الذروة الثانية - عبد الجبار عبد الله

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

الذروة الثانية - عبد الجبار عبد الله

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الذروة الثانية

من الزحف الطفيلي إلى ماراثون الثورة السودانية ( 1-3 )

عبد الجبار عبد الله





أستهل هذا المقال بمقتطف قصير شيّق للأديب الراحل علي المك عن صديقه الفنان الراحل عبد العزيز محمد داؤود : "تعلم أن المشاهير ههنا لا يشخصون إلى الأماكن العامة إلا قليلاً، بعضهم يضايقه كثيرُ ضيقٍ أن يتجمّع حوله الناس، كان عبد العزيز نقيض ذلك، يقف في صفوف المخابز مواطنا عاديا بسيط الروح. وحُكي أنه في عصر انعدام البنزين أمضى الليل في سيارته ينتظر مقدم صباح الأمل، والصف طويل لا تبلغه عين، يتلوّى بأشكال عمارة البيوت ويمتد. حدثني شاهد عيان أنه غنَّى للمنتظرين، وأنهم صنعوا "حلة" جيدة وأكلوا وطربوا. في وجود عبد العزيز تتحول صفوف الرغيف إلى ضحك وغناء وشيء من المسرّة. تصير بديلاً للرغيف نفسه".

ولولا أن ذاعت روح نكتة أبوداود وسخريته بين جماهير فنه ومحبيه من عامة السودانيين طوال عهد الإنقاذ لماتوا كمداً وحسرة . وباندلاع ثورة ديسمبر المجيدة تحولت هذه الروح الإبداعية الساخرة إلى طاقة ثورية خلاقة تنال من أعداء الثورة وتهزمهم معنوياً وأخلاقياً، إذ تحوّلهم إلى شخصيات كاريكاتيرية مثيرة للسخرية والضحك.

وكان من قفشات هذه الروح وطرائفها البديعة ما رأيناه من تعليقات ومقاطع فيديووشعارات وبوسترات تسخر من زحيح الزواحف الطفيلية الذي شهدته شوارع الخرطوم يوم أمس السبت 14 ديسمبر 2019.

تلك سخرية مطلوبة وضرورية بطبيعة الحال، ولكنها يجب ألا تغنينا عن ضرورة الانتقال من سطح الأشياء ومظهرها الخارجي إلى الغوص عميقاً في فهم مغزى ودلالة ذلك الموكب في علاقته بما أسميه "ماراثون الثورة السودانية".

ولعلَّ أول ما يلفت النظر والانتباه -من حيث الشكل- في ذلك الزحف أو "الزحيح" بالأحرى، ثنائيته المخادعة بانسلال الأفغى من جلدها الإسلاموي المعروف وتلبُّسها لبوس ثوار ديسمبر من حيث الأسلوب وصياغة الشعارات المدعمة بالأناشيد والأغاني الثورية من جهة، بينما ظل مضمون الشعارات إسلاموياً أخوانياً ومعبّراً عن مصالح أعضاء وأتباع حزب المؤتمر الوطني المحلول من جهة أخرى.
وكما نعلم فإن النهب الطفيلي ليس نهجاً اقتصادياً فحسب عند هذه الطبقة الرأسمالية الدخيلة على مسار تطور الاقتصاد السوداني حتى قبل عام 19778 -عام المصالحة الوطنية التي دشنت الطريق لبدايات نشأة هذه الطبقة- بل هو نهج عام ينتظم سلوكها كله، كونها طبقة عاطلة عن الموهبة والإبداع والإنتاج، تعيش كما الكائن الطفيلي على عرق الآخرين وابتكارهم وإنتاجهم. وبذلك فإنهم يمارسون خاصيتهم المتأصلة في النهب والسرقة حتى سرقة الشعارات الثورية نفسها. ومثلما أن "الكسب السريع" هو الغاية الاستثمارية الاقتصادية القصوى لهذه الطبقة ، كذلك هو الكسب السياسي السريع الذي أسس له نظرياً عرّاب الحركة الإسلامية ومؤسسها الدكتور حسن الترابي.

وفي هذه الثنائية المخادعة من حيث شكل الشعارات ومضمونها يكمن مكر الكيزان وتحايلهم على حل حزبهم وتفكيك نظامهم البائد، بقدر ما يشير إلى سعيهم الحثيث نحو الانقضاض على الديمقراطية واستعادة احتكارهم للسلطة مثلما فعلوا طوال ما يناهز الثلاثين عاماً من حكمهم البغيض.

ففي 28 نوفمبر 2019 أجاز المجلس السيادي ومجلس الوزراء قانون تفكيك نظام الإنقاذ، الذي يقضي بتفكيك نظام عمر البشير وإزالة تمكين حزب المؤتمر الوطني. ولم ينقضِ أسبوعان وقد خرج قادة الحزب المحلول نفسه ورموزه وأعضاؤه في موكب تحدياً لقرار الحل مرددين الهتافات: حرية سلام وعدالة... الإسلام خيار الشعب، لن تحكمنا العلمانية، ثوار أحرار، حنكمّل المشوار، تسقط تسقط يا حمدوك.. تسقط إنت والجابوك، أمرق أمرق داك الباب يا شيوعي يا كضاب.. لا لدنيا قد عملنا نحن للدين فداء، جيشٌ واحد شعبٌ واحد، الزحف الأخضر في الميدان، إلى آخره.

فما معنى هذا ودلالته في المشهد السياسي الراهن؟

غافلٌ من ظن أن هذا الزحف الطفيلي مجرد عواء عابر وسرعان ما سيخفت أوأن تعود الزواحف إلى جحورها بمجرد سخريتنا منها وردمها بالنكات والاستخفاف منها.

وربما يركن الكثيرون إلى الاعتقاد اليقيني السهل المريح بأن توقيت موكب الزحف الأخضر، قُصد منه أن يصادف يوم النطق بالحكم على رئيسهم المخلوع في تهمتي الفساد المالي والثراء الحرام، وأنه ربما ينتهي عند ذلك الحد. وما يعزز هذا الاعتقاد الهتاف الخادع الذي أطلقته الزواحف "الليلة ما بنرجع إلا العدالة تبين".
فليس الاحتجاج على محاكمة البشير من أساسه سوى مظهر خارجي خادع وصارف للنظر عن احتدام حدة الصراع بين قوى الثورة والثورة المضادة، ومؤشر على تأرجح ميزان القوى في الوقت الراهن وعلى تزايد حدة الصراع السياسي الاجتماعي طوال الفترة القادمة من سنوات الحكومة المدنية الانتقالية. ومما يدل على هذا دليلا واضحا المواكب المضادة التي خرجت في مدن العاصمة الثلاث وفي مختلف مدن الأقاليم تنديداً بموكب الزحف.

وفي حساب توازن القوى المختل هذا، أردد قول الشاعر القديم:

أرى تحت الرمادِ وميضَ نارٍ ويوشك أن يكونَ لـهُ ضِـرامُ

وليس هذا الضِرام في لغة العلوم السياسية الحديثة سوى بلوغ الثورة السودانية ذروتها الثانية -بعد ذروتها الأولى في 6 أبريل وحتى مجزرة فض الاعتصام في 3 يونيو 2019.

فما الزحف الأخضر سوى تكتيك هجومي وبالونة اختبار لمكامن قوى الثورة المضادة، أريد به أن يكون بمثابة معقل قوة power-base لعناصر النظام البائد وتنظيم وتجميع صفوفها وإعادة فرض نفسها على المشهد السياسي.

وقد صُعقت وأنا أستمع إلى صديقي عمر الدقير في ذلك اللقاء التلفزيوني مع غندور عبر قناة الجزيرة وهو يصف السماح بخروج موكب الزحف الأخضر بأنه مظهرحضاري من مظاهر الممارسة الديمقراطية. وصُعقت قبل ذلك مرتين عند رؤيتي لمشهدي اعتقال القائدين الإسلامويين على الحاج وابراهيم السنوسي وهما يحثان أتباعهما على ممارسة حقوقهم الديمقراطية التي حرموا منها الشعب كله زهاء 30 عاما.
والحق أن ديمقراطيتنا الناشئة الوليدة لتوها ليست أرسخ ولا أكثر احتراما للقيم والحريات الديمقراطية من ألمانيا ولا إيطاليا ولا أي من الدول الأوروبية التي ترسخت فيها تقاليد الممارسة الديمقراطية لعدة قرون. كما أن دولتنا المدنية الحديثة الناشئة لا تبزُّ أمريكا في رسوخ نظامها الديمقراطي الأحدث نسبيا بالمقارنة إلى أوروبا.

أقول هذا لأن القانون الألماني نصّ رسميا على حل الحزب النازي بنهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 وبدأت عملية تفكيك النازية في ألمانيا تزامناً مع بدأ محكمة نورمبرغ الدولية لمجرمي الحرب النازيين. وعلى غرار ألمانيا نص الدستور الإيطالي على حل الحزب الفاشي وحظر إقامة أي حزب أو منظمة فاشية تحت أي مسمى كان إلى اليوم. وما زالت الدول الغربية جميعاً تحظر قيام أي منظمة على أساس الأيديولوجية النازية أو الفاشية.

وما أكثر أوجه الشبه والمقارنة بين موكب الزحف الأخضر ومواكب الفاشيين والنازيين التي صعدوا بها إلى سدة الحكم في إيطاليا وألمانيا. بل ما أكثر أوجه الشبه بين تجربة نظام الإنقاذ والتجربتين النازية والألمانية إلى حد مذهل. وهذا ما سأفصّل فيه في الجزء الثاني من هذه الكتابة.
دعك الآن من ألمانيا وإيطاليا، ففي انتفاضة مارس/أبريل 1985 حُل الحزب الحاكم حينها "الاتحاد الاشتراكي" وحُلت جميع المؤسسات التابعة له مباشرة في يوم انتصار الثورة في 6 أبريل.

وكان الإخوان المسلمون، بزعيمهم الترابي، جزءاً من ذلك النظام حتى قبيل الانتفاضة بقليل وقبل أن ينقلب عليهم الطاغية المخلوع جعفر نميري الذي بايعوه زوراً ونفاقاً إماما للمسلمين في عام 1983.
ولم يزحفوا علينا حينها لا في موكب أخضر ولا أصفر ولا بنفسجي دفاعا عن الشريعة التي سنوها هم. بل شاركوا في الديمقراطية الثالثة بخديعة حصان طروادة حتى انقلبوا عليها بليل في 30 يونيو 1989.

إن علينا أن ننتقد الضعف واختلال ميزان القوى الراهن بين قوى الثورة وأعدائها، بدلا من دفن الرؤوس في الرمال. ويملي علينا ضميرنا الثوري القول بأن خروج حزب سياسي مجرم محلول في موكب عام وإعلانه السافر عن سعيه إلى إسقاط حكومة مدنية أتت بها إرادة شعبنا وثورته، لم يكن ممكناً إلا لضعف واختلال غير لائقين في ميزان القوى. وبالتالي، فإن الواجب تصحيح هذا الميزان وإمالته لصالح الثورة وقواها الحية المتمسكة بكامل أهدافها وشعاراتها.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الذروة الثانية

من الزحف الطفيلي إلى ماراثون الثورة السودانية ( 2-3 )

عبد الجبار عبد الله





"الغافل من ظن الأشياء هي الأشياء" -الفيتوري- ياقوت العرش

وأرمي بذلك إلى القول بخطأ بناء فضاء الحريات العامة التي أتاحتها الثورة السودانية بعد الإطاحة بنظام الإنقاذ وتشكيل الحكومة المدنية الانتقالية على وهم "الحرية لنا ولسوانا" أي إتاحة ذلك الفضاء على براحِهِ وإطلاقه لقوى الثورة والثورة المضادة على قدم المساواة. وهذا ما لا يزال ينظر إليه للأسف، وزراء ومسؤولون في الحكومة المدنية والانتقالية، بمن فيهم وزير الثقافة والإعلام، صديقنا فيصل محمد صالح، وكذلك قادة في قوى الحرية والتغيير، على أنه "ممارسة ديمقراطية متحضرة" لم يعرفها نظام الإنقاذ!

وهي في واقع الأمر غفلة المستعين بالثعلب على حراسة قن الحمام، كما وصفتها إحدى الحكايات الشعبية الإسنكدنافية. أو من يأتي بالقط لحراسة الحليب. ولنا في وأد الديمقراطية الثالثة بانقلاب 30 يونيو عظة وعبرة.

الديمقراطية ولحم الخنزير

وكما هو معروف، فقد بدأ وأد التجربة الديمقراطية الثالثة بموكب زحف شبيه بموكب 14 ديسمبر الأخضر هذا. وكانت مقدمات ذلك الوأد ما سمي حينها قبيل انقلاب الإنقاذ بقليل بـ"ثورة المصاحف" في عام 1989 وهي عبارة عن "مواكب هادرة تخرج في ليالي رمضان تُحمل فيها المصاحف وتُنادي شعاراتها بتطبيق الشريعة الإسلامية وعدم الانهزام والانكسار. وفي الليلة الختامية لتلك المواكب أعلن د. حسن الترابي خروج الجبهة الإسلامية من السلطة، وقال إنهم سيعودون لها قريباً. وهي الإشارة الأولى التي أتت بثورة الإنقاذ الوطني في يونيو 1989" (جريدة الانتباهة أونلاين).

وفي الليلة الكالحة نفسها قال الترابي أنهم اضطروا للمشاركة في حكومة الصادق المهدي كاضطرار من يأكل لحم الخنزير، ووصف الديمقراطية المطبقة بأنها ديمقراطية السادة والتابعين.

والحقيقة التي لا مراء فيها أن الحركة الإسلامية قد "كفرت" بالديمقراطية البرلمانية من أساسها سواء كانت بقيادة الصادق المهدي أم بغيره، وقررت شق طريقها بمفردها إلى دفة الحكم علماً منها بأن النظام الديمقراطي لا يلبي طموحاتها ولا يروي ظمأها إلى احتكار السلطة وإقامة نظام شمولي خالص لها.

وهذا ما يؤكده بوضوح عرّاب الحركة الإسلامية ومؤسسها الدكتور حسن الترابي، في سياق الحوار الذي أُجري معه في برنامج "شاهد على العصر" الذي بثته قناة الجزيرة بعد وفاته. وتجدونه في الرابط التالي للحلقة التاسعة:

https://www.youtube.com/watch?v=jSoIkIpMQZQ

وهكذا تبدو الديمقراطية من حيث هي غير مستساغة ولا يمكن التصالح معها إلا من باب "فقه الضرورة" الذي يبيح المحظورات إلى حين التغلب عليها وتجاوزها إلى حلال "نظام الدولة الإسلامية" و"ولاية الفقيه" المطلقة أو ما يطلقون عليه "الحاكمية لله". وهو مبدأ مركزي في فكر الإخوان المسلمين وممارستهم السياسية. وتتجلى هذه الفكرة في شعارهم المخادع "هي لله هي لله ..لا للسلطة ولا للجاه".

وهي الخدعة السياسية نفسها التي واجهتها أولى شعارات ثورة ديسمبر المجيدة: "سلمية سلمية ضد الحرامية" ثم أول الأمس هتافات مواكب الثورة في 19 ديسمبر:

لا إله إلا الله.. الكيزان أعداء الله
ناس الزحف الكضابين..أول موكب سبّوا الدين
الكيزان الكضابين .. أول موكب سبوا الدين

دين أبوهم اسمو إيه؟

رُمْتُ بهذا السؤال المستوحى من قصيدة الشاعر المصري جمال بخيت، رد الاعتبار إلى أهمية سؤال الأديب الراحل الطيب صالح الذي رماه البعض في البحر استخفافا: من أين أتى هؤلاء؟ هل يمكن اختزاله بمجرد ردّه إلى رحم القمع وتاريخ الاستبداد السياسي والديني والاضطهاد العرقي في السودان وحده؟ في رأيي أن ذلك السؤال محوري وأكثر دلالة وعمقاً من منظور أنثروبولجيا الدين والثقافة بقدر ما فيه من استهجان صريح لغلظة الممارسة السياسية لنظام الإنقاذ وفظاعتها. وفي الإجابة عنه يكمن سر تفسير "الغربة الروحية والوجدانية" لجماعة الأخوان المسلمين وأسباب تمسكها باحتكار السلطة السياسية إلى الأبد باسم الدين ودعاوى "تحكيم شرع الله".

وأولى أوجه هذه الغربة الروحية الوجدانية للجماعة، أنه لا دين لها أصلاً بمعنى التدين الفطري الطبيعي المنزه عن الأطماع والشهوات والمصالح المادية الدنيوية في ميدان الصراع السياسي والاجتماعي. فهو ميدان تتعفر فيه قدسية الدين وتتطلخ بأحذية المصالح الدنيوية وتُختزل فيه تلك القدسية السماوية الملائكية نفسها إلى مجرد أداة أيديولوجية لحسم الصراع السياسي والاجتماعي.
وهكذا تُنزع عن الدين قداسته ويصير إلى مجرد سلعة وتجارة رابحة في سوق "الله أكبر" على "يهود" السودان ومارقيه في نظر الجماعة.

ذاك هو إسلام الزواحف الطفيلية الذي فيه سب الدين نهج ثابت وليس سلوكاً استثنائيا عرضيا لأحد أعضائها الحمقى الغاضين في موكب الزحف ذاك. وليس أدل على ذلك من أن سنوات نظامهم كلها لم تكن سوى أكبر إساءة للإسلام ويجب تجريمها تحت طائلة مواد "تدنيس الدين". فهذا إسلام فقه الضرورة الذي يبيح ممارسة الظلم والفساد بجميع أشكاله وألوانه وارتكاب كل الآثام والموبقات باسم الدين ويحلل لأفراد الجماعة ما يحرمونه على الآخرين.

وهو فقه ذو جذور ونزعة مادية ملحدة لا أساس لها من الدين أصلاً. ففي التنازل عن مبادئ الإسلام الدينية وكوابحه الأخلاقية الروحية وتحريمه لارتكاب الموبقات في سبيل تحقيق المصالح السياسية والدنيوية -مثلما هو الحال في ممارسة الاعتقال والتعذيب والقتل والاغتصاب ونهب المال العام وغيرها، حرصا على بقاء النظام الحاكم باسم الإسلام- إنما يجعل من ذلك الفقه مرادفاً إسلاموياً للفلسفة البراغماتية أو الذرائعية. وفي هذه الأخيرة لا وجود للمثاليات المطلقة ولا قيمة للفكرة المجردة-أياً كانت، وهي الإيمان بالذات الإلهية عند المسلمين- إلا بما تحققه من نفع عملي لصاحبها أو أصحابها. أي أنه لا قيمة للدين نفسه إلا بما يحققه من نفعٍ وسلطةٍ وجاهٍ لدعاة تحكيم شرع الله.

ومن هنا كان التمكين باسم الدين، مع إضفاء طابع قدسي ديني على الظلم السياسي والاجتماعي الذي مارسه نظام الإنقاذ بحق الغالبية العظمى من السودانيين. ذاك هو الإسلام السياسي في نسخته الداعشية/الطالبانية الحديثة المتطرفة التي لم يألفها السودانيون من قبل في حياتهم.

أما وجه "الغرابة" الثاني فيتمثل في استلهام هذه النسخة الإسلاموية المتطرفة لنموذج الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية على نحو لا تخطئه العين. ولا يخفى على أحد إعجاب حسن البنا وانبهاره بالنموذجين الفاشي والإيطالي. ومن ذلك جاء في إحدى رسائله قوله: “فقامت النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وأخذ كل من موسوليني وهتلر بيد شعبه إلى الوحدة والنظام والنهوض والقوة والمجد، وسرعان ما خطا هذا النظام بهاتين الأمتين في مدارج الصلاح في الداخل والقوة والهيبة في الخارج، وبعث في النفوس الآمال الخالدة وأحيا الهمم والعزائم الراكدة، وجمع كلمة المختلفين المتفرقين على نظام وإمام، وأصبح الفوهرر أو الدوتشي إذا تكلم أحدهما أو خطب تفزعت الأفلاك والتفت الدهر”.

وأقتطف من الكاتب الجزائري حميد زناز ملاحظته " ولا ينحصر الانبهار في الجانب الأيديولوجي بل يتعداه إلى التنظيم على الأرض، فعقب تكوين الجماعة رأسا، شرعوا في تكوين ميليشيات على منوال النموذجين الفاشي والنازي، فكشافة حسن البنا التي أطلق عليها اسم “الجوالة ” استلهم تنظيمها وهيكلتها وحتى هندامها من الشبيبة الهتلرية والموسولينية. وإذا ما صدقنا رئيس الاستخبارات السرية السابق لدى الإخوان، علي العشماوي، فإن حسن البنا كان معجبا بالغوستابو، البوليس السري الألماني الذي زرع الرعب في العالم كله."

وما أكثر هذه التقاطعات بين تجربة الإسلام السياسي والفاشية الإيطالية-الألمانية من حيث الأيديولوجية وعلى مستوى الهيكل التنظيمي القائم على نموذج المليشيا العسكرية، وعلى مستوى البرنامج السياسي والاجتماعي والثقافي استناداً إلى أسطورة "بعث الأمة من جديد وإعادة صياغتها".

بل إن فكرة إدماج حزب المؤتمر البائد إدماجا كاملا في جهاز الدولة، وكذلك نهج التمكين بجعل الانتماء إلى الحزب الحاكم شرطاً للحصول على الوظيفه، كلاهما مستوحيان مباشرة من الفاشية والنازية. فتحت تأثير التجربة الإيطالية السابقة إلى ذلك أجاز البرلمان الألماني في 23 مارس قانون التمكين لعام 1933 The Enabling Act.

أضف إلى ذلك النزعة العنصرية وعسكرة الحياة المدنية وإقامة نظام الحزب الواحد الشمولي ونشر ثقافة العنف السياسي وتصفية الخصوم السياسيين وشن حروب الإبادة الجماعية وسياسات التطهير العرقي. وجميعها سمات مشتركة بين تجربة الإسلام السياسي في السودان والفاشية الإيطالية-الألمانية، باعتبار أن النازية الألمانية نفسها ليست شكلا آخر وامتدادا للفاشية الإيطالية.

أكتفي بهذا إيجازا الآن وأنتقل إلى الحديث عن وجه الغرابة الثالث لجماعة حزب المؤتمر البائد. ويتمثل هذا الجانب في أن السودان قد شهد للمرة الأولى -ونأمل أن تكون الأخيرة- نشوء طبقة رأسمالية طفيلية خلّفت وراءها وطنا حطاما تتطلب إعادة بنائه خطة وطنية اقتصادية شاملة بدعم إقليمي ودولي. ليس ذلك فحسب، بل إن جماعة الترابي قد اختطفت جهاز الدولة نفسه لتجعل منه أداة لنهب موارد البلد وثرواته نهباً مؤسسيا منظما من جهة، ولقمع وترويع الغالبية العظمى من جماهير الشعب السوداني من جهة أخرى.

وعليه، فإن من الخطأ الفادح التقليل مما شهده السودان طوال سنوات الإنقاذ ووصفه بالفساد المالي والسياسي فحسب، بل هو تجربة فريدة واستثنائية في تاريخ البشرية المعاصر لنظام حكم اللصوص بمدلوله الكلاسيكي الكامل kleptocracy. لم يكن هناك جهاز دولة يحكم السودان، بل كانت هناك مافيا منظمة للصوص الإنقاذ، لها أجهزة أمنها وجيشها ووزاراتها الشكلية وتمثيلها الدبلوماسي المخادع في الخارج.

الزحف الطفيلي المضاد

ولهذا السبب، فلا سبيل أمام هذه الجماعة التي أطاحت بها ثورة ديسمبر المجيدة ونزعت عنها السلطة -أداة نهبها الأساسية وحامية مصالحها الحصرية- إلا مواصلة الزحف في مواكب مدعومة بمخططات علنية للانقلاب العسكري على الحكومة المدنية المؤقتة التي أتت بها الثورة.

وبرنامج هذه المواكب مباشر وواضح وصريح: "نحن نريد استعادة السلطة المنزوعة" ويا يحكم الكيزان يا ندمّر السودان.

وبعد، فهل ستواصل الحكومة المدنية ومسؤولو قيادة قوى الحرية والتغيير وممثلوها التعامل مع هذه الجماعة استناداً إلى وهم "الحرية لنا ولسوانا" وفتح فضاء العمل السياسي للجميع دون حجرٍ أو تضييق على أحد؟

وإلى أن ينجلي هذا الوهم، ستمضي الثورة السودانية في ماراثونها الطويل وستبلغ ذروتها الثانية وصولا إلى تحقيق أهدافها وغاياتها كاملة لا محالة. وسيكون ذلك محور حديثي في الحلقة الثالثة من هذه الكتابة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الذروة الثانية

من الزحف الطفيلي إلى ماراثون الثورة السودانية ( 3-3 )

عبد الجبار عبد الله





"لن نعجّل ببزوغ شمس ذلك اليوم الذي تتشابك فيه أيدينا جميعا، من كل الأعراق والأجناس والسحنات والأديان والثقافات، رافعين إياها عاليةً صوب السماء قائلين بصوتٍ جماعيٍ واحد: ها نحن قد أصبحنا أحراراً في نهاية المطاف... ها نحن قد أصبحنا أحراراً في نهاية المطاف،
إلا حين تُقرع أجراس الحرية في كل دار كل ممشى، في كل بلدة وغابة وقرية على امتداد الوطن الأمريكي".

ترجمة بتصرُّف من خطاب مارتن لوثر كنج الشهير "لديّ حلم" الذي دشن به حركة الحقوق المدنية الأمريكية في 28 أغسطس 1963.

أواصل في هذا المقال الثالث والأخير من حيث انقطع الحديث في المقال الثاني عن كيفية النظر إلى "فضاء العمل العام" الذي أتاحته ثورة ديسمبر، وإلى اختلال الميزان بين قوى الثورة من جهة وقوى الثورة المضادة من الجهة الأخرى. وبه أصل إلى ما أعنيه بالماراثون الثوري والذروة الثانية للثورة السودانية.

في اصطلاح الماراثون الثوري استيحاء لأطروحة المفكر البريطاني رايموند وليامز وكتابه الشهير المعنون The Long Revolution . وفيه تتردد أيضا أصداء خطاب نيلسون مانديلا الذي ألقاه في "محاكمة ريفونيا" والذي أترجم منه اقتباسا قصيرا "طالما بقيتُ على ظهر هذا الوجود، سأكرّس حياتي لهذا الكفاح الذي يخوضه السود في بلدي. وقد ناضلتُ ضد هيمنة البيض بقدر ما ناضلتُ ضد هيمنة السود. وما زلت أؤمن بالمُثُل العليا المتطلعة إلى بناء مجتمع حر ديمقراطي يعيش فيه الجميع في وئام وسلام، وتُكْفل فيه فرص متكافئة للجميع. وهي مُثُلٌ آمل أن أعيش لأحققها، وإلا مِتُّ ذوداً عنها طوعاً وإرادةً ".

وفي حين يتناول رايموند ويليامز في كتابه المذكور مفهوم الثورة المستمرة في بُعدها الفكري الثقافي، يستخدم مانديلا وكنج المفهوم نفسه من منحىً سياسي مباشر. وفيما بين ثلاثتهم تتقاطع خيوط الفكر وتفترق وتلتقي في آن.

وخلاصة القول والتمهيد أنّ لدينا ما يقابلهما في المثل الشعبي السوداني المُحكَم "السايقة واصلة" أو "نحن قدامنا الصباح" في لغة الشعر الثوري الواثق. وخلاصته أيضا أن الطريق إلى الحرية الكاملة في بلادنا ما زال طويلاً.

قوة الاحتلال الكيزاني

ففي ما استجد من أحداث وتطورات خلال الأسابيع الأخيرة الماضية -التي لم يكن تمرد قوة العمليات الخاصة التابعة لجهاز المخابرات إلا أحد حلقات سلسلتها، وكذلك الضائقة المعيشية المفتعلة والمحكمة على المواطنين، بما فيها أزمة الوقود ومحاولة قطع إمدادات البترول وسعي المكون العسكري في المجلس السيادي لاختطاف ملف السياسات الخارجية من الحكومة المدنية وتدخله السافر في شؤون السياسة وغيرها- ما يرجح الاعتقاد بأن النظام البائد لم يكن جهازاً حكومياً يدير شؤون الحكم مثل غيره من الأنظمة الحاكمة ديمقراطية كانت أم ديكتاتورية في كل أنحاء العالم بما لها من قابلية لتداول السلطة، وإنما كان يقوم مقام "قوة احتلال" محلي داخلي أزلي لم تتوقع زوال الحكم عنها يوماً. ولهذا كانت هذه الصدمة النفسية واللوثة التي أصابت الزواحف، وهذه المساعي التي لن تتوقف لاستعادة "احتلالهم" و"احتكارهم" للسلطة خالصة لهم وحدهم دون سواهم.

أنتقل من وصف الوضع الراهن إلى تحديد أسباب الخلل المستمر بين قوى الثورة والثورة المضادة. وتكمن هذه الأسباب في الواقع المشوّه الذي خلّفه نظام لصوص الرأسمالية الطفيلية الحاكم من تمكين وتسييس لنظام الخدمة المدنية وللقوات النظامية في الجيش والشرطة والأمن. يضاف إلى ذلك أيضا تعدد المليشيات المسلحة، وعلى رأسها قوات الدعم السريع التي أصبحت جيشاً كاملاً وقائماً بذاته داخل المؤسسة العسكرية. وضمن تشوهات هذا الواقع، فقدان أجهزة الدولة المختصة بمجالات إدارة النشاط الاقتصادي والقطاع المصرفي سلطتها في تلك المجالات والقطاعات التي يعبث فيها لصوص الإنقاذ بشركاتهم المتعددة، وتعبث فيها أيضا الأجهزة العسكرية والشرطية والأمنية، وحدّث ولا حرج عن امبراطورية الدعم السريع الاقتصادية-المالية. وإلى ذلك يضاف أيضا تخريب النقابات والاتحادات المهنية وتدجينها وتسييسها لصالح حزب المؤتمر الوطني ونظامه البائد.

لم يكن الحال هكذا عندما اندلعت ثورة اكتوبر 1964 وأطاحت بديكتاتورية الفريق ابراهيم عبود، ولا حين أطاحت انتفاضة مارس-أبريل 1985 بنظام الطاغية جعفر نميري. فهذا واقع جديد ينطوي على تحديات كبيرة للحكومة الانتقالية، بل للشعب السوداني كله وثورته المجيدة.

وإلى جانب هذا الإرث، هناك الوجه البارز لخلل ميزان القوى، المتمثل في هذا الهجين العسكري-المدني المشوّه للحكومة الانتقالية الحالية الناشئة عن الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية المعيبة التي أصبحت إطاراً مرجعيا حاكماً للفترة الانتقالية.

وهناك مظاهر الضعف والتلكؤ التي ما تزال تشوب أداء الحكومة المدنية الانتقالية في جوانب حاسمة وتتسم بقدر عال من الأهمية والحساسية والآنية نذكر من بينها: مواجهة الضائقة المعيشية ومشكلة المواصلات وحلها، إصلاح النظام القضائي والشروع في تحقيق العدالة الانتقالية بما يشمل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، السعي لإنصاف ضحايا الحروب والنزاعات من النازحين وتهيئة الظروف الملائمة لعودتهم إلى ديارهم التي نزحوا منها في إطار أولوية ومساعي تحقيق السلام، التحقيق في جريمة فض الاعتصام وغيرها من جرائم قتل المحتجين المدنيين، إنفاذ قانون تفكيك نظام الإنقاذ والقبض على مجرمي النظام البائد وحزبه والشروع في محاكمتهم، ، البدء في إعادة هيكلة الجيش والأمن وقوات الشرطة، حل المليشيات العسكرية وجمع أسلحتها، إصلاح النظام المصرفي -وعلى رأسه بنك السودان المركزي- استعادة سلطات وزارة المالية ودورها الرقابي، تسريع خطى إصلاح الخدمة المدنية وتعيين الولاة المدنيين وتشكيل المجلس التشريعي، فضلا عن حث الخطى في تفكيك التمكين في وزارات الصناعة والتجارة والتعدين والخارجية.

نعلم ونقدّر بداهةً أن الحكومة الانتقالية المدنية ما زالت ناشئة وليدة لتوها، ونعلم أنه لا يمكن تحقيق جميع هذه الأهداف بضربة لازب أو عصا سحرية. ولكن ليطمئن الشعب ولتطمئن أرواح الشهداء إلى أن ثورتهم التي ضحوا بحياتهم لأجلها ماضية بحزم ثوري وفي الاتجاه الصحيح. مهم جدا أن يطمئن الشارع إلى صحةGPS الثورة أو بوصلتها.

وهناك أيضا الصراعات الثانوية والرئيسية بين مكونات قوى الحرية والتغيير نفسها، بما فيها نزوع البعض وتهافتهم إلى انتخابات مبكرة استنادا إلى إصدار أحكام مسبقة بفشل الفترة الانتقالية. يضاف إلى ذلك استمرار التدخلات الإقليمية في الشأن السوداني في انحياز مكشوف ومعادٍ لعملية التحول الديمقراطي في بلادنا من أساسها.

وفي ظل هذا الواقع والتشوهات والتحديات، تتحرك قوى الظلام علناً وخِلسةً في مساعٍ دؤوبة لاستعادة مواقعها بغرض الإفلات من العقاب وحماية أفرادها ومصالحها من جهة، ومواصلة نهب ثروات البلد وموارده من جهة أخرى. وكما رأينا، فلم تكن مواكب الزحف الأخضر تلك في الخرطوم ومدني والأبيض، سوى غطاء شعبي ساتر لعمل عسكري يدبر في الخفاء، كان بعضه ما تم كشفه من تحركات مريبة في مدينة الفولة بولاية غرب كردفان.

مؤامرة هنا وأزمة مفتعلة هناك، على أمل أن تحين لحظة الانقضاض على الثورة وحكومتها المدنية من على صهوات الدبابات والراجمات مثلما فعلوا بليل في يونيو 1989.

وفي كل يوم يمر تتلكأ فيه الحكومة المدنية في تنفيذ مهام وواجبات تفكيك النظام البائد والتخفيف من وطأة الضائقة المعيشية التي لا تطاق، تزداد شوكة الزواحف قوة ويزدادون وقاحةً وصفاقةً وقوة عين لا مثيل لها في تاريخ الأمم المعاصر، خاصة في حالات الإطاحة بالأنظمة الباطشة -كنظام الإنقاذ- بثورة شعبية بهرت العالم بأسره.

ما العمل؟

والإجابة كما صاغتها الحكمة الشعبية: "الحل في البل" أي مواصلة الماراثون الثوري وبلوغ الثورة السودانية ذروتها الثانية في مواجهة الزواحف بأدوات جديدة مبتكرة قوامها التمسك بالحكومة المدنية وعدم الانجرار وراء التصعيد المعادي لها الذي تطمح إليه الزواحف بهدف الانقضاض عليها بانقلاب عسكري تحث الخطى نحوه ليلاً ونهاراً.

ولئن كانت هذه الثورة المجيدة الباهرة قد بلغت ذروتها الأولى طوال الفترة الممتدة من 11 أبريل لحظة الإطاحة بنظام الإنقاذ البائد وحتى 3 يونيو 2019 يوم مذبحة فض الاعتصام النكراء، فهي لا محالة بالغة ذروتها الثانية في خضم المواجهة الحاسمة الحتمية مع أعدائها من الزواحف من كل لونٍ وجنسِ.

وهي ستفعل ذلك بأدوات جديدة أساسها "الترس الصاحي" في لجان المقاومة في الأحياء السكنية ومواقع العمل والمدارس والكليات والجامعات، بنقابات العاملين واتحادات المهنيين، بمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني بمختلف أشكالها ومسمياتها، بقواها الحية النابضة في التنظيمات السياسية المنحازة إلى صف الجماهير وثورتها، بالوقفات الاحتجاجية واستمرار الضغط الشعبي بمختلف الأشكال التي تنأى به عن الوقوع في فخ أجندة الزواحف وأهدافها، بحكومتها المدنية التي لا خيار أمامها سوى تحقيق أهداف الثورة كاملة، وإلا ستذهب مع الريح في حال استمرارتوانيها وتراخيها، وبالوقوف الصلد العنيد في وجه أي عسكري مغامر يسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى "احتلال" حكم اللصوص للبلد مثلما فعلوا على مدى الـ30 عاما الماضية.
ويكمن الخطر كل الخطر الذي يتربص بالثورة وحكومتها المدنية في استغلال هذه الأزمات المفتعلة واحدة تلو الأخرى لدق إسفين بين قوى الثورة وحكومتها المدنية والدعوة إلى التصعيد ضدها وليس معها خدمة للهدف الاستراتيجي للزواحف في ظل اختلال توازن القوى الماثل بين قوى الثورة والثورة المضادة. ويملي علينا هذا الخلل عمل كل ما من شأنه أن يرجح كفة ميزان القوى لصالح الثورة وحكومتها المدنية، بما في ذلك مساندتها من جهة وممارسة الضغط الشعبي المستمر عليها لتنفيذ أهداف الثورة كاملة، وإجراء أي تعديلات لازمة لإزاحة أي مسؤول متهاون أو معرقل لأدائها.

ومن بين الأدوات المبتكرة لهذه الثورة العظيمة، الهندسة الجديدة المرتقبة للعملية الانتخابية القادمة على نحو يكسر الدائرة الشريرة التي انحبس فيها السودان منذ إعلان استقلاله في يناير 1956: انقلاب عسكري-فترة حكم ديمقراطي قصيرة تسيطر عليها أحزاب الطائفية- حكم عسكري... وهكذا دواليك. وبين حجري رحى هذه الدائرة الشريرة، ضاعت حياة أجيال وأجيال من أبناء السودان وبناته سُدىً، وتبدد ذلك الحلم ببناء دولة ديمقراطية حديثة راسخة ينعم مواطنوها جميعا بالأمن والاستقرار والرخاء والسلام ويتساوون فيه جميعا أمام القانون.

عبقرية الشعب السوداني هي التي سترسم ملامح هندسة هذه العملية الانتخابية الجديدة غير المسبوقة في تاريخ السودان الحديث. فهناك من دعا مثل صديقنا الكاتب بشرى الفاضل إلى تكوين "حزب الشباب" وهناك من يدعو إلى تشكيل أوسع تحالف جبهوي بين قوى الثورة -وفي قلبها الشباب بطبيعة الحال- لخوض الانتخابات بقائمة موحدة باسم هذا التحالف، وربما تعلو نداءات أخرى بتشكيل حزب الحرية والسلام والعدالة .. إلى آخره.

وعلى أية حال، ستصل عبقرية هذا الشعب الذي اجترح أشكالا جديدة للمقاومة وأفرز قيادة غير مسبوقة مثل "تجمع المهنيين" لقيادة الحراك الشعبي الواسع الذي أطاح بإحدى أعتى الديكتاتوريات العسكرية وأكثرها عنفاً ودموية بسلاح السلمية وحده، ستصل هذه العبقرية دون شك إلى هندسة انتخابية مبتكرة ستخرج السودان هذه المرة من تلك الدائرة الشريرة المغلقة بين ديكتاتورية عسكرية وديكتاتورية مدنية تحت هيمنة طائفية تسمى زورا بالديمقراطية النيابية. وأياً يكن شكل هذه الصيغة السياسية الجديدة أو مسمّاها، فلا جدال في أهمية الوصول إليها باكراً وبدء الاستعداد للانتخابات القادمة بعد انتهاء الفترة الانتقالية من الآن وليس غداً أو تباطؤاً حتى حلول العام الثاني لفترة الحكومة الانتقالية.

وبهذا الفهم، فإنه لا سبيل إلى بلوغ الذروة الثانية للثورة السودانية إلا بحثّ الخطى دون كللٍ أو تراخٍ كما قال الشهيد البطل "عبد العظيم" ورفاقه الشهداء الأبطال في هذا الماراثون الثوري الممتد من تفكيك النظام البائد بكل حزم ثوري وتحقيق أهداف الثورة كاملةً بمشاركة جميع أطرافها وقواها، وصولاً إلى نهاية الفترة الانتقالية وتكليلها بانتخابات عامة تشبه نتائجها ملامح هذه الثورة الباهرة وتحمل رائحتها وطعمها ولونها، وتمهد الطريق لتحقيق شعارها "حنبنيهو" تلك النبوءة الشعرية الثورية الطموحة الممكنة:

ﺣﻨﺒﻨﻴﻬﻮ
ﺍﻟﺒﻨﺤﻠﻢ ﺑﻴﻬﻮ ﻳﻮﻣﺎﺗﻰ
ﻭﻃﻦ ﺷﺎﻣﺦ ﻭﻃﻦ ﻋﺎﺗﻰ
ﻭﻃﻦ ﺧﻴّﺮ ﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻰ

ﻭﻃﻦ ﺣﺪّﺍﺩﻯ ﻣﺪّﺍﺩﻯ

ﻭﻃﻦ ﺑﺎﻟﻔﻴﻬﻮ ﻧﺘﺴﺎﻭﻯ
ﻧﺤﻠﻢ ﻧﻘﺮﺍ ﻧﺘﺪﺍﻭﻯ
ﻣﺴﺎﻛﻦ ﻛﻬﺮﺑﺎ ﻭﻣﻮية
ﺗِﺤﺘﻨﺎ ﺍﻟﻈُﻠﻤﻪ ﺗﺘﻬﺎﻭﻯ
ﻧﺨُﺖّ ﺍﻟﻔﺠﺮِ ﻃﺎﻗية
ﻭﺗﻄﻠﻊ ﺷﻤﺲ ﻣﻘﻬﻮﺭة
ﺑﺨﻂ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﻣﻤﻬﻮﺭة
ﺗﺨﻠّﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﺒﻬﻮﺭة
ﺇﺭﺍﺩة ﻭﺣﺪة ﺷﻌﺒية
أضف رد جديد