ما بين الباريسي و البدوي،د.حامد فضل الله

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

ما بين الباريسي و البدوي،د.حامد فضل الله

مشاركة بواسطة حسن موسى »



ما بين الباريسي والبدوي
حامد فضل الله / برلين


الشمس مشرقة والهواء منعش وبصمات الربيع ظاهرة للعيان. وعند الغروب امتلأت الصالة الواسعة الأنيقة بكثافة الحضور ونوعيته، لتحية ضيفين كريمين؛ والكل مشبوب بالترقب والفضول.
الدكتور جلبير الأشقر أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس الثامنة سابقاً، والأستاذ الزائر للمعهد الفرنسي في برلين. والسيد أصلان عبد الكريم المدرس السابق في دمشق، حضرا إلينا من باريس. الأول مقيم فيها والثاني زائر لها. كلاهما مثقّف عضوي وكلاهما مغترب، جلبير مغترب فيزيقيا فهو يعيش في باريس منذ العام 1983. وأصلان مغترب معنويا، فهو لم يبتعد عن مكانه، عن وطنه سوريا ولكنه الابتعاد المكاني – الميتافيزيقي إذا صح التعبير. كلاهما متمكن من مادته، مسترسل في عباراته، جاهد في الدفاع عن أفكاره ورؤياه، متقبّــل الرأي الآخر بسماحة يتطلبها الحوار الموضوعي والنقاش الجاد.

قدم جلبير في البداية، كتابه الموسوم "صدام الهمجيات – الإرهاب والإرهاب المقابل والفوضى العالمية قبل أيلول وبعده". عنوان الكتاب يسير على نفس نهج العناوين المثيرة والمتداولة الآن في مجال الأدب السياسي والاجتماعي، مثل صراع الحضارات (صمويل هنتجنتون)، حوار الحضارات، نهاية التاريخ (فرانسس فوكوياما)... إلخ. الكتاب يناقش ويحلل ويقارن بين السلفية الدينية المتمثّلة في الشيخ أسامة بن لادن وبين المحافظين الجدد والأصولية المسيحية، وصولاً إلى اليمين المتطرّف، المتمثّل فــي صقور الإدارة الأمريكية الحالية.
في فترة قصيرة قدّم لنا جلبير عرضاً وافياً ومكثفّاً وفي عين الوقت موضحاً أفكاره وخلاصة استنتاجاته وأحكامه ليفتح المجال في حوار مباشر معه. أدلى البعض بدلوه – معترضاً أو متفقاً، محللاً أو مضيفاً. أما عندما يأتي سؤال منفلت من عقاله أو تعليق ساخر هاذر، فتعلو البسمة شفتيه ثم يصمت، لا هربا من الإجابة وإنما يريد بلطفه – وهو الضيف - أن يُجنّب سائله وجع الإجابة. ولعل لسان حاله يقول لكل مقام مقال، أو يردد في سرِه مع أبي الطيّب المتنبي:

وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
ولكـن تأخــذ الآذان مـــــنه على قدر القرائح والعلوم

وثم تقدم الى المنصة الأستاذ أصلان، الذي لم يترك الفرصة لتقديمه وإنما أمسك بناصية الحديث وانطلق كالسهم في كلامه، كانت الأفكار مرتبّة والنبرات متناسقة ومخارج الحروف واضحة، وكنت مندهشا كيف يتحدّث بهذه السرعة وبهذه الفصاحة دون أن يتوقّف ليسترّد أنفاسه، حتى علمت من سياق الحديث بأنه كان مسجونا لفترة طويلة – أكثر من ستة عشرة عاما في سجون سوريا الرهيبة. لذا ربما تخيّل أنه لا يزال سجينا أو ربما يعود من جديد إلى الحبس وعليه أن يقول كل ما يريده قبل أن يكمم فمه من جديد. تعرّض أصلان لتجربته في السجن، بما فيها من معاناة وعذاب وإذلال واحتقار. تكلّم أصلان أكثر من ساعة عارضاً أفكاره وقناعته الجديدة دون أن نشعر بجريان الزمن أو الملل – بل كنا ننشد أن يواصل العرض الشيق والمؤلم، وكاشفاً في عين الوقت عن مكنوناته بشجاعة نادرة.
ثم بدأ الحوار معه، فبجانب تعليقات قصيرة من بعض الحضور، كان الحوار منصبّا في الأساس بين جلبير وأصلان. يقول أصلان – وهنا باختصار شديد – لا الأيدولوجية الماركسية ولا القومية ولا البرجوازية العربية قادت إلى أي تقدم أو تحديث يذكر للمجتمعات العربية، ونحن نعيش الآن حالة التفسخ والانهيار والخراب المادي والروحي وتتحكم فينا العشائرية والطائفية والعنصرية والدولة التسلطية والشمولية والعسكرية ليصل إلى النتيجة المثيرة: علينا أن لا نتعلق بالأوهام ولن ينقذنا من أنفسنا إلا الغرب: ولعل مقولة كارل ماركس وكأنه يبرر بها الاستعمار لا تزال مختزنة في عقل أصلان "لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولا بد أن يمثلهم أحد" (أدورد سعيد ــ الاستشراق).
هنا ارتفعت حرارة النقاش بما فيه من انفعال وحدة وحماس، فرضتها المواضيع الساخنة التي أثارها أصلان من جهة، وتصدي جلبير مفندّا لها من جهة أخرى.
كان جلبير يرفع سبابته في وجه أصلان ليس بأسلوب المعلم وإنما ليثير انتباهنا، فقد كان يجلس على البعد من أصلان. كان الحوار نديا وموضوعيا ومفعما بالاحترام المتبادل. فكلاهما انتظم في سن مبكرة في صفوف اليسار العربي بأطيافه المختلفة، عاشا التجربة النضالية والحرب الأهلية اللبنانية المدمرة – أحدهما هجر الوطن إلى الغرب يجر معه أذيال الخيبة والهزيمة ويواصل نضاله سياسيا وأكاديميا. والأخر يلعق جراحه ويعيش مأساة شعبه من وراء القضبان.
لا غضاضة في إعادة النظر في القناعات والأحكام والقلق الفكري وإعادة النظر، والتساؤل والنقد والشك في الثوابت من أجل مواجهة الجديد ومسايرة التطوّر.
إن الذي لا يتشكك إطلاقا في قناعاته، مصيره العزلة والتقوقع والتخلف كما وان الذي يتشكّك دوما من يقينياته ربما يدمر حياته بنفسه. لنقرأ جزء من قصيدة (يؤلمني شكي) للشاعر السوداني الراحل "التيجاني يوسف بشير"، والقصيدة جزء من صراع روحي وحوار مع الذات كاشفاً بهذا الصوت الحزين عن أزمته ومعاناته:
أشك يؤلمني شكي وأبحـــــث عن برد اليقين فيفني فيه مجهـــــــــودي
أشك لا عن رضا مني ويقتـــــلني شكي ويذبل من وسواســـــه عودي
الله لي ولصرح الدين من ريب مجنونة الرأي ثارت حول معبودي
إن راوغتني في نسكي فكم ولجت بي المخاطر في ديني وتوحيــــــدي

لا مجال هنا لمناقشة آراء أصلان بعمق، وليس ذلك هو هدف هذه السطور التي كتبت من أجل التعبير ببساطة لما عشناه من متعة ذهنية وقلبية ونفسية وانفعال وتضامن مع خبرة وتجربة إنسانية مثيرة، تدعو للتأمل العميق. ولكن إذا خرجنا بالانطباع أو القناعة بأن أصلان أصبح من المؤيدين للغرب بالإطلاق وأن الرأسمالية الغربية هي آخر الدواء، ونحن نرى نفاق الدول الغربية الكبرى واستخدام المعايير المزدوجة أو الكيل بمكيالين والجشع والطمع من أجل تحقيق المصالح المادية الصرفة والعولمة بصورتها الاقتصادية والثقافية الأمريكية المتوحشة والكاسحة وما تجلبه من دمار للعالم النامي، دون أن نسقط في فخ نظرية المؤامرة، فأننا أذن لن نظلم أنفسنا فحسب، بل نظلم أصلان، هذا الرجل الأمين. وكما أنه لا يمكن التصوّر بأن الماضي أياً كان كله هباء وباطل وقبض الريح مهما كانت مشاعر اليأس والإحباط والمرارة. فأقول لأصلان هذه الأبيات التي صغتها بلغة الشعر الشعبي الدارج وهو ما يُطلق عليه البعض – الشعر القومي السوداني:

(الدنيا بتهينك والزمان يوريك)*
وسجن تدمر يفرقّك من أهل واديك
قسماً يمين، ما تستأهل لا سجناً ولا قيداً سميك
أبداً ما دنقست1 ولا الوعيد بلويك
ما تقول عهدا وقرنا جديد
ما تصدق الغرب تب 2 براهو3 ما بداويك
دحين 4 قبال ما تكسح 5 مع طير غريب
وقبال المنادى ما يناديك
انظر وفكر قبّال ما ضوق6 النار البتكويك
الزم الجابره 7 وصالح نفسك الما بتهون عليك
ما ترحل وتشدو من بعيد
وما تترك الرفيق، العُمرو ما بجافيك

أصلان عبد الكريم شأن الكثير من المثقفين والمناضلين العرب، قضى زهرة عمره في سجون بلاده بسبب قناعاته ورؤياه وأفكاره وبدافع حب الخير لشعبه، باحثا عن عالم أفضل وأكثر أمنا وإنسانية. عالم تسود فيه العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق بين جميع أفراد وطبقات المجتمع.
إنني أردد إلى الحبيس الطليق، إلى الطليق الحبيس أصلان – هذا الشخص النبيــل هذا البدوي الأصيل – مقاطع من قصيدة (مهد الحرية – و - مهر الحرية) لشاعرنا السوداني الفحل الراحل أحمد محمد صالح – كتبت القصيدة عام 1945 حينما ضربت فرنسا دمشق الحبيبة بالقنابل.

صبرا دمشق فكل طرف بـــــاكي لما استبيح مع الظلام حمـــاك
وقرأت في الخرطوم آيات الأسى وسمعت في بيروت أنه شاكي
صبرا دمشق فكل هم زائــــــل وغدا يلوح مع النجوم سناك

ما أشبه الليلة بالبارح، فلا نزال بعد أثنين وستين عاماً نسمع في بيروت أنه شاكي ونرى استباحة دمشق نهاراً وليلاً، ليس من صلف البربرية الصهيونية والتواطؤ الأمريكي فحسب، بل أيضاً من ظلم وعسف ذوي القربى – فالأمويون الجدد مثل أسلافهم الأوائل: أولئك سبوا ولعنوا من أعلى المنابر وقطعوا رأس الحسين بن على من أجل السلطة باسم الإسلام. وهؤلاء لا يزالوا يقطعون الرؤوس وينتهكون كرامة وإنسانية المواطن السوري واللبناني باسم "القومية والوطنية"، فتمعن وتعجب وردد معي قول الشاعر السوداني الراحل المقيم صلاح أحمد إبراهيم في قصيدته (نحن والردى):

رُبَّ شمسٍ غَرُبتْ والبدرُ عنها يُخبرُ
وزهورِّ تتلاشى وهى في العطر تعيش
نحن أكفاءُ لما مرَّ بنا، بل أكبرُ
تاجُنا الأبقى وتندكَّ العروشْ
.............
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقطع من قصيدة سودانية
دنقسْ: طأطأ الرأس ذلاً وخضوعاً
2 تب: لن يتغير قط
3 براهو: لوحده
4 دحين: ذا الحين
5 تكسح: تذهب
6 ما ضوق: من يذوق، تدغم أو تهمل الياء وتقلب الذال ضاداً، المقصود لمس النار
7 الزم الجابره: أي أجلس على الأرض، يقال للمتكبر والمقصود هنا هدئ من روعك

برلين ربيع 2006
(من حقيبة الذكريات).
أضف رد جديد