عبدالله بولا: رحيل مهيب (2)

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

عبدالله بولا: رحيل مهيب (2)

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »


عبدالله بولا: رحيل مهيب (2)

وداعاً هزار الربى والأكم
أريش الجناح وسيق القدم
يطوف بالقلب شتى المنازع
هذا يطول وهذا اقتحم
وذكرى تجيء وأخرى تمر
وليل تقضى وفجر ألم

التجاني يوسف بشير
(1)
ليس له موعداً مع وهج الشمس أو استراحة على هضاب القمر. هو كالصيف لا يتعب ولا يزيده التعرّق إلا قوة. كالحواريين القدامى، لا تفتُ عضدهم مصيبة، ولا يسترزقون إلا من قوة إيمانهم. آخر مرة لقيته تحدثت معه عن " صلاح" الذي ولج الفنون الأفريقية والثقافية ونثير الهويّات، وانتشر في الفلاة ، وعمّ القرى والحضر.
قلت لك :
- ألست أنت من كتب عن( مصرع الإنسان الممتاز) منذ سبعينات القرن العشرين؟، ألست أنت من علمتنا كيف نعيش مبدئنا ونحن نعمل له؟. وأن نفعل فعلنا السياسي، وتلك غير ممارستنا لفن الرسم؟
*
لم أزل أذكر يوماً حضرت غرفتنا في داخلية جامعة الخرطوم مساء ذات يوم، عام 1975، سلّمت علينا وكأنك تحمل الكرة الأرضية على كتفيك .قلت لنا :
- كنت مع أمي في مستشفى الخرطوم . فعلت كلما يمكنني فعله كي تعيش وتحيا ، ولكن الحياة اختارت أن تغيب جسداً.

وأفرط بك ألم شديد ... وسكتْ

لم نعرف وقع الصدمة علينا أنا وصديقي " قاسم " . تركناك وحدك في الغرفة ، غطينا جسدكم المُنهك وتركناك تداعب الأسى والتعب ، ثم غادرنا لبحري . كانت الجلابيب تملأ الليل بالبياض . وعرفنا أن الخطب جلل .أن تموت أمك ، أكثر وجعاً من أن يغادر أبيك.
(2)
هويتك تنطلق في البراري والهضاب ، تعرف أنحاء موطنك الأول والثاني . تسأل عنك الودائع الثمينة التي طبعت خاتمها في القلوب والعقول . كنت ولم تزل معلمنا الأول ، الكائنات تسبح وهي بين يديك رطباً ، يستطعم بها الفقراء الذين أحببتهم .
(3)
من أين تفجر ينبوعك ؟
وعياً يطوف كل المدائن والقرى . آخيت تلامذتك ، ولم تمنن عليهم . كتب شاعر في وطننا الكبير بسعة الشِعر العربي ، وقال إنك عملاق ، وقد كنت إنساناً خرافياً تعيش معنا وتقتسم معنا الطعام ، بل وتمشي في الأسواق . حتى الأنبياء اجتمعوا يقرءون عليك من ذكرهم ، علّ خزانتك المغلقة تنفتح ، ورددوا مع الجميع " افتح يا سمسم " . وبقي الذهن مغلق لا مفتاح لنصل إليه ، غير أنك كتبت ما قدرت عليه . وتممت " نجاة " بعض أقوالك على التخوم ، فصارت كُتباً.
(4)
لم تزل زيارتنا لمدرسة "المدينة عرب المتوسطة للبنات "ترن في أذني ، كأن 1975 مضت عليها يوم وليلة . " هاشم محمد صالح " كان يتمرّن على آلة " العود" وأنت عازف الطبل، وأنا أغني . كنت سيد الحاضرين والغائبين، والمنتصرين للمرأة في عجائب المقلدين للقوميين العرب المصريين .
لا نعرف الكلمات التي نودع بها جسدك و(258 ) مليون مشرّد في عالم الأوطان تتحدث عنهم إحصائية الأخبار، والغربة والمهاجر وملاذ الأكباد المنفطرة. وثقل البعد عن الوطن الأول، يمنحك بعض الراحة ، أن الموت المجاني عُرساً لا يُنسى. وحين طفقت تذكر شِعر أبيك القومي ، عندما زرنا الكاتب " عثمان حامد سليمان" في شقته في أبوظبي، أطعمتنا من شعر " بربر" البدوي في عشرينات القرن العشرين. كانت خزانتك طافحة بذكريات قديمة.
(5)
جاء موعدنا ، مع الأسى والحزن الذي لا يريد أن يفارقنا وإظلام النفس ، حين نودع الجسد ، وتبقى الروح شريكة لقائنا الأبدي، بلا اتفاق. بلا وداع . نصحو من نومنا ولا نجدك بيننا ،لنقرأ بعض نثرك القديم ربما تصادف الروح أريجها، خليط من علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس واللغة الخلوقة المبدعة. إن تكن أنت بعيداً عن يدي ، فخيالي يُدرك النائي القصيا. كأنك لا تريد أن تصبح عليك شمس العام 2019. وودعتنا في الطرف الأخير من العام .

(6)
وأنت إذ تكتب عن عبد الله بولا ، تنظر بعمق إلى كينونة المثقف الذي انتزع نفسه من التجربة الفطيرة الفاشلة التي مشاها معظم متعلمي السودان من الجيل الأول للسودنة إلى الجيل الثاني والثالث . حتى الذين أسهموا في تشكيل حيالتنا الثقافية ، لم تكُن لهم رؤية بولا المتفردة . وحده دكتور التجاني الماحي ، رفس السلطة وهو في قمتها حين استقال من الحزب الوطني الاتحادي ووصف ديناصوراته بأنهم لم يقرءوا التاريخ ، ليعرفوا مصير أشباههم.
*
أما الدكتور منصور خالد ، فقد اعترف صريحاً بأنه من الذين صنعوا صنم نميري ، وظهر ذلك في سلسلة كتاباته التي يطمح فيها أن تغسل ماضيه ، أما دكتور جعفر حمد علي بخيت ، بما يكنزه من وثائق تاريخية ، فكان يمكنه إن يعيد إلينا التاريخ المكذوب بعد أن ينقيه من أوراق الضلال الأثيم .
وكذلك نهج نهجهم أبوساق ، إلا أن لجمال محمد أحمد تفرّده ، إلا أن شائبة التجربة المايوية قد لطخت تاريخه النضير .
أما سدنة الذين تعلموا وانتموا لمنظمة الإخوان المسلمين ، فقد غرقوا في خبال مصيرهم . وغطس السودان في زمانهم إلى أسفل سافلين .
*
خرج عبدالله بولا من أسر الأجيال المتعلمة من الجيل الثالث ، وانتمى للتعليم ونُصرة قضية المرأة بهدف مساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات. انتهج ثقافته المتنوعة المشارب ، وخط خطى جديدة على أهل جيله . كان محباً للمبدعين اليتامى ، والفقراء الذين جلبهم التصنيف الطبقي الفوضوي ، ونزع إنسانيتهم النظام الرأسمالي .
*
وسار مساراً محفوفاً بالمخاطر . انتمى للنضال ، من منصة حياته التي تشبه البوهيميين . أسس للنقد الفني ، ثم الثقافي وانطلق بلا حدود . لم أزل أذكر محاضرته عام 1975 في قاعة (N21 ) بكلية الهندسة، بعد انتهاء معرض الفن التشكيلي الذي أقمناه في كافتريا كلية الهندسة . وتحدث ناقداً منهاج الاشتراكية الواقعية في الفن ، في الاتحاد السوفيتي السابق . وتحدث عن أنها ابتذال للنهج الاشتراكي ، وقال أن سدنة مدرسة الخرطوم كانوا أرحم . وتنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي بتخريبه الفن .
أضف رد جديد