الآفروعمومية واليسار الإفريقي - قصي همرور

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

الآفروعمومية واليسار الإفريقي - قصي همرور

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الآفروعمومية واليسار الإفريقي


قصي همرور




الحركة الآفروعمومية (Pan-Africanism) حركة اجتماعية سياسية، تشمل طيفا واسع من الأفكار والطموحات التحررية وتطبيقاتها، والرموز والسياقات المحلية والثقافية، لكن جوهرها قضية واقعية واحدة: التحرر والتنمية للشعوب التي تأثرت تأثرا مشتركا من تجربة غزو واستعمار واستغلال افريقيا في القرون البضع الماضية وما زالت قضاياها المعاصرة مشتركة بسبب تلك التجربة. عروة الانتماء الافروعمومي، إذن، هي التجربة المشتركة والأهداف المشتركة، غضّ النظر عن ميراث ثقافي أو قومي معيّن.
في هذا المقال سنتناول، بعرض مختصر، دور اليسار الإفريقي في رفد هذه الحركة، وصبغها بصبغته، فكريا وهيكليّا، وإحراز نسبة من طموحاتها. سنتطرّق كذلك لبعض تجليات الآفروعمومية في التاريخ السوداني الحديث عبر بعض عناصر اليسار السوداني العريض. ومن المهم التنويه إلى أن العرض المختصر في هذا المقال مأخوذٌ في جملته من مخطوطة أكبر، هي مشروع سِّفْر متوسط الحجم عن الافروعمومية، يسعى لأن يكون مدخلا مناسبا، باللغة العربية، لتاريخ وحاضر الحركة وقضاياها وآفاقها. تلك المخطوطة في مراحل إعدادها الأخيرة حاليا، ونرجو أن تظهر للقرّاء قريبا. وفقا لذلك سننحو في هذا المقال للاختصار العام، مع تجنب الإشارة للمراجع والهوامش، باعتبار أن القراء على موعد مع تفاصيل ومراجع أوفر في السِّفْر الموعود.

البدايات والتحوّلات

فكرة الآفروعموم بدأت بشكل عام في خيالات البعض أولا ثم أخذت فترة حضانة زمنية كيما تتجسد في مناسبات تاريخية مدوّنة. إضافة لذلك فإن الاسم "الافروعمومية" لم يبدأ مع بداية الظاهرة وإنما صار ذا شعبية بعد مؤتمر لندن في 1900. يمكن أن نقول إن بداياتها كانت في تطلّعات عامة وتعاطف عام بتحفيز واقع مشترك. بدأت الحركة تتشكل خارج القارة بواسطة سليلي الأفارقة، أو أفارقة الشتات (الدياسبورا)، لأسباب مفهومة، فظروف أفارقة الشتات جعلتهم يرون الهوية المشتركة بينهم بأسرع مما رآها أفارقة القارة. فبينما في القارة الأم كان الأفارقة، على الرغم من تحدياتهم المشتركة وأعدائهم المشتركين، ما زالوا محتفظين بشبكات قرابة وإثنيات وألسنة، وكذلك بمؤسسات اجتماعية محلية (بعضها أو كلها)، ما جعلهم يمايزون بين أنفسهم، لم يحتفظ أفارقة الشتات بتلك التصنيفات إذ حُرِموا منها حين تمّ اختطافهم وتجريدهم من جذورهم تلك. كذلك داخل القارة كانت المجموعات تعرف أراضيها، وبينها تحالفات كما بينها مشاحنات فيما بينها، ما جعل شعور الانتماء للمجموعة الإثنية وتحالفاتها أكبر من شعور الانتماء لأي هوية افريقية جامعة، وإن كان هنالك أعداء مشتركين، من خارج القارة، بدأوا بالظهور. احتاج أفارقة القارة المزيد من الوقت ليدركوا أن هنالك أعداء مشتركين ومصالح مشتركة أكبر من التصنيفات الداخلية فيما بينهم، وأن اتحادهم كأفارقة عموما أهم استراتيجيا إذ هو أقوى من التشرذم، وما زال. أما أفارقة الشتات فظروفهم القاهرة التي حجّمت الكثير من الحجب الإثنية واللغوية والتمايزية الأخرى جعلتهم يرون التشابهات والتحديات والمصالح المشتركة بينهم أسرع نسبيّا من أفارقة القارة. وهذا عموما ليس أمرا نادرا في تاريخ الحراك الاجتماعي، أن تتعرف مجموعات الناس على الهوية المشتركة بينها عن طريق ظهور "آخرين" وتحديات مشتركة أمامهم. الوعي بالذات، وبالآخرين، كثيرا ما تحفّزه عوامل خارجية وتغيّراتها. الأوروبيون مثلا احتاجوا للكثير من الوقت والحروب الداخلية، والتبادلات المصلحية والاحتكاكات الأخرى، بالإضافة لظهور غير الأوروبيين في حياتهم، وأراضي أخرى ليست أوروبا، حتى كان إدراك وتأطير الهوية الأوروبية المشتركة بينهم أكثر؛ وكذلك العرب كانت بطونهم وقبائلهم متمايزة فيما بينها ولا يتقاربون كثيرا كعرب إلا في مقابلة الهويات الأخرى كالروم والفرس.
بدايات التطلعات الافروعمومية في "الأراضي الجديدة" – أي الأراضي التي استعمرها الأوروبيون في القارتين الأمريكيتيين - كانت في صورة تجمّعات أفارقة الشتات، المسترقّين المستجلبين من القارة الأم، إما من أجل المطالبة بالمزيد من الاعتبار والحقوق، أو السعي للعودة (أو الهجرة الثانية) لإفريقيا، أو المقاومة المسلّحة. وكانت هنالك تشابهات عامة بين اتجاهات هؤلاء، مع تفاوتات كمّية ونوعية. لكن أحد أهم قصص ثوراتهم في الأراضي الجديدة جرت أحداثها في هاييتي. ثورة هايتي كانت ثورة ناجحة بقيادة المسترقّين الذين حرّروا أنفسهم في مستعمرة سانتو دومينقو الفرنسية (ومعهم من انضموا للثورة من مجموعات أخرى، منها المولاتو وبعض الفرنسيين والبريطانيين والاسبانيين كذلك)، في البحر الكاريبي، فتمكّنوا من هزيمة وطرد القوات الفرنسية ونزع السلطة من الاستعمار، وأعلنوا قيام دولة مستقلة باسم هايتي (إعادة لمسمّاها عند السكان الأصليين للجزيرة). استغرقت الثورة سنوات، وشارك فيها نساء ورجال معا، وأنجبت جمهورية هايتي عام 1801، ما يجعلها أول دولة تتحرر من الاستعمار الأوروبي وأول عملية تحرر شاملة ناجحة من قبضة سلطة أوروبية استعمارية واستيطانية واستعبادية، وما يجعلها كذلك أكبر انتفاضة مسترقّين ناجحة في التاريخ. أيضا كانت هايتي أول بلد في التاريخ تحرّم الرق تماما في أراضيها، قانونا وعملا، وبذلك سبقت كل الدول الأوروبية وبقية دول العالم التي قامت بتحريم الرق وتجريم تجارة الرقيق لاحقا بعد هايتي بعقود.
صحبت فترة القرن التاسع عشر تلك أيضا بداية الكتابات الزنجية – من أفارقة الشتات أو الذين عادوا لإفريقيا مؤخرا (في ليبيريا وسيراليون) غالبا – في الدفاع عن قدرات الزنوج على حكم أنفسهم والتقدّم الحضاري. ومع نهايات القرن بدأت تلك الأفكار تتبلور وتقوى، ويعلو صوتها وينتشر صداها، بمساهمة رجال ونساء، بما يكفي لدخول مرحلة تشكيل الحركة الافروعمومية ووضع لبناتها الأولى. في تلك الفترة ظهر اسم إدوارد ويلموت بلايدون (ليبيريا) كأحد أهم المساهمين (والذي يلقّب اليوم "أبو الافروعمومية"، مجازا، في أوساط كثيرة). وفي سبتمبر 1897، بمدينة لندن، تم إنشاء "الجمعية الإفريقية"، وقد قامت لأهداف تشجيع شعور الوحدة والصداقة والتعارف بين الأفارقة عموما – في الشتات والقارة – في المستعمرات البريطانية وغيرها، عن طريق النشاط المعرفي والمطلبي حول حقوقهم وامتيازاتهم كرعايا للإمبراطورية البريطانية. تلك البداية المعتمدة للحركة الافروعمومية واضح أنها لم تبدأ بصدام السلطات الاستعمارية بقدر ما بدأت بدايات متواضعة تستغل المتاح وقتها من مساحة القانون والعلاقات الممكنة لحشد الأفارقة المهتمين وتحريكهم في اتجاهات مرغوبة. عموما لم تستمر تلك المرحلة طويلا – سواء آتت أُكُلها أم لم تفعل – إذ تواصلت التحوّلات بوتيرة سريعة نوعا ما نحو المصادمة مع السلطات الاستعمارية. قامت الجمعية الافريقية بتنظيم أول مؤتمر افروعمومي في يوليو 1900، بأهداف كانت عموما التقريب بين أفارقة القارة والشتات، والنظر في سبل المقاربة بين "الأعراق"، وابتدار حركة تعمل على ضمان حقوق جميع الأفارقة الذين يعيشون في بلدان ذات تمثيل "حضاري" رسمي (حسب الوصف في ذلك السياق التاريخي) ودفع مصالحهم الاقتصادية. حضر ذلك المؤتمر حوالي 32 شخص، رجال ونساء، من افريقيا وأوروبا والأراضي الجديدة، لعلّ أهمهم، في نظر التاريخ اليوم، كان وِليام إدوارد دوبُويْز (W.E.B. DuBois)، الكاتب والناشط والأديب الإفريقي الأمريكي (والمواطن الغاني لاحقا)، أحد أعلام الحركة الافروعمومية.
منذ ذلك الحدث اتجهت مجهودات الافروعموميون، بصورة عامة، نحو الحراك العملي، عن طريق الحشد وتشكيل المنظمات والتجمعات، والنداء نحو تحقيق أهداف بعينها. صارت الكتابة والصحافة الافروعمومية أكثر كثافة وميلا نحو الإسهاب والنقد والمفاكرة، بعد ان ظلّت في الحقبة السابقة للمؤتمر الافروعمومي تحوم في منطقة "ملء فراغ الحماس". خرجت إصدارات افروعمومية متعددة، وبرزت في الدوائر الكتابية والتحريرية والبحثية والخطابية أسماء مثل وِليام دوبويز، وماركوس قارفي، ومحمد علي دوسة (السوداني – أو السوداني/المصري - الذي جاب افريقيا والشتات وترك أثرا ملحوظا في الحراك الافروعمومي)، وإيمي جاك قارفي وكلوديا جونز. كذلك قامت في النصف الأول من القرن العشرين عدة مؤتمرات افروعمومية، على غرار المؤتمر الأول وبأجندة أكثر قوة وشمولا، حيث تُنسَب المساهمة الرئيسية في تنظيمها لدوبويز.

وصْل الافروعمومية باليسار: دوبُويْز


اجتهد دوبويز في التحليل المنهجي لأسباب تأخر أفارقة الشتات (خصوصا في الولايات المتحدة) عن إحراز خطوات إيجابية ملموسة في التنمية الاقتصادية والاندماج في المجتمع كمواطنين كاملي المساهمة، ووضّح بدراسات ميدانية وبحوث تاريخية حول السياسات والمؤسسات أن الزنوج ما زالوا يتعرضون لتضييق وقهر مستمر يحول بينهم وبين إبراز طاقاتهم الكامنة كجماعة وكأفراد. أيضا كتب كثيرا عن تاريخ افريقيا وقضايا الافروعمومية، بجانب نشاطه الواسع في بناء الحركة عالميا. كذلك تطوّر دوبويز فكريا إلى أن جمع بين الافروعمومية والاشتراكية كلازمتين لتحرر افريقيا والأفارقة، ولربما كان دوبويز أول افروعمومي بارز يطرح الوصل القوي بين الافروعمومية وتبني الخط الاشتراكي كأفضل خط من أجل تحرر وتنمية جميع الأفارقة بدون إعادة تدوير دولاب الاستغلال ومراكمة الثروة والسلطة في أيدي القلة على حساب الأغلبية؛ إضافة لاعتبار أن نمط التوسع الرأسمالي كان السبب الأول في استعمار الأفارقة واستغلالهم ابتداءً وكان المحرك الرئيسي للعنصرية المؤسسية في العصر الحديث، حسب دوبويز وآخرين. مضى دوبويز خطوات إضافية بطرح رؤى عملية لتنزيل المبادئ الاشتراكية في المجتمعات الأفرو-أمريكية، حيث اقترح تفعيل مبادئ الاقتصاد التعاوني فيها بحيث يبتدر الناس عدة أعمال تعاونية وجمعيات مهنية ومن ثم تتداخل هذه سوية في شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية وتدوير الثروة في المجتمع بحيث يستمر الاستثمار عبرها في تنمية المجتمع وأفراده عموما وفق تخطيط جماعي، مثل مرافق ومناهج التعليم العام والتعليم المهني، والإسكان والخدمات الصحية، إلخ. شارك دوبويز كذلك في إنشاء منظمات تسعى لتفعيل تلك الرؤى.
خلاصة قراءتنا لتاريخ الآفروعمومية تقول إن دوبويز كان أحد أهم شخصيات الجيل الأول للافروعموميين بسبب تأثيره الفكري على مجموعة كبيرة وهامة من شخصيات الجيل الثاني من الافروعموميين. الدمج بين الافروعمومية والاشتراكية، الذي بدأه دوبويز، وإدخال أدوات الدراسة الميدانية والتحليل المنهجي للأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة لاستخلاص خلاصات نظرية وحلول تطبيقية، هي ميراث تميّز به دوبويز ضمن أبرز رموز الجيل الأول للافروعموميين، وهو الميراث الذي التقطه ورفده بعد ذلك معظم الشخصيات المحورية من الجيل الثاني، والذين كان أثرهم أضعاف أثر دوبويز في واقع الأفارقة عموما بعد ذلك—أمثال كوامي نْكُروما، وجوليوس نْيريري، وسايرِل ليونيل جيمس، وكوامي تُوري، وشيرلي قراهام دوبويز، ووالتر رودني، وروبرت سوبوكْوِي، وأمِلْكار كابرال، وغيرهم. باختصار، نجح دوبويز أكثر من عموم مجايليه الافروعموميين في توريث نسخته الافروعمومية لرموز الجيل الثاني من الحركة، والذين بدورهم وطّدوا تلك النسخة أكثر منه بسبب نفوذهم الذي فاق نفوذ دوبويز في زمانه، خصوصا في القارة الأم إبان حقبة التحرر الوطني وحقبة البناء ما بعد الاستقلال مباشرة. لا نقول إن دوبويز كان الوحيد الافروعمومي واليساري البارز ضمن الجيل الأول، لكن الأكثر حضورا. بعض رموز الجيل الثاني عرفوا دوبويز شخصيا واغترفوا منه، مثل نْكُروما (الذي منح دوبويز الجنسية الغانية بعد استقلال غانا، وأخذها دوبويز واستقر هناك حتى توفي عام 1963)؛ ونْكُروما كما نعلم اليوم من أبرز افروعموميي الجيل الثاني وصاحب أكثر أطروحة واضحة ومباشرة لمعنى الوحدة الافريقية—أي الاتحاد السياسي والاقتصادي، اللامركزي، الهادف لتقوية الهيكلين السياسي والاقتصادي للبلدان الافريقية بكافة تنوّعاتها بحيث يدفع ذلك الوضع نحو استقلال حقيقي للشعوب وتنمية اقتصادية راسخة. (بعض اتجاهات الاتحاد الافريقي مؤخرا، نحو إمكانية جواز افريقي مشترك وعملة افريقية مشتركة وتسهيل لحركة التجارة والاستثمار والتنقّل عبر دول الاتحاد، دعا لها نكروما واّفروعموميون آخرون، كنْيَريري، منذ ستينات القرن المنصرم).
ولعل هنالك مسألة أخرى كان لها دور في زيادة أثر دوبويز هذا، وهي أن أثره كان على المتعلّمين والخريجين بالذات من افروعموميي الجيل الثاني أكثر من غيره، والذين بدورهم صاروا طلائع وقيادات في حراك بلدانهم بسبب امتيازاتهم التعليمية تلك بين شعوبهم وقدرتهم على ترجمة تطلّعات شعوبهم إلى بناءات سياسية عصرية كانوا الأكبر ترشيحا لقيادة دفّتها (برغم الإخفاقات التطبيقية التي اكتنفت تجارب معظمهم، كأمر متوقّعِ كنتيجة لقاعدة تاريخية عامة في مسيرة بناء الأمم الحديثة). ربّما كان جذب دوبويز لهؤلاء الافروعموميين المتعلمين بسبب أنه أيضا كان تقريبا الأعلى تعليما وسط افروعموميي الجيل الأول. كان أول أفريقي أمريكي يحصل على الدكتوراة من جامعة هارفرد (عام 1895)، بعد أن جاب بقاعا متعددة حول العالم ودرس بها، إضافة لأنه أكثر افروعموميي الجيل الأول اطّلاعا على التراث الإنساني الواسع وأحد أكثرهم تميّزا في الكتابة والخطابة. باختصار، كان دوبويز نموذجا ممتازا لسطوة المثقف الافروعمومي، الحداثي، المواطن العالمي والمناضل المحلّي معا، المتشرّب للتاريخ والمحلّق في الحاضر معا؛ وهذا النموذج أثّر كثيرا على معظم آفروعموميي الجيل الثاني. تولّى قيادات الجيل الثاني من الافروعموميين في القارة راية المزاوجة بين الافروعمومية والطيف اليساري العام (ونعني به الطيف الاشتراكي، المناهض للإمبريالية وسياساتها ورموزها، والداعم لموجة الحداثة العالمية وفق مبادئ الأصالة المحلية والمساواة الكاملة بين الشعوب). وفقا لذلك نجد اليوم، في تاريخ افريقيا جنوب الصحراء، منذ حقبة الحركات الوطنية وما بعدها، أن معظم اليساريين الافارقة افروعموميون كذلك، والعكس صحيح، في حين أن بعض الجماعات اليسارية شمال افريقيا كانت افروعمومية ملتزمة (كجبهة التحرير الوطني الجزائرية) وبعضها لم تكن ذلك، أو كانت ذات صلة نسبية بالحركة الافروعمومية لكن بدون التزام واضح تجاهها (كحكومة جمال عبدالناصر وحكومة القذافي).

الافروعمومية واليسار في السودان


المعروف عموما أن السودان منذ استقلاله كان تكتّل السلطة والثروة فيه في يد مجموعات معيّنة سودانية محلية – لأسباب تاريخية ليس هذا مجال تناولها - شديدة الميل للهوية العربية، ليس باعتبار اللغة فحسب إنما كذلك باعتبارات إثنية (سلالية وثقافية) واعتبارات دينية (حيث هنالك زعم أن القرب من العروبة أكثر محبّذ بالنسبة لدين الإسلام، دين الأغلبية، وهو زعمٌ لم نجد له دعما معقولا في تعاليم الإسلام). ذلك الميل الشديد لتلك المجموعات ظهر تطرّفه، وما زال، في الجفاء الصريح للمكوّنات الأخرى للهوية السودانية عموما والمجموعات الممثلة لها. هذا مع أن واقع السودان كان وما زال أن تلك المجموعات، المائلة للهوية العربية بتطرّف، لم تكن يوما الأغلبية الإحصائية أو الإنتاجية في السودان، لكن بواقع استئثارها بحصة السلطة والثروة الأكبر من حجمها النسبي في التشكيلة السكانية وظّفت سلطتها تلك في اتجاه تلوين السودان كاملا بلونها، أي منظورها وتطلعاتها، بدل أن تقبل بكونها مكوّنا واحدا أصيلا في التشكيلة السودانية العامة. كما وجد المكوّن الطاغي إحصائيا في تلك التشكيلة نفسه موصوما "بالإفريقية" في هذه العملية، كمقابل للمكون "العربي"، في حين أن المنطق الواقعي يقول إن جميع مواطني هذا البلد إنما هم أفارقة. ذلك الانفصام الذي خلقته تلك المجموعة الممتازة – أي صاحبة امتيازات السلطة والثروة، ولنسمّيها جماعة المركز – ولّد احتقانات في السودان منذ حقبة الحركة الوطنية وحتى اليوم، وهذه الاحتقانات تمثّلت في ظلامات كثيرة، تنموية ومؤسسية وثقافية، وصنوف شتى من العنصريّة الصريحة، الصارخة والخافتة، وقعت على أغلبية أهل السودان (ولنسميها جماعات الهامش)، وأنتجت كذلك غضبا مشروعا من عناصر تنتمي لتلك الأغلبية لم تجد حلولا غير مواجهة تلك المجموعة الممتازة (والتي أعادت إنتاج نفسها مرات كثيرة في تاريخ السودان الحديث) إذ تنوّعت تلك المواجهة من أشكال مدنيّة وئيدة وساخطة، وأشكال مسلّحة قررت تغيير هذه الأوضاع المجحفة بقوّة السلاح (والذي استعملته الجماعة الحاكمة مرارا وابتدارا). تلك الاحتقانات ولّدت أطول حرب أهلية في افريقيا، وقادت لانقسام السودان إلى دولتين، ولم تنته بعد.
برغم أن الصراع الذي جرى ويجري في السودان أساسه صراع قوى على السلطة والثروة، إلا أن تشكيلة السودان الثقافية المتميّزة، التي كان بإمكانها أن تكون مصدر طاقة خلّاقة لعموم السودان، صارت متورّطة في كل هذا، للحد الذي خلق أزمة هويّة في السودان. هي أزمة مصنوعة، خلقت فريقين هلاميين، أحدهما "عربي" والآخر "افريقي" حسب ما جرى الاصطلاح. ويمكن أن يقال كذلك إن السودان بسبب هذه الأزمة ساهم، بقصد أو بغير قصد، حتى الآن في إحداث شرخ في العلاقات الافريقية - الشرق الأوسطية، في حين كانت لديه على الأقل فرصة أن يكون جسرا متينا لتلك العلاقات. (لكن، وللإنصاف، يُذكَر أن حكومات سودان الستينات والسبعينات ساهمت، بمعية حكومات أخرى، بدعم مقدّر لبعض حركات التحرر الافريقية).
وفقا لهذه السيرة السودانية الحديثة أصبحت مسألة الافروعمومية في وضع التعامل مع محاولات تذكير السودانيين بأنفسهم، أي ببداهة أنهم أفارقة، وأن جماع ظروفهم وتشكيلتهم وميراثهم في عمومه لا يمكن أن يوصف إلا بأنه واقع افريقي عام. وهذا التذكير ليس لمجرد حسم مسألة لا تغني من الواقع شيئا، بل لأن الشاهد يقول إن هذه المسألة نفسها أصبحت حصان طروادة لواحدة من أكثر ظواهر ظلم السلطة وخيانتها لشعبها بروزا في التاريخ الافريقي الحديث. الوضع في السودان، منذ الاستقلال وحتى لحظة كتابة هذه السطور، هو أن هنالك عدوانا على أغلبية شعوب السودان بواسطة أقلية إحصائية استأثرت بالسلطة والثروة، وهذا العدوان على الأغلبية متصل بالعدوان على المكوّنات الافريقية في السودان وعموم ما تمثّله، ولذلك فهذا العدوان لا بد من ردعه، دفاعا عن المعتدى عليهم واستعادة للحقوق المغتصبة. وإن كانت بعض الردود على العدوان متطرفة بعض الشيء، في نظر بعض الناس، فإن تطرّفها هذا يُنسَب لغضب المظلوم، وغضبة المظلوم تقف على أرض حق، أما عدوان المعتدي فيقف على أرض باطل؛ والأولى بالتأكيد إيقاف عدوان المعتدي قبل لوم المظلوم على غضبه، لأن دواعي غضبه المشروع ما زالت ماثلة. يقول والتر رودني في وصف هذه الحالة: "أي معيار أخلاقي ذلك الذي يمكن وفقه أن نساوي بين عنف المقهور، في سعيه ليتحرر من أغلاله، وعنف القاهر؟"
لذلك لم يكن هنالك بدٌّ أمام بعض الأصوات العاقلة من طيف السودانيين اليساريين، من تناول موضوع الهوية وأزمة الهوية في السودان ضمن سعيهم لاستعدال أوضاع الوطن السوداني ومعالجة مشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتعددة (إذ ليس كل اليساريين، أو منسوبي القوى التقدمية السودانية عموما، مدركين حقا لهذه المشكلة، للأسف، بل بعضهم يقف عمليا في معسكر القوى المحافظة بخصوص هذه القضية بالذات). وهؤلاء اليساريون الذين نتحدث عنهم تنوّعوا في انتماءاتهم المذهبية والتنظيمية، كما لا يمكن القول إنهم بالضرورة كانوا واضحي التماهي الافروعمومي، لكن الصفة المشتركة بينهم أنهم أظهروا فهما ودعما أكثر من غيرهم للقضايا والتطلعات التي تمثّلها الحركة الافروعمومية. من هؤلاء السودانيين اليساريين عدد مقدّر من العضوية الحاضرة والسابقة للحزب الشيوعي السوداني، ولا غرو، إذ كما ذكرنا سابقا فإن الحركة الافروعمومية في القارة عموما كانت وما زالت ذات صبغة يسارية عامة. (لكن هنا يجوز التذكير بأن أولئك الشيوعيين السودانيين، كشخصيات معدودة، لم يستطيعوا أن يغيّروا وجهة حزبهم العامة نحو الشمال: أي نحو الشرق الأوسط والمعسكر الاشتراكي الأوروبي؛ فالحزب الشيوعي السوداني عموما لا يمكن أن يقال عنه، من خلال تاريخه وعلاقاته، انه أنصف الافروعمومية، ولا ندري إن كان سيفعل في مستقبله). كذلك كانت هنالك أصوات متفرقة، في حقبة الحركة الوطنية والسنين الأولى بعد الاستقلال السياسي، يمكن أن يقال إنها عموما كانت ذات تعاطف أفروعمومي، لكنها لم تنتج أدبيات سياسية واضحة، أو حراك اجتماعي سياسي واضح، في رفد الأفروعمومية في السودان. يدخل في هذا الوصف منسوبو بعض الأحزاب الصغيرة التي كانت ذات عضوية جنوبية غالبة، مثل جبهة الجنوب وحزب سانو.
كذلك كان من أول الأصوات السودانية المنتمية للطيف اليساري العام وذات طرح يقترب مع عموم التطلعات الافروعمومية، محمود محمد طه. وربما لم يتوقّع بعض القرّاء ذلك لكنه أمر مشهود وموثّق. مقاربة طه لهذا الموضوع كانت متباينة على المستويين: الشخصي والعام. على المستوى الشخصي كان طه صريحا في تماهيه الشخصي مع مكوّنه الافريقي، وفق مواقف ونصوص موثّقة عنه منذ بدايات تدشين حراكه العام وفي موجّهات مدرسته الفكرية، بيد في أولويات حراكه العام لم ينشغل كثيرا بالتبشير بالمكوّن الافريقي للسودانيين، إذ أن قائمة أولوياته تعلّقت بطرحه الفكري الواسع (وعمدته الإصلاح والتجديد (التطوير) الديني من داخل الفكر الإسلامي، مع طموح إنساني عالمي، وإن لم يتجاهل الواقع السوداني كذلك). لكن رغم ذلك فإن طه وثّق لموقف واضح من الواقع السوداني العام: أن السودان وطن متعدد ثقافيا وسُلاليّا، والمكوّن العربي له فيه موطن واسع ومتجذر كعضو أساسي وتاريخي مع مكوّنات المجتمع السوداني عموما، لكن السودان إنما هو قطرٌ افريقي، والشعب السوداني وفقا لذلك يوصف عموما بأنه شعب افريقي (كوصف يستوعب التنوّع داخله، أي كانتماء للحالة الافريقية عموما وليس لهوية ثقافية أو سُلاليّة واحدة تسمى الهوية الافريقية). هذا المنظور عند طه له تبعات على مستوى التنمية وبناء الدولة والعلاقات الاستراتيجية في الميدان الدولي، إذ أشار إلى أن من الخير للسودان أن يتخذ موضعه كقطر افريقي وفق رؤية تقرّ بذلك الموضع وتبني قراراتها وفقه، ولذلك آثار عملية على مجالات السياسة والإعلام والاقتصاد، وغيرها.
وعموما لم تتوقف الافروعمومية عن النماء والتطوّر في السودان، للآن، رغم الظروف العامة غير المساعدة. ظهرت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين حركات وتيارات متباينة ومتداخلة، يسارية عموما، تسترجع الصوت الافروعمومي وتنشره، مثل مؤتمر الوطن السوداني المتحد (مانِفستو كوش)، والحركة الشعبية لتحرير السودان، وغيرها، كما انضمّت لهؤلاء أصوات ورموز فكرية لها وزنها في الساحة الإعلامية والثقافية السودانية. أحد أبرز الكتّاب السودانيين الذين أولوا الافروعمومية اهتماما ملتزما واضحا، وأثروها بمساهماتهم، الراحل عبدالهادي الصديق.
أخيرا، خلاصة ما يقوله الافروعموميون السودانيون عموما إنه، من الناحية الموضوعية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن مصالح السودان المتوقعة عموما من زيادة الانتماء الافروعمومي متعددة، منها المساهمة في إمكانيات خلق تصالح أكبر بين مجموعات السودان وفتح الطريق أمام إجراء عدالة انتقالية، الأمر الذي يتيح فرص فض النزاع وبناء السلام والاستقرار السياسي الداخلي؛ إضافة لدعم خطاب إعادة التوزيع المنصف للسلطة والثروة على مجموعات السودان، وفق شروط مادية تقوم بتجفيف منابع وأسباب العنصرية في المجتمع السوداني وتعيد رسم الاقتصاد السوداني لتمنحه إمكانيات إنتاجية أعلى (بدل اعتماده الحالي على اقتصاد ريعي متذبذب ومشوّه، مع امتصاص الكثير من الموارد لصالح تكاليف الحروب الأهلية والنزاعات المستمرة). ومن تلك الفوائد المتوقعة كذلك إعادة ترتيب الأولويات التنموية والمصالح التنموية الحقيقية للسودان والتي يخدمها امتداده في المنطقة الافريقية الواسعة، صاحبة التنوّع في الموارد وفرص التكامل الاقتصادي الأكبر، بدل الانحصار في منطقة غير متنوعة الموارد التنموية وقليلة فرص التكامل الاقتصادي داخليا كما هو الحال الآن. إضافة لذلك فإن الانفتاح على افريقيا أكثر سينعش راكد الحراك الاجتماعي والثقافي السوداني لكونه سيعطي دفعة طال انتظارها لمكوّنات السودان الأغلبية لتخلق وتتفاعل وتعيد رسم الواقع السوداني المعاش، والرأي السوداني العام، ليحرر طاقات كثيرة كانت مكبوتة بفعل فاعل. وفي كل ذلك لا خوف على المكوّن العربي في السودان الآن لأنه سيبقى موجودا كجزء أصيل من هذا الكل (بل هو جزء فاعل جدا وباعتراف سودانيين لا ينتمون له، فجون قرنق مثلا، كآفروعمومي سوداني بارز وغير ناطق بالعربية، كان يرى ويصرّح منذ الثمانينات أن اللغة العربية أفضل خيار لغة رسمية أولى لدولة السودان الموحّد). فقط الفرق أن المتعوّدين على الحديث باسم ذلك المكوّن (العربي) اعتادوا على أن يكونوا وحدهم، أو يكادوا، في الساحة السودانية لدرجة أنهم استمرأوا هذا الوضع غير الطبيعي وظنوه طبيعيا، وصاروا يخشون أي شيء غير ذلك الضيق، كما "قد تنكر العين ضوء الشّمس من رمدٍ، وينكر الفم طعم الماء من سقمٍ".




-------

إشارة:

سبق لهذا المقال أن نُشِرَ في مجلة "الحداثة السودانية"، العدد 11، سبتمبر 2018، صفحات 72-76.
أضف رد جديد