Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كما تعليق صديقنا عبد الواحد وراق، على المقال الأخير لمحمد خلف، كالآتي:

أُونو:-

من الناحية المعمارية لتصميم الدراسة هذه والتي تستعصي في المنحنيات والزوايا الحادة لسياقات الاستدلال والتمهيد لعبور الأفكار التي تتفتق كلما تتوغل في النسيج الشامل للمرامي التي تلوح بالتباشير المؤكدة.
الدهشة في المتابعة والمراقبة والتركيز والسيطرة ذات القدرة الفذة علي تسريج ملكة التفكير للنفاذ لمنطقة الإشعاع التي ينبعث منها الضوء .
تذكرت عبدالله الرفا ،ذلك الشخص الطويل النحيل الذي يجلس علي كرسي خيزران بجوار الترزي الرسمي بأحد برندات السوق، يجلس دائما خالفا رجل علي رجل ينهمك في حياكة بنطلون او بدلة فاخرة تمزعت في جزء منها ،فيقوم عبدالله هذا برفي الجزء التالف هذا بإعادة النسيج بنفس الدقة ليعيد القطعة الي سيرتها الأولي بحيث انك لا تستطيع معرفة الجزء المعطوب الذي أصلحه عبدالله.
تحس وانت تراقبه يعمل بمتعة لا تنفذ الي قرارتها ومتعته بالانهماك الكلي مع سير حركة الابرة الرفيعة بين أصابعه وهي تتخلل النسيج ليلتئم ويتعافي الجزء المعطوب.
فهي مهمة ذات ضرورة ومهنة شاقة تستوجب مهارة وقدرة علي الرتق قبل الخوض في تفاصيله الموحية والمستعصية.
لعلها الإرادة في التحقق او لعله الطموح!
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد

الحلقة الثَّالثة




قُمنا، بصحبة محمَّد أمين علي النَّصري، أصغرِ أبناءِ أُمِّيَ الثَّانية صفيَّة بنت البدوي سليمان كركساوي، بزيارةٍ إلى الحرم المكِّيِّ الشَّريف، أعقبتها زيارةٌ لا تُنسى إلى غار حراء؛ وما جعل الزِّيارةَ راسخةً في الذَّاكرة وزادها متعةً وتشويقاً أنَّ محمَّداً، بحُكمِ عملِه في مجال تجارة الزُّيوت العطريَّة، أصبح أكثرَ من غيرِه درايةً بأنفاقِ مكَّةَ وحاراتِها وشِعابها؛ وما ذلك إلَّا لأنَّه كان وما زال يُشرِفُ يوميَّاً على توزيع العطور والأعشاب الطِّبيَّة على عددٍ من تجَّار التَّجزئة بمدنِ الحجاز الرَّئيسيَّة؛ أمَّا الأريجُ الذي يصِلُكَ منه، فإنَّه لا يأتي فقط من بقايا أنفاسِ الزَّهرِ وروائح الياسَمين أو اللَّافندر المتناثرة في سيَّارته اللَّاندكروزر البيضاء، وإنَّما يصدُرُ أيضاً كنسمةٍ عليلةٍ خارجةً لتوِّها من أعماقِ نفسِه النَّقيَّة.

عند أواخر العصر، تسلَّقنا جبل النُّور، فأدركنا المغرب في منتصف الطَّريق. وعندما ارتقينا إلى قمَّة الجبل، كان الوقتُ قد قارب صلاة العشاء؛ وكان يتعيَّنُ علينا، بعد وصولِنا إلى القمَّة، أن ننزلَ دَرَجاً شديدَ الانحدارِ حتَّى نصِلَ إلى مدخلِ الغارِ، الذي لا يسِعُ عرضُه شخصاً بدينا؛ أمَّا الشَّخصُ النَّحيف، فإنَّه يتعيَّنُ عليه أن يدلف إلى الغارِ على إحدى جانبَيْ بدنِه، ويُفضَّلُ أن يفعلَ ذلك على جانبِهِ الأيمن. وبالدَّاخلِ، وجدنا مِصلاةً مهترئة، مكَّنتنا بالكادِ من تأدية الصَّلاةِ في رُقعةٍ أكثرَ ضيقاً في عُمقِ الغار. ومع ذلك، أحسسنا بسَعَةٍ في الصَّدرِ واتِّساعاً في المساحة، زادتها هِرَّةٌ مقيمةٌ في الغارِ إلفةً؛ هذا إضافةً إلى سَعةِ الوقت التي سنتحدَّثُ عنها في الفقرةِ التَّالية.

ما يُلفِتُ الانتباه أنَّه، بحسب مقتضياتِ النَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة التي صاغها ألبرت آينشتاين في عام ١٩١٥، يحدُثُ إبطاءٌ للزَّمانِ بواسطة الكتلة (ماس)؛ وبما أنَّ ارتفاع جبل النُّور يبلغ ٦٤٢ متراً عن سطح البحر، فإنَّ الشَّخص المتربِّع على قمَّته يكسبُ وقتاً أكثر من الشَّخص المُقيم على سفحِه. كما أنَّه أيضاً، بحسب مقتضيات النَّظريَّة النِّسبيَّة الخاصَّة التي صاغها آينشتاين قبل عشرِ سنواتٍ من ذلك التَّاريخ (أي في عام ١٩٠٥)، يحدُثُ إبطاءٌ للزَّمانِ بواسطة السُّرعة (إسبيد). بمعنًى آخر، فإنَّ الشَّخصَ الجالسَ على مِصلاتِه في داخل الغار سيكسبُ زمناً مُضاعَفاً، بسببِ بُعدِهِ عنِ السَّفحِ وارتفاعِهِ قليلاً عن كتلة الأرض؛ وكذلك، بسببِ سرعتِهِ التي تُساوي صفراً بالقياس إلى أيِّ جسمٍ متحرِّكٍ آخرَ على مقربةٍ منه. لهذا يُمكِنُ القول بأنَّ محمَّداً عندما تلقَّى الوحيَ أوَّلَ مرَّةٍ أثناء تعبُّدِه في غار حراء، لم يكن فقط أقربَ أهلِ مكَّةَ إلى السَّماءِ بوجودِه على قمَّة جبل النُّور، وإنَّما أيضاً أكثرهم سَعةً في الوقت، بسببِ التَّأثيرِ المُضاعَفِ لنتائجِ نظريَّتَيْ آينشتاين الشَّهيرتَيْن.

وربَّما يُوفِّرُ هذا الأمرُ اللَّافتُ تفسيراً أفضلَ لآيةٍ مِفتاحيَّة، تتعلَّقُ بتحديدِ مُدَدِ قراءة القرءان وتلاوته؛ فالرَّسولُ الكريم لم يكن في عَجَلَةٍ من أمرِه عندما بدأ لسانُه يلهجُ بالذِّكرِ الحكيم إبَّان الفترةِ الأولى لتلقِّيه الوحيَ عن جبريل عليه السَّلام، ولكنَّ ارتفاع المكانِ عن سطحِ الأرض هو الذي أحدَثَ بحُكمِ التَّفاوتِ النِّسبيِّ في مُضيِ الوقتِ ذلك التَّعجُّلَ في القراءة، حتَّى أتى إليه الأمرُ الإلهي: "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ؛ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ؛ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ؛ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" (سورة القيامة؛ الآيات من رقم "16" إلى رقم "19")؛ فالاتِّباع هو المطلوبُ الدَّائم في تلقِّي العلم، هذا بخلاف المعرفة التي تتطلَّبُ إبداعاً ودرايةً حاذقةً بشؤون الدُّنيا؛ ومن هنا، جاء الحديثُ النَّبويُّ الشَّريف: "أنتم أدرى بشؤونِ دنياكم"؛ فمحمَّدٌ الآخرُ، صاحبُ السَّيارةِ البيضاء والخبيرُ بشِعابِ مكَّةَ ومنعرجاتِها، هو تماماً مثل سائقي عربات الأجرة السَّوداء في لندن، الذين لا يُمنحونَ رخصةً أو يُسمحُ لهم بقيادة عربات الأجرة، إلَّا إذا اجتازوا اختباراً يُطلق عليه "ذَا نوليدج" (أي المعرفة)، بينما يصحبُني ابنُ أمِّيَ الثَّانيةِ هنا إلى قمَّةِ جبلِ النُّور لعلَّنا نستقبلُ برقاً أو نتلقَّى، مثل سَميِّنا الكريمِ، قَبَسَاً من عِلم.

وبسرعةِ الضَّوءِ (وهي معيارٌ يُحدِّدُ أقصى سرعةٍ داخل المجال الكهرومغنطيسي، والتي اعتمدت عليها النَّظريَّة النِّسبيَّة الخاصَّة)، يُمكِنُ أن نتخيَّلَ إسراءً يتمُّ في ليلةٍ مباركةٍ بسرعةِ البرقِ إلى بيتِ المقدس؛ ولكنَّ هذه السُّرعةَ القصوى وحدها لا تكفي للنَّفاذِ من المسجدِ الأقصى إلى أقطارِ السَّماء، فكان لا بُدَّ من تطويعِ بُراقٍ لإكمالِ هذه الرِّحلةِ المستحيلة بأيِّ مقياسٍ أرضي. فبسرعةِ الضَّوء، التي تضعُ حدَّاً أقصى للسُّرعة في مجالِ الحقيقة، يحتاجُ الضَّوءُ إلى انقضاءِ مئةِ ألفِ سنةٍ حتَّى يعبُرَ مجرَّةَ دربِ التَّبانة (وهي بيتُنا الكوني) من أقصاها إلى أقصاها؛ كما يحتاجُ إلى مليونَيْ سنةٍ حتَّى يصِلَ إلى بيتِ جارِنا الكوني (وهو مجرَّة "أندروميدا")، ومليونينِ مثلها كذلك ليرتدَّ إلينا لنراه. غنيٌّ عنِ القول إنَّ مِعراجاً يتمُّ بمعيارِ الحقيقة (الذي يُحدِّده سرعة الضَّوء) لا يُمكِنُ قبولُه أو تصديقُه؛ إلَّا أنَّه بالرُّجوعِ إلى الحقِّ، يُمكِنُ قبولُه وتصديقُه؛ وهو ما فعله عبد الله بن أبي قُحافة التَّيميِّ القُرَشي، فلُقِّب بالصِّدِّيق، وكنيتُه أبو بكرٍ، أوَّلُ الخلفاءِ الرَّاشدين، بينما سخِرت قريشٌ، وتهكَّمت من حديثِ الإسراءِ والمِعراج، وظنَّت، وبعضُ الظَّنِّ إثمٌ، أنَّ ما قال به محمَّدٌ سيؤدِّي حتماً إلى تكذيبِه وإبطالِ رسالته.

كِلا الحدثين أمرٌ يصعبُ بالفعلِ تصديقُه إلَّا لِمَن وَثِقَ في محمَّدٍ واستبعد، بُعدَ السَّماءِ من الأرضِ، افتراءَه قولاً مُختلَقاً من عندِه؛ فحديثُ السَّماءِ لم يكن هناك مجالٌ إلى إثباته، إلَّا أنَّه مع ذلك يُمكِنُ تعزيزُه بتأكيدِ صِحَّةِ حديثِ الإسراء؛ وهو ما تمَّ بالفعل من خلالِ دقَّة وصف النَّبيِّ لصُوَّى الطَّريقِ والملامحِ المهمَّةِ بجوارِ البيتِ العتيق؛ حيثُ لعب الصِّدِّيقُ دوراً رئيسياً في إقناعِ عددٍ من أهلِ مكَّةَ وإثنائهم عن تكذيبِ الرَّسول. على أنَّ الأمر المهمَّ من وجهةِ نظرنا هو الإشارةُ، محضُ الإشارةِ، إلى إمكانيَّة حدوثِ سرعتين بأقصى حدٍّ ممكن، وإنْ كان ذلك مُثبتاً فقط في إطارِ الجُسيماتِ المتناهيةِ في الصِّغر: الأولى، سرعة الفوتون، أصغرُ وحدةٍ ضوئيَّة (وهي 299792 كيلومتراً في الثَّانية)؛ والثَّانية، سرعة الإليكترون، الذي يظهرُ بارتطامه بأيِّ جسمٍ مادِّي أو يختفي وفقاً لمبدأ الرِّيبةِ أو اللَّايقين، بحيث يُصبِحُ احتمالُ وجودِه ممكناً، قبيل ظهورِه، في أيِّ موقعٍ داخلِ الكونِ، مهما نأى وابتعد. والأكثرُ أهميَّةً من ذلك هو العدولُ عنِ الاستخدام الدَّائب لهاتين السُّرعتين، باستعادةِ الإيقاعِ الإنسانيِّ المألوف للزَّمان؛ وهذا ما سنشرحه في الفقرةِ التَّالية.

باختصارٍ شديد، يُمكِنُ أن يُقالَ بأنَّ الزَّمن الذي تحدَّدَ بموجبه المدَّة التي يستغرقها قطعُ المسافةِ بسرعةٍ بعينها لإكمالِ الإسراء قد تمَّ استعادتُه بالرُّجوع إلى الزَّمنِ المعتاد لتنفيذ الهجرة النَّبويَّة، وأنَّ زمن المِعراج قد تمَّ استعادتُه باتِّباع ما جاء في خطبة حَجَّة الوداع. كيف كان ذلك، إذاً؟ أوَّلاً: أُسرِيَ بالرَّسولِ الكريم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أي أنَّ اتِّجاه الرِّحلة التي تمَّت بسرعةِ البرق كان من الجنوب إلى الشَّمال؛ أمَّا اتِّجاه الهجرة، فقد كان أيضاً من الجنوب إلى الشَّمال (أي من مكَّةَ إلى المدينة)، بصحبةِ مَن لَعِبَ دوراً حاسماً في إقناعِ أهلِ مكَّةَ بصِحَّة دعواه؛ وقد تمَّتِ الهجرةُ بسرعةٍ اعتيادية، بل احتاج فيها الاثنانِ أن يمكُثا قليلاً في غار ثور (الذي يبلغ ارتفاعه 760 متراً عن سطح البحر) ريثما تفترُ همَّةُ مَن جدَّ في أثرهِما. ثانياً: عُرِّجَ بالرَّسولِ الكريم إلى سدرةِ المنتهى، أي أنَّ اتِّجاه الرِّحلة التي تمَّت بسرعةِ البُراق كان من أسفل إلى أعلى (أي من الأرض إلى السَّماء)؛ وقد احتاج النَّبي بعد اكتمال تبليغه رسالة الدِّين التي جاءته من السَّماء أن يُؤكِّدَ بشكلٍ مُركَّزٍ في خطبته الختاميَّة لسكَّانِ الأرضِ قاطبةً، عبر مخاطبته لأهلِ مكَّةَ خاصَّةً، أهمَّ ما نزل إليه في نَيفٍ وعشرين عاماً.

ويهمُّنا في هذا المقال ما وجَّهه النَّبيُّ إلى أهلِ مكَّةَ بصددِ النَّسيء، بعد أن رأى من أعيانها تلاعباً بتقديمِ أواخر الشُّهور الحُرُم أو تأخيرِ أوائلها، وذلك بحسب مقتضى الفائدة التي يجنونها في الأسواق من جرَّاء التَّقديم أو التَّأخير (ممَّا يُذَكِّرُ بتلاعب المتأسلمين الجُدُد بسعر الدُّولارِ صعوداً أو هبوطاً، بحسب مقتضى الفائدة التي يجنونها في الأسواق جرَّاء هذا التَّقلُّب المتعمَّد). فقرأ عليهم النَّبي آية النَّسيء التي تقول: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ"؛ (سورة التوبة، الآية رقم "٣٧"). ثمَّ أعقبه بتأكيدٍ جازمٍ بقوله: "إنَّ الزَّمانَ قد استدارَ كهيئتِه يومَ خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأرض"، ثمَّ حدَّد لهم شهور السَّنة، وبينها أربعةُ أشهرٍ حرم، هي ذو القعدة، وذو الحجَّة، ومحرَّم؛ ورجب الذي بين جُمادى وشعبان. هذا وقد جاء تأكيد أهميَّة الالتزام بالتَّوقيت القائم على السُّرعة المعتادة لحركةِ الأجرام في سورة الإسراءِ نفسِها: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً"؛ (سورة الإسراء، الآية رقم "١٢").

في الختام، نوضِّحُ بالقول إنَّ ما استلزم استعادة الزَّمان في السَّابق واستوجب استدارته كهيئته الأولى، هي أنَّ زمانَ الإسراء الذي يمضي بسرعة البرق لا يُمكِنُ الإيفاءُ به في وقتِ الحقيقةِ بإيقاعها المُعتاد، وأنَّ زمانَ المِعراج الذي يمضي بسرعةِ البراق لا يُمكِنُ تكرار حدوثه على وجهٍ منتظم في الواقع المُعاش، إذ لا تتهيأُ مواقيته إلَّا بتدخُّلٍ غير مُطَّردٍ يتمُّ بمشيئة الحقِّ وإرادته الغالبة. إلَّا أنَّ ما استلزم استعادة الزَّمان في عصرنا الحالي واستوجب إرجاعه إلى هيئته الأولى المُتعارَف عليها، هو إبطاءٌ غير متوقَّعٍ بسبب الكتلة، وآخرُ مدهشٌ بسبب السُّرعة؛ غير أنَّ ما يُدخِلُ في النَّفسِ عجباً وحَيرَة، هو انقسامُه وتفتُّتُه إلى جزيئياتٍ متناهية الصِّغر بسبب الأثر الكمومي (نسبةً إلى ميكانيكا الكم)، بحيث يستحيلُ الزَّمان، كما الجبالِ في سورة النَّمل (الآية رقم "88") إلى أبخرةٍ متراكمة، فيما هي تمُرُّ كمَرِّ السَّحابةِ الماطِرة. قد يستدعي كلُّ ذلك تقليصاً للبعدِ الرِّياضي للزَّمانِ النِّيوتونيِّ الآسر بثوانيه ودقائقه المتلاحقة بإيقاعٍ منتظمٍ لا يتغيَّر، والذي قامت عليه رَدَحَاً أبنيةُ الحداثة، لِيفسحَ المكانَ بجانبه لاحمرارٍ وشروقِ شمسٍ وتعامدٍ عند ظهيرةٍ قائظة، ثمَّ احمرارٍ آخرَ قبيلَ الغروبِ، ومواسمَ للاحترارِ وأُخرى للموجاتِ الباردةِ، ومواسمَ للنَّسائمِ وأخرى لتساقطِ الأوراقِ والشَّعرِ في آخرِ العُمُرِ، إيذاناً بتجدُّدٍ قادمٍ وميلادٍ لصُبحٍ جديد.


بناءً على ما ذكرناه بشأنِ الإسراء والمعراج، سنسعى في حلقةٍ مُقبِلة إلى إحداثِ رتقٍ على قاعدةِ اللَّاتماثلِ بين الحقِّ والحقيقة، والسَّاعةِ والسَّاعة؛ وفوق ذلك كلِّه، بين المُحايثة (التي تقومُ عليها فكرة "وحدة الوجود") والتَّجاوز (الذي يُشيرُ إلى "وجودِ الواحدِ" الذي ليس كمثلِه شيء)

محمد خلف
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الحصة شعر

مشاركة بواسطة حسن موسى »




الحصة شعر

سلام يا محمد خلف الله ،[ يا له من اسم ] شكرا يا عادل القصاص على المناولة الشيقة.
و وجه التشويق الأول فيها كونها صادرة عن صديق من أيام ذلك "الجمل الزميل" الذي نفق في صحارى البترودولار و الوحش قاعدة تراعي لينا و ترمينا بأعينها ساكت و الطير العجمي مستعجّب منا كيف لم نطر [ المعري بتصرّف]. و يا إلهي ماذا جنينا في حقك حتى تغمرنا بكل هذا الحب العميم؟[ قالوا أن الله إذا أحب عبدا من عباده ابتلاه]. و أصدقاء" الجلل الزنيم" الذين ابتلانا بهم الله، جعلوا من الماركسية مذهبا خامسا على أثر أبي ذر الغفاري، فيتمايزون بها عن عيال المسلمين العنقالة بتمسكهم بعروة الدين الوثقى، يقيمون الصلاة و يؤدون الزكاة و قد يحجون إلى بيت الله زرافات و وحدانا طالبين الرزق بمشيئة الكفيل المؤمن و هم راجعون لله مواكبا هادرة إلى مثاوي الصديقين و الشهداء في الحياة التي تنتظرهم بعد هذه الفانية. و شاعرهم يهتف :أنحنا اولاد بلد نقعد نقوم على كيفنا
و مافي زول غيرنا" لصياغة الدنيا
وتركيب الحياة القادمة"بلا بلا بلا؟[ محمد المكي صاحب أحمد هارون]
هؤلاء هم " الغرباء" الذين سيحيون سنة محمد بعد اندثارها، و هيهات. أما وجه التشويق الثاني في مكتوب محمد خلف فهو في شحنة الشعر العالية التي تنتظم اسطره المتلاحقة العامرة بالإشارات العالمة التي تروّع رجل "الشاعر" العادي و تلهمه الإستجارة ببركات سيدنا قوقل و شركاه رضي الله عنهم أجمعين. و محمد خلف الشاعر يشعر في خضم ذلك الشعر الذي "صعب و طويل سلمه"و يتفانى في تمويه صفة الشاعر وراء حكمة القدماء و علوم العلماء المتأخرين فلا تكاد امرأة الشارع العادية تفهم منه" التكتح".و من بستان الشاعر ينفحنا محمد وردة في مقام الشطح الديني اللطيف ببركات سيدنا آينشتاين كرم الله وجهه. يقول شاعرنا :

"..
ما يُلفِتُ الانتباه أنَّه، بحسب مقتضياتِ النَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة التي صاغها ألبرت آينشتاين في عام 1915، يحدُثُ إبطاءٌ للزَّمانِ بواسطة الكتلة (ماس)؛ وبما أنَّ ارتفاع جبل النُّور يبلغ 642 متراً عن سطح البحر، فإنَّ الشَّخص المتربِّع على قمَّته يكسبُ وقتاً أكثر من الشَّخص المُقيم على سفحِه. كما أنَّه أيضاً، بحسب مقتضيات النَّظريَّة النِّسبيَّة الخاصَّة التي صاغها آينشتاين قبل عشرِ سنواتٍ من ذلك التَّاريخ (أي في عام 1905)، يحدُثُ إبطاءٌ للزَّمانِ بواسطة السُّرعة (إسبيد). بمعنًى آخر، فإنَّ الشَّخصَ الجالسَ على مِصلاتِه في داخل الغار سيكسبُ زمناً مُضاعَفاً، بسببِ بُعدِهِ عنِ السَّفحِ وارتفاعِهِ قليلاً عن كتلة الأرض؛ وكذلك، بسببِ سرعتِهِ التي تُساوي صفراً بالقياس إلى أيِّ جسمٍ متحرِّكٍ آخرَ على مقربةٍ منه. لهذا يُمكِنُ القول بأنَّ محمَّداً عندما تلقَّى الوحيَ أوَّلَ مرَّةٍ أثناء تعبُّدِه في غار حراء، لم يكن فقط أقربَ أهلِ مكَّةَ إلى السَّماءِ بوجودِه على قمَّة جبل النُّور، وإنَّما أيضاً أكثرهم سَعةً في الوقت، بسببِ التَّأثيرِ المُضاعَفِ لنتائجِ نظريَّتَيْ آينشتاين الشَّهيرتَيْن.
.. »

أها يا محمد ما تستغرب لو شفت مكتوبك دا في منابر التواصل الإسلامي متبوعا بالعبارة :
" أنشرها و تكسب حسنة " أو
"" "

أرسلها إلي 30 شخص تحصل علي خمسه ملايين ومائتي ألف حسنه ......

ولو أرسلها كل واحد منهم إلي 30 شخص آخر ستحصل علي 4.680,000,000 أربعه مليار وستمائه وثمانين مليون حسنه .........

لا تدري متى تموت فأجعلها حسنه جارية"
و هكذا دواليبك..

هسع يا محمد خلف الله عيال المسلمين ديل انتظروا القرون الطويلة دي كلها عشان الخواجة" آينشتاين" يجي يفهمهم قرب النبي من السماء ، و لا أنا غلطان؟؟يعني الناس ديل كانوا مؤمنين على ياتو نظرية؟ و كمان عيال المسلمين الساكت الما ناقشين النظرية النسبية و لا ميكانيكا الكم [ أما "مكيانيكا الكيف" ديك فاسكت خليها ساكت] يقولوا يا منو؟ عشان معنى كلامك العالم الفوق دا إنو المسلم العالم أفضل من المسلم الساكت، عشان المسلم العالم مسلح بالنظريات العلميات المتساندات من داروين لماركس لفرويد لآينشتاين لآيزنشتاين لجيرترود شتاين لبروس سبرنغشتاين و جملة عيال شتاين .
غايتو المسامح كريم يا زميل و أنحنا مسامحينك بشفاعة الشعر بس، و عند المسلمين" الشعراء يقولون ما لا يفعلون" و الحمد لله على كل شيئ.
سأعود
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

تعقيب محمد خلف على التعليق الأخير لحسن موسى:



حسن موسى: الفنَّانُ الذي سكت عنَّا سَرداً واستنطقنا شِعرا



شتَّانَ ما بين مفهومَي الأُسلوب والأُسلوبيَّة السَّائدين في الأوساط النَّقديَّة؛ الأوَلُ فرديُّ يختصُّ بذائقةِ الكاتب وخياراتِه الفنِّيَّةِ الشَّخصيَّة، والآخرُ يندرجُ في الخطابِ العام لمدرسةٍ أدبيَّة بعينِها أو الوضعِ العام للغةٍ ما في فترةٍ تاريخيَّةٍ محدَّدة. فيما يختصُّ بالمفهومِ الأوَّل، سنَدَعُ ما لِحَسَنٍ لِحَسَن، مع تمنِّياتنا له بمزيدٍ من النّجاح في تطوير ذلك المنحى الإبداعيِّ المتفرِّد، بشهادةِ أقرانِه ومُحِبِّيه من كافَّةِ القرَّاء الذين يجِدون متعةً حقيقيَّة في هذا الضَّرب المتميِّز من الكتابة الخاصَّة. أمَّا بالنِّسبة للمفهوم الثَّاني، فسنتخيَّرُ أفضلَ ما جادت به قريحتُه النَّقديَّة، وسنلتقطُ المعاني التي بثَّها في الطَّريقِ العام، توطئةً لتحليلِها والانتفاعِ بأفضلِ دَلالاتِها التي تُساعِدُ على تطويرِ النّهجِ الذي سلكناه منذ ما يُقاربُ السِّتِ سنواتٍ في هذا الرُّكن (أو الخيط، مثلما يحلو لصديقي القصَّاص تسميته).

وأهمُّ ما جاد به حَسَنٌ في تموُّجاته المتلاحقة، التي تُمسِكُ فيها الكلمةُ بتلابيبِ أخرى حتَّى تنسَرِبُ بغتةً من الأسلوبِ إلى الأسلوبيَّة، هو طرحُه لموضوع الشِّعر وعلاقتِه المُلتبِسة بإنتاجِ المعرفة؛ وكُنَّا قد خصَّصنا الرِّسالة إلى السَّردِ وحصرناها على أفضلِ القصَّاصينَ الذين جمعتنا بهم صِلةٌ في المدارسِ والجامعات أو الحقلِ الثَّقافيِّ العام، ولم نغفلِ الإشارةَ إلى بعضِ التَّشكيليين والسِّينمائيين؛ وكنَّا قد عقدنا العزمَ على تغطيةِ النَّقصِ في المشاركاتِ اللَّاحقةِ للرِّسالة، والتي لم تتوقف حتَّى كتابةِ هذه السُّطور. ولكنَّ مشاغلَ طرأت على مَنْ عهدنا إليهم بابتدارِ النِّقاشِ بشأنِ كلِّ جانبٍ من جوانب الإبداع: من رسمٍ، ونحتٍ، وتصوير؛ ومسرحٍ، وتلفزيونَ، وسينما؛ ونقدٍ، وروايةٍ، وشعر (وخصوصاً الشِّعر، لأنَّ الشُّعراءَ قد ظلُّوا يُحيطونَ بنا إحاطةَ السُّوارِ بالمِعصم)؛ فلم ننجح بسببِ تلك المشاغل في مسعانا الذي لم يُفارقِ البالَ لحظةً واحدة، ولكن لم يفُتِ الأوانُ بعدُ، فها هو ذا حَسَنٌ يفتتحُ ما نراه بالفعلِ حَسَناً، وهو تناولُ موضوعِ الشِّعرِ، وعلاقتِه المُبهَمةِ بإنتاجِ المعرفة، بصفتِه لغةً ذاتَ خصائصَ مميَّزةٍ قد تتداخلُ مع لغةِ الفرعِ المعرفي، فتُؤثِّرُ سلباً أو إيجاباً على المُحَصِّلةِ النِّهائيَّة للإنتاجِ المعرفي.

وقد يقودُ هذا الافتتاحُ الحَسَنُ أيضاً إلى الكلامِ على الشِّعرية (بويطيقيا)؛ وهي بخلاف تفسير الشِّعر، تقومُ على تبيينِ تأثيرِ استخدامِ التَّعبيرِ الشِّعريِّ على التَّلقِّي وإنتاجِ الدَّلالةِ الخاصَّة، مثل استخدامِنا للعبارةِ الشِّعريَّةِ المكثَّفة في نهايةِ المقال لإحداثِ أثرٍ يُشيرُ إلى الانتقالِ من إيقاعِ الزَّمنِ النِّيوتونيِّ الرَّتيب، بساعاتِه ودقائقه وثوانيه التي تنتظمُ في سياقٍ خطِّيٍّ لا يتغيَّر، إلى استعادتِه في ذائقةِ المُتلقِّي بأيَّامٍ تطولُ وتفصُرُ، نهاراً وليلا؛ وليالٍ تطولُ شتاءً وتقصُرُ صيفاً؛ وبشمسٍ تحترُّ بتعامدٍ إستوائيٍّ، وأخرى تتلطَّفُ على الخلقِ باعتدالينِ ربيعيٍّ وآخرَ خريفي. وأيضاً، مثل استخدامِ حَسَنٍ لاستيلاد الدَّلالة بتقليبِ الدَّوال، لتعزيزِ الأثر التَّهكُّمي لدى المُتلقِّي؛ وعلى سبيل المثال، "الجمل الزَّميل" (عِوضاً عن الزَّمنِ الجميل)، ورجل "الشَّاعر" (عِوضاً عن رجلِ "الشَّارع")، هذا إضافةً إلى اقتباساتِه من شعراءَ يمتدُّونَ من أبي العلاء المعرِّي إلى محمَّد المكِّي إبراهيم؛ هذا بالطَّبع غير اقتباسِه الطَّويل باللَّونِ الأحمر الذي ظنَّه شِعراً، فنصَّبني بناءً عليهِ شاعراً، لا ليسهُل عليه دحضٌ لحججٍ، وإنَّما تعزيزٌ لأثرٍ تهكُّمي (كان قد برع فيه ونشره بيننا فطاحِلةٌ أفذاذ، مثل عبد العزيز العميري، وخطَّاب حسن أحمد، ومهلَّب علي مالك، وتماضر شيخ الدِّين، وعموم آل همرور).

بخصوصِ التَّأثيرِ البويطيقيِ، قسَّمَ الفيلسوفُ البريطاني، جي إل أوستن، الأفعالَ اللُّغوية (إسبيتش آكتس) وفقاً لثلاثِ خصائص: لفظيَّة (لوكيوشنري)، وإنجازيَّة (إلوكيوشنري)، وتأثيريَّة (بيرلوكيوشنري)؛ وقد اعتبر الفيلسوفُ الأمريكيُّ، جون سيرل، أنَّ الخصيصة الإنجازيَّة هي أهمُّ الخصائص الأدائيَّة، ودمج معها الخصيصة الدَّالَّة باللَّفظ. إلَّا أنَّ الخصيصة التأثيريَّة هي التي تهمُّنا في هذا المقام، إذ إنَّها مرتبطةٌ بحماية المستهلك؛ وكان صديقي مسعود محمَّد علي يُطالبُ في عِقرِ دارِ اِتِّحاد الكُتَّابِ السُّودانيين بإقامةِ اتِّحادٍ للقرَّآء (وليته أشرف على إنشائه من دونِ حاجةٍ إلى عونٍ من لجنةِ الاتِّحاد)؛ ولو كان صديقي عبد السَّلام حسن عبد السَّلام حيَّاً يُرزق، لأقنعته بما له من صلةٍ حميمةٍ بالأدب، وخبرةٍ قانونيَّةٍ واسعة، وعلاقةٍ وُثقى بحقوقِ الإنسان، بأن نسعى سويَّاً إلى صيانةِ حقوق المُتلقِّي وتضمينِها في "ميثاق جنيف"، باعتبارِها جزءاً لا يتجزأ من حقوقِ الإنسان؛ وكان سيرى، مثل اسمه الأوسطِ، ذلك حَسَناً؛ فالنقدُ التَّطبيليُّ مُؤذٍ بطبعه لرجاحةِ العقلِ واتِّزانِ الجسد؛ أمَّا النَّقدُ الجارج، فإنَّه محضُ استهدافٍ آثمٍ للنَّفسِ والمعنوياتِ التي لا غِنًى للكاتبِ عنها.

من حُسنِ الصُّدَفِ أنَّ هناك مقالاً منشوراً بصحيفة "الحياة"، العدد 15694، بتاريخ الجمعة 24 آذار 2006، تحت عنوان "مسار مخالف لـ "مدارات" أدونيس"، سَعَينا في مُفتَتَحِه إلى تمييزِ مفهومَينِ للشِّعر: أحدهما ينظرُ للشِّعر "بصفته صَنعَةً لُغويَّة مُنتِجَةً للصُّور الفنِّيَّة، ومُتَّخذةً إيَّاها وسيلةً ذهنيَّة موازية لإنتاج المعرفة، وبين الشِّعر بصفتِه إبداعاً تِلقائياً للقصائدِ التي تأتي وفقَ نَسَقٍ معيِّن، أكان ذلك وفقاً لأبحُرِ الخليل المعروفة، أم كان بغيرِها ممَّا تحقَّقَ بالفعل أو ما يُمكِنُ أن يتحقَّقَ بالقوَّة. وقلنا أيضاً "إنَّ الشِّعرَ بصفتِه الأولى هذه: شيطانٌ مريد، مناقضٌ للحقِّ ولا مناصَ من محاربته وإخراجه عنوةً من حرم المعرفة، إذا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. والشِّعرُ بصفته الثَّانية: غريزةٌ لُغويَّة فطريَّة لا يُمكِنُ دفعُها، لأنَّها في أساسِ اللُّغةِ الطَّبيعيَّة التي تتوسَّطُ بين الفكرِ والعالَم. كما قلنا إنَّه "إذا كان الشِّعر، بصفتِه صَنعَةً لُغويَّة، واحداً من المداخل التي اعتمدها الفكرُ النَّقديُّ الحديث ــ بدءا ًمن هايدغر وانتهاءً بجاك دريدا ــ لتليينِ بنيةِ الفكرِ الأوروبي وإعادةِ تركيبِها أو تفكيكِها، فإنَّ ذلك المدخل كان مناسباً له تماماً، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار تمسـُّكَه بالوظيفةِ المرجعيَّةِ للُّغة، وتضييقِه على الشِّعر، وطردِه إيَّاه من ساحةِ الفكر. أمَّا اعتمادُ هذا المدخل نفسه داخل الثَّقافة العربيَّة، فلم يكن ذلك سوى دفعٍ للأبوابِ المفتوحةِ أصلاً، فالشِّعرُ لم يكن مُحَارَباً أو مطروداً، بل كان هو سيِّدُ الموقف في معظم فتراتِ التِّاريخِ العربيِّ المعروف".

في عصرِ تطوُّرِ العلومِ الفيزيائيَّة، خصوصاً علم أصلِ ونشأةِ وتطوُّرِ الكون (كوزمولوجي)، وفيزياء الجُسيماتِ المُتناهيةِ الصِّغِر، وميكانيكا الكم، بدأ الجدارُ القائمُ بين العلمِ والشِّعرِ في التَّصدُّع، لا لشيءٍ سوى أنَّ مُكتشفاتِ العالَمِ تحت المِجهريِّ والكونِ المُنتاهي في الابتعادِ والكِبَر قد أخرست ألسنةَ العلماءِ من الدَّهشة، فاتَّخذتِ الظَّواهرُ الباديةُ للعيانِ من خلال التِّلسكوب أو المِجهر موقعَها من غيرِ أن تتَّشحَ بثوبِ اسمٍ أو شهادةِ ميلاد؛ لذلك، لجأ العلماءُ إلى غريزتِهم اللُّغويَّةِ الفطريَّة أو معينِهم الإبداعيِّ الكامن. فأطلقوا اسمَ "الانفجارِ العظيم" في غيابِ الفضاء الذي يسمِحُ في الأساس بحدوثِ التَّفجير (وهو ما أشرنا إليه في حينِه في صُلبِ الرِّسالة)؛ كما أطلقوا اسمَ "الثُّقوبِ السُّوداء" على منطقةٍ في الزَّمكان (إسبيستايم) لا يهربُ من براثنها حتَّى الضَّوء المرئي، كما لا يُمكِنُ التَّكهُّنُ بوجودِها إلَّا بأثرِ اسنتاجاتٍ مأخوذةٍ من أجرامٍ غيرِها. أمَّا العالِمُ الفيزيائيُّ الأمريكي، مراي غيل-مان، فقد استفاد من اطِّلاعه على رواية "السَّهر على جثَّة فينيغان" (فينيغانز وِايْك) للرِّوائيِّ الإيرلندي، جيمس جويس، وهي من أصعبِ الرِّواياتِ التَّجريبيَّة، ولا يُمكِنُ بتعبيرِ حَسَنٍ أن يُدرَكُ منها "التَّكتح"، حتَّى إذا عُرضِت على أفضلِ النُّقاد؛ ومع ذلك، فقد استقى منها غيل-مان كلمة "كوارك" فأطلقها اسماً أصبح سائراً لجزءٍ من مكوِّنات الذَّرة، أي الهيدرونات؛ وكانت في الأصلٍ "كوورك"، إلَّا أنَّ جويس قد عدَّلها إلى "كوارك" لتتلاءم في التَّقفيةِ مع "مارك"، في عبارة "ثري كواركس فور مَسْتَرْ مارك" الإنكليزيَّة.

أمَّا بخصوص جبلِ النُّور، وما إذا كان المسلمون قد انتظروا قروناً طويلة حتَّى يأتي إليهم ألبرت آينستاين ليفهموا منه قربً النَّبيِّ إلى السَّماء، فإنَّ لا أحدَ قد ادَّعى هذا الادِّعاء؛ بلِ الأصح أنَّ العالمَ قد انتظرَ أربعَ سنواتٍ فقط للاستيقانِ من صِحَّة النَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة، وهو ما حدث في أعقاب كسوف الشَّمس في عام 1919، حيث تبيَّن جليَّاً انحناءُ الضَّوء بالقربِ من أحدِ النُّجوم التي تقعُ في نطاقٍ نجميٍّ مُحاذٍ للشَّمس (وهو ما سبق أن أشرنا إليه في إحدى المشاركات)؛ كما انتظر العالمُ أكثر من مئةِ سنةٍ حتَّى يتمَّ تصنيعُ ساعاتٍ ذرِّيَّة يكون بمقدورِها تسجيلُ الفروقِ في الزَّمانِ التي تحدَّثت عنها النِّسبيَّة، بحيث أصبح الآنَ بالإمكانِ تسجيلُ قراءتين مختلفتين لِما هو فوق المِنضدة وما هو في أرضيَّةِ الغرفة، ولِما هو فوق الرَّأس وما هو تحت القدمين، ناهيك عمًّا هو في قمَّة جبل النُّور وما هو في سفحِه. عِلماً بأنَّنا حينما تحدَّثنا عنِ القربِ وسَعةِ الوقتِ، وعزونا ذلك إلى التَّأثيرِ المُضاعَفِ لنتائجِ نظريَّتَيْ آينشتاين الشَّهيرتَيْن، لم نفعل شيئاً سوى أنَّنا قرَّرنا حقيقةً، يُمكِنُ لأيٍّ شارٍ من أمازون لساعتينِ ذريتيَّن أن يُقرِّرَ ما هو مُقرَّرٌ، بأن يُثبتَ ما هو مثبتٌ أصلاً؛ أمَّا أن يأتيَ اِمرؤٌ بدحضٍ للنِّسبيَّة بعد نيفٍ من السِّنينِ أو القرون، فذلك لا يقدحُ في صِحَّةِ حديثِ السَّماء أو واقعةِ الإسراءِ والمِعراج؛ فالعلمُ والدِّين، كما استقى النَّبيه محمَّد عبد المنعم فوكس، "لا يتبادلانِ (على أقلِّ تقديرٍ) مشروعيَّة الإثبات، إذ إنَّ كلَّاً منهما حقلٌ بذاتِه ودالٌّ على نفسِه"؛ وهي نظرةٌ متطابِقة مع رأي إستيفن جاي غولد، ولكنَّنا سنمضي أبعدَ من ذلك، بترجيحِ كفَّةِ الحقِّ، ولا تماثلِه مع الحقيقة.



كان من المفترض أن نتناولَ أوَّلاً مساهماتٍ وصلتنا من عبد الواحد ورَّاق، والسِّر السَّيِّد، وفوكسَ نفسِه، إضافةً إلى عددٍ من التَّعليقاتِ الإيجابيَّة الأخرى، ولكنَّنا ارتأينا التعجيلَ بتناولِ الرَّأيِّ الحَسَنيِّ لمحمولاتِه السَّلبيَّة المفيدة، وحتَّى لا تكونُ تلك التَّعليقاتِ حجاباً حاجزاً يمنعُ الانتفاعَ بمردودِه النَّقديِّ السَّالب؛ ولكنَّ عزاءنا الوحيدَ أنَّ تعليقَ ورَّاقٍ قد وجد طريقه إلى موقع "سودانيزأونلاين"، حيث نشر النَّصري أمين علي النَّصري، ابنُ أمِّيَ الثَّانية، صفيَّة بنت البدوي سليمان كركساوي، خيطاً (أو بوستاً) يعقدُ مقارنةً شيِّقة بين محمَّد أمين وبائعةِ زهورٍ التقاها عبد الواحد على قارعةِ الطَّريق في كولمبس، بولاية أوهايو الأمريكيَّة.


محمد خلف

صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وجاء تعليق حفي مضغوط من د. نور الدين مقلد على مجمل حلقات "من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد" كالآتي:


من أي بحر يغترف هذا الإنسان المدهش... لا أشك مطلقا أنه يسقي من بحر الحق... وكل بحر له في الأرض أو في السماء... تحياتي.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

محمد خلف ينظر إلى فكرة وعمل لجنة إزالة التمكين من زاوية، إستراتيجية، غير دارجة:



استرداد المال العام واستعادة الزَّمن الضَّائع: استراحة "زمكانيَّة" قصيرة




تعمل لجنة إزالة التَّمكين ليلَ نهارَ لاستردادِ المال العام وإعادةِ الأصول المُعتدى عليها إلى أصحابها الأصليين، وهو جهدٌ مُقدَّر ننتظرُه بفارغِ الصَّبر، ونتسقَّطُ أخبارَه من خلال التَّنوير الأُسبوعي الذي تُقدِّمُه اللَّجنة؛ إلَّا أنَّ ما يُمكِنُ أن يفوتَ عليها في زحمةِ العملِ المتواصل، هو فحصُ المفاهيم الذي قد يُؤدِّي غيابُه إلى انزلاقِ هدفِ الإزالةِ الأساسيِّ إلى محضِ إزاحةٍ، وتبديلِ دورٍ بدور؛ فنُصبِحُ "كأنَّنا يا بدرُ لا رُحنا ولا جينا" أو كأنَّنا قد ربحنا شوطاً وخسرنا آخرَ، من غيرِ أن نستثمرَ دقائقَ الزَّمنِ الضَّائع في تعديلِ النَّتيجةِ النِّهائيَّة. لن نقفَ كثيراً عند السِّياسة اليوميَّة، بل سنتعدَّاها في هذه الاستراحة الزَّمكانيَّةِ القصيرة إلى النَّحوِ العربيِّ وعلمِ الفيزياءِ الحديث، لاستكناهِ الدَّلالةِ العميقة لمفهوم التَّمكين (فدلالتُه المعاصرةُ معروفةٌ سلفاً لدارسي العلوم الاجتماعيَّة، قبل أن تختطفه الفئةُ الظَّالِمة في تفسيرها الذَّاتيِّ المُتعجِّل لآياتٍ قرءانيَّة في سورة الحج، وسورتَي الكهفِ ويوسف).

قسَّمَ سيبويهِ "أواخرَ مجاري الكَلِمِ من العربيَّة" إلى ثمانيةِ مجارٍ: أربعةٌ منها لحروف الإعراب، وهي الحروف المخصَّصة للأسماء المتمكِّنة (و"الأفعال المُضارِعة لأسماءِ الفاعلين")، وتشمل الرَّفع والنَّصب والجرَّ والجزم؛ أمَّا الأربعةُ الأخرى، وهي الضَّم والفتح والكسر والوقف، فقد خصَّصها شيخُ العربيَّةِ للأسماءِ غير المتمكِّنة، أي المبنيَّة بناءً لا تحيدُ عنه، بحيثُ لا يكونُ هناك أثرٌ ظاهرٌ للعاملِ عليها. ما يهمُّنا فيما ذهب إليه سيبويهِ هو أنَّ "تمكُّنَ" الأسماءِ قد اشتُقَّ من المكانِ أو الإمكان (وجِذرُهما واحد، وهو "ميم كاف نون")، لكي يؤدِّي مدلولُ السَّعةِ في المكانِ أو التَّوسُّعُ في الإمكانِ إلى الإيحاءِ بحرِّيَّةَ الحركة (الإعرابيَّة) أو الصَّرف (أي حُرِّيَّة التَّصرُّف)؛ بينما تنتفي هذه الحرِّيَّةُ في البناءِ، لأنَّه قد قُدَّ من نظامٍ موحَّدٍ أصمَّ لا يقبلُ الصَّرفَ أو التَّصرُّف. فكأنَّما الإعرابُ قد مَتَحَ من معينِ المكان، فاكتسبَ حُرِّيَّةً في الحركة، بينما التزمَ البناءُ بقيودِ الزَّمانِ التي تشِلُّ الحركة، إلَّا إذا جاءت وفقَ سَمتٍ بعينِه، مثل القيدِ الذي يُلزِمُ الزَّمانَ بالسَّيرِ بخطًى منتظِمةٍ من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، وليس لعكسِ ذلكَ حظٌّ فعليٌّ في الإمكانِ.

تواجه الفيزياء الحديثة نفسَ المعضلة في تعاملِها مع الزَّمان الذي لا يقبلُ التَّصرُّف، فتلجأُ إلى تليينِ عريكته بمعالجته على خلفيَّةِ المكان، وتحريكِ أسهمه بتصرُّفٍ كاملٍ على أسطحٍ مستويةٍ ثنائيةِ الأبعاد؛ فيتمُّ تسجيلُ حركته على صفحةٍ بيضاءَ أو سبورةٍ سوداءَ أو رسمٍ بيانيٍّ أو جدولٍ دوريٍّ أو معادلةٍ رياضيَّة أو حتَّى مصفوفةٍ سياسيَّة، "يسهرُ الخلقُ جرَّاها ويختصمُ". وعندما يتحوَّلُ الزَّمانُ إلى رمزٍ في معادلة، يسهُلُ توظيفُه للتَّكهُّنِ بالمستقبل؛ وبما أنَّ المعادلاتِ الفيزيائيَّة قابلةٌ على خلفيَّةِ المكان للقراءةِ العكسيَّة، فإنَّ حرِّيَّة التَّصرُّف في الزَّمانِ تُصبِحُ بلا حدودٍ تمنعُ سيرَه القهقرى، إذا أرادَ مَنِ استخدمَ المعادلةَ ذلك. كما أنَّ الرُّسوماتِ والجداولَ الثُّنائيَّةَ الأبعاد يُمكِنُ بسهولةٍ إيجادُ معادلِها الثُّلاثيِّ الأبعاد، والتي يُمكِنُ أيضاً تحقُّقها مادِّيَّاً في شكلِ نماذجَ إيضاحيَّةٍ بالغةِ الفائدة في إعانةِ التَّصوُّراتِ المجرَّدة. كما يُمكِنُ أيضاً – وهو ما قام به هيرمان مينكوفسكي – ضمُّ الزَّمانِ إلى المكانِ الثُّلاثيِّ الأبعاد، ليُشيَّدَ عليه بناءٌ رُباعيُّ الأبعاد، يسمحُ بدورِه بإقامةِ "زمكانٍ" (إسبيستايم") مستقلٍّ عن الإطارِ المرجعيِّ الذي تمَّ فيه سابقاً تسجيلُ الإحداثيَّات.

لن نستطيعَ في هذه الاستراحةِ القصيرة أن نُبيِّنَ مدى حرِّيَّة التَّصرُّف التي سمح بها وضعُ الزَّمانِ في كتلةٍ أو لَبِنَةٍ مكانيَّةٍ واحدة ("بلوك يونيفيرس") أو ما قاد إليه عموماً صياغتُه (أي الزَّمانُ) صياغةً هندسيَّةً ناجحة، لكنَّنا نستطيعُ في هذه العُجالةِ أن نُنبِّهَ إلى خطورةِ التَّصرُّف في المالِ العام، إذا لم نستعِدِ الزَّمنَ الضَّائعَ لتوظيفِه في نسفِ البنية المفهوميَّة للتَّمكين؛ ونستطيعُ أن نُنبِّهَ أيضاً إلى أنَّه قد يسهُلُ على حارسِ المالِ أمرُ الصَّرفِ من الخزينةِ العامَّة، إذا انعدمتِ القيودُ الصَّارمة أو قام الحارسُ بتسجيلِ هدفٍ في مرماه في الزَّمن الضَّائع، فيما كان الدِّفاعُ ينامُ "ملءَ جفونه عن شواردها".


محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

العزيز خلف،

ولأنني أرى أن هذه الحكومة الراهنة، هذه الحكومة الانتقالية، بشقيها المدني والعسكري، إنما هي "حكومة أمر واقع"، جاءت بسببٍ من تسويةٍ، أو، للدقة، بسببٍ من مساوَمةٍ، فربما يجب علينا - تلافياً للصدمة وما ينجم عنها من إحباط - ألا نتوقع منها - من الحكومة - الكثير من الإنجازات التي تنتمي لنَسْف البُنَى المفهومية للنظام السابق (وليس البائد؛ ذلك أن النظام - أي نظام سياسي - لا يغدو بائداً إلَّا إذا تمَّ نَسْف بُناهُ المفهومية، المادية والرمزية). أقول هذا لمناسبة عشمك في أن تتمتع "لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد المال العام" بعمق في النظر يُمَكِّنها من تجاوز فعل الاسترداد إلى فحص المفاهيم الذي من شأنه أن يقود إلى"نَسْف البنية المفهوميَّة للتَّمكين". عمق النظر/فحص المفاهيم الذي تعني يا صديقي خلف (والذي لا أشك في تميُّزك به) يغلب لديَّ الاعتقاد بأنه لم يفُت على اللجنة بسبب "زحمة العمل المتواصل"، وإنما لرجاحة الظن عندي بأنها لا تتمتع به بالأساس؛ وحتى لو وُجِدَ من يتميِّز به من أعضائها، فالغالب أن يجد نظره مقيداً - بسببٍ من الشرط التكويني العام للجنة - بالتركيز في البُعد السطحي أو ما نعته أنت بالإزاحة المحضة، أي الإزاحة والسلام!
لذلك فإنه ليس بوسعي أن أكون متفائلاً بهذا الشأن (كما بشؤون أخرى ليست قليلة على الطاولات المتعددة وذات المستويات المتفاوتة للحكومة)؛ ذلك أنني أرى أن طرفيْ المساوَمة، أي بعض ممن طلعوا في الكَفَر من بقايا النظام السابق، لا سيما من العسكريين، والسائد من قحت، إنما هم - جميعاً - جزءٌ أصيلٌ، بالغ الفاعلية، من أزمتنا العامة، التليدة والطارفة، بأوجهها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية. وأنت وأنا على يقين من أن الفاعلين في الحكومة من بقايا النظام السابق لن يطبزوا عينهم بأصبعهم كما لن يسمحوا بأن يطبزها غيرهم. وفي تقديري، نفس الموقف ينطبق على السائد من قحت. إنني هنا أعني أن الإطار المفهومي الذي أنتج، من بين ما أنتج، النسخة الكيزانية لمفهوم التمكين هو نفسه السائد في المهيمن من مكونات قحت.
نَسْفُ البُنَى المفهومية المهيمنة يقع على عاتق حكومة تمثِّل الثورة، وهي الخصيصة التي تفتقر إليها هذه الحكومة، رُغم أنها مُطعَّمة بأفراد لا نرتاب في انتمائهم للثورة؛ ذلك أن الحكومة - أية حكومة - تمثِّل الثورة لا تأتى عبر مثل تلك-هذه المساوَمة. ومتى كانت الثورة تساوِم؟
إذن، في واقع كهذا، بداهةُ فاقد الشيء لا يعطيه تبدو متوهِّطةً.
إذن، في واقع كهذا، بداهةُ التعويل على الممثلين الأُصَلاء للثورة - لجان المقاومة ومن يدعمهم - بأصالةٍ - من كيانات سياسية، منظمات عملٍ مدني وأفراد - هو ما يتعيَّن أن يتوهِّط في الأفئدة والأذهان، دون أن يعني هذا ألَّا ندعم كل توجُّهٍ، ذي وشيجةٍ صميمة بتراث وأشواق الثورة، من قِبَل الحكومة.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأربعاء مايو 20, 2020 11:32 am، تم التعديل مرة واحدة.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الطلقة ما بتكتل الشعراء

مشاركة بواسطة حسن موسى »




الطلقة ما بتكتل الشعراء

تحت عنوان :
"استرداد المال العام واستعادة الزَّمن الضَّائع: استراحة "زمكانيَّة" قصيرة"، كتب صديقنا محمد خلف الله :
.."
تواجه الفيزياء الحديثة نفسَ المعضلة في تعاملِها مع الزَّمان الذي لا يقبلُ التَّصرُّف، فتلجأُ إلى تليينِ عريكته بمعالجته على خلفيَّةِ المكان، وتحريكِ أسهمه بتصرُّفٍ كاملٍ على أسطحٍ مستويةٍ ثنائيةِ الأبعاد؛ فيتمُّ تسجيلُ حركته على صفحةٍ بيضاءَ أو سبورةٍ سوداءَ أو رسمٍ بيانيٍّ أو جدولٍ دوريٍّ أو معادلةٍ رياضيَّة أو حتَّى مصفوفةٍ سياسيَّة، "يسهرُ الخلقُ جرَّاها ويختصمُ". وعندما يتحوَّلُ الزَّمانُ إلى رمزٍ في معادلة، يسهُلُ توظيفُه للتَّكهُّنِ بالمستقبل؛ وبما أنَّ المعادلاتِ الفيزيائيَّة قابلةٌ على خلفيَّةِ المكان للقراءةِ العكسيَّة، فإنَّ حرِّيَّة التَّصرُّف في الزَّمانِ تُصبِحُ بلا حدودٍ تمنعُ سيرَه القهقرى، إذا أرادَ مَنِ استخدمَ المعادلةَ ذلك. كما أنَّ الرُّسوماتِ والجداولَ الثُّنائيَّةَ الأبعاد يُمكِنُ بسهولةٍ إيجادُ معادلِها الثُّلاثيِّ الأبعاد، والتي يُمكِنُ أيضاً تحقُّقها مادِّيَّاً في شكلِ نماذجَ إيضاحيَّةٍ بالغةِ الفائدة في إعانةِ التَّصوُّراتِ المجرَّدة. كما يُمكِنُ أيضاً – وهو ما قام به هيرمان مينكوفسكي – ضمُّ الزَّمانِ إلى المكانِ الثُّلاثيِّ الأبعاد، ليُشيَّدَ عليه بناءٌ رُباعيُّ الأبعاد، يسمحُ بدورِه بإقامةِ "زمكانٍ" (إسبيستايم") مستقلٍّ عن الإطارِ المرجعيِّ الذي تمَّ فيه سابقاً تسجيلُ الإحداثيَّات.

"
سلام يا عادل القصاص و محمد خلف الله
و شكرا يا محمد على المكاتيب الشيقة والشكر موصول لعادل فلولا مناولاته العامرات لفلت حديث محمد خلف الله من دائرة النظر العام.أولا بالتبادي اعتذر عن تأخري في العودة لهذا الخيط ،و كنت قد وقفت عند بعض جوانبه التي بدت لي ضربا من الشعر المستتر الذي لا يقول اسمه.و ربما كان في هذه الوضعية، وضعية تمويه الشعر في توريق الخطاب العالم [ ناس نظرية الكم و شنو و شنو ]بعض من كفاءة التعبير الشعري عند صاحبنا. قال" و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له"،[يس]، لكن مولانا منير العكش قال مرة أن إتهام العرب للنبي بقول الشعر دليل على أنهم خبروا الشعر خارج بحور الخليل بن أحمد.لكن بحور الخليل ذابت منذ آلاف السنين في لجة قصيدة النثر الما وراها ناس، و تعلمنا العوم ارتجالا في إلتباسات التراجمة الذين انتحلوا صناعة الشعراء و تمكنوا بالمنابر. و حين قلت بأن محمد خلف الله شاعر فقولي صادر عن فهمي للشعر كحالة وجودية تجسدها الشراكة المفهومية المؤقتة الهشة بين بصيرة تطلق الكلم لمخاطر القراءات المخاتلات و بصيرة قارئة تملك ان ترى في المبذول فرص حياتها ،[أو فرص موتها]فتحتفي به و تصعّده لمقام النجاة.طبعا مصيبة البصيرة القارئة تتلخص في كونها قمينة بتحرّي الشعر في اي كلام و السلام[ و الحرب ايضا]، و لو شاءت تلمّست الشعر في غير الكلام من معطيات الوجود و عوارضه. و هذا هو حال الـ"فاوند اوبجكت"
Found Object
في ممارسة التشكيليين المتأخرين[ناس "دادا" و شركاهم] الذين هم ، بسحر النظر الحديد، يؤهّلون اشياء الحياة العادية لتندمج في جمال الوجود.هسع يا عادل فيزياء محمد خلف التي تلجأ إلى تليين عريكة الزمان و الإعراب الذي يمتح من معين المكان، ديل لا مكان لهما من الإعراب إلا في بصيرة الشاعر. و ربما ، بسبب هذه الإستحالة، يستدرك محمد خلف نفسه ليقول لنا في نبرة إعتذار : » لن نستطيعَ في هذه الاستراحةِ القصيرة أن نُبيِّنَ مدى حرِّيَّة التَّصرُّف التي سمح بها وضعُ الزَّمانِ في كتلةٍ أو لَبِنَةٍ مكانيَّةٍ واحدة ("بلوك يونيفيرس") أو ما قاد إليه عموماً صياغتُه (أي الزَّمانُ) صياغةً هندسيَّةً ناجحة، لكنَّنا نستطيعُ في هذه العُجالةِ أن نُنبِّهَ إلى خطورةِ التَّصرُّف في المالِ العام، « ، فكأنما شعب السودان ـ حسب نظري الضعيف ـ يحتاج لإعادة صياغة قوانين الفيزياء لكي يتمكن من استرداد المال العام الذي سرقه الإسلاميون.و الله يا محمد لو رسلت كلامك الفوق دا لناس لجنة إزالة التمكين ما عندهم طريقة إلا يعملوا ليهم لجنة جديدة لإزالة شعر إزالة التمكين، و هكذا..
أقول قولي هذا و استغفر الله لي و لكم على سماجتي و إلحاحي و ما أنا بشاعر و لا ينبغي لي لكن كمان الواحد لازم يعمل حسابه من الشعراء.قالوا : "الطلقة ما بتكتل".
سأعود
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في هذا المقال، يواصل محمد خلف تأملاته في الزمان:


صهرُ السَّاعاتِ وتهشيمُها وإعادةُ ترتيبِ الوقتِ تأثُّراً بنسبيَّة الزَّمان



لم يكنِ العلماءُ وحدُهم هُمُ الذين سعَوا إلى تليين عريكة الزَّمان، فقد تبعهم في ذلك فنَّانون تشكيليُّون وروائيُّون وشعراءُ مُحدثون؛ أمَّا الفلاسفة، فقد تخبَّطوا في ذلك أيَّما تخبط، إلى أن تمكَّنتِ الفيزياء الحديثة، بدءاً من ماكس بلانك وألبرت آينشتاين، وانتهاءً بنيلز بور وأشبال ميكانيكا الكم في منتصف العشريناتِ من القرن الماضي (فيرنر هايزنبيرغ، ولفغانغ باولي، وإرفن شرودينغر، وبول ديراك)، من وضعِ توصيفاتٍ احتماليَّة للنِّظام الكمومي للجسيمات المتناهية في الصِّغر، ممَّا مهَّدَ الطَّريق إلى نجاحِ نموذجها المعياري (إستاندرد موديل) وانبثاق الأبحاث الحديثة التي تفترض وجوداً كموميَّاً للزَّمانِ نفسِه، مثلما تفترضُ آخرَ للمكانِ كذلك، من غير أن تجِدَ حتَّى الآنَ حلَّاً لمشكلة اللَّاتحدُّد وتسرُّبِ المعلومات من النِّظام الكمومي إلى البيئة المحيطة به؛ وهو ما يُعرَف بزوال التَّرابط الكمِّي (ديكوهيرنس).

في لوحة "إصرار الذَّاكرة" للفنَّان التَّشكيليِّ السِّيرياليِّ الإسباني، سلفادور دالي، تتناثرُ ثلاثةُ ساعاتِ جيبٍ (شبيهةٍ بتلك التي كان يستخدمُها جَدِّي بدوي سليمان كركساوي لِتُعينَه على إدراكِ الصَّلاة بمسجدِ الدِّعيتة واللَّحاقِ بالتُّرامِ عند وصولِه إلى محطَّة ود البنَّا) وقد اعتراها التواءٌ بسبب انصهار معدنِها، وقد عُلِّقت واحدةٌ منَّها على فرعِ شجرةٍ عارية، وواحدةٌ على حافَّةٍ عموديَّة تجلسُ عليها ذبابة، وأخرى في منتصف اللَّوحة على وجهِ وحشٍ باهتِ الملامح؛ هذا إضافةً إلى ساعةِ جيبٍ برتقالية رابعة على يسارِ اللَّوحة، وقد امتلأ سطحُها بسربٍ من النَّمل. وعندما سُئل دالي عن مدى تأثُّره بالنَّظرية النِّسبيَّة الخاصَّة برسمِه لتلك السَّاعات المنصهِرة، أجاب قائلاً إنَّه لم يتأثَّر بآينشتاين، وإنَّما استلهم تصوُّراً سيرياليَّاً لقطعةٍ من جبنة "الكاممبير" الفرنسيَّة وهي تذوبُ تحت أشعةِ الشَّمس. إلَّا أنَّنا، بالطَّبعِ، نأخد بالفحوى المُضمَّنة في السُّؤال، عِوضاً عن الإجابة التي ترسمُ بالكلماتِ مجازاً موازياً للَّوحةِ السِّيرياليَّة الشَّهيرة.

في رواية "الصَّخب والعنف" للكاتب الأمريكي، ويليام فوكنر، يختلطُ الماضي والحاضر ويمتزجانِ سويَّاً في ذاكرة "بنجي" لِينتِجَا تدفُّقاً من المُدرَكاتِ المُبهمة؛ هذا بخلاف أخيه "كِونتين" الذي أهداه والدُه ساعةَ يدٍ ورثها هو كذلك عن والدِه لكي ينسى الزَّمن وينعتقُ من إساره، إلَّا أنَّ السَّاعة الموروثة قد جعلته، بدلاً عن ذلك، لا ينسى ماضيه، بل تُضاعِفُ من إحساسِه بالإثم؛ فسعى لتهشيم السَّاعة لينفكَّ من قيدها، لكنَّها (أي السَّاعة) أخذت تدقُّ من غير تأثُّرٍ بحطامها أو أيديها المعدنيَّة المنزوعة. وعندما ذهب كِونتين" ليُغرِقَ نفسَه منتحراً، ترك السَّاعةَ المحطَّمة في البيت، إلَّا أنَّ إحساسَه المكثَّف بالزَّمن قد عجَّلَ بأن يدفع حياته ثمناً لما ارتكب من إثم. أمَّا الرِّوائي السُّوداني، الطَّيب صالح، في روايته الخالدة، "موسم الهجرة إلى الشَّمال"، فقد أعاد ترتيب الزَّمن وألانَ عريكته حتَّى يخدِمَ فكرته الرِّوائيَّة المُذهلة؛ فلو ترك الزَّمنَ يمضي وفقَ مسارِه المُعتاد، لاحتاجَ إلى راوٍ كلِّي العلم (أومنيسنت نريتر) يروي بضميرِ الغيبة، ولَاستحالت فكرةُ إبداعِ الرَّاويَيْنِ البطلَيْن، بتداخلهما وتبادلهما الأدوارَ بشكلٍ يُسبِّبُ الدَّوار، ولضاعت نكهةُ الرِّواية المميَّزة، وانتفت حداثتُها التي جعلتها تقفُ منفردةً بين الرِّوايات.

لا نحتاجُ أن نتوقَّفَ كثيراً عند علاقة الشُّعراء المحدثين بالزَّمان، بل يكفي أن نتطرَّق إلى رؤيةِ رائدَيْنِ من روَّاد الحداثة الشِّعريَّة الغربيَّة والعربيَّة: تي إس إليوت، وعلى أحمد سعيد (أدونيس). في المقطعين الشِّعريين الثَّالث والرَّابع من قصيدة: "أغنيةُ حبٍّ لـِ جي ألفريد بروفروك"، يركِّز إليوت على إحدى معاني الزَّمان وهو المدَّة، لِيشحنَها بفوقِ ما تسِعُ من وقت، وبفوقِ ما تحملُ من دلالات: "هناك وقتٌ لمئاتِ التَّردُّدات؛ ووقتٌ لمئاتِ الرُّؤى والمراجعات"؛ فـ"في دقيقةٍ واحدة، هناك وقتٌ للقراراتِ والمراجعاتِ التي سيُبطِلُ مفعولَها دقيقةٌ واحدة"؛ إلى أن يقول "قد عرفتها كلَّها سلفاً؛ عرفتُ الأماسي، والصَّباحاتِ، والآصال؛ وقد قِستُ حياتي بملاعقِ القهوةِ الصَّغيرة". وفي كتابِه الموسوم: "زمن الشِّعر"، يقول أدونيس: "إنَّ الشِّعرَ هو أقلُّ أنواعِ الفنونِ حاجةً إلى الارتباطِ بالزَّمانِ والمكان، لأنَّه في غيرِ حاجةٍ إلى موادَّ محسوسة".

قلنا إنَّ المدَّة معنًى من معاني الزَّمان، وهناك تعاقب الأحدات، وطرق قياس الوقت، واللَّحظة الحاضرة، وهي، على وجهِ التَّحديدِ، صعبةُ المِراس، ولا تلينُ عريكتُها إلَّا لذوي الدِّربة في الخلاوي والمعابد وذُرى الجبال. من حقِّ الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانت، أن ينظُرَ للزَّمانِ باعتباره شكلاً نقيَّاً لما يُدرَكُ بالحواس؛ ومن حقِّ إدموند هوسيرل أن يسلك سبيلاً ظاهراتيَّاً لتصوِّرِه (أي الزَّمان)؛ كما من حقِّ مارتن هايدغر أن يرى فيه أفقاً للكينونة. من جانبٍ آخرَ، في مقدور المعادلات الفيزيائيَّة أن تعكس مسار الزَّمان؛ كما في مقدور إسحق نيوتن أن يفترض زماناً ممتدَّاً إلى ما لا نهاية، مثل المكان، ليُقيمَ عليه لاحقاً آينشتاين، بعونٍ من هيرمان مينكوفسكي، هندسةً للزَّمكان. إلَّا أنَّ أخطر ما يقومُ به السَّاعون إلى توحيد الجاذبيَّة وميكانيكا الكم هو النَّظرُ إلى الزَّمان (والمكانِ كذلك) في مستواه الكمومي (من "كوانتم")، ممَّا يعني تسرُّب المعلومات الخاصَّة بهما إلى البيئة المحيطة، وتأثُّرهما بمبدأ الرِّيبة وزوال الترابط الكمِّي.


محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

لمناسبة مليونية ٣٠ يونيو المُزمَعة، محمد خلف يكتب:


الشَّعب يُريدُ دولةً لا مزيد: فحرفُ سوف للتَّسويف، وهذه الثَّورة لا تليقُ فقط بحرفِ سينٍ عربي، وإنَّما ..



للحادبين على مستقبل السُّودان، وللمهمومين بأمرِ هذه البلاد العظيمة ولا وقتَ لديهم لإكمالِ هذا المقال، وللذين يكتفون منَّهم بما قلَّ ودلَّ، نودُّ أن نُطمئنَ الجميع بالقول إنَّنا سئمنا من المماطلة، ونُريدُ أن نقضي على لعبة التَّلكؤ، بمطالبة الحكومة الانتقاليَّة وتقويتها في ذاتِ الوقت للإسراعِ الفوري بتنفيذ مطلوبات الثُّوار؛ عِلماً بأنَّنا لسنا غافلين عن أخطار المتربِّصين بالبلاد أو مخاطر الوباء الذي يُحدِق بها؛ فبالتنظيمِ يُمكِنُ صدُّ الأخطار، وبالحذرِ يُمكِنُ درءُ المخاطر.

الكل يعلم أنَّ مبادئ الثَّورة واضحة، وقد تمَّ تلخيصها إبَّان الحَراك الشَّعبي في شعارٍ سلسٍ ذي ثلاثِ شُعَب: حرِّيَّة، سلام، وعدالة؛ وقد ضرب التَّسويفُ هذه الشُّعَبِ الثَّلاث في مقتل. ففي شُعبةِ الحرِّيَّة، ما زالتِ القوانينُ السَّابقة تُقيِّدُ مسيرةَ الشَّعب الذي خرج ضد الطَّاغوت؛ وفي شُعبةِ السَّلام، ما زال الإخوة الأعداء في جوبا يُطيحون بأحلامِ الشُّعوب في العيش بسرعةٍ ضمن مناخٍ سِلميٍّ آمن؛ وفي شُعبة العدالة، مازال الطُّغاةُ في الأسْرِ، بينما تشتكي أُسَرُ الشُّهداء لطوبِ الأرض من أجلِ انتزاعِ حقوقِ أبنائهم قُدَّام أيِّ قاعةِ محاكماتٍ جنائيَّةٍ عادلة، بدءاً من محاكم الدَّاخل البطيئة وحتَّى منصَّات الأمم المتَّحدة في جنيف.

مع ذلك، يُمكِنُ تلخيص الشِّعار الثُّلاثي في شُعبةٍ واحدة: الشَّعبُ يُريدُ دولةً لا مزيد؛ فالدَّولة "سِت الاسم" هي دولةٌ بلا رتوشٍ ولا مُسمياتٍ مخاتلة أو توصيفاتٍ أيديولوجيَّة خادعة، فالمفردةُ العامَّة اسمُ جنسٍ لآليَّةٍ تشريعيَّةٍ وقضائيَّةٍ وتنفيذيَّة حديثة، تضمنُ تقنين الحرِّية لكلِّ المواطنين، وإفشاءَ السَّلام بين ربوعهم، وبسط العدالة لكلِّ فردٍ أو جماعةٍ منهم. هذا فيما تهتمُّ الدَّولة الدِّينية بصياغةِ وهيمنةِ أحكامٍ تُرضي المعتنقين لديانةٍ بعينها، بينما تهتمُّ الدَّولة العلمانية ببسط أحكامٍ تُرضي قطاعاً كبيراً من المؤمنين وغير المؤمنين، لكنَّها تكشفُ عن نبراتٍ وتضميناتٍ لا تُرضي إلَّا المؤمنين أيديولوجيَّاً بجدواها.

ما نقترحُه هنا، ونعتقدُ أنَّه سيُرضي الجميع، هو دولةٌ بلا مزيدٍ أو مزايدات؛ دولةٌ خالية من التَّضمينات الآيديولوجيَّة المُشتِّتة، وعاريةٌ من كلِّ نبرةٍ إقصائيَّةٍ مُنفِّرة؛ دولةٌ تهيؤ أجهزتُها التَّنفيذيَّة المستقِلَّة مناخاً لإقامةِ انتخاباتٍ حرَّة نزيهة، تُمكِّن حزباً منفرداً أو تحالفاً حزبيَّاً من تطبيق رؤاه الآيديولوجيَّة لفترةٍ محدودة، قبل أن يعرِضَ نفسَه مرَّةً أخرى للشَّعب الذي يُقرِّر بشكلٍ قاطع، في كلِّ دورةٍ انتخابيَّة، مدى قبوله أو رفضه لتلك التَّوجُّهات المؤقَّتة، والتي لن يكونَ في مقدورها نقضُ الوفاقِ الدُّستوريِّ الذي تمَّ الاتِّفاقُ عليه مُسبَقاً في استفتاءٍ عام أو مؤتمرٍ دستوريٍّ شامل لم يستثنِ جهةً ساهمت، ولو بجهدٍ يسير، في إنجاح الثَّورة.

لم تحظَ البلادُ طيلة تاريخها بالتَّمتُّع بدولةٍ بلا زوائدَ تنتقِصُ من نقائها المفهومي؛ فدولة الحكمِ الثُّنائيِّ لم يكن يحكمُها رئاسةٌ واحدة فقط، بل انفرط عِقدُها التَّنفيذيُّ إلى جهازين: جهازُ دولةٍ كلاسيكيٍّ يُديرُه المستعمِرُ الأوروبي، بتحكُّمِه في المال والإدارة والجيش والشُّرطة والسُّجون وقلم المخابرات؛ وجهازُ دولةٍ آيديولوجيٍّ يُديرُه الجارُ الشَّقيق، بتحكُّمِه في التَّعليم والتَّربية والمرافق الدِّينية والثَّقافية والأندية الرياضية، والصُّحف والمجلَّات العربيَّة والإذاعة والسِّينما المتجوِّلة.

هذا فيما حَفِلت فترةُ ما بعد الاستقلال بتناوبِ العسكر والصَّفوة في حُكم البلاد، حيث عمِلتِ الأولى على تركيز السُّلطات في يدِ فردٍ أو حفنةٍ من العسكريين المُهابين، بينما اضطلعتِ الثَّانية بتبديدِ الوقت وإهدارِ كلِّ إمكانيَّةٍ لإرساءِ دولةٍ مستقرَّة، إلى أن تضيعَ هيبتُها تماماً لِتجعلَها مرَّةً أخرى لقمةً سائغة لأيِّ عقيدٍ أو عميدٍ مقامرَيْن. وما يجعلُ الأمرَ مختلفاً والفرصة مؤاتيةً هذه المرَّة لبناء دولةٍ تليقُ بصانعي هذه الثَّورة العظيمة هو وعيُ شبابِها، وسِعةُ أفقِ القائمين على تنفيذِ التَّغييرات، رغم كثرةِ الصُّعوبات وتنامي العراقيل الموضوعة أمام طريقهم.

لذلك، يأتي الخروجُ في ٣٠ يونيو لدعم الحكومة ووفودِ السَّلامِ في جوبا، للانتقال بهما من حرف سوف للتَّسويف (بذريعةِ الاستقبالِ المحض)، لا ليكتفيا فقط بحرفِ سينٍ عربيٍّ للإنجازِ الفوري، فهذه الثَّورة العميقةُ الجذور تليقُ بحرفِ سينٍ إغريقي مربَّع، وهو ذلك الذي يرمزُ إلى سرعة الضَّوء في معادلة آينشتاين الشَّهيرة، حيث يُمكِنُ، بفضله وتوفيقٍ من الله، تحويلُ الكتلِ البشريَّةِ الهادرة في يوم 30 إلى طاقةٍ ثوريَّة هائلة، وتحويل الطَّاقة المتولِّدة من حَراكِ الملايين إلى تنميةٍ اقتصاديَّةٍ مُستدامة.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

صورة

ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة

محمد خلف



الدَّلالة، بحسب عالِمِ اللِّسانيَّاتِ السُّويسري، فيردينان دو سوسير، هي علاقةٌ قائمةٌ في العمق بين دالٍ ومدلول؛ وما دام الأمرُ كذلك، فيتعيَّن علينا ألَّا نُقلِّلَ من شأنِ أيِّ طرفٍ من طرفي التَّعريف (أي الدَّال، وهو التَّعبير الصَّوتي أو المكتوب؛ والمدلول، وهو الصُّورة الذِّهنيَّة)؛ وفي الغالب، يكون الدَّال، على أهميَّته القصوى، هو الذي يقعُ ضحيَّة هذا التَّقليل من الشَّأن، إن لم نقلِ الإهمالَ التَّام. فمَن مِنَّا توقَّف قليلاً ليتأمَّل عبارة "وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ" في سورة "هود"، الآية رقم 36؛ أو عبارة "مَا وَصَّى بِهِ نُوحَاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ" في سورة "الشُّورى"، الآية رقم 13. تنبيهاً لنا جميعاً وتفادياً لهذا الإهمال غير المقصود، ندعو القارئ المُستعجِلَ أن يتوقَّفَ قليلاً أمام الجِناسِ اللَّفظيِّ للدَّوال في الثُّنائيَيْن ["ألتوسير" و"التُّونسية"]، و[مصر والمصير]، ريثما نشرعُ لاحقاً في توضيح الدَّلالة المُستقِرَّة في أحشاء العلاقةِ القائمة بين كلٍّ من هذينِ الزَّوجَيْنِ اللَّفظييَيْن.

نبَّهنا في كتاباتٍ عديدة إلى أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في رفد وتطوير المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة. فالمفهوم الكلاسيكيُّ ينحصرُ في منظورٍ يتناولُ مصطلح "الدَّولة" باعتبار أنَّها أداةٌ (مُستقِلَّة أو طبقيَّة) لتنظيم المجتمع، استناداً إلى الإدارة العلميَّة، ووفرة المال، وقوَّة الجيش والشُّرطة، والتَّحكُّم في أنظمة السُّجون وأجهزة الاستخبارات (وإن أُضيفَ إلى هذه التَّرسانة الأمنُ السِّيبرانيُّ الحديث، فإنَّ الإضافة، على أهميَّتها، لن تخرُجَ بالأداة عن المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة). أمَّا ألتوسير، فإنَّه يؤكِّد على الدَّور الحاسم لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في تصريف شؤون الدَّولة الحديثة؛ وهذه الأجهزة تتمثَّل، حسب نظريَّته، في مؤسَّسات التَّربية والتَّعليم، ودواوين الثَّقافة، وأجهزة الإعلام، ودور النَّشر، والصُّحف والمجلَّات، والمرافق الدِّينية، والأندية الرِّياضية، والتَّنظيم الأُسري.

قد يحتلفُ كثيرٌ من علماء السِّياسة مع الفيلسوف الفرنسي، إلَّا أنَّ نشوء الدَّولة الحديثة في السُّودان، مع استكمال الغزو الاستعماري في أواخر القرن التَّاسع عشر، لا يُمكِنُ تفسيرُه إلَّا بعونٍ من نظريَّة ألتوسير؛ بل يُمكِنُ القولُ بأنَّ نظريَّته كان سيطالُها النِّسيان، لولا أن تهيأ لها في دولة السُّودان المصري الإنجليزي وضعٌ نموذجيٌّ للتَّطبيق. فبادئ ذي بدء، كان الحكمُ، بِحُكمِ اتِّفاقيَّة عام 1899، ثنائياً؛ ثمَّ سرعان ما تقاسَمَ الشَّريكان، بِحُكمِ الخصائص المتوفِّرة لدى الطَّرفين، أعباء السَّيطرة على البلاد. فاضطلع الشَّريكُ الأضعف بمهامِّ التَّرجمة، وكتابة المنشورات باللُّغةِ العربيَّة، والتَّعليم في المدارس الابتدائيَّة، والإشراف على المساجد، وإقامة المناسبات الدِّينيَّة (المولد والأعياد)، وتنظيم الفرق والأندية الرِّياضيَّة. هذا، بينما سيطر الحاكم العام، بسكرتيرَيْهِ الإداري (الذي كان بمثابةِ رئيسٍ للوزراء) والمالي، على أجهزة الدَّولة الكلاسيكيَّة (بدون تدخُّلٍ منه يُذكَرُ في إدارة أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة).

حاولنا التَّدليل في مقالاتٍ سابقة على قدرة الشَّريك الأضعف على التَّأثير بانتشارِ الكلمات الفرنسيَّة التي لا مُبرِّرَ لوجودها إلَّا لأنَّ لغةَ بلاد الغال (فرنسا وبلجيكا) قد أتت إلى مصرَ مع حملة نابليون الشَّهيرة، ومنها إلى بلاد السُّودان، عن طريق الشَّريك المهيمن على أجهزة الدَّولة الاستعمارية الآيديولوجيَّة. وبالرَّغم من أنَّ الكاتب الرِّوائي الكبير، الطَّيِّب صالح، قد استهجنَ في إحدى زياراتِه إلى السُّودان وجودَ لافتةٍ في مطار الخرطوم مكتوباً عليها ترحيباً باللُّغة الفرنسيَّة "بيا(نْ)فينو"، إلى جانب التَّرحيب باللُّغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، إلَّا أنَّ الكلمات الفرنسيَّة المُستخدَمة في العامِّيَّة العربيَّة في الخرطوم لا حصرَ لها. على سبيل المثال، يستحِمُّ شابٌّ أنيقٌ من ساكني الأحياء الرَّاقية بصابونٍ ("سافون"، وليس "سوب")؛ ويرتدي قميصاً ("شيميز"، وليس "شيرت")؛ وبنطلوناً ("بنتالون" بالمفرد، وليس "تراوزرز" بالجمع)؛ ويجلس هُنيهةً على الصَّالون ("سالون"، وليس "ليفينغ روم")؛ ليتناولَ كأساً من الأناناس ("أناناس"، وليس "باينابل")؛ قبيل أن يخرج، فتطأ قدماه الرَّصيف ("تروتوار"، وليس "بيفمنت").

إلَّا أنَّ ما ذكرناه هو مجردُ عددٍ من الكلمات؛ وكنَّا نبحثُ عن عباراتٍ أو جملٍ كاملة، حتَّى نستيقنَ من صِحَّة ما نقول؛ وما كان يقفُ أمام طريقنا غيرُ نضوبِ المعرفة باللُّغة الفرنسيَّة وقلَّةِ المتعاونين معنا في هذا الشأن، على كثرةِ خرِّيجي شُعَبِ اللُّغةِ الفرنسيَّة بجامعاتِ البلاد، وازديادِ عددِ المستوطنين السُّودانيين بالمدنِ الفرنسيَّة. إلى أن ظهرت معضلةُ "التُّونسيه"، في عبارة "رِكِب التُّونسيَّه" الدَّارجة، والمُنتشِرة في دردشات الإنترنت. وهي عبارةٌ عن عربةِ "كومر" قديمة لشرطة الخرطوم، مكتوباً على واجهتها كلمة "التُّونسيَّه"؛ وكان يُظنُّ أنَّ المقصود بهذه الكلمة شركة الطَّيران التُّونسيَّة، إلَّا أنَّ ما يُكذِّبُ هذا الظَّنَّ هو أنَّ طائرات الخطوط الجوِّيَّة التُّونسيَّة قد اشتُهِرت بحُسنِ أدائها ونظافتها، وهذه عربةٌ مهترئة لنقلِ المعتقلين بواسطة الشُّرطة العاصميَّة؛ كما أنَّ العبارة تُستخدَمُ كنايةً عن "وقوعِ المرءِ في شرِّ أعمالِه"، وليس كنايةً عن تمتُّعه برحلةٍ مريحة تُسيُّرها شركة طيران عربيَّة مرموقة.

وتفسيرُنا، وهو ما نعتبرُه "دليلاً دامغاً" (إسموكينغ غن) يأتي من التَّأثيرِ المنسيِّ للُّغةِ الفرنسيَّة في السُّودان، باعتبارها عنصراً مُكوِّناً لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة، التي تسرَّبت بشكلٍ ناعمٍ إلى عاصمةِ البلاد عبر حاملها الأساسي، وهو الشَّريكُ الأضعف في الحُكمِ الثُّنائي لبلاد السُّودان. فالعبارة هي في الأساس جملةٌ فرنسيَّة في غايةِ التَّعقيد، لا يلمُّ بها إلَّا من خَبِرَ دروبَها النَّحويَّة الشَّائكة؛ ونحنُ لا ندَّعي لأنفسِنا هذه المعرفة العميقة، ولكنَّا كمواطنينَ محظوظينَ ببلوغِنا الرُّبعَ الأوَّل من القرن الواحد والعشرين، قد استعنَّا بمجهوداتٍ مُدَورَنةٍ (إيفولفد) من غوغل. ضمير الجمع للغيبة (إل) باللُّغةِ الفرنسيَّة يُشيرُ إلى الذُّكور، وهو ما يَلقَى تغضيداً باضطلاع الرِّجال بالخدمة الشُّرطيَّة في العاصمة المثلَّثة؛ والضَّميرُ الشَّخصيُّ المُدغم (تـ"و")، قد استُخدِمَ عِوضاً عن ("فو")، إمعاناً في الازدراء بالمقبوض عليهم وإهانتهم بالمخاطبة غير الرَّسميَّة؛ والحرف المدغوم ("تـ") مع "أو(ن) الأنفيَّة" يُصبح "تون"، بمعنى يحتفظون بكم لديهم؛ والظَّرف ("سي")، بمعنى هكذا؛ لِتُصبح الكلمة (الجملة الفرنسيَّة الكاملة) على واجهة العربة "التونسيه" (بدون تاء مربوطة، إشارةً إلى وجود مدَّة بعد الياء)، بمعنى، "سيرمون بكم في هذه العربةِ هكذا"؛ ولِتُصبح عربة الكومر، وليس شركة الطيران "التُّونسيَّة"، "ضبطيَّةً" أو "حراسةً" متحرِّكة يُوضع بها معتقلون، لا براءةَ لهم إلى أن تتمَّ إدانتهم (حسب القاعدة الجنائيَّة المُتَّبعة)، فهم مُدانونَ ومرذولونَ مُسبقاً بالعبارةِ الفرنسيَّةِ الجارجة: "التونسيه" (فالهمزةُ التَّحتانيَّة لا يحفلُ بها أحدٌ؛ وهو ما جرت عليهِ العادةُ إلى وقتِنا هذا، مع توفُّرِ كلِّ التَّسهيلاتِ اللَّازمة في لوحاتِ المفاتيح "الكيبوردات" الحديثة).

سنحاول أن نُكمِلَ التَّحليل بالتَّركيز على الثُّنائية الأخرى في حلقةٍ مُقبِلة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

على إثر قراءة صديقنا سيد أحمد بلال لنسخة الواتساب من هذا المقال، ندَّ عنه:


"يا سلام يا محمد
تتبع ورصد حتى جحر الضب
يا أخي هذا عمل يفكك ما في الذاكرة نفسها الى وحداته الاولى
وأظنك قد اتيت بهذا كله تعضيدا ودعما للجانب الأضعف -الأقوى (ان دقق ورصد قواه المادية والمعنوية ) في ثنائية الحكم الحالي في بلادنا".
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة

(بمثابةِ حلقةٍ ثانية)

محمد خلف



أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة لا تقتصرُ فقط على رفدِ وتطويرِ المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة، وإنَّما تتعدَّاه، في نظرنا، إلى تنصيب التَّاريخ الثَّقافيِّ نفسِه صنواً للتَّاريخ السياسي؛ وكلاهما، من منظوره، أي ألتوسير، يشوِّشانِ على نقاء المفهوم الكلاسيكي، الذي يعتمدُ الاقتصادَ أساساً أوحدَ لبلورةِ أطروحاته. فمن الأشياء اليوميَّة المُعتادة، وليس بالضَّرورة الأحداث الضخمة الجِسام، يُمكِنُ التأسيسُ لتدوينِ تاريخٍ جديدٍ للبلاد، هو أقربُ إلى روحِ الشَّعب، وأبعدُ عن الأطروحاتِ التي تُردِّدُ بقلمٍ واعٍ لمقصدِه أحياناً، وفي مرَّاتٍ أخرى من دون وعي كافٍ منه، طريقة شوف الرَّحالة الأجانب والمُقيمين المؤقَّتين، وتبنِّي ملاحظاتهم العابرة أو القبول التَّام لها من غير تمحيصٍ نقديٍّ لِما جاء في مذكِّراتهم التي لا غنًى للباحثِ عنها، والتي تُضمِّنت في شكلِ وثائقَ ومتونٍ امتلأت بها رفوفُ المكتبات وخزانات دورِ الوثائق في المؤسَّسات الأكاديميَّة المحليَّة والأجنبيَّة.

على سبيلِ المثال، يُمكِنُ صياغةُ تاريخٍ حميم لجماعتَيْ أو طائفتَيْ الأنصار والختميَّة (وبالتَّالي، حزب الأمَّة والحزب الاتِّحادي الديمقراطي، إن لم نقُلِ الأحزابَ الاستقلاليَّة والاتِّحاديَّة) من خلالِ رصدِ الأنشطة اليوميَّة لدار الذِّكرى ببيتِ المال (والذي يُقرأُ فيه راتبُ الإمامِ المهديِّ مرَّتين يوميَّاً)، وقصر الشَّريفة الواقع على مرمى حجرٍ من الدَّار (والذي يُقرأُ في ساحتِه المولدُ يوميَّاً ويُختَمُ كلَّ خميس). كما يُمكِنُ كتابةُ تاريخٍ أنصعَ بتتبُّعِ الأنشطة اليوميَّة لِجَدِّي بدوي سليمان كركساوي؛ فقد كان يحتفظُ إلى جوارِ سريرِه (عنقريبه) بشيئين: مُصحفٌ مكتوب بخطِّ اليد، يتمُّ استلافُه من قبل سكَّانِ الحيِّ كلَّما أطلَّ في كَنَفِ أُسرةٍ صغيرةٍ مولودٌ جديد؛ ودفترُ الأستاذِ الكبير، الذي يُقيِّدُ في أسطرِه المُتتابِعة ما يصطلِحُ علماءُ الاجتماع على تسميته بالأزماتِ الاجتماعيَّة الأُسريَّة الأساسيَّة: ميلادُ طفلٍ، وزواجُ راشدٍ، وموتُ إنسانٍ أيَّاً كان عُمُرُهُ.

وعندما يُولدُ طفلٌ جديد في بيتِ المال، كان يُسمَّى، على سبيل المثالِ، محمَّداً أو فاطمة؛ مصطفى أو أسماءَ؛ أحمدَ أو رُقيَّة. وبتأثيرٍ ناعمٍ من الشَّريكِ الأضعفِ في الحُكمِ الثُّنائي، صار المولودُ يُسمَّى عادلاً أو فاتنَ؛ سامي أو سامية؛ مجدي أو ماجدة. وعندما يخطو راشدٌ أو تأتي القِسمةُ إلى راشدةٍ، كانتِ الخطوةُ تُكلَّلُ بالدَّلُّوكةِ والزَّغاريدِ النَّديَّة. وبتسلُّلِ ذاتِ التَّأثير، أصبحتِ المناسبةُ تُجَهَّزُ بالشَّاشاتِ وكاميرات السِّينما المُتجوِّلة التي تعرِضُ أفلاماً مصريَّة لمحمود شكوكو وإسماعيل يسن، تتخللَّها أُغنياتٌ خفيفة مرِحة وقفشاتٌ كوميديَّة تسرُّ النَّاظرين؛ هذا كلُّه قبل ظهورِ الفنَّانِ "الذَّرِّي"، إبراهيم عوض، بصوته الذي تحمله النَّسماتُ منذ أطرافِ اللَّيل، فيتقاطرُ حوله الفتيانُ والفتياتُ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب. وعندما ينتقلُ شخصٌ إلى رحمةِ ربِّه، كانت أيَّامُ المأتم تُجَلَّلُ بالقرآنِ، بصوتِ الشَّيخ عبد الباسط عبد الصَّمد والشَّيخ محمود الحصري، قبل أن يجدَ الشَّيخانِ الجليلانِ مشكاةً للتِّلاوة أو شرفةً للتَّرتيل، إلى جانبِ الشَّيخَيْن الكريمَيْن من شمالِ الوادي.

وإذا انتقلنا إلى التَّعليم، أي غير التَّعليم التَّقليدي في الزَّوايا والخلاوي، كانتِ المؤسَّسات التَّعليميَّة للشَّريكِ الأضعف تُنافسُ الأخرى التي تمَّ افتتاحُها حديثاً: من المداراس الأوَّليَّة (الأساس)، إلى الابتدائيَّة (المتوسِّطة)، ثمَّ الكلِّيَّات الثَّانويَّة (التي تطوَّرت لاحقاً إلى جامعة). وكان المدرِّسون المصريُّون همُ الذين يُشرِفون على تلك المدارس التي تمَّ افتتاحُها منذُ العقودِ الأولى للحُكمِ الثُّنائي. وكان طلاب كليَّة غردون ينقسمون إلى "أفنديَّة" و"شيوخ"، فاضطلعَ الشَّريكُ الأضعف بمهمَّة تربية النشءِ وتخريجهم "شيوخاً". وفي رواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال"، قاد شخصٌ يركبُ حصاناً ويرتدي بنطالاً وقُبَّعةً بطلَ الرِّواية، مصطفى سعيد، إلى مدرسةٍ فسيحة على شاطئ النِّيل؛ وعندما دخل الطِّفل (البطل) إلى الفصل، وجد المدرِّسَ يرتدي قفطاناً، فطاردته لعنةٌ قادته في نهاية المطاف إلى القاهرة ولندن (عاصمتَيِ الحُكم الثُّنائي)، ليكتوي بسعيرِ المأساة بقتلِه لشريكتِه الأولى، وشَرَكِه المنصوب، جين موريس.

وكان المتعلِّمون "يتثقَّفون" بقراءةِ الصُّحف والمجلَّات المصريَّة؛ ويستمعونَ إلى إذاعاتِ القاهرة قبل أن تُفتتحُ واحدةٌ في أمدرمان؛ ويُشاهدون الأفلام المصريَّة التي تُعرَضُ مساءً في دورِ العرضِ المحدودة؛ وكانتِ الخِيَمُ وصيواناتُ الطُّرقِ الصُّوفيَّة وسُرادقُ الحكومة يُشرِفُ على تزيينها ورسمِ خطوطِها عددٌ من الخطَّاطين المصريِّين؛ كما شارك أفرادُ البعثةِ المصريَّة في تأسيسِ الفِرَق الرِّياضيَّة، فلا عجبَ أن يُغيِّرَ الدِّكتاتورُ الثَّاني اسمَ فريقٍ منها في بيت المال من "فاروق" (الملك المخلوع في أعقاب "الثَّورة" المصريَّة) إلى "ناصر"، عند تنفيذِ قرارِ دمجِ الأندية، فضاع الفريقُ الوطنيُّ "الكراكسة" من جرَّاءِ هذا القرار المُجحِف؛ وكانتِ الأسطواناتُ الأولى لكرومة وزنقارَ وسرور تُطبعُ في القاهرة؛ وكان الشُّعراءُ يهفون للإقامةِ المؤقَّتة فيها؛ فلا غروَ أن تشرَّبتِ الحركةُ الوطنيَّة السُّودانيَّة، بجناحَيْها الاتِّحاديِّ والاستقلاليِّ معاً، إبَّان عهد الطَّلب في القاهرة، بروحِ الثَّقافة المصريَّةِ العميقة، إن لم يكن بتبدِّياتِها السِّياسيَّةِ الظَّاهرة على السَّطح.

لا نقولُ إنَّ للقاهرةِ أطماعاً في السُّودان، ولكن نقول إنَّ لها مرامياً واضحة في جنوبها منذ نشوء الدَّولة المصريَّة الحديثة في كَنَفِ الاستعمار؛ فإستراتيجيَّتُها الكبرى - التي أدَّت إلى مشاركة الوطنيِّين المصريِّين في حملة الغزو، ومن ثمَّ المشاركة في حُكمِ البلاد بدَورٍ محدود - قائمةٌ على حراسةِ الحدودِ الجنوبيَّة وتأمينِ مصادرِ مياه النِّيل. ولم يكن في مقدورها (بجُثُوِّ المستعمرِ على صدرِها) أن تقومَ بهذا العملِ وحدَها. وكان من حظِّ الحركةِ الوطنيَّة المصريَّة في أعقاب ثورة عرابي أن كان لدى المستعمرِ البريطانيِّ هدفٌ واحدٌ من وجوده في مصر، وهو حراسةُ حركةِ الملاحة في قناةِ السِّويس لضمانِ وصولِ البضائع من الهند، جوهرةِ التَّاجِ البريطاني. لوضوحِ هذينِ الهدفَيْن وأهميَّتهما الإستراتيجيَّة لكلٍّ من بريطانيا ومصر، كان من اليُسرِ عقدُ شراكةٍ، أو زواجِ مصلحةٍ، تبرمه وزارةُ الخارجيَّة البريطانيَّة بالاتِّفاقِ مع تركيا ومصر، التي كانت خاضغةً للسُّلطانِ العثماني، من غيرِ حاجةٍ إلى تدخُّل وزارة الحرب أو المستعمرات في هذا الشَّأنِ الدبلوماسيِّ الخاص. ومن هنا نشأ ما يُسمَّى بالحُكمِ الثُّنائي أو السُّودانِ الإنجليزيِّ المصري.

هذا ما كان بشأنِ تأسيس دولة الحكم الثُّنائي، ولكنَّ تطوُّرَه قد شابه صراعٌ دائم بين الطَّرفين، أدَّى إلى خصومةٍ سافرة، خصوصاً مع تتالي قدوم الحُكَّام الجدد من خرِّيجي جامعتَيْ أكسفورد وكيمبردج، ونمو الحركة المتصاعدة داخل المركز الكولونيالي لتفكيكِ جميعِ المستعمراتِ البريطانيَّة. وكان من جرَّاءِ هذه الخصومة أنِ استمالَ كلُّ طرفٍ قسماً من أقسامِ الحركةِ الوطنيَّة؛ فكانتِ المجموعاتُ الاتِّحاديَّة، بحُكم فكرتها الأساسيَّة، أقرب إلى مصر؛ بينما كانتِ المجموعاتُ الاستقلاليَّة، بشكلٍ مفارقٍ ومتناقضٍ، أقرب إلى بريطانيا؛ ولا يُمكِنُ تفسيرُ هذا القرب إلَّا برغبةِ الموظَّفين البريطانيِّين - لتأكُّدهم من المصير المحتوم للمستعمرات - ألَّا يتركوا في السُّودانِ وراءهم مستعمرٌ آخرُ، ولو تسربل بأزياءِ العروبةِ والإسلام أو الوحدةِ المصيريَّة لشعوبِ وادي النِّيل. وبالفعل، تسلَّلت هذه الخصومة بين الشَّرِيكين إلى الحركةِ الوطنيَّة النَّاشئة، فنشبَ بينها صراع، أُزيلَ في إحدى المرَّاتِ بالتَّوصُّلِ إلى صيغةٍ تصالحيَّة، يتمُّ بموجبها تعريفُ الحركة الوطنيَّة السُّودانيَّة بأنَّها "في اتِّحادٍ مع مصرَ وتحالفٍ مع بريطانيا".

هذا الوضعُ، على غرابته، لا ينتقِصُ من قامةِ الحركةِ الوطنيَّة الوليدة، بوجودِ كلٍّ من دهاقنة السِّياسة البريطانيَّة وإستراتيجييِّ السِّياسة المصريَّة، التي لم تتغيَّر ولن تتغيَّر؛ ولولا دهاءُ الأزهريِّ المُطابقِ لذكاءِ الشَّريكين، لتعثَّرَ نشوءُ الدَّولةِ السُّودانيَّة منذُ لحظةِ الميلاد. إلَّا أنَّ المشكلة ما زالت تُراوحُ مكانَها، فمصيرُ الدَّولةِ السُّودانيَّة مرتبط بمصيرِ مصر. وإذا لم تستصحبِ الدَّولةُ السُّودانيَّة ذكاءً ودهاءً أزهريَّاً يوميَّاً، ستؤدِّي الضَّوضاءُ المتصاعدةُ من الجانبَيْن في الإنترنت، وردودُ الأفعالِ غيرِ المراقبةِ في الصُّحفِ السَّيَّارة، إلى حدوثِ ما لا يُحمَدُ عُقباه. نحنُ واثقونَ بأنَّ أجهزةَ الاستخباراتِ المصريَّة تعملُ بمنتهى الحكمة، في مراعاةِ مصالحها، ولكنَّها قادرةٌ على اللُّجوءِ أحياناً إلى قعقعةِ السُّيوف، مثلما هو بائنٌ من مواجهتها للتَّهديدِ الإثيوبيِّ بملءِ سدِّ النَّهضة. فهل تتمتَّع أجهزةُ استخباراتِنا ودبلوماسيِّينا في أعقابِ الثَّورةِ بدهاءٍ وذكاءٍ أزهريَيْن؟؛ فإن لم يكنِ الأمرُ كذلك، وهو في الغالبِ ليس كذلك، فيجبُ الإسراعُ في هيكلةِ الأجهزة الأمنيَّة ووزارتَي الخارجيَّة والرَّي (مع ملاحظةِ أنَّ تسمية الأزهريِّ جاءت من نَيلِ شهادة "العالِميَّة" أو "المشيخيَّة" من الجامع الأزهر الشَّريف في مصر).

في الختام، نودُّ أن نُعبِّرَ عن احتفائنا بدحضِ تفسيرِنا في الحلقة السَّابقة لعبارة "التُّونسيَّة"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ إلَّا أنَّ أطروحتَنا الرَّئيسيَّة بصدد أهميَّة دور أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة ما زالت قائمة، وما طرحناه أعلاه يمضي أكثر في تعضيدِ هذه الفكرة الجوهريَّة التي استندت إلى تطبيقِ الفكرة على واقعِ نشأةِ الدَّولة وتطوُّرِها في السُّودان. وربَّما نشرحُ في حلقةٍ مُقبِلة ما نعني بالاحتفاء، الذي سيقودنا إلى جون إكِلِس، وكارل بوبر، وتوماس كون، وليونارد سسكند، ومنهجيَّةِ العلوم الطبيعيَّةِ والاجتماعيَّةِ معاً.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في السبت يوليو 11, 2020 4:13 am، تم التعديل مرة واحدة.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

"توْنَسَة "آلتوسير"

مشاركة بواسطة حسن موسى »



"توْنَسَة "آلتوسير"

سلام يا عادل القصاص و سلام يا محمد خلف الله.
كتبت يا محمد في حلقتك الأولى  حول ما اسميته بـ »معضلة » التونسية"تفسيرا لغويا اعتبرته "دليلا دامغا"و "سموكن قن"[ كذا]  في خصوص » التَّأثيرِ المنسيِّ للُّغةِ الفرنسيَّة في السُّودان، باعتبارها عنصراً مُكوِّناً لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة، التي تسرَّبت بشكلٍ ناعمٍ إلى عاصمةِ البلاد عبر حاملها الأساسي، وهو الشَّريكُ الأضعف في الحُكمِ الثُّنائي لبلاد السُّودان. »
ثم خرّجت على هذا الزعم نظرية بحالها في قراءة هذا التأثير السري على أساس عبارة » التونسية »
المكتوبة في واجهة سيارة أمامها رجل شرطة سوداني.:
"
فالعبارة هي في الأساس جملةٌ فرنسيَّة في غايةِ التَّعقيد، لا يلمُّ بها إلَّا من خَبِرَ دروبَها النَّحويَّة الشَّائكة؛ ونحنُ لا ندَّعي لأنفسِنا هذه المعرفة العميقة، ولكنَّا كمواطنينَ محظوظينَ ببلوغِنا الرُّبعَ الأوَّل من القرن الواحد والعشرين، قد استعنَّا بمجهوداتٍ مُدَورَنةٍ (إيفولفد) من غوغل. "
و قد قد اوقعك تعويلك التام على سيدنا قوقل في شر اعمالك لأنه اغواك بالإفتاء في ما ليس لك به علم.و أظن أن جل العارفين بالفرنسية قد وجدوا صعوبة كبيرة في فهم "تأويلك" البلاغي لعبارة" التونسية" في الصورة إياها.و بينما كنت ألكلك في عقلنة مخاطرتك "التونسية" كفيتني شر المعافرة بـ "إحتفاء" متأخر بتصحيح وصلك بخصوص صورة" التونسية".

و في الحلقة الثانية من مكتوبك كتبت يا محمد خلف : »
في الختام، نودُّ أن نُعبِّرَ عن احتفائنا بدحضِ تفسيرِنا في الحلقة السَّابقة لعبارة "التُّونسيَّة"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ إلَّا أنَّ أطروحتَنا الرَّئيسيَّة بصدد أهميَّة دور أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة ما زالت قائمة، وما طرحناه أعلاه يمضي أكثر في تعضيدِ هذه الفكرة الجوهريَّة التي استندت إلى تطبيقِ الفكرة على واقعِ نشأةِ الدَّولة وتطوُّرِها في السُّودان. « 
طبعا غلطة الزميل" فوتوشوب" لم تلهمك إحتمال أن اطروحتك الرئيسية بصدد دور اجهزة الدولة الآيديولوجية قد تنطوي على خلل مفهومي ما،فرميتنا بسلامتنا في كومر "التونسية" بينما سيدنا قوقل قاعد يراعي ساكت و يقول محمد خلف دا مالو مستكتر على قراء سودان الجميع مشقة البحث الجاد في سيرة الدولة و الآيديولوجيا؟
كتبت يا محمد خلف : »


نبَّهنا في كتاباتٍ عديدة إلى أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في رفد وتطوير المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة. فالمفهوم الكلاسيكيُّ ينحصرُ في منظورٍ يتناولُ مصطلح "الدَّولة" باعتبار أنَّها أداةٌ (مُستقِلَّة أو طبقيَّة) لتنظيم المجتمع، استناداً إلى الإدارة العلميَّة، ووفرة المال، وقوَّة الجيش والشُّرطة، والتَّحكُّم في أنظمة السُّجون وأجهزة الاستخبارات (وإن أُضيفَ إلى هذه التَّرسانة الأمنُ السِّيبرانيُّ الحديث، فإنَّ الإضافة، على أهميَّتها، لن تخرُجَ بالأداة عن المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة). أمَّا ألتوسير، فإنَّه يؤكِّد على الدَّور الحاسم لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في تصريف شؤون الدَّولة الحديثة؛ وهذه الأجهزة تتمثَّل، حسب نظريَّته، في مؤسَّسات التَّربية والتَّعليم، ودواوين الثَّقافة، وأجهزة الإعلام، ودور النَّشر، والصُّحف والمجلَّات، والمرافق الدِّينية، والأندية الرِّياضية، والتَّنظيم الأُسري. ».
 
يفهم القارئ من هذا الكلام أن مفهوم الدولة الموصوف بالكلاسيكي ينطرح في صورة الأداة المحايدة التي يتوسل بها من يملك أزمّة جهاز الدولة لتوجيه عمل الدولة وفق مصالح الطبقة المهيمنة على جهازها. كما يفهم القارئ من الإستطراد الذي يخص لوي آلتوسير أن ألتوسير اضاف لمفهوم الهيمنة الأداتية المتمثلة في جهاز الدولة مفهوما مستجدا للهيمنة الآيديولوجية.و هذا الفهم يغمط مولانا ماركس حقه في تحليل علاقة الدولة بالهيمنة الطبقية على مستوييها المادي و الرمزي.و في حقيقة الأمر فالتوسير استند على تحليل ماركس و استطرد على أثره مفصلا في دور مؤسسات الثقافة في تزييف الوعي الإجتماعي و تسويغ هيمنة آيديولوجية الطبقة القابضة على جهاز الدولة.و قد سبق آلتوسير بعض علماء الإجتماع مثل "ماكس فيبر" و " بيير بورديو" ،على أثر ماركس، في تحليل دور مؤسسات الثقافة في تسويغ الهيمنة الآيديولوجية.

أما القول بأن »نشوء الدَّولة الحديثة في السُّودان، مع استكمال الغزو الاستعماري في أواخر القرن التَّاسع عشر، لا يُمكِنُ تفسيرُه إلَّا بعونٍ من نظريَّة ألتوسير؛ بل يُمكِنُ القولُ بأنَّ نظريَّته كان سيطالُها النِّسيان، لولا أن تهيأ لها في دولة السُّودان المصري الإنجليزي وضعٌ نموذجيٌّ للتَّطبيق » .و القارئ النابه يفهم أن السودانيين انقذوا نظرية ألتوسير من النسيان » فدي يا محمد خلف لحقت فيها الحديث المفبرك :"إحذروا البرد فإنه قتل اخاكم أباذر".عشان مصر، الشريك الأضعف في الحكم الثنائي،كانت نفسها واقعة ـ و ما زالت ـ تحت تأثير آيديولوجيا الإستعمار، الآنجلوساكسوني. و تأثير الثقافة و اللغة الفرنسية في مصر لا يعول عليه في تهريب لغة موليير للسودانيين من وراء ظهر السلطات البريطانية. و بعدين كمان يا محمد التوسير دا ـ [ 1918 ـ1990]ـ كتب نظريته في "الآيديولوجيا و الجهاز الآيديولوجي للدولة" ـ سنة 1970 و استبعد انه استحضر أثناء كتابتها تاريخ الحكم الثنائي في السودان . فكيف يتهيأ لها وضع نموذجي للتطبيق في السودان؟

غايتو يا محمد خلف يبدو ان الخواجة "دوسوسير" و الخواجة "ألتوسير" ما بخارجونا و أهي قضيتنا بايظة و ما فضل لينا إلا بركات الأزهري صاحب الدهاء، او كما جرت عبارتك
:
" ولولا دهاءُ الأزهريِّ المُطابقِ لذكاءِ الشَّريكين، لتعثَّرَ نشوءُ الدَّولةِ السُّودانيَّة منذُ لحظةِ الميلاد. « .. » وإذا لم تستصحبِ الدَّولةُ السُّودانيَّة ذكاءً ودهاءً أزهريَّاً يوميَّاً، ستؤدِّي الضَّوضاءُ المتصاعدةُ من الجانبَيْن في الإنترنت، وردودُ الأفعالِ غيرِ المراقبةِ في الصُّحفِ السَّيَّارة، إلى حدوثِ ما لا يُحمَدُ عُقباه".
أها يا محمد ورينا "الدهاء الازهري" دا بيشتروه في ياتي اجزخانة؟ عشان ما يحدس لينا ما سيحدس و ندخل تاني في جحر الضب القالو سيدأحمد.سلام يا سيدأحمد.

سأعود
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

"توْنَسَة "آلتوسير"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

[size=24حذف للتكرار
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »


ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة

(بمثابةِ حلقةٍ ثالثة)

محمَّد خلف




عبَّرنا في الحلقةِ السَّابقة عن احتفائنا بدحضِ التَّفسيرِ الذي تقدَّمنا به لعبارة "التُّونسيَّه"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ وقلنا إنَّنا ربَّما نشرحُ ما نعني بالاحتفاء، الذي سيقودنا إلى جون إكِلِس، وكارل بوبر، وتوماس كون، وليونارد سسكند، ومنهجيَّةِ العلوم الطَّبيعيَّةِ والاجتماعيَّةِ معاً. ومبعثُ احتفائنا، الذي سنأتي إلى تفصيلِه بدءاً من الفقرةِ المُقبِلة، يأتي من أنَّ الكشفَ مُبكِّراً عن تعرُّض الصُّورة للتَّلاعبِ الرَّقمي قد أسدى لنا خدمةً كبيرة بدحضِ ما اعتبرناه "دليلاً دامغاً" (إسموكينغ غن) على تأثير اللُّغة الفرنسيَّة - باعتبارها مؤشِّراً على هيمنة الشَّريك الأضعف على جهاز الدَّولة الآيديولوجي – في اللُّغة العامِّية المُستخدَمة في عاصمة البلاد؛ فكلَّما كان الدَّليلُ المقدَّم قابلاً للدَّحض، كلَّما كان عِلميَّاً، بتعبير كارل بوبر. علاوةً على ذلك، فقد انهار دليلٌ واحد فقط، وبقيت أدِلَّةٌ كثيرة في جوفِ التَّفسير؛ وهي الأُخرى قابلةٌ للدَّحض، من غير أن تتأثَّرَ الفكرة الأساسيَّة، وهي سيطرةُ الشَّريك الأضعف على الجهاز الآيديولوجي لدولة الحكم الثُّنائي، التي ما زالت تُلقِي بظلالِها الكثيفة على تطوُّر الدَّولة السُّودانيَّة الحديثة.

في عام 1946، التقى عالِمُ الأعصابِ الأسترالي، جون إكِلِيز، بالفيلسوف النَّمساوي، كارل آر بوبر، في نادٍ للأساتذة بجامعة دَنِيدِن النِّيوزيلنديَّة، فأبلغه أثناء محادثتهما بالخلاف الدَّائر بشأن انتقال الإشارات عبر صدعِ التَّشابكِ بين الخلايا العصبيَّة (ساينابتيك كِليفت)، وانقسام العلماء إلى فريقين أحدُهما يرى أنَّ الانتقالَ يتمُّ كيميائيَّاً، وآخرُ على رأسِه إكِلِيز يرى أنَّ الانتقالَ يتمُّ كهربائيَّاً؛ وكانت كلُّ الدَّلائل تُشيرُ إلى أنَّ العالِمَ الأستراليَّ سيكونُ بين الفريق الخاسر، الأمر الذي أصابه بحالةٍ من اليأس والقنوط؛ فما كان من بوبر إلَّا أن حثَّه على الاحتفاءِ بدحضِ فرضيَّتِه، لأنَّ ذلك لن يمسَّ طريقة الوصول إلى نتائج البحث، وإنَّما يمسُّ فقط تفسير تلك النَّتائج، وأنَّ ما يقومُ به إكِلِس هو ممارسةٌ علميَّة من الطِّرازِ الأوَّل، بصرفِ النَّظر عمَّا تأتي به النَّتائج؛ كما طلب منه بوبر أن ينضمَّ إلى الفريقِ الآخر أو يُشرِفَ بنفسِه على دحضِ فرضيَّته الأولى، وهو ما تمَّ لاحقاً: فقد تمَّ على يد بيرنارد كاتز أوَّلاً دحضُ الفرضِيَّة الكهربائيَّة، وتأكيد انتقال الإشارات العصبيَّة المُستثارة عن طريق التَّوسُّط الكيميائي؛ إلَّا أنَّ إكِلِيز قد دعم أيضاً نظريَّة كاتز بإثبات أنَّ النَّواقل العصبيَّة المكبوتة تُساهِمُ هي الأخرى في تنظيم الإشارات عن طريق التَّوسُّط الكيميائي.

من حسنِ الطَّالع أنَّني تعرَّفتُ على طريقة بوبر إبَّانَ عهدِ الطَّلَب، وقد كان عنوانُ بحثِ تخرُّجي هو "حلُّ بوبر لمشكلة هيوم المتعلِّقة بالاستقراء". وقد اتَّبع كثيرٌ من العلماء طريقته، كما تبنَّاها لفيفٌ من غير العلماء، بينهم المُستثمِرُ المجريُّ-الأمريكيُّ الشَّهير، جورج سوروس. وقد حفِظني من الارتماءِ الكاملِ في أحضانِ نظريَّتِه، تعرُّفي على توماس كون عبر كتابه الأشهر: "بنية الثَّوراتِ العلميَّة"، وكتابه الآخر الأقلِّ شهرةً والذي نُشِرَ بعد مماته، وهو "ما بعد البنية". يقِرُّ كون، بشكلٍ عام، بطريقة بوبر؛ ولكنَّه يرى أنَّ العلوم لا تتطوَّرُ بتخلِّي العلماءِ سريعاً عن الفرضِيَّاتِ المُدحَضة، وهم أولئك العلماء الذين يُسمِّيهم ليونارد سَسكِند بالبوبراتسي، في إشارةٍ لاذعة إلى الباباراتسي، وهمُ الصَّحفيُّون الذين يُطاردون المشاهير، ويستعجلون النَّتائج بالاكتفاء، من غيرِ تمحيصٍ كافٍ، بمصادِرَ غير موثوقٍ بها عنهم أو صورٍ تُلتقطُ لهم على عجلٍ للتَّدليل بها على "حقائقَ" لا يَدعمها سياقٌ، فينشرونها للتَّكسُّب خارج حاكميَّة السِّياق.

يرى توماس كون أنَّ هناك نوعينِ من العِلم: عِلمٌ "عاديٌّ" يومي، يتطوَّر بالتَّراكم، ويعملُ تحت إطاره العلماءُ "العاديُّون" وفقاً لنظريةٍ عامَّة نُموذجيَّة (بارادايم)، لا يتخلَّى عنها المُشتغِلونَ بالعلمِ التَّجريبيِّ مهما تراكمتِ الإخفاقاتُ المختبريَّة التي لا يُوجَدُ لها تفسيرٌ في إطار الصِّيغة أو النَّظريَّة النُّموذجيَّة المُهيمِنة، إلى أن تصِلَ إلى الدَّرجةِ التي تُحدِثُ أزمةً في مجالِ الفيزياء؛ وحينها يبرزُ نوعٌ آخرُ من العِلم، وهو عِلمٌ استثنائيٌّ ينهض بمهمَّةِ تغييرِ الصِّيغة النُّموذجيَّة واستبدالها بأخرى، في ثورةٍ علميَّة تكونُ قادرةً على معالجةِ كلِّ الإخفاقات المختبريَّة السَّابقة، وتوسيع المدى التَّفسيريِّ للإطارِ النَّظريِّ الجديد، الذي سيُمارَسُ تحته، بعد حينٍ، عِلمٌ عادي يواجِهُ مُقبِلاً إخفاقاتٍ جديدة، تستدعي هي الأخرى، بعد نشوبِ أزمةٍ لاحقة، تغييراً يُؤدِّي إلى إيجادِ صيغةٍ جديدة؛ وهكذا تتطوَّرُ العلوم عن طريقِ القفزاتِ التي تُحقِّقها تحوُّلاتُ البرادايم، وليس فقط عن طريق تراكم المعارف العلميَّة المتفرِّقة.

من النَّتائج المنطقيَّة لهذه الرُّؤيَّة العِلميَّة الثَّاقبة أنَّ العلماء يتشبَّثونَ بنظريَّتهم العِلميَّة العامِلة مهما طرأ عليها من عيوب، وأنَّهم لا يتخلَّون عنها تماماً إلَّا إذا انبثقت نظريَّةٌ أخرى، أكثرُ نجاحاً في معالجة الإخفاقات، وأكبرُ مدًى تفسيريَّاً لتوسيعِ آفاقِ التَّطوُّر العلمي. وما نشاهده اليوم في علم الفيزياء ينهضُ دليلاً على ذلك؛ فمن جهة، يُوجد النُّموذج القياسيُّ لفيزياء الجُسيماتِ المتناهية في الصِّغر، الذي يعمل وفقاً لمقتضيات الفيزياء الكموميَّة؛ ومن جهةٍ أخرى، يُوجَد النُّموذج القياسيُّ لعلم الكونيَّات، الذي يعمل وفقاً للنَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة؛ وكلا النُّموذجَيْن موفَّقٌ في مجالِه، لكنَّهما متناقضانِ عند استخدامهما في تفسير الظَّواهر الفيزيائيَّة العامَّة، مثل الضَّوء والطَّاقة والجاذبيَّة. وقد سعى ألبرت آينشتاين حتَّى ساعةِ مماته إلى إيجادِ صيغةٍ نظريَّةٍ لتوحيد حقول الفيزياء، فلم يُوفَّق؛ كما حاول إستيفن هوكينغ المُضيَّ في نفسِ الطَّريق، فلم يُوفَّق هو الآخر؛ ويُمكِنُ تفهُّمُ جزءٍ من سعيِهِ هذا من مشاهدةِ فيلمٍ عن حياته، اختار له المخرِجُ عنواناً مُوحيَاً، هو: "نظريَّة كلِّ شيء"؛ وهي ما زالت حُلماً يُراود المشتغلين بالفيزياء، الذين ينتظرون بأنفاسٍ متلاحقة، نتائجَ التَّشغيل المتقطِّع لمصادم هيدرون الكبير في معهد "سيرن" بسويسرا.

ما نُريدُ أن نخلُصَ به من هذا التَّناول هو: لا أحدَ منَّا يملك الحقيقة كلَّها، بل يحتاجُ العلماءُ وغيرُهم من المُشتغِلين بالقضايا التي تهمُّ النَّاسَ إلى التَّمسُّكِ بآرائهم إلى أن يتَّضحَ أمام أعينهم بُطلانُها؛ كما يحتاجون إلى تفهُّمِ وجهات نظر الغير، والاستعدادِ لتقبُّلِها والدِّفاعِ عنها على مرأًى ومسمعٍ من الجميع، إذا ما ثبُتَ صِحَّتُها. وقد ظللنا في هذا الرُّكن (أو الخيط) نعتقدُ بأنَّ المعرفة جهدٌ جماعي، وأنَّ الحركة الثَّقاقيَّة لا تنمو بجهدِ المثقَّفين الأفراد وحدهم، إلَّا إذا انفتح أمامهم الفضاءُ الثَّقافيُّ الدِّيِمقراطي، الذي تتصارعُ فيه الأفكار، وليس الأفراد، وتُحترَمُ فيه كافَّةُ وجهاتِ النَّظر، إلى أنْ يتبيَّنَ، بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ القريب، بُطلانُ أيٍّ منها، من هذا الجانب أو ذاك.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأربعاء يوليو 15, 2020 5:09 am، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

حُذِفَ للتكرار. فمعذرة.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

سلام عادل وخلف

"نظرية كل شيء"، ما ذا عن نظرية "الأوتار"؟ ما هي وهل ستكون فعلاً جامعة مانعة كما يقول الفقهاء؟

مودتي لكما
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يرغب محمد خلف في أن ينوِّه إلى أن هذا المقال يدين للسؤال المُرَكَّب، الذي ورد في المساحة السابقة، لصديقنا الصداق إسماعيل:



نظرية الأوتار: مسعًى باسلٌ لإبداعِ لحنٍ متعدِّد الأنغام من دونِ عونٍ من عازفٍ منفرد

محمد خلف



لا نسعى، كما ليس في مقدورنا، أن نوفِّر للقارئ شرحاً أكاديميَّاً مطوَّلاً بشأنِ "نظريَّة كلِّ شيء"، سواءً انطلقت من النِّسبيَّة العامَّة أو ميكانيكا الكم، أو جاءت عبر فرضيَّاتِ جاذبيَّة الكم التي تسعى للجمعِ بينهما؛ ومن ضمن تلك الفرضيَّات، نظريَّة الأوتار التي تتقدَّم الرَّكب بإحيائها للأمل وتعزيزها للثِّقة في التَّوصَّل إلى نظريَّة فيزيائيَّة شاملة لكلِّ شيء. لا نسعى لذلك، وإنَّما نُريدُ أن نطرح المسألة في إطارِ سياقٍ يسمح بتناول المسعى العلمي البحت من منظورٍ فلسفيٍّ يُساعِدُ على إضاءة بعض الجوانب التي قد تُخفى على بعض المشتغلين بالعلمِ أنفسِهم.

عندما نقول "نظريَّة كلَّ شيء"، فإنَّنا نعني توحيد قوى الطَّبيعة الرَّئيسيَّة الأربع، وهي: الجاذبيَّة، والكهرومغنطيسيَّة، والنَّوويَّة بشِقَيْها القوي والضَّعيف، فيما هي تؤثِّر مجتمعةً وعلى حِدَةٍ على الجُسيمات المادِّيَّة المتناهية الصِّغر (الإلكترونات والبروتونات والنِّيوترونات والنِّيترينوات، بأنواعها المختلفة جميعها). بدأت بحوث الجاذبيَّة بشكلٍ جاد مع غاليليو غاليلي، وانتظمت في نظريَّة فيزيائيَّة مُقنِعة مع إسحق نيوتن، إلَّا أنَّه لم يتمَّ تفسيرها بصورةٍ حاسمة إلَّا عن طريق النِّسبيَّة العامَّة التي صاغها ألبرت آينشتاين في عام ١٩١٥. في المقابل، اضطلعت ميكانيكا الكم بتفسير القوى الثَّلاث الأخرى تفسيراً وافياً. ومع ذلك، فإنَّ كلتا النَّظريَّتَيْن النَّاجحتَيْن في مجالَيْهما بشأنِ تفسير قوى الطَّبيعة لا تُعضِّدانِ بعضَهما البعض، بل تتناقضان. ومن هنا نشأت الحاجة إلى دمجهما في نظريَّة شاملة قادرة على تفسير كلِّ قوى الطَّبيعة في معادلةٍ لا يتعدَّى طولها بضع بوصات.

في هذا المقال، سنصفُ كلَّ جهدٍ إنسانيٍّ لا يخشى من استخدامِ العقلِ إلى أبعدِ مدًى ممكنٍ بأنَّه باسلٌ، إلَّا أنَّ هذا الجهد سوف يُصبِحُ جهداً إبليسيَّاً مريداً إنْ هو تخطَّى بإرادةٍ ذاتيَّةٍ حدودَه وسعى إلى توظيفِ أوهى نتائجِه لأجندةٍ آيديولوجيَّة أو لأغراضٍ لا تمُتُّ إلى بسالةِ العقلِ بِصِلَةٍ مهما كانت واهية. فالحياةُ على ظهرِ هذا الكوكب مُواجهةٌ بتناقضٍ رئيسيٍّ يستدعي حلَّاً بتضافرِ كافَّةِ الأطراف؛ فمن جهةٍ، يبدو أنَّنا نحيا في كَنَفِ كوكبٍ عاديٍّ، ضمن نجمٍ عاديٍّ، في مَجَرَّةٍ عاديَّة؛ ومن جانبٍ آخرَ، يبدو أنَّ الحياةَ على متنِ هذا الكوكب قائمةٌ على عددٍ من التَّوازناتِ الفائقةِ الدِّقَّة، بحيثُ إذا اختلَّ توازنٌ بزيادةٍ أو نقصانٍ متناهي الصِّغر، لأصبحتِ الحياةُ غيرَ مُمكِنةٍ حتَّى "في خبر كان"، لعدم توفُّر متطلَّباتِها الأساسيَّة (كربون؛ أكسجين؛ هايدروجين؛ نتروجين؛ حديد) أو لاستحالة نشوء المجرَّاتِ نفسِها، وبالتَّالي عدم تكوُّن النُّجوم والكواكب، ومن ضمنها كوكب الأرض.

في البدء، أشارت هذه الوضعيَّة، التي تُسمَّى بالكونِ المثالي، بلسانٍ فصيح إلى مُصمِّمٍ بارعٍ لهذا الكونِ البديع. وتتعدَّد وتتنوَّع التَّوازناتُ الدَّقيقة التي قادت إلى نشوء هذه الوضعيَّة، بدءاً من كيفيَّة إنتاج الكربون داخل نَوَى النُّجوم (التي هي عبارة عن مفاعلاتٍ نوويَّة ضخمة)، ومروراً بكسرِ التَّماثل ونشوءِ القوى الرَّئيسيَّة بُعيدَ لُحيظاتٍ من "الانفجار العظيم" (وهو عبارة عن مفاعلٍ نوويٍّ تتضاءل أمام ضخامته المفاعلات النَّوويَّة داخل نَوَى النُّجوم)، وانتهاءً بأهمِّها، وهو ما يُعرَفُ بالطَّاقة المُظلِمة (وهي بخلاف المادَّة المُظلِمة) أو مضاد الجاذبيَّة أو الثَّابت الكوني (وهو بمثابة العدد واحد وأمامه 119 صفراً، فإذا نقص الرَّقمُ صفراً أو زاد عنه آخرُ في حجم الطَّاقة المُظلِمة، لتوقَّفَ تمدُّدُ الكونِ أو انطلقَ شارداً من غير أن تتمكَّن قوَّةُ الجاذبيَّة من إيقافِه مُطلقاً).

لا نستطيع أن نجزم بشكلٍ قاطع ما الذي دفع بعضَ العلماء إلى تبنِّي نظريَّة الأوتار: هل كان ذلك بدافعٍ من بسالةٍ عقليَّة لسبرِ أغوار التَّوازنات الدَّقيقة للكون أم هو تعدٍّ إبليسيٌّ (أو لابلاسيٌّ) سافر، نشِطَ عندما بدأت نظريَّة "الانفجار العظيم" تقودُ بِخُطًى ثابتة نحو تأكيد إبداعِ هذا الكون على يدِ مُبدعٍ حاذقٍ له؟ لكنَّنا سننحو نحواً إيجابيَّاً إزاء هذا الجهد العقليِّ النَّظري إلى أن يتبيَّنَ لنا تهافتُ دعوة أصحابه أو ينكشف لنا سِرُّ مخطَّطهم الآيديولوجي. خصوصاً، لأنَّنا نعتقد بأنَّه كلَّما كان التَّوازنُ محفوظاً، كلَّما تأكَّدت راهنيَّة الإيمان. فلو اختلَّ التَّوازنُ إيجابيَّاً، لبطلت قضيَّة الإيمان، لأنَّنا سنكونُ أمام مسألةٍ علميَّة لا تحتاجُ له، لأنَّها مُقنِعةٌ للجميع دون فرز؛ ولو اختلَّ التَّوازنُ سلبيَّاً، لعصفت به (أي الإيمان) تماماً، وتضاءلت الحاجة إلى فرضيَّة إله مبدِع للكون (مثلما جاء في زعمِ بيير-سايمون لابلاس أمام نابليون).

في عام 1921، اقترح ثيودور كالوتسا تمديد أبعاد النَّظرية النِّسبيَّة العامَّة الأربعة، بإضافةِ بُعدٍ ضمن مجالٍ ذي مقدارٍ بدون اتِّجاه (إسكيلر فيلد)، لتُصبح خمسة أبعاد، بدلاً من أربعة، حتَّى تُمكِّنَ ألبرت آينشتاين من حلِّ مشكلة توحيد المجالات. وفي عام 1926، اقترح أوسكار كلاين بأنَّ هذا البُعد الخامس يقع على المستوى الكمومي (نسبةً إلى ميكانيكا الكم)، وأنَّه ملفوفٌ ضمن دائرة أسطوانيَّة متناهية الصِّغر (نصف قطرها ناقص واحد يسبقه 30 صفراً من السِّنتمتر الواحد). ارتفع هذا العدد في نظريَّة الأوتار إلى 11 بُعداً. وبما أنَّ الكم المتناهي في الصِّغر يُمكِنُ أن يكون لَبِنَةً أساسيَّةً (بيلدينغ بلوك) للكون المتناهي في الكِبر؛ وبما أنَّ بدايات "الانفجار العظيم" قد صاحبتها فترة تضخُّم كوني، فإنَّ الأبعاد المتعدِّدة يُمكِنُ أن تكونَ مكاناً ملائماً لإيواءِ كونٍ متعدِّد (أو أكوانٍ متعدِّدة).

ضمن هذه الأكوان المتعدِّدة، يُمكِنُ أن تُحَلَّ معضلة التَّوازنات الفائقة الدِّقَّة، مثلما حُلَّت من قبلُ مشكلة التَّدورُّن (إيفولوشن)، وفقاً لآليَّة الانتخاب الطَّبيعي. فنحنُ، وفقاً لنظريَّة الأوتار التي تتبنَّى بشكلٍ متحمِّس فكرة الأكوان المتعدِّدة، موجودون على ظهرِ كوكبٍ ملائمٍ بشكلٍ فائقٍ للحياة، لأنَّنا لا يُمكِنُ أن نكون أحياءً على متنِ كوكبٍ لا يتمتَّع مثله بأفضلِ شروطٍ للحياة. فهناك أكوانٌ أو جيوبٌ كونيَّة لا حصرَ لها، وربَّما يكونُ لها قوانينُ فيزيائيَّة خاصَّةٌ بها، وربَّما تخضع هي الأخرى لنفسِ القوانين الفيزيائيَّة الكلِّيَّة الشَّاملة. وقد تكونُ هناك كواكبُ أخرى، ضمن جيوبٍ كونيَّة أخرى، لها شروطٌ مشابهة أو مماثلة لشروط الحياة على ظهر هذا الكوكب. كلُّ ذلك، على المستوى النَّظريِّ، ممكنٌ. إلَّا أنَّ التَّعويلَ على البرهنةِ أمرٌ واجب، ومهمَّة الإثبات تقعُ على مَنِ ادَّعى.

فإنْ كان هناك أحياءٌ في كوكبٍ آخرَ غيرِ كوكبنا، فأينَ هم (سؤال العالم الإيطالي إنريكو فيرمي)؟
وإنْ كان هناك أبعادٌ تفوقُ العشرةِ أبعاد، فأينَ هي (سؤالٌ مطروح بشكلٍ مُطَّرِد)؟
وفيما يتوازنُ هذا الكونُ بشكلٍ فائقٍ يفوقُ الخيال، ستستمرُّ الحاجةُ إلى مُبدِع.
وفيما ينحفِظُ التَّوازنُ بين اعتقادٍ واعتقاد، سيتعزَّزُ راهنيَّة الإيمان.
وهذا المسعى العِلميُّ الباسل، لإبداعِ لحنٍ متعدِّد الأنغام من دونِ عونٍ من عازفٍ منفرد، سيلقى مِنَّا كلَّ إعزازٍ واحترام، إنْ هو تمسَّكَ بالعروة العقليَّة البحتة، وانصرف عن التَّوظيف الآيديولوجيِّ البائس.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

شكراً يا خلف ويا عادل

أذكر أنني قرات شرح "للأبعاد" بطريقة مبسطة، لا أذكر أين ولكني أذكر أن الشرح
بدأ بأن طلب منّا الشارح أن نتخيل البعدين "الطول والعرض"، فشبّههما بالكائنات التليفزيونية
فهي تمتلك طول وعرض، مثل أن تَقُّصَ صورة من مجلة. وطلب أن نتخيل أننا نريد أن نسجن الكائن
التلفزيوني في سجن، فكل الذي علينا أن نفعله هو وضعه في مكان له ارتفاع سنتمتر واحد.
ولأنه لا يعرف الإرتفاع فلن يستطيع الهروب. ولأننا نملك بعد ثالث هو الإرتفاع فإننا لكي نهرب من
السجن العادي نحتاج بُعد رابع، ألا وهو الزمن، فلو ملكناه نستطيع أن نهرب بالرجوع أو التقدم في
الزمن إلى اللحظة قبل أو بعد السجن. بالطبع هذا الأمر يتعلق بطبيعة المكان، فمكاننا ثلاثي الأبعاد، ومكان
الكائنات التلفزيونية ثنائي الأبعاد.
والآن، نظرية الأوتار تقترح ١١ بُعداً. هذا يحتاج لفلم سينمائي لتصوره مثل Interstellar والذي قارب
موضوع "الأبعاد" بشكل غريب لم استوعبه حتى الآن بصورة واضحة.

وأخيراً، أشكرك على هذا الشرح وعلى عنايتك بأسئلتي، وأحياناً أتردد في طرحها خوف أن تغيّر خطتك في الكتابة،
أو تصرفك عن الاسترسال في موضوع معيّن، ولكني وجدت سؤال "نظرية الأوتار" مناسباً فطرحته
أضف رد جديد