منسي الطيب صالح و"شغل الأونطة".صلاح أحمد
منسي الطيب صالح و"شغل الأونطة".صلاح أحمد
"منسي" الطيب صالح... و"شغل الأونطة" في بالانجليزية
صلاح أحمد
عرض كتاب:
Mansi: A rare Man in His Own Way
الناشر: Banipal Books, London
ترجمة Adil Babikir
172 صفحة
"لا بَدُورَك لا بَحْمَل بَلاك" مثل عامي سوداني يصف الإنسان الذي يضيق ذرعا بشيء لكنه - في الوقت نفسه - لا يطيق صبرا على فراقه. هكذا بدا الأمر مع الروائي الشهير الطيب صالح إزاء صديقه المصري منسي يوسف بسطاوروس المعروف أيضا تارة باسم د. أحمد منسي يوسف وتارة أخرى باسم مايكل جوزيف... المسيحي الذي تزوج من ملته وأنجب أبناء مسيحيين، وأيضا المسلم الذي تزوج من ملته الأخرى وأنجب أبناء مسلمين.
والذين قرأوا كتاب "منسي – إنسان نادر على طريقته" (الصادرة عن دار رياض الريس البيروتية في 2005) لا يخامرهم شك - وإن أبدى الطيب في مواضع عدة ضيقه (غير الصادق) بصحبة منسي - في عمق الحب الصافي الذي كنّه لصديقه الذي كانت الحياة بالنسبة له "نكتة كبيرة وضحكة متصلة لا تنقطع"... الرجل الذي "مثّل على مسرح الحياة عدة أدوار: حمّالا وممرضا ومدرّسا وممثلا ومترجما وكاتبا وأستاذا جامعيا ورجل أعمال ومهرّجا". نفسه الرجل الذي "كان فقيرا معدما ولما مات ترك مزرعة من مائتي فدان من أجود الأراضي في جنوب انجلترا وقصرا ذا أجنحة وحكام سباحة واسطبلات خيل وسيارات رولز رويس وكاديلاك ومرسيدس وجاغوار، وأيضا مزرعة من مائة فدان في فيرجينيا بالولايات المتحدة ومطعما وشركة سياحة"... نفسه الصعيدي الفقيرالذي مضى ليتزوج ارستقراطية سليلة أحد أشهر الشخصيات التاريخية البريطانية، وتصبح له شؤون مع أناس من أمثال المؤرخ آرنولد توينبي والمسرحي صمويل بيكيت والملكة اليزابيث الثانية نفسها، وكل ذلك – حتى من منظور منسي نفسه – "حلبسة وشغل أوانطة".
لا غرو أن العديد من الناس ظنوا أن "منسي – إنسان نادر على طريقته" رواية أخرى للطيب صالح بينما هي سيرة حقيقية لشخص كاد يصبح توأم روحه ولعله كان كذلك فعلا. ولِم لا وصالح من جهته، رغم الشأو البعيد الذي بلغه، كان يصرّ حتى مماته على أنه مجرد "تربال" – مزارع بسيط – من قرية صغيرة على منحنى النيل في السودان.
الحظ يبتسم مرتين
من محاسن الصدف أن توفر لقصص الطيب صالح مترجم للانجليزية هو الكندي- البريطاني دنيس جونسون – ديفيز. وقد اكتسب هذا المستعرب سمعة دولية حسنة بفضل ترجمته الموفقة أعمالا لبعض كبار كتاب المنطقة أمثال نجيب محفوظ ومحمود درويش، حتى وصفه شيخ المثقفين العرب، إدوارد سعيد، بأنه "أفضل ناقل في عصرنا للأدب العربي الى الانجليزية".
على أن كتابات صالح غير الروائية تظل غائبة عن قارئ الانجليزية. ولكن، من محاسن الصدف مجددا، أن يلقي عادل بابكر، وهو مترجم سوداني مشهود له بإتقانه اللغتين ومعرفة ثقافتيهما وبالأمانة الأدبية في غير نشاف، بخبرته ووقته وجهده لينجز لذلك القارئ الترجمة الانجليزية لـ"منسي: إنسان نادر" التي أخرجتها الى المكتبات دار "بانيبال" (لندن) الشهر الحالي.
لماذا منسي؟
عبر "واتساب"، حاورت "اندبندنت عربية" من لندن المترجم في داره بالشارقة، أبو ظبي، وسألته بادئ ذي بذء عن سبب اختياره هذا الكتاب فقال: " لعل الافتتان بكتابات الطيب صالح هو الدافع الأول مضافا الى تعريف قارئ الإنجليزية بجانب آخر من جوانب إبداعاته. ذلك أن كل الذي نقل إلى اللغات الأخرى اقتصر على أعماله القصصية والروائية. ولعل الذين قرأوا الطيب يتفقون على أن كتاباته غير الروائية، حتى مقالاته السياسية وإخوانياته، لا تقل جمالاً عن كتاباته الروائية. والسر في ذلك أنه يستخدم تقنيات السرد بحذق عجيب لينسج لنا نصوصاً تنزلق في سهولة ويسر عبر الحدود الفاصلة بين تصنيفات الكتابة وتستعصي على القولبة. أي أنه يضفي على مقالاته مناخات القصة والرواية فلا تكاد تتبين أي ضرب من الكتابة هذا الذي بين يديك".
ويمضي بابكر ليسوق الدليل على ما ذهب اليه فيقول: "رأينا الجدل الذي أثاره كتاب منسي أول صدوره، إذ عدّه كثيرون في خانة الرواية، على الرغم من أن المؤلف ذكر كثيراً أن كل الأحداث الواردة في الكتاب وقائع حقيقية. وقد أرجعتُ هذا اللبس، في مقدمتي للكتاب، إلى هذا الأسلوب الفريد في الكتابة، إلى جانب شخصية منسي، التي جمعت كثيراً من صفات الشخصية الروائية.
نافذة إلى بعض خبايا المؤلف
من غير الممكن تقريبا أن يؤلف شخص كتابا بأكمله عن صحبته لشخص آخر بدون أن يرفع النقاب – سواء سهوا أو عمدا – عن قليل أو كثير من خبايا حياته هو أيضا. ويتفق بابكر مع هذا ويضيف: "الكتاب فرصة نادرة للإطلالة على جوانب من حياة الطيب الشخصية، إذ يحتوي على لمحات من سني عمله في هيئة الإذاعة البريطانية ومنظمة اليونسكو، وصلاته الشخصية مع بعض أهل وده في القاهرة وبيروت وغيرهما من المدن. هنا يبرز الطيب صالح للعلن بوجه سافر خالٍ من قناع المؤلف الروائي، على عكس حاله في كتاباته الروائية التي يصحبنا فيها راوٍ مجهول الاسم تجمع بينه وبين الطيب بعض القواسم المشتركة. ومن خلال تلك الإطلالة النادرة، نلتقي بكاتب يتمتع بقدر وافر من روح السخرية والدعابة".
السهل الممتنع
يحدثنا بابكر أيضا عن تجربته في ترجمة منسي فيصفها بأنها كانت "ممتعة للغاية لأن النص مكتوب بلغة سهلة أقرب إلى "الوَنَسَة" (الدردشة)، وهو أسلوب يتناسب مع جو النص وموضوعه. غير أن التحدي تمثل في كيفية الإتيان بنص يحمل شيئاً من ملامح النسج البديع الذي تحدثت عنه آنفاً. وقد وقعت في مواضع كثيرة فريسة للتنازع بين "الترجمة المرسلة" التي تهتم بفحوى النص وصياغته في لغة تناسب طرائق وأساليب التعبير في اللغة الإنجليزية، من دون التقيد الصارم بأساليب التعبير في النص الأصلي، وبين الاجتهاد ليس فقط في نقل أجواء النص ومناخاته بل ومحاولة "توطين" بعض "المحمولات الثقافية" أو إيجاد "محاضن" لها في اللغة الإنجليزية تستوعب النص المترجم يرتاح فيها كأنها سريره، حتى لا يفوت على القارئ شيء من ذلك. وأعتقد أن قارئ هذه الترجمة سيجد شيئاً من هذا ومن ذاك".
مقارنات
قد يذكر بعض القراء المهتمين بالشؤون الثقافية السودانية أن بابكر أصدر في خريف العام الماضي ترجمته القيّمة لقصائد من ثلاثين شاعرا وشاعرة ضمّها في كتابه Modern Sudanese Poetry – An Anthology (مقتطفات من الشعر السوداني الحديث). وكان قبل ذلك قد شارك في إصدار Literary Sudans (مقتطفات من أدبيْن سودانييْن). وهذا إضافة الى ترجمته أعمالا قصصية لكتاّب من مواطنيه أبرزهم عبد العزيز بركة ساكن (The Jungo – Stakes of the Earth "الجنقو - مسامير الأرض") وليلى أبو العلا (Summer Maze - متاهة كل صيف)، وعديدون غيرهما.
ولدى سؤاله عن مقارنة ترجمة "منسي" مع تلك الأعمال، رد قائلا: " تجربة ترجمة منسي مختلفة تماماً عن ترجماتي السابقة. فترجمة رواية الجنقو مسامير الأرض لبركة ساكن كتبت بلغة غارقة في المحلية وتطلبت مني جهداً إضافياً في فك طلاسم هذه اللغة ودلالاتها وأفضل السبل لجلوسها في قالب اللغة الانجليزية. كما أن نقل أجواء الرواية الموغلة في المحلية كان عملاً شاقاً. أما ترجمة الشعر إلى الإنجليزية فكان تجربة مختلفة تماماً بالطبع لاختلاف طبيعة النصوص ولتنوعها من شاعر إلى آخر. على أن القاسم المشترك بين كل هذه التجارب هي المتعة التي يجدها المترجم في "معاظلة" النصوص و"تخليق" نص موازٍ يحمل شيئاً من ملامح النص الأصلي. وبقدر اقترابه من أجواء النص الأصلي يقاس نجاحه أو فشله".
تقديم وثناء
في تقديمه للترجمة الإنجليزية، يقول الكاتب والصحافي والناقد البريطاني، بويد تونكن، إن هذا الكتاب "يظهر جانباً آخر من الطيب صالح غير مألوف للقراء الذين عرفوه من خلال روايته الأشهر "موسم الهجرة إلى الشمال". هذه (سيرة منسي) كتابة ممتعة في ذكرى صداقته مع شخصية متقلبة وجريئة تتعامل مع الحياة على أنها "ضحكة متصلة لا تنقطع". يرسم لنا صالح لوحة لكاتب وممثل ومغامر أشبه بالمتشردين، لوحة زاخرة بحكايات أقرب إلى الخيال، ومواقف ومقالب مثيرة." ويضيف الكاتب البريطاني، الذي عمل لسنوات طويلة محرراً أدبياً في صحيفة "اندبندنت" اللندنية: "يعيد منسي تسليط الضوء على تجارب جيل من الكتاب والمفكرين والنشطاء العرب الذين يعيشون في المنفى في الغرب. وإذ يمضي الطيب صالح بمتعة ظاهرة في متابعة صديقه في تقلباته و"مقالبه" التي لا تنتهي، فإنه يفسح المجال لطائفة من المثقفين العرب للتعبير عن مثلهم العليا وقناعاتهم وإحباطاتهم وهم في شتاتهم، متأرجحين بين الأمل واليأس، في نقطة فاصلة بين الثقافات والهويات."
ويطمئن القلب... لأن هذا الكتاب المترجم وجد من مختلف النقاد الذين قرأوه – سواء مسودة أو كتابا مطبوعا – ثناء أغدقوه عليه وعلى كاتبه الطيب صالح الثناء بلا حساب. وفي هذا وحده دافع لمترجمه عادل بابكر الى التأكد من أنه أدى مهمته بنجاح... أنه نقل النص من لغته الى أخرى بدون أن يضيع محتواه ونداوته ونكهته.
وفي دنيا الثقافة المدونة بالعربية، الشاكية أبداً من شح عبورها مترجمة الى لغات أخرى ومن قلة استضافتها الألسنة الأجنبية، يكتسب مجهود كتّاب مثل عادل بابكر، يسعون الى المساهمة في تصحيح هذا الوضع، أهمية غير عادية. وبالنسبة لبابكر، فلن ينكر أحد جهده الناجح في فتح الأبواب أمام مبدعين سودانيين للوصول الى جمهور دولي بحجم قراء الانجليزية. وسيكون إنجازه الأكبر أن ينجح في تحفيز الشباب المتمكنين من لغة أجنبية على فتح طرق الترجمة ذات الاتجاهين، لأن في هذا بعض علاج لفقر الدم الذي تعاني منه الساحة الثقافية في الرقاع الناطقة بالعربية. وفي غضون ذلك فلنحتفل بوصول ملك الحلبسة وشغل الأونطة، ملتفّاً بكلمات كاتب مهم كالطيب صالح، الى قارئ الانجليزية بفضل اجتهاد هذا المترجم المتمكّن.
============
راجع الأصل في صحيفة "إندبندنت عربية" اللندنية
https://www.independentarabia.com/node/121326/
===========