في المكسيك بين 120 –50 رجلا (أوردت السجلات المصرية أن عدد الذين سافروا للمكسيك من رجال تلك الكتيبة كان 454 رجلا، وبلغ عدد العائدين منهم 313 فردا. المترجم)
ولما تقرر عودة الكتيبة لمصر، تمت دعوة أفرادها لقضاء تسعة أيام في باريس كضيوف على الامبراطور نابليون الثالث. وهنالك شاركوا في استعراض عام، واستعرض أمام الإمبراطور وقائدهم العام (ناظر الجهادية المصرية) شاهين باشا، منحوا في خلاله ميدالية الحملة المكسيكية، بشريطه المميز. وشاهد الكثير من الكتاب الذين زاروا السودان في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر تلك الميداليات والأوسمة.
وعاد أفراد تلك الكتيبة، كما كتب ريتشارد هيل لكاتب هذا المقال في 29 يوليو 1992م، كأبطال، وصاروا فيما أقبل من أيام "كادرا كان لأفراده بالغ الأثر في التاريخ الأفريقي". وعادوا لمصر رغم أن البعض في فرنسا كان يريد أن يستبقيهم كفرقة تدريب (للآخرين)، إلا أن الخديوي إسماعيل لم يوافق على ذلك، وأمر بتوزيعهم على بقية أفواج جيشه في السودان. ولعله كان يؤمل في أن يغرس أولئك الرجال بعضا من روح الكرامة والولاء والتضامن في نفوس من يعملون معهم من الجنود (السودانيين).
وليس من أغراض أو نطاق هذه الورقة تقويم ما قامت به تلك الكتيبة من مجهودات، غير أن أفراد تلك الكتيبة أدوا بالفعل أدوارا مهمة في إمبراطورية مصر في أفريقيا، وكان سقوط الخرطوم في 1885م، هو أحد أبرز مشاركاتهم.
وكان الرحالة والمستكشفون والمرتزقة الأجانب كثيرا ما يعلقون على أولئك الرجال "الذين يسهل التعرف عليهم من هيئتهم العسكرية المتفردة، وميداليتاهم المميزة التي حصلوا عليها في حرب المكسيك، وأوسمتهم التي حصلوا عليها نظير انتصاراتهم في حروب صغيرة ولكنها كانت صعبة جدا، في أرض أجنبية عنهم، وضد عدو يفوقهم في العدد". لقد كانوا نخبة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، أو كما قال قائدهم الفرنسي بأنهم "ما كانوا جنودًا بل أسودا".

[email protected]
أضف رد جديد