ثلاثية أمدرمان[3]سامي الصاوي:عمر خيري و أمدرمان الخيال

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

ثلاثية أمدرمان[3]سامي الصاوي:عمر خيري و أمدرمان الخيال

مشاركة بواسطة حسن موسى »




الجزء الثالث


عمرخيري وامدرمان الخيال

سامي الصاوي



تمهيد

" العار والاحتقار لوزارة ثقافة ظل شغلها الشاغل هو الهرولة خلف الرؤساء والوزراء والولاة والمدراء وارزقية السياسة من كل شكل وهيئه لالتقاط صورهم وهم يعربدون ويهرجون ويتصايحون كقردة مخمورة والاحتفاظ بتلك الصور عديمة القيمة في مخازن مكيفة يدفع كلفتها الناس بينما الاعمال ذات القيمة لا تجد حتى راكوبة تستظل بظلها. أما من أحد يخبرني ما العلاقة بين الثقافة واطنان من صور وأشرطة فيديو مبتذلة تمجد من لا يستحق حتى مجرد ذكر"؟





لو كان عم بشرى بمنحوتاته وخير السيد في طوافه يمثلان أمدرمان الواقع التي عشناها وعشقناها كما تبدت لنا ظاهراً مرئياً، من يا ترى عبّرَ عن امدرمان الخيال... تلك المحتجبة فيما وراء الظاهر المرئي؟ فالمدينة عند قلة من بنيها من ذوي الالهام (مبدعين كانوا أو متصوفة) ليست مجرد واقع ماثل بل أكثر من ذلك.. وأحياناً غير ذلك.
من بين هولاء القلة الرسام عمر خيري.. او جورج ادوارد. عمر غير معروف كثيراً خارج الوسط التشكيلي المتخصص. وإن كان قد حُرِم من أشياء حسية كثيرة فقد استعاض عن ذلك الحرمان المؤرق كله بشيء واحد فقط: خيال لا حد له ولا مدى، لا بداية ولا نهاية. ما من لوائح وضعية تضبطه ولا ثوابت وهمية تهزمه ولا منطق تقليدي يكبله. كان حراً كطائر أسطوري ألغي حدود المكان والزمان وحلق بخياله أينما شاء وكيفما شاء.. وحده يقرر، ووحده يفعل ولا ينتظر تصفيقاً من كائن من كان.
و انا إذ أكتب عن عمرخيري متطاولاً عن حجمي، متعدياً علي خصوصيته، متلصصاً علي دنياه البديلة التي صاغها رسماً في ملكوت الخيال أعتذر مقدماً. ولعل عزائي أولاً في انني لا أتناول بهذه الكلمات أعمال عمرخيري كناقد، فأنا غير مؤهل لذلك وأترك الأمر للراسخين في النقد والنقد المضاد، فهم دائما علي استعداد ليفسروا لك كل ما في اللوحة وما ليس فيها ولا يتركونك "براحتك" تكتفي بمتعة المشاهدة، وكأنما الرسام قد زارهم في المنام وأطلعهم علي خبايا العمل وكلفهم بتبليغ الرسالة.
أنا فقط أكتب عن عمر كصديق افتقدته، وكأنيس صمته كان أكثر من كلامه، وكرفيق امدرماني أعترف بفضله عليّ إذ اخذني بيدي في حميمية مراراً وتكراراً وطاف بي في ثنايا أمدرمان أخري داخل أمدرمان لم أكن أعرف إنها موجودة، وأتاح لي أن أرى وأسمع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
عمر ابن عباسية أمدرمان أمضى سنينه الأولي في ازقتها ودروبها ومدارسها. استنشق غبارها وتتربت اقدامه بترابها وبنى شخصيته من طينتها واكتسب سمات أهلها. شب عن الطوق امدرماني المنبع امدرماني المصب. ثم رحل عنها في مقتبل شبابه. لكنه كان يعود إليها بشخصه ان إستطاع وإن لم فبخياله طائفا حولها كما طاف خير السيد، صامتاً كصمت عم بشرى، ناظراً بعين خياله، مستوعباً سحرها، نافذاً الي سرها ومستلهماً روحها. لكنه لم يتوقف عند ذلك بل أعمل فيها خياله معيداً صياغة كل ما رآه وسمعه من سحر وسر وروح في تصاوير تطوقك بهالة من دهشة وقداسة تتسمر امامها خاشعاً مأخوذاً مسحوراً لا تكاد تصدق أن ما تراه أمامك من خطوط ووجوه وأسماء وحروف وإشارات ولغة وأبيض وأسود ازدحمت بها اللوحة تكاد تخرج عن الإطار في زخم فوار وفوضى مرتبة وتفصيلات مذهلة هي امدرمان التي عرفتها كل هذه السنين، لتكتشف انك ما عرفت إلا القليل. هنالك أمدرمان أخري وضعها عمر خيري أمامك ببساطة وبعفوية ودون إكراه.. إن شئت صدقتها وان لم تشأ فلا حرج... الامر عند عمر سيان.
و أين وضع عمر أمدرمان الاخرى؟ في تابستري؟ لا. في كنفاس؟ لا. في ورق حريري؟ لا. وضعها في لوح ابلكاش عادي لا أكثر.. فهو لا يملك المال الذي يمكنه من شراء كل مواد وأدوات الفنان .. إضافة الي انه كان زاهداً فيه معرضاً عنه في كل الاحوال ان ملك او لم يملك. كيف استطاع عمرخيري ان يروض لوح الابلكاش ويستنطقه ليحكي من خلاله امدرمان المحتجبة وبألسنة شتى، منها ما هو يهمس، ومنها ماهو يتساءل، ومنها ما هو يتأوه ومنها المستغيث بينما ظل هو صامتا عن الكلام معظم حياته... كيف؟ لا علم لي.
و من اين اتى بلوح الابلكاش؟ كان عمر يطلب مني من حين لآخر ان اذهب معه الي المنطقة الصناعية، ليس لانه يرغب في شراء غرفة نوم او طقم جلوس او حتى "طقطوقه". كان له شأنا آخر. أنظر اليه من علي البعد وهو ينقب في مخلفات ورش النجارة باحثاً في الركام عن باقي لوح ابلكاش هنا، او قُطاع مراين هناك، ماسونايد، سدابات.. الخ يجمعها ويحملها بكلتا يديه فرحاً وكأنه يحمل كنوز الدنيا. وفي كل مرة اتعجب واتساءل: من وما هذا السوبر إنسان المدهش غير العادي؟ من اي عالم أتى؟ من عالمنا هذا ام من عالم مجاور لا ندري عنه شيئا؟ لا شك ان أمدرمان قد أسهمت في بناء شخصيته الاستثنائية إبان سنوات التكوين التي قضاها في كنفها. لكنه وبمفرده أضاف إليها الكثير حتى صار نسيج وحده.
تراه لوحده فتحسبه وحيدا. ولم يكن كذلك. شتان ما بين ان تكون وحيدا (lonely) وان تكون لوحدك (alone). فالاولي عزلة انفرادية قاسية تفرض عليك لسبب او لآخر، والثانية أسلوب حياة تشكله باختيارك. وهذا ما فعله عمر. فقد خلق ولأسباب منطقية في أعقاب الصدمات التي تعرض لها دنيا بديلة تخصه وحده وسكن فيها بكل عقله ووجدانه راضياً مرضياً وملأها بالشخوص والأسماء والاحداث واللغة واتخذهم في صمت اقراناً واحباباً. عاش معهم وبهم ومن أجلهم في إلفة وتناغم. والحال كذلك كيف يكون وحيداً؟ وفي نفس الوقت لم يلفظ العالم او الناس من حوله. أوجد التوازن الذي مكنه من التواصل مع الآخرين دون المساس بالمساحة الآمنة. وقد شرفني بأن أكون ضمن من تواصل معهم. وكان الصديق المشترك صلاح حسن احمد من بينهم ايضا. صلاح كان كان حريصا علي التواصل معه وبطريقته. حكى لي انه زار عمر في كوخه الصغير في حوش المجلس القومي للآداب في الخرطوم شرق. وكان يوما مطيراً ووجد احدي لوحات عمر " متكولة" علي حائط الكوخ الخارجي وقد ابتلت بالماء. اختطفها ودخل بها الكوخ علي عجل ووجد عمر مشغولا بما كان يشغله دائما. وتوقع صلاح ان يهرع عمر الي الخارج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لم يفعل قائلا: " ما في مشكلة. اللوحة موجودة". صلاح أصر علي مواصلة التحرى: " موجودة وين يا عمر؟" اشار عمر وبهدوء الي رأسه: " هنا"...
وصمت صلاح فقد ادرك انه "زودها حبتين".
وأنا علي يقين من انه لم يمض يوم او يومان والا قد اعاد عمر رسمها بكل تفاصيلها وربما "تكلها" علي الحائط أيضا. تعديات الطبيعة الخرقاء لا تعني شيئا أمام جبروت خياله. وما بالغ عمر حينما أشار الي رأسه، فاللوحة محفورة في خياله مرسومة منذ زمن سحيق. وعمر كان قادراً علي استدعائها بجرة قلم (حرفياً ومعنوياً) يعيدها الي ملكوته ويعيد للكون اتزانه.
أهداني عمر لوحة وقال لي ان اسمها " كابينه علي النيل" تمعنت فيها: الكابينة موجودة وشارع الموردة موجود يسير عليه رهط من سيارات الاجرة والنيل في الخلفية. لكنني لم ار إنسانا واحداً. ولوحات عمر لا تخلو من الناس. فسألته" ليه ما في ناس؟" اجاب " الناس في، بس انت ما شايفهم." وقبل ان اسأل السؤال الغبي قال: "عاين جوه العربيات." وبالفعل اربعه ركاب زائد السواق في كل عربة.. حمولة "الطرحة" من المحطه الوسطي انذاك. صمت كما صمت صلاح من قبلي وقلت "يا ارض أمدرمان ابلعيني حشرت انفي في ما لا يعنينى." انت لا تشكك في إنسان مثل عمر اذا ما تقاطع درباكما.. ولا تسأل. تنظر وترى ببصيرتك.. لا ببصرك، وتُعجب بوجدانك.. لا بعقلك.. ان استطعت.
كنا نتقابل من وقت لآخر دون سابق ترتيب. يجلس بهدوء وأمامه صندوق البرنجي دخانه لا ينقطع.. ربما كانت متعته الوحيدة خارج اطار فنه ودنياه. يحكي عن هولندا والمانيا وزياراته لمسارح البيكاديلي في لندن ومتاحف روما بتفصيل دقيق يستعصي حتى علي سكان تلك الأماكن. كنت مأخوذاً بأحاديثه النادرة رغم علمي أنها من محض خياله فهو لم ير هذه الاماكن في الواقع. لكن وكما يقولون" ما فرقت" خياله ما انتقص من حيوية وجاذبية حكايته بل أعطى تلك الاماكن بعداً خيالياً مدهشاً وفانتسي لا تقاوم. وطالما هو مصدق لما يقول فمن انا لأكذبه؟ ذلك الخيال كان يحتاج الي نقاء وبراءة فوق معرفة البشر وقد ملكهما عمر دفعة واحدة وطواهما داخل خياله.
كان عمر يتطلع للسفر الي اوربا لينهل من منابع الفن هناك ويري اعمال الرسامين الكلاسيكيين. يغشي صالات الفنون في امستردام ويتسكع في ازقة الحي اللاتيني في باريس. يعيش تلك الأجواء الخلابة يأخذ منها ويعطيها. تطلع مشروع وضروري لفتى غض وموهوب ما حلم بأكثر مما حلم به أبناء جيله آنذاك ممن جذبهم وهج الحضارة الأوربية. لسبب او لآخر ( وليس هذا بمجاله) انهار ذلك الحلم وتحطم في لحظة مأساوية. لم يجادل عمر أو يحتج (ما كان يعرف كيف) بل اتخذ قراراً فردياً كان بمثابة نقطة التحول في حياته.. قرر ان يطوع ذلك الحلم الكبير في خياله حتى جعله حقيقة ماثلة أمامه احتضنها هو وحده مبتدعاً "اوربته" الشخصية ومتخذاً اسماً اوربياً ملوكياً: جورج إدوارد غير عابئ بالاثنية او الجغرافيا. ومن ثم انطلق صوب "اوربته" علي صهوة خياله مقتحماً أسوارها كفاتح اسطورى، مردداً قولة جوليوس سيزار:
" Veni, vidi, vici"...
" I came, I saw, I conquered"
غزا عمرخيري اوربا بخياله كما غزاها من قبله مصطفى سعيد بذكره. هو هنا وهو هناك، هو عمر خيري وهو جورج ادوارد، هو ود امدرمان وهو ابن امستردام. يري بعين الحقيقة التشاشة في سوق الملجا في امدرمان مثلما يبصر بعين الوهم بائعات الزهور في كوفنت قاردن في لندن. يرسم الاسكلا ( مربط الدواب القديم في سوق امدرمان) ويضع وبكل بساطة في قلب ذلك الهياج الامدرماني الصميم من باعة وسماسرة ورعوية وصبية ودواب وغبار فتاة أوربية بكامل زيها وحسنها الميثولوجي الروماني ممسكة بأوزة بيضاء وفي عينيها توهان وبالقرب منها يقف صبي بالعراقي والطاقية. حمل عمر امدرمان علي أكف الخيال ووضعها في قلب روما، او اتي لنا بأوربا واجلسها في وسط الاسكلا. ثم مزج هذه بتلك في كيميائية فريدة وبعفوية مطلقة ليعطينا
بانوراما لا تدري ان كانت امدرمان الظاهر أم امدرمان الباطن. تأخذها أو تتركها. الخيار لك. أما هو فقد قال قولته وانشغل بعمل جديد. لم يتطلع الي ثناء، ولا أرقه هجاء، وما طلب عطية. خياله الآمر الناهي وأصابعه المستجيبة كانا إجمالي وصافي أرباحه من مشروعه الدنيوي. وشريان العطاء الذي تدفق بينهما هادئا حيناً وهادراً أحياناً، حلق به عالياً فوق توافه الأمور وأغناه عن حاجة النفوس.
هكذا كان عمر خيري/ جورج ادوارد وهكذا سيظل في ذاكرة أمدرمان: قريبا جداً وبعيدا جداً.. كسماء جماع " بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا"

خاتمة
أين اعمال عمر خيري الآن وقد رسم المئات ان لم يكن الآلاف؟ في ظني مبعثرة هنا وهناك. لا احد يعلم علي وجه الدقة. الجهة المنوط بها جمع الاعمال الفنية والتراثية والاثرية مشغولة بما هو أهم في نظرها: جمع النفايات المرئية والمسموعة.
أضف رد جديد